ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الشباب المسلم (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=94)
-   -   ابنُ عباس ينادي طلاب العلم (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=229002)

ابوالوليد المسلم 11-03-2020 02:53 AM

ابنُ عباس ينادي طلاب العلم
 
ابنُ عباس ينادي طلاب العلم 1/ 3

من منا لم يسمع بالحَبر البحر عبدالله بن العباس، ابنِ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الهاشمي، القرشي، المولود قبل الهجرة بثلاث سنين، المتوفى سنة ثمان وستين (68 هـ)؟
لقد كان ابنُ عباسٍ مدرسةً في العلمِ والعملِ، وسيرته في بدايات طلب العلم ونهاياته تنادي بلسان حالها ومقالها طلابَ العلم ليستفيدوا منها في حياتهم العلمية.
ومن الحسن - ونحن في بداية العام الدراسي - أن تبرز هذه القدوة العلمية للنشء، والتي أثْرَتْ الأُمةَ وأثّرت فيها، منذ بدأ في بثّ العلم إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لم تكن صحبةُ ابن عباس للنبي صلى الله عليه وسلم طويلة، بل كانت قريباً من ثلاثين شهراً، أي نحواً من سنتين ونصف، وكان عمره حين مات صلى الله عليه وسلم قرابة ثلاث عشرة سنة - كما هو المشهور عند كثير من أهل العلم - لكن الحياة لا تقاس بطول السنوات، بل بقدر العطاء والبذل، وحُسْنِ الأثر.
إن المتأمل في سيرة ابن عباس العلمية؛ سيجد أنها تميزت بمزايا كوّنت منه شخصيةً علميةً فذّة، ومن ذلك:
أولاً: حرصُه على الطلب مبكراً، وقربُه من العلماء، وعلى رأسهم نبيه ومعلِّمه الأول صلى الله عليه وسلم، فقد حدّث ابنُ عباس قائلاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعتُ له وضوءاً، فقال: "من وضع هذا؟" فأُخبر، فقال: "اللهم فقهه في الدين"([1]).
هذا الحرص على القرب من النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقي العلم من مصدره؛ لفتَ نظر مَن حوله، خاصةً والديه، فقررا بعثه - وهو الغلام الصغير - لينهل من علمه صلى الله عليه وسلم في أمورٍ قد لا يطّلع عليها إلا خاصة أهله.
فلما كانت ليلةَ خالتِه ميمونة - أم المؤمنين رضي الله عنها - أرسله والداه ليبيت هناك، وليقتبس من العلم النبوي مباشرة وبلا واسطة.
ولن تجد أحسن من أن تستمع لابن عباس نفسه وهو يحدثك عن تلك الليلة التي لا ينساها في حياته، حيث يقول: "بِتّ ليلةً عند خالتي ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، فأتى حاجتَه، ثم غسل وجهَه ويديه، ثم نام، ثم قام فأتى القِربة، فأطلق شناقها([2])، ثم توضأ وضوءا بين الوضوءين([3])، ولم يُكثِر، وقد أبلغ، ثم قام فصلى، فقمت، فتمطيت كراهية أن يَرى أني كنت أنتبه له، فتوضأت، فقام فصلى، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني عن يمينه، فتتامتْ صلاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى، ولم يتوضأ، وكان في دعائه: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وعظم لي نوراً»([4]).
هذا وصفٌ حدّث به ابن عباس - بعد سنوات من هذه القصة التي وعاها وحفظها -، ومن عادة الصبي في مثل هذا السن أنه تغلبه عيناه، ولا يفيق إلا إن أوقظ أو استكمل حاجته من النوم! لكنه لم يفعل، بل نقل لنا صفة قيام النبي صلى الله عليه وسلم لليل، بهذا التفصيل الدقيق الذي يعزُّ نظيره.
إن حرص والدَي ابن عباس لم يكن كافياً لصناعة طالب علمٍ يعي ويفهم، بل قارَنَ ذلك حرصٌ من ابن عباس نفسه.
ويمتد هذا الحرص على العلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ليأخذ منحى آخر، يوضّحه ما يلي:
ثانياً: لم تفتر همةُ ابن عباس - وهو المفجوع بوفاة معلمه الأول صلى الله عليه وسلم - بل رأى في ذلك ما يحفز همتَه للتلقي عن أكابر أصحابه، الذين لازموه ونهلوا من معينه، وعرفوا من سنته ما لم يعرفه غيرهم.
وها هو ابنُ عباسٍ يصوّر لنا هذا الحرص من خلال هذا الموقف الذي وقع له مع شابٍ من شباب الأنصار، فيقول: «لما توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار: يا فلان! هلمّ فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير! فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مَن ترى؟ فتركت ذلك، وأقبلتُ على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريحُ على وجهي التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله! ما جاء بك؟ ألا أرسلتَ إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث». قال: «فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناسُ علَي، فقال: «كان هذا الفتى أعقل مني» ([5]).
سترى - يا طالب العلم - في طريقك ألواناً من العقبات، منها: كسالى الطلبة، الذين يثبطون ويخذّلون من حيث لا يشعرون، وسيقولون لك: أتظن أن الناس بحاجة لعلمك وفي الناس فلانٌ وفلانٌ من العلماء؟! فدعهم - كما فعل ابن عباس - وامض لطريقك، فيوشك أن تطول بك وبه حياة، حتى يقول - بلسان حاله أو مقاله -: هذا الفتى أعقل مني! وربما جلس عندك طالباً يتعلم منك.
وللحديث صلةٌ إن شاء الله.


ـــــــــــــــ ــــ
([1]) البخاري ح(143).
([2]) قال النووي: "الشناق: هو الخيط الذي تربط به في الوتد، قاله أبو عبيدة، وقيل: الوكاء".
([3]) أي: وضوءاً خفيفاً.
([4]) مسلم ح(763) .
([5]) سنن الدارمي، رقم(590) .

منقول



ابوالوليد المسلم 11-03-2020 02:53 AM

رد: ابنُ عباس ينادي طلاب العلم
 
ابنُ عباس ينادي طلاب العلم 1/ 3

من منا لم يسمع بالحَبر البحر عبدالله بن العباس، ابنِ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الهاشمي، القرشي، المولود قبل الهجرة بثلاث سنين، المتوفى سنة ثمان وستين (68 هـ)؟
لقد كان ابنُ عباسٍ مدرسةً في العلمِ والعملِ، وسيرته في بدايات طلب العلم ونهاياته تنادي بلسان حالها ومقالها طلابَ العلم ليستفيدوا منها في حياتهم العلمية.
ومن الحسن - ونحن في بداية العام الدراسي - أن تبرز هذه القدوة العلمية للنشء، والتي أثْرَتْ الأُمةَ وأثّرت فيها، منذ بدأ في بثّ العلم إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لم تكن صحبةُ ابن عباس للنبي صلى الله عليه وسلم طويلة، بل كانت قريباً من ثلاثين شهراً، أي نحواً من سنتين ونصف، وكان عمره حين مات صلى الله عليه وسلم قرابة ثلاث عشرة سنة - كما هو المشهور عند كثير من أهل العلم - لكن الحياة لا تقاس بطول السنوات، بل بقدر العطاء والبذل، وحُسْنِ الأثر.
إن المتأمل في سيرة ابن عباس العلمية؛ سيجد أنها تميزت بمزايا كوّنت منه شخصيةً علميةً فذّة، ومن ذلك:
أولاً: حرصُه على الطلب مبكراً، وقربُه من العلماء، وعلى رأسهم نبيه ومعلِّمه الأول صلى الله عليه وسلم، فقد حدّث ابنُ عباس قائلاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعتُ له وضوءاً، فقال: "من وضع هذا؟" فأُخبر، فقال: "اللهم فقهه في الدين"([1]).
هذا الحرص على القرب من النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقي العلم من مصدره؛ لفتَ نظر مَن حوله، خاصةً والديه، فقررا بعثه - وهو الغلام الصغير - لينهل من علمه صلى الله عليه وسلم في أمورٍ قد لا يطّلع عليها إلا خاصة أهله.
فلما كانت ليلةَ خالتِه ميمونة - أم المؤمنين رضي الله عنها - أرسله والداه ليبيت هناك، وليقتبس من العلم النبوي مباشرة وبلا واسطة.
ولن تجد أحسن من أن تستمع لابن عباس نفسه وهو يحدثك عن تلك الليلة التي لا ينساها في حياته، حيث يقول: "بِتّ ليلةً عند خالتي ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، فأتى حاجتَه، ثم غسل وجهَه ويديه، ثم نام، ثم قام فأتى القِربة، فأطلق شناقها([2])، ثم توضأ وضوءا بين الوضوءين([3])، ولم يُكثِر، وقد أبلغ، ثم قام فصلى، فقمت، فتمطيت كراهية أن يَرى أني كنت أنتبه له، فتوضأت، فقام فصلى، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني عن يمينه، فتتامتْ صلاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى، ولم يتوضأ، وكان في دعائه: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وعظم لي نوراً»([4]).
هذا وصفٌ حدّث به ابن عباس - بعد سنوات من هذه القصة التي وعاها وحفظها -، ومن عادة الصبي في مثل هذا السن أنه تغلبه عيناه، ولا يفيق إلا إن أوقظ أو استكمل حاجته من النوم! لكنه لم يفعل، بل نقل لنا صفة قيام النبي صلى الله عليه وسلم لليل، بهذا التفصيل الدقيق الذي يعزُّ نظيره.
إن حرص والدَي ابن عباس لم يكن كافياً لصناعة طالب علمٍ يعي ويفهم، بل قارَنَ ذلك حرصٌ من ابن عباس نفسه.
ويمتد هذا الحرص على العلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ليأخذ منحى آخر، يوضّحه ما يلي:
ثانياً: لم تفتر همةُ ابن عباس - وهو المفجوع بوفاة معلمه الأول صلى الله عليه وسلم - بل رأى في ذلك ما يحفز همتَه للتلقي عن أكابر أصحابه، الذين لازموه ونهلوا من معينه، وعرفوا من سنته ما لم يعرفه غيرهم.
وها هو ابنُ عباسٍ يصوّر لنا هذا الحرص من خلال هذا الموقف الذي وقع له مع شابٍ من شباب الأنصار، فيقول: «لما توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار: يا فلان! هلمّ فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير! فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مَن ترى؟ فتركت ذلك، وأقبلتُ على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريحُ على وجهي التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله! ما جاء بك؟ ألا أرسلتَ إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث». قال: «فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناسُ علَي، فقال: «كان هذا الفتى أعقل مني» ([5]).
سترى - يا طالب العلم - في طريقك ألواناً من العقبات، منها: كسالى الطلبة، الذين يثبطون ويخذّلون من حيث لا يشعرون، وسيقولون لك: أتظن أن الناس بحاجة لعلمك وفي الناس فلانٌ وفلانٌ من العلماء؟! فدعهم - كما فعل ابن عباس - وامض لطريقك، فيوشك أن تطول بك وبه حياة، حتى يقول - بلسان حاله أو مقاله -: هذا الفتى أعقل مني! وربما جلس عندك طالباً يتعلم منك.
وللحديث صلةٌ إن شاء الله.


ـــــــــــــــ ــــ
([1]) البخاري ح(143).
([2]) قال النووي: "الشناق: هو الخيط الذي تربط به في الوتد، قاله أبو عبيدة، وقيل: الوكاء".
([3]) أي: وضوءاً خفيفاً.
([4]) مسلم ح(763) .
([5]) سنن الدارمي، رقم(590) .



ابوالوليد المسلم 11-03-2020 02:54 AM

رد: ابنُ عباس ينادي طلاب العلم
 
ابنُ عباس ينادي طلاب العلم 3/ 3
للدكتور/ عمر بن عبد الله المقبل




أشرت في الجزء الثاني إلى بعض معالم التميز في شخصية ابن عباس، وذكرتُ هناك معلمين بارزين في هذه الشخصية:

ـ اهتبالُه الفرصَ واغتنامه إياها بالقرب من العلماء متى ما لاحت له فرصة.
ـ حرصه على استدراك ما فاته من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماعه ممن سمعه منه.

وفي هذا الجزء نختم بالإشارة إلى مَعْلَمين من معالم التميز في حياة هذا الحبر الجليل العلمية، وهما:
خامساً: حرصه - الذي أشرتُ إليه - على جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لم يكن ليشغله عن الأصل الأكبر والأول، وهو القرآن الكريم: حفظاً، وفهماً، وتدبراً، وعملاً.

وقد سبق لنا - في المقالة السابقة - أنه بقي سنةً كاملة يتحين فرصةً ليسأل أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- عن آية في كتاب الله تعالى!

وها هو ابن عباس يحكي لنا موقفاً عاتب فيه أكابرُ قريش عمرَ - رضي الله عنه - على إدخال ابن عباس معهم، وعدم إدخال أقرانه من أبنائهم! فقال لهم عمر: «إنه ممن قد علمتم» قال ابن عباس: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ـ وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ـ فقال: ما تقولون في: ï´؟إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا...ï´¾[النصر: 1، 2] حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري! أو لم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس! أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له ï´؟إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُï´¾ فتح مكة، فذاك علامة أجلك: (فسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًاï´¾[النصر: 3] قال عمر: «ما أعلم منها إلا ما تعلم»([1]).

وقد كان عمُرُ ابن عباس يومها لا يتجاوز خمساً وعشرين سنةً! وأوتي هذا الفهم العميق، الذي كان من أسبابه: الجدّ والحرص على تفهّم معاني كلام الله تعالى وتدبره.

ومن آثار تعلُّقه بالقرآن مِن صغره: أنه أرّخ مناسبة عزيزةً عليه: وهي حفظ المفصّل، ويقال له: المُحكم، فقال - كما في البخاري من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما -: «جمعتُ المحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فقلت له: وما المحكم؟ قال: «المفصَّل»([2]).

هذا التعلق العظيم بالقرآن -فهماً وتدبراً- لم يكن بمعزلٍ عن العمل به؛ يوضّح ذلك ما رواه ابنُ أبي مليكة، قال: صحبتُ ابنَ عباس مِن مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة, فكان إذا نزل منزلاً قام شطر الليل فأكثر في ذلك النشيج, قلت: وما النشيج؟ قال: النحيب البكاء, ويقرأ: ï´؟وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيدï´¾[ق: 19]([3]).

فتأمل كم أثّر هذا الموقف في ابن أبي مليكة! وكم يربي العلماءُ العاملون في نفوس تلاميذهم بأمثال هذه المواقف ما لا تصنعه بهم عشرات الكلمات والخطب!

وهذا من توفيق الله لطالب العلم؛ أن يُرزق بعالم عامل، كما رزق الله ابنَ عباس بسيد العلماء العاملين صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وكما رزق ابن أبي مليكة بابن عباس رضي الله عنهما.

والمقصود، أن على طالب العلم - مهما كان ميله لفنٍّ من الفنون - أن يعتني بكتاب الله عز وجلّ، تلاوةً وفهماً وتدبراً وعملاً به، وأن انهماكه في علم من علوم الشريعة فضلاً عما سواها من العلوم؛ لا يعفيه من الاهتمام بالقرآن، فهو الكتاب الذي يتجاوز كلّ التخصصات.

لقد وجدتُ في تراجم الأئمة الذين نفع الله بهم الأمة، وصاروا محل القبول؛ اشتراكاً في الاهتمام بالقرآن، على تفاوت درجاتهم، لكنك لن تجد من هؤلاء الأئمة من ليس له ورد أو حزبٌ من القرآن.

إن مما يُحزن الإنسان أن تكون علاقة طالب العلم بالقرآن - كما حدثني أحدهم - من رمضان إلى رمضان!! فما الفرق بينه وبين العامة؟ بل بعض العامة خيرٌ منه.

إن توثيق الصلة بكتاب الله حقٌ على كل مسلم، وهو في حق من أوتي شيئاً من العلم آكد وأوجب، فهو كلام الله وكفى! فيه الشفاء والنور، وهو مصدر التشريع الأول، إلى غير ذلك من الدواعي التي تحتم على المسلم العناية به، بل إن العلم الذي يؤتاه الطالب يحض أصلاً على توثيق الصلة بالقرآن، ولا بركة للعلم إلا بالعمل.

سادساً: ذكر المزي في ترجمة ابن عباس من "تهذيب الكمال"([4]) نحواً من مائتي نفسٍ من تلاميذه، والآخذين عنه.

وهذا العدد - بالنسبة لذلك الزمن - عددٌ كبير، وهو ثمرة صبرٍ ومصابرة على الجلوس للتعليم. هذا الصبر والجهاد بالبيان؛ أثمر عدداً كبيراً من التلاميذ الذين كتب الله لهم القبول والتأثير في الأمة بعد ذلك، كعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وأبي العالية الرياحي، وسعيد بن المسيّب، ومجاهد، والضحاك بن مزاحم، والشعبي، وعُبَيد الله بن عبدالله بن عتبة - أحد الفقهاء السبعة - وابن سيرين، وغيرهم كثير.

والمشاهد في واقعنا المعاصر، أن أكثر العلماء تأثيراً في الواقع من حيث عدد التلاميذ، هم الذين أفنوا أعمارهم في تعلم العلم وتعليمه، وهؤلاء هم ولدُ العالم من جهة العلم، ولعل بعضهم أبرُّ به من ولده لصلبه!

والمراد: أن عاقبة الصبر في التعلم أولاً ثم التعليم ثانياً؛ عظيمة الأثر، وكبيرة النفع في أمته.

سلك الله بي وبك سبيل العلماء الربانيين.

ـــــــــــــــ ــــــــ
([1]) البخاري ح(4294).
([2]) البخاري ح(5036).
([3]) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 244) رقم(35720).
([4]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (15/ 154).




الساعة الآن : 09:56 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 19.01 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.83 كيلو بايت... تم توفير 0.18 كيلو بايت...بمعدل (0.93%)]