ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الأخت المسلمة (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=45)
-   -   (صلة الرحم) (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=294871)

ابوالوليد المسلم 19-07-2023 12:15 PM

(صلة الرحم)
 
(صلة الرحم)

يَشتكي الكثيرُ مِن النَّاسِ؛ مِن انقطاع الوَصلِ بينَه وبَين أقَاربِهِ لأسْبابٍ مُتعَدِّدَةٍ؛ ونَظرًا لِمَا لِصلَةِ الرَّحمِ مِنْ أَهَمِّيةٍ، وَتَغليظٍ للعقوبةِ في قَطعِهَا. سَنُخصِّصُ هَذه الخُطبة لِلحديثِ عن صِلةِ الرَّحمِ.

عِبَادَ اَللَّهِ: صِلةُ الرَّحِم تعنِي الإحسانُ إلَى الأقاربِ، وإيصَالُ مَا أمكنَ من الخيرِ لهُم، ودَفعِ مَا أمكنَ من الشرِّ عَنهُم. أمَّا قطيعةُ الرَّحِم؛ فهو عَكسُ الإحسانِ إلَيهم وذلكَ بالإسَاءةِ. فنَحنُ الآن أمامَ ثلاث درجاتٍ:
الوَاصِلُ؛ فهذا مُحسِنٌ. وهذا أفضلُ الدَّرَجَاتِ.

القَاطعُ؛ فهذا مُسيءٌ. وهذا أحطُّ الدَّرَجَاتِ.


لا وَاصِل ولا قَاطع؛ فهذا لا يُحسِن ولا يُسيء، وهذا وسَطٌ بين المَنزلتين. ولو فتشتَ في النَّاس وفي كُلِّ أسرَةٍ تَجِدُ فيهم إحدَى هذِه الأنواعِ.


عِبَادَ اَللَّهِ: صِلةُ الرَّحمِ واجِبةٌ وقطيعتُهَا مَعصِيةٌ من كَبائرِ الذنوبِ وهذا في الجُملةِ، لكن الحُكم أحيانًا عِند الدخُولِ فِي التفاصِيل يَختلفُ بِحسبِ مَا يلي:

قُدرةُ الواصلِ؛ فلو كانَ عندكَ مثلًا أخٌ مريضٌ لا يقدرُ على الحَركةِ. فالصِلَةُ وَاجبة ٌعليكَ لا عَليه؛ لأنَّك أنتَ الأقدرُ عَلى الصِّلةِ.


حَاجةُ المَوصُولِ؛ فلو كانَ عِندكَ مثلًا أخٌ فقيرٌ أو عَمَّةٌ فَقِيرةٌ أو خَالةٌ فَقِيرةٌ، وأنت غني، فأنتَ مَنْ يجبُ عليكَ صِلَتُهم بالعَطاءِ، وفِي هذا السِّياقِ يَأتي حديثُ الرَّسُولِصلى الله عليه وسلم: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» [1]، ولَو افترضنَا أنَّ أخَاكَ أو عَمَّتَكَ أو خَالتَكَ أغنياءُ، فالعطَاءُ غيرُ واجبٍ، وإنَّمَا الصِّلة فِي هذِه الحالة تكونُ بالسَّلامِ والكلاَم.


اختلافُ الشَّيء الذِي يُوصَلُ بِه؛ كما رأينَا في المِثال السَّابق، صِلةُ الأخِ بالمالِ لمَّا كَان فَقيرًا واجبةٌ، ثم انتقلَ الحُكم إلى الاستحبابِ بالمالِ لَمَّا كان غَنيًّا.


درجَةُ القَرابَة: مثلًا إنسانٌ غَني لهُ أخ فقيرٌ وعَمٌّ فقيرٌ ولا يَستطيعُ القيامَ بحقِّهمَا جَميعًا، فالواجبُ صِلةُ الأخِ دُونَ العمِّ لقوةِ قَرابتِهِ وعلَى هذا القِياسُ - إذا لَم يُمكن الجمعُ في الإحْسانِ - قَال صلى الله عليه وسلم: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ، وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ، وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ، أَدْنَاكَ» [2]، ولَو قَصَّرَ هَذا الأخُ في الانفاقِ وكانَ العمُّ غَنيًّا أنفقَ عَليه العَمُّ؛ لأنَّ الوُجوبَ انتقل إليهِ بتقصيرِ مَن هو أولَى بِذلكَ.


ومثالٌ آخَر: لو كان عندَ الأبِ أبناءُ كثرٌ فَوجبَ عَليهم جَميعًا القيامُ بحقِّ أبِيهم، لكن لَو قصَّر أحدُهم؛ لا يُعطِي حُجةً للآخرينَ في التَّقصِيرِ، وعَدم القيامِ بما يستطيعونَ تُجاهَ أبيهمْ وأمِّهمْ.

عِبَادَ اَللَّهِ: صِلةُ الرَّحمِ وردَ في فَضلِها والتحذيرُ من قَطيعَتِهَا نُصُوصٌ كثيرةٌ:
ومن ذلكَ في القرآنِ الكريمِ:
• قَولُه تَعالى في الوَالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23].

• وقولُه فِي عُموم الأقاربِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].


وحذَّر من قَطيعتِها، فقالَ تَعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25]، وقالَ تَعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَصَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَن اِقْتَفَى، أمَّا بَعْدُ:
فعبادَ الله، رَأَينَا فِي اَلْخُطْبَةِ الْأُولَى معنَى صِلة الرَّحم وحكمُ صِلتها واختلافُ الحُكم بحسبِ قُدرةِ الواصِل وَحاجةِ المَوصُول واختلافِ الشَّيءِ الذي يُوصلُ به ودرجةُ القَرابَة، ورأينَا مَجمُوعَة من النُّصوصِ القُرآنِيَةِ التي تَحثنَا علَى صِلة الرَّحِم وتُرهِّبُ مِنْ قَطعِهَا، والأمرُ كذَلِك في أحاديثِ المُصطفى صلى الله عليه وسلمذلِك أنَّهُ:
• اعتبرَ صِلةَ الرَّحم مِن الإيمانِ؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» [3]، فصِلةُ الرَّحم عَلامةٌ الإيمَانِ.

وأمَر بها فقالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ، وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» [4]، فمِن أسْبابِ دخولِ الجنَّةِ صِلةُ الأرحامِ.


وحذَّر من قَطيعتِها، فقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ» [5]، فهلْ تحبُّ أن تُحرمَ من الجنَّة؟ وقالَ صلى الله عليه وسلم: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ» [6]، فهلْ تُحبُّ أن يقطعَك اللهُ في وقتٍ أنتَ في حَاجَةٍ إلى رَحمتِه وصِلَتِه؟ وقالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ» [7]، فهلْ تُحِبُّ أن يكونَ عَملُكَ مَردُودًا عليكَ بسببِ القَطيعَةِ.


فاجتهِدوا إخوانِي في صِلةِ أرحامِكُمْ، وتَعرَّفوا مِن أنسَابِكُم مَا بِهِ تَصِلُونهُم، واعلمُوا أنَّ صِلَة الرَّحم سَببٌ في البَركةِ في الرِّزقِ والعُمُر، قَال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» [8].

فاللَّهم أرِنَا الحقَّ حَقًّا وارزُقنَا اتِّباعَه، وأرِنَا الباطِلَ بَاطِلًا وارزُقنَا اجتنَابَهُ.

[1] صحيح ابن ماجة برقم: 1844.
[2] رواه النسائي برقم: 2532. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم: 8067.
[3] رواه البخاري برقم: 6138.
[4] رواه ابن ماجة برقم: 3251. وصححه شعيب الأرنؤوط.
[5] رواه البخاري برقم: 5984.
[6] رواه مسلم برقم: 2555.
[7] رواه أحمد في المسند برقم: 10272، وحسَّن إسناده شعيب الأرنؤوط.
[8] رواه البخاري برقم: 5986.
__________________________________________________ _____
الكاتب: عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت









ابوالوليد المسلم 21-07-2023 04:53 PM

رد: (صلة الرحم)
 
(صلة الرحم)(2)
الكاتب: عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت



عنَاصِرُ الخُطبةِ:
بماذا تكونُ صِلَةُ الرَّحم؟
مظاهِرُ قَطيعَة الرَّحمِ.
تَصحيح المفهوم الخاطئ لِصلة الرَّحم والأمر بالصَّبر عَلى أذى الأقارب.

اَلْخُطْبَةُ اَلْأُولَى
إِنَّ اَلْحَمْدَ لِلَّه نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغفِرهُ ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفِسِنَا وَمَنْ سَيِّئاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، أمَّا بعدُ:
فرَأَينَا فِي اَلْخُطْبَةِ الْمَاضِيةِ مَعنَى صِلة الرَّحِم وحُكمُ صِلَتِها واختلافُ الحُكمِ بِحسبِ قُدرةِ الواصلِ وَحاجةِ المَوصُول واختلافِ الشَّيءِ الذي يُوصَلُ به ودرجةُ القَرابَة. ورأينَا مَجموعَةً من النُّصوصِ من القرآنِ والسُّنة تُرغِّب في صِلة الرَّحِم وتُرهِّبُ مِن قَطعِها، ويستمِر بنا الحَديثُ في هَذه الخُطبةِ عن صِلة الرَّحِم.

عِبَادَ اَللَّهِ،لعلَّك تَسأل؛ بماذا تَكونُ صِلَةُ الرَّحم؟ الصِّلةُ تَكونُ بِزيارةِ الأقَاربِ أي؛ الذهابُ إليهِم في مَحلِّ سُكنَاهُم أو عَملِهم، أو استضَافَتِهم فِي بيتِكَ وإكرَامِهم بِالطَّعامِ، وإذا بَعُدوا أو عَجزتَ عَن الزيَارةِ والاستضَافَة، فيُمكنُ السُّؤالُ عَنهم بالهَاتف أو غَيرهِ مما أنعمَ الله عَلينا فِي هَذَا العَصرِ من وَسائلِ التواصُلِ المُختلِفةِ؛ كالرَّسائلِ النَّصيةِ وَ(الواتسابِ) وَغيرهُ مِن البرامِج كثيرٌ.

وتكونُ الصِّلةُ بالصَّدقَة - كما أسلَفنا في الحَديث - إذَا كَانُوا فُقراءَ أو الهَديَّة إليهِم إذا كانُوا أغنياءَ، واحْرصُوا رَعاكم الله عَلى عدم التكلَّفِ أثناءَ زِيارةِ الأقَاربِ، فإنَّ التكلُّف غيرُ مُستطاعٍ في كلِّ وقتٍ، ويتخذُه الشيطانُ ذَريعةً، فيُوسوِسُ لكَ بِعدمِ الصِّلة؛ لأنَّه ليسَ لَديكَ مَا تُقَدِّمُه لَهُم، وتقول كما نَقولُ بالدارجِة (يدِي خَاويَة!)، بلَ اذهبْ تَكفيك البَسمةَ في وجُوه أقارِبكَ؛ قَال صلى الله عليه وسلم: "وَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ"[1].

وتكونُ الصِّلةُ بتوقيرِ كَبيرهِم واحترامِ صَغيرهِم، وإنزالِهم المَنزلَةَ التي يَستَحقونَ، ومُشاركتِهم في أفراحِهم كالولِيمةِ مثلًا؛ فإذا دَعاك فأجِب، فعدمُ ذهابِك قَطعٌ لِرحمِك. وإذا كان لَك عذرٌ فاعتذَر بأشدِّ العِباراتِ، ثم زُرهُم بعدَ ذلكَ لِتَطييبِ قُلُوبِهِم، وشَاركهُم في أحْزانِهم بِزيارة مَرِيضِهم وحُضور جنائزِهم وتقديم العَزاء لَهُم، ولاَ يخفى عَلَيكُم كيفَ سيكون شُعورُ الأقاربِ إذا ماتَ لهم ميِّتٌ ولَمْ تتصلْ بِهم إذا كنتَ بعيدًا أو يروكَ في العَزاءِ إذَا كُنتَ قَرِيبًا.

وتكونُ الصِّلةُ بسلامَة الصَّدرِ نَحوهُم وترك سُوءِ الظنِّ بِهِم، والتغافُل عَن زلاَّتِهم وأخْطائِهِم، وتكونُ الصِّلةُ بالإصْلاحِ بين المُتخَاصِمِينَ مِنهم بالعَدلِ، والدُّعاء لَهُم.

وتكونُ الصِّلةُ بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهي عن المُنكر في أوساطِهمْ بالحِكمةِ والمَوعظةِ الحَسنةِ والمُجادلةِ بالتي هي أحَسن، وإيَّاك أن تشَارِكهُم في المُنكراتِ بِدعوى صلَةَ الرَّحِم، فَلا طاعةَ لِمخلوقِ في مَعصية الخالِق، ويكونونَ في هذه الحالةِ هُم من أسقطُوا حقَّ الصِّلَةِ بالتَّجرُّؤ على حدُودِ اللهِ، ومظاهرُ الصِّلةِ كثيرةٌ إخوانِي.

فإذَا عَلِمتم هذا فإنَّ أضدادَ ما سَبق مَظهرٌ مِن مظاهِر قَطيعَة الرَّحمِ، كَعدمِ الصَّدقةِ على المُحتاجِ، تَصَوَّرُوا مَعي رَجلٌ غنيٌ يَنعمُ في الخَيراتِ ولهُ أقاربٌ فقراءُ لا يَعرفُهم في شَيءٍ، بينمَا يَسمعونَ أنَّه يُغذِقُ الأمْوال على الأبَاعِدِ، أو يُسرفُ فِي المُباحاتِ؛ كيفَ سَيكونُ شُعورهم وإحسَاسُهم نَحوَه؟

تَصَوَّرُوا مَعِي رَجلٌ أو امرَأة ٌماتَ لَهم قَريبٌ فلم يقدِّموا العَزاءَ لهُ، أو استدَعَوهُم إلى عُرسِ فلَم يَأتُوا إليهِ؛ كيف سَيكونُ شُعورُهم؟

تَصَوَّرُوا مَعِي رَجلٌ أو امرأةٌ يَنقُلانِ الأسْرارَ والكلاَم بينَ الأقَاربِ عَلى وَجهِ الغَيبةِ أو النَّمِيمَةِ؛ كيفَ سَيكون الفسادُ بينهم؟ تخيلوا معي رَجلٌ يُؤْذِي قَريبًا لهُ وربَّما مع القرابَة كانَ جَارًا له، كيف سَتكونُ العلاقةُ بينَهم؟ تَخَيَّلُوا مَعي أخوةٌ يمنَعونَ مِيراثَ أختِهم مِن أبِيهَا، كيفَ مَنَعُوا حقَّ الله فَكَانوا سَببًا في القَطيعةِ.

اسْتَحضِروا مَعِي مَن رَبَّاهُ والدَيهِ صَغيرًا حَتى أصْبحَ لَهُ شَأْنٌ وَوظيفةٌ يأخذُ منهَا مَالًا؛ ثم هَجرَهُم وتَركهُم عَلى كِبَرهِم يُواجهُونَ مَتاعِبَ الْحَياةِ، ولَمْ يُخَصِّصْ لَهم وَلَو جُزءً يَسِيرًا مِن مرتَّبِه في الشَّهر؛ كيفَ عَقَّ وَالديهِ؟ ولم يَصِلهم بِالعَطَاءِ. فإذا مَاتوا أذرفَ عَليهم دُموعَ التَّمَاسِيحْ!

فاللَّهُم اجعَلنا مِن الوَاصِلينَ لأرحامِهم، ونعوذُ بكَ مِن قطيعَة الرَّحِم، وبَاركَ لِي وَلَكُم في أرزاقِنا وأعمَارنا، آمِينْ، وَآخَرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَصَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَن اِقْتَفَى، أمَّا بَعْدُ:
فعبادَ اللهِ، رَأَينَا فِي اَلْخُطْبَةِ الْأُولَى الأمورَ التي تكونُ بِها صلةُ الرَّحمِ؛ فاحْرِصْ عَليها رَعانِي ورعَاكَ الله تَفُز بِأَجْر صِلةِ الرَّحم، وَرأَينَا مظاهِرَ قَطيعَةِ الرَّحمِ فَكُن على حَذَرٍ مِنهَا، وأختِمُ هَذِه الخُطبة بنُقطَتين إخوَاني:
الأُولَى: أُنَاسٌ فَهِمُوا مِن الصِّلَةِ المُكَافَأةُ؛ بِمعنَى قريبٌ جَاءَ عِندِي فقدْ أتى الدَّورُ عَليَّ لأذهبَ عِندهُ، فإذا قطعَ لنْ أذهبَ! وإنَّما الصِّلَةُ الحَقِيقيةُ هي أن تذهبَ عندَ مَن قطعَكَ، وإِن لم يَأْتِي عِندَكَ. قال صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا"[2].

فَأَخُوكَ لا يأتِي إلَيكَ مَثلًا؛ أنت تأخذُ البادِرةَ فتذهبُ إليهِ، وتَحتسِبُ صِلَتكَ لله، فَلا تَنتظِر منهُ الزِّيارَةَ - إذَا لَمْ يَفهَمْ - هَذهِ هِي الصِّلَةُ الحَقيقِيةُ، وعمَّكَ مثلًا بينَه وبينَ أبِيكَ شَنَئَانٌ لا يأتي عِندَكُم، أنت لا تدخُل في هَذا الصِّراع بينَ عمِّك وأبِيك، ولِلأسَف الكثيرُ مِن الأُسَرِ تأبَى إلا أن تُدخِلَ الأبناءَ فِي صِراعَاتِهَا، فيُرَبُّونَ فِيِهم العَداوةُ مِن الصِّغَرِ، وأحثُّ كذلك الزوجَاتِ على مُساعدةِ أزواجِهم في صِلةِ أرحَامِهم، فكمْ مِن قَطيعةٍ هُنَّ أسبَابُهَا، إلاَ فَليَتَّقِينَ اللهَ.

الثَّانِيةُ: بعضُ النَّاس يقُول إِنَّ أقارِبِي أسَاؤوا إلَيَّ كثيرًا، وظلَمُونِي، وأذهبُ عِندَهم ولا يَأتُون عِندي، وأحْسِنُ إليهِمْ ويَتجَاهَلُونَنِي، إلى غيرِهَا مِن الشَّكاوَى الوَاقعَةِ فِي مُجتمَعِنَا، فَهل استَمِرُّ في صِلتِهم؟ وَهُناك مِن الناس من نَصَحَنِي بأنْ أُعَامِلَهم بِالمِثلِ؟
اعلمْ أيُّها الأخُ الكَريمُ أنَّ نَصِيحةَ هَؤلاءِ نَصِيحةٌ إبلِيسِيَّةٌ، يُريدونَ أن يقطَعوا الخيرَ عَنك، وهل منَّا رَجلُ لم يُبتلَ في أقَاربِه وهذا أبُو لَهبٍ عَمُّ نَبيِّنَا صلى الله عليه وسلم كَان شَدِيدَ العَدَاوةِ لَه، وقال صلى الله عليه وسلم في حقِّ أقوامٍ مِن أقارِبِهِ: "إِنَّ آلَ أَبِي (فُلانْ) لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ..."وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا"[3]؛ يَعْنِي أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا.

ولكنْ اسمعْ لِنَصِيحةِ من يحِبُّ لكَ الخيرَ حَبيبِي وحَبيبُك صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ" [4]، و تُسِفُّهُمُ المَلَّ؛ أي: تُلقمُهم الرَّمادَ الحَارَّ، وهو كِنَايةٌ أنَّك مُنتصِرٌ عَليهِم ما دُمتَ عَلى ذَلكَ.

فاللَّهم أرِنَا الحقَّ حَقًّا وارزُقنَا اتِّباعَه، وأرِنَا الباطِلَ بَاطِلًا وارزُقنَا اجتنَابَهُ، (تَتِمَّةُ الدُّعَاءِ).

[1] رواه البيهقي في شعب الايمان برقم:3105، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم:572.

[2] رواه البخاري برقم:5991.

[3] رواه البخاري برقم:5990.

[4] رواه مسلم برقم:2558.


الساعة الآن : 06:46 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 22.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.55 كيلو بايت... تم توفير 0.14 كيلو بايت...بمعدل (0.60%)]