أوراق من الماضي
أوراق من الماضي (1) ربيع بن المدني السملالي مولدي • في مثل هذه الأيَّام من سنة 1400 هـ، حيثُ الرَّعد والبرقُ والمطرُ الغزير، خرجَ للوجود طفل كئيب القسمات، سليم الجسم، قمحيُّ اللون، كثير البكاء، غير راضٍ عن عالمه الجديد الذي صافحته رياحه الهوجاء، وتلقته ببردها القارس، كان أبوه غائبًا عن البيت، وأمُّه في جمع من نساء الحيِّ تكابد ألم الولادة في صمْتٍ وصبر جميل ورثته عن أمِّها الحنون؛ لذلك ألهمها الله بعد التبشير بولد (وهو البكر لديها) أن تسميه ربيعًا في قساوة الشِّتاء وشظف العيش ومعاناة الأيام؛ لعلَّه يكون ربيعَ أفراحها، وماسحَ ضيقها، ودافع أزماتها... ولا أدري الآن وقد بلغتُ من الكِبَر مبلغَ الرِّجال هل كنت كما أرادتني أم خيَّبتُ ظنَّها، وضيَّعت آمالها، في متاهات هذه الكتب المتراكمة التي تَحُولُ بيني وبينها في كثير من الأحيان؟! جدَّتي • قالتْ لي جدَّتي يومًا: إنَّ الموتَ حقيقةٌ لا مجالَ للتَّشكيكِ فيها، فاعتقدتُها تمازحني؛ لحداثَةِ سنِّي حينَها، وكثرةِ جهلي بهذه الأمور، فقلتُ لها: وهل ستموتين أنتِ أيضًا وأبقى وحيدًا دون أن أجدَ من أنام بقربه، ولا من يأخذ بيدي إلى المدرسة البعيدة عن بيتنا؟ فضحكتْ رحمها الله وقالتْ باطمئنان: لن أموتَ بإذن اللهِ حتَّى تصبحَ رجلًا تستطيعُ أن تناولَني ما يلزمُني حين أصبح طريحةَ الفِراش! فقبَّلتُها ونِمتُ في حضنها متمسِّكًا بحياتي وحياتها، فلم يُوقظني إلا صراخُ الموتِ وهو ينزعُها منِّي بالقوَّة حين كنتُ سادرًا في غيِّ الثَّلاثينات من عمري! الشَّيْب • وقفتُ أمامَ المِرآة أتدبَّرُ ملامحَ وجهي الخَشِن، الذي نسيتُ شكلَه في خِضَم أحزاني وهمومي، فرأيتُ بعضَ الشُّعيرات في لحيتي ورأسي وقد غزاها هذا الضَّيفُ الثَّقيل الذي يُقال له: (الشَّيب)، والذي لم أكن متوقِّعًا أن يزورني غير محتشمٍ وأنا في عنفوان الشَّباب إن صحَّ هذا التَّعبير، فقلتُ مخاطِبًا نفسي الأمَّارة بالسوء: ويحكِ يا نفسُ! فهذا نذير جاءني على غفلة من أيامي الهاربة نحو الغَواية، الفارَّة من جنب الله الذي فرَّطنا فيه رَدَحًا من الزَّمان، جاء ليذكَّرني بتقدُّمي في السِّن، والسَّير صوبَ الأربعين التي لم يبقَ بيني وبينها إلا خمس سنوات وبضعة أشهر على أكثر تقدير، ثمَّ يبدأ العدُّ التَّنازلي الذي سيتَّجه بي حتمًا نحو حُفرتي التي تنتظرُ عظامي المهترئة بصبْرٍ فارغ! ويا لها من دنيا! البارحة فقط كنتُ أرتع في أحضان العشرة والعشرين، وهأنذا أنظر إلى أيَّام الصِّبا وبداية الشَّباب المأسوف عليها كحلم حلَّقَ فوق رأس أحدنا وهو في نوم هادئ عميق! المنفلوطي • أحِنُّ إلى كُتُب المنفلوطي التي فتحتْ عينيَّ على الأدب، وجعلتْني أنْصهر في بوتقتِهِ، وأذوب في كيانهِ، وأتخلَّى عن غيره من الفنون والعلوم، أشتاق إلى عَبَراته التي انسكبتْ مِدرارًا على البؤساء والفقراء، والمحرومين والأشقياء، أرغبُ في ملاقاة أبطالِه المحْزُونين الذين أدركتْهم لعنة الحبِّ وماتوا في سبيله! أُحبُّ الرجوعَ إلى تلك الأيام الذَّواهب حين كنتُ أقرأ نظراتِه بعدما تهدأ الحياة ويأتي المساء مُحمَّلًا بظلامٍ يُغري بالسكون والاسترخاء، وإنفاق السَّاعات في رحاب أسلوبه الممتِع الشائق الذي يجعلني أميلُ طربًا تارة، وأبتسمُ راضيًا عنه وعن نفسي وعن الحياة كلِّها تارة أخرى، أوَدُّ لو أنظر إليه في غلافِ روايته ماجدولين بنظرته المعبِّرة وشاربِه الطويل المعوجِّ الذي كان يُشبه عقارب ساعتِنا الحائطية! ضِرْسٌ • زارني قبلَ أيَّام ضِرس مسوَّس بعدما تقدَّم بي الليل ونامت الحياة من حولي وأخذت مضجعي ناشدًا الراحة والهدوء، فقال لي: أهلاً بالربيع، فقد جئتُك وأنا في خريف حياتي بعدما أسرع إليَّ الهرم؛ لا لأنغص عليك ليلك هذا الهادئ، ولا لأجعلك تُكابد لحيظات العذاب بألمي هذا الظالم، ولكن لأذكِّركَ بأيام شبابي وعِزِّي حين كنتُ أقضم لك ما شئتَ وشاء لك الهوى من المأكولات الشهيَّة والفواكه اليانعة، ولكن للأسف لم تعتنِ بي كما ينبغي حتى صرتُ إلى ماصرتُ إليه الآن، المهم رجائي عندك أن تعتني بأصدقائي الضروس عن طريق نزْعي من بينهم بعدما فقدت الأمَلَ في ترميمي؛ لكي لا أجني عليهم كما جنتْ على قومها براقش بمرضي وتسوُّسي، الذي زادك رهقًا، وقد يزيدهم تعبًا هم في غنى عنه! فأرجوك أرجوك أحسِنْ مثواي ولا تَتْرك ألَم ليلة واحدة يؤثِّر فيك فتسبني وتشتمني وتنسى ما أسديتُ لك من خدمات في ظِلِّ ثلاثين سنة ونيِّف! الوداع أيها الربيع! شيخِي • قبلَ سنواتٍ كنتُ أقرأ على أستاذنا الشَّاعر الأديب محمد بن إدريس بلبصير كتابًا في الفلسفة، فعثر بي اللِّسانُ بِضْعَ عثرات، فسقطتُ في بئر عميقةٍ من اللَّحن، فانتشلني بقوله، بل بصفعته: ويْحَكَ يا فتى كُنْ فصيحًا! فقلتُ له والحياءُ يملأ وجنتيَّ خجلاً: حاضر يا أستاذي، سأكون بحول الله فصيحًا ولو بجدع الأنفِ، وفُقدان البصر! فذهبتُ من ذلك الحين أقرأ ركامًا من الكتب الأدبية واللُّغوية والنَّحوية بعزيمة كالفولاذ، وصفعتُه تَرِنُّ في أذنيَّ صباحَ مساءَ لا تبرحني: كنْ فصيحًا، كن فصيحًا! وأتذكَّر بين الفينة والأخرى تلك القصَّة اللَّطيفة التي ذكرها بعضُ الرُّواة عن أبي هلال العسكري، قال: حُكي لي عن بعضِ المشايخ أنَّه قال: رأيتُ في بعضِ قرى النبطِ فتى فصيحَ اللَّهجة، حسنَ البيان، فسألته عن سبب فصاحته مع لُكْنَةِ أهلِ جِلدته، فقالَ: كنت أعْمِدُ في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتب الجاحظ، فأرفعُ بها صوتي في قراءتها، فما مرَّ لي إلا زمانٌ قصير حتى صِرتُ إلى ما ترى! اشتياق • اشتقتُ لمكْتَبَتي الغالية، اشتقتُ للسَّرير الذي يقبع تحت رحمة المجلَّدات والتَّصانيف المرصوصة بأدب، اشتقتُ لزمن البحْث والفوضى الفكرية التي تجعلني كنحلة تائهة تتنقَّل من زهرة إلى زهرة، اشتقتُ لإبريق الشَّاي السَّاخن القائم بشموخ على يسار مكتبي، اشتقتُ لدقَّات أمِّي الحانية على باب غرفة المكتبة بعدما يتقدَّم بنا الليل نحو الفجر، لتسألني عن السَّاعة، وتطلبَ منِّي أن أرحم نفسي من السَّهر، وأرحم الكهرباء، اشتقتُلكتب ابن حزم وابن الجوزي وابن تيمية وابن القيِّم وابن كثير وابن عبدالوهاب وابن عُثيمين، اشتقتُ للشيخ حفُّو والشَّيخ ابن إدريس والشيخ ابن المدني، اشتقتُ لخطبهم المؤثِّرة التي تجعلك ترى الجنَّة رأيَ العين، اشتقتُ لرفقة صالحة كنت أسافر معهم الليالي ذوات العدد من أجل تقوية الإيمان، وتعلُّم أركان الإسلام وأصوله، اشتقت للنظرات البريئة السَّعيدة التي كنت أوزِّعها على إخوة في الله اجتمعوا عليه وتفرَّقوا عليه، اشتقتُ لي كطالب علم يجادل ويخاصم في عقيدة السَّلف الصَّالح ولا تأخذه في الله لومة لائم، اشتقتُ لاعتقالات الشُّرَط من أجل لحيتي الطَّويلة ولباسي القصير، اشتقتُ لأيَّام جِدِّي واجتهادي وأنا أحفظ من كتاب الله ما تيسَّر لي، ومن المتون ما شاء الله لي أن أحفظ، اشتقت لقصص المنفلوطي، ولروايات نجيب الكيلاني، ومقالات محمود شاكر... ياااااه في صالون الالتزام كانت لنا أيَّام! البحرُ • قادني البحرُ للتَّفكير في أمور أكبر من أن يستوعبها عقلي الصَّغير الرَّازح تحت وطأة التَّعب والجمود، وقال لي مؤكِّدًا: وما أنتَ في هذه الحياة إلا كقَشَّة في فلاة، أو قطرة في نهر جارٍ على الدَّوام، أو كحبَّة رمْلٍ من رمال شواطئ الله، فلا تغترَّ بنفسك؛ فإنَّك لستَ مركزًا