بين الخوف والإعجاب: علاقة الشاعر بالذئب
بين الخوف والإعجاب: علاقة الشاعر بالذئب أمين محمد عبدالرحمن شكَّلَ الذئبُ مصدرَ قلَقٍ عند العرب حتى أصبح هاجسًا يُردِّدُونه في أشعارهم وجلسات أسمارهم، تلك الحكايا تراوحتْ بين خوفٍ منه من ناحية، وانبهار وإعجاب بقوة فتكه وسرعة حركته من ناحية أخرى، وهذا الانبهار تحوَّل لإعجاب بدا واضِحًا في موروثنا الأدبي، ومن ذلك قول الشنفرى: ولي دونكم أهلون سيدٌ عَمَلَّسٌ *** وأرْقَطُ زُهْلُولٌ وعَرْفاءُ جَيْأَل والشنفرى كما هو معروف هو أحد الصعاليك الذين اختاروا العيش في البراري بين السباع عن العيش بين البشر؛ لأنهم يرون أن هذه السباع فيها من الصفات الحميدة ما ليس في بني جنسهم. وقد اختار الصعاليك صُحْبة تلك الذئاب، ونقلوا لنا صورةً دقيقةً عن أوصافها، وتحركاتها، وجوانب من شخصياتها، وهذا ما سنجد من خلاله تفسيرًا لتعلُّق العربي بالذئب؛ بل إن وصف أحَدٍ ما بالذئب أصبح على سبيل المدح والإعجاب، رغم أن الذئب هدَّدَ حياةَ البشر، وسَطَا على أغنامهم، واستباح دماءهم، يقول الشنفرى عن الذئب: فلمَّا لَواهُ القُوتُ من حيث أَمَّهُ *** دعا فأجابَتْه نظائرُ نُحَّلُ وهنا يصف الشنفرى الذئب حالة جوعه بعد أن قصد القوت، وطال عليه البحث عنه دون جدوى؛ فاستنجد بالعواء فأجابته نظائر نُحَّل، وهم أشباهه من الذئاب خلقةً وجوعًا، وهنا يظهر تأثُّر الشنفرى بهذا المشهد، وما فيه من استجابة الذئاب لنداءات الاستغاثة رغم حالة الجوع التي تعتريها، وهو تصوير نلمس منه النجدة أو "الفزعة" عند الذئب. ومن صفات الذئب أنه لا يعرف الاستقرار في مكان واحد، وهذا يشابه حياة الشاعر العربي القديم وترحاله بحثًا عن منابت الأعشاب؛ يقول الشنفرى: وأغدو إلى القُوتِ الزهيد كما غدا *** أزلُّ تَهَاداه التنائف أطحلُ والتنائف جمع تنوفة، وهو الجبل الصغير، وتلك الجبال تسوق الذئاب من جبل لآخر، في رحلة لا تعرف التوقُّف، فالذئب عُرف عنه طول النفس، وتكرار المحاولات دون كَلَلٍ أو ملَلٍ، فحين يطارد فريسته يجري خلفها مسافات طويلة حتى يطيح بها، كما أنه شديد التوخِّي والحيطة؛ يقول الشاعر: ينام بإحدى مُقْلَتَيْه ويتَّقِي *** المنايا بأُخْرى فهو يقظان هاجع وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) نجد دلالة على حزم ويقظة الذئب. ووصل إعجاب العرب بالذئب أن تصوَّرُوا مشاهدَ، وزعموا صداقات صوَّرُوها في قصائدهم؛ يقول الفرزدق مخاطبًا ذئبًا دنا منه في البرية يطلب القرى: وأطلس عسَّال وما كان صاحبًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif دعوتُ بناري موهنًا فأتاني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلمَّا أتى قلتُ أدن دونك إنني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وإيَّاك في زادي لمشتركانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فبتُّ أقدُّ الزادَ بيني وبينه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif على ضوء نار مرَّةً ودُخَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقلت له لما تكشَّر ضاحِكًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقائم سيفي في يدي بمكان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تَعشَّ فإنْ عاهدتَني لا تخونني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نكنْ مثلَ مَنْ يا ذِئبُ يصطحبانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأنت امرؤٌ يا ذئبُ والغَدْرُ كنتما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أُخَيَّيْنِ كانا أُرْضِعا بِلِبانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فالفرزدق يزعم أنه استضاف ذئبًا، وتقاسم معه الزاد، وهو ممسك بالسيف خوفًا من غَدْره، وكأنه مُجبرٌ على اقتسام الطعام بينه وبين هذا الذئب الجائع. كل صور تلك الصحبة لم تكن إلا من طرف واحد؛ لأن الذئب لا يعرف الوفاء، وليس منه مأمن، فالذئب الذي ربَّتْه الأعرابية مع غنمها وهو صغير تطعمه حليب شاة عندها، لما كبر أكل تلك الشاة، تقول تلك الأعرابية عن ذلك: بَقَرْتَ شُويهتي وفجعْتَ قلبي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأنت لشاتنا ولدٌ ربيبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif غذيتَ بدرِّها وربيتَ فينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فمَنْ أنباكَ أن أباكَ ذيب ُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا كان الطباع طباع سوء ٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلا أدبٌ يفيد ولا أديبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن الخوف من الذئب أمرٌ أبدي في ذهن العرب، وهذا ما نقرؤه في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((... ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى اليمن لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه))، فالمخاوف قد تتلاشى جميعها عند الإنسان، إلا مخافة الذئب، فإنها مصدرُ أرَقٍ لا ينتهي! |
الساعة الآن : 11:07 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour