ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   من بوح قلمي (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=72)
-   -   في حزام الفقر (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=283229)

ابوالوليد المسلم 26-09-2022 10:18 PM

في حزام الفقر
 
في حزام الفقر
فاديا رمضاني


عندما فتحتُ عينَي على الحياة، وجدتُني بغرفةٍ وحيدةٍ تَجمعُني وإخوتي الستة، وعند كعبي كانت مُستَلْقيةً أمي التي أكل الدهر عليها وشرب، أمَّا أبي فكان مُعانقًا عند صهريج الأواني زوجتَه الثانية التي لا تَنفكُّ عنه ولا ينفكُّ عنها، زوجةٌ لا تَشهدُ الغيرة الإنْسِيَّة، والتنازلات والمفاوضات، زوجةٌ لا تنفكُّ عن السيطرة، ووالدي العزيز ما كان يرفضُ لها طلبًا، وكلُّ ذلك كان على حساب والدتي المضطهَدة، فكان يبيعنا لرضاها، ويُلقي بنا في حزام الجوع والفقر الذي يقطع أمعاء الواحد منَّا؛ ليدَّخِر المال ويدفع مهرَها كُلَّما ودَّ مُضاجعتَها، تلك الزجاجة التي ملأها الخمر كانت ضَرَّةَ والدتي التي رسم الدَّهرُ على وجهها تجاعيدَ الغبن والحسرة، وغيَّر تقاطيعَها البريئةَ إلى تقاطيعَ بربريةٍ، وحجر الدم بعروقها، وسلخ عن يدها نعومةَ الأنوثة.




هكذا تربَّيتُ في وسطٍ يُهشمه الفقر، فقرٌ يَنخَرُ جسدَ أسرتي، فلم نشهد يومًا ثوبًا جديدًا، أو تهنئةً بِعيدٍ، ولا إراقةَ دمِ أُضحيةٍ بباحَة رواقِنا العتيق بأحد الأحياء الشعبية بالعاصمة.




ولربما كان من رحمة الخالق بنا أن وهب لنا من لدُنه رحمة، كانت خالتنا التي تُدعى "فاطمة" التي لم تُرزق، ولم يَهبْها اللهُ من رَحِمِها ولدًا، ولعل حكمته سبحانه كانت موجعةً لها ومرحمةً لنا، فلربما حرمانها من الولد كان سببًا في إغداقها علينا الحب والحنان والعطاء، فلا أذكر في تاريخي أنني تلقَّيْت ثوبًا جديدًا أو دينارًا إلا كان منها، لم تملِك أمي غير أن تَعهَد لها بتربية ولدٍ من رَحِمِها عِرفانًا لها بجَميلها، أجَل لقد عهِدت لها بتربية أخي "الطاهر" الذي أنعَم الله عليه بدفءِ عائلةٍ حُرِمنا منه نحن الستة، وتعليمٍ وثوبٍ، وصلاةٍ وتقوى، أجَل، فلطالما حرَصت خالتي "فاطمة" وزوجُها الذي لم ينَلْ من الحياة حظًّا كافيًا على تربية "الطاهر"، فقد جعلاه لنا مثلًا أعلى.




وكان لنا غير الخالة "فاطمة" جيرةٌ تألفُ قلوبها معنى الرحمة، فكانوا يَهبوننا من الثياب والأحذية ما لم يكن لديهم بعد اليوم مُستعمَلًا.

أما أمي التي تُدعى "نفيسة"، فكانت تُعيلنا، وتتحمَّل وتُلملِم قذارةَ أبينا الذي لم يَحْنُ علينا يومًا، ولم يُوجِّهنا، أو بدفءٍ يُنادينا، لا، وأحيانًا يُخيَّلُ لي أنه لا يعرف عددَنا، فكيف له أن يُعيلنا وتلك الحيَّة تُخدِّره وتُكبِّله دوننا؟!

كانت أمي تعمل طباخةً لدى أختها "نجمة" التي كانت زوجةً لأهم مسؤول في تلك الحقبة، وقد كانت تستدعيها صباحًا، وتُطلِق سراحها عند المغرب، وكان أجرُها يقتصر على لُقمةٍ تقتاتها وبنيها وبناتِها، أجَل، كان أجرُها عشاءَ ليلةٍ لها ولأبنائِها.




وكلَّما عادت إلى البيت وجدتْنا في ظلمةٍ نترقَّبها؛ وجوهنا شاحبةٌ، وأحداقنا مُستفسِرةٌ مُتأمِّلة، علَّها تجلبُ ما يسُدُّ جوعنا، وما إن تضع تلك الصحيفة النحاسية على المائدة، حتى ننقض عليها ككلابٍ شرِسةٍ صادفت في قمة جوعها قطعةَ لحمٍ مُلقاة،هكذا عشنا بين ضلوع فقر ولقمة متطايرة، إن حلَّت صباحًا غابت مساءً.




ذات يوم عدت من المدرسة ودخلت بيتنا الحقير، فألفيتُه هادئًا على غير عادته، أخذت أجس نبض الهدوء بتمعُّن، علِّي أجد له بين هذا السكون مبررًا، فجأة سمعتُ صوتًا يشبه الشهقة، فأبرمت سمعي، وأخذت أتقفى أثَرَ تلك التنهيدات المكبوتة، وأتَّبع منبعها، إلى أن بلغت الشرفة التي كانت أبوابُها مفتوحًة على مصراعيها، كما أن الغرفة التي تفضي إلى الشُّرفة كانت تغطُّ في فوضى عارمة، وعلى أرضها شظايا زجاجة خمر - حسب ما رأيت - نزعت عني محفظتي ووضعتها على الطاولة، ثم تقدَّمت بخُطى متردِّدة نحو الشرفة، فألفيتُ والدتي جاثيةً على ركبتيها، تعلو مطلعها ندوبٌ دامية، أمَّا أبي فكان تحت سطوة الدهشة، وجهه شاحب تعلوه صفرة، واهن القوى، ذليل المُحيَّا، اقتربت من والدتي التي بدت لي وقتها أنها هجرت الواقع لعالم أبعد بكثير من ذاك الذي تتحمَّله مُخيلتي، تساءلت: أمي، ماذا جرى؟! لم تُجبني، فكَرَّرت السؤال مرات عديدة، لكن الصمت كان كل ما حصدته من محاولاتي الجبَّارة في استنطاقها، فانصرفت لأبي وسألته: أبي، بحق السماء، أخبرني: ماذا يجري هنا؟! أخذ يدمدم: لم أقصد، أنا، والله أنا،قلت بارتباكٍ: لم تقصد ماذا؟ فقام والتقط معصمي وأخذ يجُرُّني بلين، وأنا أرشُقه بوابل أسئلتي التي لا تنتهي، دخلنا الغرفة التي مررت بخرابها فور وصولي إلى المنزل، ثم انتصب كالصنم أمام الخزانة،سألته: لِمَ أتيتَ بي إلى هنا؟! ما الذي تنوي فعله؟! فطأطأ رأسه بعد أن أشار إليَّ كي أفتح الخزانة، فأذعنتُ له، اقتربت من الخزانة مستفسرةَ العينين، مُقضَّبةَ التقاطيع، ولَمَّا فتحتها، ولَّيت مصعوقة مرتعشةً، ثم وضعت يدي على فمي؛ كي أَكبِت صرخاتي، يا إلهي! كم كان فظيعًا ذاك المنظر! جثوت على ركبتيَّ باكيةً مصدومةً.




قال أبي باكيًا: والله لم أقصد، كنت ثَملًا.

هنا تعالى صُراخ والدتي التي عادت إلى وعيها، فهاجمته كَلَبُؤَةٍ شرسة، تُمزق عنه ثيابَه بمخالبِ غرورها المنكسرة، تشتمه بنبرةٍ يَخنقها الوجع والقهر، بينما وقف هو أمام جبروت أوجاعها مشاهدًا، دون أن يُحرِّك ساكنًا.

قالت: لقد قتلتَ رضيعةً، وأي رضيعةٍ يا حقير! إنها ابنتك، ابنتك، أتُحيط علمًا بعمرها؟! أجِبني، عمرها ثلاثة أشهر، ثلاثة أشهر.

نفضتُ عني غبار الشرود، وقمت أهدِّئ مِن رَوعها، ثم سألتها، ربما لأن وجعي كان يلتمس مسكنًا اسمه "السبب"، فسألتها: لكن كيف؟! ولماذا حدث كلُّ هذا؟!




فأمسكت بيدي وكأنها تمتثل أمام قاضٍ، ترتجي منه الانصاف بحقِّ ابنتها، فقالت: وما السبب برأيك؟! أراد أن يقترض مني نقودًا يبتاع بها سمَّه المعتاد، ولَما رفضتُ أن أَقرضه المال، ثار عليَّ، فقلبَ البيت رأسًا على عقب كما ترين، ثم هاجمني وأخذ يضربني بعنفٍ، فأجهشتْ أختك بالبكاء، فحملها من عنقها وكأنها ديك سُلِخ عنه ريشُه، ثم ضرب بها عرض الحائط، آه! إنه مجرم، بلِّغي الشرطة، بلِّغي.

قال باكيًا: والله، لم أكن واعيًا حينها، والله لم أكن واعيًا!




فاتجهتُ إليه متأمِّلةً إياه بعينين ملأهما الحقد، وسألته: أخبرني، على مَن سيأتي الدور؟ كم ستقتل مِن أبنائك مِن أجل تلك الساقطة؟ أخبرني: مَن؟!

هنا، خُلِع بابُنا مِن قِبَل الشرطة التي كبَّلت يدي أبي، وساقته إلى السجن؛ ليُكمل فيه ما تبقَّى من عمره، ومنذ ذاك الحين لم أرَ مطلعه حتى بالصُّدفة.







الساعة الآن : 06:34 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 10.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 10.27 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.90%)]