الرثاء في الشعر العربي
الرثاء في الشعر العربي أم محمد عياطي تعدَّدَتْ أغراضُ الشعر العربي، وتشَعَّبَتْ من حيث المواضيع التي يطرقها، فكان منها الفخر والهجاء والغزل والرثاء وغيرها، وظلت هذه الأغراض في الشعر محافظةً على أصالتها إلى زماننا هذا، ولم يعتريها التغييرُ إلا في بعض تفاصيل طرحها وسرْدها، ولعل أشجى هذه الأغراض وأقربها لحياة الشاعر وقلبه هو "الرثاء"؛ لأن الموت قدرٌ محتوم قد غصَّ بمرارته كل البشر، وذاق علقمه من تخطَّف الموتُ عزيزًا على قلبه؛ ولهذا لم يكتم الشعراء جزعهم من هذا الشبح الذي طالما حام حول سويداء قلوبهم، فاجتثَّها خلسةً، ومرَّ إلى غير رجعة على وَقْع أفئدة تُدمى، وأكباد تتفطَّر، وأرواح تتلظَّى وتتحسَّر، ولا يملك الشاعر إلا أن يشيِّع فقيده بأوتار القوافي، يهزُّ أوزانها على نغم الفجيعة والأسى مجترًّا ما مضى من سالف عهده، فيتراءى له جمالُ تلك الصُّحْبة الهنية التي لم يبقَ منها سوى أثر معانيها الطيبة، وذكرى المفقود بكل ما افتقد معه من نُبْل خلاله، وحُسْن أوصافه؛ ولهذا نستطيع أن نعرِّف الرثاء في الشعر بأنه تعداد خصال الميت مع التفجُّع والتأسِّي والتعزِّي بما كان يشتمل عليه من خصال حسنة ومناقب مجيدة، ويلتقي الرثاء مع المدح في الإشادة بمكارم الأخلاق وجليل المزايا والصفات إلا أن الرثاء يعقبه الحزن والحسرة على فراق المتوفَّى. وللرثاء ثلاثة ألوان وهي: الندب: وهو البكاء أثناء احتضار الميت، أو بعد وفاته. والتأبين: وهو ذكر الميت وتعداد خصاله الحميدة في جمْع من الناس، ويُعدُّ التأبين نوعًا من التكريم للميت. والعَزاء: وهو التفكير فيما وراء الموت، والتأمُّل في الموت والحياة بشكل يصل إلى أعماقه، وسر خذلانه. وأيًّا كان لون الرثاء أو نوعه نجده يلامس شغاف القلوب ورقائق النفس، ولعل أصدق الرثاء أخلده؛ فكلما كان المصاب أعظمَ، كان الشعرُ أمكنَ وأصلبَ، وصداه أجوب في شعاب الحياة. ويتوزَّع الشعراء من راثٍ لنفسه، ولعزيز له قريب، أو حتى لبقعة من بقاع الأرض؛ كرثاء المدن وعندما نجيل النظر نلمس أنه من أصدق وأشج ما قيل في الرثاء كان في رثاء المرء نفسه، وهل هناك أعزُّ من الروح مهما كانت مكانة المرثي، فليست النائحة كالثكلى. ومن أشهر المرثيات مرثية مالك بن الريب، يرثي نفسه في قصيدة طويلة عندما شعر بدنوِّ الأجل إثر حادث ألمَّ به؛ حيث قال: غريبٌ بعيدُ الدار ثاوٍ بقَفْرةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يَدَ الدهر معروفًا بأنْ لا تدانيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أقلِّبُ طرفي حول رحلي فلا أرى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif به من عيون الْمُؤنساتِ مُراعيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبالرمل منَّا نسوة لو شَهِدْنَني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بَكينَ وفَدَّين الطبيبَ الْمُداويا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وما كان عهدُ الرمل عندي وأهلِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ذميمًا ولا ودَّعْتُ بالرمل قالِيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومن أبرز شعر الرثاء أيضًا مراثي المهلهل في أخيه كليب؛ فقد برع في تصوير فجيعته، ونفث آهته من خلال ما نظمه حين فقد أخاه، فقال نعى النعاة كليبًا لي فقلت لهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سالت بنا الأرض أو زالت رواسيها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ليت السماء على من تحتها وقعت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وجالت الأرض فانجابت بمن فيها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكان للخنساء قصائد عدة في رثاء أخيها صخر تصدَّعَتْ من خلالها روحها، فانساقت عبراتها تنوح في قوافي تموج بحرقة الفقد والحنين ومنها: أعينيَّ جُودا ولا تجمُدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ألا تبكيان لصَخْر الندى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ألا تبكيان الجريء الجميل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ألا تبكيان الفتى السيدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif رفيع العماد طويل النجاد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ساد عشيرته أمردا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا القوم مدُّوا بأيديهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى المجد مدَّ إليه يدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يحمله القوم ما عالهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإن كان أصغرهم مولدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإن ذ كر المجد ألفيته https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تأزَّر بالمجد ثم ارتدى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif |
رد: الرثاء في الشعر العربي
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وليَأتينَّ عَلَيْكَ يومٌ مَرَّةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يُبكَى عَلَيْكَ مُقنَّعًا لا تَسْمَعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والنَّفسُ رَاغِبةٌ إذا رغَّبْتَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تَقْنَعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كمْ مِن جميع الشَّمْلِ مُلْتئم الهَوى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كَانُوا بَعَيْشٍ نَاعِمٍ فَتَصَدَّعُوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَلئِنْ بهم فَجَعَ الزَّمَان وَريْبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إني بأهْلِ مَوَدَّتِي لمُفجَّع https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكان لرثاء الزوجة عند الشعراء حظٌّ وافرٌ من النظم والبكاء على ما مرَّ من طيب معشرها، ومن أرقِّ ما قيل في هذا الموضع الذي سطَّرَه جرير في رثاء زوجته، فقال في ذلك: لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَلَزُرتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَلَقَد نَظَرتُ وَما تَمَتُّع نَظرَة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في اللَّحْدِ حَيثُ تَمَكَّنَ المِحفارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَجَزاكِ رَبُّكِ في عَشيرِكِ نَظرَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَسَقى صَداكِ مُجَلجِلٌ مِدرارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أَرعى النُّجومَ وَقَد مَضَت غَورِيَّةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عُصَبُ النُّجومِ كَأَنَّهُنَّ صِوارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نِعْمَ القَرينُ وَكُنتِ عِلقَ مَضِنَّةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأرى بِنَعفِ بُلَيَّةَ الأَحجارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عَمِرَت مُكَرَّمَةَ المَساكِ وَفارَقَت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما مَسَّها صَلَفٌ وَلا إِقتارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَسَقى صَدى جَدَثٍ بِبُرقَةِ ضاحِكٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هَزِمٌ أَجَشُّ وَديمَةٌ مِدرارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هَزِمٌ أَجَشُّ إِذا اِستَحارَ بِبَلدَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَكَأَنَّما بِجوائِها الأَنهارُ |
رد: الرثاء في الشعر العربي
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مُتَراكِبٌ زَجِلٌ يُضيءُ وَميضُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كَالبُلقِ تَحتَ بُطونِها الأَمهارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كانَت مُكَرَّمَةَ العَشيرِ وَلَم يَكُن https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يُخشى غَوائِلَ أُمِّ حَزرَةَ جارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَلَقَد أَراكِ كُسيتِ أَجمَلَ مَنظَرٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَمَعَ الجَمالِ سَكينَةٌ وَوَقارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَالريحُ طَيِّبَةٌ إِذا استَقبَلتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَالعِرضُ لا دَنِسٌ وَلا خَوَّارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَإِذا سَرَيتُ رَأَيتُ نارَكِ نَوَّرَت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَجهًا أَغَرَّ يَزينُهُ الإِسفارُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ورثاء المدن أيضًا فهناك من سكب في معانيه أسف الضياع وكمد الفرقة، وهذا ما فاضت قريحة الشاعر "أبي البقاء الرندي" به عندما بكى سقوط الأندلس قائلًا: لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصان ُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هي الأمور كما شاهدتها دُولٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهذه الدار لا تُبقي على أحد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا يدوم على حالٍ لها شانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وينتضي كلَّ سيف للفناء ولوْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كان ابنَ ذي يزَن والغمدَ غمدان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأين ما حازه قارون من ذهب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ؟ |
رد: الرثاء في الشعر العربي
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أتى على الكُل أمر لا مَردَّ له https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حتى قَضَوا فكأن القوم ما كانوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفي الأخير نقول وإن تعددت المراثي، فالوجع واحد؛ لأن الفقد من أمر ما يُلاقيه الإنسان ويُكابده، فكيف إن كان المفقود ميؤوسًا من عودته ورجوعه كمن تخطَّفَه الموت، فالاشتياق المسلوب الأمل أقسى ما يتجرَّعُه قلب، ولا يخفف من وقعه إلا الرضا بالقضاء والقدر عند المؤمن خاصة. |
الساعة الآن : 04:57 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour