ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=81)
-   -   خطبة: السكينة (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=278760)

ابوالوليد المسلم 05-07-2022 08:12 PM

خطبة: السكينة
 
خطبة: السكينة
إبراهيم الدميجي


الحمد لله الذي خلق فسوَّى وقدَّر فهدى، وأسعد وأشقى، وأضلَّ بحكمته وهدَى، ومنع وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن الله تعالى شكور حميد سبحانه، فإذا صدق العبد معه باطنًا وظاهرًا في إيمانه، فإن الله يكافئه بإلباسه من نور الراحة وهالة الأمن لمن رآه، وضياء السرور لمن عامله، وبهاء الهيبة لمن عرفه، وهذه علامات وثمرات، ثم يأخذ بيد توفيقه لمزيدٍ من كرائم منحه وجسائم عطاياه الدينية، فالحسنة تجلب أختها برحمة الله، ولا يزال العبد يترقى في دَرَج الرضا ومعارج القبول حتى يرحل عن الدنيا للرفيق الأعلى راضيًا مرضيًّا، فمن منح الله تعالى لعبده المؤمن السكينة.

وكيف لا تسكنُ نفسٌ سبَحت في بحار الرضا عن ربها، فخضعت له ربًّا، وخشعت له إلهًا، ورضيت به معبودًا، وفرحت به مألوهًا لها، فهي تجري في فضاء حُبِّه، وتسبح في الثقة به واليقين به والتعلق به، قد وقف بها حبُّه عن حب ما سواه، ووثقت بوعده فاكتفَتْ به عن غيره، وفوَّضت أمرها بين يديه إحسانًا لظنها به، واستسلمت لقضائه ليقينها بحسن تدبيره ولطفه ورفقه وحكمته ورحمته وعلمه وبرّه، ومن رجز الصحابة المرضيين يوم الخَنْدق وفيهم رسول الهُدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه:
اللهُمَّ لولا أنْتَ ما اهْتَدَيْنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فأنْزِلَنْ سَكِينةً علينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وثبِّتِ الأقْدامَ إنْ لاقينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إنَّ الأُلَى قد بَغَوا علينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا أرادُوا فِتْنةً أبَيْنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بكلمة "أبينا، أبينا"[1].

قال ابن القيم رحمه الله في معنى السكينة: "السكينة من السكون، وهو طُمَأْنينةُ القلبِ واستقرارُه، وأصلُها في القلب، ويظهر أثرُها على الجوارح، وهي عامة وخاصة"[2].

ومن أمتع وأعظم جوالب السكينة قراءةُ القرآن، وهي من مدارج السكينة ومُتَنَزّلاتها كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ يَتْلُون كتابَ اللهِ ويتدارسونه بينهم؛ إلا غَشِيتهم الرحمةُ، وتنزَّلتْ عليهم السكينةُ، وحَفَّتْهم الملائكةُ، وذكرَهم اللهُ فيمن عنده))[3]، قال شيخ الإسلام: "لا يشترط لنزول الملائكة وغيرهم أن تكون القراءة أو الذكر في جماعة، فيحصل ذلك للشخص الواحد، روى البخاري ومسلم حديث أُسَيْد بن حُضَيْر الذي كان يقرأ القرآن في مِرْبَدِه[4] وبجواره ولده وفرسه[5]، وجاء فيه: فإذا مثل الظُّلّة فوق رأسي، فيها أمثال السُّرُج عرجت في الجو حتى ما أراها! فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((تلكَ الملائكةُ تستمع لك، ولو قرأت لأصبَحَتْ يراها الناسُ ما تستَتِرُ منهم))[6].[7] وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "قرأ رجل الكهف، وفي الدار الدابة، فجعلت تنفر، فسلّم، فإذا ضبابة أو سحابة غشيته؛ فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اقْرَأْ فلان، فإنها السكينةُ، نَزَلَتْ للقُرآنِ أو تَنَزَّلَتْ للقُرآنِ))[8]، قال العيني رحمه الله تعالى: "والرجل هو أسيد بن حضير.. والضبابة المذكورة هي السكينة، واختلفوا في معناها؛ فقيل: هي الملائكة وعليهم السكينة، والمختار: أنها شيء من مخلوقات الله تعالى فيه طُمَأْنينة ورحمة، ومعه ملائكة يستمعون القرآن"[9].

عباد الله، إن من أعظم جوالب السكينة للمؤمن تدبُّر كتاب الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، فكتاب الله تعالى زادٌ لا ينقص، وسقاء لا ينضب، وبحر لا يغيض، بل يفيض على القلب والروح حتى تُحلِّق وتسمو في سماء ليست بسماء دنيا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وفي القرآن أمرٌ عجيب؛ وهو أنّ كل من تلاه بتدبُّر وَجَد فيه حلًّا لمشكلاته، وزوالًا لجهالاته، وبلسمًا لجراحاته، وبصيرة لمنهاجه، فكلُّ مشكلةٍ في العالم فحلُّها في الكتاب العزيز، وكلُّ تساؤل في الخليقة فجوابه فيه إجمالًا أو تفصيلًا أو دلالة، وصدق الله تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، فتجد النفرَ يتلون آيات واحدة، أو يستمعونها بتدبُّر، فتصنع في صدورهم الأعاجيب، فهذا يجد فهمًا لجانبٍ من حياته نبَّهَتْه إليه الآية، وذاك يجد عزاءً لفقدٍ، أو لحرمانِ نفسه من بعض مشتهياتها، أو لما تجرَّعته من غُصص آلامها، وآخر يجد برهانًا لفكرة تحيط به ولمّا يتوثَّق منها، وغيره يرى إنذارًا لتفريط وقع فيه، وتلك تستمع لآية آنَسَتها فأنْسَتها همًّا ألمّ بها، وشوَّقتها لله تعالى والدار الآخرة، بل أعجب من ذلك أنَّ الشخص الواحد يقرأ الآية مرارًا ويجد في كل تدبُّرٍ معنًى جديدًا يثري علمه بربه تعالى، ذلك أن القرآن العظيم هو علمُ العلوم، فهو كتاب لا تشبع منه العلماء، ولا يخلَقُ من كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه، فلا إله إلا الله، ما أعظمَ اللهَ! وأعظمَ كلامَه! وأكبرَ نعمتَه علينا به!

فتدبَّروا القرآن عباد الرحمن، ورتِّلوه، وحسِّنوا أصواتكم به، قال عز وجل: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتأوّلُ ذلك فيرتل القرآن كما أمره ربه، وكان يمدّ قراءته حرفًا حرفًا، ويقف على رؤوس الآي، ويقرأ السورة حتى تكون أطول من أطول منها، بمعنى أن قراءته أبطأ من القراءة المعتادة لغيره من الناس، وكلُّ هذا لتحصيل المقصود الأعظم؛ وهو تدبُّر التلاوة التي من معانيها العمل بالقرآن، وهو ما فُسر به قوله تعالى: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121]؛ أي: يصدّقون بما فيه من أخبار، ويعملون بما فيه من أحكام.

ولا يتأتَّى العمل بالقرآن إلا بعد العلم بمعانيه، ووسيلته الكبرى - بعون الله تعالى - هي التدبر؛ لهذا قال صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "اقرأ في ثلاث، فإنَّه لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث"[10]؛ أي: لا يستطيع تدبُّره كما ينبغي له.

لذا زجر السلف عن هذِّ القرآن، قال ابن أُمّ عبدٍ رضي الله عنه: "لا تهُذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند محكمه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة"، والهذُّ الذي زجر عنه ابن مسعود وغيره: هو الإسراع الذي يفوق الحدر، فيكون كالهَذْرمة، أما الإسراع الذي لا يُحرِّف القراءة فلا بأس به ما دام مقيمًا لإحسان القراءة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بشارته لأهل القرآن: ((.. وإنَّ القرآن يَلقى صاحبَه يومَ القيامةِ حين ينشقُّ عنه قبرُه كالرجلِ الشَّاحِبِ، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفُكَ! فيقول: أنا صاحبُك القرآنُ، الذي أظمأتُكَ في الهواجِرِ، وأسهرتُ ليلَك، وإنّ كلَّ تاجرٍ من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيُعطى الملك بيمينه، والخُلد بشماله، ويُوضَع على رأسه تاجُ الوقارِ، ويُكْسى والداه حُلَّتَينِ لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كُسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يُقال له: اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ، هذًّا كان، أو ترتيلًا))[11]، ولقد كانت قراءة الفضيل- كما وصفوها- بطيئةً حزينةً شهيةً، رحمنا الله وإياه.

وتزيين الصوت من سنن القراءة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ ما أذِنَ لنبيٍّ أن يتغنَّى بالقُرآنِ))[12]، وفي رواية: ((لِنبيٍّ حسن الصوت بالقرآن يجهر به))، وفي رواية: ((لِنبيٍّ يتغنّى بالقرآن يجهر به))[13]، وعن أبي لبابة بشير بن عبدالمنذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ لم يتغنَّ بالقرآن فليس مِنَّا))، قال عبدالله بن أبي يزيد رحمه الله لابن أبي مليكة: يا أبا محمد، أرأيت إن لم يكن حسن الصوت؟ قال: يُحسِّنه ما استطاع[14]، وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زَيِّنوا القرآن بأصواتكم))[15]، فتزيين الصوت مطلب شرعي ومرضاة للرحمن، وتدبرُ القرآن مقصود التلاوة والسماع، وواهًا لمن جمعهما.

عباد الله، إن في نفوس الناس نزعة إلى العجلة والإسراع لقلة صبرها، ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37]، ولو جاهدناها لأضحت بإذن الله تعالى مطمئنّة للترتيل، لا تكاد تسكن إلا إليه، وذلك أن المقصود الأعظم للتلاوة وسماعها هو التدبر، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [محمد: 24]، ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ [ص: 29]، ووسيلة التدبر الترتيل والترسُّل والبطء والتأمل في التلاوة. وتأمَّلْ حالك حتى وأنت تنظر للمصحف بلا قراءة ابتغاء تحصيل معنى تقصده وتفتش عنه، فستجد نفسك بلا جهد ولا قصد تترسَّل وتُبْطئ وتتدبَّر، ولا يعني ذلك أن الحدر ليس فيه تدبُّر، بل فيه- بحمد الله- نزرٌ نافعٌ صالحٌ مبارك، ولكنه ليس كغيث التدبُّر حينما تنهمر المعاني بتفجُّر ينابيع الآيات مع كرّ النظر تِلْوَ النظر، وتدبر العقل بمعول الفكر، وتأمّل النظر ببصيرة العقل، وكل هذا مفتقر لبطء لا عجلة.

والمقصود أنّ الحدر والترتيل مشروعان، ولكن الأصل هو الترتيل بغرض التدبر والعمل، ومن العلماء وغيرهم من كانت له أكثر من ختمة واحدة للترتيل المتدبّر جدًّا جدًّا، حتى إنه ربما بقي في الختمة الواحدة بضع سنين يُرتِّل ويتدبَّر، ويُرجِّع ويَرجِع، ويُردِّد الآية ويدعو ويبتهل، ويجعل لهذه الختمة وِرْدًا خاصًّا يقتطع له أصفى حالات نفسه، وأنقى ساعات يومه، وأجود أويقات عمره، كما أن له ختمة أخرى يُرتِّلها كعادة الناس، حتى لا يغيب عن تمام القرآن بهجر بعضه، وقد مثل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى متدبر القرآن المترسل كمُهدي الجوهرة الجميلة الكبيرة، ومثل الحادر بالقرآن بمهدي عدة جواهر صغار، فالترتيل المتدبر كيف، والحدر كم.

ومتى جاهد المرء نفسه على التدبر تدفقت في قلبه معاني القرآن التي يدهش لُبُّه من عظمتها وجلالها، فهو كتاب الله تعالى الذي لا يشبع منه العلماء، ولا يخلق من كثرة الردِّ، ولا تنقضي عجائبه، وبالله التوفيق.

بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واسألوا الله السكينة لقلوبكم، واذكروا الله على الدوام، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قرأ آيةَ الكُرْسيّ إذا أوى إلى فراشِه لم يَزَلْ عليه من اللهِ حافظٌ، لا يقربُهُ شيطانٌ حتى يُصبِحَ))[16]، فكيف يكون حال وسكينة المتقلب نائمًا في فراشه، وعين الرحمن ترعاه!

هذا والسكينة- فاعلم - من خصال المؤمنين، قال ابن تيمية رحمه الله: "وكان المسلمون على عهد نبيهم وبعده لا يعرفون وقت الحرب إلا بالسكينة وذكر الله تعالى، قال قيس بن عبادة وهو من كبار التابعين: "كانوا[17] يستحبون خفض الصوت عند الذكر وعند القتال وعند الجنائز"، وكذلك سائر الآثار تقتضي أنهم كانت عليهم السكينة في هذه المواطن، مع امتلاء القلوب بذكر الله وإجلاله وإكرامه، كما أن حالهم في الصلاة كذلك، وكان رفع الصوت في هذه المواطن الثلاث عادة أهل الكتاب والأعاجم، ثم قد ابتُلي بها كثيرٌ من هذه الأمة"[18].

فأهل السكينة أهل ذكر، والملائكة تحبهم وتدعو لهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله عز وجل، تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفّونهم بأجنحتهم[19] إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم - وهو أعلم -: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبِّحُونك، ويُكبِّرونك، ويُحمِّدونك، ويُمجِّدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني؟! قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة، وأشدَّ لك تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا، فيقول: فماذا يسألون؟ قال: يقولون: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشدَّ عليها حرصًا، وأشدَّ لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمِمَّ يتعوَّذون؟ قال: يقولون: يتعوَّذون من النار، قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟! قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ منها فرارًا، وأشدَّ لها مخافة، قال: فيقول: فأُشْهِدُكم أني قد غفرتُ لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم الجُلَساءُ لا يشقى بهم جليسُهم))[20]، أما ضدهم من أهل الغفلة والمعصية فتحضرهم الشياطين.

وأهل السكينة أهل استقامة وتقوى، ومن كان من أهل الاستقامة فإن الله تعالى يُسدِّده ويحفظه ويحوطه بالتوفيق والإصابة، ويُسدِّده حتى بالسكينة الملائكية، وقد أنزل الله تعالى آيات السكينة في كتابه، والقرآنُ كلُّه يبعث السكينة في القلب والروح، قال ابن القيم رحمه الله: "وقد ذكر الله سبحانه السكينة في كتابه في ستة مواضع:
الأول: قوله: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 248].

الثاني: قوله: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 26].

الثالث: قوله تعالى: ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَ ﴾ [التوبة: 40].

الرابع: قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الفتح: 4].

الخامس: قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18].

السادس: قوله تعالى: ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الفتح: 26] الآية.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة، وسمعته يقول في وقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها- من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة- قال: فلما اشتد عليَّ الأمر قلت لأقاربي ومن حولي: اقرءوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبة[21]- أي: مرض- وقد جربتُ أنا أيضًا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيتُ لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطُمَأْنينته.

اللهم صلِّ على محمد.

[1] بألفاظ عند البخاري (2870) وغيره.

[2] إعلام الموقعين (4 / 201).

[3] مسلم (2699)، وقد ذكر لي الشيخ محمد بن سعود الحمد فائدة شريفة استنبطها بتوفيق الله من هذا الحديث الرباني الجليل: قال: "وأرجو أن يكون من ألّف كتابًا فيه ذكرٌ لله تعالى أن يكون ممن وُعدوا بذكر الله تعالى لهم في الملأ الأعلى؛ لأن الملأ الذي ذكر العبد ربه عندهم قد يكونون حضورًا شهودًا لديه في مجلسه فيسمعونه، وقد يكونون متفرقين في الأمصار يشهدون ذكره لربه في كتابه".
وقد أصاب في هذا الاستنباط الشريف بإذن الله تعالى؛ فإن القلم أحد اللسانين، ويتبع ذلك كل مكتوب برسالة ورقية أو إلكترونية أو في وسائل التواصل الاجتماعي وكل ما كان بهذه المثابة، والله تعالى أعلم.

[4] المرْبَد والبيدر: الموضع الذي يُوضَع فيه التمر حين يُصْرَم ليجف، وهو من رَبَدَه: إذا حبسه، ومنه مِرْبد الإبل، وقيل: مِرْبَد البصرة؛ لأنهم كانوا يحبسون فيه الإبل، ومنه حديث أنس في الصحيحين لمّا ذهب بأخ له ليحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده في مربده يسِمُ شاة في أذنها، وقيل: المربد للتمر، والبيدر للحنطة؛ وانظر: الفائق في غريب الحديث والأثر (1 / 166) وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (3 / 354) وحسن سنده ابن كثير في تاريخه (6/ 95) عن ابن المسيب عن أبي لبابة بن عبدالمنذر الأنصاري، قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقال: ((اللهم اسْقِنا اللهم اسْقِنا))، فقام أبو لبابة فقال: يا رسول الله، إن التمر في المرابد، قال: وما في السماء سحاب نراه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اسْقِنا حتى يقوم أبو لبابة عريانًا يسد ثعلب مربده بإزاره))، قال: فاستهلت السماء فأمطرت، وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم طافت الأنصار بأبي لبابة يقولون له: يا أبا لبابة، إن السماء والله لن تقلع أبدًا حتى تقوم عريانًا فتسدّ ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقام أبو لبابة عريانًا فسد ثعلب مربده بإزاره، قال فأقلعت السماء".
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث: (3 / 96) المربد: هو الذي يجعل فيه التمر عند الجذاذ قبل أن يدخل إلى المدينة ويصير في الأوعية. وثعلبه: هو جحره الذي يسيل منه ماء المطر؛ أي: أصاب التمر.

[5] وقال الحافظ في فتح الباري (9 / 64): "وفي رواية أُبيّ بن كعب المذكورة أنه كان يقرأ على ظهر بيته، وهذا مغاير للقصة التي فيها أنه كان في مربده، وفي حديث الباب أن ابنه كان إلى جانبه وفرسه مربوطة فخشي أن تطأه، وهذا كله مخالف لكونه كان حينئذٍ على ظهر البيت إلا أن يراد بظهر البيت خارجه لا أعلاه فتتحد القصتان".

[6] مسلم (796) واللفظ له، وعلقه البخاري (5018) بصيغة الجزم.

[7] أسباب رفع العقوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية (1 / 47).

[8] البخاري (3614) ومسلم (795).

[9] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (24 / 182) باختصار.

[10] البخاري (3/ 51) ومسلم (3/ 163).

[11] مسند أحمد (22950)، وقال محققوه: إسناده حسن في المتابعات والشواهد من أجل بشير بن المهاجر الغنوي، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، وحسَّنه الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/ 62) ولبعضه شواهد يصح بها، وأخرجه الدارمي (3391)، وحسَّنه محققه الشيخ حسين سليم أسد.

[12] يقال: أذن إلى الشيء وللشيء، يأذن أذَنًا؛ أي: استمع له، والتغنِّي: تزيين الصوت بالقراءة والتحبير.

[13] البخاري (6/ 235، 9/ 173) ومسلم ( 2/ 2192).

[14] أبو داود (1471) وجوّد سنده النووي في الرياض (1 / 498).

[15] النسائي (1015) وصححه الألباني.

[16] البخاري (5010،3275،2311) تعليقًا بصيغة الجزم.

[17] أي: الصحابة رضي الله عنهم.

[18] اقتضاء الصراط (1 / 119).

[19] جاء في فضل أهل العلم أن الملائكة تضع أجنحتها تواضعًا لهم وإجلالًا، وتحفّهم حراسة لهم وحفظًا بأمر الله تعالى.

