العمل والاكتساب في الإسلام
العمل والاكتساب في الإسلام د. طه فارس الإسلامُ دِين عمل وجِدٍّ ونشاط، ولا مكان للكُسالى والمُتَواكلين والخامِلين في المجتمع الإسلامي، الذي دعانا الله تعالى لبنائه على أسس قويةٍ من تقواه ورضوانه. وقد يسَّر الله تعالى أسباب العمل، فجعل النهار وقتًا للكسب وطلب المعيشَة، فقال: ﴿ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 11]، ونفى الإثم والحرج عمَّن عملَ وسَعى في طلبِ الرِّزقِ مُبتغيًا من فضله تعالى، فقال: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198]، وقال تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20]، بل وأمَرَ تعالى بالعمل والكسب عقيب الفراغ من الصلاة المفروضة[1]، وقرن بذلك ذكره، وعلَّق عليهما رجاءَ الخير والفلاح، فقـال: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]. ولكن لا بدَّ للعمل لكي يكون مقبولاً عند الله أن يكون صالحًا، سواء كان ذلك في الدِّين أو في الدُّنيا؛ لأنَّ الله لا يقبل من العمل ولا يَجزي عليه إلا إذا كان صالحًا، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾ [الكهف: 30]، وقال: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾ [الأنبياء: 94]. ولكي يكون العمل صالحًا مقبولاً عند الله تعالى، فلا بدَّ أن يتوافَرَ فيه شَرطان: الشرط الأول: الإيمان والنية الصالحة، أمَّا إذا خلا العمل عن الإيمان بالله تعالى والقصد الصحيح، فإن الله لا يقبله؛ قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 2، 3]. والشرط الثاني: ألا يخالف العملُ ما شرعه الله تعالى لعباده، وإلا فهو لونٌ من ألوان الفساد والإفساد، والله تعالى يقولُ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 81]، وقد أصَّلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم لذلك فقال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد))[2]. وقد أمَرَ الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلَّم بأن يأمُر المؤمنين بالعمل، ويُخبرهم بأن الله تعالى عالم ومطَّلع على أعمالهم الدينية والدنيوية، مما يَستدعي منهم إتقانًا لأعمالهم وإصلاحًا لها، قال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ [يونس: 61]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الله يحبُّ إذا عَمِلَ أحدُكم عملاً أن يُتقِنَه))[3]، وعن كليب الجرمي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ تعالى يحبُّ من العامل إذا عَمِلَ أن يُحْسِن))[4]. وأخبَرَنا الله تعالى عن جزاء وثواب العامِلين للصَّالحات، فذكر من جزائهم في الدنيا: أنَّهم مِن خير الناس، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة ﴾ [البينة: 7]، وأن أجرهم عند الله تعالى لا ينقطِع؛ لحسن أعمالهم ونياتهم الصالحة، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ [فصِّلت: 8]، بل إنَّ الله تعالى لا يجعَل حياتَهم ولا مماتهم كحياة وممات أولئك الذين اقترَفوا الآثام والسيئات، فقال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21]، فحياتهم ملؤها السعادة والطمأنينة والرِّضا عن الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، كما أنهم عند موتهم وفي قبورهم تُطمئنُهم الملائكة بألاَّ يحزنوا على ما خلَّفوا وراءهم، ولا يَخافوا مما هم قادمون عليه عند ربهم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 277]. وأما جزاؤهم عند الله تعالى، فجنَّاتٌ تَجري مِن تحتها الأنهار؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 82]، وزيادة مِن فضل الله تعالى ورضوانه، قال سبحانه: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 173]، وغفرانٌ للذنوب، وجزاءٌ بأحسن ما كانوا يعملون؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 7]. ولا يَخفى على أحد أنَّ العمل مِن أجل الكسب الصالح وطلب الحلال مع التَّوكُّل على الله تعالى، هو مِن دأب الأنبياء والصالحين، فقد عمِل الأنبياء والمُرسَلون عليهم السلام مع كرامتهم وعظم مكانتهم عند الله تعالى، ولم يكن ذلك لينقصَ مِن قدرهم ومنزلتهم عند الله ولا عند المؤمنين؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ [الفرقان: 20]، وما مشيُهم في الأسواق إلا دليل على عمَلِهم وسعيهم في طلب الرزق والمعيشة. وأخبَرَنا الله تعالى عن داود عليه السلام أنه كان يعمل حدادًا، فيصنَع الدروع، فقال: ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ [سبأ: 10، 11]، أمَّا نبينا صلوات الله وسلامه عليه - وهو أفضل الأنبياء وخاتم المرسلين - فرعى الغنم لأهل مكة، وأخبر بأنَّه ما من نبيٍّ إلا ورعى الغنم، فقال صلى الله عليه وسلَّم: ((ما بعَث اللهُ نَبِيًّا إِلا رَعى الغَنمَ))، فقال أصحابه: وأنتَ؟ فقال: ((نعم، كنتُ أرعاها على قراريط[5] لأهل مكَّة))[6]، كما أخبرنا صلى الله عليه وسلَّم أن زكريا عليه السلام كان يعمل نجارًا، فقال: ((كان زكرياء نجارًا))[7]. وقد وجَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم أفراد المجتمع المسلم أن يعملوا أيَّ عمل شريف مهما قلَّ شأنُه، ولا يُعرِّضوا أنفسهم لذُلِّ السؤال؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((لأن يَحتطب أحدكم حزمةً على ظهره خيرٌ له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه))[8]، وأخبر بأن أطيب الكسب والطعام ما كان من جهد الإنسان، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحد طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده))[9]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أطيبُ الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور))[10]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أطيَبَ ما أكلَ الرجلُ مِن كَسبِه، وإن ولد الرجل مِن كَسبِه))[11]. وليس في الإسلام وقت يتوقف فيه الإنسان عن العمل ليتقاعَدَ ويَخلُد إلى الراحة والدَّعة، بل يبقى العمر ميدانًا للعمل والإنتاج حتى آخر لحظة من حياة الإنسان، ولعلَّنا نَستلهِمُ ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنْ قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليفعل))[12]، فمن ذا الذي سيستفيدُ مِن تلك الفسيلة وقد قامت الساعة؟! ولكن لا ينبغي للعاملين أن يعتمدوا على جدِّهم وكسبهم، ناسين حسن التوكل والاعتماد على ربهم، فالأخذ بالأسباب لا بدَّ أن يكون مقرونًا بالاعتماد على الله تعالى، وهذا ما أفاده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله، لرزقتم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا))[13]. إن تخلُّفَ المسلمين عن ركب الحضارة في هذا العصر، وانتِشار مظاهر التكاسل والخمول والتواني في كثير من أفراد المجتمع المسلم، مع ضَعفِ إتقانهم لعمَلِهم - ما هو إلا نتاج بُعدِهم عن منهج ربهم، واتباعهم لأهوائهم، وضعف هممهم، وفساد ضمائرهم. وليس كما يقول أولئك الذين يُضمِرون العداوة للإسلام، ويتصيَّدون في الماء العَكِر، فيُحمِّلون الإسلام ومبادئه كل المصاعب والنكبات التي أصابت عالمنا الإسلامي. فليكفَّ أولئك الناعقون المنهزمون، وليستيقظ أولئك الخاملون النائمون الكُسالى من سُباتهم، ليُلحِقوا أمَّتهم بركب الحضارات، ويَنفُضوا عن كاهلها مظاهر الذل والهوان والتبعية. [1] وهذا الأمر للإباحة وليس للوجوب، ولا يخفى ذلك على أهل الاختصاص. [2] أخرجه مسلم في الأقضية برقم: 1718. [3] أخرجه أبو يعلى في مسنده 7: 349 برقم: 4386، والطبراني في الكبير 24: 306 برقم: 20797، والبيهقي في شعب الإيمان 4: 334، وذكره الهيثمي في المجمع 4: 175، وقال: رواه أبو يعلى، وفيه مصعب بن ثابت؛ وثقه ابن حبان وضعفه جماعة، وقد أشار الألباني في صحيح الجامع إلى تحسين هذا الحديث. [4] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 4: 335، وقد أشار الألباني في صحيح الجامع إلى تحسين هذا الحديث. [5] القيراط: جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عُشرِه في أكثر البلاد، وأهل الشام يجعلونه جزءًا من أربعة وعشرين؛ انظر: النهاية في غريب الحديث 7: 62. [6] أخرجه البخاري في الإجارة برقم: 2143، وابن ماجه في التجارات برقم: 2149. [7] أخرجه مسلم في الفضائل برقم: 2379. [8] أخرجه البخاري في البيوع برقم: 1968، ومسلم في الزكاة برقم: 1042. [9] أخرجه البخاري في البيوع برقم: 1966. [10] أخرجه أحمد في المسند 4: 141 برقم: 17304، والحاكم في المستدرك 2: 12 برقم: 2158 وسكَتَ عنه الذهبي، وذكره الهيثمي في المجمع 4: 102 برقم: 6212، وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله ثقات. [11] أخرجه أبو داود في البيوع برقم: 3528، والترمذي في الأحكام برقم: 1358، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في البيوع برقم: 4449، وابن ماجه في التجارات برقم: 2137. [12] أخرجه أحمد في المسنَد 3: 191 برقم: 13004، وذكره الهيثمي في المجمع 4: 108 برقم: 6236، وقال: رواه البزار ورجاله أثبات ثقات. [13] أخرجه أحمد في المسند، والترمذيُّ في الزهد برقم: 2344، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في الزهد برقم: 4164. |
الساعة الآن : 02:34 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour