ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى اللغة العربية و آدابها (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=111)
-   -   المبدع: الدور والرسالة والشخصية (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=283230)

ابوالوليد المسلم 26-09-2022 10:19 PM

المبدع: الدور والرسالة والشخصية
 
المبدع: الدور والرسالة والشخصية


د. مصطفى عطية جمعة



إنها قضية شائكة، تغوص في جذور الزمان منذ نشوء الإبداع، وظهور شخصيات الشعراء والفنانين؛ لأنها ببساطة تطرح عليهم سؤالاً مفاده: ما وظيفتك أيها المبدع؟ وماذا تؤدي في المجتمع؟
فهناك منكرون من الأساس لدور المبدع، بل ويرونه عالة على المجتمع، وقد حدث أيام الخديوي إسماعيل أن "المهردار" وهو مدير القصر وقتها، لم يجد في أي دور حيوي للشاعر علي الليثي، وكان أحد ندماء الخديوي، وشاعر في بلاطه، فكتب على الغرفة التي كان يجلس فيها في القصر، الآية القرآنية الكريمة: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9]، فأسرَّها الشيخ علي في نفسه، وتربص بمدير القصر، فلما كان جاء مجلس الخديوي، وسط الوزراء والأعيان، وكبار رجال الدولة، قال الشيخ علي للخديوي: عندي حكاية يا مولاي، قال الخديوي: قلها يا شيخ، فقال الشيخ:
لنا طاحونة في البلد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لكن ثقيلة على الحمار https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

علقت فيها الثور عصا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
علقت فيها المهردار https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فانفجر المجلس بالضحك، واصفرَّ وجه المهردار، ولم يستطع أن يرد، ولا أن يُبيِّن حقًّا من باطل، أمام شاعر ميدانه الأساسي الكلمات.

في العصر الجاهلي، كان الشاعر لسان قبيلته، مؤرخًا لأيامها، مادحًا لقادتها وشيوخها، مُحرضًا لهم على عمل أو سلوك، أو فكر أو موقف، وكم من قصائد أشعلت معارك، وكم من أبيات أرَّخت لأحداث وبطولات وأبطال، فلا عجب أن كانت القبائل تحتفل بظهور فارس مقدام، وبزوغ شاعر، فدور الشاعر لا يقل في الأهمية عن دور الفارس، بل يتخطى دور الفارس، فالشاعر حاضر في السلم والحرب، الليل والنهار، الحل والترحال، في الحب والبغض، والهجاء والمدح، والحياة والموت؛ لذا جاءت أغراض الشعر العربي منذ القدم تغطي مختلف حالات الحياة والنفس البشرية: حب وهجر، مدح وذم، حماسة وتحريض، تأريخ ورثاء.

ومن ساعتها تأسَّس في المخيلة الشعرية أن هناك دورًا محوريًّا للشاعر / المبدع، وتأسست أيضًا مع هذا الدور نرجسية تتفاوت في درجاتها حسب شخصيات الشعراء، جنبًا إلى جنب مع خيالات الإبداع السانحة والجانحة والهائمة.

يقال هذا لأننا نجد في شخصيات المبدعين أنماطًا مختلفة، وعبثًا في فَهْم الأدوار المناطة بهم، وتشويشًا في الرسالة، وتبدلات في الخطابات والمواقف، ناهيك عن السلوكيات التي تظهرها أحداث الحياة، وتخفيها أسطر الإبداع، أو ربما هو يتخفى خلف إبداعه، وبعضهم يعلن عن شخصيته الملَهمة ليبرر أفعاله، فربما يغفر الإبداع لشطحاته، وربما يكون الخطأ الأوَّلي من الشعراء أنفسهم؛ لأنهم يقدمون عوالم شعرية في أبراج عاجية، فيتخيل المتلقي أن مَنْشَأها يعيشون فيها، وينسى أنهم يعيش في نفس واقعه، ولكن شتان بين من يصنع الخيال، ومن يقرأه. وتكون الطامة الكبرى أن نجد من المبدعين من يقول إبداع الحكمة والزهد، ويأتي من الأفعال ما يناقض الأقوال، فيُفقِدُ قوله سحره، مثلما يفقد فعله احترامه.

والأمثلة في الواقع كثيرة، ولا زالت ترن في أذني - منذ صغري - كلمات الشاعر فاروق شوشة وهو يصف حال الشعراء الذين عرفهم على الورق، وحلَّق في سمواتهم، وارتقت نفسه بجمالياتهم، يقول: أحببتهم عندما قرأتهم، وسقطوا من عيني عندما التقيتهم.

ولا نريد بالطبع أن نعزل المبدعين عن الحياة، ولا أن نطلب منهم ما لا يقدرون عليه، ولكننا نناقش القضية التي يتهامس بها الكثيرون، وتظهر في فلتات الألسنة، والمذكرات الشخصية، ونادرًا ما يتم تداولها في علنية.

نعم المبدع إنسان، يعيش واقعنا، وليس ذنبه أنه يمتلك القدرة على التعبير عن الخيال، أو يبدع الخيال، أو يصنع من الخيال واقعًا مختلفًا، فما الإبداع إلا خيال، وكلما أمعن المبدع في حَبْك الخيال، وسبك النص المعبر عنه، كان رائدًا متميزًا، أما عن السلوك الشخصي للمبدع، فهو ما لا يجوز أن نخوض فيه؛ لأنه حق شخصي له، إلا أننا نطالب ألا ينفصل سلوك المبدع عن رسالته الإبداعية، وأن يظهر في علانيته، ما لا يعيبه ذاتيًّا، ولا يفقده تقدير المتلقين واحترامهم له، خصوصًا إذا ارتبط الأمر بمواقف سياسية وفكرية واجتماعية، تتطلب التمسك بمبادئ، والذود عن قيم، وكم من الشعراء سقطوا واحترقوا تمامًا، عندما روَّجوا لشعارات سَرعان ما كفروا بها في شعرهم أيضًا، وما أقسى أن يصطدم القارئ بشاعر كان يذود في قلعته الشعرية عن مثاليات، وسرعان ما ناقضها في شعره أيضًا! دع عنك محكات الحياة، ولكن أن يقول الشيء ونقيضه فيما يتعلق بالمبادئ والقيم، خصوصًا لو تطرق الأمر إلى الاحتشاد لما هو فئوي قبلي عنصري، فتلك القارعة؛ لأنها تعني ببساطة كفرًا بما هو إنساني، وانتصار للأنانية والنرجسية الفردية والاجتماعية، وللأسف كثير من المبدعين يسقطون في هذا، وتفضح نصوصهم المخبوء في صدورهم، وتنطبق عليه الآيات الكريمة: ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 224 - 226].

إن الدور الحقيقي للمبدع: تنويري تحريضي، جمالي، توعوي..، ولو أدرك المبدعون ذلك لعظم الإبداع عندنا أكثر، ولكنهم يسقطون في التقليد أو يركضون وراء الأضواء، ويتعالون على العامة، وكثيرون منهم رسالتهم غير واضحة، وبُوصلتهم مُشتتة، والمصيبة أن تمضي بهم الحياة وهم حائرون فكريًّا، غير واعين لدورهم حضاريًّا وتوعويًّا، يَجترُّون أفكار الآخرين، ويعيدون إنتاج ما يقوله رفاقهم، ويشتكون من التجاهل الإعلامي، وانصراف المتلقين عنهم.


عندما نقول: إن دور المبدع تنويري تحريضي، فلأن لديه المقدرة على أن يجعل من نصوصه أغانيَ للتسامي بالنفس والمشاعر والقيم، فيُحرِّض قرَّاءَه على اتخاذ مواقفَ إيجابية مع قضايا المجتمع، ومشكلات طبقاته وشرائحه، وعبر هذا الدور ترتقي الذائقة الجمالية، ويزداد الوعي، فينهض المجتمع؛ لأن النهضة يلازمها الوعي والجمال والإيجاب، وتعادي الإسفاف والتقليد والسلبية.



الساعة الآن : 04:32 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 9.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 9.88 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.94%)]