ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   اتباع السلف الصالح بإحسان بلا طغيان (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=279906)

ابوالوليد المسلم 06-08-2022 07:23 PM

اتباع السلف الصالح بإحسان بلا طغيان
 
اتباع السلف الصالح بإحسان بلا طغيان
محمد بن علي بن جميل المطري


لا يَخفى على المسلم العاقل فضلُ علم السلف على علم الخلف، فهم أوسع علمًا بالشريعة، وأكثر ورعًا، وأقل تكلفًا، وقد أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ))[1]، وأفضل السلف علمًا وعملًا وفضلًا وتُقًى وشرفًا، الصحابة رضي الله عنهم الذين أمر الله تعالى من بعدهم بأن يستغفروا لهم، وأثنى على الذين يتبعونهم، قال الله سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10]، وقال عز وجل: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [التوبة: 100]، وأخبر الله سبحانه أنه لا هداية لغيرهم إلا بالإيمان كإيمانهم، فقال سبحانه: ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾ [البقرة: 137]، فمن سلك سبيل الصحابة واتبعهم بإحسان فقد اهتدى، ومن سلك غير سبيلهم، ودخل في الأهواء والبدع، والتنطع والغلو، وكثرة السؤال والجدال، والقيل والقال، فليس على الهدى، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فقال: ((إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ))[2].

وإجماع السلف الصالح حجةٌ قاطعة، واختلافُهم رحمة واسعة، والأمر الذي يذهب إليه أكثرهم في المسائل العلمية والعملية المختلف فيها هو الراجح غالبًا، فالعلم النافع هو المشهور الذي يتناقله العلماءُ فيما بينهم.

قال التابعي الجليل علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله: "ليس من العلم ما لا يُعْرَف، إنما العلم ما عُرِف، وتواطأت عليه الألسن"[3].

وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "شرُّ العلم الغريب، وخيرُ العلم الظاهر الذي قد رواه الناس"[4].

هذا وإنَّ بعض طلاب العلم قد يَغْلُون في اعتبار حجية قول بعض آحاد السلف في بعض المسائل الغريبة المنقولة عن بعضهم من غير ثبوت الإجماع عنهم في تلك المسألة، مع كون علماء السلف كغيرهم يُصيبون ويُخطؤون، ويَعلمون ويَجهلون، والحجة القاطعة هي في قول الله سبحانه وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه السلف الصالح دون ما اختلفوا فيه، أما المسائل الاجتهادية التي يتكلم فيها العلماء بالقياس والرأي والأخذ بأصول الشريعة والقواعد الشرعية ونحو ذلك، فقد يُصيب فيها العالم وقد يُخطئ.

وقد أثنى الله على من اتَّبع السلف بإحسان، فقال سبحانه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ﴾ [التوبة: 100]، ولم يذكر الله اتباعهم اتباعًا مطلقًا كما أمر باتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بلا قيدٍ؛ لأن كل ما في القرآن العظيم والسنة الصحيحة حقٌّ وصواب، ويجب اتباعه بقدر الاستطاعة، أما ما جاءنا عن السلف الصالح، ففيه الصواب والخطأ، وفيه الحسن وغير الحسن، قال القرطبي في تفسير هذه الآية: "بيَّن تعالى بقوله: ﴿ بِإِحْسَانٍ ﴾ ما يُتَّبَعون فيه من أفعالهم وأقوالهم، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات؛ إذ لم يكونوا معصومين رضي الله عنهم"[5].

فيجب الحذرُ من الغلو في اتِّباع السلف، فالغلو قد يكون في اتباع الحق، فعن عبد الرحمن بن شِبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، وَلَا تَغْلُوا فِيهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ))[6]، قال المناوي رحمه الله: "قوله: (ولا تغلوا فيه) أي: تجاوزوا حده من حيث لفظه أو معناه بأن تتأوَّلوه بباطل، أو المراد لا تبذلوا جهدكم في قراءته وتتركوا غيره من العبادات، فالجفاء عنه التقصير، والغلو التعمق فيه، وكلاهما شنيع، وقد أمر الله بالتوسط في الأمور"[7]، وجاء في وصف حملة القرآن الذين يجب إكرامهم: (وحاملُ القرآنِ غير الغالي فيه والجافي عنه)[8]، قال ابن الأثير رحمه الله: "إنما قال ذلك؛ لأن من أخلاقه وآدابه التي أمر بها القصد في الأمور، وخير الأمور أوساطها"[9]، فقد يحصل الغلو في القرآن بتحميله غير ما يحتمل، وبتنزيل آيات الكافرين مثلًا على المسلمين كما فعل الخوارج، وكذلك قد يحصل الغلو في السنة النبوية بتحميلها غير ما تحتمل، أو بالانشغال بها عن القرآن العظيم، وهكذا قد يحصل الغلو في اتِّباع السلف الصالح، فقد جعل الله لكل شيء قدرًا، فسدِّدوا وقاربوا، والقصد القصد تبْلُغُوا، ((وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ))[10].

ولا شك أن إجماع السلف حجةٌ قاطعة، وأن فَهمهم للنصوص أولى من فَهمنا، فهم أعلم وأتقى، وإن كان هناك زيادة في العلم لا تخالف ما أجمع عليه السلف، فهي مقبولة بشرطها، فالسلف الصالح أسَّسوا لنا العلوم لنبني عليها، قال القرافي رحمه الله: "العلوم ليست تقليدية، ولا يجمد فيها على حالة واحدة طول عمره إلا جامد العقل، فاتر الذهن، قليل الفكرة، فاتر الفطنة، إلا في الأمور الجليلة جدًّا؛ فإنها لا تتغير عند العقلاء"[11].

وقال ابن الحاج رحمه الله: "عجائب القرآن والحديث لا تنقضي إلى يوم القيامة، كل قرن لا بد له أن يأخذ منه فوائد جمة خصه الله بها، وضمها إليه، لتكون بركة هذه الأمة مستمرة إلى يوم القيامة"[12].

وقال بكر أبو زيد رحمه الله: "احذَر غلط القائل: ما ترك الأول للآخر، وصوابه: كم ترك الأول للآخر، فعليك بالاستكثار من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وابذل الوسع في الطلب والتحصيل والتدقيق، ومهما بلغت في العلم، فتذكر: كم ترك الأول للآخر!"[13].

وما أكثر الأخطاء العلمية والعملية الثابتة عن بعض آحاد علماء السلف الصالح، أو ما يغلب على الظن خطؤهم فيها، ولذلك أمرنا الله بالاستغفار لهم، فقال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10]، وتأمَّل حذف مفعول ﴿ اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا ﴾؛ ليعمَّ مغفرة الذنوب المحققة، ومغفرة الأخطاء العلمية التي لا إثم فيها، وفي هذا تنبيهٌ على أنَّ السلف الصالح يُصِيبون ويُخطِؤون، فعلى طالب العلم أن يقتصد في اتباعهم، ولا يتابعهم فيما خالفوا فيه السُّنَّة، وقد ينقل العلماء بعض ما ورد عنهم مما يخالف السنة، لمعرفة أحوالهم، ولحث الناس على الاجتهاد في الخير، ولا يعني ذلك اتباعهم فيما خالفوا الصواب، مثل ما نُقِل عن وكيع بن الجراح رحمه الله أنه كان يصوم الدهر، ويختم القرآن كل ليلة، فعلَّق الذهبي على هذا بقوله: "هذه عبادة يُخضَع لها، ولكنها من مثل إمام من الأئمة الأثرية مفضولة، فقد صح نهيه عليه الصلاة والسلام عن صوم الدهر، وصح أنه نهى أن يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث، والدين يُسر، ومتابعة السُّنَّة أولى، وكل أحد يُؤخَذ من قوله ويُترك، فلا قدوة في خطأ العالم، ولا يُوبَّخ بما فعله باجتهاد"[14].

فالواجب اتباع السلف الصالح بإحسان، أما ما أخطؤوا فيه فلا يُتابعون عليه، ومعلوم في أصول الفقه أن قول الصحابي حجة إذا لم يخالف نصًّا، ولم يخالفه صحابي آخر[15].

وإنما اشترط العلماء لقبول قول الصحابي ألا يخالف نصًّا؛ لأن الصحابي قد يقول باجتهاده فيُخطِئ، وقد نقل العلماء بعض أخطاء الصحابة العلمية؛ مما يبين عدم عصمتهم، فما بالك بمن بعدهم؟! ومن ذلك:
أنَّ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كانا لا يريان التيمم للجنب، وأفتيا بذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إنهما رجعا عن ذلك.

وكان أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه يرى أنَّ أكل البَرَد الذي ينزل مع المطر لا يُفطِّر الصائم.

وكان لابن عباس رضي الله عنهما - على سعة علمه وفضله - أخطاء علمية معروفة تفرد بها في الفقه والفرائض[16].

قال ابن تيمية رحمه الله: "الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تُعظِّمه، فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه! وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في بره، وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان! وكلا هذين الطرفين فاسد"[17].

والناظر في الكتب الجامعة لآثار السلف؛ كمصنف عبد الرزاق الصنعاني ومصنف ابن أبي شيبة، وكتب التراجم يجد بعض الأقوال الغريبة، والاجتهادات البعيدة عن الصواب لبعض التابعين وأتباع التابعين، وهم من السلف الصالحين، بل إنَّ بعض فضلاء التابعين وأتباعهم وأتباع أتباعهم وقعوا في بعض البدع الاعتقادية؛ كبدعة الإرجاء والخوارج والقدر والتشيع وغير ذلك، مما يدل على أنهم يصيبون ويخطؤون، وأنهم قد يختلفون في أفهامهم واستدلالهم، ويختلفون أحيانًا في تنزيل بعض النصوص على الواقع أو الحكم في الحادثة المعينة، فمثلًا:
اختلف السلف الصالح في حكم المختار بن أبي عُبَيد الثقفي، فأكثرهم كفَّره أو ضَلَّله، وبعضهم كان يُعظِّمه، فأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي رضي الله عنه آخر الصحابة موتًا، كان يرى المختار مسلمًا، بل كان حامل رايته في حروبه[18].

وأيضًا اختلف السلف الصالح في الحجاج بن يوسف الثقفي الوالي الظالم الجبار، فكان بعضهم يعتقد إسلامه، ويُصلي خلفه، وكان بعضهم يعتقد كفره، فالحسن البصري وطاوس اليماني كانا يريان كفره، ومحمد بن سيرين وسفيان الثوري كانا يريان إسلامه، ويجعلانه من فَسَقَةِ المسلمين[19].

وكل إمام من الأئمة الأربعة الفقهاء المشهورين له تفرُّدات يغلب على الظن خطؤه فيها، حتى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على سعة علمه، وكثرة رواياته، وشدة حرصه على اتباع السُّنَّة، والاقتداء بالسلف من قبله؛ له أقوال يُخطِّئه فيها كثير من أهل العلم، مثل قوله بوجوب غسل النجاسة كالبول إذا أصاب الثوب سبع مرات، وقوله بنقض الوضوء من القيء والقيح، وقوله بعدم تطهير جلد الميتة بالدباغ، وقوله - في رواية - بجواز الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم[20]، وسأله ابنه عبد الله عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرك بمسه ويُقبِّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز؟ فقال: لا بأس بذلك[21]!

وصدق الإمام مالك رحمه الله حين قال: "كلٌّ يُؤخَذ من قوله ويُرَد إلا صاحب هذا القبر"، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن غرائب المسائل ما شذ به التابعي الجليل مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 23]، فقد فسرها بقوله: "تنتظر الثواب من ربها، لا يراه من خلقه شيء!"، رواه عنه ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره، فكان مجاهد لا يُثبِت رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهذا مخالف لنص القرآن الكريم، وما تواترت به الأحاديث الصحيحة، وما أطبَق عليه معظم السلف الصالح، وقد بيَّن ابن عبد البر زلة مجاهد رحمه الله في قوله هذا، قال ابن عبد البر رحمه الله: "روى سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد في قول الله عز وجل: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22] قال: حسنة ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 23] قال: تنتظر الثواب، ذكره وكيع وغيره عن سفيان، وقول مجاهد: هذا مردودٌ بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة، وجمهور السلف، وهو قول عند أهل السنة مهجور، والذي عليه جماعتهم ما ثبت في ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وليس من العلماء أحد إلا وهو يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجاهد وإن كان أحد المقدَّمين في العلم بتأويل القرآن، فإنَّ له قولين في تأويل آيتين هما مهجوران عند العلماء، مرغوب عنهما، أحدهما هذا، والآخر قوله في قول الله عز وجل: ﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]: يُوسِّع له على العرش، فيُجْلِسه معه، وهذا قولٌ مخالفٌ للجماعة من الصحابة ومن بعدهم، فالذي عليه العلماء في تأويل هذه الآية أن المقام المحمود الشفاعة"[22].

وبعض المسائل قد يدَّعي فيها بعضُ الناس إجماع السلف عليها، وربما ضللوا من خالفهم فيها، مع أنه لا إجماع للسلف في تلك المسألة، مثل دعوى بعضهم أن السلف يُثبِتون أنَّ الله سبحانه يُجلِس نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم معه على العرش يوم القيامة، وقد بالغ بعض الحنابلة في هذه المسألة، ومسألة كون اللفظ بالقرآن مخلوق، حتى هجر بعضُهم الإمامَ البخاري، وطعنوا فيه، وظلم بعضهم الإمام ابن جرير الطبري، ومنعوا الناس من الدخول عليه، وكان ابن جرير يقول:
سُبْحَانَ من لَيْسَ لَهُ أنيس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلَا لَهُ فِي عَرْشه جليس[23] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ومن الأقوال التي نُقِلت عن بعض أئمة السلف: تكفير من ينفي علو الله سبحانه أو ينكر رؤية الله سبحانه يوم القيامة، أو يقول بخلق القرآن الكريم، وقد أخذ بعض طلاب العلم هذه الأقوال على إطلاقها، ولم يفرِّقوا بين التكفير المطلق وتكفير الأعيان، فكفَّروا كل من قال بهذه البدع، وإن كان عالِمًا له قدم صدق في الإسلام، أو كان جاهلًا مقلدًا، ولم يَعذِروا أحدًا بالجهل أو التأويل!

قال ابن تيمية: "التحقيق في هذا أنَّ القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية؛ كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوقٌ فهو كافرٌ، ومن قال: إنَّ الله لا يُرى في الآخرة فهو كافر، ولا يُكَفَّر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة"[24].

والحقيقة أنَّه لم يُجمِع السلف الصالح على تكفير كل من قال بهذه البدع الشنيعة، فلا بد من التفريق بين ما أجمع عليه السلف وما لم يُجمعوا عليه، ومن قال من السلف بتكفير أهل تلك البدع، فهو تكفيرٌ من غير تعيينٍ، أو هو اجتهاد منهم، فهو قول لبعض أئمة السلف، وليس قولًا لجميعهم، فبعض السلف رأى تكفير أهل تلك البدع؛ لأن العلم في زمنهم كان منتشرًا، والبدعة كانت في أول أمرها، فرأى بعض السلف تكفير من خالف الجماعة، لقيام الحجة على المخالف المبتدع.

قال ابن تيمية: "أكثر الطالبين للعلم والدين ليس لهم قصدٌ من غير الحق المبين، لكن كثرت في هذا الباب الشُّبَه والمقالات، واستولت على القلوب أنواع الضلالات، حتى صار القول الذي لا يشك من أُوتي العلم والإيمان أنه مخالف للقرآن والبرهان، بل لا يشك في أنه كفر بما جاء به الرسول من رب العالمين، قد جهِله كثيرٌ من أعيان الفضلاء، فظنوا أنَّه من محض العلم والإيمان، بل لا يشكـون في أنه مقتضى صريح العقل والعيان، ولا يظنون أنه مخالف لقواطع البرهان، ولهذا كنت أقول لأكابرهم: لو وافقتكم على ما تقولونه لكنتُ كافرًا؛ لعلمي أنَّ هذا كفر مبين، وأنتم لا تَكفُرون؛ لأنكم من أهل الجهل بحقائق الدين، ولهذا كان السلف والأئمة يُكفِّرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعيَّن منهم فقد يدعون له، ويستغفرون له؛ لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهرًا لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض بحسب ظهور دين المرسلين"[25].

وعلى كل حال، فتكفيرُ أهل تلك البدع فيه خلاف بين أهل العلم، ودعوى إجماع جميع السلف على تكفيرهم فيه نظرٌ، فقد تقدم مثلًا أن التابعي الجليل مجاهد بن جبر كان ينكر رؤية الله سبحانه يوم القيامة، ولا يُعرف عن أحد من السلف أنه كفَّره.

ولا يصح الإجماعُ على تكفير كل مَن قال بخلق القرآن، فمعروف أنَّ بعض السلف كان متوقفًا في تكفيرهم، بل كان بعضهم يصرِّح بعدم تكفيرهم كعلي بن الجعد البغدادي شيخ البخاري، وهو من كبار المحدثين، فقد قال: من قال: القرآن مخلوق لم أُعَنِّفه! ولا شك أنَّ علي بن الجعد أخطأ في قوله هذا، بل يجب إنكار هذه البدعة المنكرة، فالقرآن كلام الله غير مخلوق، ومن صفات الله سبحانه أنه يتكلم متى شاء كما أخبر في كتابه، فقد كلَّم الله موسى تكليمًا، وسيكلم الناس يوم القيامة، فمَنْ أنكر صفة الكلام لله سبحانه فقد أخطأ خطأً كبيرًا، وأتى منكرًا عظيمًا، ولو لم يكن متأولًا لكان كافرًا، لتكذيبه بنصوص القرآن، فالتأويل مانعٌ من التكفير، قال ابن تيمية: "ليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال، يكون كافرًا، بل ولا فاسقًا، بل ولا عاصيًا، لا سيما في مثل مسألة القرآن، وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف المعروفين عند الناس بالعلم والدين، وغالبهم يقصد وجهًا من الحق فيتَّبعه، ويعزُب عنه وجه آخر لا يحقِّقه، فيبقى عارفًا ببعض الحق، جاهلًا ببعضه، بل منكرًا له"[26].
يتبع




ابوالوليد المسلم 06-08-2022 07:24 PM

رد: اتباع السلف الصالح بإحسان بلا طغيان
 
وهكذا لا يصح القولُ بتكفير كل القائلين بنفي صفة العلو لله سبحانه، فمن موانع التكفير: الجهل والتأويل، فلِنُفاةِ العلو شبهاتٌ كثيرة، وتأويلات فاسدة، وأوهام يظنونها أدلة عقلية، فأخطؤوا في تأويلهم وضلوا، وكثير منهم لم تقم عليهم الحجة، بل يظنون أنَّ قولهم هو عين الصواب، بل إنَّ بعض غلاتهم يُكفِّرون أو يُضَلِّلُون من يُثبت أنَّ الله سبحانه مستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله!

فالغلو في التكفير موجود في جميع الطوائف، وقد نصح كثيرٌ من أهل العلم المنصفين بترك التوسع في التكفير، وبيَّنوا خطأ الغلو في تكفير المخالفين من المسلمين الموحِّدين[27].

قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: "ولا ينبغي أن يُظن أنَّ التكفير ونفيه ينبغي أن يُدرك قطعًا في كل مقام، بل التكفير حكم شرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدم، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية، فتارة يُدرك بيقين، وتارة بظن غالب، وتارة يُتردد فيه، ومهما حصل تردد، فالوقف فيه عن التكفير أَولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل"[28].

وقال الغزالي أيضًا: "والذي ينبغي أن يميل المحصِّل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلًا، فإنَّ استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم"[29].

وقال ابن تيمية رحمه الله: "أهل البدع فيهم المنافق الزنديق، فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإنَّ رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنًا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، وقد يكون مخطئًا متأولًا مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه"[30].

وقال ابن القيم رحمه الله: "الله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يُعذِّب إلا من قامت عليه حجتُه بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أنَّ كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافرٌ، وأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية مع ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم، وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة، وهو مبني على أربعة أصول:
أحدها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]، وقال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].

الأصل الثاني: أنَّ العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادة العلم بها وبموجبها، الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.

الأصل الثالث: أنَّ قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئًا، ولا يتمكن من الفهم.

الأصل الرابع: أنَّ أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته... وهو الفعال لما يريد، وصدق الله وهو أصدق القائلين: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ [الأنبياء: 23] لكمال حكمته وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها، وأنَّه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يُسأل عنه كما يُسأل المخلوق، وهو الفعال لما يريد، ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة، فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور، ولا خلاف مقتضى حكمته، لكمال أسمائه وصفاته، وهو الغني الحميد العليم الحكيم"[31].

واعلم أنَّه لا يجوز تهوينُ أمر البدع، ولا التساهل مع أهل الأهواء والضلال، فقد قال الله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159]، وتكفي هذه الآية الكريمة في الزجر عن جميع البدع، والتحذير الشديد لأهل البدع والأهواء المختلفة، والحث على إقامة الدين الذي رضيه الله لعباده، وعدم التفرق فيه، كما وصى الله بذلك عباده في قوله سبحانه: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].

وإنَّ من الصراط المستقيم الاستقامة على السُّنَّة بلا إفراطٍ ولا تفريط، وإنَّ من السنة النبوية التيسير والتبشير، وترك الغلو والتشديد، والحذر من التوسع في التكفير والتبديع.

وهذه الرسالة نصيحةٌ صادقة لبعض المعاصرين المنتسبين إلى السلف الذين يُكفِّرون من وقع في بعض البدع الاعتقادية، وإن كانوا من كبار علماء الأمة الذين أفنَوا أعمارهم في التفسير أو الحديث أو القراءات أو الفقه، وصنَّفوا المصنفات العظيمة، ويستدلون على تكفيرهم بنقول عامة قالها بعض أئمة السلف، والعجيب أنهم يستدلون بتلك النقولات وكأنهم يستدلون بنصوص القرآن أو السنة!

فيجب الحذرُ من الغلو في التكفير، فإنَّ الجهل أو التأويل مانع من التكفير، قال ابن تيمية رحمه الله: "المتأوِّل الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر ولا يفسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد، فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة ويُكفِّرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية... وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارًا، لم يكونوا منافقين، فيكونوا من المؤمنين، فيُستَغفر لهم، ويُترحَّم عليهم، وإذا قال المؤمن: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10] يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوَّله فخالف السنة، أو أذنب ذنبًا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارًا، بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يُخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل: إنهم يُخلَّدون في النار، فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته"[32].

فمن عقيدة أهل السنة والجماعة أنَّ من دخل النار من أهل البدع الموحِّدين فمآلهم إلى الجنة برحمة الله أرحم الراحمين؛ كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 116]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ))؛ متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

قال ابن القيم رحمه الله: "أهلُ البدع الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم، أقسام:
أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يُكَفَّر، ولا يُفَسَّق، ولا تُرد شهادته إذا لم يكن قادرًا على تعلُّم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوًّا غفورًا.

القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالًا بدنياه ورياسته، ولذته ومعاشه، وغير ذلك، فهذا مُفرِّط مستحق للوعيد، وآثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإنَّ غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السُّنَّة والهدى، رُدت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قُبِلت شهادته.

القسم الثالث: أن يسأل ويطلب، ويتبين له الهدى، ويتركه تقليدًا وتعصبًا أو بغضًا أو معاداةً لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقًا، وتكفيره محلُّ اجتهاد وتفصيل، فإن كان معلنًا داعية رُدت شهادته وفتاويه وأحكامه مع القدرة على ذلك، ولم تُقبل له شهادة ولا فتوى ولا حكم إلا عند الضرورة"[33].

والواجب الحذر من التكفير والتبديع بلا برهان، والخوف من الخوض في أعراض الناس بلا بينة، والعدل في الحكم على الناس، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].

قال ابن تيمية رحمه الله في معرض رده على بعض أهل البدع والضلال: "ثم إنَّه ما مِن هؤلاء إلا من له مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف"[34].

وقال ابن القيم رحمه الله: "من قواعد الشرع والحكمة أنَّ من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يُحتمل له ما لا يُحتمل لغيره، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره، فإنَّ المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث"[35].

وقد سُئِل ابن باز رحمه الله عن حكم تبديع جملة من أئمة أهل السنة بحجة أنهم أخطؤوا في العقيدة مثل النووي وابن حجر وغيرهما؟ فقال: "من أخطأ لا يؤخذ بخطئه، الخطأ مردود، وكل عالم يُخطئ ويُصيب، فيُؤخذ صوابه، ويُترك خطؤه"[36].

وقال ابن عثيمين رحمه الله: "هناك علماء مشهود لهم بالخير، لا ينتسبون إلى طائفة معينة من أهل البدع، لكن في كلامهم شيء من كلام أهل البدع، مثل ابن حجر العسقلاني والنووي رحمهما الله، بعض السفهاء من الناس قدحوا فيهما قدحًا تامًّا مطلقًا من كل وجه، فهذان الرجلان ما أعلم أن أحدًا قدَّم للإسلام في باب أحاديث الرسول مثلما قدماه، فكيف يُقال عنهما: إنهما مبتدعان ضالان، لا يجوز الترحم عليهما، ولا يجوز القراءة في كتبهما؟! من كان يستطيع أن يقدم للإسلام والمسلمين مثلما قدم هذان الرجلان إلا أن يشاء الله؟! فأنا أقول: غفر الله للنووي، ولـابن حجر العسقلاني، ولمن كان على شاكلتهما ممن نفع الله بهم الإسلام والمسلمين"[37].

وما أحسن قول شيخنا مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله حين سُئِل: هل النووي وابن حجر مبتدعة، لكونهم قالوا بتأويل الصفات على طريقة الأشاعرة؟: "الله يغفر لهما، ولابن حزم، ولابن الجوزي، ولعلمائنا الآخرين الذين زلت أقدامهم... لا أستطيع أن أطلق عليهم بأنهم مبتدعة"، وقال رحمه الله: "نحن لا نُكفِّر مسلمًا إلا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قرأنا في كتاب السنة لعبد الله بن أحمد أنَّ كثيرًا من السلف يقولون: من قال: إنَّ القرآن مخلوق فهو كافر، لكن أين الدليل على هذا؟! فمسألة تكفير المسلمين لا بد فيها من الدليل، بل نقول: إنَّه مبتدع"[38].

هذا ومن المسائل التي يدَّعي بعض طلاب العلم المعاصرين إجماع السلف عليها: دعوى إجماع السلف على الطعن في الإمام أبي حنيفة رحمه الله، مع أنَّ بعض علماء السلف أثنوا على أبي حنيفة وعلى فقهه كما في ترجمته، ومن الناس من يتعصبون في هذه المسألة، وينسبون من خالفهم فيها إلى مخالفة السلف، حتى ذكر ياقوت الحموي رحمه الله أنَّ أحدهم هجر شيخه الإمام ابن جرير الطبري، وطعن فيه، بسبب ثناء ابن جرير على الإمام أبي حنيفة بالعلم والورع والفقه[39]! نعم طعن كثيرٌ من كبار المحدثين في أبي حنيفة، وبالغوا في الطعن عليه، كما تجد ذلك في كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي؛ وذلك لاعتقادهم أنَّه كان يتعمد مخالفة الأحاديث الصحيحة، ولبعض الأقوال الخاطئة التي نُقِلت عنه، ومعلوم عند العلماء المنصفين أنَّ بعض المسائل الفقهية الاجتهادية يكون الحق فيها مع أبي حنيفة، وقد أثنى عليه بعض العلماء في فقهه وورعه، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة"، وألَّف ابن تيمية رسالته النافعة رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وبيَّن فيها عذرُ الفقهاء في عدم الأخذ ببعض الأحاديث الصحيحة، فإهدار قول المثنين على أبي حنيفة، ونسبة الطعن فيه إلى جميع السلف، ليس من القول السديد، بل هو قول بعيد من الإنصاف.

قال الذهبي رحمه الله: "ما زال العلماء يختلفون، ويتكلم العالم في العالم باجتهاده، وكلٌّ منهم معذور مأجور، ومن عاند أو خرق الإجماع، فهو مأزور، وإلى الله تُرجع الأمور"[40].

فلا بد من أخذ العلم بإنصاف وتدقيق وتحقيق، ولا بد من التفريق بين ما أجمع عليه السلف الصالح وما اختلفوا فيه، ولا بد من معرفة فقه الخلاف، وأدب الاختلاف، قال الذهبي رحمه الله: "ولو أنَّ كل من أخطأ في اجتهاده - مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق - أهدرناه وبدَّعناه، لقَلَّ مَنْ يَسْلَم مِنَ الأئمة معنا!"[41]، وقال الشاطبي رحمه الله: "الابتداع من المجتهد لا يقع إلا فلتة، وبالعرض لا بالذات، وإنما تُسمى غلطة أو زلة؛ لأنَّ صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويل الكتاب، أي: لم يتبع هواه، ولا جعله عمدة، والدليل عليه أنَّه إذا ظهر له الحق أذعن له، وأقر به"[42].

وقد أمر الله نبيه محمدًا عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات، فقال سبحانه: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، وهذا يعم الذنوب الاعتقادية والعملية والقولية.

قال ابن عطية رحمه الله: "واجبٌ على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات"[43].

﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.

[1] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[2] رواه أبو داود والترمذي وصححه من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.

[3] رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (41/ 376).

[4] رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي (1292).

[5] تفسير القرطبي (8/ 238).

[6] رواه أحمد بن حنبل في مسنده (15529) وقوى إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري (9/101).

[7] فيض القدير (2/ 64).

[8] رواه أبو داود (4843) من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعا، والصواب وقفه.

[9] النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 382).

[10] رواه النسائي وغيره من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما مرفوعا، وليس هو من حديث عبد الله بن عباس، كما أفاده الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه النكت الظراف (5427).

[11] نفائس الأصول (5/ 1952).

[12] المدخل (1/ 75).

[13] حلية طالب العلم (ص: 174).

[14] سير أعلام النبلاء (9/ 143).

[15] يُنظر تقرير ذلك مفصلا مطولا في كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم من (5/ 546) إلى (6/ 40).

[16] يُنظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/ 127 - 130) و (6/ 83، 84) والمحلى بالآثار لابن حزم (1/ 367) و (4/ 304).

[17] منهاج السنة النبوية (4/ 543).

[18] يُنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 467 - 470، 538 - 544).

[19] يُنظر: تاريخ الإسلام للذهبي (2/ 1071 - 1078).

[20] نقله عنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/ 204).

[21] يُنظر: العلل ومعرفة الرجال عن أحمد بن حنبل رواية ابن عبد الله (2/ 492).

[22] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 157، 158).

[23] يُنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (12/ 453 - 463)، طبقات الشافعيين لابن كثير (ص: 226)، المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد لبكر أبو زيد (1/ 362 - 366).

[24] مجموع الفتاوى (7/ 619) باختصار.

[25] بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 9، 10).

[26] مجموع الفتاوى (12/ 180).

[27] يُنظر مثلا: إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق لابن الوزير اليماني (ص: 385 - 406).

[28] فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (ص: 66).

[29] الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 135).

[30] مجموع الفتاوى (3/ 353).

[31] طريق الهجرتين (ص: 412 - 414).

[32] منهاج السنة النبوية (5/ 239 - 241).

[33] الطرق الحكمية (ص 138، 139).

[34] درء تعارض العقل والنقل (2/102).

[35] مفتاح دار السعادة (1/ 176).

[36] مجموع فتاوى ابن باز (28/ 254).

[37] لقاء الباب المفتوح (43/ 15).

[38] غارة الأشرطة (ص: 295، 296، 306).

[39] معجم الأدباء (5/ 268).

[40] سير أعلام النبلاء (19/ 327).

[41] سير أعلام النبلاء (14/ 376).

[42] الاعتصام (ص: 114).

[43] المحرر الوجيز (5/ 116).







الساعة الآن : 02:10 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 39.84 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.71 كيلو بايت... تم توفير 0.14 كيلو بايت...بمعدل (0.34%)]