ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=297126)

ابوالوليد المسلم 15-09-2023 02:48 PM

الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز
 
الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز (1)



كتبه/ أشرف الشريف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن المسلك الممجوج غير المستساغ هو التّكلف والتّمحل، والتعسف في تطبيق مفهوم المجاز وحقيقته الاصطلاحية على ما أُريد به معناه الحقيقي؛ لأن ذلك مما يشوه حقيقة البيان، خاصة في القرآن المجيد؛ إذ لا معنى للتكلف المفرط الذي يخرج النص عن ذائقته الفطرية، تصيدًا لمعانٍ قد لا تُراد، ووجوه لا تُسْتَحْسن، وعلاقات قد لا تُسْتَصوب، ومن هنا كانت الجناية في ادّعاء المجاز في آيات الصفات الإلهية؛ لأنها من باب الحقيقة ولا سبيل للمجاز إليها.

وهو ما يتضح بالآتي:

أولًا: الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز، وهذه القاعدة أصل أصيل، وركن ركين في التفاهم وإبرام الكلام وعقده، وما يترتب عليه من التزامات، قال الله -عز وجل-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ‌قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، وقال -سبحانه-: (‌قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (الزمر:28)، يعني: غير ذي لبس.

قال الشافعي -رحمه الله-: "فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية" (الرسالة).

ولغة العرب بها الحقيقة وهي الأصل، وبها المجاز ولا يصار إليه إلا بقيام قرينة معتبرة مع عدم وفاء الحقيقة بالمعنى وإلا كانت الجناية في حق البيان، ويوضح شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت ???هـ) في كتابه: (نفائس الأصول في شرح المحصول) معنى هذه القاعدة بقوله: "قلنا: معنى قوله: (‌الأصل ‌في ‌الكلام ‌الحقيقة، أي: هي المتبادرة في الذهن)، والمعنى الذي يسبق إلى الأفهام السليمة العارفة بلغة الخطاب، أو المعنى الراجح من الكلام. ويراعى في معرفة الظاهر أربعة أمور: دلالة اللفظ، دلالة السياق، حال المتكلم، سائر القرائن المحتفَّة بالخطاب.

وفي مدونة أحكام الوقف الفقهية: (وبما أن "الأصل حمل الكلام على الحقيقة" فإن ظاهر اللفظ هو: الحقيقة ‌المتبادرة ‌إلى ‌الذهن؛ إلا أن يكون للفظ معني عرفي شائع، فيصبح حقيقة عرفية تُقَدَّم على المعنى الظاهر بدلالة اللغة).

أو يكون له معنى شرعي فيصبح حقيقة شرعية تقدم على المعنى الظاهر بدلالة اللغة.

ويبين حديث عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ -المتفق عليه- أن الحقيقة هي المعاني المتبادرة إلى الذهن حيث قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (البقرة: 187)، قَالَ: ‌عَمَدْتُ ‌إِلَى ‌عِقَالَيْنِ: ‌أَحَدُهُمَا ‌أَسْوَدُ، ‌وَالْآخَرُ ‌أَبْيَضُ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادِي، قَالَ: ثُمَّ جَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا فَلَا تُبِينُ لِي الْأَسْوَدَ مِنَ الْأَبْيَضِ... فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَقَالَ: (إِنْ كَانَ وِسَادُكَ إِذًا لَعَرِيضًا، إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ).

ولم يكن هذا الفهم لحقيقة اللفظ المتبادرة للذهن عن عدي فحسب، بل ورد ذلك عن غيره كما عند البخاري ومسلم: (فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ (مِنَ الْفَجْرِ) فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ).

وروى البخاري ومسلم عَنْ ‌عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) (الأنعام:82)، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، ‌أَيُّنَا ‌لَا ‌يَظْلِمُ ‌نَفْسَهُ، قَالَ: (لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:13)، فهذه روايات صريحة في حمل الصحابة الألفاظ على حقيقة معناها المتبادر إلى الذهن.

قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري عن قوله تعالى {وكلم الله موسى تكليما}: "فَإِذَا قَالَ: (‌تَكْلِيمًا) وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي تُعْقَلُ".

وقد راجعتُ ما يُقَارب مِنْ مائةٍ وخمسين موضعًا في كتبِ الأُصُول والتفسير واللغة تؤكد على هذه القاعدة وتنص عليها، حتى كاد لا يخلو من ذكرها والتأكيد عليها كتاب أصولٍ أو تفسير أو بلاغة.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 09-10-2023 06:51 PM

رد: الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز
 
الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز (2)



كتبه/ أشرف الشريف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد تكلمنا في المقال السابق عن قاعدة: "الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز"، وفي هذا المقال نذكر كلام أهل العلم في ذلك.

فمِن ذلك: ما وَرَد عن محمد بن الحسن الشيباني (ت: ??? هـ) (مقدمة/ 232 ت: محمد بوينوكالن): (أن ‌الأصل ‌في ‌الكلام ‌الحقيقة، وأنه لا يجوز ترك المعنى الحقيقي للكلمة بدون دليل يوجب ذلك)، وقال قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني (ت: ???هـ) في كتابه: "الحجة في بيان المحجة" (2/ 207): (وَمَتى أمكن أَن يحمل الشَّيْء عَلَى حَقِيقَته، لم يجز أَن يحمل عَلَى ‌الْمجَاز؛ لِأَن الْحَقِيقَة أصل صَحِيح، وَالْمجَاز لَا أصل لَهُ).

وقد حكى الرازي في كتابه المحصول، الإجماع على ذلك، فقال: (إجماع الكل على أن "‌الأصل ‌في ‌الكلام ‌الحقيقة"، وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال ما كنتُ أعرف معنى الفاطر حتى اختصم إليَّ شخصان في بئر، فقال أحدهما: فطرها أبي -أي: اخترعها-. وقال الأصمعي: ما كنت أعرف الدهاق حتى سمعت جارية بدوية تقول: اسقني دهاقًا -أي: ملآنا-، فها هنا استدلوا بالاستعمال على الحقيقة؛ فلولا أنهم عرفوا أن ‌الأصل ‌في ‌الكلام ‌الحقيقة وإلا لما جاز لهم ذلك).

ومن اللافت للنظر هنا: أن الرازي استشهد على أن قاعدة: "الأصل في الكلام الحقيقة" بما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: ما كنت أعرف معنى الفاطر حتى اختصم إلي شخصان في بئر، فقال أحدهما: فطرها أبي -أي: اخترعها-، وكل كتب الأصول والبلاغة -تقريبًا- استشهدت بهذه الراوية على أنَّ معنى "الأصل من الكلام ما يتبادر من المعاني للذهن"، وهذا ما أكد عليه العلوي في كتابه: (الطراز 1/ 44) بقوله: (ولما كان ذلك -يعني أن الأصل المجاز- فاسدًا، علمنا أن الأصل في الكلام هو الحقيقة، ويؤيّد ما ذكرناه ما روى عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أدرى ما الفاطرة، حتى اختصم إلّى رجلان في بئر، ‌فقال ‌أحدهما: ‌فطرها ‌أبي -أي: اخترعها-؛ فلولا أن السابق من الإطلاق في الكلام هو الحقيقة، لما فهموا تلك المعاني).

وهذه الرواية وغيرها، صريحة في أن الصحابة -رضي الله عنهم- تعاملوا مع آيات الأسماء والصفات بمقتضى ظاهرها، ومعانيها الكلية المتبادرة للذهن، بلا تكييف أو تشبيه أو تحريف، وهذا منهجهم، ولم يتكلفوا تأويلها بما يخالف هذا الظاهر كما فعلت فِرَق المتكلمين، وهو ما صرَّح به الرازي بقوله: (فها هنا استدلوا بالاستعمال على الحقيقة، فلولا أنهم عرفوا أن ‌الأصل ‌في ‌الكلام ‌الحقيقة وإلا لما جاز لهم ذلك)، وأكَّد العلوي أن هذه الحقيقة هي المعاني بقوله: (فلولا أن السابق من الإطلاق في الكلام هو الحقيقة، لما فهموا تلك المعاني).

إذًا الصحابة -رضي الله عنهم- أدركوا معاني الأسماء والصفات على المعنى اللغوي الكلي المتبادر للذهن، ولم يفوِّضوا المعنى كما تزعم ثلة من فرق الكلام التي ولدها مخاض المنطق اليوناني والمذهب الاستشراقي، ليتبين بذلك أن ما قام به أولئك -الذين زعموا وجوب صرف الصفات الإلهية الخبرية والفعلية عن ظاهرها، وجزموا بأن هذا الظاهر غير مراد، فراحوا يتأوّلونه على نهجٍ حادث وفكر دخيل في تاريخ الإسلام-، مخالف لنهج سلف الأمة، خير القرون؛ صحابة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، مَنْ اختارهم الله لنزول الوحي بين ظهرانيهم، وهم العرب الخُلص أئمة اللغة وأرباب الفصاحة والبلاغة، الذين مدح الله في كتابه فهمهم ورضي عنهم، فطريقتهم أهدى سبيلًا وأقوم قيلًا، فمنهج الصحابة ظاهر في الأخذ بحقائق المعاني، لا كما فعل المتكلمون وقالوا -بعد الجزم بأن الظاهر غير مراد- بوجوب صرف اللفظ عن ظاهره ثم (أ) تأويله تأويلًا إجماليًّا بدون تحديد معنى معين للصفة، وهو ما يسميه المتمشعرة: "التفويض". (ب) أو تأويله تأويلًا تفصيليًّا بتحديد معنى معين للصفة؛ فاليد معناها القدرة أو النعمة، والعين معناها الرعاية، وهكذا... وكل هذا تحريف وتعطيل مخالف لمنهج الصحابة -رضي الله عنهم- ومَن تابعهم.

ويعود الرازي ويؤكد في تفسيره (21/ 530): (أَنَّ ‌الْأَصْلَ ‌فِي ‌الْكَلَامِ ‌الْحَقِيقَةُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ظَاهِرُ الْآيَةِ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهَا)، فسبحان الله! يصرِّح -رحمه الله- بأن ظاهر الآية يُحْمَل على ظاهره، ثم تراه في كتابه أساس التقديس يؤول كل آية من آيات الصفات بما لم يُقِم عليه ولو دليلًا واحدًا، وإنما قرينة متوهمة ليس لها حظ من الصحة، والله المستعان. ونحن إذا حملنا النصوص في صفة اليد -مثلًا- على حقيقتها لم يلزم منها محظور؛ لا في ذات الله ولا في صفاته، فليس هناك محذور في أن نقول: لله يد حقيقية بها يقبض ويبسط، ولكنها لا تشبه أيدي المخلوقين.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.


ابوالوليد المسلم 09-10-2023 06:52 PM

رد: الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز
 
الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز (3)



كتبه/ أشرف الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فسنتكمل في هذا المقال كلامنا عن قاعدة: "الأصل في الكلام حمله على الحقيقة لا المجاز".
قال أبو الحسن الأشعري في كتابه: (الإبانة عن أصول الديانة (ص 138، 139): (والقرآن العزيز ‌على ‌ظاهره، وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة، وإلا فهو ‌على ‌ظاهره)، وقال: (فإن قال قائل: إذا ذكر الله -عز وجل- الأيدي وأراد يدين، فما أنكرتم أن يذكر الأيدي ويريد يدًا واحدة؟ قيل له: ذكر -تعالى- أيدي وأراد يدين؛ لأنهم أجمعوا على بطلان قول مَن قال: أيدي كثيرة، وقول مَن قال: يدًا واحدة، فقلنا يدان؛ لأن القرآن ‌على ‌ظاهره؛ إلا أن تقوم حجة بأن يكون على خلاف الظاهر). وقال: (كَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ، ‌وَلَا ‌يَجُوزُ ‌أَنْ ‌يُعْدَلَ ‌بِهِ ‌عَنْ ‌ظَاهِرِ ‌الْيَدَيْنِ ‌إِلَى ‌مَا ‌ادَّعَاهُ ‌خُصُومُنَا ‌إِلَّا ‌بِحُجَّةٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لِمُدَّعٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ مَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، فَهُوَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمَا ظَاهَرُهُ الْخُصُوصُ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا لِمُدَّعِيهِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ لَمْ يَجُزْ لَكُمْ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ أَنَّهُ مَجَازٌ أن يكون مجازا بِغَيْرِ حُجَّةٍ، بَلْ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ إِثْبَاتُ يَدَيْنِ لِلَّهِ -تَعَالَى- فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ نِعْمَتَيْنِ إِذَا كَانَتِ النِّعْمَتَانِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: فَعَلْتُ بِيَدِيَّ وَهُوَ يَعْنِي النِّعْمَتَيْنِ).
وَفِي هَذِهِ النُّقُولِ تَصْرِيحُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ كَصِفَةِ الْيَدِ ثَابِتَةٌ لَهُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَأَنَّ الْمُدَّعِينَ أَنَّهَا مَجَازٌ هُمْ خُصُومُهُ وَهُوَ وخَصْمُهُمْ كَمَا تَرَى، وهذا صريح بأن متأخري الأشاعرة ليسوا على مذهب أبي الحسن الأشعري، بل هم على مذهب ونهج خصومه الجهمية والمعتزلة في تأويلهم وانحرافهم بمعاني الصفات إلى غير ظاهرها المراد الذي فهمه السلف ولم يتكلفوا تأويله وصرفه عن ظاهره بل أمَرّوه كما جاء.
وقد صَرَّح الدكتور حسن الشافعي -وهو يعدُّ كبير الأشاعرة المعاصرين- في كتابه: "الآمدي وآراؤه الكلامية" بأن الجويني هو أول مَن أَوَّل صفة العلو؛ ليتابع بذلك المعتزلة، ويثبت الدكتور حسن بذلك أن متأخري الأشاعرة على نهج مخالف لنهج الصحابة والتابعين وتابعيهم، وفي الجملة على نهج مخالف للقرون الخمسة الأولى من الهجرة، بما فيهم الأشاعرة الأوائل، جميعهم يثبتون لله صفة العلو دون صرف للفظ الاستواء عن ظاهره، حتى جاء الجويني وتابع المعتزلة في تحريفهم للفظ عن ظاهره بتأويل لا يستقيم.
وقال أبو المظفر السّمعاني (ت 489 هـ) في (قواطع الأدلة في الأصول): (وقد كانت الصحابة يتعلقون في تفاصيل الشرع ‌بظواهر ‌الكتاب والسنة)، وفي هذا دلالة على أن آيات الصفات أولى بالحمل على ظاهرها؛ لأنها تحدثنا عن غيبٍ لا يمكننا إدراكه ولا نحيط به علمًا، واستأثر الله بكنهه، فنأخذ من الظاهر المعنى الكلي الذي يتأتى لنا التعبد بمقتضاه دون الخوض في الكيفيات، وهذا الظاهر لا يقتضي تشبيهًا بالمخلوقين، بل هو على ما يليق بكمال الله -سبحانه وتعالى-.
والظاهر هو الأصل الذي يفهم من التركيب، قال الطاهر بن عاشور في تفسيره «التحرير والتنوير» (1/ 42): (‌فَطَرَائِقُ ‌الْمُفَسِّرِينَ ‌لِلْقُرْآنِ ثَلَاثٌ: إِمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ لِلتَّرْكِيبِ مَعَ بَيَانِهِ وَإِيضَاحِهِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَإِمَّا اسْتِنْبَاطُ مَعَانٍ مِنْ وَرَاءِ الظَّاهِرِ تَقْتَضِيهَا دَلَالَةُ اللَّفْظِ أَوِ الْمَقَامِ وَلَا يُجَافِيهَا الِاسْتِعْمَالُ وَلَا مَقْصِدُ الْقُرْآنِ، وَتِلْكَ هِيَ مُسْتَتْبَعَاتُ التَّرَاكِيبِ وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَبْحُوثِ فِيهَا فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ كَكَوْنِ التَّأْكِيدِ يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْمُخَاطَبِ أَوْ تَرَدُّدِهِ، وَكَفَحْوَى الْخِطَابِ وَدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَاحْتِمَالِ الْمَجَازِ مَعَ الْحَقِيقَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْلِبَ الْمَسَائِلَ وَيَبْسُطَهَا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعْنَى، أَوْ لِأَنَّ زِيَادَةَ فَهْمِ الْمَعْنَى مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا، أَوْ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيِّ وَبَيْنَ بَعْضِ الْعُلُومِ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَقْصِدٍ مِنْ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ لِزِيَادَةِ تَنْبِيهٍ إِلَيْهِ، أَوْ لِرَدِّ مَطَاعِنِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُنَافِيهِ لَا عَلَى أَنَّهَا مِمَّا هُوَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ بَلْ لِقَصْدِ التَّوَسُّعِ".



الساعة الآن : 08:26 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 20.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.99 كيلو بايت... تم توفير 0.18 كيلو بايت...بمعدل (0.88%)]