أدب الفراق عند الآلوسي رحمه الله
أدب الفراق عند الآلوسي رحمه الله مرشد الحيالي يعدُّ ما نُظم شعرًا في معاني الفراق والوداع والتوجُّع على فقد المحبِّين - مِن أصدق الشعر عاطفةً، وأشدِّه تأثيرًا، وأعظمه وقعًا في النفوس والقلوب؛ لأنَّها كلمات وأقوال اكتوت بنار البَيْنِ، وهي نابعة من سويداء القلب، وفي الشِّعر العربي على ألسِنَة العرب الفُصَحاء، وأقوال البُلغاء العرب العرباء - روائعُ من هذا النوع، ومنهم شعراء العِشق في وصْف حالهم عند فراقهم لمحبوباتهم؛ كما تجده في مجنون ليلى وغيره، وما زال الأدباء والحكماء يَغترفون من هذا المورد، وينهَلون من فيضِه وَجوده. وكلما كان المفقود والمحبوب متسمًا بصفات الجود والخير والجمال والنفع والإيثار، كان المصاب بفقده أعظم، والتوجع بوداعه أشد؛ كالعلماء الربانيين، والمجاهدين المرابطين، والعباد الصالِحين؛ ولذا كان فقْد الصحابة رضوان الله عليهم لسيد الخَلق وأكرمهم وأعظمهم جودًا ونفعًا وعِلمًا وإيثارًا أعظم، وعُدَّ فَقدُه صلى الله عليه وسلم من أعظم المَصائب، وعلامة على قرب الساعة وشروطها. وقد سار الآلوسي رحمه الله على هذا المسار، ونسَج على مثل هذا المنوال، فشرح أبياتًا رائعة[1] في هذا المعنى، وبيَّن ما فيها من اللغة والأدب والمغزى، قال رحمه الله في شرح بيت الناظم (أحمد بك بن عبدالحميد الشاويِّ الحميريِّ البغداديِّ) الثالث من القصيدة المسماة بالشاوية: وكيفَ وقد روَّعني بفِراق مَن ♦♦♦ عليَّ فراقُه أَمَرُّ مِن الصَّبِرْ! "أقول: (كيف) اسم مُبهم متمكِّن، حُرِّك آخره للساكنين، وبالفتح لمكان الياء، والغالب فيه أن يكون استفهامًا حقيقيًّا؛ ككيف زيدٌ؟ وغيره نحو: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ﴾ [البقرة: 28]، فإنه خرَج مخرَج التعجُّب، وقوله: كيف تَرجون سقاطي بعدما ♦♦♦ جلَّل الرأسَ بياضٌ وصَلَع؟! فإنه خرَج مخرَج النفْي، وتقع خبرًا قبل ما لا يُستغنى عنه؛ ككيف أنتَ؟ وكيف كنت؟ وحالًا قبل ما يُستغنى عنه؛ ككيف جاء زيد؟ ومفعولًا مطلقًا نحو: ﴿ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ﴾ [الفجر: 6]، ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾ [النساء: 41]، ويُستعمل شرطًا فيَقتضي فعلين متفقَي اللفظ والمعنى غير مجزومين؛ ككيف نضع أضع، لا كيف تجلس أذهب، قال سيبويه: تُستعمل (كيف) ظرفًا، وقال الأخفش: لا يجوز ذلك، وقال ابن مالك: صدق؛ إذ ليس زمانًا ولا مكانًا، نعم؛ لما كان يفسر بقولك على أي حال لكونه سؤالًا عن الأحوال، سُميَ ظرفًا مجازًا، ولا تكون عاطفة كما زعم بعضُهم محتجًّا بقوله: إذا قلَّ مالُ المرْء لانَتْ قناتُه ♦♦♦ وَهَان على الأدْنى فَكيف الأباعِد لاقترانه بالفاء، ولأنه هنا اسم مرفوع المحل على الخبرية، والحاصل أن (كيف) ترد لعدَّة معانٍ مُفصَّلة في مبسوط كتب النحو، وما نحن فيه للتعجُّب، والمتعجَّب منه محذوف يؤخذ مما قبل. وروَّعني: أفزعني، والفراق معلوم، وهو أحد الثمانية التي لا بدَّ منها؛ وهي: ثمانية عمَّت بأَسبابِها الورى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكلُّ امرئ لا بدَّ يَلقى الثمانيَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سرورٌ وحزنٌ، واجتماعٌ وفُرقة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وعسْرٌ ويسْرٌ، ثمَّ سقْم وعافيَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والفراق مما توجَّع منه الشعراء قديمًا وحديثًا. والصبر: بكسر الباء، وسكِّنت للضرورة، وهو عصارة شجر مرٍّ، واحدته صَبِرَة، وجمعه صُبُور؛ قال الفرزدق: يا بن الخَلِيَّةِ إِنَّ حَرْبي مُرَّة ♦♦♦ فيها مَذاقَةُ حَنْظَلٍ وصُبُورِ قال أبو حنيفة: نَبات الصَّبِر كنَبات السَّوْسَن الأَخضر، غير أَن ورقَ الصَّبرِ أَطول وأَعرض وأَثْخَن كثيرًا، وهو كثير الماء جدًّا، الليث: الصَّبِر - بكسر الباء -: عُصارة شجر ورقها كقُرُب السَّكاكِين طِوَال غِلاظ، في خُضْرتها غُبْرة وكُمْدَة، مُقشَعِرَّة المنظَر، يخرج من وسطها ساقٌ عليه نَوْر أَصفر تَمِهُ الرِّيح، الجوهري: الصَّبِر هذا الدَّواء المرُّ، ولا يسكَّن إِلاَّ في ضرورة الشعر؛ قال الراجز: أَمَرُّ من صَبْرٍ وحُضَضْ وفي حاشية الصحاح: الحُضَضُ: الخُولان، وقيل: هو بظاءين، وقيل: بضاد وظاء؛ قال ابن بري: صواب إِنشاده أَمَرَّ، بالنصب، وأَورده بظاءين؛ لأَنه يصف حَيَّة. ووضعه داود في تذكرته بقوله: بكسر الموحدة، ويقال: صبَّارة، أضلاعه كالقرنبيط وأعرض، وعلى أطرافها شوك صغار، وتعيش أين وُضعَت كالعنصل، وتكتفي بالهواء عن الماء، وإذا عتقت قام في وسطها قضيب نحو ذراع يحمل ثمرًا كالبلح الصغير، أخضر ويحمرُّ عند استوائه، وهذا الثمر منه دقيق الطرفين يُسمى أنثى، ومتناسب غليظ هو الذكر، والصبر عصارة هذه الأضلاع، وهو إما أصفر إلى حمرة سريع التفتُّت، برَّاقٌ، طيِّب الرائحة؛ وهو السُّقُطْرِيُّ، أو صلب أغبر يُسمى العربي، أو كمدهش يسمى السمنجاني بالمعجمة التحتية، وهو رديء، والصبر من الأدوية الشريفة، إلى آخر ما قال. وحاصل معنى البيت: وكيف لا يدوم حربي مع الأيام، والحال أنها قد أفزعتْني بفراق أعز الأحبة على الفؤاد؟ فإن فراقه أشد مرارة من الصبِر الشديد المرارة، وأعظم بشاعة من العلقم، وأضر من الإسارة، وإنما أظهر الناظم ما أظهر من التضجُّر لهذا الفراق، وجعله أمرَّ مِن الصبر في المذاق؛ لحسنِ ظنِّه بمَمدوحه، واعتقاد أن منادمتَه تفوق على غبوقه وصبوحه، ولا شكَّ أن صحبة الأخيار، مما يُعتنى بشأنها لدى الأبرار؛ ففي الحديث الشريف: ((مثَل الجليس الصالح مثل العطار؛ إن لم ينلْكَ منه، أصابك مِن ريحه، ومثل جليس السوء مثل القين؛ إن لم تُصبْك نارُه، أصابتك شررُه))[2]، قال أبو حاتم[3]: "العاقل يلزم صُحبة الأخيار، ويُفارق صحبة الأشرار؛ لأنَّ مودة الأخيار سريعٌ اتصالها، بطيء انقطاعها، ومودة الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها، وصحبة الأشرار سوء الظنِّ بالأخيار، ومَن خادن الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم، فالواجب على العاقل أن يَجتنب أهل الريب؛ لئلا يكون مريبًا، فكما أنَّ صحبة الأخيار تورث الخير، كذلك صحبة الأشرار تورث الشر"، وأنشد محمد بن عبدالله بن زنجي البغدادي: عليكَ بإخوانِ الثقات فإنَّهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قليلٌ، فَصِلْهم دون مَن كنتَ تصحَبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ونفسَكَ أَكرِمْها، وصُنْها فإنها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif متى ما تُجالس سِفْلةَ الناس تغضَبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وعن سفيان بن عيينة: "من أحبَّ رجلًا صالحًا فإنما يُحبُّ الله تبارك وتعالى"، وعن مالك بن دينار: "إنك أن تنقل الحجارة مع الأبرار، خير مِن أن تأكل الخبيص مع الفجار"، وعن أبي حاتم: "العاقل لا يدنِّس عرضَه، ولا يعوِّد نفسه أسباب الشر بلزوم صحبة الأشرار، ولا يُغضي عن صيانة عرضِه ورياضة نفسه بصُحبة الأخيار، على أن الناس عند الخبرة يتبيَّن منهم أشياء ضد الظاهر منها". وأنشد علي بن محمد البسامي: وقلَّما احلولى كلامُ امرئ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولان إلا كان مرَّ الفِعالْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وربما احلولى كلامُ الفتى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكان محمودًا على كل حالْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وربما لم يكُ ذا منظمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكان خِلْوَ الفِعل من المقالْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكل هذا أنت راءٍ إذا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تُصاحبُ الناسَ وتَبلو الرجالْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif |
رد: أدب الفراق عند الآلوسي رحمه الله
وعن أبي الدرداء: "لصاحبٌ صالح خير من الوحدة، والوحدة خير من صاحب سوء، ومملي الخير خير من الساكت، والساكت خير من مملي الشر"، وعن أبي حاتم: "العاقل لا يُصاحب الأشرار؛ لأن صُحبة صاحب السوء قطعة مِن النار، تُعقب الضغائن؛ لا يستقيم ودُّه، ولا يفي بعهده، وإنَّ من سعادة المرء خصالًا أربعًا: أن تكون زوجته موافقةً، وولده أبرارًا، وإخوانه صالحين، وأن يكون رزقه في بلده. وكل جليس لا يَستفيد المرء منه خيرًا، تكون مُجالسة الكلب خيرًا مِن عشرته، ومَن يصحب صاحب السوء لا يسلَم، كما أن من يدخل مداخل السوء يُتهم، وما أشبِّه صحبة الأشرار إلا بما أنشدني منصور بن محمد الكريزي: فلو كان منه الخيرُ إذ كان شرُّه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عتيدًا ضربتُ الخير يومًا مع الشرِّ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولو كان لا خيرًا ولا شرَّ عنده https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif رضيتُ لعمري بالكَفافِ مع الأجرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولكنَّه شرٌّ ولا خيرَ عنده https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وليس على شرٍّ إذا طال مِن صَبرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قال الحسن: "أيها الرجل، إن أشد الناس عليك فقدًا، لرجلٌ إذا فزعت إليه وجدت عنده رأيًا، ووجدت عنده نصيحة، بينا أنت كذلك إذ فقدته، فالتمست منه خَلَفًا فلم تجده". قال جعفر بن محمد: "مَن كان فيه ثلاث، فقد وجب له على الناس أربع: إذا خالطَهم لم يَظلِمهم، وإذا حدَّثهم لم يَكذبْهم، وإذا وعدهم لم يُخلفهم، وعلى الناس أن يُظهروا عدلَه، وأن تكمل فيهم مروءته، وأن يجب عليهم أُخوَّته، وأن يحرم عليهم غيبته". وأنشد محمد بن إسحاق بن حبيب الواسطي: اصحبْ خيارَ الناسِ أين لقيتَهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif خيرُ الصحابة مَن يكونُ ظَريفَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والناس مثل دراهم ميَّزتَها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فوجدت فيها فضَّةً وزيوفَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وعن وهب: "إن الله ليحفظ بالعبد الصالح القبيلَ مِن الناس". والكلام في هذا الباب طويل، وما ذكرْناه من ذلك غير قليل، وبه يتبيَّن ما انطوى عليه كلام الناظم الجليل...) انتهى. ♦ ويليه: أدب الأخوَّة عند الآلوسي رحمه الله. [1] والقصيدة مع شرحها توجد نسخة منها خطها واضح جيد، بـ"دار صدام للمخطوطات" برقم8721 - 1 ولم تطبع بعد، وقد تكون طبعت مع المجموع الكبير للآلوسي رحمه الله، وقد قدمت لها عرضًا وتحليلًا بعنوان: (الدر المنضود أو شرح القصيدة الشاوية دراسة وتحليل) نشر على شبكة الألوكة، وهناك قمت بضبط ألفاظها، وتحقيق كلماتها بقدر المستطاع؛ فالنسخة مصورة يتيمة. [2] (حديث مرفوع)؛ أخبرنا زاهر بن أحمد بن حامد الأصبهاني - بها - أن الحسين بن عبدالملك الأديب أخبرهم، أبنا إبراهيم بن منصور الخباز، أبنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم، أبنا أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا جعفر بن سليمان، قثنا شبيل بن عزرة، قال: دخلتُ أنا وقتادة على أنس، فحدَّثَنا أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الجليس الصالح مثل العطار؛ إن أصابك منه وإلا أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء مثل القين؛ إن أصابك منه وإلا أصابك من دخانه))؛ أخرجه أبو داود، عن عبدالله بن الصباح العطار، عن سعيد بن عامر، عن شبيل رقم الحديث: 2003، وهو في المستدرك أيضًا. [3] أكثر الآلوسي رحمه الله من النقل في شرحِه للقصيدة من كتاب "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء"؛ لابن حبانالبستي، وقد طبع طبعات عدة منها (طبعة الشارقة عام 1416 بتحقيق جمال بن محمد بن محمود، كما طبع بتحقيق عبدالعليم محمد الدرويش سنة 2008 في مجلَّدين في الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، معتمدًا على نسخة مخطوطة من الجامعة الأمريكية ببيروت، كما طبع طبعةً جديدة - بتحقيق: عبدالواحد علي، عن دار ابن الجوزي - الدمام، قدم له: الشيخ سعد عرفات، د. عبدالرحمن فودة. ومن أفضل طبعات الكتاب قديمًا طبعة المغني، الطبعة الأولى عام 1998، بتحقيق وتصحيح: محمد محيي الدين عبدالحميد، محمد عبدالرزاق حمزة، محمد حامد الفقي. |
الساعة الآن : 10:28 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour