![ملتقى الشفاء الإسلامي]() |
|
ابوالوليد المسلم |
05-11-2020 11:22 PM |
نحن نقص عليك نبأهم بالحق
نحن نقص عليك نبأهم بالحق
علي بن عبد الله العماري
في إحدى المجلات الأدبيَّة كَتَبَ أحدُ الكتَّاب مقالاً عنوانه: (مصادر القصص القرآني) وقد خلص الكاتب من حديثه إلى أمرين:
الأول: أنَّ التوراة والإنجيل لم تكونا من مصادر القصص القرآني.
الثاني: أنَّ القرآن استغلَّ ما في وجدان الغرب من ثقافة كوَّنتها البيئة والحكايات، والخرافات، فصوَّر قصصه تصويراً فنياً رائعاً، واتخذ من شخصيات أسطوريَّة مشهورة شائعة بين الغرب، ومن عقائد خيالية في أذهانهم وسيلة لبثِّ المبادئ والأهداف.
وتحقيقاً لهذا (الكشف) العظيم أنكر الكاتب أن يكون حديث سيدنا يعقوب مع بنيه حين حضره الموت حقيقةً وقعت بحذافيرها، وأنكر الحوار الذي وقع بين سيدنا عيسى والحواريين، حين قالوا له: إنَّا مسلمون، كما أنكر أنَّ إبراهيم وإسماعيل قد بنيا الكعبة، وتفضَّل فأنكر وجود الجن، كما أنكر قصة الهدهد مع سيدنا سليمان، ومع أنَّ الفكرة التي صدر عنها الكتاب امتداد أو تجديد لرأي قديم طلع به على الناس يوماً ما طالب من طلاب الجامعة المصرية، ومع أنَّه رأي مُستورد من الخارج وقد لقي ما لقي من تصويب وردٍّ إلى الجادَّة منذ عهد غير بعيد، مع كل هذا رأيت ألا يمرَّ هذا الاجتراءُ على كتاب الله دون وقفة مع هذا الكاتب، حتى يستبين الطريق إن كان يبحث عن الحق، أو يخجل من نفسه، ويحطِّم قلمه إن كان يقول بغير علم.
غفلة الكاتب الكبرى أنَّه اغترَّ بمعلوماته الضحلة في اللغة، ولم يحمِّلْ نفسَه أيَّ عناء في الرجوع إلى معجم من المعاجم، أو إلى كتاب من كتب التفسير، ولو فعل لانهار الدليل الأول، والأوحد الذي اعتمد عليه في إنكار ما أنكر. فسيدنا يعقوب لم يسأل بنيه عند موته: ما تعبدون من بعدي؟ وبنوه لم يجيبوه: نعبد إلهك، وإله آباءك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون، والكاتب يشك أن يكون هذا الموقف قد حدث بقضِّه وقضيضه، لماذا؟ لأنَّ الإسلام لم يكن قد ظهر أيام إبراهيم وأبنائه حتى يوصي به الآباء والأبناء، وعيسى بن مريم لم يسأل الحواريين: من أنصاري إلى الله؟ والحواريون لم يجيبوه: نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون، وإنما وجد القرآن أنَّ هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قد دارت أحاديثه على ألسنة العرب، وذكر أمية بن أبي الصلت قصته في شعره فلم لا يلجأ القرآن إلى وسيلة أدبيَّة رائعة فيحمل عيسى هذا مبادئ الدعوة الإسلامية؟!
وإذا سألت الكاتب لماذا كل هذا الخبط والخلط؟ أجابك: بأنَّ الإسلام لم يكن ظهر في عهد عيسى، فلا معنى لأن يقول الحواريون: إنَّا مسلمون، على الحقيقة. وهكذا فعل الكاتب في كل ما أنكر. فلو أنَّ الكاتب عرف عن كتب التفسير: أو عن الكتب اللغة: أو حتى عن صغار الطلاب في الأزهر أنَّ الإسلام له معنى عام: هو الانقياد والخضوع إلى الله، وله معنى خاص: هو هذا الدين الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولو أن الكاتب قرآ في قوله تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ) (آل عمران:83).
مجرد قراءة. ولو أنه عرف أنَّ أصول الأديان كلها واحدة، وأول هذه الأصول الخضوع لله وإسلام الوجوه له، كما يدلُّ عليه قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشُّورى:13).
ولو أنَّه –قبل وبعد– اهتدى إلى هذه الآية من كتاب الله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) (آل عمران:67).
لو عرف الكاتب ما المراد بكلمة الإسلام في كل النصوص التي أوردها لاستحيا أن يخطَّ حرفاً واحداً من مقاله. وقد خصَّ الكاتبُ (الجنَّ) بفيض من علمه الغزير، فالعربي عاش في صحراء رهيبة، فاعتقد أنَّ هناك (جناً) تملأ هذه الصحراء، لأن الإنسان –كما نقل عن المسعودي– إذا سار في إلهامه داخلته الظنون الكاذبة، والأوهام الفاسدة ولذلك –كما قال– كان جزءاً من ثقافة العرب أدخل في الأساطير، ومن ذلك الهواتف و(الجن) والقرآن كما قال أيضاً، قد تحايل مع وجدان العرب فكان إعجازه منه أن يحَمِّل شخصية (جنيَّة) بعض مبادئ الدعوة فتخيَّل نفراً من (الجن) وأجرى على ألسنتهم حديثاً إسلامياً تضمنته سورة الجن، و(النَّظَّام) من المعتزلة أنكر وجود الجن، و(محمد عبده) يفسر الجن بالميكروبات الخفيَّة، ولكن بالرغم من كل ذلك لا يستطيع هؤلاء أن ينكروا أثر سورة الجن، وقدرتها على جذب أفئدة العرب، هذا كلامه، ولا ينسى الكاتب أن يبرز دليله في هذا الموضوع أيضاً فيذكر ما جاء على لسان الجن في سورتهم: (وَأَنَّا مِنَّا المُسْلِمُونَ) (الجنّ:14) ويكتبها بطريقة توضحها وتميزها عن بقية الكلام حتى يلفت الأنظار إلى أنَّها السر، في موقفه من هؤلاء الجنِّ الذين ألغى وُجودَهم بجرَّةِ قلم، وليقل ما شاء، وليفهم الكاتب في كلام الشيخ محمد عبده ما يُوافق هواه فالجنُّ خلقٌ من خلق الله، وأنوفُ الجاهلين والمعاندين راغمة، وإذا كان الكاتب لا يحفظُ القرآن الكريم، ولم يكلِّفْ نفسَه الرجوع إلى المصحف فإني أضع تحت عينيه –لا قلبه– بعض الآيات الواضحة الصريحة التي لا تحتمل تأويلاً، ومن ذلك قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (الأنعام:130) وقوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الأحقاف:29-31) صدق الله العظيم.
وكل من يشدو شيئاً من العربية يفهم من هذه الآيات وما ماثلها أنَّ الجنَّ موجودون، -إن كان يعتقد بأنَّ الله صادق في حديثه– ومهما أغرب في تطلب المجازات والاستعارات فلن يسعفَه خيالُه لأن يتوهَّم أنَّ هذا مجرد تحايل أدبي، وهل يناديهم القرآن، ويوبخهم على كفرهم وهل يجيبون بما أجابوا به وهم مجرد خيال؟ وما وجه الامتنان على النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ الله أمال إليه نفراً من الجن واستعموا قرآنه، وآمنوا به إذا كان ذلك مجرد خيال؟! وإذا كان (النَّظَّامُ) أنكرَ وجودَ الجن، أو هكذا نُسب إليه فإنَّ آلافاً من كبار علماء المسلمين منذ أنزل القرآن الكريم إلى اليوم لا يُداخلهم أي ريب في وجود الجنِّ ولم يُعرف في القديم أنَّ أحداً أنكر وجودهم غير الزنادقة.
وعلماء المسلمين الفقهاء لكتاب الله، والعارفون بسنَّة نبيه لم يختلفوا في وجودهم، وإنما وقع بينهم بعض الخلاف في تكليفهم. قال الإمام الرازي في تفسيره –وهو من أكثر المفسرين تحرراً–: "أطبق الكل على أنَّ الجن مُكلَّفون، وأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل إليهم، والقول بتبعيَّتهم في التكليف للإنس لا دليل عليه" وهدهدُ سليمان عليه السلام له أيضاً مع الكتاب قصة، خلاصتها أنَّ القرآن استغلَّ معرفة العرب بالهدهد وما حيك حوله من أساطير جاهلية فجعله ينطق بمبادئ إسلاميَّة، والدليل على ذلك –عنده– هو الدليل، ذلك أنَّ الكتاب الذي جاء به الهدهد استفتح –على حدِّ تعبيره– ببسم الله الرحمن الرحيم، وجاء فيه: (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل:31) وهذه البسملة استفتحت بها السور القرآنية التي نزلت بعد سليمان بقرون؟! وهو –كعادته– قد جهل أو تجاهل ما جاء في القرآن الكريم من فضل الله على سيدنا سليمان -عليه السلام-، وأنَّه وهبه مُلكاً لم يهبه لأحد، ومن ذلك أنه سخَّرَ له الشياطين، وعلَّمه منطق الطير: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل:16-19).
والله سبحانه يقول في شأن لقمان: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ) (لقمان:12).
ولكن الكاتب يؤكد أن لقمان هذا لا وجود له، بل هو شخصية أسطوريَّة حاك العرب حولها الحكايات، فاستغلَّ القرآن ذلك وأنطقه بالوصايا والحكم، فالله سبحانه قد أعطى الحكمة لشخص أسطوري –كما يزعم الكاتب-، ولعل الخَطْب في لقمان أهون من الخطب في إبراهيم وإسماعيل، فالكاتب يرى أنَّ الحنفاء من العرب أشاعوا فكرتهم عن بناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة، فوجد القرآن في هذا موقفاً خصباً –هكذا موقفاً خصباً– فأخذ تلك الفكرة، وكسب أنصارها إلى صَفِّه! ثم أوحى إليهم بمبادئ دعوته، فقال: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (129) البقرة).
وليرجع بنا التاريخ إلى أوائل هذا القرن حين كتب كاتب أن للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وعن إسماعيل، ولكن التاريخ لا يعترف بهما –أو كما قال- يا هذا! إنَّ آيات القرآن واضحاتٌ، لا لبسَ فيها، ولا غموض، وإنك وكثير من أمثالك ترهبون أن تقولوا كلمة واحدة في أي كتاب آخر من الكتب التي أنزل الله أصولها، فما خطب القرآن عندكم يا هؤلاء؟! شيئاً من الحياء، ولا أختمُ هذا الحديث دون أن أشير إلى توبيخ وجَّهه الكاتب إلى مُشركي مكة حين اقتصروا على وصف القرآن بأنَّه أساطير الأولين، فقد كانوا قصيري النظر حين اقتصروا على ذلك، ولو أنَّه كان في مكة إبَّان الدعوة لأرشد صناديد قريش إلى ألا يَقتصروا على هذا الوصف، وإلى أن ينتبهوا –مع ذلك– إلى تحايل القرآن واغتنامه المواقف الخصبة واستغلاله للشخصيَّات الأسطورية، وإلى أنَّه في سورة الكهف في قصة موسى والعبد الصادق (يدق) -وهذه كلمته- على نغمةٍ خاصَّةٍ! ولكن من الإنصاف للكاتب أنَّه في كل وقفة من وقفاته لم يفته أن يعتبر صنيع القرآن هذا لوناً من الإعجاز، وكما يقول: الإعجاز الفني الخالد، والإعجاز الناشئ من العلاقة الوشيجة بين الكلمة والمتلقي، ولا غرو، أليس الله أديباً بارعاً يحثُّ على المواقف الخصبة؟!
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
|
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour
[حجم الصفحة الأصلي: 14.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 14.24 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.65%)]