ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الشعر والخواطر (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=30)
-   -   شعر النابغة الجعدي وموضوعاته (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=285566)

ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:05 PM

شعر النابغة الجعدي وموضوعاته
 
شعر النابغة الجعدي وموضوعاته


د. إبراهيم عوض




وصَلَنا من شعر النَّابغة الجَعْدي عدد لا بأس به من القصائد والمقطوعات، عدا النتف والأبيات المفردة، وقد جاء عدد من قصائده بروايات مختلفة تتفاوت في الطول، وقد تتفاوت في بعض الألفاظ أيضًا، وقد جمع شعره وحقَّقه مرتبًا إياه على حروف الألفبا: عبدالعزيز رباح، وألحق به ما نسب إليه وإلى غيره من شعر، وقد استفاد، كما يقول، من عمل ماريا نلينو (بنت المستشرق الإيطالي المعروف كارلو نلينو)، التي كانت قد جمعت شعر الشاعر ونشرته محققًا ومشروحًا بالإيطالية سنة 1953م[1]، ورغم الجهد الذي بذله المحققان فقد بقيت ثغرات في بعض القصائد ينتقل فيها الكلام من معنى إلى آخر لا اتصال له به، كما ظلت هناك بعض الأبيات التي لم يستطيعا أن يعيِّنا مكانها في القصيدة التي رأيَا أنها منها، فكانا يثبتانها في نهايتها.
ورغم هذا كله فإن الإنسان يستطيع أن يخرج بصورة لا بأس بها لفن النَّابغة الشعري، ويتذوق شعره ويستمتع به.

وفي شعر النَّابغة هجاءٌ ومفاخرة، وهما أغلبُ الشعر عنده، كما أن عنده غزلًا، لكنه لا يأتي أبدًا مستقلًّا ولا طويلًا، بل هي أبيات مرافقة للغرض الأصلي في القصيدة التي وردت فيها، ومثل الغزل في ذلك وصفُه للخمر، وكذلك نظراته الحِكْمية، وثمة أيضًا أبيات في مدح الرسول عليه السلام والاعتزاز بالإسلام، كما أن هناك أبياتًا أخرى تأتي في تضاعيف بعض قصائده تصور حزنه الأليم على أخيه وَحْوَح وتمجد خلاله ومروءته وشهامته، ومثل ذلك الأبيات التي يصوب فيها ناظريه إلى الماضي متذكرًا شبابه ومسترجعًا أوقات الهناء التي عاشها هناك، ومتحسرًا على مضي ذلك كله إلى عالم الفَناء، وكذلك تلك الأبيات التي يتحدث فيها عن الراحلين من قومه، وفي عدد من قصائده تقابلنا أبيات غير قليلة في وصف الفرس، وهو ما اشتهر به النَّابغة عند القدماء[2]، وهذا كله غير القصيدة التي يبدؤها بتحميد الله وتوحيده مؤكدًا أن من لم يقل ذلك فقد ظلم نفسه.

والحق أن وصف النَّابغة للخيل هو أقل شعره عندي جاذبية، صحيح أنه ومثله من شعر الشعراء الآخرين كان يعجب القدماء، لكنهم إنما كانوا ينجذبون إليه لِما فيه من الغريب، أما الناحية الفنية وما تحدثه من نشوة في النفس والعقل فإني لا أجدها في ذلك اللون من الشعر الذي يبدو فيه الشاعر عادة وكأنه قد تخلت عنه تلك الأحلام الدافئة التي تجعل من الشعر شعرًا، فإنه يذهب في تقصي أجزاء ناقته ووصفها وصفًا عقليًّا لا أثر فيه للشعور، وتشبيهاته حينذاك تأتي ميتة؛ إذ إن وجه الشبه فيها غالبًا سطحي لا تحليق للخيال فيه، فكأنه مجرد وسيلة تعليمية يراد بها التفهيم والتقريب.

وفضلًا عن ذلك، فينبغي ألا ننسى أن الناقة والحصان اللذين شُغف الجاهليون والإسلاميون بوصفهما والإطالة في ذلك إطالة مسرفة في غير قليل من الأحيان لم يعد لهما الآن نفس الدور الذي كانا يقومان به في حياة العربي القديم، ولا ترتبط حياتنا بهما كما كانت حياة ذلك العربي القديم ترتبط بهما، بل إن الأغلبية الساحقة منا لا تستطيع أن تعرف أسماء أجزاء جسميهما أو الأدوات التي توضع عليهما مما هو محل الوصف والتطويل في شعرنا القديم، فلقد أصبحنا نستعمل اليوم السيارة والقطار والطائرة لا الجمل ولا الحصان، بل إن أي شاعر لو وقف اليوم وقفة نظيره القديم فوصف لنا أجزاء أية وسيلة من وسائل مواصلاتنا هذه بالطريقة التي كان القدماء يصفون بها الحصان أو الناقة فلا شك أنه سيكون مملًّا غاية الإملال، ولا أظنه سيهتم بكلامه أحد إلا المهندسون والميكانيكيون وأشباه ذلك؛ إذ الموضوع بهذه الطريقة يخلو تمامًا من الشاعرية، أو يكاد[3].

ثم إن هذا الغرض الشعري بالذات هو من الأغراض التي يكثر فيها الغريب الحُوشي من الألفاظ، إن لم يكن يأتي على رأسها، مما يضاعف برَمَنا به.

وعلى أية حال، فهذا شاهد على وصف النَّابغة للحصان، يقول مفاخرًا بحصانه الذي لاقى به كتيبة من كتائب الأعداء:
تلاقيتهن بلا مُقرف https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بطيء ولا جذع جانب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بعاري النواهق صلت الجبي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ن أجرد كالصدع الأشعب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يقطِّعهن بتقريبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ويأوي إلى حضر ملهب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وإرخاء سِيدٍ إلى هضبة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يوائل من برَد مُهْذب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذا سيقت الخيل وسط النها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ر يُضربن ضربًا ولم يُضرب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

غدَا مرحًا طربًا قلبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لغبن وأصبح لم يغلب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فليق النسا حبِط الموقفي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ن يستن كالتيس في الحُلَّب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مدل على سلطات النسو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ر شم السنابك لم تُقلب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

صحيح الفصوص أمين الشظا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نيام الأباجل لم تُضرب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كأن تماثيل أرساغه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رقاب وعول لدى مشرب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif





ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:05 PM

رد: شعر النابغة الجعدي وموضوعاته
 

كأن حوافره مدبرًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
خُضبن وإن كان لم يُخضب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حجارة غيل برضراضة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كُسين طلاء من الطحلب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأوظفة أيد جدلها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كأوظفة الفالج المصعب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولوح ذراعين في بركة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إلى جؤجؤ رهِل المنكب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أُمِرَّ ونُحِّي من صُلبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كتنحية القتَبِ المجلب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

على أن حاركه مشرفٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وظهر القطاة ولم يحدب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كأن مقط شراسيفه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إلى طرف القُنب فالمنقب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لطمن بتُرس شديد الصفا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ق من خشب الجوز لم يُثقب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ويصهل في مثل جوف الطوى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
صهيلًا يبين للمعرب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ومن دون ذاك هُويٌّ له https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هويُّ القطامي للأرنب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يتبع

ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:06 PM

رد: شعر النابغة الجعدي وموضوعاته
 
شعر النابغة الجعدي وموضوعاته


د. إبراهيم عوض



ولعل أشجى شعر النَّابغة وأعلقه بالنفس هو الشعر الذي يسترجع فيه أيام شبابه حين كان يخلب الحسان بفتوته ونضارة عوده وسواد شعره الفينان، مقابلًا بينها وبين شيخوخته التي تساقطت أوراق غصونها وبقيت جرداء، وكذلك حين يرثي أخاه فيذهب يعدد مآثره في ولَهٍ وحسرة، أو حين تسأله سائلة عن السبب في قلة عديد قومه، فيجيبها بأن الدهر، الذي لا يبقي على شيء ولا يذر، قد أكلهم ضمن ما أكل.



انظر إلى انكساره وتضعضعه أمام ملاحظة سُليمى عن ابيضاض شعره واضطراره، لكي يوضح لها السبب في ذلك، إلى أن يذكر فعل المنون في إخوته وأقاربه الذين خلفوه وراءهم وحيدًا كقرن الثور الأعضب، بما يهيجه كل ذلك من أحزان قديمة:
وقالت سليمى: أرى رأسه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كناصية الفرَس الأشهب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وذلك من وقعات المنون https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ففيئي إليك ولا تعجبي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أتينَ على إخوتي سبعة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وعدن على ربعيَ الأقرب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وسادة رهطيَ حتى بقي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ت فردًا كصيصيَّةِ الأعضب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وتعجبني انتقالته المفاجئة من سؤال سليمى إلى جوابه عليها؛ إذ لم يحاول أن يمهد لذلك الجواب بما يفيد أن كلامها قد انتهى وبدأ كلامه هو، ولعله أراد أن يوحي عن طريق النقلة القافزة بضيقه من هذه الملاحظة، فهو لم يصبر حتى تتم كلامها أو على الأقل لم يُعْنَ بالفصل بين كلامه وكلامها، شأن الذي لا يطيق أن يسمع ما يقال، فهوي بادر إلى الرد عليه من فوره.

وهذا الضيق يتأكد من قوله بُعيد ذلك: "ففيئي إليك ولا تعجبي"؛ إذ يأمرها أن تثوب إلى عقلها فلا تنطق بمثل هذه الملاحظات المؤلمة المثيرة لقديم الأشجان من ركودها.

ثم يعجبني كذلك تصويره لوقعات المنون بصورة الإنسان الذي يأخذ شيئًا ويذهب، ثم يعود ليأخذ ما تبقى، وذلك في قوله:
أتين على إخوتي سبعة ♦♦♦ وعدن على ربعيَ الأقرب

ولا شك أن تفصيله بتحديد عدد إخوته الذين أتت عليهم وقعات المنون بسبعة وإضافته إلى ذلك ربعه الأقرب هو مما يجسِّم مدى فداحة البلية، إن هذه التفصيلات لها دورها في جودة الشعر وقوته.

وتنتهي الأبيات بهذه الصورة المؤثرة: صورته وقد غودر وحيدًا في الحياة وأصبح حاله كحال قرن الثور الأعضب، وتأثير هذه الصورة كامن أقوى ما يكون في كلمة "الأعضب"، التي توحي بأن وضع القرن الباقي هو وضع شاذ؛ إذ ينقصه عديله، بخلاف ما لو قلنا مثلًا: "كقرن وحيد القرن"، إن وجه الشبه هنا، كما هو هناك، التفردُّ، لكن شتان بين تفرد وتفرد: هذا تفرد طبيعي لا يثير وحشة ولا يوحي بفقدان، أما تفرد صيصية الأعضب فهو تفرد النقصان والتشويه والضعف والتضعضع.

واقرأ كذلك هذه الأبيات، والضمير في الفعل "تذكّر" يعود إلى قلبه المذكور قبل ذلك:
تذكَّر شيئًا قد مضى لسبيله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ومِن حاجة المحزون أن يتذكرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نداماي عند المنذر بن محرِّق https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كهولًا وشبانًا كأن وجهوهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دنانير مما شيف في أرض قيصرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذا ملِك من آل جفنة خاله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأعمامه آل امرئ القيس أزهرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يردُّ علينا كأسه وشواءه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مناصفة والشرعبي المحبرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وراحًا عراقيًّا وريطًا يمانيًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ومعتبطًا من مسك دارين أذفرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:06 PM

رد: شعر النابغة الجعدي وموضوعاته
 

أولئك أخداني مضوا لسبيلهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأصبحت أرجو بعدهم أن أُعمَّرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وما عُمُري إلا كدعوة فارط https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دعا راعيًا ثم استمرَّ فأدبرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وهي كذلك تنضح بالأسى واللوعة اللذين يحاول الشاعر أن يخففهما بالالتفات إلى الماضي، عكس حركة الزمن في طريقه بالبشر نحو الفناء، وكأنه إذ يفعل ذلك إنما يفر من الموت، وهيهات! ألا ما أشجى قوله: "ومن حاجة المحزون أن يتذكرا"؛ ذلك أنه إذا ثقلت علينا وطأة الحاضر فإننا نعالجها باستحضار الذكريات البهيجة كنوع من المعادلة، مثل من يسف بعض السكر ليطرد المرارة التي في فمه.

وما أشجى كذلك الكناية في قوله: "أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرًا"، ومعناها بطبيعة الحال أنهم مدفونون تحت الأرض في باطن الثرى، إلا أنها، إلى جانب هذا، تومئ بأنه أخذ يتلفت حوله يمينًا وشمالًا ويقطع الأرض، الأرض كلها، جيئة وذهابًا لعله أن يراهم فلا يجد لهم من أثر.

وهنا يلتفت إلى الماضي هروبًا من كابوس الحاضر المزعج، وعندئذ تتبدل الحال غير الحال، فيسود جو كله نشوة وحبور: إن أولئك الأصحاب كالدنانير، بما توحيه كلمة "الدينار" من النفاسة واللمعان، وهو ليس أي دينار، إنه دينار قيصري، ولكلمة "القيصر" ظلالها المعروفة من السَّطوة وسَعة السلطان، ثم هذا الملك الذي "يردّ عليهم كأسه وشواءه مناصفة"، أي عز هذا؟! إنه لا يقدم لهم مجرد الطعام والشراب، بل يمد إليهم الشراب من كأسه هو، والشواء من اللحم الذي يأكله هو، وفوق ذلك يقدمهما إليهم مناصفة لا يؤثِر نفسه عليهم بشيء، والشاعر حريص على أن يذكر نسب ذلك الملك: فأخواله آل جفنة، وأعمامه آل امرئ القيس، تانك الأسرتان المعروفتان بالعز والمجد والسلطان، ثم يمضي الشاعر في تعداد الخُلَع والطُّرف وصنوف الإكرام التي أتحفهم بها ذلك الملك الأثيل.

على أن الشاعر يعود من تطوافه بدروب الماضي الحالمة إلى أرض الحاضر، فتعود معه الأحزان: لقد مضى أصحابه وتركوه، وهو، بما رُكب فيه من غريزة حب الحياة والأمل، يرجو مع ذلك أن يطول عمره فلا يغادر الدنيا سريعًا كما فعلوا.

وتنتهي الأبيات بذلك البيت الذي لا أذكر أني سبق أن لقيت مثله، على الأقل في شعر من تقدموا الجَعْدي:
وما عُمُري إلا كدعوةِ فارطٍ ♦♦♦ دعا راعيًا ثم استمرَّ فأدبرا

والذي يصور فيه قصر الحياة بصورة دعاء من يتقدم الرعاة إلى الماء ليهيئ لهم الدِّلاء ويملأ الحوض بالماء أن "قد انتهيتُ من إعداد كل شيء" ثم يمضي ويتركهم، فكذلك العمر: صيحة في القفر سرعان ما تضيع في جنبات العدم ولا يبقى منها ولا حتى الصدى!

أما الأبيات التالية، وهي في الحسرة على انصرام الشباب وانصراف الغواني عنه، فتصوِّر عجز الشاعر بين أمرين مستحيلين، يقول:
تذكرتُ ذكرى من أميمةَ بعدما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لقيتُ عناءً مِن أميمة عانيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فلا هي ترضى دون أمردَ ناشئٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولا أستطيع أن أردَّ شبابيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وقد طال عهدي بالشباب وأهله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولاقيتُ رَوْعات يُشِبْنَ النواصيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بدت فعل ذي ودٍّ، فلما تبعتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تولَّت وأبقت حاجتي في فؤاديا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وحلَّتْ سواد القلب، لا أنا باغيًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سواها، ولا عن حبِّها متراخيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولو دام منها وصلُها ما قلَيْتُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولكنْ كفى بالهَجْر للحب شافيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وما رابها مِن ريبة غير أنها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رأَتْ لمَّتي شابت وشاب لداتيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وماذا يستطيع الشاعر، أو يستطيع غيره، في هذا الموقف؟ إن أميمة لا تريده إلا شابًّا نضرًا، وهو ببساطة يقول: إنه لا يستطيع أن يعيد نفسه شابًّا، ومن ذا الذي يستطيع؟ لا أحد، ثم هو لا يستطيع ألا يحبها؛ إذ الحب والكره لا يخضعان لإرادة الإنسان، بل هما شعوران يُفرضان عليه فرضًا، وكذلك لا يستطيع أن يستبدل بحبها حب غيرها، ومع ذلك فإنه يقول: إن طول هجرها إياه وعدم مبالاتها به ويأسه منها، كل ذلك قد أضعف مع الزمن حبَّه لها، ثم يعود مرة أخرى في ختام الأبيات إلى الإشارة إلى سبب هجرها له وأنه الشيب، وعودته إلى هذا الموضوع مرة أخرى تَشِي بإيلامه الشديد له وإلحاح ذلك الألم عليه، وبديع منه أن يذكر شيب لداته بجنب شيبه، وكأنه يقول: "إذا كنتُ قد شِبتُ فلم أشِبْ وحدي"، محاولةً منه للتعزي ودرء الملامة عن نفسه؛ إذ الشيب سنة الحياة، لا ينجو منه إنسان، وليس أمرًا إراديًّا يمكننا أن نفعله أو نتركه.
يتبع


ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:07 PM

رد: شعر النابغة الجعدي وموضوعاته
 
شعر النابغة الجعدي وموضوعاته


د. إبراهيم عوض



وفي القصيدة ذاتها التي منها هذه الأبيات نقرأ له رثاءَه في أخيه، ذلك الرثاء الذي يخلطه بشيء من الحكمة الممزوجة باللامبالاة بالمال؛ إذ كل شيء زائل:





تلوم على هُلْك البعير ظعينتي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكنتُ على لوم العواذل زاريا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ألم تعلمي أني رُزئت بوَحْوح https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكان ابنَ أمي والخليل المصافيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فتًى كملت أخلاقُه غيرَ أنه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

جوادٌ فما يُبقي من المال باقيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فتًى تم فيه ما يسرُّ صديقَه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

على أن فيه ما يسوءُ الأعاديا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يقول لمَن يلحاه في بذلِ ماله: https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أأنفقُ أيامي وأترُك ماليا؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يُدر العروق بالسنان ويشتري https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِن الحمد ما يبقى وإن كان غاليا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أشَمُّ طويل الساعدين سميدع https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذا لم يرُحْ للمجد أصبح غاديا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أتيحت له والغم يحتضر الفتى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ومِن حاجة الإنسان ما ليس لاقيا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ويُعجبني في البيتين الرابع والخامس هذا الاستدراك الذي يوحي في البداية أن الشاعر يريد أن يستثني من شمائل أخيه الرفيعة عيبًا يشِذُّ عن تلك الشمائل ولا ينسجم معها، ثم يُفاجئنا بإضافة خط آخر من خطوط النُّبل والعتق في شخصية ذلك الأخ، وهو ما يسميه البلاغيون "المدح بما يشبه الذم"، وتأثير هذا الأسلوب هو فيما أشرت إليه من تلك المفاجأة وما توقِعه من دهشة منعشة على نفوسنا في الوقت الذي نكون فيه مترقبين لذكر ما يسوء.



ولا شكَّ أن إرداف الشاعر وصفه لأخيه بـ: "ابن أمه" بقوله: "والخليل المصافيا" من الكلام الجميل؛ إذ ما أكثرَ الإخوة الذين تنعدم بينهم المودة! بل قد تكون بينهم من العداوات ما لا مثيل له بين الأخصام الألداء!



كذلك مما لا ريب فيه أن قول أخيه: "أأُنفق أيامي وأترك ماليا؟" هو من اللفتات الذهنية والنفسية المبدعة: فهذا رجل قد استطاع أن يتعمَّق الحياة وأن يتغلَّب على ما غُرس في نفوسنا من حرص على المال ورغبة في استبقاء أكبر قدر منه، إنه يرى أن عمره ذاهب ولا يمكن استبقاؤه أبدًا، فيتساءل: ولمَ أحاول استبقاء مالي إذا كنت عاجزًا عن استبقاء عمري؟ أيكون مالي أعزَّ على نفسي من حياتي؟ ألا إن ذلك لا يمكن أن يكون، ثم إنه يتصرف في حياته على هدى من هذا التفكير ولا يبالي.



وقد أُخذ على الشاعر قوله عن أخيه: "إذا لم يَرُح للمجد أصبح غاديا"؛ إذ يحكي الأصمعي أنه أنشد بعض أبيات هذه اليائية، ومنها هذا البيت، فتساءل الرشيد في استنكار: "ويله! ولمَ لم يروِّحه في المجد كما أغداه؟"[4]، وكأن المسألة مسألة مزايدة يفوز فيها من يدفع أكثر، فإذا كان بعض الناس يقولون مثلًا: "إن فلانًا إذا فاته في آخر اليوم أن يأتي فعلًا من أفعال المجد فإنه يبادر في الغد إلى استدراك ما فات"، فأفضل منهم عندهم من يقولون عن ذلك الشخص: "إنه لا يكف عن فعال المجد في أي يوم لا صباحًا ولا مساءً"، لا، ليس الأمر كذلك، وليس الشِّعر هو أن نبالغ فيما نقول، إن النَّابغة، كما لاحظتُ في شعره مرارًا، حريص في كثير من الأحيان على الواقعية، ولا جرم أن الإنسان، مهما يكن من نبله وأريحيته، ليس آلة لإنتاج الخير لا تتوقف، وحتى الآلات كثيرًا ما تكِلُّ وتحتاج إلى الصيانة والإصلاح، فما بالنا بالبشر؟ ثم إن قول النَّابغة عن أخيه: إنه حريص على أن يستدرك في أول فرصة فعل ما فاته ليوحي بشدة رغبته في إتيان المكرمات، إنه بشر، ولكنه في نفس الوقت يعمل كل ما في وسعه للارتقاء ببشريته في سلَّم المجد والنبل إلى أعلى درجة مستطاعة؟ أما الرجل الذي لا يتوقف أبدًا عن صُنع المكارم، كما هو في خيال الرشيد، فأين هو؟



أما البيت الأخير فلعله كان قبله بيت ثم سقط أو أكثر، فالضمير في "أتيحت له" لا يجد ما يعود عليه، ولعل الشاعر يقصد المنيَّة أو حادثة أدت إليها، وقوله: "ومن حاجة الإنسان ما ليس لاقيا" لا يبدو له اتصال بما سبقه، وقد يكون المراد أن الإنسان يريد أن يبقى حيًّا أبد الدهر ولكنه لا يمكنه ذلك.



ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:08 PM

رد: شعر النابغة الجعدي وموضوعاته
 


ومما يُعجبني كثيرًا في شعر النَّابغة أيضًا أبياته التالية في الحديث عن موقفه من الخليل الذي يغدر به، إنه إذا أحس فيه بما يريب لجأ في إصلاحه أولًا إلى العتاب، ثم إذا لجَّ في التنكر للصداقة وقطعه فما أسرعه هو بدوره إلى مقابلة القطيعة بمثلها! إذ لا يُعقل أن يداوم على حب مَن لا يحبه:



وكان الخليلُ إذا رابني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فعاتبتُه ثم لم يُعتبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




هوايَ له وهوى قلبُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سواي، وما ذاك بالأصوبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فإني جريءٌ على هَجْره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذا ما القرينةُ لم تُصحبِ[5] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أدوم على العهدِ ما دام لي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فإن خان خُنتُ ولم أكذِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وبعض الأخلاء عند البلا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ء والرُّزء أروغُ من ثعلبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وكيف نواصل مَن أصبحَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

خلالتُه كأبي مرحبِ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




رآك ببثٍّ فلم يلتفت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إليك وقال: كذاك ادأبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ومانحني كمناح العَلُو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ق ما ترَ من غِرَّة تضرِبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






إن الرجل هنا واقعي مثالي معًا، إنه لا يغدر بصديقه، ولا يبيعه في الشدائد رخيصًا، ولكن ذلك الصديق إذا تغير قلبه ولم ينفع فيه عتاب ولا مراجعة فإنه قادر على قطعه ونبذه.



إن الحياة عند النَّابغة أخذٌ وعطاء، وهو لا يقبل من ثم أن يعطي بغير مقابل إلا اللوم والغدر، فإذا وجد أن من يهواه لا يبادله مثل هواه فإن نفسه لا تطاوعه على الإبقاء على صداقته، بل تنصرف عنه، وتأمل كيف يسمي هجره للصديق الخائن "خيانة"، إنها في الحقيقة ليست كذلك، ولكنه يجري على ما سماه البلاغيون بعد ذلك بـ: "المشاكلة"، وكأنه يريد أن يقول: "لست أنا الذي يُغدر به ويخان، بل أنا قادر على أن أخون"، أو لعله يريد أن يبين لنا أنه قد آلم ذلك الصديقَ الغادر بنفس المقدار من الإيلام الذي سببه له، ومن هنا يسمى موقفه من خيانته هو أيضًا خيانة، والطريف أن لسانه، بعد هذا، يفضحه فيقول عقيب ذلك: "ولم أكذب"، وبالله كيف يخون الإنسان ويعترف بخيانته ثم ينفي عن نفسه مع ذلك الكذب؟ لكنه لا يصح أن ننسى أنه في تسمية موقفه من خيانة الصديق خيانة إنما جرى على الأسلوب العربي، وكأنه لما استعمل هذا الأسلوب عاد فأجفل وأحب أن ينفي عن نفسه ما يمكن أن يسبق إلى وهم الناس من أنه هو أيضًا خائن، فاحترز بقوله: "ولم أكذب"، أو قد يكون المعنى أنه إذا ثبتت له خيانة الصديق فإنه لا يكذب نفسه ولا يمنيها الأماني الباطلة من وراء صداقة هذا الصديق، بل يبادر إلى قطعه فورًا، يجوز هذا ويجوز ذاك، فإن البيت يقبل المعنيين جميعًا[6].



وفي البيت الخامس تقع الموسيقا بين كلمتي "الأخلاء" و"البلاء" موقع النسمة اللطيفة، كما أن عبارة "أبي مرحب" الدالة على المنافق الذي يتظاهر بمودتك وصداقتك ويبتسم في وجهك إذا قابلك ويرحب بك ترحيبًا بالغًا ولكنه في الأزمات روَّاغ فرَّار هي من العبارات الطازجة الموفقة، وتبدو ذات مذاق شعبي، ولعلهم حين سموه بـ: "أبي مرحب" قد قصدوا أنه لا يخرج من فمه (كما يخرج من صلب الرجل ذريته) إلا "مرحب! مرحب! مرحب!"، فهو "أبو" مرحب على هذا التقدير، وهناك تفسير لأبي مرحب بأنه الذئب[7]، بيد أنه لا يُضرب بالذئب المثل في الروغان والغدر، إنما هو الثعلب، وقد سبق في البيت المتقدم ذكرُ الثعلب بهذا المعنى، فلا داعي فيما أظن لذكر الذئب.



وعندما يفخر النَّابغة بقومه ويهجو خصومهم فإنه يغلو غلوًّا غير قليل، وإذا صحت إحدى الروايتين الأوليين لرائيته التي أنشدها على مسمع من النبي عليه السلام عام الوفود كان غلو الجَعْدي في الإشادة بقومه قد بلغ غاية لم تُبلغ من قبل (ولا من بعد فيما أحسب)؛ إذ لم يكد يترك أحدًا من قبائل العرب إلا وجلجل صوتُه بأن قومه قد هزموهم وقتلوهم وشرَّدوهم:


ومهما يقُلْ فينا العدو فإنهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يقولون معروفًا وآخر منكَرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فما وجدت من فرقة عربية https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كفيلًا دنا منا أعزَّ وأنصرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وأكثر منا ناكحًا لغريبة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أصيبت سباءً أو أرادت تخيرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:08 PM

رد: شعر النابغة الجعدي وموضوعاته
 




وأجدر ألا يتركوا عانيًا لهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فيغبر حولًا في الحديد مكفرًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وأجدر ألا يتركوا من كرامة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ثويًّا وإن كان الثواية أغضرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وقد آنست منا قضاعةُ كالئًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فأضحَوا ببصرى يعصرون الصنوبرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وكندة كانت بالعقيق مقيمة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وهندٌ فكلًّا قد طرحناه مطحرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




كنانة بين الصخر والبحر دارهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فأحجرها أن لم تجد متأخرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ونحن ضربنا بالصفا آلَ دارم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وحسان وابن الجوف ضربًا منكرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وعلقمةَ الجُعْفيَّ أدرك ركضُنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بذي النخل إذ صام النهار وهجَّرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ضربنا بطون الخيل حتى تناولت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عميدَيْ بني شيبان عمرًا ومنذرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



أرحنا معدًّا من شراحيل بعدما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أراها مع الصبح الكواكبَ مُظهِرا
يتبع

ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:09 PM

رد: شعر النابغة الجعدي وموضوعاته
 
شعر النابغة الجعدي وموضوعاته


د. إبراهيم عوض



تمرَّن فيه المضرحية بعدما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

روين نجيعًا من دم الجوف أحمرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ومن أسدٍ أغوى كهولًا كثيرة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بنهي غراب يوم ما عوَّج الذرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ونحن أناس لا نعوِّد خيلنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وما كان معروفًا لنا أن نردَّها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
صحاحًا ولا مستنكرًا أن تعقرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بلغنا السما مجدًا وجودًا وسؤددًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإنا لنرجو فوق ذلك مُظهِرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكل معدٍّ قد أحلت سيوفنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
جوانبَ بحرٍ ذي غوارب أخضرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لعمري لقد أنذرتُ أزدًا أناتَها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لتنظرَ في أحلامها وتفكرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأعرضتُ عنها حِقبة وتركتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لأبلُغ عُذرًا عند ربي فأعذرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وما قلت حتى نال شتمٌ عشيرتي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نُفيلَ بن عمرو والوحيدَ وجعفرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وحيَّ أبي بكر ولا حي مثلهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا بلغ الأمر الغماس المذمرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:09 PM

رد: شعر النابغة الجعدي وموضوعاته
 
إذا افتخر الأزديُّ يومًا فقل له: https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تأخَّر فلن يجعل لك الله مفخَرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فإن تُرِد العَليا فلستَ بأهلها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإن تبسط الكفينِ بالمجد تقصُرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذا أدلج الأزديُّ أدلج سارقًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فأصبح مخطومًا بلوم معزَّرا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وبالمناسبة، فقد اخترت الرواية الثانية، ولو كنت اخترت الأولى لكانت قعقعة الفخر أدوى وأعنف تفجُّرًا، وإن الإنسان ليتساءل: ماذا كان قوم النَّابغة يظنون أنهم قد جاؤوا إلى النبي ليفعلوا؟ لقد جاؤوا ليُعلنوا إسلامهم، لا ليهددوا ويقعقعوا، ولكن هكذا كانت طبيعة العرب، بل وما زالت كذلك للأسف، وإن الأغاني والأناشيد التي تبثها الإذاعات العربية الآن في الافتخار بالبطولات وتهديد الأعداء خير دليل على ذلك، مع ما نعرفه نحن العرب قبل غيرنا من هواننا وعجزنا وذلتنا وخزينا وضراعتنا أمام أعدائنا، وبَلادتنا نحو الإهانات الشنيعة التي توجه لأوطاننا وأعراضنا وديننا، ولكن النبي الكريم قد قابل كل ذلك من الشاعر بصدره الواسع وحلمه الكريم وفهمه العميق للطبيعة العربية، وحين وصل النَّابغة إلى أقصى نقطة في الفخر المدمدم بقومه قائلًا:
بلغنا السما مجدًا وجودًا وسؤددًا ♦♦♦ وإنا لنبغي فوق ذلك مَظْهرَا

كان كل ما عقب عليه السلام به على ذلك أن سأله: "إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟"، وكأنه عليه السلام يريد أن ينبهه إلى أنه لا غاية لأحد بعد هذه الغاية؛ إذ ماذا بعد السماء؟ ولكن الشاعر اللبق سرعان ما أجاب محولًا وجهة الكلام إلى الآخرة بعد أن كان في الدنيا، فقال: "إلى الجنة يا رسول الله"، فدعا له الرسول بالخير بعد أن نبهه أن يقول: "إن شاء الله".

هذا، وقد مضت أبياته في مديح ابن الزبير في الفصل السابق، ويبقى من الحديث عن الأغراض الشعرية عند النَّابغة الميمية المنسوبة إليه، ومطلعها:
الحمدُ للهِ لا شريكَ له ♦♦♦ من لم يقُلْها فنفسَه ظلما

والتي جُمعت من المظان المختلفة فبلغت واحدًا وعشرين بيتًا، وهي غريبة على شعر النَّابغة الذي سَلِم لنا؛ إذ كلها في المعاني الدينية من توحيد لله واعتراف بقدرته وعظمته، وتأمل في مجالي السماوات والأرض ومعجزة الخلق والحياة والنمو، وتذكير بمصائر بعض الأمم ممن أهلكهم الله وكانوا أقوى قوة وصولة وغنى، أو أرغم أنوفهم وأخضعهم للعرب، وخوف من الحساب والنار، وحكاية لقصة نوح، وإن ضاع معظم الأبيات التي تتضمنها ولم يبقَ منها إلا بيتان هما آخر بيتين في القصيدة.

والقصيدة فوق ذلك أقرب إلى النظم منها إلى النثر، وإن كان د. شوقي ضيف يصفها بأنها "موعظة بليغة"[8].

وقد اختلف حول نسبة هذه القصيدة[9]، فنسبها بعضهم إلى أمية بن أبي الصلت، وبعضهم إلى النَّابغة الجَعْدي، وبعض آخرون إلى نابغة بني شيبان، وفي الفصل التالي نتناول هذه المسألة.

تحديد نسبة قصيدة: "الحمد لله لا شريك له":
ورد في "طبقات فحول الشعراء" أن النَّابغة الجَعْدي لما أذن له عثمان أن يعود إلى بلاده على أن يرجع مرة أخرى إلى المدينة بعد أجلٍ أجَّله له "خرج من عنده فدخل على الحسن بن علي فودَّعه، فقال له الحسن: أنشدنا من بعض شعرك، فأنشده:
الحمد لله لا شريك له ♦♦♦ من لم يقُلْها فنفسَه ظلما

فقال له: يا أبا ليلى، ما كنا نروي هذه الأبيات إلا لأمية بن أبي الصلت، قال: يا بن رسول الله، والله إني لأول الناس قالها، وإن السروق من سرق أمية شعره"[10]، وفي "الاستيعاب" لابن عبدالبر أن هذه القصيدة بما فيها من ضروب دلائل التوحيد والإقرار بالبعث والجزاء والجنة والنار وصفة بعض ذلك تنحو نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وزاد ابن عبدالبر أنه "قيل: إن هذا الشعر لأمية، ولكنه صححه يونس بن حبيب وحماد الراوية ومحمد بن سلام وعلي بن سليمان الأخفش للنابغة الجَعْدي"[11]، كما ورد في "الأغاني" و"الخزانة" أن النَّابغة قد قال هذه القصيدة في الجاهلية[12].
كذلك فإنها موجودة في ديوان النَّابغة الشيباني، الشاعر الأموي.

فما وجه الصواب في ذلك كله؟
أولًا: أحب أن أؤكد أن هذه القصيدة لا يمكن أن تكون جاهلية؛ لأكثر من سبب: فمعانيها كلها تقريبًا - وكذلك كثير جدًّا من ألفاظها وعباراتها - قرآنية، فكأن الشاعر قد وضع القرآن نصب عينيه وأخذ بعض آياته وصاغها شعرًا، ولو كانت القصيدة جاهلية فمعنى ذلك ببساطة أن القرآن قد اقتبسها وأدخلها في آياته بعد أن نثرها، وهو ما لا يمكن أن يكون، ولست أقول هذا لمجرد أنني مسلم يعزُّ عليَّ أن أسلم بهذا حتى لا أسيء إلى كتابي المقدس، ولكن لأن هذا لو حدث لثارت ثائرة الكفار وارتجت الجزيرة العربية كلها؛ لأنه سيكون دليلًا قاطعًا على أن محمدًا كان يستمد قرآنه من كلام البشر، إن كل ما اتهم الكفار به الرسول عليه السلام في هذا الصدد أنه كان يستمع إلى بعض الرقيق الأعجمي في مكة ويضمن ما يتعلمه منهم في القرآن، ولم يذكروا النَّابغة ولا أمية قط، ثم أكانت نفس النَّابغة تطاوعه على الدخول في الإسلام وهو يرى قصيدته قد أُخذت وادُّعي أنها وحي إلهي؟! بل إنني قد بينت من قبل أن من المستبعد للغاية أن النَّابغة كان في الجاهلية متحنفًا على دين إبراهيم يستغفر الله ويصوم ويتجنب الخمر والأوثان، ومن ثم فهذا الشعر غريب عليه آنذاك، أما لو كانت الأبيات لأمية فلا ريب أنها كانت ستصبح فرصة العمر لهذا الرجل الحاقد على الرسول لنزول الوحي عليه بدلًا منه، كما كان يطمع ويتوقع، ولكان قد شنَّ حربًا على الرسول ودينِه لا ترحم[13].

هذا سبب، والثاني: أن في القصيدة عددًا غير قليل من أسماء الله الحسنى وصفاته مما لم يكن للجاهليين عهد ببعضه، وهي "المولج الليل في النهار... والخافض الرافع، الخالق البارئ، المصور...".

وثمة سبب آخر قاطع في أنها لا يمكن أن تكون جاهلية البتة، بل ولا يمكن أن يكون قد قالها أمية، وهو أن فيها ذكرًا لفتح بلاد فارس وخضوعهم لسلطان العرب، وهذا الحدث لم يقع بطبيعة الحال إلا في عهد عمر بن الخطاب، وقد مات أمية قبل ذلك بزمن طويل[14]، تقول القصيدة:
يا أيها الناسُ، هل ترَون إلى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فارس بادت وخدُّها رغِمَا؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أمسوا عبيدًا يرعَون شاءَكم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كأنما كان مُلكهم حُلُمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



إذًا فالقصيدة قد قيلت بعد الإسلام لا جدال في ذلك، وبالتالي لا يمكن أن تكون لأمية، فهل يمكن أن يكون صاحبها هو النَّابغة الشيباني؟
إنني أستبعد هذا جدًّا؛ ذلك أن هذه الإشارة إلى زوال ملك فارس، وعلى هذا النحو الذي في القصيدة ينمُّ عن أن العرب كانوا لا يزالون به حديثي عهد؛ فالشاعر يتحدث عنه حديث المبهور، وهذا أمر طبيعي، قد اشترك النَّابغة في فتح فارس، ورأى بنفسه كيف انهارت الإمبراطورية الفارسية تحت الضربات الإسلامية وخضع الفرس للعرب بعد أن كانوا هم السادة أصحاب السلطان، أما في عصر نابغة بني شيبان فكان قد مضى على ذلك زمن طويل ولم يعد العرب يرون فيه شيئًا غير عادي؛ فقد اتسعت إمبراطوريتهم شرقًا وغربًا واكتسحت البلاد والأمم، وأصبح فتح فارس من ذكريات الماضي، إن من الطبيعي أن يشير نابغة بني شيبان، أثناء مديحه للوليد بن عبدالملك، إلى فتح طرندة في آسيا الصغرى مثلًا في عهد ذلك الخليفة الأموي ويتحدث عن الروم[15]، لكن ليس من الطبيعي أن يترك أحداث عصره ويذهب يتحدث عن القضاء على دولة الأكاسرة.

ثم إن نظم آيات القرآن على هذا النحو يدل هو أيضًا على أن نزول القرآن كان لا يزال غضًّا، إن الشعراء العرب لم يكفوا على طول الأعصار عن الاقتباس من القرآن الكريم، لكن ليس بهذا الالتصاق بألفاظه وعباراته ومعانيه.

وإلى جانب هذا، فإن أقدم مؤرخي الأدب العربي - كابن قتيبة وابن سلام والأغاني - قد ذكروا هذه القصيدة للنابغة الجَعْدي، لا للنابغة الشيباني، وقد أخذ الدارسون المحدثون بهذه النسبة، ولم أجد أحدًا من الذين رجعت إليهم - وأنا بصدد إعداد هذه الدراسة - قد ذكرها لنابغة بني شيبان، اللهم إلا د. سامي مكي العاني، الذي جعلها له في كتابه "الإسلام والشعر" (مع القول في الهامش: إنها منسوبة إلى الجَعْدي في "الشعر والشعراء")، ثم عاد في نفس الكتاب فنسبها دون تردد إلى نابغة بني جعدة دون أن يشير إلى النَّابغة الشيباني أدنى إشارة[16].


[1] انظر مقدمة "شعر النابغة الجعدي"/ ج - د.

[2] انظر مثلًا ابن سلام/ طبقات فحول الشعراء/ 1/ 128، والمرزباني/ معجم الشعراء/ تحقيق عبدالستار أحمد فراج/ البابي الحلبي/ القاهرة/ 1960م/ 195.

[3] للدكتور خليل إبراهيم أبو ذياب رأي مختلف في وصف النابغة للخيل، وقد أطال القول في ذلك، انظر كتابه "النابغة الجعدي - حياته وشعره"/ 223 وما بعدها.

[4] المرزباني/ الموشح/ 93، وانظر "شعر النابغة الجعدي"/ 175/ هامش 28.

[5] إذا النفس لم ترتح إليه.

[6] هناك رواية أخرى للشطرة الثانية من البيت في "لسان العرب" كالآتي: "إذا كذبت خلة المخلب". والمخلب: الناقة. وكذبت خلتها: ذهب لبنها؛ انظر "شعر النابغة الجعدي"/ 25/ هامش 42. ولكني أخذت بالرواية المثبتة في القصيدة؛ لأنها من رواية البحتري في "حماسته"؛ انظر تخريج القصيدة في ص/ 12 بالهامش، والبحتري أسبق من "لسان العرب" بكثير، علاوة على أن تسمية لبن الناقة بالخلة مما لا يسوغ.

[7] انظر "شعر النابغة الجعدي"/ 26/ هامش 44.

[8] العصر الإسلامي/ 103.

[9] القصيدة موجودة في "شعر النابغة"/ 132 - 134.

[10] طبقات فحول الشعراء/ 1/ 127 - 128، وقد ورد هذا الخبر بنصه تقريبًا في "الأغاني" 4/ 130، إلا أنه فيها قد دخل على الحسن والحسين، لا على الحسن وحده.

[11] الاستيعاب/ 3/ 553، وانظر أيضًا: البغدادي/ خزانة الأدب/ 514.

[12] نفس الموضعين في الهامشين السابقين.

[13] وأيضًا لا يمكن أن يكون قد قالها بعد الإسلام، وإلا لكان معنى ذلك أن هذا الحاقد الذي كان يتأجج بغضًا للرسول ودينه قد طاوعته نفسه للتأثر بالقرآن الذي نزل على الرسول والاقتباس منه بهذه السعة وهذا الالتصاق في قصيدة من قصائده، بكل ما يدل عليه هذا للقاصي والداني من اعترافه بعظمة ذلك القرآن، إلى حد أن يتخذه هو، أمية بن أبي الصلت، مثلًا أعلى له يأخذ منه ويستلهمه.

[14] مات في السنة الثانية أو التاسعة للهجرة. انظر البغدادي/ خزانة الأدب/ 1/ 121 - 122.

[15] ديوان نابغة بني شيبان/ دار الكتب المصرية/ 1351هـ - 1932م/ 52 - 53.

[16] انظر "الإسلام والشعر"/ عالم المعرفة (66)/ الكويت/ 1403هـ - 1983م/ 87، 252.


الساعة الآن : 08:46 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 72.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 71.93 كيلو بايت... تم توفير 0.43 كيلو بايت...بمعدل (0.59%)]