ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى النقد اللغوي (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=120)
-   -   الرثاء في الشعر العربي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=293148)

ابوالوليد المسلم 10-06-2023 03:42 PM

الرثاء في الشعر العربي
 
الرثاء في الشعر العربي
أم محمد عياطي


تعدَّدَتْ أغراضُ الشعر العربي، وتشَعَّبَتْ من حيث المواضيع التي يطرقها، فكان منها الفخر والهجاء والغزل والرثاء وغيرها، وظلت هذه الأغراض في الشعر محافظةً على أصالتها إلى زماننا هذا، ولم يعتريها التغييرُ إلا في بعض تفاصيل طرحها وسرْدها، ولعل أشجى هذه الأغراض وأقربها لحياة الشاعر وقلبه هو "الرثاء"؛ لأن الموت قدرٌ محتوم قد غصَّ بمرارته كل البشر، وذاق علقمه من تخطَّف الموتُ عزيزًا على قلبه؛ ولهذا لم يكتم الشعراء جزعهم من هذا الشبح الذي طالما حام حول سويداء قلوبهم، فاجتثَّها خلسةً، ومرَّ إلى غير رجعة على وَقْع أفئدة تُدمى، وأكباد تتفطَّر، وأرواح تتلظَّى وتتحسَّر، ولا يملك الشاعر إلا أن يشيِّع فقيده بأوتار القوافي، يهزُّ أوزانها على نغم الفجيعة والأسى مجترًّا ما مضى من سالف عهده، فيتراءى له جمالُ تلك الصُّحْبة الهنية التي لم يبقَ منها سوى أثر معانيها الطيبة، وذكرى المفقود بكل ما افتقد معه من نُبْل خلاله، وحُسْن أوصافه؛ ولهذا نستطيع أن نعرِّف الرثاء في الشعر بأنه تعداد خصال الميت مع التفجُّع والتأسِّي والتعزِّي بما كان يشتمل عليه من خصال حسنة ومناقب مجيدة، ويلتقي الرثاء مع المدح في الإشادة بمكارم الأخلاق وجليل المزايا والصفات إلا أن الرثاء يعقبه الحزن والحسرة على فراق المتوفَّى.

وللرثاء ثلاثة ألوان وهي:
الندب: وهو البكاء أثناء احتضار الميت، أو بعد وفاته.
والتأبين: وهو ذكر الميت وتعداد خصاله الحميدة في جمْع من الناس، ويُعدُّ التأبين نوعًا من التكريم للميت.
والعَزاء: وهو التفكير فيما وراء الموت، والتأمُّل في الموت والحياة بشكل يصل إلى أعماقه، وسر خذلانه.

وأيًّا كان لون الرثاء أو نوعه نجده يلامس شغاف القلوب ورقائق النفس، ولعل أصدق الرثاء أخلده؛ فكلما كان المصاب أعظمَ، كان الشعرُ أمكنَ وأصلبَ، وصداه أجوب في شعاب الحياة.

ويتوزَّع الشعراء من راثٍ لنفسه، ولعزيز له قريب، أو حتى لبقعة من بقاع الأرض؛ كرثاء المدن وعندما نجيل النظر نلمس أنه من أصدق وأشج ما قيل في الرثاء كان في رثاء المرء نفسه، وهل هناك أعزُّ من الروح مهما كانت مكانة المرثي، فليست النائحة كالثكلى.

ومن أشهر المرثيات مرثية مالك بن الريب، يرثي نفسه في قصيدة طويلة عندما شعر بدنوِّ الأجل إثر حادث ألمَّ به؛ حيث قال:
غريبٌ بعيدُ الدار ثاوٍ بقَفْرةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَدَ الدهر معروفًا بأنْ لا تدانيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أقلِّبُ طرفي حول رحلي فلا أرى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

به من عيون الْمُؤنساتِ مُراعيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وبالرمل منَّا نسوة لو شَهِدْنَني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَكينَ وفَدَّين الطبيبَ الْمُداويا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وما كان عهدُ الرمل عندي وأهلِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ذميمًا ولا ودَّعْتُ بالرمل قالِيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ومن أبرز شعر الرثاء أيضًا مراثي المهلهل في أخيه كليب؛ فقد برع في تصوير فجيعته، ونفث آهته من خلال ما نظمه حين فقد أخاه، فقال
نعى النعاة كليبًا لي فقلت لهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سالت‏ بنا الأرض أو زالت رواسيها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ليت السماء على من تحتها وقعت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وجالت الأرض فانجابت ‏بمن فيها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وكان للخنساء قصائد عدة في رثاء أخيها صخر تصدَّعَتْ من خلالها روحها، فانساقت عبراتها تنوح في قوافي تموج بحرقة الفقد والحنين ومنها:
أعينيَّ جُودا ولا تجمُدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ألا تبكيان لصَخْر الندى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ألا تبكيان الجريء الجميل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ألا تبكيان الفتى السيدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

رفيع العماد طويل النجاد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ساد عشيرته أمردا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذا القوم مدُّوا بأيديهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إلى المجد مدَّ إليه يدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يحمله القوم ما عالهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وإن كان أصغرهم مولدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وإن ذ كر المجد ألفيته https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تأزَّر بالمجد ثم ارتدى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ابوالوليد المسلم 10-06-2023 03:44 PM

رد: الرثاء في الشعر العربي
 
أما أبو ذؤيب الهذلي فقد ترك فقد أولاده في نفسه أثرًا لا يُمحى بحيث جسَّدت قصيدته مقدار الحزن الذي استحوذ عليه حتى غدت أيامُه مريرةً لا تُطاق فقال:
أمِن المَنُونِ وريبها تتوجَّعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والدهرُ ليسَ بُمعْتِبٍ مَن يَجْزَعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَالَتْ أميمةُ مَا لجسمِكَ شاحبًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
منذ ابتذِلْتَ ومثلُ مَالِك يَنْفعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أمْ مَا لِجنْبِكَ لا يلائمُ مَضْجعًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إلَّا أقضَّ عليه ذاكَ المضْجَعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فأجبْتُها أمَّا لِجِسْميَ أنَّه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَودَى بَنيَّ من البلادِ فوَدَّعُوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أوْدى بَنيَّ فأعْقَبوني حَسْرةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بعد الرُّقادِ، وعَبرةً مَا تُقْلِعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَغبَرتُ بَعَدهُمُ بعيْشٍ نَاصب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإِخالُ أَنِّي لاحِقٌ مُسْتَتْبعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلقدْ حَرَصْتُ بأن أُدافعَ عنهُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإذا المنيةُ أقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإذا المنيَّةُ أَنشبَتْ أَظْفَارَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ألفْيْتَ كلَّ تميمةٍ لا تَنْفَعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وتَجَلُّدي للشَّامِتينَ أرِيهمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَنِّي لِريب الدَّهْرِ لا أتَضَعْضَعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حتَّى كَأنِّي للْحَوادِثِ مَرْوَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بصفا المشقَّرِ كلَّ يومٍ تُقْرَعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لا بدَّ مِن تَلفٍ مُقيمٍ فانتظرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَبأرْضِ قَومِك أمْ بأُخرى المَصْرعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلَقَدْ أَرَى أنَّ البُكَاءَ سَفَاهَة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلَسَوْفَ يُولَعُ بالبُكَا مَنْ يُفْجع


ابوالوليد المسلم 10-06-2023 03:45 PM

رد: الرثاء في الشعر العربي
 
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وليَأتينَّ عَلَيْكَ يومٌ مَرَّةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يُبكَى عَلَيْكَ مُقنَّعًا لا تَسْمَعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والنَّفسُ رَاغِبةٌ إذا رغَّبْتَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تَقْنَعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كمْ مِن جميع الشَّمْلِ مُلْتئم الهَوى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَانُوا بَعَيْشٍ نَاعِمٍ فَتَصَدَّعُوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَلئِنْ بهم فَجَعَ الزَّمَان وَريْبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إني بأهْلِ مَوَدَّتِي لمُفجَّع https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكان لرثاء الزوجة عند الشعراء حظٌّ وافرٌ من النظم والبكاء على ما مرَّ من طيب معشرها، ومن أرقِّ ما قيل في هذا الموضع الذي سطَّرَه جرير في رثاء زوجته، فقال في ذلك:
لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلَزُرتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلَقَد نَظَرتُ وَما تَمَتُّع نَظرَة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
في اللَّحْدِ حَيثُ تَمَكَّنَ المِحفارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَجَزاكِ رَبُّكِ في عَشيرِكِ نَظرَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَسَقى صَداكِ مُجَلجِلٌ مِدرارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَرعى النُّجومَ وَقَد مَضَت غَورِيَّةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عُصَبُ النُّجومِ كَأَنَّهُنَّ صِوارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نِعْمَ القَرينُ وَكُنتِ عِلقَ مَضِنَّةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأرى بِنَعفِ بُلَيَّةَ الأَحجارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عَمِرَت مُكَرَّمَةَ المَساكِ وَفارَقَت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ما مَسَّها صَلَفٌ وَلا إِقتارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَسَقى صَدى جَدَثٍ بِبُرقَةِ ضاحِكٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هَزِمٌ أَجَشُّ وَديمَةٌ مِدرارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هَزِمٌ أَجَشُّ إِذا اِستَحارَ بِبَلدَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَكَأَنَّما بِجوائِها الأَنهارُ





ابوالوليد المسلم 10-06-2023 03:46 PM

رد: الرثاء في الشعر العربي
 
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مُتَراكِبٌ زَجِلٌ يُضيءُ وَميضُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَالبُلقِ تَحتَ بُطونِها الأَمهارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كانَت مُكَرَّمَةَ العَشيرِ وَلَم يَكُن https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يُخشى غَوائِلَ أُمِّ حَزرَةَ جارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلَقَد أَراكِ كُسيتِ أَجمَلَ مَنظَرٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَمَعَ الجَمالِ سَكينَةٌ وَوَقارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالريحُ طَيِّبَةٌ إِذا استَقبَلتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالعِرضُ لا دَنِسٌ وَلا خَوَّارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَإِذا سَرَيتُ رَأَيتُ نارَكِ نَوَّرَت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَجهًا أَغَرَّ يَزينُهُ الإِسفارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ورثاء المدن أيضًا فهناك من سكب في معانيه أسف الضياع وكمد الفرقة، وهذا ما فاضت قريحة الشاعر "أبي البقاء الرندي" به عندما بكى سقوط الأندلس قائلًا:
لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصان ُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هي الأمور كما شاهدتها دُولٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وهذه الدار لا تُبقي على أحد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولا يدوم على حالٍ لها شانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وينتضي كلَّ سيف للفناء ولوْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كان ابنَ ذي يزَن والغمدَ غمدان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأين ما حازه قارون من ذهب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ؟


ابوالوليد المسلم 10-06-2023 03:47 PM

رد: الرثاء في الشعر العربي
 
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أتى على الكُل أمر لا مَردَّ له https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حتى قَضَوا فكأن القوم ما كانوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وفي الأخير نقول وإن تعددت المراثي، فالوجع واحد؛ لأن الفقد من أمر ما يُلاقيه الإنسان ويُكابده، فكيف إن كان المفقود ميؤوسًا من عودته ورجوعه كمن تخطَّفَه الموت، فالاشتياق المسلوب الأمل أقسى ما يتجرَّعُه قلب، ولا يخفف من وقعه إلا الرضا بالقضاء والقدر عند المؤمن خاصة.


الساعة الآن : 04:57 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 31.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.81 كيلو بايت... تم توفير 0.26 كيلو بايت...بمعدل (0.84%)]