ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى اللغة العربية و آدابها (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=111)
-   -   اللغة العربية والأعمى (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=256560)

ابوالوليد المسلم 08-04-2021 07:31 AM

اللغة العربية والأعمى
 
اللغة العربية والأعمى
د. أحمد عيد عبدالفتاح حسن





في كتب التراث العربي يقع النظرُ الدقيقُ على مسائلَ ارتبطت بالأعمى ارتباطًا وثيقًا، وبُنيَت عليه، أو كان لقوله اليدُ الطُّولى في الإفصاح عن قاعدتها، ورفع لوائها.

وهذا يوضِّح لنا مدى احتفاء العربية بالأعمى، وحِفظ مكانته، واعتباره عنصرًا فعَّالًا من بين أفرادها، وغرس الثقة بالنفس فيه، وكأنَّها أمٌّ تَفيض بالحنان على الضعيف من أبنائها، وتَربِت بيدها الحانية على ظهر المنكسِر من أولادها، وتأبى إلا أن تكون خيرَ أمٍّ لابنٍ لم يرتكب في حقها جَريرة.

فيا لها من لغةٍ كأنَّها مُلئت إحساسًا، واحتوت شعورًا، فأصبحت إنسانًا! وليس هذا بغريبٍ على لغةٍ استمدت عالميتها من عالمية الإسلام، ونالت شموخها من إعجاز الكتاب، وتأثرت في معاملتها بمعاملة أفصح العرب صلى الله عليه وسلم الذي تقاطَرَت معاملته نورًا ورحمة وشفقة.

ودونك تلك المسائل المرتبطة بالأعمى:
1- في تعدِّي(رَأى):
هذا الفعل ينصب مفعولين، أصلهما المبتدأ والخبر عند المبصرين، والْعُمْي في المعاني الثلاثة الآتية[1]؛ لأنَّها من بابٍ واحد:
المعنى الأول: الدلالة على اليقين في الخبر؛ نحو قول المبصر أو الأعمى: رأيتُ العِلم رِفعةً، ومنه قول خَدَّاش بن زهير: [من الوافر]
تَقُوهُ أيُّها الفتيانُ إني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رأيتُ اللهَ قد غلَب الجُدودَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

رأيتُ اللهَ أكبرَ كلِّ شيءٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مُحاوَلةً وأكثرَهم جُنودَا[2] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فاسم الجلالة في البيتين منصوبٌ على التعظيم، وهو أول المنصوبين، و(قد غلب الجدودا) في البيت الأول في محل نصبٍ، مفعولٌ ثانٍ، و(أكبرَ) في البيت الثاني هو المفعول الثاني.

والمعنى الثاني: معنى (ظنَّ)، وينصب مفعولين، كقول المبصر أو الأعمى: رَأى الكافرُ البعثَ ممتنعًا، ومنه قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا ﴾ [المعارج: 6، 7]، فـالأول بمعنى الظنِّ، والمعنى: يَظُنُّونَ البعثَ ممتنعًا، والثاني بمعنى العلم واليقين، والمعنى: ونَعلمه واقعًا.

والمعنى الثالث: معنى الحُلْم؛ مثل قول المبصر أو الأعمى: رأيتُ الليلة أخي ناجحًا، ومنه قوله عز وجل: ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]، فـ(ياء) المتكلم هي المفعول الأول، وجملة ﴿ أَعْصِرُ خَمْرًا ﴾ [يوسف: 36] هي المفعول الثاني، وكذلك جملة ﴿ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا ﴾ [يوسف: 36].

ويتعدى إلى مفعولٍ واحدٍ فقط عند المبصرين في المعنيين الآتيين:
المعنى الأول: (رأى) البصريَّة التي بمعنى: أبصَر ورأى بعينه؛ نحو قولك: رأيتُ سعيدًا، ورأيتُ بيتَه، ورأيتُ مكتبتَه.
والمعنى الثاني: معنى إصابة الرِّئة، مثل: ضرَبه فرَآه، والمعنى: أصاب رِئتَه، ورأيتُ الطَّائرَ، والمعنى: أصَبْتُه في رِئَتِه[3].

وميَّزَت العربيةُ العُمْي على غيرهم في النطق بهذا الفعل، فجعلَت فيه قوةً لم تُعطِها المبصر الصحيح؛ تعويضًا لهم من تلك الحالة الخاصة، وجبرًا لخاطرهم، فإذا نطقوا بذلك الفعل نصَبوا مفعولين في المعاني الثلاثة الأُوَل، وفي المعنى الأول من المعنيين السابقين اللَّذين تعدى فيهما الفعل إلى مفعول واحد عند المبصِرين، وهو معنى (أبصر)، فيقول الأعمى: رأيتُ خالدًا الصالحَ، ورأيتُ سعيدًا الناجحَ، ورأيت سعدًا المريضَ، فنُعرب المنصوبِين في أقواله مَفعولين، ومعنى فِعله: هو العلم واليقين، ويقول المبصر الصحيح: رأيتُ خالدًا الصالحَ، ورأيتُ سعيدًا الناجحَ، ورأيت سعدًا المريضَ، فنعرب المنصوبَ الأول في أقواله مفعولًا به، ونعرب الثانيَ نعتًا له.

وهذا الطرح الذي طرحته هو مفهوم قول سيبويه رحمه الله: "وإن قلتَ: رأيتُ، فأردْتَ رؤيةَ العين، أو: وجدتُ، فأردْتَ وجدانَ الضالَّة، فهو بمنزلة (ضربتُ)، ولكنَّك إنَّما تريد بـ(وجدتُ) عَلِمتُ، وبـ(رأيتُ) ذلك أيضًا، ألا ترى أنَّهُ يجوز للأَعمى أن يقول: رأيتُ زيدًا الصالحَ؟!"[4].

فشتَّان ذو النظرة العابرة وذو البصيرة النافذة! وشتان صاحب النظر السريع وصاحب العلم اليقين!

2 - (نداء النكرة غير المقصودة):
من القواعد النَّحْوية المقرَّرة في باب (النداء) أنَّهُ إذا كان المنادى المفردُ نكرةً غيرَ مقصودة، نُصِب، ومن الأمثلة الموضحة لتلك القاعدة قول الأعمى: يا رجلًا خُذ بيدي؛ قال السيوطي: "ولا خلاف في النَّكرَة غير المقصودة - نحو: يا رجلًا خُذْ بيَدي - أنَّه باقٍ على تنكيره"[5].

وعبَّر ابن مالك عن موضع تلك القاعدة في (الألفية) بـ(المفرد المنكور)[6]، وسمَّاه في (شرح الكافية الشافية) بـ(المنادَى الباقي على شياعه)[7]، وهو " الذي لم يُقصَد به معيَّنٌ"[8]، ولم ينَل من النداء تعريفًا.

وكلُّنا يعرف أنَّ الأعمى إذا سار وحدَه في طريق، وطلب المساعدة من شخصٍ ما في عبوره، فنادى قائلًا: يا رجلًا خُذْ بيدي - كلنا يعرف أنَّهُ لم يُعيِّن شخصًا بعينه في ندائه، ولم يُقبل على واحدٍ دون غيره.

وكذلك لو دَعا اثنين من المارِّين قائلًا: يا رجلَينِ خُذا بيدي، فالمفهوم أنه لم يَقصد اثنين بعينهما في دعائه، ولم يُقبِل على شخصين دون غيرهما من الناس.

ومثله لو طلب ممن حوله المساعدة، فقال: يا مؤمنِينَ خذوا بيدي، فالمعروف أنه لم يقصد جماعة معينة دون غيرها.

قال ابن السرَّاج: "وأمَّا الاسم النكرة الذي بقي على نكرته، فلم يتعرَّف بتسمية ولا نداء، فإذا ناديتَه فهو منصوب... كما يقول الضريرُ: يا رجلًا خذ بيدي، فهو ليس يقصد واحدًا بعينِه، بل من أخذ بيده فهو بُغيتُه"[9].

3 - (في الترخيم):
الترخيم "حذفٌ يَلْحق أواخِر الأسماء المضمومة في النداء؛ تخفيفًا، وهو في الكلام على ضَربَين:
أحدهما: أن تحذف آخر الاسم، وتدَع ما قبله على ما كان عليه من الحركة والسكون.
والآخر: أن تحذف ما تحذف، وتجعل ما بقي بعد الحذف اسمًا قائمًا بنفسه كأن لم تحذف منه شيئًا"[10].

الضرب الأول يعرف بـ (لغة من ينتظر)، نحو قولك في حارثٍ: يا حارِ، وفي مالكٍ: يا مالِ، وفي جعفرٍ: يا جعفَ، وفي بُرْثُنٍ: يا برثُ، وفي قِمَطْرٍ: يا قِمَطْ.

والضرب الآخر يعرف بـ(لغة من لا ينتظر)، نحو قولك في حارثٍ: يا حارُ، وفي جعفرٍ: يا جعفُ، وفي أحمد: يا أحمُ.

فالترخيم "لا يكون إلا في النداء إلا أن يُضطرَّ شاعرٌ، وإنما كان ذلك في النداء؛ لكثرته في كلامهم"[11].

ومن شروط ترخيم الاسم "كونه معرفة؛ لأنَّ المعارف كثر نداؤها فدخلها التخفيف بحذف آخرها... فلا يرخَّم؛ نحو قول الأعمى: يا إنسانًا خُذْ بيدي؛ لأنَّه نكرة"[12].

لقد كان الحكم بمنع ترخيم النكرة غير المقصودة معتمِدًا على مثال، أجرَوه على لسان الأعمى، ولولا صدورُه منه، وجريانه على لسانه ما كان لذلك الحكم وجودًا؛ قال المرادي: "فلا يجوز ترخيم النكرة غير المقصودة؛ كقول الأعمى: يا امرأةً خُذي بيدي"[13]، وقال ابن هشام: "فلا يرخم؛ نحو قول الأعمى: يا إنسانًا خُذْ بيدي"[14]، وقال الأشموني: "فلا يجوز الترخيم في نحو قول الأعمى: يا جاريةً خُذي بيدي، لغير معيَّنة"[15].

4 - (حذف حرف النداء):
يجوز حذف الحرف المنادى به، نحو: قوله سبحانه وتعالى: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾ [يوسف: 29]، والتقدير: يا يوسفُ، وقوله جل جلاله: ﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ ﴾ [الرحمن: 31]، والتقدير: يا أيُّها الثقلانِ، وقوله عز وجل: ﴿ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ﴾ [الدخان: 18]، والتقدير: يا عبادَ الله.

ومن المسائل الثماني التي يمتنع فيها حذف حرف النداء: مسألة نداء اسم الجنس غير المعيَّن، وهو النكرة غير المقصودة، وكان مثالهم لتلك المسألة قول الأعمى: "يا رجلًا خذ بيدي"، و"يا واقفًا ساعدني في عبور الطريق"، ومثله قول العمياء: "يا امرأةً خذي بيدي"، و"يَا واقفةً ساعديني في عبور الطريق".

وامتنع حذفُ حرف النداء هنا؛ لأنَّ الحذف لا يجوزُ إلا إذا كان المنادَى مُقبِلًا على المنادي، ومُتهيئًا لما يقوله له، وهذا لا يكون إلا في المعرفة[16].

5 - (الإشمام):
من أوجه الوقف على المرفوع والمضموم الإشمام، وهو "الإشارة بالشفتين إلى الحركة بُعيد الإسكان من غير تصويتٍ يُسمَع، والمراد أن تضمَّ شفتيك بعد الإسكان، وتَدَع بينهما بعض الانفراج؛ ليخرج منه النفَس فيراهما المخاطب مضمومتين، فيعلم أنَّك أردت بضمِّهما الحركة، فهو شيء يختص بإدراك العين دون الأذن؛ لأنَّه ليس بصوتٍ يسمع، بل هو تحريك عضو"[17]، والغرض منه الفرق بين الساكن والمسكن في الوقف.

فالإشمام إشارةٌ إلى الحركة دون صوتٍ، ولا يُدرَك إلا بالرؤية، وليس للسمع فيه حظٌ؛ ولذلك يُدرِكه البصير فقط، ولا يدركه الأعمى[18].

والاحتفاء بالأعمى، وعدمُ نسيانه في عملية الإشمام - مُنطلَقُ علماء العربية منذ القدم؛ فقد قرَّر سيبويه وغيره أنْ ليس للأعمى في متابعة عملية الإشمام نصيب؛ لفقدانه حاسةَ إدراكه، فإذا وقف المتكلم على كلمة مضمومة فالذي يدركه السامعُ الأعمى هو السكون؛ لأنَّهُ المسموع حينئذٍ[19]، قال سيبويه: "وإشمامك في الرفع للرؤية، وليس بصوتٍ للأذن؛ ألا ترى أنك لو قلتَ: هذا مَعْنٌ فأشممتَ كانت عند الأعمى بمنزلتها إذا لم تُشمِم؟"[20].

والأعمى يُدرِك الإشمام بالتعلم، ويُمارسه، بأن يضم شَفَتَيْه إذا وقف على الحرف المضموم[21].

6 - (الرَّوم):
من أوجُه الوقف على المتحرك: الرَّوْم، وهو "الإتيان بالحركة خفْيةً؛ حرصًا على بيان الحركة التي تحرَّك بها آخر الكلمة في الوصل؛ وذلك إمَّا حركات الإعراب، وهم بشأنها أعْنَى؛ لدلالتها على المعاني في الأصل، وإمَّا حركات البناء؛ كأيْنَ، وأمْسِ، وقَبْلُ.

وسمِّي روْمًا؛ لأنَّك تروم الحركة، وتريدها حين لم تسقطها بالكلية، ويدرك الرَّوْم الأعمى الصحيحُ السمعِ إذا استمع؛ لأنَّ في آخر الكلمة صُوَيتًا خفيفًا"[22].

فانظر إلى العربية في تلك المسألة الدقيقة لم تنسَ ابنها الأعمى مع أنَّهُ يشترك فيها مع أخيه البصير؛ فما الرَّوم عندها إلا عملية إدراكية شبه حركية، يشترك فيها البصير والأعمى الصحيحُ السمعِ إذا استمَعا إلى المتكلم العربي، أو هو "مع حركة الشفة تصويت يكاد الحرف يكون به متحركًا فيدركه الأعمى والبصير"[23]؛ فهو حالَة متوسطة بَين الحركة والسكون.

فالصوت الخفيف في الوقف على منتهى الكلمة المتحرك عمليةٌ تُدرَك بحاسة السمع، يشترك فيها البصير والأعمى الصحيحُ السمع على السواء، إذا استمَعا إلى المتكلم العربي.

﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10].



[1] ينظر: الكتاب 1/ 40، والتذييل والتكميل 6/ 37، والمساعد 1/ 361، وشرح الأشموني 2/ 34.

[2] البيتان في شرح ابن الناظم على الألفية ص 141، والتذييل والتكميل 6/ 37، وشرح الأشموني 2/ 33، 34.

[3] ينظر: المخصص 2/ 63.

[4] الكتاب 1/ 40.

[5] همع الهوامع 1/ 220.

[6] ينظر: شرح ابن عقيل على الألفية 3/ 260، وشرح الأشموني 3/ 139.

[7] ينظر: شرح الكافية الشافية 1/ 223.

[8] توضيح المقاصد والمسالك للمرادي 2/ 1061.

[9] الأصول في النحو 1/ 331.

[10] اللمع في العربية لابن جني ص 114.

[11] الكتاب 2/ 239.

[12] التصريح 2/ 251.

[13] توضيح المقاصد والمسالك 3/ 1128.

[14] أوضح المسالك 4/ 52، 53.

[15] شرح الأشموني 4/ 173.

[16] ينظر: أوضح المسالك 4 / 12، والتصريح 2/ 207.

[17] التصريح 2/ 624.

[18] ينظر: أوضح المسالك 4/ 309، 310، وهمع الهوامع 3/ 432.

[19] ينظر: الكتاب 4/ 171، والأصول في النحو 2/ 372.

[20] الكتاب 4/ 171.

[21] همع الهوامع 3/ 432.

[22] ينظر: شرح الرضي على الشافية 2/ 285.

[23] التصريح 2/ 624.







الساعة الآن : 12:44 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 26.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.30 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.36%)]