ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=216484)

ابوالوليد المسلم 12-11-2019 03:48 AM

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (1)

تنبيه مهم
أولاً: هذا الشرح أصله شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع، والذي تمَّ بتوفيق الله، ومعونته في مسجد التنعيم بمكة، وتمَّ تسجيله، ثم فرغت الأشرطة بعد ذلك في مذكرات لم تستوعب جميع الشرح.
ثانياً: وبعد قراءة المذكرات تبين وجود الحاجة إلى تصحيحها نظراً إلى أن الشرح كان إلقاءاً، ولم يكن كتابة.
ثالثاً: تمت إعادة صياغة الجمل، والعبارات بما يتناسب مع الشرح الكتابي، وعليه فإن هذا التصحيح يختلف كثيراً عن الأصل المسجَّل، وقد أضيفت فيه بعض المسائل، وحذفت مسائل أخرى كما أضيفت بعض الأدلة، والفوائد التي يقتضيها الحال.
رابعاً: تعتبر هذه النسخة هي الوحيدة التي ينبغي إعتمادها، وجميع المذكرات السابقة ملغاة، فيما تمَّ تصحيحه، وإخراجه من هذه النسخة، وسيتمّ ذلك تباعاً بإذن الله عز وجل حتى يكمل الشرح.
خامساً: هذه هي المراجعة الأولى، وستتلوها المراجعة الثانية بعد الإنتهاء من تصحيح جميع الشرح بإذن الله تعالى.
سادساً: على الاخوة عدم توزيع المذكرات السابقة لهذه المذكرة، أو إعتماد ما فيها إذا خالف هذه النسخة، أو ما بعدها من النسخ المصححة.سابعاً: لا يفوتني أن أشكر الإخوة الذين قاموا بجهود عظيمة في تفريغ النسخة السابقة، وتوزيعها على طلبة العلم، وكذلك الإخوة الذين ساهموا في إخراج هذه النسخة سائلاً المولى أن يُعظِم أجرهم، وأن يتقبل منا، ومنهم.
وأسأل الله العظيم أن يجعله علماً نافعاً، وعملاً صالحاً خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، وصلى الله، وسلم، وبارك على خير خلقه، وآله، وصحبه أجمعين.
الراجي عفو ربه ومغفرته
له ولوالديه وللمسلمين
محمد بن محمد المختار بن محمد بن حبيب الله
إبن أحمد مزيد الجكني الشنقيطي

ابوالوليد المسلم 12-11-2019 03:49 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (2)
صـــــ3 إلى صــ9

بسم الله الرحمن الرحيم


شرح مقدمة الكتاب
قال المصنف رحمه الله: [الحَمْدُ لله حَمْداً لا يَنْفدُ أَفضَلَ ما ينْبغي أَنْ يُحْمَد، وصلّى الله، وسَلّمَ على أفضلِ المُصْطَفين مُحمَّدٍ]:
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله، وسلم، وبارك على خير خلق الله أجمعين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه مقدمة المصنف -رحمه الله- لهذا الكتاب المبارك (أعني زاد المستقنع) إبتدأها رحمه الله بقوله: [الحمد لله].
وهذه البدآءة من عادة أهل العلم -رحمهم الله- فإذا أرادوا التصنيف، أو الخطابة، أو الكتابة، صدّروها بحمد الله -جلّ وعلا-.
ودليلهم في ذلك الكتاب، والسُّنة، والإجماع.
أما دليل الكتاب: فإن الله -تبارك وتعالى- إستفتح كتابه المبين بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) فاستفتح أفضل الكتب، وأشرفها، وأجلَّها على الاطلاق، وهو القرآن بقوله سبحانه وتعالى: {الحَمْدُ للهِ}.
(1) الفاتحة، آية: 1.
********************
وأما دليل السُّنة: فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إستفتح خطبه بقوله: (الحمدُ لله) وثبت ذلك عنه -عليه الصلاة والسلام- في مواعظه المشهورة: كما في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة رضي الله عنها حيث قالت: " فحَمِد الله، وأثنى عليه، ثم قال ".
فقولها: " فحمد الله " أي: استفتح كلامه، وخطابه للناس بحمد الله.
وأجمع العلماء -رحمهم الله- على مشروعية إِستفتاح الكتب، ونحوها بحمد الله -جل وعلا-.
والمناسبة في ذلك: أن الله -جل وعلا- هو المستحق للثّناء، وما كان العبد ليعلَم، أو يتعلّم لولا أنّ الله علّمه، وما كان ليفهم لولا أن الله فهّمه.
فاستفتح بحمد الله الذي شرّفه، وكرّمه بالعلم كما قال سبحانه وتعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (1).
وقالوا: كما أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إستفتح الخطبَ بالحمد، فإنه يشرع استفتاح الكتب به؛ لأن الخطبة، والكتاب كلّ منهما هدفه واحد؛ وهو الدعوة إلى الله، فكما أنّ الراد من خُطبِه -عليه الصلاة والسلام- توجيه الناس، ودلالتهم على الخير، فكذلك المراد من كتابة الكتب، وتأليف المؤلفات توجيه الناس، ودلالتهم على الخير، فلهذا كلّه شُرع استفتاح كتب العلم،
(1) العلق، آية: 5.
**********************
ورسائله، والخطب، والندوات، ونحوها مما فيه تعليم، وتوجيه بحمد الله؛ لما فيه من تعظيم الله -جلّ وعلا-، ولما فيه من الاعتراف بالجميل، والثّناء على الله العظيم الجليل.
قال المصنف رحمه الله: [الحَمْدُ لله]: الحمد في اللغة: الثَّناء، وقد أطبق على ذلك الأئمة، والعلماء في تعريفه اللغوي، ولذلك يقولون: حمدَ الشَّيءَ؛ إذا أثنى عليه.
والمراد بالحمد في إصطلاح العلماء: (الوصفُ بالجميلِ الاختياريّ على المنعم، بسبب كونه منعماً على الحامد، أو غيره).
فقولهم: (الوصف بالجميل الاختياريّ): المراد به: أن تذكر الصِّفة الجميلة في الإنسان، فإذا قلت مثلاً: محمد كريم، أو شجاع، أو فاضل فإنك تكون قد وصفته بالجميل فأنت حامد له، ومُثْنٍ عليه، وقولهم: (على المنعم) أي الذي أعطى النعمة، وهو الله تعالى وحده، والمخلوق بإذن الله تعالى، وبفضله.
فالصفات الجميلة تكون لله تعالى، فكلُّ صفاته جميلة جليلة سبحانه، وتكون للمخلوق بفضله سبحانه فإذا وصَفَ الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله فقد حمده، وإذا وصَفَ المخلوقَ بما فيه من الصفات الحميدة، وأثنى عليه بها فقد حمده.
وقولهم: (بسبب كونه منعماً على الحامد، أو غيره) أي: أن الحمد لا يتوقف على وجود إحسان، وإنعام من الشخص المحمود على الحامد، ومن هنا خالف الحمدُ الشكرَ لأن الشكر ينشأ بسبب الاحسان، والنعمة، وصارالحمد أعمَّ، فأنت تحمد من إتّصف بالصفات الجميلة بغضِّ النظر عن كونه أحسن إليك، أو أحسن إلى غيرك.
فأصبح الفرق بين الحمد، والشكر:
أنّ الشُّكر أعمُّ بالوسيلة التي يُعبّر بها، وأخصُّ من جهة السبب الباعث عليه.
والحمد أعمُّ من جهة السبب الباعث عليه، وأخصّ من جهة الوسيلة التي يُعبّر بها عنه.
فالحمد إنما يكون باللسان فهو أخصّ بالوسيلة التي يعبر بها عنه، والشُّكر أعمُّ منه؛ لأن الشكر يقع باللسان، وبالجنان، وبالجوارح.
أما باللسان فمنه قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1) لأنّ الحديث عن النِّعمِ شكرٌ للمُنعِمِ.
كذلك أيضاً يقع بالجنان: ومنه قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (2) أي: إعتقدوا أنها من الله، فمِنْ شُكْرك لنعمة الله أن تعتقد في قرارة قلبك أنّ الله أنعم بها عليك؛ وحده لا شريك له.
ويكون الشكر بالجوارح، والأركان فتشكره سبحانه بالعمل في طاعته، ومرضاته، ومنه قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (3)، وتشكر المخلوق بالجوارح أيضاً؛ حينما تردُّ جميله بخدمته، وعمل ما يُحِبُّ.
فهذه ثلاثة أنواع من الشُّكر: الشكر بالجنان، وباللِّسانِ، وبالجوارح.
(1) الضحى، آية: 11.
(2) النحل، آية: 53.
(3) سبأ، آية: 13.

***************************
فتشكر بلسانك؛ فتثنى على الإنسان الذي أسدى إليك النّعمة بعد الله، وتشكر بجنانك، فتعتقد فضله، وتشكر بجوارحك، وأركانك بردّ الجميل إليه، أو فعل ما يردّ إحسانه إليه، وقد جمعها الشاعر بقوله:
أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ منّي ثَلاثةً ... يَدِي ولساني والضَّميرَ المُحَجَّبا
فقوله: (يدي) أي: أشكركم بيدي، فأعمل في خدمتكم.
وقوله: (ولساني) أي: أشكركم بلساني، فأتحدّث بفضلكم.
وقوله: (والضَّميرَ المُحَجّبا) أي: أشكركم بقلبي، فأعتقد فضلكم.
أما بالنسبة للحمد فلا يكون إلا باللسان، ولكن من جهة السبب الحمد أعمّ من الشكر، فتحمد الإنسان سواء أنعم عليك بعد الله، أو لم ينعم تقول: فلان كريم، ولم يعطك شيئاً، ولكن رأيت فيه هذه الخصلة الطّيبة فأثنيتَ عليه، وحمِدتَه، إذاً فالحمد لا يستلزم وجود فضلٍ للمحمود على الحامد؛ ولكن الشكر إنما يكون بعد جميل، ونعمةٍ من المشكور، فلا تشكر إلا من أحسن، وأسدى إليك المعروف.
إذاً فالفرق بينهما أنّ بينهما العُموم، والخُصوص.

قوله رحمه الله: [الحمدُ للهِ حمداً لا يَنْفدُ]: أي أحمد الله -تبارك وتعالى- حمداً لا ينتهي.
قوله رحمه الله: [الحمد لله]: العلماء يقولون استفتح الله كتابه بالحمد لله؛ فاختار اسم الله، ولم يقل الحمد للكريم، أو للعظيم، مع أنه سبحانه عظيم، وكريم بلا شكٍ، ولكن تخصيص الاسم الدّال على الذّات أبلغ في الحمد، والثناء من ذكر الوصف؛ لأنك لو قلت الحمد للكريم؛ لأشعر أنك حمدتهمن أجل أنه كريم، ولكن لما قلت الحمد لله، أثبت له الحمد لذاته -سبحانه وتعالى- فكان أبلغ.
قوله رحمه الله: [حَمْداً لا يَنْفدُ]: أي أحمده حمداً لا ينتهي، ولا ينقطع فالله هو المستحق للحمد الذي لا ينفد؛ لأن نعمه لا تنقطع، ولا تنتهى على العبد، وهو لا يستطيع عدّها فضلاً عن شكرها، والثناء على الله -عز وجل- بما هو أهله.
قال رحمه الله: [أفضلَ ما يَنْبغي أنْ يُحمد]: قوله [أَفضلَ]: على وزن أفعل، والعرب تأتي بهذه الصيغة، وهي صيغة أفعل التفضيل، لتدلّ على أن شيئين، فأكثر إشتركا في شىء، وأن أحدهما أفضل من غيره فيه، والفضل في اللغة أصله الزيادة أي: أن هذا الحمد مع كونه لا ينقطع، ولا ينتهي كذلك هو بأفضل، وأحسن ما ينبغي أن يكون عليه حمده سبحانه.
قال رحمه الله: [وصلّى الله، وسلّم على أفضلِ الُمصْطَفِينَ مُحمَّدْ]: قوله رحمه الله: [وصلّى الله]: الصلاة تطلق في اللغة بمعانٍ:
منها: الصلاة بمعنى الدعاء، ومنه قول الشاعر:
تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَربْتُ مُرتحلاً ... يَاربِّ جَنِّب أَبِي الأَوصابَ وَالوَجَعَا
عَلَيكِ مَثْلُ الذِي صَلِّيتِ فَاغْتمِضِي ... عَيْنَاً فإن لجِنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعَا
يقول الشاعر: إن إبنتي حينما هيأتُ رحلي للسفر قالت هذا الدعاء: (يا ربِّ جنِّب أبي الأوصابَ والوجعا) أي: أنها دعت له بالسلامة، فقال ذلك الأب يجيبها: (عليك مثلُ الذي صلّيتِ)، أي: عليك مثل الذي دعوتقول الحق تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (1) أي إذا أعطوا الزكاة لك يا رسولنا فصلِّ على من أعطاها لك، ولذلك قال العلماء: يسن للإمام، أو نائبه الذي يلي أخذ الزكاة من الناس إذا أخذها منهم أن يدعو لهم بالبركة، والخير في أموالهم فقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: اُدعُ لهم؛ فالصلاة استعملت هنا بمعنى الدعاء.
ومن معاني الصلاة الرحمة، وهي من الله لعبده، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (2).
وصلاة الله على العبد رحمته، فالصلاة تطلق بمعنى الرحمة، ومنه قول الشاعر:
صَلى المَليْكُ عَلَى اْمرِئٍ وَدَّعتُهُ ... وَأَتم نِعْمَتَهُ عَلِيهِ وَزَادَهَا
أي: رحم الله ذلك العبد، أو ذلك الأخ الذي ودَّعتُه.
ومن معاني الصلاة في لغة العرب: البركة، والزيادة، وفُسّر به قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري، وغيره: [اللهمَّ صَلِّ على آل أبي أوفى]، قيل معناه: بارك لهم.
فهذه ثلاثة معانٍ للصلاة الدعاء، والرحمة، والبركة.
(1) التوبة، آية: 103.
(2) الأحزاب، آية: 56.

**************************

ابوالوليد المسلم 12-11-2019 03:49 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (3)
صـــــ10 إلى صــ16

وقوله [وصلّى الله]: المراد به الرحمة، أي: رحم الله.
قوله رحمه الله: [وسلم على أفضل المصطفين محمد]: قوله رحمه الله: [وسلم] السلام: إما مأخوذ من السلامة من الآفات.
وإما أن يراد به التحية، قال بعض العلماء قول الإنسان: السلام عليكم؛ أي سلّمكم الله من الآفات، والشرور، وهي التحية، والسلام من السلامة، وهو إسم من أسماء الله جل وعلا قال تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ}.
وجمع المصنف بين الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والسلام عليه؛ لأنّ ذلك أكمل.
قال بعض العلماء: (أدب الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُجْمَع فيها بين الصلاة، والسلام عليه، عليه أفضل الصلاة والسلام) اهـ.
والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فجمع له بين الصلاة، والسلام عليه أفضل الصلاة، والتسليم.
قوله رحمه الله: [وعَلى آلهِ، وأصْحابِه] قوله: [وعلى آله]: (الآل) تطلق بمعنيين: آل الرجل بمعنى قرابته؛ قالوا: لأن أصل آل أهل، وهو قول سيبويه، وأن الهاء في أهل أبدلت همزة؛ فقيل آل.
وتطلق بمعنى الأنصار، والأعوان، والأتباع، وشيعة الإنسان تقول: آل فلان: بمعنى أتباعه.
وهذا هو المراد بقول العلماء: (وعلى آله) أي: الذين آمنوا به، واتبعوه عليه الصلاة، والسلام، وليس المراد به خصوص قرابته، وهذا هو الصحيح ونصَّ عليه الإمام أحمد -رحمه الله-، وإختاره جمع من العلماء أن المراد بآلالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذين يُصلّى، ويسلم عليهم تبعاً للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتباعه في كل زمان، ومكان.
قوله رحمه الله: [وأصحابه]: جمع صاحب، وهو من الصُحبة بمعنى الملازمة، والرفقة، وفي الإصطلاح: (كل من رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل موته، وآمن به)، وخصّهم رحمه الله بالذكر لشرفهم، وحقهم في الإسلام حيث آمنوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصدّقوه، وإتبعوه، وناصروه، رضي الله عنهم، وأرضاهم أجمعين.
وقوله: [ومَنْ تَعَبّدَ]: من باب عطف الخاص على العام أي: أنه خصّ المتعبّدين أي: الذين هم أكثر عبادة، وصلاحاً أي خصَّ أهل الالتزام، والطاعة الأكثر، وهذا من باب التشريف، والتكريم.
وقوله: [تعبَّد]: تفعّلٌ من العبادة، والتَّفعل زيادة في المبنى تدلّ على زيادة المعنى، والتعبّد: مأخوذ من العبادة، والعبادة مأخوذة من قولهم: طريق مُعَبّدٌ أي: مذلّل؛ لأن أصل العبودية: الذِّلة؛ فإن الإنسان إذا عبد ربه تذلّل له سبحانه.
أما حقيقة العبادة في الاصطلاح فمن أجمع التعاريف لها ما اختاره بعض الأئمة رحمهم الله: [أنها اسم جامع لكلِّ ما يُحبه الله، ويرضاهُ من الأقوال، والأفعال الظاهرة، والباطنة] أي سواء: كانت متعلقة باعتقاد كالإيمان بالله، والخوف منه، والرجاء فيما عنده، فهذه كلها عبادات من أعمال القلوب الباطنة، وكذلك تطلق العبادة على الأقوال الظاهرة التي يحبها الله تعالى، مثل: التَّسبيح، والتَّهليلِ، والتَّكبيرِ، والتَّحميدِ.وكذلك تُطلق على الأفعال الظاهرة التي يحبها الله تعالى مثل: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج.
فالعبادة تشمل الإعتقادات، والأقوال، والأفعال؛ لكن بشرط أن تكون مما يحبه الله، ويرضاه، وشرط ما يحبه الله، ويرضاه: أن يكون مشروعاً؛ فلا يُعبد الله إلا بما شرع، ودل على كونه مشروعاً منه سبحانه دليل الكتاب، أو السنة، أو الإجماع قولاً كان، أو فعلاً، أو إعتقاداً.
وقوله رحمه الله: [أما بعد]: كلمة يُؤْتى بها للفصل بين المقدمة، والمضمون، فالكلام إذا خاطب به الإنسان غيره سواء كان مكتوباً، أو مسموعاً جرت عادة العلماء أنهم يصدرونه بالثّناء على الله -جل وعلا-، والصلاة، والسلام على نبيِّه، وآله على السُّنة التي ذكرناها، هذه الكلمات التي يُصدَّر بها الكلام تُوصف بكونها مقدمة، ثم بعد هذه المقدمة يُشرع في المقصود أي الأمر الذي يُرادُ بيانه، وهو الهدف من إلقاء الكلمة، أو كتابة الكتاب، ولا بد أن تَفْصِل بينه، وبين المقدمة، ولذلك قال بعض العلماء: إن كلمة (أما بعد): هي فصل الخطاب، قيل: إن أول من تكلم بها داود عليه السلام، وحملوا عليه قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (1) قالوا بدليل قرنها بالحكمة، فيكون قوله سبحانه: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ}: أي الفصل بين مقدمته، ومضمونه، وذلك أبلغ في نفع الناس، وتوجيههم حتى لا يختلط الكلام بعضه ببعض، وهذا قول الشعبي، وطائفةمن المفسرين، والذي يظهر, والعلم عند الله أن فصل الخطاب هو علم القضاء، والفصل بين الناس في الخصومات، والنزاعات.
فقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} ليس المراد بقوله: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أما بعد التي معنا، وإنما المراد به كما قال طائفة من العلماء معرفة الطريقة التي يُفْصَلُ بها بين خطاب الخصوم إذا تخاصموا؛ لأن الخصوم إذا تخاصموا إختلفت أقوالهم، وتباينت حججهم فيكثر كلامهم، وخطابهم ولغطهم؛ فيحتاجون إلى فصلٍ بينهم، فقوله سبحانه: {فَصْلَ الْخِطَابِ} المراد به: علم الفصل في الخصومات، ومن ذلك قولهم (البينةُ على المُدَّعِي، واليمينُ على من أَنْكر)، ومن فصل الخطاب أيضاً: أنه يترك المدعي حتى يكمل دعواه، ثم يسأل المدعى عليه، ولذلك لما لم يفعله داود -عليه السلام-، وحكم على الخصم قبل سماع جواب خصمه عن دعواه، فقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} (1) عاتبه الله، ولذلك كان هذا من تعليم فصل الخطاب، فدلّ سياق الآية على أن المراد بفصل الخطاب ليس أما بعد التي معنا؛ وإنما المراد بها فصل الخطاب بين الخصوم، وهو الذي إمتن الله -عز وجل- به على داود، وعلّمه إياه، فالحاصل أن الصحيح في الآية أنها لا يراد بها كلمة: أما بعد، وهذا لا يعني عدم مشروعيتها، بل إنها مشروعة، حيث ثبتت هذه الكلمة في الأحاديث الصحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومنها ما في الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- من قوله: [أمّا بَعدُ: فَما بالُ أقوامٍ
(1) ص، آية: 24.يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟] فكان يقول هذه الجملة، ولذلك من السُّنة أن تُقالَ بعد المقدمة.
***************************************
وقد يُكرِّرها البعضُ فيقول: أما بعد، ثم يأتي بكلمة، ثم يقول: " ثم أما بعد " والذي يظهر الاقتصار على السُّنة أن يثنى على الله، ويحمده فإذا انتهى من الثناءِ، والحمدِ قال: أمّا بَعدُ، ودخل في المقصود، فتكرارها لا يحفظ له أصل؛ خاصة في خطب الجمع، ونحوها يقتصر على قوله: أمَّا بَعدُ مرةً واحدةً؛ لأنه هديه عليه الصلاة، والسلام، وسنته.
قال المصنف رحمه الله: [فهذا مُخْتصرٌ]: قوله رحمه الله (هذا) إسم إشارة، وهناك حالتان:
الحالة الأولى: أن يُشار إلى شيءٍ موجود، فحينئذ لا إشكال؛ لأنه الأصل فيها أنها اسم إشارة تدل على شيء موجود، فتقول: هذا البيت، فإذا كان المصنف رحمه الله قد كتب هذه المقدمة بعد فراغه من الكتاب، فحينئذ لا إشكال في إشارته بقوله (هَذا مُخْتَصرٌ)؛ لأنه موجود مكتوب.
والحالة الثانية: أن يشار بها إلى شيءٍ غير موجود من باب تنزيل المعدوم منزلة الموجود، فإذا كان المصنف رحمه الله كتب هذه المقدمة عند إبتدائه لتصنيف الكتاب، فإنه يكون قد نزّلَ المعدومَ منزلةَ الموجودِ، وقد درج كثير من العلماء رحمهم الله على ذلك أعني كتابة المقدمة عند إبتداء التصنيف والتأليف؛ لا بعد الفراغ منه، وقد يصرح بعضهم بذلك فيقول: (هذا أوان الشروع فيه) ومنهم من يفهم منه ذلك حينما يقول في مقدمته (وأسأل الله أن يعينعلى إتمامه)، وهذه الطريقة هي الغالبة بدليل أن الكتب، والشروح التي لم يتمُّها مؤلفوها كلها وجدت بمقدماتها.
وعليه فإن إشارته لكتابه على هذا الوجه بقوله (فهذا مختصر) يكون من باب تنزيل المعدوم منزلة الموجود؛ لأن الإختصار لم يحصل بعد، ولكنه قصد حصوله، واحتاج للتنبيه عليه؛ فنزلة منزلة الموجود أي هذا الكتاب الذي سأكتبه مختصر في الفقه.
قوله رحمه الله: [مختصر]: الاختصار ضد الإسهاب، وإذا خاطبت النّاس في خطبة، أو كتبت لهم كتاباً، أو أردت أن تتحدث في موضوع، فلك ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون كلامك أكثر من المعنى، فالمعنى قليل، ولكن الكلام كثير.
الحالة الثانية: أن يكون كلامك أقلّ من المعنى، فالمعنى كثير، ولكن تأتي بكلمات قليلة تحتها معان كثيرة، وهذه الحالة عكس الحالة الأولى.
الحالة الثالثة: أن تأتي بكلام على قدر معناه.
هذه ثلاث حالات: إما أن تخاطب بكلام، ويكون معناه مساوياً، أو أكثر، أو أقل.
فإن كان الكلام كثيراً، والمعنى قليلاً؛ فإنه يُوصف بكونه إطناباً، ولذلك يقولون أطنب في الأمر، وهذا مذموم؛ إلا في حالات خاصة، فلا يكون إلا في خطاب ضعاف الفهم من الجهلة، والعوام الذين يحتاجون إلى شرح،إحدى حالتين:
الحالة الأولى: أن يخاطبهم بكلام مساوٍ لمعناه، وهو ما يسمونه بالمساواة.
والحالة الثانية: أن يخاطبهم بكلام مختصر دالٍ على معانٍ كثيرة، وهو ما يسمى بالإيجاز، والإختصار وهذه الحالة هي الأفضل إن ناسبت المقام، وقد عُدَّت من دلائل الإعجاز في كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث إن الله خصَّ نبيَّه عليه الصلاة، والسلام بها كما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: [أوتِيتُ خَمْساً لم يُعْطَهنَّ أحدٌ قبلي]، وذكر منها
جوامع الكلم، وأنه اختُصر له الكلام إختصاراً.
فكم من آيات قليلة الكلمات، وتحتها من المعاني، والدلالات الكثير، كما في آية الوضوء التي ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله في تفسيرها في كتابه أحكام القرآن أن من العلماء من إستنبط منها ثمانمائة مسألة، وهكذا في أحاديثه عليه الصلاة والسلام التي جعلت أصولاً، فجمعت مسائل كثيرة في كلمات قليلة يسيرة؛ كقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: [إِنّما الأعمالُ بالنّياتِ]، ونحوه.
فقوله رحمه الله: (إِخْتَصرتُه) محمولٌ على الإيجاز، وأن الكلام قليل، والمعنى كثير، ومن عادة الفقهاء رحمهم الله في تصنيفهم للمتون الفقهية أن يراعوا فيها الإختصار، والإيجاز، بخلاف الشروح، والحواشي، والمطولات.



ابوالوليد المسلم 12-11-2019 03:49 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (4)
صـــــ17 إلى صــ22

قوله رحمه الله: [في الفقه] بيان للعلم الذي ينسب إليه هذا المختصر؛ لأن المختصرات منها ما هو في علم العقيدة، ومنها ما هو في علم الفقه، ومنها ما هو في علم الأصول، أو اللغة، أو غيرها، فلما قال في الفقه بيّن العلم المصنّف فيه، وهو العلم الذي يريد إختصاره.
وقوله رحمه الله: (الفقه) الفقه لغة: الفهم، ومنه قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} أي: يفهموا ما أقوله، ثم هذا الإستعمال للفقه بمعنى الفهم لغة فيه قولان: فقيل: إنّه الفهم عموماً، وقيل: إنّه الفهم للأمور الدقيقة التي تحتاج إلى إعمال فكر، وعناء، فلا يطلق على فهم الأمور الواضحة، وعلى هذا القول، فلا يصح أن تقول: فقهت أن الواحد نصف الإثنين؛ لأنه أمر واضح لا يحتاج إلى كبير عناء.
وعلى هذا يكون القول الأول: عاماً شاملاً لكل فهم، وعلى الثاني: يكون الفقه خاصاً بالفهم الذي يحتاج إلى إعمال فكر، وبذل جهد.
أما الفقه في الاصطلاح: فهو (العلم بالأحكام الشرعية، العملية، المكتسبة من أدلتها التفصيلية).فقولهم: (العلم بالأحكام الشرعية)، العلم ضد الجهل، وحقيقته: إدراك الشيءِ على ما هو عليه، فإذا أدركت الشىء على حقيقته التي هو عليها؛ فقد علمته، أما لو أدركته ناقصاً عن حقيقته فإنك لم تعلمه.
و (الأحكام) جمع حكم، وهو في اللغة: المنع، والقضاء، والحكم: إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، وله عدة تعاريف تختلف بحسب إختلاف أنواعه.
وقولهم: " إثبات أمر لأمر " مثاله: أن تقول زيد قائم أثبتَّ القيام لزيد هذا حكم حكمت عليه بالقيام، وقولهم: " أو نفيه عنه " أي تنفيه عنه فتقول مثلاً: زيد ليس بقائم؛ هذا حكم حكمت عليه بأنه ليس بقائم.والحكم الشرعي في اصطلاح علماء الأصول: هو (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع).وقولهم (الشّرعية) قيد يخرج الأحكام غير الشرعية كاللغوية، والعادية، والنطقية، وغيرها فهو يدل على أنها مختصة بالأحكام إذا كانت من الشرع فقط.وقولهم (العملية) قيد يخرج بقيّة الأحكام الشرعية كالعقائدية؛ لأن العملية مختصة بالعبادات والمعاملات، فلا يدخل فيها ما كان متعلقاً بالعقائد؛ لأنه يبحث في كتبه المتخصصة فيه ككتب التوحيد والعقيدة.
وقولهم: (المكتسبة) أي: المستفادة التي حُصِّلت، واستفيدت.وقولهم: (من الأدلة الشرعية) بيان لأصل الحكم، والأدلة الشرعية هنا عامة شاملة للأدلة النقلية، وهي: دليل الكتاب، والسنة، والإجماع، والأدلة العقلية كالقياس، والنظر الصحيح.
قوله رحمه الله:
[منْ مُقْنِع الإمامِ الموفّق أَبي مُحمّدٍ]: قوله: [من]: للتبعيض، أي: أنه جعل كتاب المقنع للإمام الموفق أبي محمد رحمه الله أصلاً لكتابه هذا، فاختصره منه.والمقنع: كتاب للإمام الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي- رحمة الله عليه- المتوفى عام 620 هـ في يوم عيد الفطر هذا الإمام الجليل ألّف كتاباً إسمه: عمدة الفقه، وهذا الكتاب صاغ فيه الفقه بأخصر عبارة، واعتبره الدرجة الأولى لطالب الفقه، ثم ألّف بعده كتاباً إعتبره درجة ثانية فوقه، وهو المقنع، وتوسّع فيه قليلاً عن العمدة.ثم وضع كتاباً ثالثاً وهو الكافي، وذكر فيه الخلاف مختصراً للخلاف في داخل مذهب الحنابلة، وهو فوق كتاب المقنع.ثم وضع كتابه المغني ذكر فيه خلاف الروايات، واختلاف الفقهاء، فجمع بين الخلاف داخل المذهب، وخارجه، وهو كتابه لمن أراد أن يتأهل لدرجة الاجتهاد، فهذه درجات وضعها هذا الإمام الموفق -رحمة الله عليه- في دراسة الفقه، وهذه عادة المتقدمين أنهم يضعون الفقه على مراتب، ولا يمكن لطالب العلم أن يضبط علم الفقه، ويكون فقيهاً بمعنى الكلمة إلا إذا ضبطه بهذه الطريقة، وهي التدرج في دراسته.فالكتاب الذي معنا هو الدرجة الثانية، وهو كتاب المقنع، ويعتبر درجة ثانية بعد العمدة فليس من الصواب أن الشخص يبدأ بالمغني أولاً، دون أن يتأهل بدراسة ما قبله حتى يتسنى له ضبطه، وفهمه.فالإمام الحجاوي -رحمة الله عليه- إختصر المقنع؛ فألغى منه مسائل، وأضاف مسائل، فسماه زاد المستقنع، فالأصل في هذا الكتاب أنه كتاب المقنع، أُضيفت إليه مسائل، وحُذفت منه أخرى.
قوله رحمه الله: [على قولٍ واحدٍ، وهُو الرَّاجِحُ في مذهبِ أحمدَ] قوله: [على قول واحد]: الفقهاء رحمة الله عليهم كانوا يكتبون الفقه على طريقتين:الأولى: طريقة المذهب.والثانية: وطريقة الخلاف بين المذاهب.
أما طريقة المذهب: فهي طريقة يُعتنى فيها ببيان المذهب على إحدى صورتين:الصورة الأولى: تكون ببيان خلاصة المذهب، دون تعرض لخلافه، وهذه طريقة المتون، وهذا هو منهج الكتاب الذي معنا.
والصورة الثانية:
أن يذكر الخلاف في المذهب فيقول: في المذهب ثلاث روايات، أو أربع، وهكذا فإذا ذكر الخلاف في المذهب: فإما أن يذكره عن الإمام بالروايات، والأقوال، وإما أن يذكره عن أصحاب الإمام بالأوجه.إذاً فكتب المذهب إما أن تعتني بحسم المذهب، بذكر الخلاصة؛ وإما أن تعتني ببيان الخلاف داخل المذهب، فالمصنف رحمه الله بيّن خلاصة المذهب، واختياره في كتابيه العمدة، والمقنع، وذكر الخلاف في الكافي، وذكره بإسهاب مقارناً بين المذاهب في المغني.فإذا عرفنا أن هناك خلافاً في المذهب، وخلافاً بين العلماء -رحمهم الله- خارج المذهب، فبيّن رحمه الله أنه في هذا الكتاب المختصر لا يذكر الخلاف داخل المذهب، ولا خارجه، وأنه سيذكر الخلاصة للمذهب فقط.
قوله رحمه الله:
[ورُبّما حَذفتُ منه مسائلَ نادرةَ الوقوع]: قوله: [ربَّ]: للتقليل، وقد تستعمل بمعنى التكثير، ولكن الأصل فيها التقليل،والحذف: يكون بقصد الاختصار، وقد يحذف لعدم وجود الحاجة الماسة للمسائل المحذوفة، فلذلك قال رحمه الله:[ورُبّما حَذفتُ منه مسائلَ نادرةَ الوقوعِ]: النادر ضد الغالب، والنادر هو الأمر قليل الحدوث، والغالب عكسه؛ كثير الحدوث.قوله رحمه الله: [وزدتُ ما على مثله يُعْتَمد]: أي أنني سأزيد بدل هذه المسائل التي حذفتها مسائل تشتد الحاجة إليها لكثرة وقوعها، أو أهمية دراستها.وهذا الحذف، والزيادة من الإمام الحجّاوي رحمه الله، إختصاراً منه لمقنع الإمام الموفق أبي محمد رحمهما الله برحمته الواسعة.
قوله رحمه الله:
[إذ الهِمَمْ قَدْ قَصُرت، والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كَثُرتْ] قوله: [إذ الهِمَمْ]: جمع همة، وهي إحدى مراتب الأمر إذا وقع في نفس الإنسان، ولا يمكن أن يقع الاهتمام بالأمر إلا بعد أن يحدّث نفسه به، فأولاً يكون الشيء في قلب الإنسان حديثاً، ووسواساً يخطر بالإنسان، وتُحدِّثه به نفسه فإذا حَدّثتهُ نفسه إهتم به، فإذا الهمُّ يكون بعد الخاطر، والهاجس، ويكون بمعنى تهيئ النفس للعزم على الشيء، ثم بعد ذلك يكون عزمها عليه، فبيّن رحمه الله أن الهمم في زمانه قد ضعفت حتى إحتيج إلى المختصرات، تخفيفاً في الطلب، وتيسيراً للعلم، بعد أن كانت الهمّة في طلب العلم قويّة متعدية، لا تقف عند حدٍ، فأصبحت قاصرة ضعيفة تحتاج إلى ما يناسبها.
قوله رحمه الله: [والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت]: الأسباب: جمع سبب، وهو في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء، كالحبل، ونحوه.
والتَّثْبِيطُ: هو التخذيل عن الشيء، والمراد: ما يقصده الإنسان ويطلبه.
والمعنى:
أن المصنف رحمه الله أراد أن يبين ضعف الحال في طلب العلم فبعد أن كانت الهمم في الطّلب عالية، والأسباب المعينة عليه متوفرة تغيّر الحال، وإختلف، فأصبح على عكس ذلك، مما إقتضى وضع ما يناسب حال الناس من مختصرات تقرّب العلم، وتسهل الوصول إليه؛ مراعاة لضعف حال الناس في طلب العلم، ثم إن الإنسان يضعف عن الخير بأمرين:الأمر الأول: من نفسه.
والأمر الثاني: خارج عن نفسه.
فأشار إلى الأمر الأول بقوله: (إذِ الهِمَمْ قَدْ قَصُرتْ) وأشار إلى الثاني بقوله: (والأسبابُ المثبّطةُ عن نيلِ المرادِ قدْ كَثُرتْ).قوله رحمه الله: [ومع صِغرِ حَجْمهِ حَوى ما يُغنيِ عَنِ التطويل]: قوله: [حوى ما يغني عن التطويل] والغناء المراد به الكفاية هذا يغنيني أي: يكفيني، وقد تستعمل مادته بمعنى حسن الصوت، ومنه التغني وحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (مَنْ لم يَتَغَنّ بالقرآنِ فَليسَ منّا)، وقد تستعمل بمعنى الإقامة: ومنه قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (1) أي: لم تقم بمكانها.
(1) يونس، آية: 24.

ابوالوليد المسلم 12-11-2019 03:50 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (5)
صـــــ23 إلى صــ26



والتطويل المراد به هنا كما ذكرنا الإسهاب، ومراده رحمه الله أن يبيّن أن إختصاره لم يكن مُخِلاً بالكتاب، بل كان مناسباً.ويرد هنا إشكال، وهو أن: العلماء -رحمهم الله- في بعض الأحيان يذكرون عبارات فيها ثناء على كتبهم، أو بيان لفضل هذه الكتب، والمؤلفات، وهذا يتضمن التزكية، والمدح للنفس، وقد ثبت في الشرع النهي عن تزكية النفس أليس ثناؤه على كتابه من باب التزكية، والمدح؟ هذا إشكال، ويحتاج إلى جواب؟والجواب: أن التزكية، والثناء على النفس لها حالتان:الحالة الأولى: أن تتضمن الإدلاء على الله، والعُجْبَ بالنفس، والإغترار بها، والعياذ بالله فهذا نسأل الله السلامة، والعافية هو المحرّم، ولا يجوز؛ كأن يُثني الإنسان على نفسه بكثرة علم، وعبادة مغتراً، ومتعالياً، وقد عاتب الله -جل وعلا- موسى -عليه السلام- لما ذكر علمه، وهو عالم، ولم يكن ذلك منه تفاخراً كما ثبت في الصحيح، فكيف بمن فعل ذلك تفاخراً، وبيّن الله في كتابه أنّ الذين عذبهم، وأهلكهم من شأنهم أنهم فرحوا بما عندهم من العلم، حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزؤن.الحالة الثانية: التَّزكية على سبيل معرفة الحق، والترغيب فيه، فمثلاً يقول: تعلمت هذا العلم من العلماء، أو أفتيتك بهذه الفتوى من العلماء، أو هذا الأمر الذي ذكرته لك من الكتاب، والسُّنة، فتثني على علمك حينما ترى إستخفاف الناس به، أو تريد حملهم على العمل بالحقِّ، والسُّنة، فهذا فَعَلَهُ الصحابة رضي الله عنهم، كما قال أنس رضي الله عنه في الحديث الصحيح
[ما تعدُّوننا إلا صبياناً، لقد كنت تحت ناقة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسُّني لعابها أسمعه يقول: لبيك عمرةً، وحجةً] وقال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري: [ما بقي أحدٌ أعلمَ بمنْبرِ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منّي] فهذا نوع من الثناء على نفسه بالعلم حتى يُقدَّر قدرُه.
فأجاز العلماء أن يثني الإنسان على نفسه لمعرفة قدره؛ كما قال سبحانه حكاية عن نبيِّه يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (1) فإذاً إذا كان الإنسان عنده حقٌّ وعلم فبيّن نعمة الله عليه من باب معرفة قدره فإنه لا حرج عليه، فهذا من باب الترغيب في قبول الحق، والعمل به، ونرجو ألا يكون من باب التزكية، والثّناء المذموم شرعاً.
قوله رحمه الله:
[ولا حول ولا قوة إلا بالله]: للعلماء فيها وجهان:الوجه الأول: منهم من يقول لا حول: أي لا تَحوُّل من حالٍ إلى حالٍ، ولا قوة على ذلك التحول ولا بلاغ إلا بالله، فأصل الحول من التغير، والتبدل، ولذلك يطلق على السَّنة؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا مرّتْ عليه سنة كاملة تحوّل حاله، وتغيّر فيمرض، ويصح، ويغنى، ويفتقر، ويهلك ماله، ويزيد إلى غير ذلك من العوارض، فالحول مدة ليست يسيرة.
وعلى هذا المعنى يكون قولهم لا حول أي:
لا تحوّل من حال شر إلى حال خير إلا بالله العلي العظيم.
(1) يوسف، آية: 55.
********************
الوجه الثاني: لا حول في دفع ضُرٍّ، ولا قوة في بلوغ خير إلا بالله، فالله -جل وعلا- منه الحول، والطول، والقوة، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لما سمع المؤذنَ يقولُ: حيَّ على الصلاةِ، حيّ على الفلاح قال: [لا حَوْلَ، ولا قُوةَ إِلا بالله] قال بعض العلماء: مناسبته أنه بَرِأَ من الحول، والقوة في إجابة داعي الله؛ إلا بعد توفيق الله -جل وعلا- ومعونته، فقد يكون الإنسان راغباً في حضور الصلاة، وأدائها، ولكن يُحالُ بينه، وبينها بسقمٍ، أو مرضٍ، وقد يحال بينه، وبينها بتأخرٍ، أو تقاعسٍ فلا حول للإنسان، ولا قوة في بلوغ الخير إلا بالله -جل وعلا-، وهكذا في دفع الشَّر، وهذه الكلمة كنز من كنوز الجنة كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام.
قوله رحمه الله: [وهو حَسْبُنا]: وهو: أي الله، الحسب: الكفاية، حسبي: كفايتي، حسبنا: جاء بصيغة الجمع التي تشمله، وتشمل السامع، والقارئ، والمؤمنين المتوكلين عليه سبحانه، وهو حسبنا أي: كافينا.
قوله رحمه الله: [ونِعْمَ الوكيلُ]: ثناء على الله -جل وعلا-، والوكيل: هو القائم على الشيء، المتوكل عنه، والله خالق كل شىء، وهو على كل شيء وكيل، فهو القائم على كل نفس، وهو المتوكل بكل نفس -سبحانه وتعالى-، وبكل شىء، فهو حسبنا في بلوغ هذا الأمر الذي رسمناه، والمنهج الذي ذكرناه.
قوله رحمه الله:
[ونِعْمَ الوكيلُ]: أي نعم من يُتَوكّلُ عليه، أو يُوْكَل إليه الأمر.
وهذه المقدمة فيها فوائد: نجملها فيما يلي:أولاً: الثناء على الله -عز وجل-، واستفتاح الكتب بذلك، وفي حكمها الخطب، والمواعظ ونحوها.
ثانياً: الفصل بين مقدماتها، ومضامينها.
ثالثاً: أن تكون هذه المقدمة مشتملة على التعريف بالكتاب، وبيان منهج المؤلف فيه، وفي تقسيم مادته، وترتيبها.
هذه فوائد يستفيد منها طالب العلم في البحث، وكتابة رسالة، أو موضوع، ثم خَتْمُ ذلك بالثناء على الله -جل وعلا- وسؤاله المدد، والعون.
فلذلك ينبغى لطالب العلم أن يستفتح مقدمته بالثناء على الله -عز وجل-، ويختمها أيضاً بسؤال الله -عز وجل- المعونة، والتوفيق.
ونسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يجزي هؤلاء الأئمة، وإخوانهم من علمائنا خير ما جزى عالماً عن علمه، اللهم أسبغ عليهم واسع الرحمات، وإجعل لهم جزيل المغفرات، وعلو الدرجات، وألحقنا بهم على أحسن ما تكون عليه الخاتمة، والممات؛ إنك عل كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والله تعالى أعلم.



ابوالوليد المسلم 06-06-2020 07:17 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (6)

صـــــ27 إلى صــ33



[كتاب الطهارة]

قال المصنف رحمه الله:
[كتاب الطهارة]: الكلام عن هذه الجملة في موضعين:الموضع الأول: في بيان معنى قوله: كتاب الطهارة.
والموضع الثاني:
في بيان مناسبة تقديم كتاب الطهارة، وجعله في إبتداء هذا الكتاب.قال المصنف رحمه الله: [كتاب الطهارة]: الكتاب مصدر مأخوذ من قولهم: كَتَبَ الشيءَ يَكْتُبه كتْباً، وكِتَابةً، وأصل الكَتْبِ في لغة العرب: الضَّمُ، والجمع، ومن ذلك قولهم: تَكتّبَ بنو فلان؛ إذا إجتمعوا.
قال العلماء:
سمي الكتاب كتاباً لاجتماع حروفه، وإنضمام كلماته بعضها إلى بعض.
قوله: [الطَّهارة]: الطهارة في لغة العرب: النّظافة، والنّقاء من الدَّنس يقال: طَهُرَ الشيء بفتح الهاء، وضمِّها، يَطْهُر بالضم، طَهَارةً؛ إذا كان نقياً من الدنس نظيفاً.
وأما في اصطلاح العلماء رحمهم الله: فهناك عدة تعاريف منها ما أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: (ارتفاعُ الحدثِ، وما في معناهُ، وزوالُ الخَبثِ) وسيأتي بيان المراد بهذا التعريف في موضعه.
وعرّفها بعضهم بقوله: [صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصّلاةِ به، أو فيه، أو له].
فقولهم:
[صفة حكمية]: يدل على أن الطهارة من الأوصاف المعنوية، وهي الأوصاف غير المحسوسة، فإنها ليست كالطول، والقصر أوصافاً محسوسة مشاهدة في الموصوف، فأنت إذا قلت فلان متطهر فإن وصفك له بالطهارة ليس بشيء محسوس نراه عليه، بل هو متعلق بالمعاني كالعلم، والشجاعة، ونحوها من الأوصاف الحكمية المعنوية.
وقولهم: [تُوجِبُ] بمعنى: تثبت.وقولهم: [لموصوفها] أي: للشخص الذي يُوصف بها.وقولهم: [جواز استباحة الصلاة] أي: الحكم بحلِّ الصلاة، وعليه فإنها تفيد الحلّ لا الوجوب، ولا غيره فمن تطهر حلّ له أن يصلي، ولم يلزمه ذلك، وثبوت هذا الوصف في حقه لا يستلزم منه فعل الصلاة، ومن هنا عبّر بالجواز المقتضي لمطلق الإباحة، والإذن بالشيء، دون لزومه على من إتصف به، ومثل الصلاة الطواف بالبيت، ونحوه مما تُشْترط له الطهارة؛ كلمس المصحف.وقولهم: [به، أو فيه، أو له] إشارة إلى ثلاثة أمور لا بد من توفرها للحكم بصحة الصلاة، وهي طهارة: البدن، والثوب، والمكان.فالمصلي لا بد له من تحصيل الطهارة في هذه الثلاثة الأمور في بدنه، وهو المُعبَّر عنه بقولهم: [له] وفي مكانه، وهو المُعبَّر عنه بقولهم: [فيه]، وفي ثوبه وهو المُعبَّر عنه بقولهم: [به] وهذا جمع التعريف بين نوعي الطهارة، وهما: طهارة الحدث، والخبث، وقد أشار إلى طهارة الحدث بقوله: [جواز استباحة الصلاة] لأن هذا الجواز لا يكون إلا بعد تحصيل الطهارةمن الحدث، وأما طهارة الخبث فقد أشار إليها بقوله: [به، أو فيه، أو له] فجمع أنواع طهارة الخبث في المواضع الثلاثة: وهي الثوب، والبدن، والمكان.وهذا التعريف لا يعارض التعريف الذي ذكره المصنف رحمه الله كما سيأتي، بل معناهما واحد، وإن كانت ألفاظهما مختلفة، كما سيتضح عند شرحه، وبيانه بإذن الله تعالى.
وبعد ذكر معنى الطهارة في اللغة، والاصطلاح فإنه يرد السؤال: لماذا بدأ المصنف رحمه الله كتابه الفقهي بالطهارة؟والجواب: أن الفقه منه ما هو متعلق بالعبادات: كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج؛ ومنه ما هو متعلق بمعاملة الناس بعضهم مع بعض: كالبيع، والنكاح، والجناية.فأجمع العلماء على تقديم العبادة على المعاملة فيقدمون أبواب الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج على سائر أبواب المعاملات؛ والسبب في ذلك: أن العبادة هي الأصل، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [ليكُنْ أولَ ما تدعُوهمْ إِليه شَهادةُ أنّ لا إله إلا اللهُ، فإنْ همْ أَطاعُوك لذلك؛ فأَعلمْهم أن الله افترضَ عليهم خمسَ صلوات في كلِّ يومٍ، وليلةٍ] فقدَّم الصلاة، وجعلها بعد الشهادتين، ولذلك درج العلماء من المحدثين، والفقهاء على استفتاح كتب الحديث، والفقه بكتاب الصلاة من هذا الوجه، وقدّم الطهارة على الصلاة؛ لأنها مقدمة عليها، وتسبقها كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (1) فأمر كل من قام إلى الصلاة أن يتطهر قبل فعل الصلاة، وبناءً على ذلك قُدّم الكلام على الطهارة على الكلام عن الصلاة، وبعبارة علمية كما يقول العلماء: الطهارة وسيلة، والصلاة مقصد، والقاعدة: أن " الكلامَ على الوسائلِ مقدّمٌ على الكلامِ على المقاصدِ ".فتقرر بهذا أن يُبدأ ببيان أحكام الطهارة، ثم يثنَّى بعد ذلك ببيان أحكام الصلاة.وبيان أحكام الطهارة يستلزم بيان ما يتطهر به، والصِّفة التي تحصل بها الطهارة.وبيان ما يُتَطهر به مُقدّمٌ على بيان الصِّفة؛ لأنها (لا تحصل) إلا بعد وجوده.وما يُتَطهر به في الشرع: إما أن يكون أصلاً، وهو الماء، وإما أن يكون بدلاً عنه، وهو التراب في طهارة الحدث، وكل طاهرٍ مُنق في الإستجمار في طهارة الخبث.ولا شك أن البداءة ستكون بالأصل، ثم يُثنّى ببيان بدله بعده، وعليه فقد إعتنى الفقهاء رحمهم الله في كتاب الطهارة بالبداءة بأحكام المياه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله بعد بيانه لتعريف الطهارة فقال رحمه الله: [وهي: إِرتفاع الحدثِ، وما في معناهُ، وزوالُ الخَبثِ].
(1) المائدة، آية: 6.
***************
قوله رحمه الله: [وهي إِرتفاع الحدث] الضمير عائد إلى الطهارة.وقوله: [إِرتفاع] مصدر إرتفع ليطابق المُفَسِّر للمُفَسَّر في اللزوم.
وقوله رحمه الله:
[الحدث] مأخوذ من قولهم: حَدَثَ الشَّيءُ إذا جدَّ، وطرأ، ومنه الحديث، وهو الجديد.وأما في اصطلاح العلماء رحمهم الله: فإن الحدث: [صفةٌ حكمية تُوجبُ منعَ موصوفِها من استباحةِ الصلاةِ، ونحوها من العبادات التي تُشْترطُ لها الطّهارةُ]، ومن أهل العلم رحمهم الله من عرَّفه بقوله: [ما أوجب وضوءاً، أو غسلاً] فشمل كلا التعريفين الحدث بنوعيه: الأصغر، والأكبر.
وعلى هذا فالمراد بقول المصنف رحمه الله: (إرتفاع الحدث) زوال الوصف الحاصل بالحدث المقتضى للمنع مما تجب له الطهارة.وقوله رحمه الله: [وما في معناه] معطوف على ما قبله فيكون التقدير: (وإِرتفاع ما في معناه) والضمير في (معناه) عائد إلى إرتفاع الحدث، وقيل: إلى الحدث، والذي في معنى الحدث غسل الميت، والنوم، والغسل المستحب، وتجديد الوضوء، فهذه كلها ليست بأحداث حقيقية، وشرعت من أجلها الطهارة فهي طهارة شرعية لا ترفع حدثاً حقيقياً وإنما ترفع ما هو في حكم الحدث من جهة التعبّد، فالغسل من تغسيل الميت عند من يقول به، فإنه يرى أن من غسّل ميتاً لزمه الغسل، وتغسيل الميت لم يوجب حدثاً، وإنما هو تعبّديٌ أمر الشرع به؛ فنزل منزلة الحدث، وكذلك النوم ليس بحدث حقيقي، ولكنه مظنّة الحدث؛ فنزل منزلته، وأخذ حكمه؛ وهكذا بقية المذكورات.وقوله رحمه الله: [وزوال الخبث] زوال الشيء ذهابه، والخبث: هو النجاسة، وزوالها يكون عن البدن، والثوب، والمكان، وبهذه الطهارة يستبيح المصلي العبادة بطهارة بدنه من الحدث، وطهارته من الخبث في ثوبه، وبدنه، ومكانه الذي يصلي فيه.
قوله رحمه الله:
[المياه ثلاثة] المياه جمع ماء، وجمعها رحمه الله لتعدّدها، واختلاف أنواعها.
وقوله رحمه الله:
[ثلاثة] وهي: الطهور، والطاهر، والنجس، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله من المالكية، والشافعية، والحنابلة في المشهور.وذهب الحنفية رحمهم الله إلى أن الماء قسمان: طاهر، ونجس، وأنه لا فرق بين الطهور، والطاهر.وما ذهب إليه الجمهور هو الراجح في نظري والعلم عند الله، وذلك لما يلي:أولاً: دليل الكتاب في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}، ووجه الدلالة: أن الله وصف الماء الباقي على أصل خلقته بقوله: {طَهُورًا} أي: أنه طاهر في نفسه مُطهِّرٌ لغيره فأصبحت فيه صفة زائدة على صفة الطهارة الأصلية فيه، وهي كونه: مطهراً لغيره، وقد دلّ على ذلك قوله سبحانه: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} فلما وصف ماء السماء في هذه الآية بوصف زائد على وصف الماء الأصلي فيه من كونه يُطَهِّر دلّ على صحة ما ذكره الجمهور من أن الطّهور فيه معنى زائد، وهو كونه مطهراً لغيره ففارق الطاهر، والقرآن يفسّر بَعضُه بعضاً، فيكونمعنى قوله في الآية الأولى {طَهُورًا} ما ورد في الآية الثانية من قوله سبحانه: {ليُطَهِركُمْ بِهِ}، وهذا هو معنى قول بعض الفسرين إن قوله سبحانه: {طَهُورًا} فيه زيادة في المبنى إقتضت أن يكون طاهراً مطهراً كما يقوله الإمام القرطبي رحمه الله، ويكون تعريف الجمهور للطّهور بأنه: هو الطّاهر في نفسه المطهر لغيره مستنبطاً من هذا الدليل الشرعي.
ثانياً:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلاً سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ إنَّا نركبُ البَحْر ومعنا اليَسيرُ من الماءِ إِنْ تَوضّأنا بهِ عَطِشْنا؛ أفنَتوضّأ بماءِ البَحْرِ؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [هو الطهُورُ مَاؤُه، الحِلُّ مَيْتتُه].
ووجه الدلالة من وجهين:
الأول: أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا عن ماء البحر، مع أنه ماء في ظاهره، فلم يكتفوا بذلك، فدلّ على أنهم كانوا يعرفون أنه لا يُتوضّأ بكلِّ ماءٍ، وأنه لا بد من ماء مخصوص، وهو الباقي على أصل خلقته الذي لم يتغير، والبحر ماؤه طاهر متغيّر، فظنّوا أن هذا التغيّر مؤثر في طهوريته، ولم ينكر عليهم عليه الصلاة والسلام سؤالهم على هذا الوجه الدّالِ على التفريق بين نوعي الماء الطَّهورِ، والطَّاهرِ، وإنما بيّن لهم أن ماء البحر لا زال طهوراً وأَن تغيُّرَهُ بالقرار لا يؤثر في طُهُورِيّته، وهو ما يستفاد من قوله في جوابهم: [هو الطَّهور].




ابوالوليد المسلم 06-06-2020 07:17 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (7)

صـــــ34 إلى صــ39



الوجه الثاني: في قوله: [هو الطَّهُورُ]، ولم يقل الطّاهر إشارة إلى الفرق بينهما حيث إختار صيغة فعول الدّال على زيادة المعنى فيه على غيره ليبيّن أنه ليس كالطاهر كما قدمنا في دليل الكتاب.
قوله رحمه الله: [طَهُورٌ: لا يرفعُ الحدثَ، ولا يُزيلُ النَّجِسَ الطارئَ غيَرُه]: بدأ رحمه الله بالطَّهور؛ لأنه الأصل في الماء فهو الباقي على أصل خلقته، وكلّ من الطاهر، والنَّجِس يحصل بتغير الطهور، فإن تغير الطهور بشيء طاهر صار طاهراً، وعكسه النجس، فصار الطهور أصل المياه من جهة بقائه على أصل خلقته، دون تغيّرٍ، ودل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} ومن أمثلته: ماء السماء، والبئر، والنهر، والعين، والسّيل، والبحر.
فأما ماء السماء: فإنه هو أصل الماء كما قدمنا، وقد نصّ الله تعالى على طَهُوريتِه، ثم هو إما أن يستقر في الأرض، وإما أن يجري على وجهها.
فأما المستقر في الأرض فإنه باقٍ على الأصل من طهوريته كما قال سبحانه وتعالى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} فإن خرج بنفسه من جوف الأرض، كماء العيون؛ فهو طهور إعتباراً لأصله، وإن أخرجه الإنسان كماء البئر فهو طهور أيضاً، ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ماء بئر بضاعة: [إِن الماء طَهورٌ، لا يُنَجِّسُهُ شَيءٌ] فدلّ على ما قدمنا من البقاء على الأصل من طهورية ماء السماء إذا إستقر في الأرض، سواء خرج بنفسه كماء العيون، أو أخرجه المكلف؛ كماء البئر.
______________________________ ______________________________ _________
بلون الأرض؛ لأنه تغيّر بما يشقُّ صَونُ الماء عنه، وذلك لا يسلبه الطّهورية.
وأما ماء البحر فقد نصّ عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الصحيح أنه طهور بقوله: [هو الطهُورُ مَاؤُه]، وفيه خلاف ضعيف عن بعض الصحابة رضي الله عنهم لا يؤثر، حيث نصّت السنة على طُهوريّته، ولعلّ من خالف لم يبلغه الحديث، وقد جمع المصنف رحمه الله وصف الطهور في أمرين:
الأول:
منهما تعبّدي؛ أي أنه متعلق بالعبادة، وهو قوله: [لا يرفعُ الحدث، ولا يزيل النجسَ الطاريء غيرُه].
والثاني: طبعي؛ حيث وصفه بكونه باقياً على أصل الخلقة في قوله: [وهو الباقي على خلقته].
فقوله رحمه الله:
[لا يرفع الحدث] تقدم أن الحدث كل ما أوجب وضوءاً، أو غسلاً، فشمل نوعين: الأكبر: كالجنابة، والحيض، والنفاس، والأصغركالبول، والغائط، والريح فهذه كلها أحداث، وإزالتها تكون باستعمال الماء الطّهور على الوجه المعتبر شرعاً.
فلا تحصل طهارة الوضوء، ولا الغسل إلا بالماء الطهور، وهذا معنى كونه لا يرفع الحدث، وهكذا الحال في طهارة الخبث التي أشار إليها بقوله رحمه الله: [ولا يُزيلُ النَّجِسَ الطاريءَ غَيرُه] فإزالة النجاسة من البدن، والثوب، والمكان لا تحصل بغير الطهور من المياه، ولا بغيره من المائعات، لما قدّمنا من دلالة النصوص الشرعية.
وقوله رحمه الله: [النَّجِسَ الطّاريء] التفريق بين النجاسة العينية، وغيرها فالنجاسة العينية لا تقبل التّطهير بحال، وذلك مثل: نجاسة الميتة، والخنزير؛ فهي نجاسة ذاتٍ، وعينٍ، فلو غُسلت الدّهر كله لم تَطْهُر، فهذا النوع يوصف بكونه نجساً، وأما غيره مما تطرأ عليه النجاسة؛ فيكون أصله طاهراً كالثوب، والفراش، ونحوه، ويوصف بكونه متنجساً لأن الأصل طهارته، والنجاسة طارئة عليه، يمكن إزالتها، فهذا هو الأصل، أنه يفرّق بين النّجس، والمُتنجِّس، وقد يُتسامح فيعبّر بالنّجس عن المُتنجِّسِ، وبهذه العبارة بيّن المصنف رحمه الله أن الذي يقبل التطهير هو المُتنجّسُ، وهو الذي طرأت عليه النّجاسة دون النّجس العيني الذي لا يمكن تطهيره بحالٍ، كما قدمنا.
قوله رحمه الله:
[فإن تغيّر بغيرِ مُمازِجٍ] بعد أن بيّن رحمه الله الأصل في الطهور شرع في بيان أحكام تغيّره، وإنتقاله عن ذلك الأصل، وهذا يستلزم بيان المسائل المتعلقة بما يُلقى في الماء، سواء غيّره، أو لم يغيِّره.
فبدأ رحمه الله بالأخفِّ، وهو الذي لا يسلب الطهورية، ولكنه يوجب الحكم بكراهة إستعمال الماء، وهو الذي لا يمازج الماء كالدُّهن، ونحوه فقال رحمه الله:[فإن تغيّر بغيرِ مُمازِجٍ]: أشار بهذه العبارة إلى أن التغير نوعان: إما أن يكون بممازج للماء، أو يكون بغير ممازج، وهذا يستلزم معرفة حقيقة الممازجة أولاً؛ ليمكن التفريق بين الحالتين.فأما الممازجة فحقيقتها إختلاط الشيئين ببعضهما؛ حتى لا يمكن أن يفرق بينهما، بحيث يصيرا كالشيء الواحد،
ومن أمثلته في الطاهرات:
أن يُلقَى الحبرُ في الماء الطهور، فإنه بمجرد طرحه فيه يمتزج بالماء حتى يصيرا كالشيء الواحد لوناً، وطعماً،
ومثاله في النجاسات:
البول فإنه إذا ألقى في الطَّهور إمتزج معه، وخالطه فتجد رائحة البول، وطعمه، ولونه في الماء ظاهرةً.فهذا النوع من الممازجهَ لا إشكال فيه، وهو ينقل الماء الطهور إما إلى طاهر، وإما إلى نجس؛ أي بحسب ما ألقي فيه،
ومن هنا قيل:
[الماءُ إِن تَغيّر أخذَ حكمَ ما غَيّره].
ومثل هذا لا يُبْحث في الطّهور لأنه موجب للحكم بتغيّره، إلا ما كان من المسائل مستثنى مثل الحالات التي توجب المشقة، والتي سينبه عليها رحمه الله بعدُ، والذي يبحث هنا هو ما حُكِمَ ببقائه على أصل الطّهورية، وهو ما لم يتغيّر، ومن هنا إختار المصنف رحمه الله صوراً من التغيّر لا يُحكمُ فيها بانتقال الماء من الطّهورية، إلا أنه محكوم بكراهية إستعمال الماء فيها، وهي وسط بين الباقي على أصل الطهورية، وبين المتغيّر حقيقة، ومثل هذه الحالةمذهب بعض علماء الأصول أنها تأخذ حكم المكروه؛ فالحكم بكراهته من جهة توسّطه بين الطهور الباقي على الأصل، والمتغيّر الخارج عن الأصل؛ سواء كان تغيّره بطاهر، أو نجس، وهذا أصل عند طائفة من علماء الأصول؛ وبُني عليه الحكم الفقهي عند من يختار هذا القول، وله نظائر كثيرة،
ومنها:
مسألة مساواة الإزار للكعبين فهي وسط بين الحلال، والحرام فكرهت عند من يقول بكراهتها.
قال رحمه الله: [فإنْ تغَيّر بغيرِ مُمازج؛ كَقِطع كَافُورٍ] أي: إذا وضع في الماء الطهور قطع الكافور، فغيّرته فإن هذا التغيّر حصل بغير ممازج؛ لأن قطع الكافور الجامدة لا تتحلّل في الماء كالممازج، والكافور هو الطيب المعروف،
وفي حكمه ما كان مثله:
كعود القماري، والقطران، والزّفت، ونحوها.
قوله رحمه الله:
[أو دُهْنٍ] الدُّهن بجميع أنواعه لا يتحلل في الماء كالسَّمْنِ، والزيوت فإذا وقعت في الماء صارت فوقه، ولم تمتزج به، ومن هنا أخذت حكم التغيّر بغير ممازجة؛ وضعف تأثيرها، فلم يوجب تغييرها سلب الماء وصف الطهورية، وهذا ما عبّر عنه بالتغيّر بالمجاورة.
[أو مِلحٍ مائيٍ]: الملح: إما أن يكون جبلياً، أو يكون مائياً؛ لأنه يُستخلص منهما فإذا كان الملح مائياً ووضع في ماء طهور لم يسلبه الطهورية؛ لأن أصله من الماء، وحينئذ لا يضره؛ لأنه يكون كالثلج، والبرد إذا أذيبا في الماء الطّهور، وأما إذا كان الملح أصله من غير الماء، وهو الملح المستخلصمن الأراضي السبخة، ونحوها فإنه يسلب الماء الطهورية إن وضع فيه، لأنه يغير الطعم بطاهر، وهو مفهوم عبارة المصنف رحمه الله.
قوله رحمه الله:
[أو سُخّنَ بنجسٍ] بيّن رحمه الله أن الماء إذا سُخِّن بنجسٍ فهو طهور؛ لكنه يكره إستعماله،
والسبب في ذلك:
أنه لم يتغيّر بشيء ممازج، وإنما تغيّر بمجاورة، فنجاسته ليست بمؤثرة كالممازج.
وهذا مبني على أنه إذا سخن بالنجس لم يسلم غالباً من صعود أجزاء لطيفة من النجاسة إليه كما يقولون،
وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية:
أنه لا يكره، ومن أصحاب الإمام أحمد رحمه الله مَنْ قصر حكم الكراهة على حاله ساخناً، فإذا برد لم يُكْره، وقد ذكر الإمام المرداوي رحمه الله الخلاف في هذه المسألة، وأن للأصحاب فيه أربع عشرة طريقاً،
وقال:
إن أصحها فيها روايتان مطلقاً، ومحل الكراهة إذا لم يوجد غيره،
وهذا ما عبّر عنه بعض العلماء رحمهم الله بقوله:
(إِنْ لمْ يَحْتَجْ إِليْهِ).وفي حكم المُسخّنِ بالنّجسِ المُسَخّنُ بالمغصوب.
قوله: [كُرِهَ] أي: صار مكروهاً، والمكروه في اللغة ضدّ المحبوبِ،
وأما في اصطلاح علماء الأصول فهو:
(الذي يُثابُ تارِكُهُ، ولا يعاقبُ فاعِلُهُ).
وعليه فالتعبير بكون الماء مكروهاً في هذه الصور السابقة يدل على أنه باقٍ على الأصل أعني: كون الماء طهوراً، وأن الأفضل أن يستعمل غيره في الطهارة، فلو استعمله صحت طهارته، ومن أهل العلم رحمهم الله من جعل الكراهة في حال وجود غيره، فإذا لم يجد غيره لم يكن مكروهاً عندهم كما قدمنا.




ابوالوليد المسلم 06-06-2020 07:18 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (8)

صـــــ40 إلى صـ
ـ46



والصحيح أن هذه الكراهة مبنيّة على ما قدمنا من أنه متردد بين ما هو باقٍ على الأصل، وبين ما هو منتقل عن الأصل،
أي أنه في مقام وسطٍ:
بين الطهور الباقي على أصله، وبين ما انتقل عن الأصل فهو متغيّر بشيء يسير، لم يتمحض خلوصاً كالأصل، ولم يتمحض تغيّراً كالمنتقل عن الأصل ومن هنا أعطى حُكماً يناسبه، وهو الكراهة، وهذا الأصل مشى عليه طائفة من علماء الأصول رحمهم الله كما قدمنا وهو معتبر حتى عند فقهاء الحنابلة رحمة الله على الجميع.
قوله رحمه الله:
[وإِنْ تغيّر بِمُكْثِهِ] شرع رحمه الله بهذه العبارة في بيان النوع الثاني من الطهور المتغيّر وهو الذي لا يكره إستعماله، مع كونه متغيّراً كما قدمنا.
وذكر له صوراً منها:
(أن يتغيّر بمكثه) وهو الماء الآسن، فتغيّره منه نفسه، وليس بشيء من خارج عنه، فلم يضرّ.
ومن أمثلته: ما يقع في المستنقعات، والبرك إذا طال بقاء الماء فيها،
واستدلوا بما ثبت في صحيح البخاري عنه عليه الصلاة والسلام:
[أنه توضَّأَ مِنْ بِئرٍ كان ماؤُه نُقَاعةَ الحِنا] وليس هناك فرق بين أن يكون التغيّر بسبب طول المكث في الأرض كالمستنقعات، والبرك، أو يكون بسبب طول المكث في الآنية مثل القرب، وأواني النحاس، وفي زماننا إذا طال مكث الماء في خزانات المياه، أو المواصير فلا يؤثر، وجعله العلماء رحمهم الله تغيّراً يشق الاحتراز منه أشبه التغيّر بمنبعه.
قوله رحمه الله: [مِنْ نَابِتٍ فيهِ، ووَرَقِ شَجَرٍ] هذا كثير في البادية يكون على البئر شجرة مثل شجرة اللوز، وهذه الشجرة تسقط أوراقها فتسقط في البئر، ثم تصبح رائحة ماء البئر كرائحة اللوز، فإذا تغيّر الماء على هذا الوجه الذي يشق صون البئر عنه لم يؤثر، وهو أيضاً كثير في المستنقعات، والبرك التي توجد داخل الغابات، والبساتين، فكثيراً ما تجدها مغطاة بأوراق الأشجار خاصة في فصل الخريف، وتجد طعم الماء متغيّراً بطعم ذلك الورق، ولكنه تغيّر يشقُّ صونُ الماء عنه؛ فلم يضر.وفي حكم هذه الحالة مياه السيول، والأمطار فإنها تجرف التراب، ويتغير لونها، وطعمها بما يشق صونها عنه.
قوله رحمه الله: [أو بمجَاورةِ مَيْتَةٍ]: قوله [أو بمجاورة] المراد به الملاصقة، لأن مجاورة الميتة للماء الطهور لا تضر إذا لم تكن ملتصقة، وتضرُّ إذاكانت ملتصقة به، ثم فصّل بعض العلماء رحمهم الله في حال إلتصاقها؛ فحكم بضَرَرِهِ إذا تغيّر اللّون، والطّعم.
واختلف في الرائحة:فقال بعضهم: تؤثر.
وبعضهم قال:
لا تؤثر، وقد أشار بعض العلماء إلى هذه المسألة بقوله:ليسَ المجاورُ إذَاْ لمْ يلتصقْ ... يَضرُّ مطلقاً وضرَّ إن لَصقْفي اللّونِ والطعمِ بالاتفاقِ ... كالرِّيحِ في مُعْتَمدِ الشِّقاق
فقوله:
(ليس المجاور إذا لم يلتصق) يعني أن النجاسة لا تضرّ مطلقاً إذا لم تكن ملتصقة بالماء الطهور، سواء كانت بعيدة عن الماء، أو قريبة منه ما دام أنها لم تلاصقه لا تؤثر.وقوله (وضرَّ إنْ لصِقْ) أي: أنه إذا كان ملتصقاً بالطهور؛ فإنه يضر.
وقوله (في اللَّون، والطعم) يعني: إذا تغير لون الماء الموجود في المستنقع، وطعمه فإنه يسلبه الطهورية بالإتفاق، وأما إذا تغيّر في الرائحة؛ فإنه يسلبه الطهورية على أرجح قولي العلماء في المسألة.
قوله رحمه الله: [أو سُخِّنَ بِالشَّمْسِ] أي: وضع الإناء في الشمس؛ فصار ساخناً؛ فإنه لا يسلبه الطهورية، ويجوز استعماله في الطهارة، وفيه أثر ضعيف، وكرهه بعض العلماء رحمهم الله بناء على قول بعض الأطباء إنه يورث البرص، وإذا ثبت فيه ضرر لم يجز استعماله دفعاً لذلك الضرر، وأماإذا لم يثبت فإن الأصل طهوريته، وسلامته، وقد نصّ الامام أحمد رحمه الله على جواز الطهارة به.
وقوله رحمه الله:
[أَوْ بِطَاهرٍ] أي: سُخِّن بطاهر كالحطب، والفحم، والغاز في زماننا، فيجوز استعماله بلا كراهة، مثلما جاز إستعمال المياه الحارة في العيون الحارة.وعليه فالسخانات في زماننا يجوز استعمال مائها بلا كراهة، إلا أن هنا مسألة ينبغي التنبيه عليها، وهي أن الماء شديد الحرارة، أو شديد البرودة قد يتساهل البعض عند إستعماله في إدارته على الأعضاء وغسلها على الوجه المعتبر، فحينئذ ينبغي عند استعماله أن لا يتساهل مستعمله في القيام بالطهارة على وجهها المعتبر.
قوله رحمه الله: [وإِنْ استُعملَ في طهارة مسْتَحبّةٍ] الطهارة إما واجبة، أو مستحبة، فالواجبة هي الأصلية، وهي التي تكون لرفع الحدث الأصغر، أو الأكبر، فإذا توضأ في الحدث الأصغر، أو اغتسل من الحدث الأكبر فإن الماء المستعمل في الطهارتين ماء مستعمل في طهارة واجبة، وأما إذا كان وضوؤه وغسله غير واجبين كتجديد الوضوء، والغسل للجمعة على القول بعدم وجوبه، أو الغسل للعيدين فإنه مستعمل في طهارة غير واجبة، ويلتحق به ماء مستعمل في الغسلة الثانية، والثالثة في الوضوء لأنها ليست بواجبة، والأولى هي الواجبة؛ لأن الأمر في آية الوضوء لا يقتضى التكرار، كما هو مقرر في الأصول.
فالمصنف رحمه الله بيّن أن الماء المستعمل في الطهارة المستحبة مكروه، وهذا يستلزم الحكم بكون الماء لا زال طهوراً.والحكم بالكراهة مبني على ما قدمناه من الأصل عند العلماء رحمهم الله من تردد الأمر بين المأذون والمحظور، فأعطي حكم الكراهة ترغيباً في الترك عند وجود غيره، لا تحريماً للحلال.والأصل عندهم في هذا أنه مبني على طريق الورع كما نبّه عليه الإمام البهوتي رحمه الله، وغيره، فصار من جنس المشتبه، ودلّ حديث النعمان رضي الله عنه على الترغيب في تركه، وهذا كله ليس من تحريم الحلال في شيء، كما لا يخفى.
ومفهوم قوله رحمه الله:
[في طَهارةٍ مُستحبّةٍ] أنه إذا استعمل في طهارة واجبة سلبه الطهورية كما سيأتي بيانه، وهذا على المذهب.
قوله رحمه الله: [وإذا بلغَ الماءُ قلّتين، وهو الكثير] القلتان: مثنى قُلّة، والقُلّة ما يُقَلُّ بمعنى يُحْمَل،
ومنه توله تعالى:
{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا}، (1) أي إحتملته الريح، وسميت القُلّة قلّةً لأنها تحمل باليد، وهي الجرة مثلَ الأزيار، والشِرَابْ الموجودة الآن، ولا زال إلى الآن بعض أهل البادية يحملونها ويستقون بها يضعون فيها الماء من الآبار، ويجلبونه إلى منازلهم، فسئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الماء،
وما ينوبه من السباع فقال:
[إذا بلغَ الماءُ قلّتينِ لم يحملِ الخَبَث] بمعنى أنه لو وقعت فيه نجاسة لم تغيّر لونه، أو طعمه، أو
(1) الأعراف، آية: 57.
***************
رائحته فإنه طهور هذه المسألة مسألة القلتين لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الضابط فيها بالقلتين، وهي من مشهورات مسائل الطهارة، والحديث المتقدم هو الأصل فيها، وحاصل كلام المصنف رحمه الله أنه يقول بمفهوم هذا الحديث الدّال على إعتبار القلتين حداً بين القليل، والكثير من الماء، وهذا هو مذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور رحمهم الله.وذهب الحنفية، والمالكية، والظاهرية إلى عدم إعتبار القلتين؛ وإن كانوا قد اختلفوا في التفصيل، فهم متفقون على أن القلتين ليستا حداً يضبط به، ثم إنفرد الحنفية رحمهم الله بضابط حركة الماء، والباقون على أن العبرة بالتغيّر، وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله.وإختارها شيخ الإسلام، وتلميذه الإمام إبن القيم رحمة الله على الجميع، وقد بيّنت الأدلة، ووجه دلالتها ومناقشة العلماء لها، والترجيح في شرح البلوغ.
وبيان محل الخلاف بينهم في هذه المسألة:
أن الماء إذا وقعت فيه نجاسة إما أن يتغيّر، أو لا يتغيّر؛ فإن تغيّر بالنجاسة فبالإجماع أنه متنجس سواء بلغ القُلّتين، أو كان دونها.وأما إذا لم يتغيّر فإما أن يكون الماء بلغ قُلّتين فأكثر، وإما أن يكون دونهما، فإن كان بلغ القلتين فإنهم متفقون على عدم تأثره، وأنه طهور باقٍ على أصله؛ لأنه لم يتغيّر؛ إلا أن الحنفية إستثنوا حال حركته بالضابط المعروف في مذهبهم، وأما إذا كان دون القلتين فهو محل الخلاف، فمن قال باعتبار القلتين حكم بكونه نجساً بمجرد ملاقاته للنجاسة؛ سواء كانت قليلة، أوكثيرة، وهذا هو الذي مشى عليه المصنف رحمه الله، وهو المذهب عند الحنابلة، والشافعية رحمهم الله.والذي يترجح في نظري،
والعلم عند الله:
هو ما ذهب إليه القائلون بأن العبرة بالتغيّر،
وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام:
[إِنَّ الماءَ طَهورٌ؛ لا يُنجِّسُه شيء] فدلّ على أن الأصل طهوريته، ولا يحكم بالإنتقال عنها إلا بدلالة صحيحة معتبرة، وهي التغيّر لأوصافه، وأما حديث القلتين ففيه منطوق، ومفهوم، فمنطوقه لا إشكال فيه،
ومفهومه معارض بمنطوق حديث بضاعة المتقدم:
[إِن الماءَ طَهورٌ؛ لا يُنجِّسُه شَيءٌ] لأنه دال على أن الماء محكوم ببقائه على أصل الطهورية ما دام أنه لم يتغير فيقدم هذا المنطوق؛ لأن القاعدة أنه (إذا تعارض المنطوق، والمفهوم؛ قُدّم المنطوقُ على المفهومِ).
وبهذا كله يترجح أن العبرة بحصول التغيّر في الماء، فلا يلتفت عند وقوع النجاسة فيه إلى كثرة، ولا إلى قلة، ولا إلى حركة، ولا إلى غيرها وإنما يُلتفت إلى تأثير النجاسة فيه بتغييرها لأحد أوصافه على الوجه المعتبر والله أعلم.



ابوالوليد المسلم 06-06-2020 07:19 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (9)

صـــــ47 إلى صــ53




قوله رحمه الله: [فخالطته نجاسة غيرُ بولِ آدمي، أو عذرتِه المائعةِ فلم تغيره] فرّق رحمه الله بين المائع من النجاسات الذي يمازج، ويتحلل، وبين الجامد الذي لا يتحلل، وهذا أخذه الحنابلة رحمهم الله من دليل السنة، فاستنبطه الإمام أحمد رحمه الله من حديث النّهي عن البول في الماء الراكد،
ووجهه:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصّ البولَ، دون الغائط، ونظرنافوجدنا الفرق بينهما أن الأول يمتزج بالماء؛ بخلاف الثاني، ثم إستثنى الحنابلة رحمهم الله العذرة المائعة، وألحقوها بالبول لوجود المعنى فيها، فهذا هو وجه التفريق، وهو مبني على سنة صحيحة.
قوله رحمه الله: [ولا يَرفَعُ حَدثَ رجلٍ طهور يسير خَلَتْ بهِ إمرأة لطهارةٍ كاملةٍ عن حَدَثٍ] معناه أن الماء الطهور إذا إنفردت به المرأة بشرطه سلبه ذلك الطهورية، والدليل على هذه المسألة حديث أبي داود،
وأحمد في مسنده عن الحكم بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[نهى أنْ يَتوضأَ الرجلُ بفضلِ طَهورِ المرأةِ]، وقد بيّن رحمه الله أن هذا الحكم مُقيّد بحالةٍ خاصة،
وهي:
أن يكون يسيراً، وأن تخلو به المرأة، وأن ترفع به حدثاً كاملاً، فخرج بقوله اليسير الكثير، والفرق بينهما بالقلتين على المذهب، وخرج بوصف " الخلو " أن لا تخلو به،
وبقوله:
[إمرأة] الرجلَ ففضلة طُهُوره لا تأخذ الحكم بالمنع،
وخرج بقوله:
[لطهارة كاملة] غير الطهارة، مثل أن تخلو بالماء لغسل كفيها، وكذلك يخرج به لو خلت لبعض الطهارة،
دون بعضها مثل:
أن تخلو للوضوء فتغسل وجهها، ثم تنقطع خلوتها بدخول زوجها، ونحو ذلك من الصور،
وخرج بوصف الحدثِ الخبث مثل:
أن تغسل به نجاسة في بدن، أو ثوب، أو مكان ثم تفضل من الماء الذي إستعملته في ذلك فضلة فإنها باقية على الطهورية.
وقوله رحمه الله:
[ولا يَرفَعُ حَدَثَ] يدل على أنه إذا تحققت هذه الأوصاف حكم بسلب الماء الطهورية، فلا يوجب التطهر به إرتفاع الحدث.
وخالف الجمهور؛ فقالوا ببقائه على الطهورية لأنها الأصل، ولم يعتبروا النهي موجباً لفساد الماء، وسلب الطهورية عنه، وأكدوا ذلك بحديث إبن عباس رضي الله عنهما وأصله في الصحيح أن بعض أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إغتسل في جَفْنةٍ،
فأراد عليه الصلاة والسلام الإغتسال منها فقالت:
إنِّي كنت جنباً!! فقال عليه الصلاة والسلام: [إن الماءَ لا يُجْنِبُ] فدلّ على أنه باقٍ على أصل الطهورية وأن إستعمال المرأة له لا يوجب زوالها، وللحديث علّة بيناها في شرح البلوغ.
وأما اشتراط الخلوة فهو مبني على حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أنها كانت تغتسل، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إناءٍ واحد، فجُمع بينه، وبينَ حديث النهي باشتراطها، وهكذا بالنسبة للتفريق بين الرجل، والمرأة إضافة إلى كونه في المرأة أقوى ثبوتاً منه في الرجل.
قوله رحمه الله: [وإِنْ تَغيّر لونه، أو طعمُه، أو ريحُه] بدأ رحمه الله بهذه الجملة في بيان النوع الثاني من أنواع المياه، وهو الماء الطاهر، والماء الطاهر: طاهر في نفسه غير مطهِّر لغيره، فكل طهور طاهرٌ؛ لا العكس، ونظراً لأن الماء ينتقل من أصله الموصوف بالطهورية إلى النوعين الآخرين وهما: الطاهر، والنجس عن طريق التغيّر بيَّن رحمه الله أن التغير يكون في أوصاف الماء الثلاثة، وهي: اللون، والطعم، والرائحة، وأنه لا يشترط أن تكون مجتمعة؛ بل لو حصل التَّغير في واحد منها فإنه يكون كافياً، وهذا ما أشار إليه بالعطف بين الأوصاف الثلاثة بـ[أو].
قوله رحمه الله: [بِطَبخ] الباء سببية، أي حصل تغيّر أحد أوصاف الماء الثلاثة، أو أكثرها، أو كلها بسبب الطبخ مثل: أن يُطبخ في الماء شيءٌ طاهر كاللّحم فيغيّر لونَ الماءِ الطهور، أو طعمَه، أو رائحَته، فيتغير لون الماء الطهور بلون المرق، أو يطبخ فيه الطماطم، فيصبح لونه أحمر، أو يظهر طعم اللحم، أو الطماطم فيه، أو رائحتهما حكم بإنتقال الماء إلى كونه ماء طاهراً في جميع ما تقدم.
وقوله رحمه الله: [أو ساقطٍ فيه] أي: أن يقع فيه شيء طاهر فيغيّر لونَه، أو طعمَه، أو رائحته مثل أن يسقط فيه دقيق، أو حبر، ونحوه من الطاهر مما يمتزج في الماء، ويغيّر لونه، أو طعمه، أو رائحته.
قوله رحمه الله: [أو رُفِعَ بِقليلِه حَدثٌ] أي أن استعمال الماء الطهور في رفع الحدث يوجب الحكم بسلبه الطهورية.
وقوله:
[بِقَليلِه] المراد به أن يكون دون القلتين، فلو كان قلتين فأكثر مثل مياه: البرك، والمستنقعات، وانغمس فيها لرفع حدث أصغر، أو أكبر فإنها لا تتأثر، إلا إذا تغير الماء.
وقوله: [حدث] شامل للأصغر، والأكبر فلو أن رجلاً إغتسل في بركة صغيرة دون القلتين، وحفظ ذلك الماء المستعمل فيها، أو اغتسل في طشت، وحفظ الماء فيه، ثم أراد هو، أو غيره أن يرفع به حدثاً مرة ثانية لم يرتفع لأنه أصبح ماء طاهراً، لا طهوراً, بمعنى أن رفعَ الحدثِ به أوّلاً سَلَبه وصفَ الطّهورية وأصبح طاهراً، لا طهوراً؛ وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
إن الماء طهور في جميع ما تقدم بشرط ألا يتغير بالإستعمال، وهذا هو مذهب المالكية في المشهور، وقول للشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة إختارها شيخ الإسلام، وهو مذهب الظاهرية رحمة الله على الجميع.
القول الثاني:
إنه طاهر، وليس بطهور، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله.
القول الثالث:
إنه نجس، وهو قول القاضي أبي يوسف من الحنفية، وبعض الحنابلة رحمة الله على الجميع.
وقد استدل أصحاب القول الأول على مذهبهم بما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله:
[إِن الماءَ طَهور لا يُنجِّسُهُ شَيء]، فدل على أن الأصل في الماء أنه طهور، وإستعماله هنا في رفع الحدث لم يؤثر في لونه، ولا طعمه، ولا ريحه فوجب البقاء على الأصل الموجب للحكم بطهوريته، واستدلوا أيضاً بقوله عليه الصلاة والسلام: [إِن الماءَ لا يُجْنِب]فدل على أن إستعمال الماء في رفع الجنابة، أو الحدث عموماً لا يوجب سلبه الطهورية، بل هو باقٍ عليها ما لم يتغير.
واستدل أصحاب القول الثاني القائلون بكونه طاهراً،
لا طهوراً: بما ثبت في الصحيحين: [أنه نهى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنِ الإغْتِسالِ في الماءِ الدَّائمِ]قالوا: إنه لا معنى لذلك إلا أنه يسلبه الطهورية، فيصبح طاهراً لا طهوراً.
واستدل أصحاب القول الثالث، وهم القائلون بالنجاسة بما ثبت في الصحيح: [أنه نهى عليه الصلاة والسلام عن البول في الماء الدَّائِم، والإغتسالِ فيه] ووجه الدلالة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع بينهما لاتحاد حكمهما أي أن الاغتسال يسلب الماء الطهارة كالبول فيه، كما قاسوا رفعالحدث بالماء الطهور على إزالة الخبث بجامع حصول الطهارة في كل، فيحكم بنجاسته كغسالة النجاسة المتغيرة بها.
والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول ببقاء الماء على الطهورية لما يلي:
أولاً:
لصحة دلالة السنة على ذلك.
ثانياً: وأما الاستدلال بحديث النهي عن الإغتسال في الماء الدائم فيجاب عنه بأن علّته هو خشية إفساد الماء على الغير لأن الإستحمام في داخل الماء يؤذي من يريد شربه، والإنتفاع به، ولذلك جاء الإذن بالإغتراف منه، وهذه العلِّة أقوى مما ذكروه.
ثالثاً: وأما الإستدلال بحديث النهي عن البول فهو مبني على دلالة الإقتران، وهي ضعيفة كما هو مقرر في الأصول، إضافة إلى أن الرواية في الصحيح: [ثم يَغْتَسل فيه] تبطل ما ذكروه.
وأما القياس المذكور فهو قياس مع الفارق، ثم إنه من ردِّ المختلف فيه إلى المختلف فيه، لأن غسالة النجس إذا لم تتغير فهي باقية على الأصل.
ومما يدل على عدم النجاسة حديث جابر رضي الله عنه حينما صبَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه وَضوءَه.

وعليه فإنه يترجح القول بطهورية الماء المستعمل في رفع الحدث؛ إلا إذا كان متغيّراً.
قوله رحمه الله:
[أو غُمِسَ فيه يدُ قائمٍ من نومِ ليلٍ]قوله:[غُمِسَ فيه]أي أدخلها في ذلك الماء، وقوله:[يد] يدل على أنه لا يشترط غمس
اليدين، وأن الواحدة كافية، والمذهب على أنه يجب غسل اليدين للمستيقظ من نوم الليل كما سيأتي إن شاء الله بيانه، ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إذا إستيقظَ أحدُكمْ مِنْ نومهِ فلا يُدخل يدَه في الإناءِ حتى يغسلَها ثلاثاً]فإذا غمس يده سلب الماء الطهورية، وأصبح طاهراً.
والصحيح أنه يأثم بمخالفة النهي الوارد في الحديث الصحيح، وأما الماء فإنْ تغيَّر حُكمَ بسلبهِ الطهورية، وإلا بقي على الأصل، ولا يحكم بانتقاله عنه بمجرد الغمس لقوله عليه الصلاة والسلام: [إن الماء طهورٌ لا يُنجِّسه شيءٌ].
وقوله:
[مِنْ نومِ ليلٍ]، مفهومه أن نوم النهار لا يأخذ الحكم، وهذا مبني على مذهب الحنابلة أن الأمر بغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء مخصوص بنوم الليل، دون نوم النهار، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: [فإنَّ أحدَكم لا يدري أَيْنَ باتَتْ يدُه]
قالوا: والبيتوتة لا تكون إلا بالليل، ورُدَّ بأنه خرج مخرج الغالب لأن النوم يكون في الليل غالباً كما قال تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}، وإذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، للقاعدة الأصولية: [إنّ النصَّ إذا خَرجَ مخرَج الغالبِ لم يُعتبرْ مَفهومُه] وسيأتي بيان هذه المسألة في موضعها بإذن الله تعالى.
وقوله رحمه الله:
[أو كانَ آخرَ غَسْلةٍ زالتْ بها النَّجَاسةُ فَطاهرٌ] إزالة النجاسة على المذهب يجب فيها التثليث كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى، فإذا كانت الغسلة آخر غسلة زالت بها النجاسة فإن أثر النجاسة فيها يكونضعيفاً إن لم يكن مُنعدماً مع ملاحظة قوّة الواردِ خاصةً على مذهب من يفرق بين ورود النجاسة على الماء، وعكسه، وعليه فإن هذه الغسلة لا يحكم بكونها باقية على أصلها، وهو الطهورية فهي طاهرة في نفسها لكنها غير مطهرة لغيرها لزوال الخبث بها كارتفاع الحدث باليسير في المسألة المتقدمة معنا.
قال رحمه الله:
[والنَّجِسُ ما تَغيَّر بِنجاسةٍ] هذا هو النوع الثالث من أنواع المياه، وهو الماء المتنجس، أي الذي أصابته نجاسة، وغيّرته فسلبته الطهورية، وكما تقدم معنا في الطاهر أن العبرة في تغيّر الماء وانتقاله عن الطهورية هو تأثره في أحد أوصافه الثلاثة، أو في أكثرها، أو كلها، فإن كان هذا التغيّر بطاهر إنتقل الماء طاهراً كما قدمنا، وإن كان هذا التغير بنجس حكمنا بانتقاله إلى نوع النجس، فصار ماء متنجساً، وعبّر المصنف رحمه الله (بالنّجِسِ)،
وأصل النجس:
القذر في لغة العرب، فالنجاسة ضد النظافة، والنقاء من الدّنسِ، إلا أن الشرع خصّها بنوع خاصٍّ من القاذورات، وهو الذي حكم الشرع بنجاسته كبول الآدمي.
وقوله:
[ما تَغيّر بنجاسة] مراده أننا نحكم بزوال الطّهورية، ولحوق وصف النجاسة متى ما حصل تغيّر الماء بمادة نجسة، مثل أن تُلقى فيه، أو تسخّن فيه فيُطبخ معها، ويحصل التّغير بصفته المؤثرة، وقد حكى الإمام ابن المنذر رحمه الله الإجماع على نجاسة الماء إذا تغيّر بالنجاسة.




ابوالوليد المسلم 06-06-2020 07:19 AM

رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
 
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (10)

صـــــ53 إلى صــ60



وقوله رحمه الله: [أو لاقَاهَا، وهو يَسيِرٌ] الضمير عائد على النجاسة أي: أن الماء لاقى النجاسة، وهو يسير، أي قليل، وهو ما دون القلتين، فيحكمبكونه صار نجساً، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله نصَّ في الإنصاف على أنها المذهب، وعليها جماهير الأصحاب، وهي مبنيّة على حديث القلّتين، وقد قدمنا أن الراجح أن العبرة بالتّغير، وهي الرواية الثانية في المذهب، واختارها شيخ الإسلام رحمه الله، ومحلّ الخلافِ: إذا لم يحصل التغيّر؛ فإن حصل فالجميع على أن الماء ينجس.
قوله رحمه الله: [أو إنفصلَ عن محلِّ نجاسةٍ قبلَ زوالِها] هذا على المذهب من أن ملاقاة الطهور اليسيرُ للنجاسة موجب للحكم بنجاسته، فإذا صبّ الماء الطهور على موضع نجس عمل فيه، وحكم بكونه باقياً على الأصل ما دام أنه في محل التطهير ما لم يتغير، أو ينفصل فإن إنفصل، وفارق محل النجاسة، وهي باقية لم تزل حُكِم بتأثره بها كمسألة الملاقاة للنجاسة، وقد قدمنا بيانها، وأن الصحيح أن العبرة بالتغيّر في جميع هذه المسائل.
وقوله: [قبل زوالها] الضمير عائد إلى النجاسة، ومفهوم هذه العبارة أنه إذا انفصل بعد زوالها؛ لم يحكم بكونه متنجساً،
بل هو طاهر كما تقدم في قوله رحمه الله:
[أو كانت آخرَ غسلةٍ زالتْ بها النجاسةُ].
قوله رحمه الله: [فإِن أضيفَ إلى الماءِ النّجس طهورٌ كثيرٌ غيرَ ترابٍ] المراد به بيان مسائل تطهير الماء المتنجس، وهذه الطريقة تعرف بطريقة المكاثرة، وهي أن يصبَّ على الماء المتنجس ماءً طهوراً فوق القلتين إذا كان الماء قد تنجس بما تقدم،
ومناسبتها:
أنها عكس الصور المتقدمة، فاحتيج إلى بيان حكمها.
فقوله: [طهور كثيرٌ] أي: ماء طهور قلتان، فأكثر؛ لأن الكثير ما بلغ القلتين فأكثر،
ومثال ذلك:
لو كان هناك ماء يسير وقع فيه بول، وهو دون القلتين حكمنا بنجاسته بمجرد وقوع النجاسة فيه على المذهب، وكما تقدم في المسائل السابقة التي ذكرها رحمه الله، فإذا أردت تطهيره أضفت إلى هذا الماء طهوراً بلغ القلتين، فأكثر، فإذا أضفته، وزال التغيّر بعد الإضافة حكمنا بكونه صار طهوراً بالمكاثرة.
وعليه فإن مفهوم قوله: [كثير] أننا لو أضفنا ما دون القلتين إلى النجس لم يطهر، بل بقي على أصله وحُكِمَ بتأثر المضاف بملاقاته للنجس، لأنه يسير ورد على متنجس، فتنجس بمجرد ملاقاته.
وقوله رحمه الله: [غيرَ ترابٍ] أن التراب إذا وضع في ماء يسير وقعت فيه نجاسة، ولم تغيره، ثم استقر التراب في قاع الماء لم يحكم بطهورية الماء،
وقوله:
[ونحوه] أي المواد المؤثرة في النجاسة كالتراب، ويتفرع عليه ما يفعل في زماننا من إضافة المواد التي تقوم بمعالجة النجاسة الموجودة في المياه فإنها لا توجب الحكم بزوال النجاسة كالحال في التراب.
وقوله رحمه الله: [أو نزِحَ منه فبَقي بعدَه كثيرٌ غيرَ متغيّرٍ طَهُر] أي أن الماء إذا وقعت النجاسة فيه وكان كثيراً فغيّرته مثل ماء بئر فوق القلتين، فإذا نزحنا النجاسَة، والماءَ المتغير بها، ثم بقى بعد ذلك ماء كثير حكمنا بكونهطهوراً، لأنه كالماء الجديد، فهناك شرطان:الشرط الأول: أن يكون الباقي فوق القلتين،
وهو ما أشار إليه بقوله:
[فبَقِيَ بعدَه كَثيرٌ].
والشرط الثاني: أن يكون غير متغير في أوصافه وهو ما أشار إليه بقوله: [غيرَ متغيّرٍ] فإذا تخلف الشرطان، أو أحدهما لم يحكم بالطُّهورية على المذهب، وعلى ما ترجح تكون العبرة بزوال النجاسة، وبقاء الماء على أصله، سواء كان ما بقي يبلغ القلتين، أو لا يبلغهما.
قوله رحمه الله: [وإِنْ شكَّ في نجاسةِ ماءٍ، أو غَيرهِ، أو طَهارتِه بنى عَلى اليقينِ]:شرع المصنف رحمه الله في بيان مسائل تعم بها البلوى، وهي مسألة الشكوك، وإلتباس حال الماء، وغيره طهارة، ونجاسة.
والشك: هو إستواء الإحتمالين، دون أن يوجد مرجّح لأحدهما على الآخر،
والشك في نجاسة الماء مثل:
أن يشكَّ في وقوع النجاسة فيه، وهذا أكثر ما يقع على مذهب من يعتبر القلتين، وأما على الراجح أن العبرة بالتَّغير فإنه يمكنه التّمييز؛ لأن النّجِس له لون، ورائحة، وطعم يميّزه عن الطهور، وقد تكون أكثرها، أو كلها فبيّن رحمه الله أن حكم المسألة أنه يجب عليه البقاء على اليقين، وهذه المسألة مبنية على القاعدة الشرعية [اليقينُ لا يُزال بالشَّكِ] وقد دلّت عليها أدلة الكتاب، والسنة، والعمل عليها عند أهل العلم رحمهم الله فإذا كان متيقناً طهارة شيءٍ، وشكّ في نجاسته فإنه يبقى على اليقين، ويُلغِي الشَّكَ، وهكذا لو كان على يمَينٍ بنجاسة شيءٍ، وشكّ في كونه صار طاهراً بَقِيَ على النجاسة، وألغي شكَّ الطهارةِ حتى يستيقنه.
وفي مسألتنا: لو شكّ في وقوع قطرة البول في الماء الطهور اليسير على المذهب، فإنه لا يحكم بنجاسته حتى يتيقن وقوعها فيه، فيحكم ببقائه علىالطهورية، وهكذا لو كان العكس بأن كان الماء، أو الثوب متنجساً، وشكَّ في زوال نجاسته، وذهابها بالمكاثرة كأن يشك في قدر الماء أنه بلغ القلّتين على المذهب، بنى على اليقين الموجب لكونه متنجساً حتى يستيقن الطهارة.
قوله رحمه الله: [وإن إشتَبه طَهور بنجسٍ حَرُم استعمالُهما] أي إشتبه الماءُ الطهورُ بالماءِ النَّجس فإن الواجب عليه تركهما، ويحرم عليه إستعمالهما مجتمعين، أو منفردين، ولا تصح طهارته، ولا صلاته إذا إستعملهما، أو إستعمل أحدهما على هذا الوجه.وذلك لأنه لو استعمل أحدهما إحتمل أن يكون النّجس، فيكون متنجساً بإستعماله مستبيحاً للصلاة بدون طهارة.وإذا إستعملهما معاً فإنه إما أن يقع منه تقديم الطّهور، أو تقديم النجس، فإن قدّم الطهور، ثم تطهّر بالنجس بعده صار متطهراً بالوضوء من الأول متنجساً بالوضوء من الثاني، فلم يطهر بدنه، ولا ثوبه، وإن عكس صار متنجساً بإستعمال النجس أولاً، ثم كان الطهور بعده غيرُ مُجْدٍ لأنه لا تزول النجاسة إلا بالتثليث على المذهب، فيكون وضوؤه إذا ثلثه مزيلاً للنجاسة؛ لا رافعاً للحدث، وعلى عدم إشتراط التثليثِ يكون وضوؤه مزيلاً للنجاسة، لا رافعاً للحدث.فيحرم عليه استعمالهما، ويجب عليه العدول للتيمم إذا لم يجد طهوراً.ولا يشترط لصحة تيمّمه أن يريقهما، ولا أن يخلطهما،
وهذا ما عبّر عنه بقوله:
[ولا يُشْترطُ للتيممِ إراقتهما، ولا خَلطُهما] أما عدم الإراقة فلأن
من قال بها قال إن شرط صحة التيمم أن لا يجد الماء لقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وهذا ماء، ويجاب بأن الماء موجود حقيقة مفقود حكماً، فكان وجوده، وعدمه على حدٍ سواء، وأما إشتراط الخلط، فلأن اليقين بوجود الطهور في أحدهما، فلا بد من خلطهما لزواله، وجوابه أن جهالة عين الطهور، وعدم القدرة على تمييزه تجعله، والنّجس كالشىء الواحد؛ فكان كخلطهما معنى، وإن لم يكونا مختلطين حقيقة، فاكتفي به، ولم يلزم خلطهما بالفعل.
وقوله: [ولم يتحرَّ] أي أنه لا يلزمه التّحري، والإجتهاد في هذه المسألة؛ لأنه إشتباهُ مباح بحرامٍ لا تجيزه الضرورة، فلم يجز التّحري قياساً على إشتباه أخته بأجنبية، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى بالتّحري بشرط أن يكون عدد الطهور زائداً بواحد، وكان النجس غير بول.والتّحري أن ينظر إلى الصِّفات الموجودة التي تُرجّح أحد الإحتمالين في الإناء، وتوجب تَرجيح كونه النجس، أو الطهور.
قوله رحمه الله: [وإن إشتبه بطاهرٍ توضأ منهما وضوءاً واحداً]: الضمير عائد إلى الماء الطهور، والمراد أن يشتبه طهور بطاهر، وتعتبر هذه مسألة ثانية،
ومثالها:
لو كان عندك سطلان أحدهما: فيه ماء طهور،
والثاني:
فيه ماء طاهر، فإن الماء الطهور هو وحده الذي تصحّ به الطهارة، أما الطاهر فإنه لا يرفع حدثاً، ولا يزيل خبثاً، فهل إذا كان أحدهما طهوراً، والثاني طاهراً نحكم بنفس حكم المسألة المتقدمة؟
والجواب: لا، لأن الطاهر المشتبه بالطهور ليس كالنجس يستضرُّ البدن بصبّه عليه، والتّطهر منه، بل إن التطهر به يزيد البدن نقاءً، ونظافة، ومن هنا وجب عليه أن يتوضأ منهما، حتى يتحقق أنه توضأ بطهورٍ، وارتفع حدثه.
قوله رحمه الله: [من هذا غُرفة، ومن هذا غُرفة] أي: أنه يتوضأ وضوءاً واحداً يأخذ من كل ماء غرفة حتى يتم أعضاء الوضوء، وعليه فإنه لا يتوضّأ وضوؤين،
وعلّة هذا القول: أن هذا يفضي إلى تردُّدِه في النّية في رفع الحدث، وهذا هو المذهب فيما جزم به الإمام البهوتي رحمه الله، وهناك قول إنه يتوضأ وضوءين، وهو الأقوى حتى يجزم بارتفاع حدثه، والتردّدُ في النية لا يؤثر، لأن كل وضوءٍ انفرد بنيته المعتبرة، ثم إن الصور المستثناة من الأصل لموجبها لا تَرِدُ على الأصل، ولا تخالفه.
وقوله رحمه الله:
[وصَلّى صلاةً واحدةً] أي: أنه لا يصلى بكل وضوء صلاة بل يصلي مرة واحدة وهذا على كلا القولين سواء قلنا يتوضأ وضوءين، أو وضوءاً واحداً.وعدم وجوب تكرار الصلاة بلا خلاف في مذهب الحنابلة أي أن اللازم في حقه صلاة واحدة هذا من جهة الوجوب، واللزوم.
قوله رحمه الله:
[وإِنِ اشْتَبهتْ ثيابٌ طاهرةٌ بِنَجسةٍ، أو بِمحرَّمةٍ]: هذه مسألة ثانية وهي تتعلق بطهارة الثوب، فلو أن إنساناً أراد أن يصلى، ومن شرط صحة الصلاة ستر العورة،
وعنده ثوبان:
أحدهما نجس، والثاني طاهر، ولا يستطيع أن يعرف النجس منهما من الطاهر فما الحكم؟
في هذه الحالة قال العلماء: يصلي بعدد النجس، ويزيد صلاة، فلو كانت عنده ثلاثة أثواب واحد منها نجس يصلي في ثوبين، فيأخذ أحدهما، ويصلي، ثم يأخذ ثوباً ثانياً منها، ويصلي؛ فإنه إذا كان الأول نجساً؛ فإن الثاني طاهر يقيناً.
قوله رحمه الله: [صَلّى في كلِّ ثوبٍ صلاةً بِعَددِ النّجسِ، أو المُحرّمِ، وزادَ صلاةً]: قوله: [أو المحرّم] كأن يكون ثوباً مغصوباً، ولا يستطيع أن يميزه، ففي هذه الحالة يصلي بعدد النجس، أو المحرم، ويزيد صلاة واحدة، لأنه إذا اقتصر على عدد النجس، أو ما دونه إحتمل أن يكون صلى في الثياب النجسة، وأما إذا زاد ثوباً، فإنه يستيقن حينئذ أنه صلى في ثوب طاهرٍ.




الساعة الآن : 05:09 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 107.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 106.63 كيلو بايت... تم توفير 0.51 كيلو بايت...بمعدل (0.48%)]