للكون، ولا منبعًا للحياة، ومهما علا شأنك، وارتفع ذكرُك، فإنَّك ستظلُّ رقمًا في الزِّحام لا يأبه لك أحد في حياتك، ولا يشعر بوجودك غير أناس يُعدُّون على رؤوس الأصابع، وعند موتك سترحل في صمت مخلِّدًا وراءَك ذكريات قاتمة مسربلة بالذُّنوب والمعاصي تقضُّ مضجعَ أهلك وجيرانك الأقربين، فاهتبِل الفرصةَ واسجد واقتربْ؛ لعلَّ الله يرفع لك ذكرَك، ويشرح لك صدرك، وتعيش حياةً مطمئنة عنده في الخالدين! حِكمةٌ • جَلستُ مع امرأة طاعنة في السِّن صباحَ يوم عيد الأضحى لبضع دقائق، فوجدتها ككتاب مخطوط من كتب تاريخ المغرب القديم، سبحان من وهبها نِعمة الذَّاكرة، وقوَّة البصر وهي في هذه السِّن، بل لها عقل قد لا نجده عندَ أدعياء الثَّقافة، قالتْ عن الموت ما مفاده: أجمل ما في الموت أنَّه لا يحابي أحدًا، ولا يقبل رشوة، ولا يفني الفقير دون الغنيِّ، أو المرأة دونَ الرَّجلِ، أو الصغير دون الكبير، وهذا من أكبر نعَمِ الله علينا، ولو كان لايموت إلا الفقراء من أمثالنا يا ولدي، لضقنا بذلك ذرعًا، ولتمزَّقنا غيظا وألمًا، ولكنَّه سبحانه أرحم الرَّاحمين، وأعدل العادلين! فقلت لها: صدقتِ يا أمِّي، بارك الله في عمرك، ثمَّ انصرفتُ عنها بعدما قبَّلت يدها، وأنا منشرِح الصَّدر، مطمئن القلب، وكأنَّني انتهيت لتوِّي من قراءة المجلد رقم (11) من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية! حنين • أحِنُّ إلى الرَّبيع الذي كُنتُه قبلَ التحاقِي بزمن الوهَن؛ حيثُ الصَّيفُ أضعتُ اللَّبنَ، ولم أهْتَبِلِ الفرصةَ لتدارك ما فات وأنا في أحضان الضَّياع سَبَهْلَلاً، مضطربَ القلب والأحشاء، في وطن يبسطُ يده ليقتلني، ويتركَني عِبرةً للوحوش الضَّارية تفترس ما تبقَّى من ذكرياتي مع تلك الرَّاحلة عن دنيا الألم، فالسَّيلُ بلغ الزُّبى، والسِّكينُ العظمَ، وطمعَ فيَّ من لا يدفع عن نفسه، يا أللهُ لو ذاتُ سوار لطمتني لهان الخطبُ، ولكنَّ البغاثَ بأرض أيَّامي يَسْتَنْسِرُ، فما قيمة العيش في زمن لم تُصِبْ فيه تَمرةَ الغُراب، ولا راحةَ الفؤاد، تعيشُ مستطيعًا بغيرك! ألمْ ترَ أني منْ ثلاثينَ حِجةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أروحُ وأغدو دائمَ الحسراتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فيا ربيعَ أيَّامي السَّالفة، هل لك من عودة حتَّى أقولَ: مسافر، أم سيكون حظِّي منك كحظِّ الشَّاعر المسكين الذي سجَّلَ التّاريخُ صرختَه وهو يرثي فلذة كبدِه: مَن شاء بعدَك فليَمُتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فعليكَ كنتُ أحاذِرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يُتبع إن شاء الله.. |
رد: أوراق من الماضي
أوراق من الماضي (2) ربيع بن المدني السملالي اسمي قالتْ لي: اسمكَ جميل، فهو اسم أدبي صِرف يا ربيع! فقلتُ لها: إنَّ هذا الاسم انبثَقَ من بين رُكام الأسامي الخَشِنة التي كانت مُتداولةً في ذلك الزمان، فاختارته لي أمِّي - متَّعنا الله ببقائها - وكانَ لها ذوق رفيع رغم أميَّتها، فهي لم تزُر المدرسة في يوم من أيام حياتها، ومع ذلك فقد أخبرني الثِّقات من عائلتنا أنَّها كانت ذوَّاقة لكلِّ جميل، مُحبَّة للحياة رغم قساوتها والحزن الذي خلَّفه موتُ أبي! أمُّ هند قلتُ يومًا لأمِّ هند بعدما وجدتُها منهمكةً في قِراءة بعض الكتب التي تهتمُّ بالطَّبخ والحلويات وما إلى ذلك: لو كانَ اهتمامُك بكتبِ أهل العلم والأدب كاهتمامكِ بهذه الكتب لمُتْنا جوعًا أنا والأولاد، ولكن الحمد لله الذي ابتلاكِ بشيء فيه مصلحتُنا! فرَشَقَتني بابتسامةٍ غامضة، ثمَّ قالت: رحم الله مُتنبِّيكَ الذي يقولُ: بذا قضَت الأيَّام ما بينَ أهلها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مَصائبُ قوم عند قومٍ فوائدُ! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كُتبي حينَ كنت أتاجرُ في الكتب قبلَ سنوات، كانت الكتب الأكثر مبيعًا، كتبَ الطَّبخ، وكتب تفسير الأحلام، ثمَّ كتاب "لا تحزن" للقرني، وكتاب "دع القلق وابدأ الحياة" للأمريكي ديل كارنيجي، و"تحفة العروس" للإستنبولي، وكتيِّبات تعلم اللغات الأجنبية في أقلِّ من خمسة أيام بدون معلِّم، أما سوى ذلك من الكتب العلمية النَّفيسة التي تسمو بالإنسان وتجعله ذا شأن وخَطَر، فكانت تجلس في ضيافتي الأيَّام والشُّهور ذوات العدد لا تملُّ من صحبتي ولا أسخط على طول مُكثها، ومن هذه النَّافذة التي عنَّ لي فتحها اليوم نستطيع أن نعرفَ الحالة النَّفسية التي يتمتَّع بها هذا المواطن العربي المسكين، الذي يحلم كثيرًا، ويتناسل أكثر، يأكل لمَّا ويُوسع ذَمَّا، يبحث عن سعادته بعد ذلك بين دَفَتَي هذه الكتب ذات الأغلفة المزركشة الأنيقة التي يريدها أن تدفعَ عن حياته الحزن والقلق والاضطراب دون أن ينصرفَ لتطبيق أهمِّ ما فيها، بل ما إن يغلقها حتى ينسى ما كان وما سيكون من أمرها مُنطلقًا إلى لهْوه وعبثه وبطالته كما اعتاد أو اعتادت نفسه الخاملة أن تفعل! أمَّا الذين كانوا يسألون عن الكتب النَّطيحة والمُتردِّية وما أكل السَّبع، فحدِّث ولا حرج، وكثيرًا ما كانوا يسألونني عن كتاب الرَّحمة في الطِّب والحكمة المنسوب زورًا وبُهتانًا للإمام السيوطي، وكتاب الروض العاطر ونزهة الخاطر، وغير ذلك من الكتب التي أستحي من ذكر أسمائها وأسماء أصحابها، وما زلتُ أذكر بعض النَّاس الذين لم يظفروا عندي بما جاؤوا من أجله، وكيف ورِمَت أنوفهم وانتفخت أوداجهم، وانطلقت ألسنهم بهمهمات، أغلب الظَّنِّ أنها سبٌّ وشتم وما إلى ذلك من أخلاق السُّفهاء، وكأنَّني حرمتهم من أكبر متعهم في الحياة الدُّنيا! لذلك أقول: إنَّ المتاجرة في الكتب قد علَّمتني الكثير وأنا في طور التكوين وسنِّ العشرين، وما كنت أضيق به في ذلك الحين وأتبرَّم به فها هو قد أصبح من ذكرياتي الخالدة، التي أتمنى في قرارة نفسي لو تعود وأعود كُتبيًّا كما كنتُ، بدلَ هذه التكنولوجيا التي غزت بيوتنا وملكت علينا السَّمع والبصر والفؤاد، وزهَّدت كثيرًا من النَّاس في الكُتب وجعلتهم ينظرون إليها نظرة الكاشح الذي يُناصبك العداوة ويضمر لك الشرَّ! أسامةُ عندما وُلد أسامة أشرقتْ أرضُ قلبي بنور ربِّها، وأعلنت السَّماء عن فرح لا مثيلَ له! عندما وُلِدَ أسامة أيقظني رنينُ هاتفي من شرودي، وليسَ بيني وبين المسجد إلا بضع خطوات، لتُخبرني زوجي أنَّها قد وضعت ذكرًا كالقَمر يسرُّ النَّاظرين، ولم تجد مع ذلك أدنى صعوبة أو عُسر! عندما وُلد أسامة لم تُفارق الابتسامةُ شفتيَّ! عندما وُلد أسامة انصرفَ البُؤسُ عن دُنيايَ إلى حال سبيله يجرُّ أذيالَ الخيبة بصَمْت! عندما وُلد أسامة كان لي موعد مع السَّعادة؛ وذلك عن طريق أروع وأطيب وأجمل إنسان عرفته في حياتي.. إنسان كان له أكبر الأثر في حياتي، ولا أظنُّني سأعرف مثله في مستقبل الأيَّام.. كانَ هديَّة من أجمل الهدايا التي منحني إياها القدَر.. عندما وُلد أسامة حصلتُ على كتب كثيرة، وعناوين مهمَّة كنت في أمسِّ الحاجة إليها، ولم أكن أعلم أنَّني سأحصلُ عليها بهذه السُّرعة! عندما وُلد أسامة رضيَتْ عنِّي كرام عشيرتي، ولم يسخط عليَّ لئامُها! عندما وُلد أسامة اخترتُ له اسمًا عربيًّا أصيلاً؛ لعلَّه يكونُ رمزًا من رموز هذه الأمَّة الأشاوس في يوم من الأيَّام! عندما وُلد أسامة جاء القومُ أجمعون، معترفين أنَّه أجملُ طفل في العائلة السَّملالية.. ولم يرَه أحد إلا أحبَّه! عندما وُلد أسامة وجدَ أخوه عبدالرحمن ضالَّتَه المنشودة، وأخته هند اتخذته حبيبًا لقلبها البريء لا تفارقه إلا لضرورة ليس لها منها بدٌّ! عندما وُلد أسامة خرجَ لدنيا النَّاس أوَّلُ كتاب لي في الأدب مطبوعًا! عندما وُلد أسامة رجوتُ الله أن يرفع عن أمَّتنا الضَّيم، وأن يُشتِّت شمل الأمريكان واليهود والنَّصارى بصفة عامَّة، وأشياعهم من المنافقين، ويفرح المسلمون بنصر الله الذي يَنتظرونه منذ أمد بعيد، وما ذلك على الله بعزيز! دَرْدَشة جلسَ إليَّ صديق حديثُ عهد بمعرفتي في مقهى كنت أخلو فيه بنفسي كلَّ مساء للتَّأمل والكتابة، فعرضَ عليَّ (سيجارة) ونحن نتجاذب أطرافَ بعض الأحاديث في الأدب والفِكر، فاعتذرت إليهِ قائلاً: عفوًا، لا أدخِّن ولا أحبُّ رائحةَ التَّدخين، فقال مستغربًا فاغرًا فاه: لأوَّل مرَّة أرى أديبًا لا يدخِّنُ! فتبَسَّمتُ ضاحكًا من قوله بل من مبالغته ثمَّ قلت: أولاً أنا لم أبلغ بعدُ مرتبةَ الأُدباء بالمعنى الصَّحيح لهذا اللَّقب، وإنَّما أنا صبيٌّ ما زالَ يحبُو على بساط الأدب لعلَّه يصِلُ يومًا إلى ما وصل إليه الأدباء، ثانيًا: لا أدخِّن لثلاثة أسباب؛ الأوَّل أنَّني من شدَّة ولوعي بالأدب وشغفي الشَّديد به لا أفعل ذلك؛ لأنَّ التّدخينَ مرض فتَّاك وموت بطيء ولا أحبُّ أن أموتَ قبل أن أستوفيَ حظِّي ومتعتي منه! والسَّبب الثاني: أنَّ ثمن علبتين من السجائر قد أشتري به كتابًا في كلِّ يومين، ولستُ من الغباء بحيث أقدِّم الخبيثَ على الطَّيِّب. والثالث: أنَّ شربه حرام كما لا يخفاكَ.. هكذا أفكِّر أنا فاعذِرني يا صديقي! فابتسم بعدما أعدم (سيجارته) في المنفضة التي أمامه واحتسى ما تبقَّى من قهوته السَّوداء ثمَّ قال: غلبتَني بمنطقك يا بنَ السَّملالي! ثمَّ أدارَ دفَّة الحديث قائلاً: ماذا تجني من وراء هذه الكتابات التي تنشر في الصُّحف والمجلات والمواقع والمنتديات؟ فأجبته بعدما شعرت أنَّه يفكِّر بحسٍّ مادِّي كأغلب العرب المُعاصرين: إنَّني يا صديقي أستفيد همَّة عالية وعزيمة قوية تدفعني دفعًا للمُضي قدُمًا نحو عالم الكتابة الأدبية النثرية الهادفة التي اخترتها لنفسي أو اختارتها لي نفسي، فعندما أعثر على اسمي مكتوبًا في بطن مجلة من هذه المجلات التي يُشار إليها بالبنان في العالم العربي، أو في جريدة من الجرائد السيَّارة التي يذكرها النَّاس بخير أو فيموقع من المواقع الهادفة المحترمة - أجد متعة لا تُقاوَم، وسعادة أفضل عندي من حُمر النَّعم، فالمال قد تجنيه من أيِّ وسيلة من هذه الوسائل المتاحة في عالم التجارة أو غيرها، لكن أن تعبِّر عن رأيك بمقالة، أو قصَّة قصيرة، أو قصيدة، ثمَّ تجد بعد ذلك من ينشر لك راضيًا مسرورًا، فهذا واللهِ ما تَنقطِع دونه الأنفاس حبورًا وانتشاءً، بل تُضرب أعناق الإبل في سبيل الوصول إلى هذا المستوى بحيث تُصبح ذا شأن ورأي تُذيعه في النَّاس وبين القرَّاء، وقد كنت قبلَ ذلك خاملَ الذِّكر جامدًا لا تستطيع أن تقول، ولا تجد من يسمع ما تقول، ثمَّ فوقَ هذا كلِّه هناك رضا الله الذي عنده الجزاء الأوفى لكلِّ عمل يكون خالصًا لوجهه، فهل أزيدك بيانًا وتَبيُّنًا أم أصْمُتُ؟ فقال مبتسمًا: حسبُك يا صديقي فقد ألقمتَني حجرًا، وتركتني أذوب في خجلي كفتاة حَيْرَى في خِدرها! حكاية لا يَخلو مجلسُ شيخِنا الأديب محمد بن إدريس بلبصير من فائدة! كان يَستقبلنا في بيته الهادئ الجميل مساء كلِّ سبت لقراءة كتاب من كتب العلم أو الأدب، يشرح لنا ما غمض منها، وما أشكَل على عقولنا هذه المحدودة، التي لم يكن حظُّها من العلوم قد بلغ مبلغًا يسرُّ قلوبنا وتطمئنُّ إليه نفوسنا، فكنت أقرأ عليه ما شاء الله لي أن أقرأ، والإخوة الأساتذة معنا يُصغون كأنَّ على رؤوسهم الطَّير، مُنتظرين بشغف تحليلاته ونُكَتَه العلميةَ التي كان يجود بها علينا بين الفينة والأخرى، وأكثر ما كان يروقُ لي في تلك المجالس الرَّائعة حكاياتُ شيخنا عن نفسه إبَّان الطَّلب والتحصيل، أيام الدراسة الجامعية؛ حيثُ الجِدُّ والاجتهاد والعلماء الرَّاسخون في شتَّى الفنون، كنتُ أعيشُ خارجَ هذا الزَّمان المنكوب لأحيا في أحضان تلك اللحظات المُشرقة التي كان يَسردها على مسامعنا والتي كأنَّها ضرب من ضروب الخيال أو سيرة من سير السَّلَف الصالحين في تقدير عقولنا التي أنهكتها هذه البِيئة الفاسدة، وهذا المجتمعُ الذي كلُّ شيء فيه يدعوك إلى الكسل والخمول ومعصية الله، وهذه واحدة من تلك الحكايا: كانَ في يوم من أيام الطلب جالسًا في بيته متأمِّلاً متفكِّرًا، لا يجد من يقرأ له شيئًا من هذه الكتب المتراكمة هنا وهناك في حجرته الضيِّقة، فإذا طرْق شديد على الباب يَنتشله من شروده وتفكيره، فيستجيب لفتحه فزعًا مذعورًا ليجد بعض أصدقائه الأعزَّاء قد جاؤوا لزيارته وإنفاق الليل في صحبته، فتهلَّلت أساريره وذهب رَوعه، واستجاب قلبه لسعادة غامرة لم تكن له في الحسبان، وهو شابٌّ يحبُّ الأنسَ ومجالس السَّمرِ والسَّهر المُعطَّر بالعلم النافع ومناقشته، والأدب الجميل الذي يدعو إلى الدعابة التي لا يشوبها أذًى ولا قذًى، والتي تخرجهم إلى الأنس من العبوس، وإلى الاسترسال من القُطوب! هبطَ المساءُ سريعًا وهم متحلِّقون حول مائدة شاي مُتواضِعة يتجاذبون أطراف هذه الأحاديث الأدبية التي تشغلهم وتستبدُّ بعقولهم، فبينا هم كذلك إذ انصرفَ عنهم شيخنا مستأذنًا، فخرجَ وأخرجَ ما معه من دراهم معدودات عن طيب نفس وخفَّة روح يلتمسُ لهم بعض الأكل للعشاء، وهو من أهل القِرَى والكرم كما عرفناه، وإن لم يكن من ذوي اليسار والترف، حتَّى إذا اقتربَ من بعض هذه الحوانيت المنتشرة هنا وهناك بمدينة فاس، رآه صديق له يتاجر في الكتب، فناداه وسلَّم عليه، ثمَّ أخبره أنَّ له كتابًا جديدًا لا عهد لعينيه برؤية مثله، فقال الشَّيخ متعجِّبًا: وما ذاك؟ فقال: "في ظلال القرآن"؛ لسيد قطب في طبعة منقَّحة، فطرب لهذه المفاجأة واستسلم لفرح كاد يخرجه من إهابه انتشاءً، ونسيَ ما كان وما سيكون من أمر ضيوفه الذين ينتظرون قدومه ومعه ما يشبع بطونهم هذه الجائعة، ويُريح نفوسهم هذه المتعبة بأيام التحصيل والطلب، فدفع للكُتبيِّ كلَّ ما كان معه من مال، وأخذ الكتاب ورجع إلى بيته يتعثَّر في سعادته، ثمَّ أقبل على ضيفانه يداعبهم ويلتمس منهم العذر، وأن يتدبَّروا أمرَ عشائهم، فَفَقْدُ الكتاب كفَقْد الصَّواب، أما العشاء فلا ضير فهناك الخبز الحافي، والماء البارد الزُّلال، نأكل هنيئًا ونشرب مريئًا في ظلِّ (ظلال القرآن)! يُتبع إن شاء الله.. |
رد: أوراق من الماضي
أوراق من الماضي (3) ربيع بن المدني السملالي شيخي • ما أجمل تلك الأيام الذاهبة حين كنت أقرأ فيها على الأستاذ الشيخ أحمد حفو (شرح الآجرومية في النحو)، بقرب مسجده في تلك القرية النائية عن مدينتنا، والتي تسمى قرية أهل سابك الشرفاء، حيث الأطفال يلعبون بالكرة في مرح وسرور تحت وهج شمس ربيعية دافئة، تذكَّرت الآن تلك اللحظات فابتسمت بعمق وكأنني أنظر إلى ذلك الشيخ وهو يعبث بلحيته المسترسلة المصبوغة بالحناء، وهو يقول لي: أعرب: جاء زيد راكبًا. نصيحة • قال لي الأستاذ (أحمد حفو) في بداية تعلمي للكتابة بعدما قرأت عليه مقالةً؛ لكي ينبهني على أخطائي النحْوية والإملائية فيها إن وُجدت، ويرشدني إلى أقوم طريق حينها، وكانت تلك المقالة في الرد على امرأة ألَّفت كتابًا تسيء فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، فوجدني غضبان آسفًا، والشرر يتطاير من بين السطور كأنها حُمم نارية لا تُبقي ولا تذر، قال: يا ولدي (ربيع) أنصحك ألا تكتب شيئًا وأنت غاضب؛ لكي تكون حجتك داحضةً، وأسلوبك بعيدًا عن التشنجات، ليس من أجل سواد عيون من ترُد عليهم، ولكن من أجل القرَّاء الذين ترتاح نفوسهم للكلام اللين، والحُجة القوية المبنية على كتاب الله وسنة رسوله، ولا تنسَ ما قاله المصطفى: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه))، أو كلام هذا معناه، فوالله ما نفعني الله بشيء في عالم الكتابة كما نفعني بهذه الوصية الذهبية، فقد أصبحت أقرأ كثيرًا من الهراء خلال مطالعتي، وعندما أريد الرد على أحدهم أنتظرني حتى أكون في كامل وعيي وهدوئي واتزاني؛ لكي لا يَحُول الغضب بيني وبين إنصاف غريمي. نضج • سبحان مبدل الأحوال ومقلب القلوب! قبل عشر سنوات كنت أتعصب لبعض المسائل العلمية ولا أتنازل عنها ولو بجدع الأنف، بل كنت أعتقد اعتقادًا جازمًا أنه الحق المبين الذي لا يجوز لي أن أحيد عنه قِيد أنملة! بل كان يذهب بي الغلو في كثير من المرات أن أفارق وأهجر بعض الرفاق والأصدقاء الذين كانوا يقولون بخلاف ما أعتقد! وهأنذا اليوم صرت لا أقيم لتلك المسائل وزنًا أو أدنى اهتمام كما كنت في ذلك الزمان، وكم أَسْخَر من نفسي الآن وأنا أتذكر تلك الأيام - لا سقاها الله - التي يمكن أن أسميها: أيام المراهقة العلمية. ورحم الله أبا حنيفة النعمان حين قال لتلميذه أبي يوسف بعدما رآه حريصًا على كتابة كل ما يقول: "ويحك يا أبا يوسف، لا تكتب كل ما أقول، فقد أقول القول اليوم وأرجع عنه غدًا". طفولتي • كلما قمت بجولتي المسائية، أُعرِّج على الحي الذي قضيت فيه شطرًا من طفولتي الناعمة، لأَشَمَّ عطر تلك الأيام الخوالي التي عانقت نزقي وإزعاجي، محاولاً تذكُّر أصدقائي الصغار الأشاوس الذين كانوا قليلاً من الليل ما يهدؤون، وبالنهار هم يتحلقون حول كرة مهترئة يشتركون في شرائها كل شهر! أتسلق جدران البيوت الحزينة بعينيَّ الحائرتين، متمنيًا لو أستطيع زيارة البيت الذي كانت تحتضنني جدرانه البالية مع إخوتي الأربعة! همة • ذات صباح استيقظت على صوت بائع متجول، يذرع أرض الأزقة والدروب جيئة وذَهابًا، لا يكل ولا يمل، يدفع عربته المتآكلة ببطء، يطلق لحنجرته حرية الإعلان عن بضاعته المتميزة التي لا تشبهها بضاعة! دفعني الفضول لأطل عليه من نافذة غرفتي التي ترزح تحت برد صباحي عنيف، رأيت كهلاً أشيب الرأس، وجهه الأبيض يصرخ بالنشاط والحيوية، وابتسامة العزيمة والهمة العالية لا تفارق مُحيَّاه، يمتشق محفظةً متوسطة الحجم يجمع فيها أرزاق أولاده، ونساء متحلقات حول عربته تبدو على وجوههن آثار النعمة، يثرثرن معه حول بضاعته، أقفلت النافذة وقلبي مفعم بالرضا عن هذا الرجل الذي بدا لي أنموذجًا بارزًا للصمود أمام رياح الفقر المتعجرفة. كـارثة • قبل سنوات قال لي أحدهم وهو يجادلني: إن ابن تيمية كان وهابيًّا، من الفرقة الوهابية! فقلت له: طيب، في أي سنة مات ابن تيمية؟ فحملق فيَّ بِحَيْرة وكأنني سألته عن شيء نكرٍ، ثم قال: لا أعرف. قلت: طيب، والشيخ محمد بن عبدالوهاب في أي قرن عاش؟ قال بغضب: لا أعرف ولا يهمني أن أعرف، قلت له: هدئ من روعك يا أخي، فأنت تحكم على نفسك بالجهل من حيث لا تشعر، قال: ماذا تقصد؟ قلت له: أنت تتكلم في أشياء بينك وبينها من البعد كما بين السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع، بل سامحني إن صارحتك أن قولك هذا يدل على أنك ببغاء تردد كلام غيرك دون أن تميز جيده من رديئه، فشيخ الإسلام ابن تيمية عاش في القرن السابع وتوفي سنة 728 هـ، بينما الشيخ محمد بن عبدالوهاب قد عاش بعده في أواخر القرن الثاني عشر، وتوفي سنة 1206 هـ، بمعنى أن ابن تيمية سبقه بخمسة قرون تقريبًا، فما معنى قولك: ابن تيمية كان وهابيًّا؟! فبُهت صاحبنا ولم يحر جوابًا، وكأن سلكًا كهربائيًّا مسه فأرداه قتيلاً! حوار • قال لي صاحبي وهو يحاورني ويمازحني: كفاك من السهر، فقد صرت تبالغ في ذلك، واعتزل هذه الكتب والمؤلفات التي تقبع تحت رحمتها صباح مساء، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، ومن السوار ما أحاط بالمعصم، وكُلْ جيدًا، فقد أصبحت نحيف الجسم، يابس البنية، لسان حالك: كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لولا مخاطبتي إياك لم تَرَني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فقلت له: أنا لا يهمني إلا الفكر الذي أحمله، والمضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، واللسان الذي يمكِّنني من ترجمة ما في الفؤاد، والحمد لله الذي شرفنا بالأصغرين: القلب واللسان، وفضَّلنا على سائر الحيوان بنعمتي العقل والبيان. يا خادمَ الجسم كم تشقى بخدمته https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أتَطْلُبُ الربح مما فيه خسرانُ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أقبِلْ على النفس واستكملْ فضائلها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنا لا يهمني يا صاحِ أن أتفقأ شحمًا، وأتزود لحمًا، بل أن يرزقني الله علمًا وأدبًا وفهمًا، وتقول العرب: أقلل طعامًا تحمد منامًا، وكانت تعيِّر بعضها بكثرة الأكل، قال شاعرهم: لست بأكَّال كأكل العبد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولا بنوَّام كنوم الفهد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقال الآخر: وإنك إن أعطيت بطنك همَّه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفرجَك نالاَ منتهى الذمِّ أجمعَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فما كان من صاحبي إلا أن استل ابتسامةً طفولية جميلة قائلاً: والله لقد أوتيت جدلاً! لا أعلم! • لا أعلم متى وكيف ولمَ! فقط أعلم أن قلبي دق بعنف، في تلك الساعة الخارجة عن سيطرة إحساسي بالزمان والمكان، وهي تنظر إليَّ ببراءة الأطفال، وعفوية الرسوم المتحركة، يملؤها الخجل، وتداعب وجنتَيْها أشعة الشمس الربيعية، إذ كنا نتبادل النظرات تحت قبة السماء الصافية، هذه النظرات الشرعية التي ستكون فيما بعد سببًا في العيش تحت سقف واحد، وتكون ثمارها ثلاث ثمار يانعة: عبدالرحمن، هند، أسامة. هند • ابنتي هند تدمن النظر في كتبها، وتحب الكتابة والرسم، وتروم مجالستي دومًا في غرفة المكتبة، تلوذ بصمت عجيب كصمت الحكماء، سواء معي أو مع غيري من أهل الدار، أراها تُحسِن فن الإصغاء وهي في هذه السن (ست سنوات)، وأقرأ في عينيها ذكاءً حادًّا لا أجده عند أخيها عبدالرحمن الذي يكبرها بأربع سنوات، ولا عند أحد من أبناء وبنات العائلة، أسألها بين الفينة والأخرى: ماذا ستكونين في مستقبل الأيام يا هند؟ فتقول لي بعدما تطرق حياءً: طبيبة! فأعلق عليها مداعبًا: قل للطبيب تخطفتْه يد الردى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مَن يا طبيبُ بطِبِّه أرداكا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلا تجد جوابًا إلا ابتسامة رائعة تنطلق من وجهها، الذي يوزِّع الفرح والسرور على أعماقي وقلبي الذي يحبها حبًّا لو قُسِّمَ على أهل الأرض لَوَسِعَهم، ولوضع حدًّا ونهاية لهذه الحروب البشرية الوحشية التي تكتسح العالم! يتبع إن شاء الله. |
الساعة الآن : 08:20 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour