ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=41)
-   -   الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=282332)

ابوالوليد المسلم 13-09-2022 05:10 AM

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته
 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (1)

عبد العظيم محمود الديب


بسم الله وحده ولا شيء معه دائماً وأبداً.


«إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حقّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا٧١﴾[الأحزاب:69-70] [هذه خطبة الحاجة. وقد ورد بها أكثر من حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسام. ونتفتح بها إحياء للسنة المطهرة]

وبعد:

أشهد أن أشقَّ لونٍ من ألوان الكتابة، هو الكتابة عن سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وما دار في خَلَدي أنني سأكتب في هذا المجال - على شدَّةِ حاجته إلى الكاتبين وخصوبته للدراسين - من مجالات الكتابة. ويرجع ذلك إلى أكثر من سبب، لعلَّ أول هذه الأسباب وأخطرها هو جلالُ الموضوع وعظمته. فكلَّما اقترب الإنسان من أخباره صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بالهيبة والعظمة وتروعه الصورة المشرقة للنبوة ببهائها، وتملك عليه نفسه بروائها ونورها، ويجد المسلم نفسه مُستغرقاً متأمِّلاً بحيث يجد رسالةَ السماء كلها، بكل جلالها تجسَّدت فصارت سيرة محمد بن عبد الله، وخُلُق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأنَّى للكلمات أن تعبِّر عن ذلك، أو للقلم أن يصوِّره، يقيناً كلُّ من حاول أو كتب عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بعجز القلم (حقيقة لا مجازاً) ويقيناً يشعر بأنَّ ما كتبه دون ما أحسَّه وشعر به.

ولعل السبب الذي يلي ذلك هو كثرة ما كُتب ونُشر عن سيرته صلى الله عليه وآله وسلم؛ وفي هؤلاء الكرام الكاتبين من كبار الأئمة وصفوة الصالحين ومن معاصري الأساتذة ورجحاء الباحثين ما يجعل الإنسان يتردَّد أن يقف في صفّهم ويتهيَّب أن تبدو قامته بإزائهم.

تردَّدتُ كثيراً من أجل هذا، وأصبحت فعلاً وحقيقة، ولكني عدت فأقدمت، أقدمت ضعيفاً أشعر بضعفي، عاجزاً أشعر بعجزي، ولكن أعانني وشجَّعني، وفسح لي في الامل، أنَّه نبيّ الرحمة، وأنَّه كان يرحم الضعيف، ويقبل منه جُهده مهما قلَّ، ويراه منه كافياً مجزياً، وكان حقا كما قال: (رحمة مُهْداة). ومنذ زمن بعيد يتردَّد بين جوانحي ذلك القول الحاني الحكيم (البوصيري في همزيته):

صَاحِ لاَ تَاسَ إِنْ ضَعُفْتَ عَنِ الطَّا ** عَـةِ وَاسْتَأْثَرَتْ بِهَا الأَقْوِيَاءُ

إِنَّ للهِ رَحْمَةً وَأَحَقُّ ** النَّاسِ مِنْهُ بِالرَّحْمَةِ الضُّعَفَاءُ

من هنا استأذنت من باب الرحمة.

وحين جعلت همي أن أتناولَ موضوع (الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته) استشعرت الهيبة والرهبة مرَّةً أخرى - بعد أن كنت قد خليتها - وأنا أقترب من بيت النبوة، وإنَّها لرهبة أكبر وأعظم إذا كان الغرض من الاقتراب التعرُّف على ما في البيت الكريم ووصفه وتصويره، لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم مَهِيباً في نفوس أصحابه لا يَرفعون إليه الطرف، ولا يحدُّون إليه النظر، ولا يملأون أعينهم منه، وكان ذلك من عظمة نفسه وروحه، لا من رهبةِ منظره وجبروته، ولذلك كان أصحابه يزدادون له هيبة وخشية وإعظاماً، كلما ازدادوا منه قُرباً وله مخالطة.

ولكني أقدم على محاولتي في الاقتراب من بيت النبوة بإذن صاحب البيت، بل بأمره صلى الله عليه وآله وسلم، أليس قد دعانا للبحث عن سنته وحفظها والعمل بها!؟.

وهنا أجدني مدفوعاً لتأكيد معنيين:

أولها - أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ربما كان الإنسان الوحيد الذي كانت حياته كلها في الضوء، - بل هو بالقطع - الإنسان الوحيد الذي رأته الدنيا وعرفته البشرية يُبيح معرفة ما كان منه، وما يكون في سرٍّ أو عَلَن، مما يتصل بتقلبه في الحياة في أي جانب أو لون من جوانبها وألوانها.

هو صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان الوحيد الذي لم يكن له (سرّ)، هو الإنسان الوحيد الذي عرف الناس - كل الناس - كل تصرفه في كل شؤونه.

فمن حقّ كل واحد منا أن تكون حياته - الشخصية كما يسمونها - ملكاً له وحدَه، بل ذلك معدود من المروءة، وكرم الأخلاق. من حقّ كل واحد منا أن يستر عن الناس كيفية طعامه وشرابه، وماذا يأكل وماذا يشرب، ومن أين يحصل على ما يأكل وما يشرب ونظام ملابسه، وطريقة نومه وكيف يعامل أهله وأولاده، وما الوضع الذي يستقبل عليه ضيفانه، وماذا أطعمهم وكيف سقاهم.

ذلك حقنا، بل ذلك علينا، وهو معدود من علائم استقامة الطبع وسلامة الفطرة، أما النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يكن له (سرّ)، ولم يكن عنده جانب مخبوء من حياته، بل كلُّ حياته كانت في الضوء. فما الحكمة في ذلك؟ في تقديري أنَّ لذلك هدفين:

أ- أن تكتمل الأسوة، والقدوة. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، فلا يكون هناك جانب غير معروف من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - مهما كان ضيقاً أو ضئيلاً - فيلقى شيئاً من الغموض، قد يظن ظانٌ أنَّ لهذا الجانب المستور أثراً في الجوانب الظاهرة، أعني أنَّه قد يقول قائل - ولو في نفسه -: مالنا ولرسول الله، فهو يأكل كذا، أو ينام كذا، أو تتنزل عليه الملائكة بكذا، فلسنا مثله فكيف نتأسى به.

ب - وأيضاً لهذا الوضوح أثر آخر في الدلالة على صدق النبوة، فلو كان هناك جانب غير معروف، أو (حياة شخصية) مستورة ماذا كان يمكن أن يتقوَّله الأعداء ويفتريه المفترون، وينسجه خيال المناوئين على طول العصور، منذ البعثة إلى اليوم.

إنَّ من رحمة الله أن كانت حياته صلى الله عليه وآله وسلم ملكاً للرسالة، كل حياته في بيته، في خارج بيته، في حِلِّه في ترحاله في حربه في سلمه، حتى صفة غُسله ووُضوئِه، بل استبرائه وتطهُّره، بل إزالة ما يكون على ثوبه مما يكون من الرجال. بل أبعد من هذا، ماذا يقول حين يأتي أهله. وها هو أمر السماء لأمهات المؤمنين: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب: 34].

وستظل حياة نبيّنا نبعاً ثراً، ومَعيناً لا ينضب لمن يدرس، ويتدبَّر، ويعي فيتعظ ويعمل.

وثاني المعنيين الذي أريد أن أؤكده هو بشَريَّتُه صلى الله عليه وآله وسلم، ففي تأكيدها تأكيد لعظمته، وأيضاً التزام بالحق والصدق من سيرته، ذلك أنَّ بعض كرام الكاتبين يكاد يجرِّدُ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من بشريته، يدنو به من مصاف الملائكة ويتصور بهذا أنَّه يزداد له تعظيماً وإجلالاً. وهذا على ما فيه من مخالفة الحق، ومجانبة الصدق: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 93]، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ...﴾ [الكهف: 110] وسورة فصلت: 6 ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 188].

مع ما في نفي هذه البشرية المؤكَّدة عن الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من مخالفة للحق، فليس فيها أيضاً التعظيم والإجلال الذي يرجونه من وراء نفيها، بل إنَّ العكس هو الصحيح، أعني أنَّ البشرية وتأكدها في حقه هي محل عظمته ومصدرها، حيث كان له ما في البشر، وكان فيه كل ما في البشر، ولكنه سما وارتفع عن نوازع الإنسان، وارتقى مع ما في البشرية من ثقلة الطين، وعلا مع ما في البشرية من نزعة إلى الأرض. هنا فعلاً تكمُن العظمة أن يكون بشراً، ويعلو فوق ما يقدر البشر.

منهج البحث:

حينما نقف أمام موضوعنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته) سنجد أنَّه ليس موضوعاً واحداً بل عدة موضوعات.

هذا إذا أردنا الوفاء للعنوان وفاءً كاملاً وترجمناه إلى معانيه ومراميه كلها، فحينما نقف عند بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنرى ما يلي:

- بيوت النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، شكلها، ومكانها، ومتى وكيف بنيت.

- أثاث بيته صلى الله عليه وآله وسلم.

- كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم يد خل البيت.

- لباسه صلى الله عليه وآله وسلم.

- تنظُّفه وتطهُّره وتزيُّنه وتجمُّله.

- طعامه صلى الله عليه وآله وسلم.

- استقباله للضيفان ومجلسه.

- أبوته لأولاده وأحفاده.

- زوجيَّته ومعاشرته لأزواجه.

- نومه - ويقظته.

- تعبُّده في بيته.

- معاملته لخدمه وعبيده.

كل هذه الموضوعات وغيرها كثير مما يتصل ببيت النبيّ وينبع منه، وربما كان المتبادر إلى الذهن بعضها دون البعض، ولكن عند التحقيق والتدقيق سنرى أنَّها كلها مُتصلة ببيت النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا ندعي أننا قدرنا على الوفاء بها جميعها، ولا ببعضها، ولكنا حاولنا جهدنا، وقد أطلنا الكلام على جوانب تقديراً منا أنَّها لم تنلْ حقَّها من البحث والدرس من قبل. وأوجزنا الحديث عن بعضها تقديراً منا أنَّها درست مراراً وكثر فيها الحديث وصارت قريبة من الأذهان والأفهام. ونرجو أن نكون قد أصبنا في تقديرنا، وتوقعنا.

ومع أننا سنحاول جاهدين أن نكون أوفياء لعنوان البحث، بحيث نكون دائماً في بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا نبرحه، ولا نخرج منه، إلا أننا سنجد أنفسنا مضطرين أحيانا إلى أن نصحب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم خارج البيت، ما دام الأمرُ يتصل بشأن من شؤون البيت. كالتنظف والتعطر واللباس، فهي أمر متصل بالبيت، وتتمُّ أساساً في البيت لكن مظاهرها وآثارها تمتد حتماً خارج البيت، ولن نستطيع في هذه الحالة إلا أن نتتبعها، ونسير معها حيث هي، وأرجو إلا أكون قد بعدت عن البيت.

وأرجو أن يتحقق لي ما حاولته من الاعتماد على الأحاديث المقبولة صحيحة أو حسنة، وعزوها إلى من خرَّجها، والدلالة على موضعها من دواوين السنة، كذلك جعلت من منهجي ذكر الحديث كاملاً بتمامه، ولو كان موضع الشاهد جزءاً فقط. وربما حاولت أن أضيف في الموضوع الواحد نصوصاً أخرى، قد تكون في نفس المعنى، وقد تكون درجتُها أقلّ من حيث السند ولكني أرجو من وراء ذلك - غير التأكيد للنصوص المعروفة وتثبيتها – أن أخرج من دائرة النصوص المألوفة الدائرة على الألسن. ولم تعدْ تلفت ذهناً، أو تثير انتباهاً، فمثلاً عندما نتحدَّث عن (عيش رسول الله وزهده) نجد من الحديث «ما شبع آل محمد من خبز البُرِّ ثلاثاً» عن عائشة رضي الله عنها: «إنا كنا ننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أُوقد في أبيات رسول صلى الله عليه وآله وسلم نار..»..

فمثل هذا من الحديث متفق عليه، ليس بحاجة إلى تأكيد، ولكن علينا أن نقدم في هذا المعنى أحاديث وآثاراً أخرى - وإن كانت أقلُّ درجة - إثارة للانتباه، وتنشيطاً للأذهان، وإزالة لما قد يكون قد ملل نتيجة تكرير الحديث واحد والاعتماد عليه دائماً.

ومرة ثانية أؤكد أنَّ هذه محاولة جدُّ مُتواضعة لأن نستأذن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أن نعيش في أرجاء بيته المطهَّر، نتنفَّس عبق النبوَّة الخالد، ونملأ عيوننا من نور الرسالة الفيَّاض فتخشع القلوب، وتزداد إيماناً، وتزداد الطريق وضوحاً، ونزداد بها استمساكاً «والله من وراء القصد، وهو نعم المولى ونعم النصير».

بيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

من المناسب قبل أن نستأذن في دخول البيت النبويّ الشريف أن نتعرَّف على مكانه: أين كان، وعلى صفته: كيف كان.

وقد كان لنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بيت واحد، وفي المدينة عدة أبيات بعدد أزواجه رضي الله عنهن.

أما بيته في مكة، فقد أورد الطبري: 197/2 وصاحب الرحلة الحجازية وصفاً له، نقلته بنت الشاطئ عنها [موسوعة آل النبي ص455] حين قالت:

«في جوار الحرم الأقدس، حيث دور قريش حافّة بالمسجد الحرام مُستأثرة دون سائر القبائل بذلك الشرف الأسنى، قامت الدار التاريخية التي كتبت لها أن تشهد عرس محمد بن عبد الله الهاشمي، وأن تستقبله بعد خمسة عشر عاماً من العرس، عائداً من غار حراء، بعد أن تلقَّى رسالة السماء. وهذه الدار قد ارتفع عنها الطريق. فينزل إليها بعدد من الدرجات توصل إلى ممر قامت على يساره شبه مصطبة مرتفعة عن الأرض بنحو قدم، وطولها عشرة أمتار، أما عرضها فأربعة.

وعلى اليمين باب صغير، يصعد إليه بدرجتين، يؤدي إلى طرقة ضيقة عرضها نحو مترين، وفيها ثلاثة أبواب:

يفتح أولها من الجانب الأيسر، على غرفة صغيرة مساحتها نحو ستة أمتار، كانت للنبيّ المختار صلى الله عليه وآله وسلم محراباً ومعبداً، ويؤدي الباب الأمامي إلى بهو مُتسع طوله ستة أمتار وعرضه أربعة، وقد جعل مخدعاً للزوجين، أما الباب الثالث، فعلى يمين الداخل، وهو يفتح في غرفة مستطيلة، طولها سبعة أمتار وعرضها أربعة، وقد جعلت لبنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى طول هذا المسكن من الشمال فضاء واسع، مساحته ستة عشر متراً في سبعة أمتار، ويرتفع عن الأرض بنحو متر، وفيه كانت السيدة «خديجة»[رضي الله عنها]، تخزن تجارتها قبل الزواج، فلما تزوجت واعتزلت التجارة، استعملت هذه المساحة مضيفة لاستقبال الضيوف.

ولا تعطينا المصادر التي تيسرت أكثر من ذلك، على كثرة ما حاولنا أن نستنطقها، لم نعرف عن بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكة أكثر من هذا، فلم نرَ أثاث البيت، ولا طريقة الطعام والشراب، واستقبال الزوار والضيفان، ذلك أن جُلُّ هذه الفترة كان قبل البعثة، حيث لم يكن محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد نال شرف الرسالة بعد، فلم يكن هناك ما يدعو لنقل ما يكون منه في عيشه وحياته..

وما كان بعد البعثة من هذه الفترة المكية كان مفعماً بالجهاد والنضال والكفاح المثابر الصابر الصامد، فلم تتح الفرصة للمسلمين الأولين السابقين لالتقاط الأنفاس وهدوء الأحوال، حتى يسجلوا ما كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة:

أما في المدينة فنرى صورة بيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكثر وضوحاً وتفصيلاً. لما وصل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، وتنافس الأنصار كل يقول يا رسول الله، هلمَّ إلينا: إلى العدد والعدَّة والمَنَعة - ويأخذون بزمام ناقته..

قال صلى الله عليه وآله وسلم: خلوا سبيلها، فإنَّها مأمورة، حتى بركت عند موضع مسجده المبارك، واحتمل أبو أيوب رحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته، وأراده قوم من الخزرج على النزول عليهم، فقال: المرء مع رحله، فكان مقامه في منزل أبي أيوب رضي الله عنه حتى بني له مسجده ومساكنه..

(كذا) مساكنه بصيغة الجمع قاله ابن اسحاق، ورواه عنه ابن هشام (ج2 ص103تحقيق طه عبد الرؤوف) وأيضاً في عيون الأثر (ج1 ص195طبعة دار المعرفة). وقاله أيضاً ابن كثير فيما نقله عنه أبو الحسن الندوي في (السيرة النبويّة ص 155). وقاله أيضاً ابن عبد الوهاب في (مختصر سيرة الرسول ص 135 من طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود). وقالته بنت الشاطئ، بل زادته تحديداً، إذ قالت:

«تنافس المهاجرون والأنصار في البناء حتى تم بناء مسجد المدينة، ومن حوله تسع حجرات» (موسوعة آل بيت النبيّ ص 262).

ولكن الذي يبتدره العقل أنَّه لم تبن بيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلها وقت بناء المسجد، فلم تكن به حاجة إلى كل هذه الأبيات، فلعل هذا القول القائل: (أنَّه أقام عند أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه) وهم في الرواية أو تساهل في التعبير عن المفرد أو المثنى بصيغة الجمع.

وقد لفتت هذه الروايات الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي فقال في (بلبل الروض) فيما حكاه عنه الزركشي في (إعلام الساجد ص224): «لم يبلغنا [أي: يقين] أنَّه عليه السلام بنى له تسعة أبيات حين بني المسجد، ولا أحسبه يفعل ذلك، إنما كان يريد بيتاً واحداً حينئذ لسودة أم المؤمنين، ثم لم يحتج إلى بيت آخر حتى بنى بعائشة رضي الله عنها في شوال سنة اثنتين، وكأنَّه عليه السلام بناها في أزمان مختلفة.

وهذا الذي قاله الذهبي أقرب إلى المعقول، والى المعهود من خُلقه وسُنَّتِه صلى الله عليه وآله وسلم، فليس من المعهود ولا المعقول أن يبني تسعة أبيات من أول يوم ينزل فيه المدينة، ولم تكن به حاجة إليها.

حارثة وبيوت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

وما قاله الذهبي من أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم بناها في أزمان مختلفة، وإن كان أقرب إلى المعقول والمعهود إلا أنَّه مُعارض بما رُوي من أن هذه البيوت كانت لحارثة ابن النعمان الأنصاري، وكان جاراً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

جاء في كتاب: (الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قلوب أصحابه)(۱): كان لحارثة بن النعمان الأنصاري، رضي الله عنه منازل بجوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وكان بينهما تنور واحد يخبزان فيه سوية، وكان مسروراً بهذا الجوار، يستمع لتلاوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث مولاه زيد ابن حارثة، وأبا رافع إلى مكة المكرمة وأعطاها خمسمائة درهم وبعيرين. فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم بنتيه، وسودة زوجته، وأم أيمن زوج زيد وابنها أسامة، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر، فلما قدموا المدينة أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت حارثة بن النعمان، وكان كلما تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحوَّل له حارثة عن منزل بعد منزل، حتى صارت منازل حارثة كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وحين دخل علي بفاطمة رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني أريد أن أحولك إليَّ. قالت فاطمة: يا أبتاه لو كلَّمت حارثة أن يتحوَّل لي عن منزله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بنية قد تحوَّل حارثة عنا حتى استحييت مما يتحوَّل لنا عن منازله، فبلغ ذلك حارثة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله، بلغني أنك تريد أن تحول فاطمة إليك. وهذه منازلي وهي أسقب (أي أقرب) بيوت بني النجار بك، وإنما أنا ومالي لله ورسوله، والله يا رسول الله للذي تأخذه مني أحب إليَّ من الذي تدع.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدقت، بارك الله عليك، ثم حول فاطمة (اهـ).

ولعلنا نرى أنَّ التوفيق بين هذا وبين ما قيل من أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم بنى أبياته لنفسه، بأنَّه بنى أولاً بيتاً أو بيتين لسودة وعائشة رضي الله عنها، ثم تحول حارثة بن النعمان رضي الله عنه عن باقي أبياته، هبة أو بيعاً، فلم تحدد الرواية نوع هذا التنازل من حارثة، وإن كان المفهوم أنَّه تنازل بطريق الهبة.

تابع التتمة في الجزء التالي


المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ

***

(1) تأليف وليد الأعظمي، وأشار إلى أن مصادره في ذلك هي طبقات ابن سعد 3 و53/2 ج 8/119، والاستيعاب 1/306-307 والمستدرك 3/208، وصفون 1/187، وحلية الأولياء 1/356، الاصابة 1/112، ووفاء الوفاء 1/188.


ابوالوليد المسلم 21-09-2022 02:49 PM

رد: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته
 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (2)

عبد العظيم محمود الديب




متى كان التحوُّل لفاطمة:

لعل الذي يحتاج منا النظر والبحث ما دمنا بصدد التمييز بين الروايات، وما جاء في الرواية القائلة بأنَّ هذه المنازل كانت لحارثة - من قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «استحييت من كثرة ما تحول حارثة عن منازله» حيث يفهم من ذلك أنَّه كان بعد أن تزوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنسائه أو على الأقل أكثرهن.

مع أنَّ زواج فاطمة بعلي رضي الله عنهما كان في السنة الثانية من الهجرة ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج من نسائه غير سودة وعائشة رضي الله عنها، فكيف يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «استحييت من كثرة ما تحول لنا»؟

وفي تقديري أنَّه لا أشكال في الأمر، فليس من الضروري أن يكون تحول فاطمة إلى جوار أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كان عقب زواجها بعلي مباشرة بل لا مانع أن يكون بعد الزواج بسنتين، ولعل هذا هو المعقول، بعدما ولد لها، وصار رسول صلى الله عليه وآله وسلم يسعى إليها ليرى الحسن والحسين وأختيها زينب وأم كلثوم، فأدركت فاطمة أن بعدها فيه مشقة على أبيها صلى الله عليه وآله وسلم. وشاركها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، وبلغ الحديث حارثة فكان ما كان.

ولعل الذي يؤكد استنتاجنا هذا أن فاطمة رضي الله عنها لم تكن بجوار أبيها في أول زواجها، وظلت بعيداً حتى ولدت.

الذي يؤكد هذا ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طائفة من النهار، لا يكلمني ولا أكلمه حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم انصرف حتى أتي خبأ فاطمة (أي بيت فاطمة) فقال: أثم لكع؟ أثم لكع؟ (المراد بلكع هنا الصغير) يعني حسناً، فظننا أنَّه إنما تحبسه (أي تؤخره) أمه لأن تغسله، وتلبسه سخابا (السخاب قلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها، وقيل من الخرز) فلم يلبث أن جاء (أي الحسن) يسعي، حتى اعتنق كل واحد منها صاحبه...».

فهذا الحديث يبين مكان بيت فاطمة رضي الله عنها في أول الأمر، وأنَّه كان بعد سوق بني قينقاع، أو على الأقل لم يكن بجوار المسجد مع بيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

صفة هذه البيوت:

هذا عن مكان بيوت النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتاريخ إنشائها، ووسيلة امتلاكها، أما صفة هذه البيوت، فكانت بعيدة عن الأُبَّهة، والزخرفة والزينة، بل بعيدة عن المتانة وقوة البنيان، بعضها من جريد مطين بالطين، وبعضها من حجارة مرضومة بعضها فوق بعض، وسقفها كلها بالجريد أيضاً، وكان لكل بيت حجرة وكانت حجره أكسية من شعر مربوطة في خشب عرعر. [العرعر شجر السرو] .

وفي تاريخ البخاري: أن بابه عليه السلام - كان يقرع بالأظافير، أي: لا حلق، (أعلام المساجد 224 وسيرة بن هشام 103/2هـ 2).

وأما ارتفاع هذه البيوت، فكان أقل ارتفاع يمكن أن يسمح باستخدامها في غير مشقة، فقد قال السهيلي في الروض:2/13 قال الحسن بن أبي الحسن: كنت أدخل بيوت النبيّ عليه السلام وأنا غلام مراهق، فأنال السقف بيدي.

وأما مساحة هذه البيوت والحجرات، فيبدو أنَّها كانت ضيقة نوعا ما. يقول ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة جـ 2 من المجلد الرابع ص 45:

«...لا يزيد اتساعها على اثني عشر قدماً أو أربعة عشر قدماً، ولا يزيد ارتفاعها على ثمانية أقدام».

ولعل أصدق وأدلّ على ضيق هذه البيوت وحجراتها من كلام ديورانت أو غيره ما رواه الستة إلا الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل، وأنا معترضة بينه وبين القبلة، كاعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يوتر، أيقظني فأوترت».

وفي رواية أخرى من حديث متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها أيضاً.. «والله لقد رأيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وأنا على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنسل من قبل رجليه».

وفي حديث آخر أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح».

فهذه الأحاديث الصحيحة تؤكد أن بيوته صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن من السعة بحيث يجد مكاناً يصلي فيه بعيداً عن زوجته النائمة بينه وبين القبلة ويضطرها لأن تقبض رجليها كلما سجد.

وهذه البيوت كان ملحقاً بها أو في فنائها خباء (خيمة) من سعف، وجاء ذلك فيما رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة، وأبو يعلى الموصلي عن رزينة مولاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حين قصت دعابة طريفة كانت بين عائشة وحفصة، وبين سودة رضي الله عنهن إذ روعتا سودة، بأنَّ الدجال قد خرج، فأخذت ترتعد وتسأل عن مخبأ، فقالت حفصة: «عليك بالخيمة» خيمة من سعف يختبئون فيها.

فهذا يشير إلى أن بيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو بعضها كان ملحقاً به مثل هذه الخيمة تأوي إليها نساؤه عندما يكون عنده الصحابة، وربما كانت تسع بعضاً من متاع البيت مثل الرحى ونحوها.

وفي هذه الخيمة لا شك تخفيف من ضيق البيوت وتوسعة لها.

ويؤكد وجود هذه الخيمة أيضاً ما جاء في صحيح مسلم أن عبد الله بن عباس قال: أخبرتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصبح يوماً واجماً، فقالت يا رسول الله، لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة، فلم يلقني، أما والله ما أخلفني» قالت: فظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا فأمر به فأخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه حتى أمسى ولقيه جبريل..... وقال ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة...».

فالحديث يشير إلى أن جرو الكلب. كان تحت الفسطاط، ويشهد بأنَّ هذا الفسطاط كان مُلحقاً بالبيت، ومعتبراً منه، قال النووي في شرح مسلم نقلاً عن القاضي أبي بكر الباقلاني: والمراد به هنا بعض حجال البيت.

مشربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

جاء في قصة اعتزال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نساءه التي رواها الشيخان أنَّ رسول الله ع كان معتزلاً في مشربة، ونورد هنا وصفها، حتى لا يسبق الوهم إلى أنَّها كانت طابقاً ثانياً فوق أحد أبياته، أو مصطافاً جميلاً، يقول عمر رضي الله عنه: فقلت لها (أي حفصة) أين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة، فدخلت، فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعداً على أسكفّة المشربة مدلّ رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينحدر...».

فها هي المشربة كما نرى، (خزانة) يرقى إليها بجذع، وإخالها لم تعد، ولم تهيأ للمعيشة بها وإنما لتكون خزانة البعض ما تحتاجه الحياة (قرظ، جلود،... ونحو ذلك). فهي إذن لا تخرج البيوت النبويّة الشريفة عن الصورة التي وصفناها.

رضى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهذه البيوت:

وسواء بنيت هذه البيوت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلها، أو أنَّ أكثرها لحارثة بن النعمان، فتحوّل عنها للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - وهو ما نرجِّحه - فقد رضيها صلى الله عليه وآله وسلم، وطاب بها نفساً، ولم يثبت أنَّه أدخل عليها تعديلاً، أو توسيعاً أو أعاد بناء شيء منها. أجل لم ترد أية إشارة إلى حدوث شيء من هذا، أو مجرد تفكير فيه، أو حديث عنه.

ولا يظن ظانّ أنَّ هذه كانت بيوت البيئة كلها، فقد عرفت البيئة القلاع والحصون وإخالها عرفت القصور على نحو ما، ويقيناً عرفت البيوت القوية المتينة التي بها أكثر من طابق، فها هو بيت أبي أيوب الأنصاري الذي نزل عنده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سبعة أشهر حتى بنى المسجد والبيت - كان بيت أبي أيوب من طابقين وأراد أبو أيوب رضي الله عنه أن يكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالطابق الأعلى إكراماً له، وكراهية أن يكون فوقه، ولكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «يا أبا أيوب أن ارفق بنا ومن يغشانا، أن نكون في سفل البيت...» (سيرة ابن هشام 2/104).

نقول: إنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رضي ببيوته هذه على ما وصفناها، وكان بوسعه - لو أراد - أن يستبدل بها أوسع منها وأقوى وأعلى وأجمل. وبخاصة بعد أن جاءته الأنفال والغنائم، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم رضي بها زهادة وقناعة وتواضعاً، وارتفاعاً عن متع هذه الحياة الدنيا.

فلم يكن ذلك عجزاً مادياً، ولا عجزاً عن إدراك معنى السعة في البيت وجماله وهو الذي كان من دعائه الذي يكثر منه: «اللهم وسع لي في داري» (رواه النسائي بإسناد صحيح)، ولكنه أيضاً القائل: «خيرت بين أن أكون نبيّا ملكا أو أكون نبيّا عبداً، فأشار إلي جبريل عليه السلام أن أتواضع، فقلت: بل أكون عبداً. رواه الطبراني عن ابن عباس بإسناد حسن، والبيهقي، وابن حبان.

أثاث بيته صلى الله عليه وآله وسلم:

وبعد أن رأينا صورة بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرفنا شكله ومكانه، سنحاول أن نراه من الداخل، ولعلَّ أول ما تقع عليه العين عندما ندخل البيت - أي بيت- هو الأثاث، ومن هنا سنحاول أن نضع أعيننا على أثاث بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفُرشه، لنرى كيف كان؟ وماذا كان؟ ثم لم كان؟

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي ينام عليه من أدم حشوه ليف» رواه الشيخان ورواه غير الشيخين مع اختلاف في اللفظ.

(والأَدَم: بفتحتين جمع أديم وهو الجلد) ووصفت الفراش بأنَّه الذي ينام عليه، حتى لا يتوهم أنَّه للجلوس، أو لتفيد الأمرين معاً.

وسئلت حفصة رضي الله عنها: ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيتك؟ قالت: مِسْحًا نَثْنِيهِ ثَنِيَّتَيْنِ فَيَنَامُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ قُلْتُ: لَوْ ثَنَيْتَهُ أَرْبَعَ ثَنْيَاتٍ لَكَانَ أَوْطَأَ لَهُ، فَثَنَيْنَاهُ لَهُ بِأَرْبَعِ ثَنْيَاتٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: " مَا فَرَشْتُمْ لِيَ اللَّيْلَةَ؟" قَالَتْ: قُلْنَا: هُوَ فِرَاشُكَ إِلَّا أَنَّا ثَنَيْنَاهُ بِأَرْبَعِ ثَنْيَاتٍ، قُلْنَا: هُوَ أَوْطَأُ لَكَ قَالَ: " رُدُّوهُ لِحَالَتِهِ الْأُولَى ، فَإِنَّهُ مَنَعَتْنِي وَطَاءَتُهُ صَلَاتيَ اللَّيْلَةَ».

وفي حديث ابن عباس - [رواه الستة] - الذي يصف فيه صلاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالليل، في الليلة التي بات فيها معه عند خالته ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، في هذا الحديث يقول ابن عباس رضي الله عنها: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى شن معلقة، فتوضأ منها «فهنا أضاف ابن عباس إلى الأثاث (شناً) والشن (بفتح الشين) هو القربة الخلق الصغيرة.

وفي الحديث المتفق عليه، الذي قدَّمناه عن عائشة رضي الله عنها، أنَّه كان يصلي في الليل وهي بينه وبين القبلة على السرير. فأي سرير هذا؟ «لقد كان خشبات مشدودة بالليف، بيعت زمن بني أمية، فاشتراها رجل بأربعة آلاف درهم قاله ابن قتيبة (سيرة ابن هشام 2/103هـ 2).

ولا منافاة بين قول عائشة رضي الله عنها السابق: كان فراشه صلى الله عليه وآله وسلم من أدم حشوه ليف وبين ذكر السرير، فقد يكون السرير استحدث فيما بعد، بل لا مانع من وجودهما معاً.

وفيما رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال عمر رضي الله عنه:... جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مشربة (أي غرفة)، وإنَّه لَعَلَى حَصِيرٍ ما بيْنَهُ وبيْنَهُ شيءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِن أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ، وإنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَضْبُورًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبًا مُعَلَّقَةً، (أي جلود)...».

فقد أضافت هذه الرواية إلى الأثاث السابق حصيراً، وجلوداً مُعدَّة للدباغ وقَرَظاً يُدبغ به.

ولكن المؤكد أنَّ هذا الأثاث لم يكن حيث يعيش رسول الله حياته اليومية، فالمعروف أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يبغض الروائح الكريهة فكيف يطيق الأهب التي تدبغ، والقرظ؟

وإنَّما كان ذلك في (الخزانة) التي اعتزل فيها النبيّ نساءه، عندما تظاهرت عليه زوجتان من زوجاته، في القصة المعروفة، التي أشارت إليها سورة التحريم، وقد صرَّح هذا الحديث الذي ذكرناه بذلك.

وبهذا نكون قد رأينا أثاث بيت رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم، وهو كما ترى من القِلَّة بحيث لا يحتاج إلى إحصاء أو تعداد.

ولسنا في حاجة إلى أن نجهد أنفسنا في جمع الروايات، والأحاديث الصحيحة التي تبين لنا شِدَّة عيش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخشونة فراشه، فذلك أمر صار معلوماً بالضرورة، ويكفي ما قدَّمناه تأكيداً وإثباتاً.

موقف الصحابة من هذا الأمر:

لقد كان صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يرقون له، ويشفقون عليه حيث كان أحب إليهم من أنفسهم التي بين جنبيهم، فذلك من مقتضى الإيمان، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».

كان الصحابة رضوان الله عليهم يشفقون ويرقُّون ويبكونَ لحالِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما يكابده من شَظَفِ العيش.

جاء في الحديث الشريف الذي قدَّمنا جزءا منه عن رؤية عمر للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الحصير، ما بينه وبينه شيء قول عمر رضي الله عنه: «فبكيت، فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أما ترضى أن تكون لها الدنيا، ولنا الآخرة» (رواه البخاري).

وفي رواية صحيحة أيضاً: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر: «أولئك قوم عجِّلت لهم طيباتهم، وهي وسيلة الانقطاع، وإنَّا قوم أُخرت لنا طيباتنا في آخرتنا».

وورد مثل هذا عن غير واحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد بكى لمثل هذا الذي بكى له عمر عبد الله بن مسعود فيما رواه الطبراني، وأبو بكر الصديق فيما رواه عنه ابن حبان في صحيحه (جمع الوسائل 2/126).

ولم تكن نساء الصحابة رضي الله عنهن أقل تأثراً من الرجال، بل كن أكثر تأثراً وشفقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يشهد لذلك ما أخرجه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليَّ امرأة فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة مثنية فبعثت إليّ بفراش حشوه صوف، فدخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فرآه فقال ردِّيه يا عائشة رضي الله عنها، والله لو شئتِ أجرى الله معي جبالَ الذهب والفضة.

ويبدو أنَّ هذا الموقف تكرَّر أكثر من مرَّة يشهد لذلك ما رواه ابن حبان في أخلاق النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: دخلت امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عباءة مثنية، فانطلقت، وبعثت إليَّ بفراش فيه صوف، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال ما هذا؟ قلت: إنَّ فلانة الأنصاريَّة دخلت علي فرأت فراشك، فبعثت إليَّ بهذا، فقال رديه؟، فأبيت، ولم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، قالت: حتى قال لي ذلك ثلاث مرات، فقال ردِّيه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة. قالت فرددته (جمع الوسائل 2-126).

والذي نرتاح إليه أن ما رواه البيهقي حادثة غير التي رواها ابن حبان، وأن ذلك تكرر (ربما) غير المرتين، ففي رواية البيهقي لم تتردَّد عائشة رضي الله عنها وردَّت الفراش المهدى كما أمرها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أول مرة، ثم لما تكرَّر الموقف شقَّ عليها، أن يحرم من هذا الفراش، وكأنَّها رأت أنَّها أحق بالإشفاق عليه صلى الله عليه وآله وسلم من الأنصاريَّة التي أهدته، فأبدت إباء وامتناعاً، على أمل أن يجاملها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويرضي رغبتها - والأمر في نظرها يحتمل المجاملة - ولكن حينما تأكد لها عزم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجزمه، حينما كرَّر أمر الرد ثلاثاً، أيقنت أنَّ الأمر لا يحتمل المجاملة، فسمعت ورضيت وما كان لها إلا أن تفعل رضي الله عنها.

موقف عائشة رضي الله عنها:

ويبدو أنَّ عائشة رضي الله عنها، وكانت أصغر نسائه سناً، وأكثرهنَّ حيوية، وأحظاهنَّ عنده، ولم يسبق لها الزواج بغيره صلى الله عليه وآله وسلم - يبدو أنَّها رضي الله عنها كانت تحاول أن تستجيب لأنوثتها، وفطرتها النسائية السليمة، فكانت تحاول أن تهيئ بيتها، وتزيِّنه، بما تقدر أنَّه يريح زوجها، ويرضيه، ويلفت نظرنا في قصة الفراش المردود قولها: «فأبيت، وأعجبني أن يكون في بيتي» (أعجبني)، (بيتي) فهي تضيف البيت لنفسها، وتتمنى ما يعجبها فيه.

ولم تكن هذه هي المحاولة الوحيدة لعائشة رضي الله عنها، فقد تكرَّر ذلك منها، تكرَّر منها محاولات تجميل البيت وتزيينه، وإلانة الفراش وتنعيمه، وفي كل مرة كان يأتيها رد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما يناسبها، وسنحاول أن نعرض بشيء من هذه المحاولات، فيما يلي:

فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنَّها اشترت نمرقة تصاوير فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام على الباب، فلم يد خل، فعرفت الكراهية، فقالت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله، فإذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما بال هذه النمرقة [وسادة صغيرة]». فقالت: اشتريتها لك، تقعد عليها، وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ أصحاب هذه الصور يعذبون، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم»، ثم قال: «إنَّ البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة» ا.هـ واللفظ لمسلم.

ومن ذلك أيضاً ما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت:.. رأيته خرج في غزاته، فأخذت نمطا [بساط لطيف له خمل]، فسترته على الباب، فلما قدم فرأى النمط، عرفت الكراهية في وجهه. فجذبه حتى هتكه أو قطعه، وقال: «إنَّ الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين» قالت: فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفا، فلم يعب ذلك علي.

وقد يشكل هنا رفض النمرقة في الحديث السابق، ثم رضاه بها في هذا الحديث، وهي متخذة من نفس النمط (وكان فيه صورة الخيل ذوات الأجنحة كما صرح به في الرواية الأخرى).

والجواب: أن هتك النمط وقطعه أصاب الصورة وأتلفها، ويحتمل أنَّها عند عمل الوسادتين جعلت الصورة من الداخل.

ومن ذلك أيضاً ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا».

وهذا أيضاً قد يشكل مع غضبه صلى الله عليه وآله وسلم وقطعه الستر في حديث الذي ذكرناه قبل هذا. وقد يجاب بأنَّ المراد بالتحويل هنا الإزالة - وليس مجرد نقله من مكانه في استقبال الداخل كما هو المتبادر - كما صرح بذلك في رواية البخاري عن أنس رضي الله عنه: «أميطي عني (قرامك) فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي» (والقرام: ستر به نقوش فيها تصاوير).

وأيَّا ما كان الأمر فحكم التصوير والستائر بحث فقهي لسنا له الآن وإنما الذي نريد أن نقوله هو ما كان من محاولات عائشة رضي الله عنها المتكررة لتخفيف من شدة عيش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تهيئ له من الفراش ما يريحه ومن المناظر ما يبهجه، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم ما لا يعلمون، ويدرك ما لا يدركون، كان يرى الراحة والرضى في الارتفاع عن هذه الحياة بماديتها الغليظة والانفكاك من ثقلها، والتسامي على متعها. [وللتفصيل في هذا يُرجع إلى كتاب الحلال والحرام للدكتور : يوسف القرضاوي ، ص 115 ط 8 تجد تفصيلاً شافياً إن شاء الله تعالى].


للمقالة تتمة في الجزء التالي..

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ







ابوالوليد المسلم 22-09-2022 02:21 PM

رد: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته
 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (3)

عبد العظيم محمود الديب


وقفنا أمام بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:


وحين نقف أمام ما رأيناه من بيت المصطفى عليه الصلاة والسلام يجب أن نؤكِّد ما يلي:

۱ - أننا لا ندعو الناس لأن يخرجوا من بيوتهم وأثاثهم، ويبحثوا عن بيوت من الجريد وفراش من الليف، فما أمر بذلك النبيّ وأصحابه، وإنما الذي نقوله، على ضوء فهمنا لهديه صلى الله عليه وآله وسلم - إنَّ للمسلم أن يعيش واقعه وحياته، وبيئته، على أن يكون في ذلك مقتديا بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يجعل متع هذه الحياة همَّه، ويتركها تستحوذ على فكره، ويصير يملأ عينيه من فراشه وأثاثه، وبيته وحجراته، ويشغل قلبه بصوره وألوانه، حتى يملأ كل هذا ركناً من قلبه، ويمتلك جانباً من نفسه، والطامة الكبرى حين يجعل ذلك مصدر مباهاة ومفاخرة، وتعالٍ وتكاثر.


۲ - أنَّ من استطاع أن يسمو فوق رغباته، ويعلو على شهواته بحيث يكتفي من المسكن والأساس والفراش بما يحفظ عليه حياته وصحته، ويعينه على أداء واجبه نحو آله وقومه ودينه، ويحفظ عليه هيبته ومكانته - فلا شك أنَّه أصاب السنة واستقام على الجادَّة.

3 - أنَّ هذا لم يكن من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عجزاً مادياً، فلو أراد لكان فراشه من الديباج والإستبرق، ولكان بيته من الذهب والفضة «لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

4 - كذلك لم يكن هذا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عجزاً نفسياً عن إدراك هذه المتع واستيعابها، بل كان قوة وقدرة، أن تكون بين يديه، ويسمو فوقها مؤثراً متعاً أرقى وأعظم، متعة الروح والنفس، متعة البذل والعطاء.

5 - ونؤكد أخيراً ونحن نرى بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفراشه وأثاثه أنَّه كان بيتاً رائع الجمال ظاهر الوضاءة، طيب الرائحة، مشرق النظافة لم تمنعه بساطة المظهر ولا خشونة الفراش وفقر الأثاث أن يكون بيتاً جميلاً وضيئاً، عطراً نظيفاً، وأعني بهذه الصفات الحسيَّة لا المعنويَّة، أيّ الجمال الحسيّ والوضاءة الحسيّة والعطر الحسيّ والنظافة الحسيّة.

وحينما أقول ذلك أقوله على التحقيق واليقين لا على التخيل والتوقع، وتحققي ويقيني ينبع من أن صاحبه صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كان يعلم أصحابه النظافة ويدعو إليها، ويحب الطيب ويدعو إليه، فهو القائل: «إن الله تعالى طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود» (أخرجه الترمذي)

وهو الذي ردَّ الطعام إلى أبي أيوب الأنصاري وهو ضيف عنده؛ لأن فيه ثوماً أو بصلاً، وارتاع أبو أيوب، وراح يسأل أهي حرام يا رسول الله؟ فيقول المصطفى عليه السلام: «لا، ولكني أناجي ما لا تناجون» (السيرة النبويّة 2/104).

وهو الذي قال فيه أنس رضي الله عنه: «ما شممت ريحاً قط، ولا مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» (رواه أحمد والبخاري) وهو الذي قال: «أخرجوا منديل الغمر من بيوتكم فإنه مبيت الخبيث ومسكنه» (الفردوس عن جابر) [تكلم المناوي في ثلاثة من رواته في الفيض، ولكنه بهدي الرسول أشبه].

ومنديل الغمر هو الخرقة لمسح الأيدي من وَضَرِ اللحم. والغمر هو زهومة اللحم، وما تعلق باليد منه، والخبيث في الأصل كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته «ما يكره رداءة وخساسة، محسوساً كان أو معقولاً» فالمراد هنا الشيطان، الهوام والحشرات أيضاً.

ومعنى هذا الحديث بلغة العصر: أخرجوا القمامة لا تبيت في بيوتكم. وما زالت للآن كثير من البيوت التي تناطح السحاب، وتفرش بالنمارق والأرائك، والديباج والاستبرق، وتضاء بالكهرباء، ما زال كثير من هذه البيوت في حاجة إلى من يعلم أهلها كيف يخرجون القمامة لا تبيت معهم.

ونبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً هو القائل: «من نام وفي يديه غمر ولم يغسله، فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه» (أخرجه أبو داود والترمذي) فأيُّ ترغيب في النظافة وطيب الرائحة أكثر من هذا!.

ألا ما كان أجمل بيت رسول الله

ألا ما كان أنظف بيت رسول الله.

ألا ما كان أطيب بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند دخول البيت:

لعل الترتيب المنطقي بعد أن رأينا بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتمثلنا صورته من الداخل والخارج – لعل الترتيب يقتضينا أن نسعد بصحبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو داخل إلى بيته. فكيف كان وهو داخل إلى بيته.

كان صلى الله عليه وآله وسلم يد خل بيته ذاكرا الله عزَّ وجل، حامداً له شاكراً، يروي ابن السني في (عمل اليوم والليلة) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا رجع من النهار إلى بيته قال: «الحمد لله الذي كفاني وآواني، الحمد لله الذي أطعمني وسقاني، الحمد لله الذي منَّ عليَّ فأفضل، أسألك أن تجيرني من النار» هكذا شأنه دائماً الذكر والحمد، داخل إلى بيته محفوف بنعمة الكفاية والحماية التي أنعم بها الله عليه في نهاره، فبفضل الله تقلب في نهاره، وبفضل الله كان سعيه، وبفضل الله كان جهاده، وبفضل الله كانت الحماية والرعاية والعناية، وهو داخل إلى بيته شاعر بنعمة الإيواء، والسكن والأمن «الحمد الله الذي أطعمني وسقاني» ثم الحمد يستتبع الحمد، والذكر يستتبع الذكر «الحمد لله الذي أطعمني وسقاني» ثم النعم لا تعد ولا تحصى «فالحمد لله الذي من علي فأفضل»، نعم. من. منَّ بماذا؟ بكل ما أنا فيه، النعم منّ مِنَ الله أي إعطاء ومنح، ليست حقاً وهي زيادة، وهي غامرة، وهي سابغة، فكأن بعضها يكفي للشكر والثناء والخشوع والخضوع.

ويُعلِّم أمته أن تذكر الله مثله فيقول عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل، فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال، الشيطان: أدركتم المبيت..».

وهو عليه الصلاة والسلام هنا لا يحدد للذكر صيغة معينة، تيسيراً على أمته وتسهيلاً، فيكفي ذكر الله، والمراد - قطعاً - الذكر بمعناه الحقيقي، استشعار عظمة الله سبحانه، وقدرته وجبروته، وملكه ورحمته وفضله ونعمه، وحينئذ سينطق اللسان بما ينبغي أن ينطق: بالتسبيح والتنزيه، والحمد والشكر والخضوع والخشوع، هذا هو المعنى المطلوب بأي لفظ، وبأي عبارة.

السلام على أهل البيت:

بعد أداء حقّ الله بالتعظيم والتحميد والتمجيد، بقي حقّ الأهل، وأهل البيت، حقهم في التحية، فقد يظن ظان أن التحية، تكون لمن بيننا وبينهم كلفة، أو عدم معرفة، فتشرع التحية، جلباً للألفة، وإزالة للوحشة، وأما أهل البيت حيث زالت الكلفة وتمت الألفة، فلا حاجة إلى تحية وسلام. ومن أجل هذا علَّم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمّته، ونبههم إلى حقّ أهل بيتهم عليهم في السلام والتحية عند الدخول، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا بني إذا دخلت على أهلك، فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك» (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح)

ملابسه صلى الله عليه وآله وسلم وزينته:

أعتقد أننا لم نبعد عن موضوعنا حين نحاول أن نرى كيف كانت ملابسه صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف كان تزينه ذلك أن الملبس والزينة، وإن كان يرى خارج البيت إلا أنَّه لا يبدأ إلا من البيت، ولا يتم إلا في البيت، فنحن إذاً ما زلنا مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته.

وحينما ننظر إلى ملابس المصطفى عليه الصلاة والسلام، سنحاول أن نصف منها ما يلي:

أ - شكلها وطريقة تفصيلها.

ب - كيف كان يلبسها.

ج - لونها.

د - ما كان يقول من ذكر عند لبسها.

هـ - ماذا كان يكره من الثياب.

١- شكل ملابسه صلى الله عليه وآله وسلم:

لم يتخذ عليه الصلاة والسلام شكلاً معيناً من الملابس، يلتزمه طول حياته، وإنما ورد أنَّه لبس (القميص) و(السروال) و(الرداء) و(الإزار) و(الجبة)، ولبس (العمامة) على (القلنسوة) وبدونها، و(عصب رأسه) و(تقنَّع) بلفِّ رداءٍ حول رأسه ووجهه فوق العمامة، واستخدم الحِبَرة والخميصة، والبرود، والشملات، والمرط [وهو كساء من صوف ونحوه يؤتزر به].

وهذه كلها (أشكال) من الملابس و(أصناف) من الأنسجة. فلم يلتزم عليه الصلاة والسلام أيَّاً منها، لا من حيث (الشكل) ولا من حيث (النوع).

ولم يكن هذا أيضاً خضوعاً لضرورة الحياة، وواقع البيئة، حيث كانت الملابس والأنسجة تجلب من الأسواق الخارجية، من اليمن وفارس والشام ومصر، ولم تكن تجارتها كما نراها اليوم منتظمة، توفر كل الألوان والأصناف بصفة دائمة، في معارض قائمة زاهرة. وانما كانت تتوفر بعض الأصناف حينا، وينقطع حينا آخر.

أقول: ليس هذا هو السبب في مراوحة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بين هذه الأصناف والأشكال فلو كان له أرب في لون وشكل وصنف معين، لما عزَّ عليه أن يجلب منه ما يكفيه دائماً.

وإنما كان الذي يعنيه صلى الله عليه وآله وسلم من الثياب حقيقتها ووظيفتها. ولقد ظهر من هديه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المجال أن الذي يرجى من الملابس هو:

- الستر.

- التزين.

- مع الوقاية من الحر والبرد.

والذي يوضح ذلك ما روي من ميله إلى لبس القميص، فقد أخرج أبو داود والترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القميص» (جمع الفوائد:1/306).

ولا منافاة بين هذا، وبين ما ورد من حديث أنس: (من أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الحِبَرة)). فإن القميص أحب باعتبار (الشكل)، أي: طريقة التفصيل، (الحِبَرة) فهو نوع من البُرود اليمنية تصنع من القطن (صنف) من الأنسجة، وليس شكلا من الثياب. بل لا مانع من أن يتخذ منها نفسها القميص فيجمع بذلك بين الحديثين.

قال الحافظ الزين العراقي: «فيه ندب لبس القميص» وأنَّه كان أحب إلى الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من مزيد الستر لإحاطته بالبدن بالخياطة، بخلاف الرداء والشملة نحوها، مما يشتمل به، مما يحتاج إلى ربط أو إمساك، أو لف أو عقد، إذ ربما غفل عنه لابسه فيسقط عنه بخلاف القميص» (شرح المناوي بها عن جمع الوسائل: 1/108).

ويؤكد هذا أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يأكل الرجل بشماله، أو يمشي في نعل واحدة، وأن يشتمل الصمَّاء، وأن يحتبيَ في ثوب واحد كاشفا عن فر جه.

قال النووي نقلاً عن أبي عبيد: الفقهاء يقولون: اشتال الصماء هو: أن يشتمل بثوب ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيّه، وعلى ذلك يكون هذا الاشتمال حراماً إن انكشف به بعض العورة، وإلا فيكره.

وأما الاحتباء فهو أن يقعد الإنسان على إليتيه، وينصب ساقيه، ويحتوي عليها بثوب أو نحوه، وكان هذا الاحتباء عادة للعرب في مجالسهم، فإن انكشف معه شيء من عورته فهو حرام 10 هـ (شرح مسلم:14/76).

فالنهي عن هذه الهيئة أو تلك من اللباس، لأنَّها تفوت المقصود الأول من اللباس وهو الستر، فتعرض صاحبها لاحتمال كشف العورة.

ويدخل في هذا أيضاً ما روي في شأن السراويل، وأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يشتريها ويلبسها - مع أنَّها لم تكن شائعة عند العرب آنذاك - فقد روى أصحاب السنن عن سويد ابن قيس رضي الله عنه قال: «جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا (أي ثياباً) من هجر، فأتينا به مكة، فجاءنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فساومنا بسراويل، فبعنا منه وزن ثمنه، وقال للذي يزن: زن وأرجح».

ولأبي يعلى الموصلي وللطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وفيه: «قلت يا رسول الله، وإنك لتلبس السراويل؟ قال أجل، في السفر والحضر، وبالليل والنهار.

التتمة في الجزء التالي.

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ





ابوالوليد المسلم 28-10-2022 12:41 PM

رد: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته
 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (4)

عبد العظيم محمود الديب


أوضح ما يشهد بأنَّ التجمُّل باللباس كان مقصوداً منه صلى الله عليه وآله وسلم، ما ورد في دعاء لبس الثوب الجديد، إذ جاء فيه: «الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمَّل به في حياتي» وهكذا أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي.


وقد عرف عنه الصحابة رضي الله عنهم ذلك، أي حُبَّه لجمال الملابس ورونقها فيمر رضي الله عنه عمر بالسوق، فيرى رجلاً يبيع حُلة تعجبه بجمالها، وتبهره بمنظرها، فيكون أول ما يتبادر إلى ذهنه أن يذهب بها إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، ليشتريها قائلا: «يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك»، ولكن الحلة التي أعجبت عمر كانت من الحرير، ومن أجل ذلك رفضها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: «إنما يلبس هذه من لا خلاقَ له في الآخرة (أخرجه الستة إلا الترمذي). [من لا خلاق له: قيل: معناه من لا نصيب له في الآخرة، وقيل: من لا حرمة له. وقيل: من لا دين له. فعلى الأول يكون محمولا على الكفار، وعلى القولين الأخيرين يتناول المسلم والكافر. والله أعلم. اهـ (شرح مسلم للنووي:14/38 )].


والذي يعنينا هنا أنَّ عمر رضي الله عنه، في عمله هذا يدرك رغبة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلم اهتمامه بحسن الهيئة، وجمال المنظر.

وقد يقال: أنَّه وردت أحاديث تدعو إلى التقشُّف، والتخشُّن والزهد، وتُنفِّر من التزيُّن والتجمُّل، وجوابنا عن ذلك سيأتي قريباً إن شاء الله، حينما نتكلم عمَّا كرهه صلى الله عليه وآله وسلم من الثياب.

ب - ألوان الملابس:

ولعلنا لا نكون قد بعدنا كثيرا عن الحديث في جمال الملابس ونحن نتحدث عن ألوانها.

لم يقتصر صلى الله عليه وآله وسلم على لون واحد، بل لبس أكثر من لون، وربما نقول لبس الألوان كلها. وأيضاً لم يكن ذلك اضطراراً، وإنما كان اختياراً. فهل معنى ذلك أنَّه لم يفضل لوناً على لون أو ألواناً بعينها؟ وهل معنى ذلك أنَّه لم يكره ألوانا بعينها وينهى عنها؟

والجواب: أنَّه فضَّل ألواناً، وأثنى عليها، وكره ألواناً ونهى عنها. فضَّل اللون الأخضر. وأثنى عليه، ولبسه، وفضَّل اللون الأبيض، وأثنى عليه وأوصى بلبسه، ولبسه أيضاً، فأي اللونين أفضل؟

وكره اللون الأحمر، المعصفر والمزعفر، ونهى عنه مع أنَّه ورد أنَّه لبسه فكيف هذا؟ والجواب بعد استعراض النصوص التي وردت في هذا الشأن وبدون ضرورة لذكر هذه النصوص، خوفاً من التطويل - نستطيع أن نقول:

أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أحبَّ من الألوان أصفاها، وأرقّها، وكره منها الألوان الصارخة مثل الأحمر (المزعفر والمعصفر) وأما أنَّه لبسه، فالجواب أنَّه لبس (البرود) ولم تكن حمراء خالصة، وإنما كانت مخططة بالأحمر، ثم كانت مصبوغة الخيوط قبل النسيج، أما المعصفر والمزعفر، فقد كان مصبوغاً بعد النسيج، وقبل أن يعترض معترض قائلاً: وما الفرق بين الصبغ قبل النسيج وبعده؟، نجيب قائلين: أن الصبغ للخيوط قبل النسيج يجعل الصبغة تنطفئ نوعاً ما، ويذهب بريقها، وذلك لاحتكاك الخيوط أثناء النسيج، ومن هنا لبس صلى الله عليه وآله وسلم (البرود) لأنَّها كانت مما يصبغ قبل النسيج، ولأن الحمرة لم تكن فاقعة قانية.

ويشكل أيضاً ما ورد أنَّه لبس المزعفر والمعصفر، والجواب: أنَّه لبسه بعدما حال لونه، كما ورد في الرواية التي ذكرت ذلك، ولا مانع أن يكون قد خفف من لونه بغسله عدة مرات أو تركه في الشمس أياماً قبل أن يلبسه، وربما يشهد لهذا الاستنتاج ما روي عن الإمام الشافعي أنَّه نهى الرجل عن التزعفر بأي حال، وقال: وأمره إذا تزعفر أن يغسله (شرح مسلم: 14/55 ).

فدلَّ ذلك على أنَّ الغسل يذهب باشتداد الحمرة.

أما لماذا كره الأحمر، ونهى عنه فقد صرَّحت رواية مسلم بأنَّه كرهه لأنَّه شعار الكفار، فعن جبير ابن نفير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنَّه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: «إنَّ هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» [عصفر الثوب: صبغه بالعصفر، والعصفر نبات يستعمل زهره قابلا، ويستخرج منه صبغ أحمر يصيغ به (المعجم الوسيط)].

وفي رواية أخرى لمسلم أيضاً، أنَّ عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: «أأمك أمرتك بهذا؟ قلت أأغسلها؟ قال: بل احرقها».

قال الإمام النووي: معنى أأمك: أمرتك بهذا أن هذا من لباس النساء وزِيِّهن، وأخلاقهن، وأما الأمر بإحراقها، فقيل: هو عقوبة وتغليظ لزجره، وزجر غيره عن مثل هذا الفعل.

فهنا - على تفسير الإمام النووي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم. أأمك أمرتك بهذا؟ نجد سببا آخر للنهي عن اللون الأحمر، وهو أنَّه من لباس النساء.

ولكون هذا النهي - مع صراحته - معارض بأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لبس حُلَّة حمراء اختلف الفقهاء في حكم الثياب الحمراء (المحمرة بالعصفر)، يقول النووي رضي الله عنه: «أباحها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعد هم وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، ولكنه قال: غيره أفضل منه» ونقل النووي (في الموضع نفسه) عن البيهقي: أنَّ الشافعي نهى بكل حال يتزعفر الرجل (أي يحمر بالزعفران) وقال البيهقي: لو اطلع الشافعي على هذه الأحاديث لتبع السنة في المعصفر كما تبعها في المزعفر، بل في المعصفر أولى».

وقد نقل ابن مفلح في الآداب الشرعية: 3/522 «أنَّ مذهب أبي حنيفة والشافعي تحريم لبس الثوب المزعفر على الرجل»، كما نقل عن الإمام أحمد أنَّه نص على كراهية الأحمر كراهية شديدة حتى النساء، إلا أن تريد به الزينة.

وواضح من كل ما تقدم أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم يكره للمسلمين زي غير المسلمين، وللرجال زي النساء.

ولندع الكلام ما يكره من الثياب إلى موضعه الآتي قريباً. إن شاء الله.

ولنعد إلى مقصود هذه الفقرة وهو ألوان ملابسه صلى الله عليه وآله وسلم، فنقول: إنَّ الذي يلوح لنا، ونرتاح إليه أن أحب الألوان إلى نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم كان هو اللون الأبيض، ذلك أنَّه هو اللون الوحيد الذي أوصى به، جاء عن أنس رضي الله عنه: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خير ثيابكم البياض ألبسوها أحياءكم، وكفِّنُوا فيها موتاكم» (حديث حسن رواه الدار قطني)، ورواه الحاكم عن ابن عباس، وصححه ابن القطان، وقال ابن حجر: رواه أصحاب السنن عن أبي داود، والحاكم أيضاً من حديث سمرة، ورواه ابن ماجة والطبراني في الكبير مع اختلاف وزيادات أخر.

وفي رواية الترمذي في الشمائل عن سمرة «البسوا البياض، فإنَّها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم».

ولعل أحسن تفسير للأطهر والأطيب: أنه أنظف وأحسن أو أجمل فاللون الأبيض هو الذي لا يقبل ولا يطاق إلا إذا كان بالغ النظافة فإن أي دَرَن فيه يصرخ في وجه صاحبه مُطالباً بالنظافة، وهو أجمل الألوان لمن يرى الجمال في الصفاء والنقاء، والهدوء والوقار، واللون الأبيض للآن ما زال عنوان النظافة والطهارة والجمال، ويتمناه كثيرون لكن من يطيقه قليل.

ج - دعاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند لبس الثوب:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استجدَّ ثوبا سمَّاه باسمه عمامة أو قميصاً أو رداءً، ثم يقول: «اللهم لك الحمد كما كسوتنيه. أسألك خيره، وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره، وشر ما صنع له» (رواه أبو داود والترمذي).

وكان يوصي أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم، بنحو ذلك، فمن ذلك، ما أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه، والترمذي وحسَّنه، من حديث عمر رضي الله عنه مرفوعاً: «من لبس ثوباً جديداً، فقال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمَّل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به كان في حفظ الله وفي كنفه، وفي ستر الله حيا أو ميتا». (جمع الوسائل: 1/114).

وروي أيضاً عن معاذ بن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: «من لبس ثوباً فقال: الحمد لله الذي كساني هذا، ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر الله ما تقدم من ذنبه» أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وابن ماجة.

ومن ذلك أيضاً ما أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما اشترى عبد ثوباً بدينار، أو نصف دينار، فحمد الله عليه، إلا لم يبلغ ركبتيه، حتى يغفر الله له». (قال الحاكم: هذا حديث لا أعلم في إسناده أحداً ذكر بجرح والله أعلم).

د - كيف يلبس ويخلع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:

لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يحب التيامن في شأنه كله، ويحثُّ عليه، ويأمر به ومن أجل ذلك كان يبدأ في لبسه باليمين، ويبدأ في خلعه باليسار. جاء في حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه الترمذي في الشمائل: 1/136 قالت: «كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يحبُّ التيمُّن ما استطاع، في ترجُّله، وتنعله، وطهوره».

وروى الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا لبس قميصاً بدأ بميامنه».

هـ - الثياب التي كرهها صلى الله عليه وآله وسلم:

أولا: هناك من اللباس ما كرهه صلى الله عليه وآله وسلم لذاته، أيَّاً كان لونه، أو شكله، ورفضه رفضاً باتاً قاطعا بمعنى حرَّمه تحريماً قاطعاً، فلم يلبسه، وأعلن أنَّه لا يحل لمسلم أن يلبسه، وذلك: ثياب الحرير، فقد رأيناه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر رضي الله عنه حين عرض عليه الحُلَّة التي أعجبته (وكانت من حرير) ليشتريها يتجمَّل بها يوم الجمعة وللوفود: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» رواه الشيخان.

وفيما رواه الشيخان أيضاً: «لا تلبسوا الحرير، فإنَّ من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة».

وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله. ثم قال: «إن هذين حرام على ذكور أمتي» رواه أبو داود بإسناد حسن.

وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عند مسلم: «نهانا صلى الله عليه وآله وسلم عن خواتيم الذهب، وعن شرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القسي، وعن لبس الحرير، والاستبرق والديباج» والمياثر: جمع ميثرة، وهي فراش كان يوضع فوق السروج، ويتخذ من الحرير، والقسي: ثياب مضلعة بالحرير، وكذا الاستبرق والديباج من أنواع الحرير. [والقَسِّيُّ ثيابٌ مَصنوعةٌ من الكَتَّانِ بها أشرِطةٌ من الحَريرِ على هيئة أضْلاعٍ. "وعن المياثِرِ"، وهي فُرشٌ كانت تَصنعُها العَجمُ؛ لتوضَعَ تحتَ الراكبِ على الدَّوابِّ مثل السُّرُجِ، وكانت تُصنعُ من الحريرِ وتُحشَى بالقُطنِ].

وقد أفادت هذه الأحاديث الصحيحة، وما فيها من تفصيل لأنواع الحرير تحريمه أياً كان نوعه وشكله على الرجال، وعلى هذا أجمع العلماء.

ثانيا: هناك من اللباس ما كرهه صلى الله عليه وآله وسلم للونه وما كرهه لشكله، وما كرهه لنوعه. فقد كره اللون الأحمر (المعصفر والمزعفر) وأصح ما جاء في النهي عن المعصفر حديثا عبد الله بن عمرو بن العاص اللذان أخرجها مسلم، وقد ذكرناها آنفا.

أما المزعفر فما وقع لنا فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تلبسوا شيئاً مسَّه زعفران ولا ورس» (ذكره صاحب جمع الفوائد: 1/307 عن رزين، وسكت عنه، ومن منهجه أن ما سكت عنه يكون حديثاً مقبولاً، صحيحاً أو حسناً).

وقد أشرنا قبلاً إلى ما رواه البيهقي في كتابه معرفة السنن، من أن الشافعي قال: أنهي الرجل أن يتزعفر بحال، وقال البيهقي: تبع الشافعي السنة في المزعفر، أي: صحَّت عنده أحاديث النهي عنه.

وقد جاءت أحاديث تنهى عن الأحمر نهياً عاماً، معصفراً أو مزعفراً، أو محمراً بغيرها، فمن ذلك، ما رواه أبو داود عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: «خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فرأى على رواحلنا، وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهن حمر، فقال: ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم؟ فقمنا سراعا لقوله حتى نفر بعض إبلنا، فأخذنا الأكسية فنزعناها. (جمع الفوائد: 1/307 ).

ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أنَّ الشيطان يحبُّ الحمرة، فإياكم والحمرة» وورد نحو ذلك كثير.

وقد أخرج أبو داود والبزَّار عن امرأة من بني أسد، قالت: كنت في بيت زينب أم المؤمنين، ونحن نصبغ ثيابا لها بمَغْرَةٍ [المَغْرة: الطين الأحمر يصبغ به (المعجم الوسيط)]، اذ طلع علينا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأى المغرة رجع، فلما رأت ذلك زينب غسلت ثيابها، ووارت كلَّ حمرة ثم رجع فاطلع، فلما لم ير شيئاً دخل» (جمع الفوائد:1/307).

فهذا الحديث الأخير يضيف حكماً آخر، هو كراهية الحمرة حتى للنساء.

وكما أشرنا من قبل، أحاديث النهي هذه معارضة بما روي في الصحيحين من أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لبس حُلَّة حمراء، وكان ذلك بمكة في حجَّة الوداع على ما صرَّحت به بعض الروايات، بل قد وردت أحاديث تنص على أنَّه لبس المعصفر والمزعفر، وأنَّه كان يصبغ بالورس والزعفران.

ولا مجال للترجيح بين هذه الأحاديث النبويّة الشريفة، فإنَّ التعارض بين أحاديث الصحيحين ذاتها. وإنما الذي يلوح لنا - والله أعلم - أن الأحمر ليس لوناً واحداً، فتستطيع الآن أن ترى أمامك عشرات الألوان وكلها يمكن أن يقال له الأحمر، فالأحمر الذي نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (قطعاً) غير الأحمر الذي لبسه، والمعصفر والمزعفر الذي نهى عنه غير المعصفر والزعفر الذي لبسه، فقد يصبغ بالعصفر والزعفران، ويأتي اللون مختلفا بعدة درجات، وكلها مزعفر ومعصفر، وكلها أحمر.

ومعلوم أن عدد مرات الصبغ، أو درجة تركيز الصبغة أو نوع النسيج المصبوغ، أو طريقة الصبغ، كل ذلك وغيره يؤثر في درجة اللون وينتج ألوانا مختلفة. (وهذا على فرض ثبوت لبسه صلى الله عليه وآله وسلم للمعصفر والمزعفر، فإن ما ورد من ذلك فيه مقال).

أما لبسه صلى الله عليه وآله وسلم للحُلَّة الحمراء، وهذا هو الذي ورد في الصحيحين فقد أشرنا من قبل إلى أن الحلة كانت من برود اليمن، وهي ليست حمراء خالصة بل مخططة بالأسود والأحمر.

قال: العلامة ابن القيم: «كان بعض العلماء يلبس ثوباً مصبغاً بالحمرة، ويزعم أنَّه يتبع السنة، وهو غلط، فإن الحُلة الحمراء من برود اليمن، والبرد لا يصبغ أحمر صرفاً» (حكى هذا صاحب جمع الوسائل).

وعلى ضوء ما رأينا من هدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في آداب اللباس ونحوه من الآداب الاجتماعيَّة، نستطيع أن نقول: أنَّه كره اللون الأحمر الذي لا يليق بالمسلم، بل والمسلمة، أما تحديد درجة هذا اللون، فقد يرى أن العرف السليم لذوي المروءة والدين هو الذي يحدده.

ومن هنا، من حيث صعوبة تحديد درجة الحمرة المنهي عنها، كان حمل النهي على الكراهة فقط، لا للتحريم.

ثالثاً:

هناك من اللباس ما كرهه صلى الله عليه وآله وسلم ونهى عنه لشكله وهيئته، وقد يد خل اللون أيضاً في هيئة الملابس. وما كرهه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الجانب أصناف ثلاثة:

ما يشبه زي غير المسلمين.

ما يشبه زي النساء للرجال، وزي الرجال للنساء.

ما يوحي بالكبر والخيلاء، ويؤدي إلى الإسراف.

١ - ويشهد لكراهية النوع الأول ما ورد في حديث عبد الله بن عمرو الذي رواه مسلم، وذكرناه قبلاً، إذ قال عليه الصلاة والسلام: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» ويؤكِّد هذه الأحاديث الكثيرة التي تحثُّ على مخالفة غير المسلمين في أكثر من مجال، مما يدلُّ على أنَّ من ديننا التمايز والتباين عن غيرنا وقد ورد: «من تشبَّه بقوم فهو منهم»، وذلك أنَّ التشابه في الظاهر يوحِي بالتآلف ويقود إلى التقارُب في الباطن.

۲ - وأما ما يشبه زيَّ النساء للرجال، وزي الرجال للنساء، فقد ورد فيه وعيد شديد، فقد رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل» (أخرجه أبو داود والحاكم، وقال الحاكم: على شرط مسلم، وأقرَّه الذهبي في التلخيص، وقال في كتاب الكبائر: إسناده صحيح - انظر فيض القدير).

ولنا أن نفهم من هذا الحديث أنَّ النهي عن التشبه في الكلام والمشية والحركات أولى من التشبُّه في الملابس.

وقد جاء في هذا المعنى أيضاً حديث أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله الرَّجُلَةَ من النساء)، قال السيوطي في الجامع الصغير، وقال الذهبي في (الكبائر): إسناده حسن.

وهذا الحديث يؤكد ما أشرنا إليه من أنَّ التشبُّه في غير الثياب أولى بالنهي من التشبه في الثياب. حيث جاء لفظه عاما، بلعن (الرجلة) أي: المتشبِّهة بالرجال في أي شيء ما هو من خصائصهم بمُقتضى الفطرة والطبيعة، والدين والأخلاق.

3 - وأما ملابس الكبر والخيلاء، والشهرة والمباهاة، فقد كرهها صلى الله عليه وآله وسلم، وعلَّمنا ذلك بفعله وعمله، فلم يكن يختار أو يتحرى الملابس التي تميزه أو تفضله عن أمته، بل كانت ملابسه من نحو ما يلبس الناس، ومن مثل مما يلبس عامتهم.

رأى عبيد بن خالد المحاربي يجرُّ إزاره، فقال له: «ارفع إزارك، فإنَّه أتقى وأبقى... أمالك فيَّ أسوة؟ قال عبيد: فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه صلى الله عليه وآله وسلم.

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنَّه كان يأتزر إلى أنصاف ساقيه، وقال: هكذا كانت أزرة صاحبي، يعني: النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. (شمائل الترمذي1/172-175).

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعضلة ساقي، فقال: هذا موضع الإزار، فإن أبيت، فلا حق للإزار في الكعبين. (رواه الترمذي والنسائي - جمع الفوائد 1/305 ).

وكراهية الإزار المسيل هنا لما يوحي به من كبر وخيلاء، حيث كانت البيئة لا تعرف هذا النمط من اللباس إلا لذوي العجب والمباهاة والكبرياء.

ومما يشهد بأنَّ الكراهية لهذه المعاني لا للإسبال في ذاته، ولا لجر الثوب في عينه - ما رواه الشيخان عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: «من جرَّ ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة» ويسمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان رجلاً نحيفاً لا يستمسك الإزار بوسطه، فيقول: يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعهد؟ فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: «إنك لست ممن يفعله خيلاء».

وقد ثبت النهي عن الإسراف والمخيلة بأثر من حديث صحيح. وليس العجب والخيلاء في جرِّ الثياب وإسبالها فقط، بل قد يكون في جنسها ونوعها، وشكلها ولونها، فكل ما كان كذلك، فهو داخل في النهي والوعيد، ولو لم يكن أسفل الكعبين بل قد يكون أسفل الكعبين ولا خيلاء ولا كبرياء فيه، أي: أن المدار في ذلك على العرف والاعتياد، وما تواضع عليه أهل المروءة والدين.

قال الحافظ الزين العراقي: «حدث للناس اصطلاح، وصار لكل صنف من الخلائق شعار يُعرفون به، فمهما كان ذلك بطريق الخيلاء، فلا شك في تحريمه، وما كان على سبيل العادة، فلا يجرى النهي فيه ما لم يصل إلى حد الإسراف المذموم» (شمائل الترمذي: 1/175 ).

والواقع أنَّ المدار في المنهي عنه من الثياب - فيما عدا الحرير - على العرف والاعتياد، والمراد العرف السليم المستقيم لذوي المروءة والدين.

مكروه الثياب وعلاقته بالجمال:

وأراني غير مبعد إذا قلت: إنَّ كل ما كرهه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونهى عنه من الثياب هو ما يُنافي الجمال، فيفقد الثوب هدفاً من أهدافه، والجمال دائماً هو التوسُّط والملاءمة والمناسبة، أي: يكون الثوب على قامة صاحبه وقيمته فعلى هذا ليس في الحرير جمال، ولا هو لائق برجولة الرجال، وليس في المكروه من المزعفر والمعصفر أي جمال، وليس في الألوان الصارخة والفاقعة إلا الشذوذ والقبح وليس في اتخاذ ملابس غير المسلمين إلا القبح الذي يجرح المشاعر ويؤذي الناظرين، وليس في خروج الإنسان عن رجولته بلبس ملابس النساء إلا السخف الذي يمجه كل ذوق سليم.

وأما التباهي والعُجب والخيلاء، بملابس الشهرة والكبرياء، في أقبحها إذ توحي بتفاهة لابسها الذي يحاول أن يكمل بها، أو يعوض بها عجزه عن أن يكون له من المكارم والمحامد ما يعطف إليه الناس. ثم هو لن ينال بهذا العجب والخيلاء إلا مزيداً من الاستهانة والاحتقار.


فكل ما هو مكروه من الثياب هو ما لا يحقق الجمال في مَعْنييه الجمال الحسي في الألوان والأشكال، والجمال المعنوي في الرجولة والتواضع والتوافق مع البيئة والأمة.

للمقالة تتمة في الجزء التالي

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ




ابوالوليد المسلم 07-11-2022 02:04 PM

رد: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته
 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (5)












عبد العظيم محمود الديب





الثياب بين الجمال والبذاذة:

وردت أحاديث تدعو إلى التقشُّف والتخشُّن والزهد، كما وردت الأحاديث التي تدعو إلى نظافة الثياب والتجمُّل بها. ونستطيع أن نقول: إنَّه لا مُنافاة بين هذه الأحاديث بعضها وبعض، فالتقشُّف المأمور به يمنع من ثوب الخيلاء والشهرة والسرف ويمنع من أن يجعل المسلم همَّه واهتمامَه بثيابه، يملأ منها عينيه ويجعل لها مكانا في نفسه وقلبه، ذاك هو المنهي عنه، ولكنه لا يمنع من الثوب النظيف اللطيف ذي البهاء والرونق.

والتجمُّل والتزيُّن المأمور به، يعني النهي عن الإمساك بخلاً وشحاً وتقتيراً ويعني النهي عن الفحش والتفحُّش، أي: القبح وعدم النظافة. والأمر في الواقع دقيق، ومداره على تصحيح النيَّة، فالمطلوب ألا يلبس عجباً وافتخاراً وإسرافاً، ولا يمسك بخلاً وشحاً وتقتيراً. وبين هذين الطرفين مجال للتزين والتجمُّل وللزهد والتقشف في نفس الوقت، وعلى الله قصد السبيل.

النعال:

مما يتصل باللباس، ما يلبس في القدم، فكيف كان يلبس صلى الله عليه وآله وسلم في قدميه؟

كان صلى الله عليه وآله وسلم يلبس الخفَّ والنعلَ، ولا يلتزم بنوع معين، وجاءت الأخبار بوصف مفصَّل لنعل رسول الله، وكيف كان شكله، ولكن الذي يظهر من مجموع ما جاء في هذا الشأن أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يخص شيئاً من ذلك لذاته أو لشكله أو للونه، وإنما كان يعنيه من الخف أو النعل وظيفته وفائدته، ولعل البيئة العربية آنذاك لم تر مُنتعِلاً دائماً حريصاً على ذلك قبله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد كان يوصي أصحابه بالانتعال، بل بالاستكثار من النعال، ويُبيِّن لهم فائدة ذلك وقيمته.

جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «استكثروا من النعال فإنَّ الرجل لا يزال راكباً ما انتعل» والمعنى: أنَّ النعل يسهل المشي والحركة، ويحمي القدمين فكأن المنتعل قريب من الراكب في ذلك.

ومعنى الاستكثار الاستظهار والاحتياط حينما يكون الإنسان في سفر ونحوه، وكانت النعال حينذاك ساذجة الصنع خفيفة المؤنة، عرضة للانقطاع والتلف، فجاء الأمر بالاستكثار من هنا.

وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم في الانتعال أن يبدأ باليمين، حيث كان شأنه دائماً حبُّ التيامن في كل ما يفعل.

وكره للرجل إذا انقطع أحد نعليه أن يَمْشيَ بنعلٍ واحدة. ومن باب أَوْلى لا يمشيَ في نعل واحدة بدءا من غير عذر.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا انتعل احدكم فليبدأ باليمنى، وإذا خلع فليبدأ بالشمال، ولينعلها جميعا أو ليخلعها جميعا» (رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي).

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً عند مسلم:.. ألا وإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا انقطع شِسْعُ أحدكم، فلا يمشي في الأخرى حتى يصلحها» ولجابر نحوه عند مسلم والترمذي وأبي داود.

وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم، أن يوصي أصحابه بألا يلبسوا الخف إلا بعد نفضه، وذلك خشية أن يكون فيه ما يؤذي، ويشهد لذلك المناسبة التي جاء الأمر بذلك فيها، فعن أبي أمامة رضي الله عنه: دعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بخفين يلبسها، فلبس أحدهم، ثم جاء غراب، فاحتمل الآخر، فرمى به، فخرجت منه حية، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يلبس خفيه حتى ينفضها» رواه الطبراني في معجمه الكبير (جمع الفوائد:1/306).

ولا يقولن قائل: أنَّ هذا غير وارد الآن، فالبيوت المحكمة المكيفة الهواء من أين يأتيها الحشرات؟ لا مجال لمثل هذا القول، فإن هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس لبيئة دون بيئة، ولا لزمان دون زمان، وإذا كان هذا الأمر لا يتوجه إلى ساكن البيوت المحصَّنة هذه، فكم عددهم بالنسبة لغيرهم من المسلمين، ثم ساكن المساكن المحكمة هذه هل هو دائماً في داخلها؟ ألا يخلع خفيه خارجها في حديقة أو رحلة؟ أو حتى في مجال العمل، بل أكثر من هذا ألا يمكن في داخل البيت المحكم هذا أن يبتلى بشيء في داخل خفه أخطر من الحية، كأن يسقط في الخف (شفرة) أو نحوها من يد طفل عابث؟ وأياً كان الأمر فهو أمر آداب واستحباب، ومن يرد الله به خيراً يشرح صدره لسنة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم.

وإذا كان لنا من كلمة حول لبس النعال، هو سؤال، ولكني لست أدري إلى من أتوجه به، نريد أن نسأل: كم مليوناً من أمتنا الإسلامية (للآن بغير نعال؟ كم مليونا من أمتنا (للآن) لم يسمع لحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «استكثروا من النعال».

مجرد سؤال، إلى من أتوجه به لست أدري؟

ثم إذا كنا بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام نرى الحفاء مُنتشراً في أمتنا، فكم فرَّطنا في سنة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم.

تنظُّفه صلى الله عليه وآله وسلم وزينته:

ولعل الحديث عن التنظُّف والتزيُّن قريب من الحديث عن اللباس، فلم يكن من سنَّتِه صلى الله عليه وآله وسلم نظافة الملابس وجمالها فقط، بل كان يعنيه أمر النظافة في كل شيء في البيوت والأفنية والطرق والرحال، مثلاً اهتم بنظافة الملابس وجمالها.

ومن قبل كل ذلك نظافة الجسم وطهارته والتجمُّل والتزيُّن. وحديثنا هنا سيكون عن هذا الجانب الأخير من النظافة، وسنتناول فيه النواحي الآتية:

1- نظافة الأطراف.

۲- نظافة الجسد.

3 - نظافة الفم والأسنان.

4 - نظافة الرأس والشعر.

5- الطيب والعطر.

1- أما من حيث نظافة الأطراف

فنجد العناية بها كاملة، ويكفيها الوضوء المفروض للصلوات الخمس المفروضة، ولكنا نرى عناية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أكبر من ذلك، فنجده صلى الله عليه وآله وسلم يحثُّ على إحسان الوضوء وإسباغه، فقد روى الشيخان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنَّ أمتي يُدعون يوم القيامة غُرا محجَّلين من آثارِ الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيلَ غُرَّته، فليفعل».

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء». رواه مسلم.

ويحرص صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلِّم أصحابه كيف يكون الوضوء الكامل، فقد روى مسلم أنَّ عثمان رضي الله عنه توضَّأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضَّأ مثل وضوئي هذا ثم قال: «من توضأ هكذا غفر له ما تقدَّم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة».. والأحاديث في هذا الباب لا تقع تحت حصر.

وكذلك دعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الوضوء، وضوءًا مندوباً مأجوراً في ذاته، من غير أن يكون لصلاة أو وسيلة لعبادة أخرى.

عن عُقْبةَ بنِ عامرٍ قال: كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي أرعاها، فروحتها لعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما يحدث الناس، وأدركت من قوله «ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، يُقبل عليها بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة»، فقلت: ما أجود هذا، إني رأيتك جئت آنفا. قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء، ثم يقول: أشهد إلا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» رواه مسلم والنسائي والترمذي ولأبي داود وفيه: فقلت بخ بخ ما أجود هذا. وزاد الترمذي بعد عبده ورسوله: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» (جمع الفوائد: 1/34 ).

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من أظفاره» رواه مسلم.

ففي هذه الأحاديث - ومثلها كثير - نجد الوضوء مندوبا لذاته، مطلوباً لذاته مأجوراً لذاته.

فإذا أعدنا إلى الأذهان أن الوضوء مطلوب فرضاً وشرطاً لصحة الصلوات الخمس المكتوبات وشرطاً لصحة الصلاة النافلة كصلاة الضحى وصلاة الليل، وشرطاً لقراءة القرآن، ومسّ المصحف وحمله - أدركنا كم كان يتوضأ صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم والليلة.

بل إنه كان يتوضأ على الوضوء من غير أن ينتقض وضوءه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: «من توضَّأ على ظهر فله عشر حسنات» أخرجه أبو داود وابن ماجه.

ويبقى في شأن نظافة الأطراف ما كان من سنته صلى الله عليه وآله وسلم في غسل الأيدي والأطراف قبل الأكل وبعده، فقد روى أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي والحاكم: «بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده» [ومع أن هذا الحديث يتردَّد بين الضعف والحسن إلا أنَّه بهديه صلى الله عليه وآله وسلم أشبه، وقد رمز السيوطي في الجامع الصغير له بالحسن، وقال الحافظ المنذري: لا يخرج إسناده عن حدِّ الحُسْن].

والمراد بالوضوء هنا الوضوء اللغوي، أي: الغسل والتنظيف.

وقال الزين العراقي: «أراد ببركة الطعام نفع البدن به وكونه يمري فيه لما فيه من النظافة، فإنَّ الأكل معها بنهمة وشهوة بخلافه مع عدمها فربما يقذر الطعام، فلا ينفعه بل يضره»، وتتأكد سنة غسل الأيدي وتنظيفها عند النوم بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «من بات وفي يده غمر فأصابه شيء، فلا يلومنَّ إلا نفسه» رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي والحاكم، ورواه أبو داود مع زيادة: غمر (لم يغسله). وقال ابن حجر: بسند صحيح على شرط مسلم، وكلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

كما كان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم غسله الأيدي عند القيام من النوم، فقد ورد الأمر بذلك في الحديث الصحيح المتفق عليه..

2 - نظافة الجسد:

أما نظافة البدن، فيجعلها صلى الله عليه وآله وسلم حقاً على كل مسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، إذ يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «حقٌّ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، حتى روي عن بعض الصحابة وفقهاء السلف القول بوجوب غسل الجمعة.

كذلك كان من هديه وسنته صلى الله عليه وآله وسلم الغُسل للعيدين، وللإحرام وعند الاحتجام، روى أحمد والدار قطني وأبو داود واللفظ له: «أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يغتسل من أربع: من الجمعة والجنابة، والحجامة وغسل الميت» وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي الصبح، ويغتسل ويحدث: «إنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك، (نيل الأوطار:1/302).

وهكذا كانت عنايته صلى الله عليه وآله وسلم بنظافة البدن، حيث سنَّ لأمته هذه الأغسال، وجعلها مرتَّبة موظَّفة مرتبطة بمواقيت لا تتغير ولا تتبدَّل، كالجمعة والعيدين ومناسبات دينية كالإحرام، والوقوف، والطواف، وبمناسبات جبلية كالحجامة والجنابة).

وما يستحقُّ التنبيه إليه أنَّ الطهارة في الأغسال الشرعية المسنونة منها والمفروضة وفي الوضوء تكون بالماء وحده. وهذا فيه من التيسير ما فيه، وفيه حمل الخلق على وسيلة واحدة للتطهير حتى لا يكون هناك مجال للتنافس والتباهي والتفاخر في استخدام عطور أو نحوها في هذا التطهُّر.

ثم أشير إلى ما سبق أن قرأته في إحدى المجلات التي تُعنى ببعض التطبيقات العلمية - قرأت في هذه المجلة أنَّ الماء هو الأقدر على إزالة رائحة الجسد. بل أذكر أن مما قالته المجلة: أنَّ الماء البارد بدرجة حرارته الطبيعية يكون أقدر من الماء الذي تكلف الإنسان تسخينه، فإن صحَّ هذا فهو إحدى المعجزات.

3- نظافة الفم والأسنان:

لعل البشرية لم ترَ عناية بهذه الناحية، واهتماماً بها مثلما رأته في هدي نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم وسُنَّتِه، لا من المعنيين بشؤون الصِّحَّة والوقاية والعلاج ولا من المعنيين بالآداب والسلوك. وإنَّ ما يتحدَّث به رجالُ الطب والعلم الآن من خطورة إهمال نظافة الفم والأسنان. وما ترتَّب على ذلك من دعوة وتوجيه إلى الاهتمام بنظافتها إن هذا الذي نراه الآن، ويظن البعض أنَّه من ثمار الاكتشافات الطبية الحديثة، وأثر من آثار النهضة الوافدة الواردة، كل هذا لا يبلغ شيئاً من عناية نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وتوجيهه أمته، فقد كان لا يدع السواك ليلاً أو نهاراً صائماً أو مفطراً، ويجعل السواك قربة لله تعالى، فعن عائشة رضي الله عنها إن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «السواك مطهرة للفم ومرضاة للرب» رواه أحمد والنسائي وهو للبخاري تعليق (نيل الاوطار: 1/125).

ويؤكد الأمر بالسواك بقوله عليه الصلاة والسلام: «لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (رواه الجماعة). ويكون أول فعله عندما يعود إلى بيته.

فعن المقدام بن شريح عن أبيه قال: قلت لعائشة رضي الله عنها بأي شيء كان يبدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك» (رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي).

ويجعله أول فعله عندما يستيقظ: روى البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل يَشُوص فاه بالسواك» والشوص: الغسل والتنظيف، وقيل: التنقية، وقيل: الدلك، وقيل: الإمرار على الأسنان عرضاً. ولعل كل ذلك كان.

ولم يكن عند اليقظة من الليل فقط، فعن عائشة رضي الله عنها أن «النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يرقدُ ليلاً ولا نهاراً، فيستيقظ إلا تسوَّك» (رواه أحمد وأبو داود).

وكذلك لم يترك السواك وهو صائم، فعن عامرِ بنِ ربيعة رضي الله عنه قال: «رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا أحصى يتسوَّك وهو صائم» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من خير خصال الصائم السواك».

ونحن نرى الآن من لا يحلو لهم الاقتداء والاستنان إلا بما يَفِد من الغرب فإذا نظَّفوا أسنانهم قالوا: قد اكتشف الطب حديثاً أنَّ معظم الأدواء وأخطرها يمكن اتقاؤه بنظافة الفم والأسنان، وأنَّ الرجل (العصري) هو الذي تلمع أسنانه ولا يؤذي من حوله برائحة فمه، كذا يقولون. ونسوا أنَّها سنة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أن يكون لأصنام الغرب وجود.

ومما يستحق التسجيل هنا ما نشرته إحدى المجلات الإسلامية: (هي مجلة الاعتصام القاهرية): من أنَّ أحد مراكز البحث العلمي في انجلترا أجرى تحليلات وتجارب على (قضيب الأراك) الذي يُتخذ منه السواك، وثبت أنَّه يحوي مواد كيميائية ذات خواص فعالة في حماية الأسنان واللثة، وعلاج أمراض الفم، وتطييب رائحته. هذه مجرد ملاحظة نهديها لمن لا يعرفون قيمة الشيء إلا إذا جاءهم من الغرب.

5 - نظافة الرأس والشعر:

لعل من أجلى وأوضح مظاهر التنظف والتجمل ما يكون من رعاية الشعر والعناية به، وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم الاهتمام بهذه الناحية كل الاهتمام، فقد كان يدني رأسه وهو مُعتكف في المسجد للسيدة عائشة رضي الله عنها تغسله له وترجله. (أخرجه الدار قطني من حديث عائشة رضي الله عنها).

وجاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته». (أخرجه الترمذي في الشمائل).

وذكر ابن الجوزي في كتاب الوفا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ وَمُشْطَهُ، فَإِذَا نَبَّهَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ اللَّيْلِ استاك وتوضَّأ وتمشط».

وأخرج الخطيب البغدادي في الكفاية عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خمس لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعهن في سفر ولا حضر: المرآة، والمكحلة، والمشط، والمدراء والسواك» وفي رواية: وقارورة دهن بدل المدراء.

وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان لا يفارق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواكه ومشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سرح لحيته».

وكدأبه صلى الله عليه وآله وسلم كان يشغله ويهمه أن يقتدي به أصحابه، ويكونوا في مثل تنظفه وتجمله، أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: «من كان له شعر فليكرمه»، ورأى صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً ثائر شعر الرأس، فأشار إليه بإصلاح حاله، فلما فعل قال: صلى الله عليه وآله وسلم «أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنَّه شيطان؟».

ونحبُّ أن نؤكِّد هنا أنَّ شأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان دائماً التوسط والاعتدال، فلا يتوهمنَّ أحد أنَّه كان في شغل شاغل بالمشط والمرآة والدهن، حتى يبرر لهؤلاء الفارغين التافهين الذين لا يحملون في جيوبهم إلا المشط والمرآة والعطور، لا يقولن واحد من هؤلاء: هذه سنة نبيّنا، ولعله صلى الله عليه وآله وسلم قد عناهم وأمثالهم بما رواه عنه الترمذي في الشمائل «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الترجل إلا غِبَّاً».

وكذلك أخرج الترمذي في الشمائل: «أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يترجل إلا غِبّاً» وأحسن ما قيل في تفسير (غِبّاً): عدم المواظبة عليه والاهتمام به والمبالغة فيه، بدون تحديد لذكر عدد من المرات، أو تحديد أوقات. المهم ألا يخالف المترجل سنة الاعتدال والقصد إلى الإسراف والخيلاء والإعجاب بالنفس والانشغال بها.

6 - التعطر والتزين:

لعل فيما مضى إشارات إلى هذه الناحية، وبيان لها، فنظافة الملابس ونظافة البدن هي أساس كل تعطر وكل تجمل وتزين. وقد صار معلوماً مشهوراً حُبُّه صلى الله عليه وآله وسلم للطِيب وحرصه عليه، ونفوره من الرائحة الكريهة.

قال أنس رضي الله عنه: «ما شممت ريحاً قط، ولا مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» رواه أحمد والبخاري.

وروى النسائي والبخاري في تاريخه عن محمد بن علي قال: سألت عائشة رضي الله عنها أكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتطيب؟ قالت: نعم، بذكارة الطيب المسك والعنبر، أي ما يصلح للرجال من المسك والعنبر.


وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم: «كان يستجمر بأَلْوة غير مطراة وبكافور يطرحه مع الألوة» (الألوة: بفتح الهمزة وضمها نوع من العود، وقيل نوع من خياره).

وكان لا يرد الطيب إذا أهديَ إليه، ويوصي أصحابه بذلك، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: «ثلاث لا تُردُّ الوسائد والدهن واللبن» والمعنى: يكرم الضيف بالطيب والوسادة، واللبن ولا يردها، فإنها هدية قليلة المنة، فلا ينبغي ردها (وهذا الحديث إسناده حسن، وقال ابن حبان: إسناده حسن ولكنه ليس على شرط البخاري... المناوي في الفيض).

وفي مسلم: «إذا عُرِض على أحدكم الريحان فلا يرده» وكان أنس بن مالك رضي الله عنه لا يرد الطيب، ويقول: «إنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يردُّ الطيب» أخرجه أحمد والبخاري، والترمذي والنسائي.

وكذلك كان له صلى الله عليه وآله وسلم مرآة تسمى المدلة، ينظر فيها، وهو يرجِّل لحيته وشعره. وكان من سنته صلى الله عليه وآله وسلم إذا نظر في المرأة أن يقول: «اللهم كما حَسَّنت خَلقي، فحسن خُلقي» ( الكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية).

وهكذا كان هديه صلى الله عليه وآله وسلم، في كل شأنه ذكر وحمد وشكر، حتى في تنظفه وتعطره وتزينه وتجمله.


التتمة في الجزء التالي..

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ










ابوالوليد المسلم 18-11-2022 07:45 PM

رد: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته
 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (6)




عبد العظيم محمود الديب


أُبوَّتُه صلى الله عليه وآله وسلم



لا تخطئ النظرةُ الأولى لسيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كمالَ صفة الأبوة عنده عليه الصلاة والسلام - ككل صفاته - واذا كان من أبرز مظاهر الأبوة، وأهمها، الشفقة بالأطفال والرِّقَّة لهم، فقد كان ذلك واضحاً جلياً في حياته عليه الصلاة والسلام، ليس مع أبنائه وبناته الذين من صلبه، أو أبنائهم وبناتهم فقط بل كان ذلك مع أبناء المسلمين عامَّة، وذلك يشهد بقوة الأبوة وأصالتها لديه صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد يكون الإنسان أباً عطوفاً شفوقاً مع أبنائه خاصَّة، يستنفدون طاقة حنانه، وجهد شفقته وآخر بِرِّه، فلا يبغي لغيرهم شيء، أما نبيّ الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانت الأبوة فيه (كاملة) شاملة فاض برُّها، وحنانها وشفقتها على أبناء المسلمين جميعاً، وسعدوا بها، وتفيئوا ظلالها، كانت أبوة سخيّة معطاءة، بارة حانية تُعلم الآباء كيف يكون البر، وكيف تكون الرحمة، وكيف يكون الحنان، بل كيف تكون الأبوَّة.
وما زال - وسيظل - يرن في آذان البشرية أخبار تلك الأبوَّة الكاملة الشاملة، حيث سجلتها الأحاديث الصحيحة سطوراً من نور يهدي الإنسانية إلى سنة خير البرية.
من مظاهر الأبوَّة العامَّة:
كان صلى الله عليه وآله وسلم يفرح بأطفال المسلمين، ويهنئ ميلادهم، ويباركهم ويسعد إذ يأتونهم بهم يحنكهم، ويسميهم، ويبين للمسلمين كيف يستقبلون أبناءهم ويحثُّهم على الفرحة بهم، والاحتفال بمقدمهم، ويدعوهم للعقيقة عنهم يوم سابعهم، ويشهد هذه الولائم تنويهاً بها، وإعلاءً لشأنها وللمناسبة التي أقيمت من أجلها.
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنَّها حملت عبد الله بن الزبير بمكة، قالت: فخرجت وأنا متم (أي: في آخر أيام الحمل) فقدمت المدينة، فنزلت بقباء، فولدت بقباء، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة، فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم حنَّكه بالتمرة (التحنيك: هو أن يمضغ التمرة حتى تلين ثم يدلك بها حنك الصبي، داخل فمه، حتى ينزل إلى جوفه شيء منه). ثم دعا له، فبرَّك عليه. وكان أول مولود في الإسلام.
وفي رواية زيادة: «ففرحوا به فرحاً شديداً، لأنَّهم قيل لهم: أنَّ اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم». (رواه الشيخان).
وفي الصحيحين أيضاً عن عائشة رضي الله عنها نحو هذا الحديث، وفيه وسماه (عبد الله).
ولا يقولن قائل: أنَّ هذا يدخل في باب ملاطفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأبنائه، وآل بيته، فإنَّ أسماء أخت عائشة رضي الله عنها زوجه، والزبير زوج أسماء ابن صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - لا يقولن قائل ذلك فإن هذا لم يكن لابن أسماء وحدها. والأخبار عن فعله عليه الصلاة والسلام ذلك بغير عبد الله بن الزبير لا تقف عند حصر.
وكأني بأصحابه رضوان الله عليهم قد عرفوا حبَّه عليه الصلاة والسلام لذلك وسعادته به، فكانوا يحرِصون عليه ويهتمون به، بل وجدوا هم - أيضاً - خيراً في ذلك لأبنائهم، وبركة عليهم..
يشهد لذلك ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: ولدت أم سليم (زوج أبي طلحة، وأم انس) غلاماً، فقال أبو طلحة احفظ (أي لا يتناول شيئاً، كما صرَّح بذلك في رواية أخرى، عند البخاري أيضاً) حتى تأتي به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. (وفي الرواية الأخرى أن الذي طلب حفظه من أن يتناول شيئاً هي أم سليم، ولا مانع أن يكون الطلب بالمحافظة على الغلام من أن يتناول شيئاً قد كان من كل منها من أبي طلحة، وأم سليم، وتكرَّرت الرواية من أنس رضي الله عنه).
قال أنس: وأرسلت (أم سليم) معه (أي: الصبي) بتمرات، فأخذه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أمعه شيء؟ قالوا: نعم، تمرات. فأخذها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فمضغها، ثم أخذ من فيه فجعلها في (فم) الصبي وحنَّكه به، وسماه عبد الله» (إرشاد الساري 8/252).
وهذا الحديث أخرجه مسلم بزيادة: «فجعلَ الصبيُّ يتلمَّظُه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حب الأنصار التمر». [ملاحظة: قال القسطلاني في إرشاد الساري عن هذا الحديث: (أخرجه مسلم في باب الاستئذان)، وليس الأمر كما قال. بل هو في باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته].
فهنا نجد حرص كل من أبي طلحة، وزوجته أم سليم على أن يكون أول ما يدخل جوفَ الصبي من ريق النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا يفوتنا أن نسجل ما ظهر من تلطُّف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومداعبته حين علق على تلمُّظ الطفل (يتلمظ أي: يحرِّك لسانه في فمه، ليتتبع ما فيه من تمر) قائلاً: «حب الأنصار التمر»، فكأنَّه عليه الصلاة والسلام يفسر تلمظ الغلام، بعراقته في حبِّ التمر، وإرثه ذلك عن آله الأنصار، فقد كان أهل المدينة (الأنصار) أهل نخيل، فالتمر شائع فيهم، وعامَّة طعامهم، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ذلك في معرض المجاملة والثناء والرضى عن الأنصار، وأبناء الأنصار.
وربما قيل: إنَّ أم سليم، وأبا طلحة ليسا بعيدين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنس خادم الرسول ابن أم سليم، والمولود أخوه لأمه، فهو يرتبط بنوع صلة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقطع هذا القول، ويؤكد أنَّ ذلك البر بالأبناء كان لكل أبناء المسلمين.
قال أبو موسى: ولد لي غلام فأتيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم به، فسمَّاه إبراهيم، وحنَّكه بتمرة، ودعا له بالبركة، ودفعه إليّ، وكان إبراهيم هذا أكبر ولد أبي موسى الأشعري (رواه البخاري في باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه) ورواه مسلم في باب استحباب تحنيك المولود. [وهم القسطلاني أيضاً في هذا الحديث. حيث قال: أن مسلماً أخرجه في باب الاستئذان].
وربما كان أوضح في الدلالة على أنَّ ذلك كان شأن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بصفة عامة، وأنَّه كان مألوفاً معروفاً عند المسلمين ما رواه هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهم: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرِّك عليهم، ويحنِّكهم» أخرجه مسلم.
فهذا الحديث بهذه الصيغة ناطق وشاهد بأنَّ ذلك كان شأناً منه، ومعروفاً عنه ومعهوداً من صحابته معه، بصفة عامة، وأن الأحاديث التي رويت، وحددت أسماء ووقائع معينة مجرد أمثلة، وليست حاصرة جامعة مانعة.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم، في تسميته لأبناء الصحابة رضوان الله عليهم يتوخَّى فيها المناسبة لحال كل طفل، وما يدخل السرور على أسرته ويسعدهم، ينطق بذلك الحديث التالي:
عن سهل بن سعد قال: أتي بالمنذر بن أبي أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين ولد، فوضعه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على فخذه وأسيد جالس، فلهى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشيء (أي شغل به) بين يديه، فأمر أبو أسيد بابنه فاحتمل من على فخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاقلبوه، فاستفاق رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم (أي مما شغله)، فقال: أين الصبي؟ فقال أبو أسيد: أقلبناه يا رسول الله، قال: ما اسمه؟ قال: فلان يا رسول الله. قال: لا، ولكن اسمه المنذر، فسماه يومئذ المنذر) رواه الشيخان.
فمع ما كان فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من شغل، استغرقه حتى احتمل الصبي من على فخذه من غير أن يشعر، مع ذلك لم ينسَ أن يسأل على اسمه، ولما عرفه، غيَّره، لا لكراهية الاسم الذي سموه به، ولكن (المنذر) كان ابن عم أبيه، وكان قد استشهد ببئر معونة، وكان أميرهم، فاختار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له اسم (المنذر) تفاؤلاً أن يكون خلفاً من ابن عم أبيه الشهيد الذي استشهد ببئر معونة. (شرح مسلم للنووي: ج14 ص 127).
ومن هذا أيضاً ما رواه أحمد والبزار عن علي رضي الله عنه قال: لما ولد الحسن سميته حرباً، فجاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قلت: حرباً. قال: بل هو حسن، فلما ولد الحسين سميته حرباً، فجاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: حرباً. قال: هو حسين، فلما ولد الثالث سميته حرباً، فجاء صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: حرباً. قال: بل هو محسن».
فنحن هنا أمام إصرار من علي رضي الله عنه على (اسم حرب) وكرَّره في كل مرة ولد له فيها ولد من فاطمة، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في كل مرة يتجاوز عن اختيار علي وإصراره، ويغير الاسم، فلماذا أصرَّ علي رضي الله عنه، ولماذا غيَّر صلى الله عليه وآله وسلم ما أصرَّ عليه؟
أخال علياً - كرَّم الله وجهَه، وهو رجل الحرب المعروف بالبطولة والإقدام، صاحب المبارزة يوم بدر، وصاحب الصولة والجولة يوم خيبر- كان يختار اسم حرب ليكنى بأبي حرب، فتوافق كنيته صفته وحالته، فهو البطل أبو حرب. كذا كان يقدر علي رضي الله عنه فلِمَ لم يرضَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟ ولم يتهاون في تغييره؟
والذي يلوح لنا أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم رأى البطولة والشجاعة والثبات في الحرب صفات كاملة مُتحققة في علي كرَّم الله وجهه، فلم يرضَ له أن يحصر نفسه في هذا الجانب وأن يجعل كل همه الحرص على هذه الصفة وأن ينادى بها، بل أراد أن يلفته إلى غيرها، ولعله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أبعد من هذا، أراد أن يخفف من اهتمام علي بالحرب وانشغاله لها.
للمقالة تتمة في الجزء التالي
المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ


ابوالوليد المسلم 03-12-2022 02:51 AM

رد: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته
 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (7)



عبد العظيم محمود الديب




تلطُّفه صلى الله عليه وآله وسلم بالصغار ومداعبته لهم:


لم يقف برّه صلى الله عليه وآله وسلم عند حدِّ تحنيكه أطفال المسلمين، وتبريكهم، وتسميتهم، بل كان يداعبهم، ويلاطفهم، ويدخل السرور عليهم، روى البخاري بسنده عن أم خالد بنت خالد بن سعيد أنَّها قالت: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «سَنَهْ سَنَهْ»، وهي بالحبشية حسنة. قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة [علامة النبوة التي كانت بين كتفي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم]، فزبرني (أي نهرني وزجرني، ومنعني) أبي من ذلك، ثم قال رسول الله عليه وسلم: دعها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أَبْلِي وَأَخْلِقِي ، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي ، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، قال عبد الله ابن المبارك (راوي الحديث) فبقيت حتى ذكر من بقائها. إرشاد الساري:8/435 -9/15).

والمعنى: أبلي وأخلقي كثيراً، أي: تعيشين حتى تستهلكي الكثير الكثير من الثياب فهو دعاء لها بطول العمر، وفي رواية: أبلي وأخلفي (بالفاء) والمعنى: أبلي هذا وأخلفي غيره، وهو أيضاً دعاء بطول العمر. وقد استجاب الله سبحانه وتعالى دعاء رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، (فبقيت حتى ذكر من بقائها) أي: طال عمرها حتى ذكرها الناس بذلك، وعرفوها به.

وهنا نجد من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مُبالغة في التلطُّف. والود والبر، فيقول للصبية: سنه سنه أي: جميل، جميل بلغة الحبشة. فلم خاطبها بلغة الحبشة؟ لقد كانت الصبية حديثة عهد بالحبشة حيث كانت عائدة مع المهاجرين من الحبشة، وأكاد أجزم أن الصبية علقت بعض كلمات من لغة الحبشة كانت تلهج بها، وتتظرف بها لما تراه من حب من حولها لتراها ذلك، كما نرى آل الطفل يرددون (لثغته) ويحاكون (لثته) وهم في سعادة وسرور. فكأن صبيتنا قد كانت تردد كلمة سنه سنه فيما تردد من كلمات تعلقتها من لغة الحبشة. فخاطبها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بلغة الحبشة ترديداً لقولها، واستحساناً لكلامها.

ثم لابدَّ أن نقف هنا أمام أروع صور البر الأبوي. فمحمد عليه الصلاة والسلام الذي تُرقِّقه الأبوة، ويُليِّنه الرفق والبر حتى تقبل الصبية عليه تتواثب على حجره وكتفيه، وتلعب بخاتم النبوة بين كتفيه، وتجيل أناملها تتحسس وتداعب وجهه الكريم وجسده الشريف. محمد الذي تبلغ به الرقَّة هذا المبلغ، هو هو محمد الذي كان يقف أمامه الأعرابي الفظُّ الجافي فتأخذه الروعة والهيبة، فيرتجف، ويضطرُّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يطمئن الرجل ويذهب روعه، فيقول له: «هوِّن عليك، إنما أنا لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».

بل كانت هيبته صلى الله عليه وآله وسلم أبعد من هذا، وأكبر، فليست هيبة تروع وافداً لم يلقه من قبل فقط، بل كانت هيبة أكبر من أن تزول بالإلف والمعاشرة والمعايشة، فقد كان أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم الذين معه، يلازمونه ليله ونهاره، وحلَّه وترحاله أكثر هيبة له من الذين لا يعرفونه، ويكفينا في هذا المجال حديث واحد:

روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّه قال: «صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما ملأت عيني منه قط، حياءً منه، وهيبة، وتعظيماً له، ولو قيل لي صِفه لما قدرت» فهذا هو عمرو بن العاص داهية العرب، قائد الجيوش، وقاهر الأبطال ووزير معاوية ومستشاره، وصنديد قريش وابن سيد من ساداتها ابن العاص الذي كان يلبس الديباج مزرراً بأزرار الذهب، عمر وبن العاص هذا لا يقدر أن (يملأ عينيه) من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأم خالد هذه الصبية (تلعب بخاتم النبوة). هذه الهيبة هذه العظمة كلها تلين وترق، وتبر وترحم حتى هذا الحد، فأي عاطفة هذه؟ وأي أبوة هذه؟ إنَّها الأبوة الكاملة الشاملة.

الأبوة الخاصَّة:

هذا عن أبوته صلى الله عليه وآله وسلم لأولاد المسلمين وعامتهم، أما أبوته لأولاده وأحفاده، فلا شك أنَّها كانت أبلغ وأكمل، سنة الخلقة، وطبيعة الفطرة أن يكون حب الإنسان لمن هم من صلبه وذويه أقوى من حبه لمن سواهم مهما بلغ في حبه ورقته فحبه لبنيه وذويه لا شك أبلغ وأكبر. طبيعة مطبوعة، وفطرة مفطورة، وجِبِلَّةٌ مجبولة.

وإذا نحن أخذنا في بيان سمات أبوته صلى الله عليه وآله وسلم، وملامحها، لوجدنا من ذلك ما يقضي الفطن العجب منه. ولكنا نوجز قولنا، ونعرض بعض ملامح الأبوة النبويّة وخصائصها على النحو التالي:

١- عدم التفرقة بين البنين والبنات، أو قل: إعطاء البنات من المحبَّة والتقدير حقهنَّ كاملاً، لا تنقصهنَّ أنوثتهن من ذلك شيئاً.

ولقد كانت البيئة الجاهلية الجافية، في حاجة إلى من يلقنها هذا الدرس عملياً وسلوكاً، قبل أن يلقنه لها نظريا وتعاليها، تلك البيئة التي كان فيها من تتحجَّر عاطفته، ويجف نبعُ الحنان في قلبه، وتنتكس فطرته، وترتكس طبيعته، حي يدفن ابنته حية في التراب، ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ٥٨ يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ٥٩﴾[سورة النحل: 59-58].

في هذه البيئة وجدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم يخرج للصلاة حاملاً أُمامة بنت أبي العاص، ويتقدم إلى الصلاة، وهي على كتفه، فإذا سجد وضعها، فإذا قام رفعها. (حديث متفق عليه).

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وبالناس أجمعين. ما أرحمه، وما أحلمه، وما أعظمه. أُمامة بنت زينب بنته على كتفه، وهو يؤم المسلمين في الصلاة؟ ماذا عليه لو تركها بحجرته؟ ماذا لو تركها مع من يرعاها ويهدهدها حتى ينتهي من صلاته؟!.

أُترى رسول الله تدفَّقت في قلبه ينابيع الحبِّ والشفقة. فلم يقدر على أن يحرم نفسه من ريح (أُمامة)، أم تُراه خاف عليها أن تتألم أو تبكي لفراق جدِّها، أم الأمر غير هذا وذاك؟ نعم. أراه صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يعلم المسلمين درساً في الأبوة أو درساً في الصلاة، أو هما معاً.

فكأني به صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يقول لأمته: أنَّ الصلاة التي هي مُناجاة من العبد لربِّه، الصلاة التي جُعلت فيها قرَّة عينه صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الصلاة لا يبطلها، ولا يمنع منها أن تكون ابنتك على كتفك. بل لعله أراد أن يقول لأمته أنَّ هذه الطفلة والرقَّة لها والشفقة عليها من مطهِّرات القلوب وتخليصها لله فهي من المعينات على إحسان الصلاة.

أم الأمر أكبر من كل ذلك وأنَّه أراد أن يقول: إنَّ هؤلاء البنات التي كانت تسودُّ منهنَّ الوجوه أولى بالرعاية والإكرام والشفقة والرحمة..

نعم هذا ما أردت أن تقوله يا رسول الله؟ فها أنت قد قلته عملياً، ثم أكدته قولاً: «من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن، كن له حجابا من النار يوم القيامة» (ابن ماجة والبخاري في الادب المفرد وأحمد).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم «من بُلي من هذه البنات شيئاً، فأحسن إليهن، كُنَّ له ستراً من النار يوم القيامة» (أخرجه البخاري).

نعم إنها الأبوة الحقَّة الكاملة التي تسع الذكور والإناث، ولا تفرق بينهما، ولا تقدر أن تفرق، لو أرادت، فسخاء العطاء، وتدفق البر لا يمكن أن يعرف حداً يُفرق بين الذكر والأنثى. ويزداد يقيننا بهذا الذي قلناه حين نسمع لعائشة رضي الله عنها تقول: «أهدي إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قلادة من جذع معلمة بالذهب، فقال: والله لأضعنها في رقبةِ أحبِّ أهل البيت إليَّ، فاستشرف لها كل نسائه، فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص». (لأحمد وأبي يعلى).

نعم. أمامة (الأنثى) أحب أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليه.

أيقدر أحد بعد ذلك أن يثير فرقاً بين البنين والبنات؟ بعد أن حمل محمد أمامة في الصلاة، وبعد أعلن أنَّها أحب أهل البيت إليه.

وفي هذا أيضاً أنَّه كان صلى الله عليه وآله وسلم يُدلل زينب بنت أم سلمة، وكانت طفلة في حجر أمها ويقول لها: يا زناب (الاصابة: 8/240) عن بنت الشاطئ.

كذلك نجده صلى الله عليه وآله وسلم يأسى لموت ابنته زينب وتظل اللوعة لا تفارقه حتى إذا ولدت الزهراء فاطمة أنثى سمَّاها زينب إحياء لذكرى ابنته الغائبة.

وأجار أبا العاص حين أجارته ابنته زينب، ومن قبل ردَّ لها قلادتها، وفكَّ لها أسيرها حين أُسر أبو العاص في بدر، وأرسلت زينب تفتديه بقلادتها.

وحبُّه صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة، ومَنْ فاطمة؟ إنها رابعة بناته صلى الله عليه وآله وسلم فلو قلنا: أحبَّ زينب لقيل كبرى بناته، وأول من أذاقته طعم الأبوة [في إحدى الروايات: أن زينب أول من ولد للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم]. أما رابعة البنات بعد زينب وأم كلثوم ورقية، ويصفيها كل هذا الحب، فهذا هو الحب الذي يتدفَّق من الأبوَّة الطاهرة المستقيمة السخيَّة، التي لا تعرف فرقاً بين الإناث والذكور، جاءت فاطمة رضي الله عنها وقد مات ولداه القاسم وعبد الله فلو كان هناك مجال للتفرقة بين الإناث والذكور لكان لفاطمة مكان غير هذا المكان ومنزلة أخرى غير هذه المنزلة، بل لكانت عبئاً يضاف إلى شقيقاتها الثلاث. ولكنها الأبوَّة الأصيلة النقيَّة، التي لا تُفرِّق في عطائها. وسخائها بين ذكر وأنثى.

وأخبار حُبِّه لفاطمة رضي الله عنها لا تحتاج إلى بيان أو تأكيد، ومن أراد أن يرجع إليها، ففي الصحيحين في (مناقب فاطمة) ما يكفي ويشفي.

وللمقالة تتمة في الجزء التالي..

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ



ابوالوليد المسلم 09-12-2022 02:36 PM

رد: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته
 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (8)



عبد العظيم محمود الديب







2 - عدم التفرقة بين الأبناء بعضهم وبعض:
اجتمع عند النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من ذرِّيَّتِه الأخوات الأربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وأما القاسم وعبد الله فقد ماتا صغيرين قبل البعثة أو بعدها بقليل.
يشهد لذلك سورة الكوثر: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ١ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ٢ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ٣﴾[الكوثر: 1-3]. فقد كانوا يُعيِّرونه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أبتر؛ لا ولد له وسورة الكوثر من أوائل ما نزل من القرآن في أول البعثة.
والأخبار التي حفظت لنا معاملة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لبناته لم تفصِّل كثيراً شأن هذه المعاملة وكيف كانت، وكن متزوجات، فلم يرد لنا من مواقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بينهن شيء نرجع إليه في ذلك (فيما نعلم) ولكن ما علَّمه صلى الله عليه وآله وسلم لأمته في حديث النعمان بن بشير «لا أشهد على جَور» يؤكد لنا أنَّه يرى أنَّ الأبوة السليمة والفطرة المستقيمة هي التي لا تفرِّق بين الأبناء.
3 - أبوة حانية مُشفقة:
وأحسب أنَّ ما ضربه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يجلُّ من المثل عن الوصف، ويسمو فوق كل تعليق أو بيان. وأنَّ ما ورد في هذا المجال من أخبار - لا شك - مجرد نماذج وأفراد وقائع رآها الرواة فسجَّلوها ورَوَوْهَا، وإلا فكم من وقائع، لم يشاهدها شاهد، ولم يرها راءٍ، بل كم من وقائع شاهدها المشاهدون ورآها الراؤون. ولم ينقلوها أو لم يدوِّنُوها.
وإنا لنعجب أشدَّ العجب حين نرى أبوَّة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لا تحجبها ولا تشغلها، ولا تسترها، ما كان في حياة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من نضال وجهاد، غزوات نحو الثلاثين، وسرايا، ووفود، ورسل وتعليم، وتبليغ، ووسط كل هذا تعلن الأبوَّة الأصيلة عن نفسها، وتجد لها مكانا بارزاً في حياته وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم.
إنَّ أي رجل الآن يلي منصباً ذا مسؤولية في دائرة من الدوائر نجده مهموماً مكروباً مشغولاً ليل نهار. ينسى ولده وأهله، وربما ينسى نفسه.
أما الأبوة عند محمد الإنسان صلى الله عليه وآله وسلم، فتجد لها مكاناً في خضم هذه الحياة الحافلة بصنوف الشدائد والأهوال. إنها الأبوَّة الكاملة، إنَّها أبوَّة قادرة على أن تعبِّر عن نفسها وتعلن وجودها. بل لعلها أيضاً كانت معركة من ضمن معارك النبوة.
يأتي الوفد من حيث أتى وفيهم سيدهم المطاع (الأقرع بن حابس التيمي) فلا يمنعه صلى الله عليه وآله وسلم ما هو فيه من شغل باستقبال هذا الوفد، من أن يعبِّر عن أبوَّتِه، فيداعب الحسن ويقبِّله، فيعجبُ الرجل، ويقول مُستغرباً: تُقبِّلون الصبيان؟ إنَّ لي عشرةً من الصبيان ما قبَّلت واحداً منهم.
وعلى الفور يجيئه الرد قاسياً بمقدار ما في قلبه من قسوة، عنيفاً بمقدار ما ينطوي عليه سلوكه تجاه أبنائه من عنف.
يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «أوَ أملكُ لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» (رواه البخاري) لم يقلْ له صلى الله عليه وآله وسلم قولاً لينا من مثل: لا شيء في تقبيل الأبناء أو أن تقبيلهم من المكرمات، أو أن تقبيلهم من الرحمة والرقة، وإنما جابهه مُباشرة بالسبب والسرِّ الذي جعله يسلك هذا السلوك، وهو أنَّه محروم، حرم الرحمة، ونزعها الله من قلبه والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هنا لا يعنف الأقرع مؤنباً له على شيء لم يرتكبه، وهو أنَّ الرحمة نزعت من قلبه. ذلك أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم على يقين من أن مقتضى الأبوة المستقيمة والفطرة السليمة، أما هؤلاء فقد كانوا يرضون أنفسهم على خنق صوت الأبوة، وطمر ينابيع الرحمة والشفقة، ووأد العاطفة إيثاراً للجفاء والغلظة، حتى يكون أبناؤهم جفاة غلاظاً يدَّخرونهم للصراع القبلي الضيِّق العطن، فكأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم رأى أنَّ نزع الله الرحمة من قلبه إنما بعملهم وسعيهم وإرادتهم.
وحين يعجب مُتعجِّب من المصطفى قائلاً له: تقبِّلون الصبيان؟ فيقول له صلى الله عليه وآله وسلم «من لا يَرْحم لا يُرْحَم» (رواه البخاري).
وكدأبه دائماً يُعلم أمته، ويدعوها إلى الهدى والرشد، فيجعل بر الأبناء والشفقة بهم عبادة يثاب عليها الآباء فعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: «إذا نظر الوالد إلى ولده نظرة، كان للوالد عدل عتق نسمة» (رواه الطبراني في الكبير وهو حديث حسن).
وأخبار أبوته الحانية، ورقته ورحمته بالأولاد لا يتسع المقام هنا للإحاطة بها أو إحصائها، ولكنَّا نكتفي بإيراد أمثلة وشواهد لها:
فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم». قَالَ: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «عَثَرَ أُسَامَةُ بِعَتَبَةِ الْبَابِ ، فَشُجَّ فِي وَجْهِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أَمِيطِي عَنْهُ الْأَذَى) فَتَقَذَّرْتُهُ، فَجَعَلَ يَمُصُّ عَنْهُ الدَّمَ وَيَمُجُّهُ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَحَلَّيْتُهُ وَكَسَوْتُهُ حَتَّى أُنَفِّقَهُ» (رواه ابن ماجة).
فهنا نرى حُبَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وإشفاقه، وتدليله لأسامة حتى يتمنَّى أن لو كان بنتاً فيزيِّنُه، ويجمِّلُه بالملابس والحلي، حتى يروجها للخُطَّاب.
وفي قوله هذا من العتاب لعائشة رضي الله عنها ما فيه، فحيث (تَقَذَّرَتُه) هي، وضع فمه ومصَّه، ثم حيث أنفت هي واشمأزَّت رآه جميلاً حتى أنَّه لو كان بنتاً لكان جديراً بالحلي والزينة.
ويبدو أنَّ عائشة رضي الله عنها وعت الدرس جيداً، فقد غيَّرت موقفها في المرَّة الثانية، حيث روت رضي الله. عنها: «أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينحي مخاط أسامة، قالت عائشة رضي الله عنها: دعني حتى أنا أفعله. قال: يا عائشة أحبيه، فإني أحبه» رواه الترمذي.
فهنا لم يطلب النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من عائشة رضي الله عنها، بل هي التي طلبت أن تُنحي مخاط أسامة، مع أنَّها في المرة الأولى طلب منها النبيّ، ولكنها (تقَذَّرَتُه) ونستطيع أن نلمح في هذا الحديث أنَّها استحت من رفض طلب النبيّ في المرة الأولى، وأرادت أن تجامله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المرة، وطلبت هي من النبيّ أن يدعها تقوم بإزالة مخاط أسامة.
ويلفت النظر أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يعرض عن طلبها، ولا يلتفت إلى إجابتها، لا بقبول ولا رفض، ولكن يوجهها إلى ناحية أخرى، إلى أساس الأمر وعموده: «أحبيه يا عائشة، فإني أحبه» فكأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أدرك أنَّها لا تقوم بهذا العمل عن رغبة فيه ورضا به، وقبول له، وإنما إرضاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط، ولعله أشفق عليها أن تكلِّف نفسها ما لا تطيق، ولذا وجَّهها إلى ما يرجوه فعلاً منها (أحبيه)، فإذا أحبَّته سهل حينئذ أن تؤدي له كل ما يرجى من إماطة الأذى أو إزالة مخاط.
والأخبار عن حمل الحسن والحسين، وعن نزوله عن المنبر من أجل أحدهما، وإطالة السجود لركوب الحسن ظهره، والتردُّد على بيت فاطمة لتعهدها والاستمتاع بمرآها وشمِّها، وكذا ما كان منه تجاه ابنه إبراهيم، من فرح ميلاده وحب له في حياته، وحزن عليه عند مماته - الأخبار في هذه المجالات ونحوها لا يتسع لها الوقت ولا المجال ولذا نكتفي بالإشارة إليها.
خاتمة
وبعد:
ما زال أمام البحث أشواط طوال حتى يبلغ غايته، ولكنا نمسك الآن التزاماً بالعدد المتاح لنا من الصفحات. وانتظاراً لفرصة تسنح، نتم فيها ما بدأنا بفضل الله وعونه.
وإذا كان لنا من كلمة نتوجَّه بها إلى علماء المسلمين من خلال المؤتمر الموقَّر، فهي قولنا: أنَّ سيرة نبيّنا لم تُدرس بعد، وأن كل ما كتب فيها - لا يعدو أن يكون قطرة من بحر. وأنَّ المسلمين في حاجة إلى الاستضاءة بنور هذه السيرة العطرة فهي النموذج الحي، والمثال العملي لتطبيق رسالة السماء الذي جعل المثل صوراً حية، وواقعاً متحركاً، يُنير السبيل أمام العاملين ويشهد على المتراخين والمتشككين، الذين يدَّعون صعوبة تنفيذ الشريعة، والعمل بها، ويرونها مثلاً زاهية، ونظماً رائعة، ولكنها أكبر وأعظم من أن تُطبَّق على وجه الأرض. إنَّ سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ترد على هؤلاء، بما تحقق من تطبيق وتنفيذ لشريعة الله.
وإننا ندعو المؤتمر الموقَّر أن يضع خُطَّة لدراسة السيرة النبويَّة الشريفة، وذلك بتقسيمها إلى جوانب أو موضوعات جُزئية يختصُّ كلُّ منها بجزئية، أو مساحة صغيرة من السيرة يدرسها بعمق، واستقصاء، ويستخرج العبرةَ والعظة منه، وحبَّذا لو وضعت مُواصفات، وشروط واضحة مُفصَّلة يهتدي بها الدارسون في كل موضوع. على أن يعلن ذلك على العالم الإسلامي بكل وسائل الإعلان - ويدعى إلى الدراسة والكتابة بصفة عامَّة، لكل من شاء أو أنس من نفسه القدرة، ويكون لهذا المؤتمر أمانة دائمة، توجِّه النصح والإرشاد بواسطة عدد من الخبراء في هذا المجال.
أما بالنسبة للسنة النبويّة المطهرة، فكم أتمنى أن يقوم مركز دراسات السنة في أي دولة إسلامية، وليكن في جامعة قطر الفتية على أن يستفيد من وسائل (الحاسب الآلي) على نحو ما اقترحته في المشروع المقدم للمؤتمر الكريم، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ.



الساعة الآن : 11:44 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 141.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 141.59 كيلو بايت... تم توفير 0.39 كيلو بايت...بمعدل (0.27%)]