رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة
رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة المصطفى المرابط إن من الموضوعات الشعرية التي أثارتها القصيدة العربية القديمة في المرحلة الجاهلية، واحتفت بها احتفاءً كبيرًا، وشكلت مصدرًا للإلهام الشعري؛ حيث كان الشعراء من خلالها يعمدون بشكل رمزي إلى تصوير واقعهم المتغير، وإلى نقل مشاهد وفصول دقيقة من حياتهم اليومية، وما تعرفه من أحداث وما يطرأ فيها من مستجدات، ويلجؤون إليها للتعبير عن حياة التنقل وعدم الاستقرار المحفوفة بالمخاطر التي وسمت واقعهم المعيش وتحكمت فيه، موضوع أو ظاهرة معركة البقرة الوحشية؛ حيث شكلت قصة هذا الحيوان العظيم الفريد، ذي المشاعر الفياضة بالأمومة والعطف والحنان، بما حملته من حوادث ووقائع، وبما ترتبت عليها من نتائج مأساوية وانكسارات وأحزان وجراحات نفسية عميقة، وسيلة ثمينة بين يدي الشاعر العربي القديم مكَّنته من بعث رسائله وترجمة معاناته وآلامه، وما يجري معه في علاقاته الإنسانية التي تربطه بمحيطه الاجتماعي. والنموذج الشعري الذي يحضرنا من ديوان الشعر العربي الجاهلي في هذا الباب، هو للشاعر زهير بن أبي سلمى أحد فحول الشعراء المصنف في مقدمة الطبقات الشعرية. يقول زهير بن أبي سلمى: تبادر أغوال العشي وتتقي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif علالة ملوي من القد محصد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كخنساء سفعاء الملاطم حرة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مسافرة مزؤودة أم فرقد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif غدت بسلاح مثله يتقى به https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويؤمن جأش الخائف، المتوحد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وسامعتين تعرف العتق فيهما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى حذر مدلوك الكعوب، محدد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وناظرتين تطرحان قذاهما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كأنهما مكحولتان، بإثمد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif طباها ضحاء، أو خلاء، فخالفت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إليه السباع، في كناس ومرقد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أضاعت فلم تغفر لها خلواتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلاقت بيانا عند آخر معهد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif دما عند شلو، تحجل الطير حوله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبضع لحام، في إهاب مقدد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتنفض عنها غيب كل خميلة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتخشى رماة الغوث من كل مرصد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فجالت على وحشيها وكأنها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مسربلة، في رازقي معضد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولم تدر وشك البين حتى رأتهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقد قعدوا أنفاقها كل مقعد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وثاروا بها من جانبيها كليهما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وجالت وإن يجشمنها الشد تجهد |
رد: رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فأنقذها من غمرة الموت أنها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif رأت أنها إن تنظر النبل تقصد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نجاء مجد ليس فيه وثيرة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتذبيبها عنها بأسحم مذود https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وجدت فالقت بينهن وبينها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif غبارًا كما فارت دواجن غرقد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بملتئمات كالخذاريف قوبلت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى جوشن خاظي الطريقة مسند https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى هرم تهجيرها ووسيجها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تروح من الليل التمام، وتغتدي[1] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبالعودة إلى سياق هذه القصيدة في الديوان، نجد أن الشاعر زهير بن أبي سلمى كان قد قالها في غرض المدح؛ حيث مدح فيها هرم بن سنان بن أبي حارثة، وهو من كبار الشخصيات في القبيلة ويعد من أعيانها، ومن أصحاب الكلمة والشأن والمهابة بين أفرادها، كما نجده يفتتحها بالتقليد الشعري المعروف لدى الشعراء القدماء، من ذكر الديار العافية، والأطلال والرسوم الدارسة، ووصف الحال الذي آلت إليه؛ حيث غدت قفرة مهجورة لا حياة فيها، مسكنًا للأشباح والأرواح؛ يقول زهير: غشيت ديارا بالنقيع، فثهمد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif دوارس قد أقوين من أم معبد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أربت بها الأرواح كل عشية https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلم يبقَ إلا آل خيم منضد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وغير ثلاث كالحمام خوالد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهاب محيل هامد متبلد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقفت بها رأد الضحاء مطيتي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أسائل أعلامًا ببيداء قردد[2] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثم بعد ذكره الديار ووصفها وسؤالها، انتقل الشاعر إلى ناقته رفيقته، رمز الوفاء التي كانت تؤنسه في الوحدة وتساعده وقت الشدة وترافقه في رحلاته الدائمة التي لا تنتهي، يقول: فلما رأيت أنها لا تجيبني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نهضت إلى وجناء كالفحل جلعد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif جمالية لم يبق سيري ورحلتي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif على ظهرها من نيها غير محفد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif |
رد: رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ترده ولما يخرج السوط شأوها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مروحا، جنوح الليل، ناجية الغد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كهمك إن تجهد تجدها نجيحة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif صبورا، وإن تسترخ عنها تزيد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتنضح ذفراها بجون كأنه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عصيم كحيل، في المراجل، معقد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتلوي بريان العسيب، تمره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif على فرج محروم الشراب، مجدد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تبادر أغوال العشي، وتتقي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif علالة ملوي، من القد، محصد[3] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لقد أضفى الشاعر على ناقته العظيمة كما هو ظاهر من الأبيات، أجمل الصفات وأحسنها، فهي القوية في بنيتها الجسدية، والنشيطة في حركاتها، والسريعة في مشيها، لا تخاف الليل مهما أظلم، وتواجه المخاطر مهما صعبت، وتبادر براكبها ما يخاف أن يهلكه أو يؤذيه، متجشمة مصاعب الطريق ووعورتها، فلا يهدأ لها بال حتى تلحقه بالمنزل الذي يبيت فيه، ثم يشبه الشاعر ناقته في الأخير ببقرة وحشية قصيرة الأنف؛ يقول: كخنساء سفعاء الملاطم حرة *** مسافرة مزؤودة أم فرقد[4] فالخنساء هي البقرة قصيرة الأنف، السفعاء وهي السوداء في حمرة، الملاطم الواحد ملطم وهو الخد، المزؤودة؛ أي: المذعورة المرتعبة الخائفة، والفرقد هو ولد البقرة[5]. إن الشاعر زهير بن أبي سلمى هنا لم يشأ أن يشبه ناقته بالثور الوحشي، ولكنه آثر أن يشبهها لنشاطها الزائد ولقوتها المفرطة بالبقرة الوحشية التي يرافقها في طريقها فرقدها، وهو ولدها الصغير بطل الحكاية، ثم يستطرد بعد ذلك في وصف هذه البقرة من سائر الجوانب جسديًّا ونفسيًّا؛ يقول: غدت بسلاح، مثله يتقى به https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويؤمن جأش الخائف، المتوحد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وسامعتين، تعرف العتق فيهما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى جذر مدلوك الكعوب، محدد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وناظرتين تطرحان قذاهما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كأنهما مكحولتان، بإثمد[6] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لقد اعتادت هذه البقرة الوحشية التي تشبه ناقة الشاعر في قوتها ونشاطها، على الخروج في الصباح الباكر من أجل الرعي رفقة فرقدها الصغير، وسلاحها الوحيد الذي يحميها ويحقق لها قدرًا من الثقة في النفس وتتكئ عليه في مواجهتها الأخطار المحتملة، ويرفع الفزع عن صغيرها حديث العهد بالحياة، هو قرونها الحادة الفتاكة التي تكفي ضربة مباشرة واحدة منها للإطاحة بأقوى الأعداء والمهاجمين وجبرهم على الفرار. إن ملمح المعركة من أجل البقاء أو الصراع مع الموت المتربص واضح وجلي هنا، فحتى الطبيعة الخلقية للحيوان – وجود قرون للبقرة الوحشية – توحي بحضور رمزي للموت في جميع مناحي الطبيعة، وبكونية موضوعة الموت وحتميته، وتعدد أسبابه، والصراع من أجل البقاء، وتحقيق الخلود، وجدلية الحياة والموت أيضًا. ويستطرد زهير في وصف هذه البقرة الوحشية موضوع القصة، ويعرض بعضًا من أعضاء جسدها بدقة كبيرة، قبل أن ينتقل عقب ذلك إلى رصد تفاصيل الفاجعة التي ستحل بها وبفرقدها؛ يقول: طباها ضحاء أو خلاء فخالفت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إليه السباع في كناس ومرقد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أضاعت فلم تغفر لها خلواتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلاقت بيانًا عند آخر معهد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif دما عند شلو تحجل الطير حوله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبضع لحام في إهاب مقدد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتنفض عنها غيب كل خميلة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتخشى رماة الغوث من كل مرصد |
رد: رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فجالت على وحشيها وكأنها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مسربلة في رازقي معضد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولم تدر وشك البين حتى رأتهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقد قعدوا أنفاقها، كل مقعد[7] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif الذي حدث في هذه القصة كما يرد في القصيدة، أن البقرة الوحشية، وبينما كانت منشغلة وهي ترعى عند وقت الضحى في الخلاء، غفلت عن فرقدها، وكانت قد تركته في مرقده في حمى كناسها، أي في بيتها، فأتت إليه في تلك اللحظة السباع وأكلته، لقد كان صغيرًا ضعيفًا غير قادر على الحركة، أو دفع الخطر عن نفسه، لذلك ما إن خرجت أمه للرعي حتى هجمت الذئاب المتربصة على بيتها قاصدة إياه، وفاتكة به وبجسده الهش، وكما هو حال المصدوم دائمًا، لم تصدق البقرة ما يجري معها في بداية الأمر، فظلت بعض الوقت مشدوهة حائرة هائمة بذهنها غير مصدقة ما يجري حولها، تبحث عما يشفي غليلها ويذهب عنها حيرتها، ويرفع الشك باليقين، لقد ظلت تذهب وتجيء في المكان كالمجنون الذي فقد شيئًا غاليًا، إلى أن تكشفت الأمور ووجدت الجواب في آخر موضع عهدت فيه فرقدها، ولنا أن تخيل هول الصدمة عندما وقعت عينا المسكينة أول مرة على ما تبقى من جسد صغيرها الذي قطعت أوصاله، وتمزقت أعضاؤه إلى أشلاء، وتحول إلى قطعة من لحم قد تحجلت حولها الطيور، هذه الطيور الكاسرة التي جعلت تتسابق عما تبقى بعدما أكلت الذئاب ما أكلت من الفرقد، غير آبهة بمقدار المأساة وحجم الحزن الذي خيَّم على الأم المكلومة في فلذة كبدها. لكن يا ليت الأمر قد وقف عند هذا الحد المأساوي؛ حيث ما إن كادت البقرة الوحشية تكتشف هول المصيبة التي ألمت بها، وقبل أن تلتقط أنفاسها وتستوعب ما جرى، حتى وجدت نفسها أمام خطر آخر محدق، يحيط بها ويتهدد حياتها، يقول زهير: وثاروا بها من جانبيها كليهما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وجالت، وإن يجشمها الشد تجهد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تبذ الألى يأتينها، من ورائها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإن تتقدمها السوابق تصطد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لقد وجدت البقرة نفسها محاطة بكلاب صيد شرسة وهائجة، ومستعدة للفتك بكل من تلاقيه في طريقها، فبدا لها وكأن اليوم هو يوم موتها ونهايتها هي كذلك، بعدما فتكت الذئاب بصغيرها، لكنها تقرر المقاومة وصد هجمات الكلاب، ويجبرها الخوف من الموت والتمزق ومن تحول جسدها إلى بقايا قطع لحم تعبث بها الطيور، كما حدث مع فرقدها على الفرار والجري بأقصى سرعة ممكنة، فتسبق الكلاب التي تأتي خلفها، وتصيب بقرنيها الكلاب الأخرى التي تتقدمها وتسبقها. فأنقذها من غمرة الموت أنها *** رأت أنها تنظـر النبل تقصـد ثم تبدو البقرة وكأنها تدرك جيدًا خطر الصيادين الرماة أصحاب الكلاب، الذين إذا لحقوا بها قتلوها وأردوها أرضًا بنبالهم التي لا تخطئ مرماها، لذلك بادرت وسارعت بالعدو هربًا بعدما عرفت أن الكلاب هي كلاب صيد مدربة يتعقبها الصيادون، وتحضر هنا التجربة الذاتية للبقرة الوحشية في الصحاري والخلوات؛ حيث اعتادت على المطاردات التي احتفظت ذاكرتها بفصولها ومخاطرها. نجاء مجد ليس فيه وتيرة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتذبيبها عنها بأسحم مذود https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وجدت، فألقت بينهن وبينها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif غبارًا كما فارت دواخن غرقد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بملتئمات كالخذاريف قوبلت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى جوشن خاظي الطريقة مسند https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كأن دماء المؤسدات بنحرها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أطبة صرف في قضيم مصرد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى هرم تهجيرها، ووسيجها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تروح، من الليل التمام، وتغتدي[8] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفي الأخير تمكنت البقرة الوحشية من النجاة ومن الإفلات من خطر الموت المحقق الذي أحاط بها من كل جانب وكاد يخطفها، وذلك بفضل مجهودها الفردي، وسرعتها في الجري والعدو، ودفاعها بقوة وشراسة عن نفسها، وإصرارها على الانتصار والحفاظ على الحياة. لقد نظمت القصيدة كما هو معلوم في غرض المدح، لذلك انتهت المعركة بانتصار البقرة على الكلاب؛ حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقتل البقرة وتنهزم مادامت تشبه ناقة الشاعر القوية والنشطة، التي ستنقله مخترقة الفيافي والمفازات المقفرة لتصل به إلى ممدوحه العظيم ذي الشأن والمهابة، لقد كان شعراء الشعر العربي القديم أذكياءَ في منظوماتهم وقصائدهم، بل منسجمين إلى حد بعيد مع سياق وظروف نظمهم، وذلك عندما منحوا الانتصار والفوز في أشعارهم المدحية للثور الوحشي والبقرة الوحشية، بينما انتصروا للكلاب في قصائدهم الرثائية. ذلك أنه في غرض المدح يستمر الزمن وتستمر معه الحياة، ودفقات المعاني الشعرية الحسنة، وتنساب الألفاظ العذبة والأوصاف الإنسانية الجميلة التي يضفيها الشاعر على ممدوحه بسخاء، وكثيرًا ما كانت قصائد المدح تتضمن دعوات صريحة للممدوح بالحياة والمدد في العمر، بل إن المدح في كنهه وجوهره دعاء للممدوح بالخير والسداد في العمل والرأي، والفلاح في الحياة، ومن هنا كان لابد للثور والبقرة الوحشية التي تشبه ناقة الشاعر من الانتصار في المعركة؛ حتى يتمكن من متابعة المسير في الطريق بما يسمح بمتابعة ذكر مناقب الممدوح وأوصافه الحسنة، كما أن مقتل الثور والبقرة الوحشية لا ينسجم والدعاء للممدوح بالخير والعمر المديد، هذا بينما في قصيدة الرثاء يتوقف الزمن كلية وتتوقف معه الحياة، ولا يتبقى غير الذكريات الجميلة التي يعود إليها الشاعر وينبش فيها، ويصدح بأحداثها ومواقفها عاليًا، وتُهيمن الأحزان وتسيطر لغة البكاء والدموع الحارة على الفضاء، فلا يكاد المتلقي يسمع غير صوت الأنين والحشرجة، ولا يرى غير الظلام الدامس والليل المدلهم؛ حيث يخيم شبح الموت، والرثاء كالمدح، غير أنه مدح - لميت كما ذكر ذلك ابن رشيق في كتابه العمدة في محاسن الشعر وآدابه – وهو أيضًا دعاء للمرثي، لكن ليس دعاء للحياة الهنيئة أو للمدد في العمر، ولكن دعاء بالرحمة والمغفرة والسكينة لروحه التي تكون قد انتقلت إلى الإقامة في عالم آخر مجهول، لذلك كان من الانسجام مع السياق العام للقصيدة الرثائية وغرضها الأساسي أن ينهزم الثور والبقرة الوحشية، ويسقط مقتولًا أمام كلاب الصيد القوية والمدربة. |
رد: رمزية معركة البقرة الوحشية وفناء الوعل في القصيدة القديمة
مشهد فناء الوعل: لقد حضر الحيوان في القصيدة الشعرية العربية القديمة حضورًا قويًّا وبارزًا؛ حيث لم يكسر رتابة الحياة، وسكون الصحراء، وجمود الأمكنة، غير مشاهدة الأنواع المختلفة من الحيوانات، التي زخرت بها شبه الجزيرة العربية، ومتابعة تحركاتها والتعايش معها، واتخاذ بعضها رفيقًا وصاحبًا وفيًّا، ويعد حيوان الوعل من المخلوقات التي حظيت بالعناية الشعرية؛ حيث ذكرت في عدد كثير من القصائد، واحتفى بها عدد من الشعراء، نظرًا لنمط عيشها الملهم للأفكار والموحي بالمعاني الشعرية الجديدة. والوعل وهو اسم جامع لأنواع الوعول كالأعصم، والصدع، والأيل، والأروي، وجمع وعل وعول وأوعال، والأنثى وعلة، ويظل اسم الأروى أكثر شهرة، وهو اسم للجمع واحدتها الأروية[9]. والوعل حيوان من خصوصياته أنه يتخذ قمم الجبال العالية مسكنًا له، يلتصق بها ويتشبث بحجرها وترابها، ربما طبيعته وخلقته التي تميِّزه أوحت له باتخاذ المرتفعات والقمم مسكنًا، وملجأً يأمن فيها من بطش الحيوانات الضارية الأخرى، لكن مشهد تشبثه بالجبال، وامتناعه زمنًا طويلًا في معاقلها، شكل للشاعر الجاهلي صورة قيمة موحية تستحق أن يسرح الخيال في تأملها ومحاكاتها وتوظيفها في أغراضه الشعرية، وقد اشتهرت بين الشعراء الجاهليين للوعل صورتان: صورة الحيوان الخائف المتوجس الذي دفعه خوفه إلى صعود الذرا والجبال العالية طلبًا للأمن وبحثًا عن السكينة، وحفاظًا على الحياة، يقول النابغة الذبياني: وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعل في ذي المطارة عاقل[10] وصورة الكائن ذي القوة والمنعة الذي يتحدى الطبيعة وأسباب الموت، الذي يتهدد سائر المخلوقات؛ حيث يصعد إلى قمم الجبال والمعاقل العالية، ويتخذها مقامًا يسكنها وحده؛ يقول عدي بن زيد: ليس للمرء عصرة من وقاع الداء https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هر تغني عنه سنام عناق https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قد تبينت في الخطوب التي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قبلي فما بعدها لليوم باقي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأرى الشاهق المدل به الأر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وى دوين السماء وعر المراقي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ودلال العزيز بالجمع ذي الأر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كان كلا معاذه غير واقي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا يعري ريب المنون ذوي العي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ش ولا من حياته برماق https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كل حي تقوده كف هاد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif جن عين يغشيه ما هو لاقي[11] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولكن الدهر لا يرحم أي مخلوق موجود على الأرض، مهما كانت قوته، ومهما تسلق أسباب السماء، ومهما تمسك بعلل الفرار وسبل النجاة من الموت، وهو حتى إذا أمهل هذا الوعل القوي المتمنع وقتًا طويلًا من الزمن، فإنه يميته ويقضي عليه، ويفنيه في اللحظة المناسبة وبالوسيلة الأنسب؛ يقول الأفوه الأودي: والدهر لا يبقى على صرفه *** مغفرة في حالق مرمريس[12] ومعنى البيت أن قساوة الدهر والزمن لا مثيل لها في الكون إنه لا يبقي أحدًا على حاله، فحتى الوعول القوية المتشبثة في قمم الجبال الملساء، وفي غيرها من الأماكن المرتفعة، ينال منها وتؤذيها نوائبه وصروفه وتصيبها آلته الحادة المدمرة، ويسقطها أرضًا. [1] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 37 – 38 – 39. [2] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 36. [3] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 37. [4] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 37. [5] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 37. [6] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 38. [7] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 38. [8] ديوان زهير بن أبي سلمى ص 39. [9] مشهد الحيوان في القصيدة الجاهلية ص 276. [10] ديوان النابغة الذبياني ص 144. [11] ديوان عدي بن زيد ص 154. [12] ديوان الأفوه الأودي ص 83. |
الساعة الآن : 12:24 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour