دعوة إلى تهذيب النفس
دعوة إلى تهذيب النفس مصطفى قاسم عباس إن أمر النفس البشرية لعجيب، جُد عجيب، والله -سبحانه وتعالى- هو الذي خلق النفس وسوَّاها، وألهَمهما فجورها وتَقواها، فالذي يزكي نفسه كان من الفائزين، والذي يُدسِّيها فهو من الخائبين. وهذه النفس إذا لم يكبح صاحبها جِماحها، فإنها تسير به في مهاوي الضلال، وتزجُّ به في أوحال الرَّدَى، فتُبقيه أسيرًا عندها، متبعًا لشهواته وهواه، وغارقًا في بحار العصيان، ودائمًا تسوِّل له بأنه لا يزال على الشاطئ. والنفس تزيِّن لصاحبها القبيح، فيراه جميلاً، وقد تشوِّه له الجميل، فيراه قبيحًا، وعلى كلٍّ، فعندما يرتكب الإنسان أمرًا خاطئًا، وجريرة عُظمى، فإنه بعد ذلك لا بد أن يعود إلى رشده، وعندما يعود إلى رشده، فإنه يخاطب نفسه قائلاً: ليتني لم أفعل كذا، وليتني لم أقم بكذا، ويكرِّر ما قاله السامري في سورة طه: ﴿ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 96]. والنفس عيوبها كثيرة، فعلى المرء دائمًا أن يصلح هذه العيوب، وصلاحها يكون بالتزكية، والتحلي بالأخلاق الحميدة. ومن عيوب النفس: إعجاب المرء بنفسه؛ حيث يظن المرء أنه أفضل من الجميع، فيتكبَّر على الآخرين، ويمشي الخيلاء، مُصعِّرًا خدَّه للناس، ومعجبًا بنفسه، ويظل سادرًا وهو لا يدري أنه يمضي في طريق الهلاك؛ لأن الإعجاب بالنفس إحدى المهلكات الثلاث، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المهلِكات ثلاث: إعجاب المرء بنفسه، وشحٌّ مطاع، وهوًى متَّبع))؛ رواه البزار. ومن عيوب النفس: أنها قد تكون حريصة كل الحرص على جمْع المال، والإكثار منه، وربما لا يبالي صاحبها أمِن حلال جمع ماله أم من حرام؟! فعلى الإنسان أن يروِّض نفسه بالقناعة؛ لأن الحرص هو الفقر الحقيقي، والقناعة هي الغنى الحقيقي، وذلك كما قال عمرو بن مالك الحارثي في "نهاية الأرب في فنون الأدب": الحرص للنفس فقرٌ والقنوع غنى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والقوتُ - إن قنعتْ بالقوت - يُجزيها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والنفس لو أنَّ ما في الأرض حِيز لها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما كان - إن هي لم تَقنع - بكافيها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكما تعوِّد نفسك فإنها تعتاد، فإذا رغَّبتها رغبت، وإذا ردَدتها إلى القليل قنَعت، كما قال أبو ذؤيب الهُذَلي: والنفس راغبةٌ إذا رغَّبتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تَقنعُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهناك تشبيه قريب من هذا المعنى للشاعر البوصيري في ميميَّته المشهورة؛ حيث يقول: والنفسُ كالطفلِ إن تُهمله شبَّ على https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حبِّ الرَّضاعِ وإن تَفطمه يَنفطمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كما يحثُّ البوصيري في القصيدة ذاتها على مخالفة النفس، وعصيان الشيطان، حتى وإن تظاهرا بإخلاص النصح لك، وقدَّما لك صافي المحبة والوداد، فيقول ناصحًا: وخالفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإن هما محَّضاك النصحَ فاتَّهمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فعلى الإنسان إذًا أن يصون نفسه عن كل ما يُدنسها، وأن يرتفع بها إلى قِمم الفضائل والمزايا، وكلنا نحفظ البيت المشهور من سينية البحتري الذي يقول فيه: صنتُ نفسي عما يُدنِّس نفسي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وترفَّعت عن جَدا كلِّ جِبسِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والنفس البشرية قد لا تقبل النصح، وكثيرًا ما تماطل في اتباع الحق، وكثيرًا ما تسوِّف، وما أروعَ ما قاله موسى بن عمران المارتلي في أبيات تصوِّر حالة الإنسان مع نفسه، وكيف تُحدثه نفسه بطول البقاء، مع أن منادي الموت في كل يوم يناديه، فنراه يقول - كما في كتاب "المغرب في حُلى المغرب" -: إلى كم أقولُ ولا أفعلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكم ذا أحومُ ولا أنزلُ! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأزجرُ عيني فلا تَرْعَوِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأنصح نفسي فلا تَقبَلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكم ذا تُعلِّل لي ويحَها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بعلَّ وسوف وكم تمطلُ! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وعلينا ألا ننسى أن هناك بعض النفوس الكبيرة، والتي ولعِظَم هِمَّتها، وعُلوها، وسُموها، فإنها كثيرًا ما تُتعِب صاحبها، ولله درُّ المتنبي عندما قال: وإذا كانت النفوس كبارًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تَعِبت في مرادِها الأجسامُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والحديث عن النفس وأنواعها يطول ويطول، ولكنها إحدى ثلاث: النفس المطمئنة، والنفس اللوَّامة، والنفس الأمَّارة بالسوء. وعلى المرء منا أن يخاطب نفسه، وأن يَهمس في سرِّها بين الفَينة والأخرى: كفى يا نفسُ ما كانا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كفاك هوًى وعِصيانا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif خطوت خُطاك مخطئةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فسرت الدربَ حَيرانا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ونختم بالدعاء الذي رواه الإمام مسلم، والذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو به كثيرًا، فيقول: ((اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها, أنت وليُّها ومولاها)). |
الساعة الآن : 02:13 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour