الشَّاعِرُ الأُمَويُّ



د. سعد الدين إبراهيم المصطفى










الحَمدُ للهِ ربِّ العَالمِينَ، وأَفضلُ الصَّلاةِ وأتمُّ التَّسلِيمِ على سيِّدنا محمَّدٍ وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ، ومنِ اتَّبَعَ هداهم إلَى يَومِ الدِّينِ، وبعد.



مقدمة:



الغَزلُ العُذريُّ نقيٌّ طاهرٌ، نُسِبَ إلَى بنِي عُذرَةَ إحدى قبائِلِ قُضاعةَ التي كانَتْ تَنزِلُ بِوادِي القُرى شَمالَ الحجازِ، فأغلبُ شعرائِها أكثَرُوا من التَّغنِّي بِهِ ونظمِ الشِّعرِ فِيهِ. ولم يَكُنِ الحبُّ العُذرِي منتشراً في قُضاعةَ وَحدَها بل تَعدَّاها إلى وادِي نَجْدٍ والحجازٍ، وخاصة بنِي عامر، حتَّى أَصبحَ ظاهِرة عامَّة تَحتَاجُ إلَى دِراسةٍ وتفسيرٍ، ولا شَكَّ أنَّ شيئاً مِن تَفسِيرِها إنَّما يَرجِعُ إلى الإسلامِ الَّذِي طهَّر النُّفوسَ، وزكَّى القُلوبَ، وجَعَلَ الإنسانَ في أعلَى مراتبِ الخيرِ والفَضلِ.







وكانَتْ هذِهِ النُّفُوسُ طيِّبة لم تَعرفِ الحياةَ المتحضِّرةَ ولا ما يُطوَى فِيها مِن لهوٍ وعبثٍ ومِن تحلُّلٍ أحياناً من أَخلاقِ بعضِ الشُّعراءِ كالأحوصِ والعَرجِيّ، وهِيَ مِن أجلِ ذلِكَ لم تَعرفِ الحبَّ الصَّريحَ الفاضِحَ الَّذِي تَدفَعُ إلَيهِ الغرائِزِ، فقد كانَتْ تَعتزُّ بِبَداوتِها وتَفتَخِرُ بِأنسَابِها، وتَعِيشُ بِإسلامِها الحَنيفِ، وتَسمُو بِهِ فلا تَقترِبُ مِن الحبِّ الفاضِحِ، وإنَّما تَعرِفُ الحبَّ العَفيفَ الَّذِي يُشعِلُ المحبُوبَ بِنارٍ بينَ جوانِحِهِ وفِي أَحشائِهِ، حتَّى لكأنَّه مَرضٌ أو داءٌ عُضَالٌ ألمَّ بِهِ، أو مِحنةٌ صَعبةٌ وَقَعَ بِشِركِها، فهُو يُحاوِلُ النَّجاةَ مِنها ولا نَجاةَ.







وِلادَتُهُ وَنَشأَتُهُ:



ونحنُ الآنَ مَعَ شاعرٍ اقترنَ اسمُهُ بِهذا الفَنِّ، بل إنَّهُ مِن أَشهَرِ شُعراءِ العُذرِيِّينَ، وَقِصَصُهُ فِيها بَسَاطةٌ وسَذاجةٌ وعُذوبةٌ، قِصصٌ تُصَوِّر حَياةَ هؤلاءِ العُشَّاق المتَبَدِّينَ إنَّهُ جميل بنُ عبد الله بن مَعْمرَ العُذرِيُّ القُضَاعِيُّ، ويُكنّى أبا عَمرٍو (ت 82 هـ) شاعِرٌ ومِن عُشَّاقِ العربِ المشهُورينَ. كانَ فَصِيحاً مُقدمًا جامعًا للشِّعرِ والرِّوايةِ. وكانَ فِي أوَّلِ أمرهِ راويةً لشعرِ هُدبةَ بنِ خَشرَمِ، كما كان كُثَّيرُ عزَّة راويةً لَهُ فِيما بعد. لُقِّبَ بِجَميلِ بُثَينةَ لحبِّهِ الشَّدِيدِ لَهَا وجَميلُ بنُ عبداللهِ بن مَعْمرٍ أَصابَهُ ما أصابَ غَيرَهُ من هؤلاءِ الشُّعراءِ العُذرِيِّينَ، فَقَد أَحبَّ ابنَةَ عمِّهِ بُثينةَ بِنتَ حبَأ بنِ حُنٍّ بنِ رَبيعةَ، مِن عُذرَةَ، فَهِيَ ابنَةُ عمِّهِ تَلتَقِي مَعَهُ فِي حُنٍّ مِن رَبِيعةَ فِي النَّسَبِ، وكانا يُقِيمانِ بِوادِي القُرى، وهُوَ مَوضِعٌ فِي الحِجازِ قَريبٌ مِن المدينةِ، وقِيلَ إنَّهُ أحبَّها وهُوَ غُلامٌ صَغِيرٌ، وَهِيَ جُويريَّةٌ لم تُدرِكْ، ويَرووُنَ علَى ذلِكَ خَبَراً مُستَطرَفَاً، قِيلَ فِيهِ إنَّ جميلاً أَقبَلَ يَوماً بِإِبِلِهِ حتَّى أَورَدَها وَادِياً يُقالُ لَهُ بَغِيض، فَمَرَّت بُثَينةُ وَمعَها جَاريةٌ فَضَرَبَتْ إِبِلَهُ فَسَبَّها جَمِيلٌ فَردَّتْ علَيهِ شَتِيمتَهُ، فَاستَملَحَ سِبابَها، فَقَالَ:

وأوَّلُ ما قَادَ المودَّةَ بينَنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِوادِي بَغِيضٍ -يا بُثَينَ -سِبَابُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَقُلْنا لَها قَولاً فجاءَتْ بِمِثلِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لِكُلِّ كلامٍ، يا بُثَينَ، جَوابُ[1] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَبُثينةُ الَّتِي أَوحَتْ إلَيهِ الغَزلَ الجَمِيلَ الَّذِي لم يَعرِفِ الشِّعرُ العَربِيُّ القَديمُ أَوقَعَ مِنهُ أثراً في النَّفسِ، ولا أبلغَ مِنهُ تَحرِيكاً لِلقَلبِ وإثارةً لِلعَاطِفةِ، لا يَقتصِرُ علَى التَّشبُّبِ بِمحَاسِنِ المرأةِ بل يُضِيفُ إلَيه شَيئاً مِن الرُّوحانيَّةِ يُعنَى بِنفسِ الشَّاعِرِ ومشاعِرِها وآلامِها وآمالِها، وربَّما كانَتْ عِنايَتُهُ بِنفسِهِ أكثرَ مِن عِنَايتِهِ بِوَصفِ مَحبُوبتِهِ، فلا يَكادُ يَذكُرُها حتَّى يَنصرِفَ إلَى بثِّ شَكواهُ وما يُلاقِيهِ مِن تَبارِيحِ الهَوى والبُعدِ والجفَاءِ والحِرمانِ، صَادقَ اللَّوعةِ، عفَّ الضَّمير واللَّسانِ، رَصِينَ التَّعبيرِ لا يَتبَذَّل.







والغَزلُ العُذرِيُّ تَشُعُ مِنهُ حَرارةُ العاطفةِ، وشِدَّةُ الأشواقِ، وهُوَ يُصوِّرُ خَلجاتِ النَّفسِ، وفَرحةَ اللِّقاءِ، وألمَ الفِراقِ والرَّحِيلِ، ولا يَحفُلُ بِجمالِ المحبُوبةِ، بِقَدر ِما يَحفُلُ بِجَاذبِيتِها، وسِحرِ نَظَراتِها، وقوَّةِ أَسرِها، ومِن ثمَّ يَقتصِرُ فيهِ الشَّاعرُ علَى محبُوبةٍ واحِدةٍ طَوالَ حياتِهِ، أو مُدَّةً طَوِيلةً مِن حَياتِهِ [2].







ويَرَى الدكتور شكري فيصل أنَّ هذا الغَزَلَ كونَهُ ظاهِرةً اجتِماعيَّةً وفنِيَّةً لَيسَتْ مُنفَصِلةً عمَّا قَبلَها وعمَّا بَعدَها، فهِيَ تَنمُو كَمَا نَمَتْ النَّبتَةُ شَيئاً فَشَيئاً، إلَى أنْ تَستَويَ علَى ساقِها[3].







وكذلِكَ رأى الدكتور صلاح الدين الهادي أنَّ الغزلَ العُذريَّ كانَ ثمرةً للقِيمِ الأخلاقيَّةِ والروحيَّةِ الَّتِي بثَّها الإِسلامُ فِي البَادِيةِ العَربيَّةِ، والَّتِي صَنَعَتْ نُفُوسَ الشَّعراءِ العُذرِيِّينَ وأحالَتِ العِشقَ فيِها إلَى البَراءةِ والعِفّةِ والطَّهرِ.[4].







شِعرُهُ:



ولَقَد عُنِي الرُّواةُ والنَّاسُ بأشعارِهِ، كما أنَّ المغنِّينَ قد عُنُوا أشدَّ العِنايةِ بِهِ، وهِي أَشعارٌ مُعظَمُها في التَّغنِّي بمحبوبَتِهِ بُثَينَةَ، إِحدَى نِساءِ قَبيلتِهِ، تحابَّا صَغيريْنِ، ولم تَلبَثْ أنْ كانَتْ سَبَباً في إلهامِهِ الشِّعرَ. فقد أحبَّها حُبَّاً بلغَ درجةَ الهُيامِ، فَعَرَفَتْ مِنهُ ذلِكَ فَمَنَحتْهُ حبَّها وحَنانَها وعَطفَهَا.فَقَالَ:

أَلا لَيْتَ شِعري هَلْ أَبِيتَنَّ لَيلةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِوادِي القُرَى إنِّي إذاً لَسَعِيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وهلْ أَلقَيَنْ فَرداً بُثَينَةَ مرَّةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَجُودُ لَنا مِن وُدِّها ونَجودُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَلِقْتُ الهَوى مِنها وَلِيداً فَلَم يَزَلْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إلَى اليَومِ يَنمِي حُبُّها ويَزِيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأَفنَيْتُ عُمرِي فِي انتِظارِ نَوالِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأَبْلَيْتُ فِيهَا الدَّهرَ وهُوَ جَدِيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَيَمتَازُ شِعرُ جَمِيل بِصدقِ اللَّهجةِ وحرارةِ العاطِفةِ، وجَمالِ التَّعبِيرِ، ونَصَاعَةِ البَيانِ، وَهُوَ يَحمِلُ فِي طَيَّاتِهِ وثنايَاهُ حبَّهُ ومَشَاعِرَه، فَكُلَّمَا أَبصَرَ بُثَينَةَ ازدَادَ عِشقاً، وكلَّما فَارَقَها اضطَرَمَ نَارُ الوَجدِ فِي فُؤادِهِ، وهُوَ يَعِيشُ مَعَها بِكُلِّ جوارِحِهِ، فَعَقلُهُ مَسلُوبٌ مِن شِدَّة الهُيامِ، والتَّعلُّقِ بِها، فالحبُّ بَينَهُ وَبَينَها يَزيدُ كلَّما ذُكِرَتْ وكلَّما رَآهَا، وهِيَ تُبَادِلُهُ ذلِكَ الشَّهدَ الرُّضابَ، فلا يَفتَرِفانِ رُوحَاً وإنَّما يَفتَرِقانِ جَسَداً، وهذا ما بَدَا لَنَا فِي أَبياتِهِ:

إذا قُلْتُ ما بِي يا بُثَينةُ قاتِلِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِنَ الحُبِّ قالَتْ ثابِتٌ ويَزِيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وإنْ قُلْتُ رُدِّي بَعضَ عقلِي أَعِشْ بِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَعَ النَّاسِ قَالَتْ: ذاكَ مِنكَ بَعِيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فلا أنا مَردُودٌ بِما جِئْتُ طالِباً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولا حُبُّها فِيما يَبِيدُ يَبِيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَمُوتُ الهَوَى مِنِّي إذا ما لَقِيْتُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ويَحيَا إذا فَارَقْتُها فَيَعُودُ[5] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وصَارَتْ بُثَينةُ تلتقِي بِهِ في غَفلَةٍ عن أَعيُنِ أهلِها والرُّقباءِ، وقَد كانَتْ أَخواتُها وصَدِيقاتُها يُساعِدْنَها فِي تَأمِينِ اللِّقاءِ بينَهُما، وَخَافَ أهلُها -حِينَ سَمِعُوا- مِن عَواقِبِ لقائِهِما، فَضَيَّقُوا علَيها الخِناقَ، علَى الرُّغمِ مِن مَعرفَتِهِم أنَّ هذا الحبَّ بَينَها وبَينَ جميلٍ حبٌّ طاهِرٌ وبَرِيءٌ وَنَقِيٌّ. وأَصبَحَتِ الأَلسِنَةُ لا تَكُفُّ عنِ التَّعرِيضِ بالمتحابَيْنِ، فَهَجَرَتْهُ واحتَجَبَتْ دُونَهُ مُرغَمةً، وهُوَ علَى ذلِكَ لا يَسلُوها، يَقُولُ[6]:

وإنِّي لأَرضَى مِن بُثَينَةَ بِالَّذِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لو اَبْصَرَهُ الواشِي لَقَرَتْ بَلابِلُهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِلا وبِأنْ لا أستَطِيعُ وبِالمُنَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وبِالأَمَلِ المرجُوِّ قَد خَابَ آمِلُهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وبِالنَّظرَةِ العَجْلَى وبِالحَولِ تَنقَضِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَواخِرُهُ لا نَلتَقِي وأَوائِلُهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكانَتْ تَتَحَيَّنُ الفُرَصَ لِتلتَقِيَ بِهِ، فَتُشرِقُ رُوحُهُ حِينَ يَرَاها، وَتَنتَعِشُ نَفسُهُ، وتَنشَرِحُ أَسَارِيرُه، ويَسعَدُ سَعادةً لا نَتَخيَّلُها، وَكَانَ قَد خَطَبَها مِن أَبِيها فَردَّهُ، كَراهَةَ أَنْ تُعَيِّرَهُ العَرَبُ، لأنَّهُم كانُوا لا يُزوِّجُونَ بَنَاتِهِم ممَّنْ يَتَغَزَّلُونَ بِهِنَّ، ويُزوِّجُها أبُوها مِنْ رَجُلٍ آخَرَ مِن القِبِيلةِ يُسمَّى نُبَيهَاً فَتَسوَدُّ الدُّنَيا فِي عَينِ جَميلٍ، ويَلتَاعُ لَوعةً شَدِيدَةً، ويُصبِحُ حُبُّها كُلَّ حَياتِهِ، فَهُوَ يَملِكُ علَيهِ كُلَّ شَيءٍ ويأخُذُ علَيهِ كلَّ طريقٍ، فَقاَلَ:

لَها فِي سَوادِ القَلبِ بِالحُبِّ مِيْعَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هِيَ المَوتُ أو كادَتْ علَى الموتِ تُشرِفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَمَا ذَكَرَتْكِ النَّفسُ يا بَثنُ مرَّةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِن الدَّهرِ إلَّا كادَتِ النَّفسُ تَتلَفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وإلَّا اعتَرَتْنِي زَفرَةٌ واستِكانَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَجَادَ لَهَا سَجْلٌ مِن الدَّمعِ يَذرُفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَمَا استطرَفَتْ نَفسِي حدِيثاً لِخُلَّةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أُسَرُّ بِهِ إلَّا حَدِيثُكِ أَطرَفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولَقَد حَاوَل الشَّاعِر العُذرِيُّ المحِبُّ أَنْ يَرفَعَ قَدْرَ مَحبُوبَتِهِ إلَى مَكَانٍ يَلِيقُ بِالحُبِّ الَّذِي أَجهَدَ نَفسَهُ مِن أَجلِهِ، فَجَمِيلُ بُثَينةَ مَثلاً لا يَكتَفِي بِتَشبِيهِ صَاحبَتِهِ بَالبَدرِ، بَل يُخبِرُنا أَنَّ اللهَ فَضَّلَهَا علَى كَثيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، إذ اختَصَّها بِحُسنٍ فَرِيدٍ بَينَ النَّاسِ، مِثلَمَا خَصَّ لَيلَةَ القَدرِ بِتَفضِيلِهَا علَى بَقِيَّةِ اللَّيالِي.وذلِكَ يَنُمُّ عَن رُوحٍ إسلامِيَّةٍ، وَيَدُلُّ علَى ثَقَافَةٍ تَتَمَثَّلُ فِي استِعمَالِ الأَلفَاظِ والمَعَانِي القُرآنيَّةِ، يقول[7]:

هِيَ البَدرُ حُسْنَاً، والنِّسَاءُ كَواكِبٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وشَتَانَ ما بَينَ الكَواكِبِ والبَدرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَقَد فُضِّلَتْ حُسْناً علَى النَّاسِ مِثلَما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

علَى أَلفِ شَهرٍ فُضِّلَتْ لَيلَةُ القَدرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وغَزَلُ جَمِيلٍ مِن أَروعِ صُورِ الغَزلِ فِي الأَدبِ العَربِيِّ، لِمَا فِيهِ مِن سُمُوٍّ وَنُبلٍ وَطَهَارةٍ وَنَقَاءٍ، وَهُوَ غَزَلٌ يَمسَحُ علَيهِ الإِسلامُ وَمَا أَحاطَ بِهِ المرأةَ مِن جَمالٍ وَجَلالٍ وَوَقارٍ، وَمَا حَرَّمَ مِن الآَثامِ ظَاهِرةً وباطِنةً، وَلَكِنَّ مَسحَةَ الحُزنِ كَانَتْ ظَاهِرَةً عَلَيهِ ولَوعةَ الحُبِّ وفِراقَ المحبُوبةِ، فَيَقِفُ علَى دِيارِ المحبُوبَةِ ويُناجِيها فَلا تَرُدُّ وهُوَ يَتَذَكَّرُ أيَّامَهُ مَعَها، وَقَد تَسَاقَطَتْ دُموعُهُ علَى خَدَّيّهِ حِينَ تذكَّر أيَّامه مَعَ بُثَينَةَ فَقَالَ:









إنَّ المنازِلَ هَيَّجَتْ أطرابِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

واستَعجَمَتْ آياتُها بِجَوابِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




قَفراً تَلُوحُ بِذِي اللُّجَينِ كأنَّها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنضَاءُ رَسمٍ أو سُطُورُ كِتابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




لمَّا وَقَفْتُ بِها القَلُوصَ تبادَرَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِنِّي الدُّمُوعُ، لِفُرقَةِ الأَحبَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَذَكَرْتُ عَصراً يا بُثَينَةُ شاقَنِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وذَكَرْتُ أيَّامِي وشَرخَ شَبَابِي[8] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif









يتبع

الشَّاعِرُ الأُمَويُّ



د. سعد الدين إبراهيم المصطفى




وَلَقَد عانَى جَمِيلُ بُثينةَ مِن الهَجرِ واللَّوعَةِ، فَلا يَدنُو مِن مَحبُوبتِهِ إِلَّا بِاحتِياطٍ وَحَذَرٍ، بَل إذا هُوَ يَرَى دُونَها صِعاباً أيَّ صِعابٍ، فَيَتَحَوَّلُ إِلَى نَفسِهِ يَشكُو مَا أَصَابَهُ مِن تَبَارِيحِ الهَوَى وَأَلمِ الفِراقِ وَأَوصَابِهِ شَكوَى تَشُفُّ عَن جِراحَاتِهِ وَعَذَابَاتِهِ فِي ذلِك الحُبِّ المَجنُونِ، وهِيَ شَكَوى يَضرَعُ فِيهَا أَحيَاناً إلَى اللهِ أنْ يَجمَعَهُ بِها وتَتَلطَّفُ بِهِ وتَتَعَطَّفُ علَيهِ، فقالَ:

إلَى اللهِ أشكُو لا إلَى النَّاسِ حُبَّها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولا بُدَّ مِن شَكوَى حَبِيبٍ يُرَوِّعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ألا تَتَّقِينَ اللهَ فِيمَنْ قَتَلْتِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَأَمسَى إلَيكُمْ خاشِعاً يَتَضَرَّعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَيَا رَبِّ حَبِّبْنِي إلَيها وأَعطِنِي ال https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

موَدَّةَ مِنها أَنتَ تُعطِي وتَمنَعُ[9] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وقالَ خَلِيلِي: إنَّ ذا لَصَبَابَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَلا تَزجُرُ القَلبَ اللَّجُوجَ، فَيَلحَقُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكَانَتْ تَظهَرُ علَى جميلٍ إماراتُ الشَّوقِ والهَوَى وَالوَجدِ والهُيامِ والوَلَهِ والتَّيمِ والشَّغَفِ والعِشقِ والكَلَفِ بِسَببِ حِرمَانِهِ مِن رُؤيَةِ المَحبُوبةِ، وَكَانَ يَقنَعُ بِرُؤيتِها فَتَهدَأُ نَفسُهُ، وَتَرتَاحُ أَفكَارُهُ، وَيَسَعَدُ فِي يَومِهِ، وَتَظهَرُ علَيهِ علامَاتُ الرِّضا والقَناعةِ، وَذلِكَ مِن النَّظرةِ الخَاطفةِ، وَالالتِفَاتَةِ العَابرةِ، بِالرُّغمِ مِن أنَّهُ يُقدِّمُ لهذا الحُبِّ كُلَّ غالٍ وَنَفِيسٍ، وَدَائِماً يَتَخَيَّلُ مُحاوَرةً بَينَهُ وَبَينَ صَاحِبِهِ لِيُسَلِيَ قَلبَهُ المَحزُونَ، فَقَالَ:

تَعزَّ، وإنْ كانَتْ علَيكَ كَرِيمَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَعَلَّكَ مِن رِقٍّ، لِبَثنَةَ، تَعتِقُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَقُلْتُ لَهُ: إنَّ البِعادَ لَشَائِقِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَبَعضُ بِعادِ البَينِ، والنَّأيُ أشوَقُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَيُنادِي المَحبُوبةَ نِداءً حارَّاً مِن سُوَيدَاءِ القَلبِ عَلَّها تَذكُرُ أَيَّامَهُ الجَمِيلَةَ مَعَهُ، وَتُعِيدُ تِلكَ الذِّكرَيَاتِ بِلَونٍ جَدِيدٍ لا يَبلَى، وَتَكُونُ لَهُ خَيرَ مُحِبٍّ، وَفيَّةً فِي وُعُودِهَا، مُحَافِظَةً علَى عُهُودِها، وَأَلَا تَبتَعِدَ عَنهُ مَهمَا كَانَتِ الأَقدَارُ بَينَهُما، فَقَالَ:

أَبَثنَةُ لِلوَصلِ الَّذِي كَانَ بَينَنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نَضَا مِثلَما يَنضُو الخِضَابُ فَيَخلُقُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أبَثنَةُ، ما تَنأَيْنَ إلَّا كأنَّنِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِنَجمِ الثُّرَيَّا، ما نَأَيْتُ، مُعَلَّقُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكَانَ جَمِيلٌ شَاعِراً مِن شُعراءِ الحُبِّ العُذرِيُّ دائِمَ العَطاءِ، يَذُوبُ فِي عَطائِهِ، ويتَّحِدُ فِي قِيَمِهِ الإنسانيَّةِ، فَهَوَ يبذُلُ أعلَى دَرَجاتِ التَّضحِيَةِ والمُكابَدةِ مِن أَجلِ الرُّوحِ، فَالحُبُّ عِندَهُ جِهادُ نَفْسٍ، وحِكمَةُ مُعَمَّرٍ، وقِصةُ حاضِرٍ، مَلِيءٍ بِالأَحزَانِ حِينَاً، و بِالأَفراحِ آخرَ، فَهُوَ دَائِمُ الذِّكرِ لِلحَبِيبةِ، وَيَتَمَنَّى أَنْ تَدُومَ مَودَّتُها، ولا تَنقَطِعَ، فَيَتَبادَلانِ كُؤُوسَ الشَّوقِ وَالمحبَّةِ، وَفِي ذلِكَ يَقُولُ:

يَقُولُونَ جَاهِدْ يا جَميلُ بِغزوةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأيُّ جِهادٍ غَيرَهُنَّ أُرِيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لِكُلِّ حَدِيثٍ بَينَهُنَّ بَشَاشَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكُلُّ قَتِيلٍ عِندَهُنَّ شَهِيدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَمَا ذُكِرَ الخُلَّانُ إلَّا ذَكَرْتُهُا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولا البُخلُ إلَّا قُلْتُ: سوفَ تَجُودُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَهَلْ أَلقَيَنْ فَرداً بُثَينَةَ لَيلَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَجُودُ لَنَا مِنْ وُدِّهَا فَنَجُودُ[10] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكَانَ جَمِيلٌ فِي حبِّه لبثينةَ صادِقاً ولِهاً مُتَلَوِّعاً، مُتَعطِّشَاً لِرُؤيتِها، ظَمَؤُهُ لا يَقِفُ عِندَ حَدٍّ، لا يَنِي يَتَغنَّى بِمَعشُوقَتِهِ، مُتَذلِّلاً مُتَضَرِّعاً، فَهِيَ مَلاكُهُ السَّماوِيُّ، وكأنَّها أقبلَتْ علَيهِ مِن مَجَاهِيلَ سَحِيقةٍ تُعِيدُ إلَى نَفسِهِ الأَملَ بَعدَ يَأسٍ والرَّبيعَ بَعدَ قَحطٍّ، والسُّرُورَ بَعدَ حُزنٍ وَغَمٍّ، وَهُوَ لا يَزالُ يُنَاجِيها مُناجَاةً شَجِيَّةً، يُصَوِّرُ فِيهَا وَجْدَهُ الَّذِي لَيسَ بَعدَهُ وَجْدٌ، وَعَذَابَهُ الَّذِي لا يُشبِهُهُ عَذَابٌ، فَقَالَ:

رَحَلَ الخَلِيطُ جِمالَهُم بِسَوادِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَحَدَا، علَى أثرِ الحبيبِةِ، حادِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ما إنْ شَعَرْتُ، ولا عَلِمْتُ بِبَيْنِهِم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حتَّى سَمِعْتُ بِهِ الغُرابُ يُنادِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لمَّا رأَيْتُ البَينَ، قُلْتُ لِصَاحِبِي: https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

صَدَعَتْ مُصَدَّعةُ القُلُوبِ فُؤادِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بانُوا، وغُودِرَ فِي الدِّيارِ مُتَيَّمٌ، https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَلِفٌ بِذِكرِكِ، يا بُثَيةُ، صادِ[11] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَتَمضِي بِجَميلٍ الأيَّامُ ولا يَنسَى بُثَينَةَ، بَلْ يَذكُرُها فِي حِلِّهِ وتِرحَالِهِ صُبحِهِ ومَسَاهُ، فِي يَقظَتِهِ ويَحلُمُ بِها فِي مَنَامِهِ، وقد يُمسِي كَهلاً، ويَصيرُ إلَى الشَّيخُوخةِ ولا يَزالُ حبُّها شابَّاً فِي فُؤادِهِ، لا يُؤثِّرُ فِيهِ الزَّمَنُ، ولا يَرقَى إلَيهِ السُّلوانُ، فهِيَ فِي سُويداءَ الحَشَا، لا تُغَادِرُهُ، بَل تَظَلُّ فِيهِ مُعذِّبَةً وَهُوَ مِنهَا فِي هُيامٍ دائِمٍ، فَقَالَ:

حلَّتْ بُثَينَةُ مِنْ قَلبِي بِمنزِلةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَينَ الجَوانِحِ لم ينزِلْ بِها أَحَدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

صَادَتْ فُؤادِي بِعَينَيها وَمُبتَسَمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كأنَّهُ - حِينَ أَبدَتْهُ لَنَا - بَرَدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَذْبٍ كَأنَّ ذَكِيَّ المِسكِ خالَطَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

والزَّنجَبِيلُ وَمَاءُ المُزنِ والشَّهَدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وجِيدِ أَدماءَ تَحنُوهُ إلَى رَشَأٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَغَنَّ لم يَتَبِّعْها مِثلَهُ وَلَدُ[12] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَرَوَى صَاحِبُ الأغانِي أنَّ السُّلطانَ أَهدرَ دَمَ جَمِيلٍ لِرهطِ بُثينَةَ، إنْ وَجَدُوهُ قد غَشِيَ دُورَهُم. فَحَذَّرَهُم مَرَّةً، ثُمَّ وَجَدُوهُ عِندَها، فتوعَّدُوهُ وكرِهُوا أنْ يَنشِبَ بينَهُم وَبَينَ قَومِهِ حَربٌ فِي دَمِهِ، وَكَانَ قَومُهُ أَعزَّ مِن قَومِها، فَأَعادُوا شَكوَاهُ إلَى السُّلطانِ، فَطَلَبَهُ طَلَباً شَدِيداً، فَهَرَبَ إِلَى اليَمنِ، وَأَقَامَ بِها مُدَّةً مِن الزَّمنِ، لكنَّ الشَّوقَ كَابَدَهُ، وخَيالُ الحَبِيبةِ لا يُفارِقُهُ، رَغمَ البُعدِ وَالأَلمِ، فَرَائِحَةُ بَثنَةَ طِيِّبٌ وعَنبرٌ، وهذا مَعنويٌّ ومادِيٌّ أَيضاً، فهُوَ فِي اليَمنِ، وهِيَ فِي تَيمَاءَ مِن شَمالِ المَدينةِ، فَقَالَ:

ألمَّ خَيالٌ، مِنْ، بُثَينَةَ، طارِقٌ، https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

علَى النَّأيِ، مُشتاقٌ إلَيَّ وشَائِقُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سَرَتْ مِنْ تِلاعِ الحِجرِ، حتَّى تَخَلَّصَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إليَّ، وَدُونِي الأَشعَرُونَ وَغَافِقُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَأنَّ فَتِيتَ المِسكِ خَالطَ نَشرَها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تُغَلُّ بِهِ أَردَانُها وَالمَرافِقُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَقُومُ إذا قَامَتْ بِهِ مِن فِراشِها، https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ويَغدُو بِهِ مِن حُضنِها مَنْ تُعانِقُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وهَجرُكِ مِن تَيما بَلاءٌ وشِقوةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

علَيكَ، مع الشَّوقِ الّذِي لا يُفارِقُ[13] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَمَا مِن شَكٍّ أنَّ حُبَّ جَمِيلٍ لِبُثَينةَ حُبٌّ عَفِيفٌ طاهِرٌ، وإنْ كانَ بَعضُ النَّاسِ يَشُكُّ فِي ذلِكَ، أو حتَّى بَعضُ الدَّارِسينَ المحدَثِينَ، لكنَّ واقِعَهُ يُثبِتُ غَيرَ ذلِكَ فَهُوَ صَاحِبُ عِفَّةٍ وطُهرٍ، كَما أنَّها كانَتْ أَيضَاً عَفِيفةً طاهِرةً، أحبَّتْ جِمِيلاً بِصِدقٍ كما عَشِقَها بحرارةٍ وصِدقٍ كذلِكَ، فَقَالَ:




لا والَّذِي تَسجُدُ الجِباهُ لَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ما لِي بِما دُونَ ثَوبِها خَبَرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ولا بِفِيها، ولا هَمَمْتُ بِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ما كانَ إلَّا الحَدِيثُ والنَّظَرُ[14] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وعلَى الرُّغمِ مِن هَدرِ وَالِي تَيمَاءَ دَمَهُ إلَّا أنَّهُ ما زالَ يَتغَزَّلُ بِبُثَينَةَ، وَيِحُبِّها حُبَّاً شَدِيداً مَلَكَ علَيهِ لبَّهُ وَعَقلَهُ، فهُوَ فِي حَالةٍ لا تَستَقِيمُ فِيهَا حَياتُهُ إِلَّا بِلِقائِها مَهمَا كَلَّفَهُ ذلِك، وأنَّ دَمَهُ لا يُساوِي شَيئاً مُقَابِلَ حُبِّهِ لَهَا، فَمَهْدُ حُبِّهِ وَادِي القُرى يُلبِّي دَعوتَهُ مَتَى نَادَاهُ، ولَو كَانَتِ الحَبِيبَةُ فِي تَيماءَ لَتَبِعَها، فَحُبُّهُ قَدِيمٌ ولا تُغيِّرُهُ التَّهدِيدَاتُ، أَو البُعدُ أو غَيرُ ذلِكَ، فَقَالَ فِي ذلِكَ:

أَتَانِيَ عَن مَروانَ، بِالغَيبِ، أنَّهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مُقِيدٌ دَمِي، أو قَاطِعٌ لِسانِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَفي العِيسِ مَنجَاةٌ، وفِي الأَرضِ مَذهَبٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذا نَحنُ رَفَّعْنا لَهُنَّ المثَانِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَقُولُ لِداعِي الحُبِّ، والحِجرُ بَينَنا، https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ووادِي القُرى: لَبَّيكَ لَمَّا دَعانِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وقَالُوا: بِهِ داءٌ عَيَاءٌ أَصابَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وقَدْ عَلِمَتْ نَفسِي مَكانَ دَوائِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَظَاهِرةُ المَقطُوعةِ الغَزليَّةِ العُذريَّةِ عِندَ جَميلٍ تَكادُ تَكُونُ لَوحَةً فَنيَّةً بَدِيعةً تَنبُضُ فِيهَا أَلوانُ الحُبِّ وَالحَياةِ، فَهِيَ تُعَالِجُ مَعَانِيَ الشَّوقِ واللَّهفةِ، والوَفاءِ الصَّادقِ، والودِّ الصَّافِي الَّذِي لا يُخالِطُهُ شَيءٌ آخرُ، فَهُوَ يَعِيشُ لِحَبِيبَتِهِ، وهِيَ تَعِيشُ لَهُ، وَفِي ذلِكَ يَقُولُ:

أَمضرُوبَةٌ لَيلَى علَى أنْ أزُورُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ومَتَّخِذٌ ذَنبَاً لَهَا أنْ تَرانِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هِيَ السِّحرُ، إلَّا أنَّ للسِّحرِ رُقيَةٌ، https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وإنِّيَ لا أُلفِي لَهَا، الدَّهرَ، رَاقِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أُحِبُّ الأَيامَى، إذْ بُثَينَةُ أيِّمٌ، https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأَحبَبْتُ، لَمَّا أَنْ غَنَيْتِ، الغَوانِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أُحِبُّ مِن الأسماءِ ما وافَقَ اسمَها، https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأشبَهَهُ، أو كانَ مِنهُ مُدانِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَدِدْتُ، علَى حُبِّ الحَياةِ، لَو انَّها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يُزادُ لَهَا في عُمرِها، مِن حَيَاتِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأَخبَرْتُمانِي أنَّ تَيماءَ مَنزِلٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

للَيلَى، إذا ما الصَّيفُ ألقَى المراسِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ويرى الدكتور شكري فيصل: أنَّ الغَزلَ العُذريَّ يَنطبِعُ بهذِهِ الطَّوابِعِ العَامَّةِ:

1- بَسَاطةُ مَعانِي الحُبِّ الَّذِي يُعبِّرُ به، ويَنهَبُ عواطِفَهُ.

2- الصِّدقُ النفسيُّ، فَقَد يَصدُرُ الحبُّ عن صاحبِهِ تَدفُّقِ الماءِ من اليَنبُوعِ إضافة إلَى الصِّدقِ الفَنِيِّ، حيثُ يُعبِّرُ الشَّاعِرُ عن حبِّهِ دونَ زَيفٍ.

3- وَحدَةُ الغَرضِ والاتِجاهِ، بحيثُ يَنشغِلُ المحبُّ بِمَحبوبَتِهِ ولا يَتَجاوزُهُ بل يَستَغرِقُ فِيهِ.

4- الأُسلُوبُ المباشَرُ، حيثُ يتَّجِهُ الشَّاعِرُ إلَى الحُبِّ وَحدَهُ دُونَ التِواء.

5- العِفَّةُ فِي التَّعبِيرِ، وطُهرُ القَولِ، وعدمُ التَّطرُّق إلَى المغرَياتِ الجِنسيَّةِ.

6- تَصوِيرُ حالةِ اليَأسِ الَّتِي يَعِيشُها الشَّاعِرُ بِسببِ أَسرِ المحبُوبةِ لَهُ.

7- الصَّفاءُ والإشراقُ، حيثُ يتطابقُ عُمقُ الحبِّ معَ قوَّةِ اللُّغةِ الشِّعريَّةِ وجَزالتِها



خاتِمةٌ:

وأَخِيراً فإنَّ الغَزلَ كانَ مَوجُوداً فِي العَصرِ الجَاهِلِيِّ، وكانَ مَعرُوفاً لَدَى الشُّعراءِ الجاهِليِّينَ ولكِنَّهُ يُسَاقُ فِي أثناءِ التَّطرُّقِ لِلأغراضِ الشِّعريَّةِ الأُخرَى، كَالمَديحِ والفَخرِ والهِجاءِ.



وفِي العَهدِ الأُمويِّ وفِي بِيئةِ الحِجازِ تَجِدُ بَعضَ الشُّعراءِ قد قَصَرُوا شِعرَهُم وحياتَهُم علَى الغَزلِ العُذرِيِّ وَحدَهُ، ولم يَتَّجِهُوا نَحوَ الفُنُونِ الشِّعريَّةِ الأُخرَى إلَّا قَلِيلاً، ممَّا أدَّى إلَى انتِشارِ هذا النَّوعِ الشِّعريِّ عِندَهُم انتِشَاراً واسِعاً، وَانطبَعَ بِطابِع حَيَاتِهِم اليَوميَّةِ واكتَسَبَ خَصائِصَ جَدِيدةً لم تَكُنْ مَوجُودةً فِي غَزلِ الشُّعراءِ الجاهِليِّينَ وقَد اشتُهِرَ غيرَ شاعِرٍ في الجِنسِ الأدبِيِّ الرَّائِدِ، وعرفوا بهذا الفنِّ الشِّعريِّ، وجميلُ بُثَينَةَ واحِدٌ مِن أشهرِ أولئِكَ وأَحسنُهُم شِعراً وأطيبُهُم طَبعاً وأَثراً.



مصادر البحث:

1- اتجاهات الشعر في العصر الأموي د. صلاح الدين الهادي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1986م.

2- تطور الغزل بين الجاهليّة والإسلام د. شكري فيصل، دار العلم للملايين، بيروت، 1985م.

3- ديوان جميل بثينة. جمع وتحقيق: د. حسين نصار، دار مصر للطباعة، 1956م.

4- الغزل في العصر الجاهلي د. أحمد محمد الحوفي، دار نهضة مصر، القاهرة، 1972م.

5- العصر الإسلامي :شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1960م.





[1] ديوان جميل بثينة. جمع وتحقيق: د. حسين نصار، دار مصر للطباعة. ص6




[2] الغزل في العصر الجاهلي د. أحمد محمد الحوفي، دار نهضة مصر، القاهرة، 1972م، ص 164.




[3] تطور الغزل بين الجاهليّة والإسلام د. شكري فيصل، دار العلم للملايين، بيروت، 1986م، ص 283.




[4] اتجاهات الشعر في العصر الأموي د. صلاح الدين الهادي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1986م، ص 432.




[5] ديوان جميل ص27.




[6] العصر الإسلامي :شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1960م، ص 368.




[7] ديوان جميل ص 27.




[8] ديوان جميل ص27.




[9] العصر الإسلامي ص177.




[10] ديوان جميل ص 40-41.




[11] ديوان جميل ص 46.




[12] ديوان جميل ص53.




[13] الديوان ص 94.




[14] ديوان جميل ص70.