المقامة التجويدية
المقامة التجويدية عبدالله بن عبده نعمان العواضي قالَ مسلمُ بنُ عبدِ اللهِ: صليتُ ذاتَ يومٍ في مسجدٍ جامع، غاصٍّ بالساجدِ والراكع، وممتلئٍ بكثرةِ الذاكرين والتالين، وآهلٍ بزُمَرٍ من المتعلمين الراغبين، فلما تحلَّلنا من الصلاةِ بالسلام، وقضينا الأذكارَ بانتظام، قامَ شيخٌ على كرسيٍّ موضوع، فتحلَّقتْ به تلك الجموع، بأدبٍ وخشوع، فشرعَ في حديثِه إليهم، وإملاءِ نصائحِه عليهم. فلما توسَّمتُ في سَحنتِه، وألقيتُ أُذُني لعبارتِه، عرفتُ أنه شيخُنا أبو الحارثِ بلا امتراء، وربُّ البيانِ المعهودِ بلا خفاء، فكرهتُ أنْ أقطعَ حديثَه بالتعارفِ في خضمِ هذا الاجتماع، وألزمتُ نفسي شعارَ التنكرِ وإبداءَ الاستماع. فكان مما قال: الحمدُ للهِ الذي أنزلَ القرآنَ ربيعًا للقلوب، وجعلَ تلاوتَه طريقًا إلى كثرة الأجورِ وإحراقِ الذُّنوب، وأحلَّ بِه أهلَه المنازلَ العالية، وبلَّغهم بالعملِ بمواعظِه الغاياتِ الحميدةَ السامية، والصلاةُ والسلامُ على من نزَّلَ اللهُ عليه القرآن، هدًى للناسِ وبيناتٍ من الهدى والفرقان، صلى اللهُ وسلَّم عليه وعلى آله، وعلى أصحابِه ومن سارَ على سُنَّتِه ومنوالِه. أما بعد: فيا أيها القراء، اعلموا أنكم حملةُ الإيمانِ والضياء، ومعارجُ السَّنا والسَّناء، وبكم تُحفظُ الأمانة، وبصلاحِكم تبقى الدِّيانة، وبجِدِّكم في هذه السبيلِ ينقشعُ الدُّجى، وتتسعُ دائرةُ الهدى. فجوِّدوا كلامَ ربِّكم حقَّ تجويدِه، وامتثلوا أوامرَه وقِفوا عند حدودِه، وألبِسوا قلوبَكم تعظيمَ وعدِه ووعيدِه، وأعطوه حقَّه ومستحقَّه من إجلالِه وتمجيدِه، وأظهروا للناسِ استعلاءَ هذا الكتابِ على ما سواه، واستفالَ غيرِه إذا قُورنَ به في سموقِ الشأنِ وعُلاه، وأديموا الصِّلةَ به ولا تقطعوه، وكرِّروا تلاوتَه ولا تهجروه، ولا تقلبْكم عنه قلقلةُ محنة، ولا تفشِّي فتنة، ولا استطالةُ بلاء، ولا صفيرُ ضوضاء، وإيَّاكم والانحرافَ عن تمكينِ أثرِه في الجَنان، وإقلابَ مقاصدِه في الجوارحِ واللسان، واحذروا الرخاوةَ في الأخذِ به في إصلاحِ الأقوالِ والأفعال، والسكونَ عن القيامِ بحقِّه في جميعِ الأحوال. ومتى كانت لحربِ همومِكم عليكم شَدَّة، وامتدتْ أضرارها على راحتِكم مَدة؛ فاهرعوا إلى القرآنِ تجدوا فيه المخارجَ من اللأْوَاء، والانفتاحَ من أغلاقِ البلاء. ثم قال: يا أهل القرآن، مدُّوا حبلَ الاتصالِ بربِّكم الجليل، واقطعوا سببَ هواكمُ الطويل، وأدغِموا الخطايا في السترِ بلا مجاهرة، وأخفوا لكم خبايا أعمالٍ ينفعُكم ظهورُها في الآخرة، واقلبوا ظهر المجنِّ لوصل الشهوات، ولازموا تقوى اللهِ في كلِّ الحالات، فليس لكم عنه عوضٌ يُنجيكم من مُرِّ الشقاء، ولا بدلٌ ينجدُكم من لظى العناء، وتجنبوا اللحنَ في أعمالكم؛ فإنه أشدُّ من اللحنِ في أقوالكم، واستعيذوا باللهِ من غفلة لا صحوَ بعدَها، ومن ضمةِ خطيئةٍ لا انفكاكَ عندَها، ومتى مُدَّ إليكم حبلُ قربةٍ فاتصلوا، وحيثما بدا لكم سببُ معصيةٍ فانفصلوا، واعلموا أن الوقفَ عن نصرةِ المظلومِ - مع القدرةِ - وقفٌ قبيح، والابتداءَ بنصرتِه إخراجٌ من جوفِ عنائِه، وظَفَرٌ بحسنِ ثنائِه ودعائِه. فاسمعوا مني هذه النصائحَ وعُوها، واعملوا بخيرٍ رأيتموه فيها وبلِّغوها، فأنتم همزةُ وصلٍ بيني وبين من غاب، رزقني اللهُ وإياكم متصلَ الأجرِ والثواب، وجعلنا من السعداءِ في الدنيا ويوم المآب. ثم أنشأ يقول: يا حاملَ القرآنِ أنتَ على الورى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تاجٌ يضيءُ بأجملِ العقيانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بك قدوةٌ للناظرين فكُنْ لها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في موضعِ الإتقانِ والإحسانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لِنْ في الحديثِ ولا تكنْ متقاربًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مِن شدةِ الأقوالِ للإخوانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif واهمسْ بنصحِكَ في الخفاءِ لمذنبٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif متجنبًا للجهرِ والإعلانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وخذِ الأمورَ لكي تكونَ مسدَّدًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بتوسطٍ تَسلمْ من الخِذلانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif واستعلِ عن دركاتِ كلِّ دنيَّةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا تستفِلْ بالحقدِ والأضغانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وانهضْ إلى طُرُقِ انفتاحِكَ كلَّما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حافظتَ فيه على هُدى الرحمنِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومتى نحا نحوَ التفلُّتِ والشقا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أطبِقْ هواكَ بعزمةِ الإيمانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif واسكُنْ إذا كان السكونُ محبَّبًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في شِرعةِ الديَّانِ ذي السلطانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإذا التحركُ كانَ أفضلَ في النُّهى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فاسلكْهُ دون ترددٍ وتوانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فخِّمْ متى ألفيتَ حُسنَ مآلِه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يغريك بالتفخيمِ في أوطانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإذا غدا الترقيقُ خيرَ وسيلةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif رقِّقْ ففي الترقيقِ نيلُ أماني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلما انتهى من نثرِه ونظمِه، وزكاةِ علمِه وفهمِه، انصدعَ الجمعُ المحتفلُ له بالدعاء الغزير، والشكرِ الجزيلِ الكثير، فأتيتُه فسلمتُ عليه وصافحتُه، وعرفني بعد أن عرفتُه، فقلتُ له: ما أحسنَ تصرفَك في العلوم، وأعظمَ قدرتَك في سبي الألبابِ والفُهُوم! ولكن ما أجملَ توظيفك لمصطلحاتِها في إصلاحِ الإنسان، وزجرِه عن حمأةِ الانحرافِ والعصيان! فدعا لي دعوةَ صالحٍ تُرجى إجابةُ دعوتِه، ويُفرحُ بخروجِها من شفتِه، ثم إني ودعتُه والقلبُ يطلبُ طولَ البقاء، واغتنامَ ما عنده من العلمِ وحسنِ الدعاء. |
الساعة الآن : 12:29 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour