العصر (شهر الله المُحرّم) والمغفرة
العصر (شهر الله المُحرّم) والمغفرة محمد الحبيب مصطفى الشايبي الخطبة الأولى " الحمدُ لله نستعينُه ونستغفرُهُ، ونعُوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، و مَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنّ مُحمّدًا عبدُهُ و رسولُهُ، أرسَلهُ بالحقّ بشيرًا ونذيرًا بينَ يدَيِ السّاعة، مَنْ يُطِعِ اللهَ ورسُولهُ فقدْ رشدَ، ومَنْ يعصِهِمَا فإنّهُ لا يضرُّ إلاّ نفسهُ، ولا يضُرُّ اللهَ شيئًا ". " أمّا بعدُ، فإنّ خيرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِّ هدْيُّ محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأُمُور مُحدثاتُها وكُلَّ مُحدثةٍ بِدعةٍ وكُلَّ بِدعةٍ ضلالةٍ " وزاد البيهيقيُّ في روايتهِ " وكُلَّ ضلالةٍ في النّار". قدْ أفْلحَ مَنْ زيَّنَ اللهُ في قلبِه القرآنَ، واصطفاهُ واختارهُ على ما سِواهُ من أحاديثِ النّاسِ، إنّ اللهَ ممَّا يخلُقُ يختارُ ويصطفِي (اللهُ يصطفي من الملائكةِ رُسُلاً ومِنَ النَّاسِ إنّ اللهَ سميعٌ بصيرٌ) (الحج 75)، عباد اللهِ، أحِبُّوا الله من كُلِّ قُلُوبِكُم وتحابُّوا برُوحِ اللهِ بينكُم، واصدُقُوا اللهَ خالِصَ ما تقُولُون بأفواهِكُم ولا تنقُضُوا الأَيْمانَ بعد توكيدِها، فإنّ اللهَ يغضبُ أن يُنكثَ عهدُهُ، و بعدُ، (يا أيُّهَا الّذينَ آمنُوا اتّقُوا اللهَ حقَّ تُقاتِه ولا تموتُنَّ إلاّ وأنتُم مُسلمون)، (يا أيُّها النّاسُ اتّقُوا ربّكُم الّذي خلقكُم من نفسٍ واحِدةٍ وخلقَ منها زوجها وبثَّ منهُما رِجالاً كثيرًا ونساءً واتّقُوا اللهَ الّذي تساءلُونَ بهِ والأرحام إنّ اللهَ كانَ عليكُم رقيبًا)، (يا أيُّهَا الّذينَ آمنُوا اتّقُوا اللهَ و قُولُوا قولاً سديدًا * يُصْلِح لكم أعمالَكُم ويغفِر لكُم ذنوبَكُم ومن يُطِعِ اللهَ ورسُولَهُ فقد فازَ فوزًا عظيمًا) (71) (الأحزاب). يقُولُ الحقُّ -- تبارك وتعالى --في مُحكمِ التّنزيل:(والعصرِ * إنّ الإنسانَ لفي خُسرٍ * إلاّ الّذين آمنُوا وعمِلُوا الصّالحات وتواصَواْ بالحقِّ وتواصواْ بالصّبر) والواوُ في هذا المقام واو القسم، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: والدّهرِ. قيل: أقسم به؛ لأن فيه عبرة للناظر، وأخبرَ الطّبراني، أنّهُ كان الرّجُلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا التقيا، لم يتفرّقا إلا على أن يقرأ أحدهُما على الآخر سورة " العصر " إلى آخِرِها، ثُمّ يُسلّمُ أحدُهُما على الآخر. وقال الشّافعيّ - رحمه الله - متحدّثًا عن عِظمِ هذه السُّورة: " لو تدبّرَ النّاسُ هذه السُّورة لوسِعتهُم "، أي لو أنزل الله من الكتاب إلاّ هذه السُّورة لأجزأتهُم، وما أقسم اللهُ بشيّءٍ إلاّ ذو بالٍ، والعصر هو الزّمن وهو الدّهر، فلبالغ أهميته كان محلّ قسم من المولى - عز وجل - في مواقع عدّة، أفلا نتذكّرُ ونتدبّر عباد الله في عِظمِ آياتِ الله. ويقولُ أيضًا: (إنّ عِدّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثنَا عشرَ شهْرًا) والمُرادُ هُنا الأشهر الهِلاليّة[1] أي القمريّة، وهي التي يَعتدُّ بها المُسلمون لتنظيم حياتهم في حلّهم وترحالهم: في صيامهم وإفطارهم وصلاتهم وزكاتهم وفي معاملاتهم الدّينيّة والدّنيويّة وفي الرَّضاعِ والفِطام وفي العدّة والحوْل والنّصابِ وفي غيرها وهي: المُحرّمُ وصَفْرٌ وربيعٌ الأوّلُ وشهرُ ربيعِ الثّاني وجُمادَى الأُولى وجُمادى الآخِرةُ ورجبٌ وشعبانُ وشهرُ رمضانَ وشوّالٌ وذو القِعدَةِ وذُو الحِجّةِ" (في كتابِ اللهِ يوْمَ خلقَ السّماواتِ والأرْضَ مِنْهَا أَرْبعَةٌ حُرُمٌ) "من الشُّهُورِ أربعةٌ حُرم وهي: رجبٌ وذو القِعدة وذُو الحِجَّةِ والمُحرّمُ، واحدٌ فرْدٌ وثلاثةٌ سَرْدٌ" (ذلِكَ الدِّينُ القيِّمُ فلا تظلِمُوا فيهن أنفُسكُم) " أي لا تظلمُوا أنفُسكُم بفعلِ المعاصي وتركِ الطّاعات والنّهيُّ ينصرِفُ على جميع الأشهر وهذا ثابت، وقيل هنالك تخصيص للأشهُرِ الحُرم، قال قَتَادة: فيهن تعود على الأشهر الحُرم: العمل الصّالِحُ أعظمُ أجرًا في الأشهُر الحُرُمِ والظُّلمُ فيهِنّ أعظمُ من الظُّلمِ فيما سواهُنَّ) و قاتلُوا المُشرِكِينَ كافَّةً كمَا يُقاتلُونكم كافَّةً و اعلمُوا أنّ اللهَ مع المُتّقين (36) إنّما النّسِيءُ زِيادَةٌ في الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذين كفرُوا يُحِلُّونَهُ عامًا و يُحرِّمُونهُ عامًا لِيُواطئُوا عِدّةَ ما حرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لهُمْ سُوءُ أعمالِهِمْ و اللهُ لا يَهدي القَوْمَ الكافرين (37) (التّوبة). و النّسِيءُ مصدر كالحريق و السّعير، ومنه النّسيئةُ في البيعِ أي التَّأْخير. قال ابن عبّاس - رضي الله عنهما - والضّحاك وقتادة ومُجاهد - رحمهم الله -: أوّلُ من نسَأَ النّسِيءَ بنو مالك بن كِنانة وكانوا ثلاثة، ورُوِيَ عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - من طريق آخر أنّهُ عمرُو بن لُحيّ بن قمعة بن خِندِفٍ. فكان العربُ يشقُّ عليهم الكفُّ عن الغارة التي كانت منها جميع معايشهم، فنسئُوا أي أخّرُوا تحريم شهرٍ بعينهِ ليستبدلُوا مكانهُ شهرا آخر، و كانُوا يؤخّرُونَ تحريمَ المُحرّم إلى صَفَرَ، فيُحرِّمُونَ صفرَ و يُحِلُّونَ المُحرَّم، و هكذا استدار التحريمُ على مدار السّنة كُلِّها. و قد ذكر القاضي أبو إسحاق بأنّ بعض أحياء العرب و هم ربيعة (بطن من بطون العرب في الحجاز) كانُوا يُحرِّمُونَ شهرَ رمضان و يُسمُّونَهُ رجب، فأراد النّبيُّ تخصيصهُ بالبيانِ باقتصارِ مُضَرَ على تحريمِه في يوم النّحر من حجة الوداع. فعن مُحمّدٍ بن أبي بَكْرَةَ، عنِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -أنّهُ قالَ: ((إنّ الزّمان قد استدارَ كهيئَتِهِ يومَ خلَقَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثْنَا عشَرَ شهرًا، مِنْها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثةٌ مُتوالياتٌ: ذُو القِعدةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحرَّمُ ورجبُ مُضَرَ الّذي بينَ جُمادَى وشعبانَ)) حديثٌ مرفوع، أخرجاهُ في الصّحيحين، ومعنّى الحديث المرفُوع هُو مَا أُضِيفَ إلى النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -من قولٍ أو عملٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ، سواءً كانَ المُضِيفُ هُو الصّحابيُّ أو مَنْ دُونَهُ، مُتّصِلاً كانَ الإسنادُ أو مُنقطِعًا، وقد سُمِّيَ هذا الصِنفُ من الحديثِ بالمرفُوعِ، نِسْبَةً لصاحبِ المقامِ الرّفيعِ وهو النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. والشّاهِدُ على ما تقدّم من ذِكرٍ للزّمنِ لأهميّةٍ تكمنُ فيهِ، منها ما فضلّ اللهُ بعضها على بعضٍ فخصّ هذه الأشهُرَ الحُرُم بأهميّة بالغة، بل ونسب إلى ذاتهِ العليّة شهر المُحرَّم، وما نسبَ الله لذاته العليّة شيئا إلاَّ تشريفًا وتعظيمًا وإجلالاً لهذا الشيّء، حتّى نقول، بيتُ اللهِ وناقةَ الله وأشهرِ اللهِ وأيّامِ اللهِ ونقُولُ أيضًا شهرُ اللهِ المُحرَّمُ، الذي نحنُ فيه وقد عشنا بعض أيّام الله فيه زُلفَى إلى الله وحُسنَ مئاب، وفيه يومُ عاشوراء الذي من صامه استحبابًا كفَّرَ الله لهُ السَّنَةَ الماضيّة، ومن صام فيه تاسوعاء وعاشوراء فقد أصاب السُّنّة حيث أخبر النّبيّ قبل أنْ يُقبض إن عاشَ لِقَابِلٍ أي للسنة المُقبلة ليصُومنَّ التّاسِعَ والعاشِر في اليوم الذي نجّى فيه الله مُوسى - عليه السلام - ومن صام العاشر والإحدى عشر فقد أصاب السُّنّة بمخالفته لصيام اليهود للعاشِر فقط، وفيه أيضًا أيامٌ انقضت، وهي الأيّام البيض وهي الّتي دأبَ على صِيامها المصطفى - صلى الله عليه وسلم -وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهرٍ هلاليٍّ، قمريٍّ. عباد اللهِ: من لم يتفكَّر في خلقِ الله، والزّمنُ أعظمُ خلقٍ وصُنعٍ لله، فقد باء بالخُسران، فمن تشابهَ أمسُهُ بحاضره وحاضرهُ بغدِهِ فليُراجع نفسه؛ لأنّ الزّمن عبرةٌ لأولي الألباب، وأن كلَّ نفسٍ ذائقةُ الموت، فعلينا بتغيير ما بصحائفنا وتصحيح مسارنا كُلّما تفرّقت بِنَا السُّبُل، فمن لم يتغيّر في مُعاملاتِه مع خلقِ اللهِ في بيعه وشِرائه وحديثهِ ولقائه ومع غُرمائه وإخوانه، مع أهلِ بيتهِ وأقرانه، فلم تتحسّن أخلاقُهُ فلا خيرَ فيه وهو من الله بعيدٌ كُلّ البُعد، وهذا ليس قولي وإنّما قولُ من لا ينطِقُ عن الهوى - صلى الله عليه وسلم -: فعن أُمِّنَا عائشة -رضوان الله عليها- قالت: قال رسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الرَّجُلَ ليُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ درجاتِ قائمِ اللّيلِ، صائمِ النّهارِ)) باللهِ لنا بعد حديثِ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -حديث!، فطريقُكَ إلى اللهِ إحسانُكَ لأهْلِكَ، لزوجِك وخيرُ النّاسِ خيرُهُم لأهله، فكم من ناسِكٍ مُتعبِّدٍ إذا دخل بيته، قامت الدُّنيا ولم تقعُد كأنّهُ ملكُ الموت على الأبواب، حالة استنفار، الكلُّ يخشاه، مُتسلّطٌ، يبطِشُ بأهلِه وذويه؟ أين هذا من خُلُقِ رسُول الله، يا من تستمعُ إلى الخُطب والمُحاضرات عبر الفضائيّات وعبر الانترنيت وفي المساجد، هل غيّرت فينا هذه الخُطب شيئًا ما! ما كان النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -ذميمًا في خُلقه، لم يكُن ديكتاتُورًا، على العكس من أجلِّ أوصافِه وسماتهِ - صلى الله عليه وسلم -أنّهُ كانَ بسّامًا لا تُفارقُ البسمةُ مُحيّاه، بل كان - صلى الله عليه وسلم -، رفيقًا، رقيقًا، دَمثَ الخُلُقِ أي دافئ، إذا دخل بيته جلب المسرّةَ لأهلهِ وتسارع الكلُّ شوقًا لرؤياه، كان يُداعِبهم ويُلاعِبهم، فكان ريحانتاه، سبطاهُ الحسنَ والحُسين -رضوانُ الله عليهما-، سيّدا شبابِ الجنَّةِ يمتطيانِه كما يُمتطى الجواد، هذه هي الرّجُولة الحق، وليست من الرُّجُولةِ أن يكُون أحدُنا أسدًا على زوجته وذُرِيتِه ويخفض الجناح غايةً في الأدب مع النّاس: علينَا أسُودٌ وفي الكَربِ نعَامُ! فأحقُّ النّاسِ ببرِّكَ وخفضِ جناحك هم أهلُك ((وخيركم خيركُم لأهله))، كما قال المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -. واعلمْ أنَّ الكُلَّ آيلٌ للزّوال ولا يبقى إلاّ وجهُ ربِّكَ ذُو الجلالِ والإكرام، كلٌّ بيننا قد فارق حبيبًا مَا لهُ، رُبّما فارق الأجداد والوالد أو الوالدان، أو الحِبَّ أو الوليد: أين الملوك التي كانت مسلطنةً *** حتى سقاها بكأس الموت ساقيها فكم مدائنٍ في الآفاق قد بُنيت *** أمست خرابا وأفنى الموتُ أهليها لا تركنَنَّ إلى الدنيا وما فيها *** فالموت لا شك يُفنينا ويُفنيها لكل نفس وإن كانت على وجلٍ *** من المَنِيةِ آمالٌ تقويها فالحِكمةُ ضالّة المؤمن حيثُ وجدَهَا فهُوَ أحقُّ بِها، و مِن الحِكمة أن يستغِلَّ المُسلمُ نفحاتِ الله، فعن مُحمّدٍ بْنِ مَسْلَمَةَ، قالَ: قالَ رسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ لِرَبِّكُم - عز وجل - في أيّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فتَعرَّضُوا لَهَا، لعلَّ أحَدَكُمْ أنْ تُصِيبَهً مِنْهَا نفحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أبدًا)) (حديثٌ مرفوع) وشهرُكُم هذا نفحةٌ من نفحاتِ اللهِ، فلا تُضيِّعُوه، أكثرُوا فيه من ذكر الله واستغفروا ربّكم: (و مَنْ يعمَلْ سُوءًا أو يظلِمْ نفسَهُ ثُمَّ يستغفِرِ اللهَ يحِدِ اللهَ غفُورًا رحيمًا)، أقُولُ ما تسمعُونَ وأستغفِرُ الله العليَّ القديرَ لي ولكُم فاستغفروه تجدُوهُ غفُورًا رحيمًا. الخُطبةُ الثَّانية: الحمد لله غافرِ الذنب وقابلِ التَّوْب ذي الطول شديد العقاب لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يسبح له ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد عبد الله ورسوله، البشير النذير والسراج المنير صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن دعى بدعوته واهتدى بسنته وجاهد جهاده إلى يومِ الدّين. و بعدُ: الدّرسُ الثالث الّذي أستوقفكم عنده هو: أنّ اللهَ يسعُ عبدهُ المُذنب مهما أذنب بمغفرته إن تاب وعمل صالحًا، فعن عبد الرّحمانِ بْنَ عَمْرَةَ، قالَ: سمِعتُ أبا هُريرةَ، يقُول: سمعتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -يقُولُ: ((أَذْنَبَ رجُلٌ ذنبًا، فقالَ: أَيْ رَبِّ أَذْنبتُ ذنبًا فاغفرهُ لي، قال ربُّكُمْ: عَلِمَ عبْدي أنَّ لهُ ربًّا يغفِرُ الذَّنْبَ ويأْخُذُ بهِ، قدْ غفرتُ لعبدِي، قال: ثُمَّ لَبِثَ ما شاءَ اللهُ ثُمَّ أذْنبَ ذنْبًا آخرَ، فقال: أَيْ ربِّي أذْنبتُ ذَنْبًا آخَرَ فاغفرهُ لي، قالَ ربُّكُم: عَلِمَ عبدي أنَّ لهُ ربًّا يَغفِرُ الذَّنبَ ويأخُذُ بهِ، قد غفرتُ لعبدي، قال: ثُمَّ لَبِثَ ما شاءَ اللهُ فأذْنَبَ ذَنبًا، فقال: أيْ ربِّ أذنبتُ ذنبًا فاغفِرهُ لي، قال ربُّكُم: علِمَ عبدي أنَّ لهُ ربًّا يغفِرُ الذَّنبَ ويأخُذُ بهِ، قد غفرتُ لِعبدي فليعمَلْ ما شَاءَ)) هذا حديثٌ صحيحٌ، أخرجهُ البُخاريّ من وجهينِ، عن هَمَّام، وأخرجهُ مُسلِمٌ، عن عبدٍ بنِ حُمَيْدٍ عن أَبي الخليفةِ، فوقع لنا بدلاً عالِيًّا بدرجتين، وبهِ إلى أبي نُعيم، هكذا قال الرّاوي (الأمالي المطلقة للحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -). فعن ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا. فَأَتَوْا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ. فَنَزَلَ: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ)) [الْفُرْقَانِ: 68]، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هي دَعْوَةٌ إلهية صريحة لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ مِنَ الْكَفَرَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا لِمَنْ تَابَ مِنْهَا وَرَجَعَ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَهْمَا كَانَتْ وَإِنْ كَثُرَتْ وَكَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) الْآيَةَ 70. الْفُرْقَانِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو قَبِيلٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرِّيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ ثَوْبَانَ - مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ أَشْرَكَ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: " أَلَا وَمَنْ أَشْرَكَ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)). تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. ((إنَّ اللهَ لا يغفرُ أنْ يُشرَكَ بهِ ويغفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لمن يشاءُ)) (النّساء). وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا:...عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْخٌ كَبِيرٌ يُدَعِّمُ عَلَى عَصًا لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي غَدَرَاتٍ وَفَجَرَاتٍ، فَهَلْ يُغْفَرُ لِي؟ فَقَالَ: ((أَلَسْتَ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ " قَالَ: بَلَى، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " قَدْ غُفِرَ لَكَ غَدَرَاتُكَ وَفَجَرَاتُكَ)). تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّهُ يَغْفِرُ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَ التَّوْبَةِ، وَلَا يَقْنَطَنَّ عَبْدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ؛ فَإِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ وَاسِعٌ، قَالَ اللَّهُ - تعالى-: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)) التَّوْبَةِ: 104)، وَقَالَ - تعالى - (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)) النِّسَاءِ: 110)، وَقَالَ - تعالى -فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا)) النِّسَاءِ: 146، 145)، وَقَالَ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) الْمَائِدَةِ: 73)، ثُمَّ قَالَ: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) الْمَائِدَةِ: 74)، وَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)) الْبُرُوجِ: 10. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: انْظُرْ إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ، قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ!. وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. الدُّعاء: اللّهُمَّ كما جعلت في هذا اليوم العظيمِ ساعةً لا يُقابِلُها عبد مؤمِنٌ يدعوك إلاَّ استجبت له اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتكما تبلغنا بها جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها يا أرحم الراحمين ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الأخيار وسلم تسليما كثيراً، اللّهُمَّ أصلِحْ لنَا دينَنَا الذي هُوَ عِصمةُ أمرِنا، وأصلِح لنَا دُنيانَا التي فيها مَعاشُنا وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها مَعادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كُلَّ خير واجعل الموتَ راحةً لنا من كُلَّ شرّ، اللّهُمَّ اجعل خير أُمُورِنا خواتِمها وخير أيّامنا يومَ لقاكَ، اللّهُمَّ نسألُكَ عيشةً هَنِيَّة ومِيتةً سَويّة ومَردًّا غيرَ مُخزٍ ولا فاضحْ، اللّهُمَّ آتِ نُفُوسَنا تقواهَا وزكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها أنتَ وَلِيُّها ومولاَها، اللّهُمَّ لا تدع في هذا الجمع الكريمِ ذنبًا إلاَّ غفرته ولا همَّا ولا كربًا إلاَّ فرجته ولا حاجةً من حوائج الدُّنيا والآخرة إلاَّ قضَّيتها وأديتها، اللّهمّ ارحم موتانا واشف مرضانا، اللّهُمَّ فُكَّ الحِصار عن إخواننا في فلسطين وعليك اللّهُمّ بالصهاينةِ المُعتدين أعداء الله والأنبياء والمُؤمنين، اللّهُمَّ فرج الكرب عن المكروبين واحقن دماء المُسلمين، (ربّنا آتِنا في الدُّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النّار) اللّهُمّ صلِّ على سيدنا مُحمّد وعلى آلهِ وصحبه والتّابعين وتابع التّابعين ومن تبعهُم بإحسان إلى يومِ الدّين وأقِمِ الصّلاة. ـــــــــــــــــ [1] وَالْهِلَالِيَّةُ تَنْقُصُ عَنْ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا بِنُقْصَانِ الْأَهِلَّةِ، وَالْغَالِبُ أَنَّهَا تَكُونُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا. |
الساعة الآن : 05:46 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour