ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الإنشاء (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=76)
-   -   العاطفة في الشعر الأندلسي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=285747)

ابوالوليد المسلم 05-12-2022 03:35 AM

العاطفة في الشعر الأندلسي
 
العاطفة في الشعر الأندلسي


محمد حمادة إمام



لعلَّ العاطفة مِن قولهم: "امرأة عطيف، هيِّنة ليِّنة، ذَلُول ومطْواع لا كبْر لها، وإذا قلت: امرأة عطوف فهي الحانية على ولدها، وكذلك رجُل عطوف، وعطف الله تعالى بقلب السلطان على رعيَّته إذا جعَله عاطفًا رحيمًا[1]".
أما معناها في اصطلاح الأدباء، فهي "تلك القوَّة التي يُثيرها الأديب فينا نحن القرَّاء، وهي بعيدة عن العواطف الشخصية، وهي العواطف التي تَحْملنا على الدأب وراء صالحنا الخاصِّ، كالجشع، أو الفرار من الميدان، أو الانتقام، أو المدْح رجاءَ النوال، فهذه ليست من الانفعالات الأدبية السامية، التي يحرص عليها النقد، لأنها تحيا في دائرة ضيِّقة، هي دائرة المنتفع، ثم تَحْمل النفْس على الأَثَرَة والهوان، وبعيدة كذلك عن العواطف الأليمة... وهي التي تُثير آلام القرَّاء، وتُشعرهم بما ينغِّص حياتهم، ويُكدِّر صَفْوَها: كالحسد والسخط واليأس، والظلم، ونحوها، لأن وظيفة الأدب الرفيع، يغلب عليها التهذيب النفسي، وإذاعة السرور، لا البؤس والتبرُّم[2]".
وعرَّفَها بعض الأدباء أيضًا بقوله: "مجموعة مِن الانفعالات، تتجمَّع حول معنى شيء من الأشياء[3]".
إذًا، فشِعْر الشيب والشباب، يُصوِّر عاطفة الشاعر، أو عاطفة مَن حوْله، ومشاعره وأحاسيسه. ومظاهر هذا الفنَّ كافية لتفجير ينابيع تلك العاطفة، أو استثارتها مِن مكامنها، فهي تستميل النفوسَ، وتجذب الأسماع، وتأسر القلوب.
"وقد تنبَّه نقَّاد العرب إلى المُثير، أو الدافع الذي يدفع الأديب إلى الإنتاج الأدبي، وأَكْثَروا الحديث فيما يُطلق عليه الانفعال والعاطفة عند المحْدَثين ويُطلِقون عليه: عمل الشعر، وشحذ القريحة له، أي الأُسُس والينابيع التي يتفجَّر عنها الشعر، فالطبع لا يكفي لإنشاد الشعر، بل لا بد معه مِن المثير، الذي يحرِّك الشاعر، ويدفعه إلى الإنشاد[4]".
"وعرَّفها النقَّاد القُدامى؛ عنصرًا له خطَرُه، في تكوين النص الأدبي، دون الاهتداء إلى اسمها هذا، فسمَّاها ابن قتيبة: دواعيَ؛ إذ يقول: وللشعر دواعٍ تحثُّ البطيء، وتَبعَث المتكلِّف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب[5]".
وبواعث أو مثيرات، أو دوافع انطلاقِ عاطفةِ الشيب والشباب، وتدفُّقها متوفِّرة، منها الوهن أو الضعف، والاغتراب عن الوطن والأهل، وهجْر الأحباب والكعاب، وغدْر الأصحاب، وموت الوفاء - خاصة بعد رحيل الشباب وحلول المشيب، إلى غير ذلك مِن دواعٍ وأسباب.
ومما تَتَّسم به عاطفة، الشيب والشباب في الأغلب الأعمِّ: الصدْق، ومجافاتها الكذب والزيف، وكان هذا وراء طرَب النفس، وتحريك الوجدان، خاصَّة وقد بان أن الأندلس بلد يَتَّسم برقَّة الهواء والأهواء، وصفاء الروح والنفس، وجَودة الخاطر، واتِّقاد الذِّهن.
"والصدق عند عبد القاهر لا يُراد به الالتزام بالواقع الحرفي؛ لأن الشعر في نظره صنعة تعمد إلى المعنى الخسيس فتشرِّفه، وإلى الضئيل فتفخِّمه، وإلى النازل فترفعه، وإلى الخامل فَتُنَوِّه به، وإلى العاطل فتُحلِّيه، وتخضع لمقاييسه، ولو بنوع من الخداع، والاحتيال الفني الذي يَجعَل هذه الحقيقة مقبولة لدى النفس[6].
ومِن أصدقِ العواطف وأرقِّها، وأعظمها استثارة للمشاعر والأحاسيس عاطفة شكوى المشيب، والتبرُّم بنوازله وتوابعه ونواتجه، وعاطفة بُكاء الشباب والحنين إلى مَعاهِدِه، ولذا فإننا رأيناهم استهلُّوا قصائد لهم، أو أفردوها بصوَر مِن هذا النوع.
"يقول الدكتور زكي مبارك: "إنَّ تزوير العواطف مما يعرف الشعراء، ولكن هناك عاطفة لا تزوير فيها ولا رياء، وهي سورة الحُزن على الشباب". ويقول الأستاذ علي القاسمي: "ليس هناك أرقُّ عاطفةً، وأَصْدق تعبيرًا من الشاعر، الذي يَذكر أيامَ شبابه ويَبْكيها، ويتحدَّث عن ليالي صِباهُ ويَرثيها، بعد أن شاهد ثلوج الشيب وهي تزحف مسرعةً على رأسه، مُعلِنةً حلول شتاء حياته، وذهاب الربيع بلا عودة[7]".
ويُلاحظ على عاطفة الشيب والشباب أيضًا - بناء على استعراض صوَره - أنها تتَّسم بالثبات، خاصة في فنِّ المشيب والرزانة، أو الشباب والتَّصابي، والهياج في مثل تصوير ذكريات الشباب أثناء ندْبه، ووصْف ضِيقِ النفس بالمشيب، أو أثناء وعْظ الشيب اللاهين.
فلننظر مثلًا إلى الغزال مُعنِّفًا، ومُشدِّدًا النَّكال على الشيَّب المتصابين. يقول[8]: [من الخفيف]
أنا شيخٌ وقُلْتُ في الشيخِ شيئًا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَعْلَمُهْ كُلُّ أبْلٍه وذَهِين[9] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كُلُّ شيخٍ تراه يكثر من كَسْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِ الجواري فَخُذْهُ لي بالقُرُونِ! http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وفيه تهديدٌ للشيخ المتَصَابي، الذي لم يَنْتَصِح بشيبِه، ولم يَرْعَوِ أمام نفسه وربه، وينطوي هذا التهديد على خوف منه عليه: مِن مكْر النساء وكيدهن العظيم؛ إذ إنه ممن حَلَبَ الدَّهْرَ أَشْطُرَه، فأمسى خبيرًا بطُرُق ووسائل مَلَقِهن، وخِداعهن، ولذا فكثيرًا ما عاوَد النصح والعظة لمن رآه غير مجيب؛ باثًّا غيظَه وحَنَقَه في صُوره، مستعدًّا لإهانته أمام القريب والبعيد، فكرامتُه مِن كرامته.
وهذا "محمد بن صارة أو سارة[10]"، يَنهج نهْج الغزال، واعظًا بمن مات واندَثَر، مذكِّرًا بسكراتِ الموتِ، وهول الحساب، مؤكدًا في خواتيم صُورته على الفناء، ضاربًا مثلًا بفَناء ما هو أشدُّ وأقوَى من الإنسان، فيقول[11]: [من البسيط]
يا مَنْ يُصيخُ إلى دَاعي السفاهِ وَقَدْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَادى بِهِ النَّاعِيانِ الشَّيْبُ والكِبَرُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِنْ كُنْتَ لا تَسْمَعُ الذِّكْرى فَفِيم ثَوَى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
في رَأْسِك الواعيانِ السّمْعُ والبَصَرُ[12] http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ليسَ الأَصَمُّ وَلا الأَعْمى سُوى رَجُلٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لم يَهْدِه الهاديانِ العينُ والأثَر http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لا الدَّهْر يَبقى ولا الدُّنْيا ولا الفَلَكُ الْ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَعْلَى ولا النَّيِّران الشَّمْسُ والقَمَرُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ليرحلنَّ عَن الدُّنْيا وإنْ كَرِهَا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِراقَها الثَّاويانِ البَدْوُ والحَضَرُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بحَث الرجُل عن طريقة، لِرَدِّ مَنْ نَفَر، وشَردَ، وجمَح في وقت الرزانة والوقار، فلم يجدْ أولى مِن مواقف الموت والفناء، والرحيل عن رضًى أو كره، مقتبسًا صورتَه مِن قوله تعالى: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾[13].
إذًا تثُور العاطفة، وتتأجَّج نارُ الانفعال، في مواطن استِشعار الأخطار على الأحباب والأقران، وكذلك في مَواطن التِهاب الوجد، وتصاعُد الأشجان والأحزان، مِن: ندْب الشباب، والحنين إلى مَعاهِده. وأَصْدَق ما تكون العاطفة، عندما يغنِّي المرء لنفسه محبًّا، أو شاكيًا مبغِضًا.
يقول الدكتور مصطفى الشكعة، أثناء تعليقه على شاعرية مريم بنت يعقوب: "على أنَّ شاعرية الشاعر تبدو على سجيَّتها، حينما يغنِّي لنفسه محبًّا أو فخورًا أو شاكيًا. إنَّ الحكْم على شِعره حينئذ يكُون أقرب إلى الصحَّة، وأدنى إلى العدل. لقد عُمِّرت مريم طويلًا، فيما يَروي مؤرِّخو الأدب، وبلغَت سبعًا وسبعين سنة، فيما تروي هي عن نفسها، واصطدمَتْ بهموم الكبَر، وأرَقِ الشيخوخة، وذيول الشيب، وافتقاد العافية، فشكَتْ زمانها، والشكوى الصادقة لونٌ مِن ألوان غناء النفس، فماذا قالت مريم؟ قالت[14]: [من الطويل]
ومَا تَرْتَجي مِنْ بِنْتِ سبعينَ حِجَّةَ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وسبعٍ كَنَسْج الِعنكبُوتِ المَهْلَهَلِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَدِبُّ دَبيبَ الطِّفْلِ تَسْعَى إلى العَصَا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وتَمْشِي بها مَشْيَ الأَسِير المُكَبَّلِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إنهما بيتان يَرْجَحانِ قصيدةً بأكملها، ثقلًا ووزنًا، فلقد بَلغَت مريمُ الذروة في التعبير عن آلام الشيخوخة وهمومها، تعبيرًا لم يستطع كثيرٌ مِن الشعراء الرجال المعَمَّرين أنْ يَصِلوا إلى مقامه، دقَّة تصوير، وبراعة تعبير[15]".


[1] لسان العرب مادة: (ع. ط. ف).

[2] انظر: أصول النقد الأدبي أ/ أحمد الشايب صـ 181، مطبعة الاعتماد. نشر ومكتبة النهضة المصرية ط3/ 1365 هـ = 1946 م.

[3] انظر: اتجاهات النقد الأدبي في القرن الخامس الهجري د/ منصور عبد الرحمن صـ 407. طبع ونشر مكتبة الأنجلو المصرية 1397 هـ = 1977 م.

[4] انظر: المرجع السابق صـ 407.

[5] انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة صـ 30، 31، حديث الشباب د/ عبد الرحمن هيبة حـ 2/ 753، وفيه الشرب.

[6] انظر: نظرية الشعر في النقد العربي القديم د/ عبد الفتاح عثمان صـ 305.

[7] انظر الشباب والشيب د/ عبد الرحمن هيبة حـ 2/ 757.

[8] ديوان الغزال. د/ الداية صـ 80، د/ البنداق صـ 209، وفيه القرون جمع القرن: الحبل الذي يُقرَّن به البعيران. اللسان (ق. ر. ن).

[9] الذهن: الفهم والعقل، وحفظ القلب. اللسان (ذ. هـ. ن)، وهو ذهنٌ: فطنٌ، زكن... وقد ذهن به: ذهب بذهنه. أساس البلاغة للزمخشري (ذ. هـ. ن).

[10] هو "عبد الله بن محمد بن صارة. توفي سنة سبع عشرة وخمسمائة. شاعر أشبيلي قِدم العراق وذكر في "حديقة أبي الصلت"، وله شعر في المدح، وقد مدح قاضي القضاة أبا محمد بن عصام." انظر: الذخيرة ق2 ح 2/ 834، 835، بُغية الملتمِس صـ 238 برقم 896، المغرب حـ 1/ 419، معجم الشعراء الأندلسيين صـ 419

[11] انظر: نفح الطيب حـ 4/ 325.

[12] ثوى: ذهب ومضَى. اللسان (ث. و. ى).
[13] سورة القصص آية 88.

[14] انظر: جذوة المقتبس صـ 412، بغية الملتمس صـ 543، 544، نفح الطيب حـ 4/ 291.

[15] انظر: الأدب الأندلسي، موضوعاته وفنونه د/ مصطفى الشكعة صـ 235، 241.



الساعة الآن : 05:29 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 18.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.91 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.52%)]