أبو تمام في فتح عمورية
د. إبراهيم عوض

السَّيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
في حَدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِيضُ الصفائحِ لا سُودُ الصحائفِ في https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مُتونِهنَّ جِلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

والعِلمُ في شُهُبِ الأَرباح لامعةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بين الخَميسينِ لا في السَّبعةِ الشُّهُبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أين الروايةُ بل أين النجومُ وما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
صاغُوه مِن زُخرفٍ فيها ومِن كَذِبِ؟! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَخرُّصًا وأحاديثًا مُلفَّقةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ليستْ بنَبعٍ إذا عُدَّتْ ولا غَرَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عجائبًا زعَموا الأيامَ مُجْفِلةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عنهنَّ في صَفَرِ الأصفارِ أوْ رَجَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وخوَّفوا الناسَ مِن دَهياءَ مُظلِمةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذَّنَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وصيَّروا الأَبْرُجَ العُليا مُرتَّبةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ما كان مُنقلبًا أو غيرَ مُنقلبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَقضون بالأمرِ عنها وهي غافلةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ما دارَ في فَلَكٍ منها وفي قُطُبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لو بَيَّنَتْ قطُّ أمرًا قبلَ مَوقعِه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لم تُخْفِ ما حلَّ بالأوثانِ والصُّلُبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فتحُ الفُتوحِ تَعالَى أن يُحيطَ بِه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَظمٌ مِن الشعرِ أو نثرٌ مِن الخُطَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَتحٌ تَفتَّحُ أبوابُ السماءِ لَه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وتَبْرُزُ الأرضُ في أثوابِها القُشُبِ

https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هذه القصيدة واحدة من الغُرر اللامعة في جبين الشعر العربي قديمه وحديثه، وسوف تظَل تترنم بها أجيال العرب والمسلمين حتى في أحلكِ لحظات تاريخهم؛ لأنها تُذكرهم بالمجد القديم، وتَستحثهم أن ينهضوا ويَسموا إلى الأفق السامق الذي حلَّق فيه المسلمون بقيادة معتصمهم تحليق النسور، وانقضُّوا منه على أعدائهم، فافترسوهم وأبادوهم، ومزَّقوهم شرَّ مُمزَّقٍ، وجعلوهم عِبرة لمن تُسوِّل له نفسه الخبيثة العدوانَ على بلاد المسلمين، لكن رَوعة القصيدة الخالدة ليست ترجع فحسبُ إلى موضوعها، وما تُثيره في نفوس العرب والمسلمين جميعًا من معاني المجد ومشاعر العزة، وتَستحثهم إليه من منازل الكرامة - وإنما ترجع أيضًا إلى ما حَوَتْه من كنوز الفن الراقي، وإليك البيان:
أول ما يَلفت انتباهنا في هذه الرائعة الخالدة ما يُسَربِلُها من فخامة الوزن والقافية واللفظ والصورة ... إلخ، فخامة تناسب فخامةَ هذا الفتح المبين، الذي سحَق فيه المسلمون عُلوجَ الشِّرك - لعَنهم الله في كل زمان ومكان - فغادروا تسعين ألفًا من هؤلاء الكلاب مطروحةً جثثُهم في وسط النيران التي أكلت بيوتهم، بيوت الرِّجس والعدوان، لا تجد مَن يسأل عنها أو يُبالي بها، فالبحر الذي صُبَّتْ فيه القصيدة من الأبحر الطويلة التي تُهيئ للشاعر الفرصة لأن يهتف ويُجلجل صوته كما يَحلو له الجَلجلة والهُتاف، ثم تأتي القافية البائية التي لم يتكرَّر فيها لفظ واحد مرتين، لتَقرَعَ الآذان قرعًا، فتَغمُر الجسم والنفس فورةُ الحماسة، ويستيقظ أنبلُ وأكرم وأمجدُ ما في الإنسان، بل إني لأَتخيَّل الشاعر وهو يَنظُم رائعته هذه وقد سَخُنَتْ رأسُه، وأصبح لخياله ألفُ عينٍ وعين يُبصر بها، ويَقتنِص هذه الصور العجيبة التي تُخيِّل لك وأنت تقرأ القصيدة أنك في معرض للفن العظيم تَبْهُر عينَك اللوحاتُ الفاتنة الساحرة، فلا تستطيع - إلا بالمشقة - التركيز على إحداها؛ لأن كلًّا منها يَدعوك في ذات الوقت لتَتملَّاها وأنت متحير بين هذه وذي وتلك، ومَن ذا الذي يقرأ الأبيات الآتية وهو متمالكٌ مشاعرَه؟!

يا يومَ وقْعَةِ عَمُّوريَّةَ انْصَرَفتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عنْك المُنى حُفَّلًا مَعسولةَ الحَلَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

♦ ♦ ♦

https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وبَرْزَةُ الوجهِ قد أَعْيَتْ رياضتُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كِسرى وصدَّت صدودًا عن أَبي كَرَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِن عهدِ إسكندرٍ أو قبلَ ذلك قدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
شابتْ نواصي الليالي وَهْيَ لَمْ تَشِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِكْرٌ فما افْتَرَعَتْها كَفُّ حادِثةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولا تَرقَّتْ إليها هِمَّةُ النُّوَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حتى إذا مَخَّضَ الله السنينَ لَها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَخْضَ البخيلةِ كانتْ زُبْدَةَ الحِقَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

♦ ♦ ♦

لَمَّا رَأَتْ أُختَها بالأمسِ قد خَرِبَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كان الخرابُ لها أَعْدى مِن الجَرَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

♦ ♦ ♦ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ما رَبْعُ ميَّةَ مَعمورًا يُطيفُ بِه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
غيلانُ أَبْهى رُبًا مِن رَبْعِها الخَرِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولا الخُدودُ وقدْ أُدْمِينَ مِن خَجلٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَشهَى إلى ناظِري مِن خَدِّها التَّرِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سَماجةً غَنِيتْ منا العيونُ بِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عن كلِّ حُسنٍ بدَا أو منظرٍ عَجَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

♦ ♦ ♦

https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَم يَعلَمِ الكُفرُ كَمْ مِن أَعْصُرٍ كمَنتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
له المنيةُ بين السَّمْرِ والقُضُبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَدبيرُ مُعتصمٍ بالله مُنتقمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لله مُرتَغبٍ في الله مُرتقِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وإني ما قرأتُ هذه البيت الأخير مرة، إلا وتخيَّلت أبا تمام يجأَر بأعلى صوته مِن فرط حماسته وإعجابه بهذا النصر العظيم، الذي وفَّق الله إليه أميرَ المؤمنين المعتصم بالله، وهو يَملأ فمه بهذه التقسيمات الموسيقية المدوية: "معتصم بالله، منتقم لله، مُرتغب في الله"، (وقد تكون هكذا: "بالله منتقم، لله مرتغب، في الله مرتقب"، وكلا التقسيمين أَحلى من الآخر، وقد أخذت الأرض والسماوات جلجلة اسم الذات الإلهية التي منها استمداد النصر وإليها الملاذ.

إن القصيدة كما يقال: هي في مدحِ المعتصم، ولكن انظر كيف يكون المديح، إنه ليس مديح النفاق والكذب، بل مديح يعرف حدوده، فنُعجَب نحن به مِن ثَمَّةَ إعجابًا لا يَعرِفُ الحدودَ، فهو يقول:

إن القصيدة كما يقال: هي في مدحِ المعتصم، ولكن انظر كيف يكون المديح، إنه ليس مديح النفاق والكذب، بل مديح يعرف حدوده، فنُعجَب نحن به مِن ثَمَّةَ إعجابًا لا يَعرِفُ الحدودَ، فهو يقول:

لم يَغْزُ قومًا ولم يَنْهَدْ إلى بلدٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إلا تَقدَّمَه جيشٌ مِن الرُّعُبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لو لَم يَقُدْ جَحفلًا يومَ الوَغَى لَغَدَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مِن نفسِه وحدَها في جَحْفلٍ لَجِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولكنه عَقيب هذا يضيف:

رَمى بكَ الله بُرْجَيها فَهَدَّمها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولو رمَى بكَ غيرُ اللهِ لم تُصِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِن بعدما أشَّبُوها واثقينَ بِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والله مِفتاحُ بابِ المَعْقِلِ الأَشِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ومِن هنا فعندما يقول:

إنْ كان بين صُروفِ الدَّهرِ مِن رَحِمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَوصولةٍ أو ذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فبَيْنَ أيَّامِك اللاتي نُصِرْتَ بِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وبَيْنَ أيَّامِ بدرٍ أقرَبُ النَّسَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فإننا لا نَملِك إلا الإعجاب بهذه البصيرة التمَّاميَّة التي التَقَطتْ خيط هذا النَّسَب الكريم العظيم، أتدري ماذا يقول الله في قرآنه المجيد عن الانتصار الساحق الذي أحرزه الرسول والمسلمون في بدر الكبرى؟ إنه سبحانه يقول: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17]، فقارِن بين قول الحق هنا سبحانه وبين بيتي أبي تمام السابقين على آخر بيتين استشهدنا بهما، تجد المعنى واحدًا؛ لأن أبا تمام قد استلَهم الآية الكريمة، ويزيد هذا المديح علوًّا في نظرنا أن أبا تمام إنما يَمدَح المعتصم لِما أنجَزه هذا البطل العظيم مِن نصرٍ مبين في موقعة عمَّورية التي:
وفضلًا عن هذه الفخامة التي تُسربل القصيدة، ثَمَّةَ الوحدة الفكرية والنفسية التي تشد أبياتها كلها بآصرةٍ وثيقة، فتبدو للعين بناءً متينًا صُلبًا راسخًا، فالأبيات لا تعالج موضوعًا آخر غير هذا الفتح المجيد الذي تَمَّ على يد البطل الصِّنديد الخليفة المعتصم بالله الذي استحقَّ بحقٍّ أن يدعوَ له شاعرنا المُفلق ضارعًا بقوله:
وهذه الأبيات تبدأ بالتهكُّم الصاعق على المنجِّمين وتَخرُّصاتهم؛ إذ حاولوا أن يَثنوا المعتصم بالله عن إنفاذ الجيش للانتقام من عدوان الروم على أطراف الدولة، تحت شُبهة أن النجوم تخبرهم بأن الحملة ستفشل إن خرَجت في ذلك الوقت، والشاعر في أثناء ذلك يَسخَر من النجوم والأبراج وتقسيمات المنجمين لها إلى أَبْرُاج عُليا وغير عليا، وأبراج مُنقلبة وغير منقلبة، حتى إذا ما بلَغ النغمة الأخيرة في تهكُّمه في البيت التالي:
اندفع يَهتِف ممجدًا هذا الفتحَ المبين الذي يُسميه عن جدارة "فتح الفتوح"، الذي اهتزَّ له الكون كله طربًا، فكأنه في يوم عيد، وكيف لا وقد عزَّ به الإسلامُ والمسلمون، وذلَّ به الشركُ والمشركون، وذلك حين سقَطت عمورية التي يصفها الشاعر قائلًا: إنها "شابتْ نواصي الليالي وَهْيَ لَمْ تَشِب"، عمورية التي تأبَّت على مَن حاوَلَ قَبلَ المعتصمِ فَتْحَها من الفاتحين، كما تتأبَّى الحسناء المدلة بجمالها وفِتنتها على الخُطَّاب والعاشقين، احتقارًا لهم وغرورًا بتلك الفتنة الخالدة، عمورية الغادة البكر التي اعتَلَتْ على كرِّ الأزمان عرشَ المجد، فلم تستطع هِمَّةُ النوائب أن ترتقي إليها في عليائها وبهائها، فجاء المعتصم ففعَل ما لم يَفعَله الأولون؛ إذ أذل كبرياءَها، وأَسْلَسَ عِصيانَها!

وهنا ينطلق الشاعر، فيَرسُم في لوحات أخَّاذةً نابضةَ الألوان والخطوط - ألسنةَ اللهب، وقد أحالتْ ليلها ضياءً، فيَخال الرائي أن الشمس لا تزال بازغةً في الأُفق، ويشاهد على ضوئها جثثَ تسعين ألفًا من جنود الأعداء وقادتهم، وقد تحوَّلت المدينة من حولهم إلى جدران وأنقاض.

ويعرِّج أبو تمام على اغترار رؤسائهم بحصانة مدينتهم، وظنِّهم أنهم لن يُغلَبوا مِن ضَعفٍ، فلم ينفعهم ما أَشَّبُوا من حصون، وكيف تَنفعهم وقد كانوا يحاربون الله؟! "والله مِفتاحُ بابِ المَعْقِلِ الأَشِبِ"، كما يَسخر أبو تمام هنا من إنفاق إمبراطور الروم الأموال الطائلة، ظنًّا منه أنه مستطيع أن يدفع هذه السيول العارمة بأمواله، ويُصوِّره وقد فرَّ يلوذ بالمرتفعات منخوبَ القلب، مُخلفًا وراءَه جنودَه بعدما قدَّمهم طعامًا للنيران والسيوف، تلك السيوف التي أحرزت للمنتصرين حِسانَ الروم.

ويَختم الشاعر هذه البائية الخالدة بهذه الأبيات التي لا نجد أحسنَ منها حُسنَ ختامٍ لمثل هذه الملحمة التي يَعِزُّ لها في الشعر نظيرٌ:

خليفَةَ الله جازَى اللهُ سعْيَكَ عنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
جُرْثُومَةِ الدينِ والإسلامِ والحَسَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَصُرْتَ بالرَّاحةِ الكُبْرى فلَمْ تَرَها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تُنَالُ إلَّا على جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إنْ كان بين صُروفِ الدَّهرِ مِن رَحِمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَوصولةٍ أو ذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فبَيْنَ أيامِك اللاتي نُصِرْتَ بِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وبينَ أيامِ بدرٍ أقربُ النَّسَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْراضِ كاسْمِهمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهُ العَرَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وتُحِس الأذن والعين والنفسُ عند الفراغ من البيت الأخير - أنها وصلت إلى آخر نغمة في هذا اللحن الشامخ، ففيه تلخيصُ الموقف كله في هذه الصورة الأخَّاذةِ الحيَّة.

فالقصيدة كما ترى وَحدةٌ واحدة في موضوعها وجوِّها النفسي، بما فيها مِن تهكُّمٍ واخزٍ وشماتة مُحرقة وفرحة طاغية، حتى إن الشاعر ليتلاعب في وسط هذه البهجة الغامرة باللغة تلاعبًا، وهو تلاعُبٌ يَعكِس ما كان يُحِسُّه الشاعر والأمة الإسلامية آنئذٍ من مشاعر الابتهاج والعزة والفخار، وحتى إن خياله ليَسُحُّ عليه بالصور المدهشة التي تدل على فحولة وأصالة واقتدار، فإذا كان التلاعب بالمحسنات البديعية مذمومًا في بعض المواقف لما فيه من تكلُّفٍ، فإن بديع أبي تمام هنا هو البديع بعينه، اقرأ إن شئتَ:

السَّيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
في حَدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِيضُ الصفائحِ لا سُودُ الصحائفِ في https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مُتونِهنَّ جِلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

والعِلمُ في شُهُبِ الأَرباح لامعةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بين الخَميسينِ لا في السَّبعةِ الشُّهُبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إن الطِّباقات والتوريات والجناسات هنا، ليست حِيَلًا بهلوانية، بل زخارف مُوفقة في هذا العيد السعيد، وهي زخارف أتى بها الشاعر للزينة ولمعنى آخر غير الزينة، هو التهكُّم على جهل هؤلاء المنجِّمين وادعائهم وكذبهم، فكأنه يقول لهم:
أتزعمون أن في تنجيمكم الحدَّ بين الجِد واللعب؟ كلَّا ثم كلَّا، بل الحد بين الجد واللعب هو في حد سيوف الإيمان!

أتَزعُمون أن في سواد كتابات صُحفكم جِلاءَ الشك والريب؟ كلَّا ثم كلَّا؛ إذ كيف يكون في ظلمة السواد جلاءٌ من الشك والريبة؟ إنما جلاء الشك والريبة في نور بياض السيوف حين تُنْتَضَى ويُهْوَى بها على رؤوس الكفر والضلال!

أتزعمون أن عند شُهبكم العلمَ بما يُخبئه المستقبل؟ كلَّا ثم كلَّا، إنما علمُ ذلك يتجلَّى للعين على لمعِ الحسام إذا حمِي وطيسُ القتال، فهو الذي يقرِّر النصر والهزيمة؛ إذ لا نصرَ لعاجزٍ متخاذل يُنصت إلى أكاذيب الدجَّالين، وإنما النصر من عند الله يَهبه لكلِّ مؤمنٍ شجاع يأخذ عُدته وينطلق في سبيل الله، مقتحمًا الأخطار عاقدًا العزم على النصر أو الاستشهاد ... وهكذا، وهكذا.

وانظر أيضًا كيف يتلاعب الشاعر بالصور تلاعبًا يدل على ثرائه المدهش منها ومقدرته على التفنُّن فيها كيف يشاء! فهو مثلًا يجعل عمورية مرة أمًّا للروم، إشارة إلى أنها عنوان مجدهم من قديم الزمان، وأنهم كانوا على استعداد لفدائها بالآباء والأمهات:
ولكنهم فقَدوا الرجاء فلم يفعلوا؛ إذ كانت سيول المسلمين أطغى من أن تُصَدَّ.

ومرة يجعلها امرأةً برزةً تَدِلُّ بجمالها الفتَّان، وتَشمَخ بأنفها على مَن تُسول له الأمانيُّ أن يتقدَّم إليها يَعرِض عليها قلبَه وحبَّه، لم تَعفُ من ذلك كسرى ولا أبا كربٍ، وكيف لا تفعل وهي المرأة الخالدة التي شاب الزمن وشبابُها باقٍ على نَضارته وغَضارته وفِتنته؟!

ومرة يجعلها بِكرًا لم تستطع صروف الدهر أن تَفُضَّ بَكارتها، بَلْهَ أن تترقَّى إليها في عليائها وشموخها، ومرة يجعل السنين وعاءً من اللبن، وقد عكَفت يد الله عليه تَمخُضه في حرص وإعزازٍ، حتى استخلصت منه عمورية قطعةً من الزُّبْد المصفَّى:
وتأمَّل هذه الصورة أيضًا:

جرَى لها الفألُ نَحْسًا يومَ أَنْقَرَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذ غُودِرتْ وَحشة الساحاتِ والرَّحَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَمَّا رَأَتْ أُختَها بالأمسِ قد خَرِبَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كان الخرابُ لها أَعْدى مِن الجَرَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فهل سمِعت من قبلُ بالخراب يُعدي كما يُعدي الجرب؟!

أو هذه الصورة:

لقد تركتَ أميرَ المؤمنين بها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
للنار يومًا ذليلَ الصَّخْرِ والخَشَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

غادَرْتَ فيها بهيمَ الليل وهْو ضُحًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَشُلُّه وسطَها صبحٌ مِن اللَّهَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حتى كأنَّ جَلابيبَ الدُّجى رغِبتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عن لونِها أو كأن الشمسَ لَم تَغِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ضوءٌ مِن النارِ والظَّلْماءُ عاكفةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وظُلمةٌ مِن دُخانٍ في ضُحًا شَحِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فذِلة الهزيمة قد لحِقت حتى بجدران البيوت فيها من صخرٍ وخشبٍ، والظلام البَهيم قد استحال بفعل ألسنةِ النيران المتأججة إلى صبحٍ بل إلى ضحًى، والدُّجى لها جلابيبُ، وهذه الجلابيب قد سئِمت لونَها الأسود، والناظر إلى كلِّ هذا لا يدري أهو في حُلمٍ أم في علمٍ، ولا يستطيع القطع بأن ما يراه ليلٌ أو نهار، فاللهب مِن تأجُّجه يُحيل الدنيا إلى نهار ساطع، ثم يَهجُم الدُّخَان المنعقد الكثيف، فإذا به يُخيَّل إليه أن الشمس قد غرَبت مع أنه لا شمس هناك ولا نهار، وهذا الخيال الذي يجعل من الليل نهارًا، هو هو الخيال الذي يرى في قُبح ما لحِق بالمدينة مِن خرابٍ وحرائقَ - حُسنًا لا يضارعه حسنٌ، حسنًا يُسْتَلَبُ منه اللبُّ كما كان ربعُ ميَّةَ وهي فيه تَعمُره بالحياة والفتنة والجمال، يَسحَر فؤادَ ذي الرُّمة الشاعر الذي خلَّدها في شعره إلى الأبد:

ما رَبْعُ ميَّةَ مَعمورًا يُطيفُ بِه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
غيلانُ أَبْهى رُبًا مِن رَبْعِها الخَرِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولا الخُدودُ وقدْ أُدْمِينَ مِن خَجلٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَشهَى إلى ناظِري مِن خَدِّها التَّرِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سَماجةً غَنِيتْ منا العيونُ بِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عن كلِّ حُسنٍ بَدَا أو مَنظرٍ عَجَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وتأمَّل كيف يَجعل أبو تمام الموت يترصَّد للكفر في غابة من الرماح أدهارًا متطاولة، ثم يَنقَضُّ فجأةً عليه، فيُجَرِّعه الهلاك تَجريعًا:
وتأمَّل كيف يجعل الكَرى كأسًا يَحتسي منها الإنسانُ مشروبًا حلوًا لذيذًا، فإذا بالمعتصم - وقد بلَغه خبرُ اعتداء الروم الأنجاس على حدود دولة الإسلام - يُمسك بالكأس ويُريق كلَّ ما فيها على الأرض، ثم يَنهَض للانتقام من هؤلاء الأرجاس، قاطعًا بذلك خطَّ الرجعة على نفسه، وقد كان الشاعر مستطيعًا أن يقول مثلًا: "آليتُ على نفسك ألا تُخلِد للكَرى"، ولكن مَن يَحلِف ألا ينام قد يَغلبه النوم على نفسه، فالنوم سلطان، أما أن يُهْرِقَ كأسَ الكَرى، فمعنى ذلك أنه لم يَعُد أمامه إلا السهرُ المتواصل حتى إتمام النصر.