[20] البخاري 8/ 107 (6408)، ومسلم 8/ 68 (2689) (25).

[21] القَلَبة: المرض، وأصله داء يكون بالإبل فاستُعمِل في كل داء، وفي حديث اللديغ: "فَانْطَلق يتفُل عَلَيْهِ وَيقْرَأ: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2] فَكَأَنَّمَا نشط من عقال، فَانْطَلق يمشي وَمَا بِهِ قَلَبة"؛ وانظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2 / 184).





ابوالوليد المسلم 05-07-2022 08:13 PM

رد: خطبة: السكينة
 
خطبة: السكينة (2)
إبراهيم الدميجي





الحمدُ للهِ وفَّقَ مَنْ شَاءَ لِمَكارِم الأخلاقِ، وهدَاهم لِما فيهِ فلاحُهم يَومَ التَّلاقي، أَشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، المَلِكُ الخَلَّاق، وأَشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُ اللهِ ورَسولُهُ أَفضَل الْبَشَرِ على الإطلاقِ، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه وعلى آلِهِ وأَصحَابِه ومن تبعهم بإحسانٍ، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن من نعيم المؤمنين تنزيل السكينة في قلوبهم، فتطمئن أرواحهم، ويزادد إيمانهم.

وأصل السكينة الطُّمَأْنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات؛ ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب؛ كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رؤوسهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما، وكيوم حُنَيْن حين ولَّوا مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي أحد منهم على أحد، وكيوم الحُدِيبية حين اضطربت قلوبهم من تحكُّم الكفار عليهم ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس، وحسبك بضعف عمر رضي الله عنه عن حملها وهو عمر حتى ثبَّته الله بالصِّدِّيق رضي الله عنه.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة"، وفي الصحيحينِ عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخَنْدق حتى وارى التراب جِلدة بطنه وهو يرتجز بكلمة عبدالله بن رواحة رضي الله عنه:
"لاهُمَّ لولا أنت ما اهتدينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولا تَصدَّقْنا ولا صَلَّينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فأنزِلَنْ سكينةً علينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وثبِّت الأقْدامَ إنْ لاقينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إنَّ الأُولَى قد بَغَوا علينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإنْ أرادُوا فَتْنةً أبَيْنا" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قال: ثم يمدُّ صوته بآخرها"[1].[2]

ومن سكن قلبه سكنت جوارحه في صلاته، قال شيخ الإسلام: "فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45] لا بد أن يتضمن الخشوع في الصلاة، فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة لفسد المعنى، وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبًا فالخشوع يتضمن السكينة والتواضع جميعًا، ومنه حديث عمر رضي الله عنه حيث رأى رجلًا يعبث في صلاته فقال: "لو خشَع قلبُ هذا لخَشَعَتْ جوارِحُه"؛ أي: لسكنت وخضعت"[3]،"فإذا كان منهيًّا عن السرعة والعجلة في المشي مأمورًا بالسكينة وإن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلّي قاضيًا له؛ فأولى أن يكون مأمورًا بالسكينة فيها، ويدل على ذلك أن الله عز وجل أمر في كتابه بالسكينة والقصد في الحركة والمشي مطلقًا فقال: ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ﴾ [لقمان: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، قال الحسن وغيره: "بسكينة ووقار"، فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء.

فإذا كان مأمورًا بالسكينة والوقار في الأفعال العادية التي هي من جنس الحركة؛ فكيف بالأفعال العبادية؟ ثم كيف بما هو فيها من جنس السكون كالركوع والسجود والانتقال؟"[4].

والسكينة للمؤمن حاضرة حتى في مواطن الزحام والضيق والتدافُع وإسراع الناس كالحجِّ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم وراءه زجرًا شديدًا وضربًا وصوتًا للإبل، فأشار بسوطه إليهم، وقال: ((يا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ؛ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ))[5].

والسكينة ظاهرة على المسلمين حيثما كانوا، و"كان الميت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج به الرجال يحملونه إلى المقبرة، لا يُسرِعون، ولا يُبطِئون بل عليهم السكينة، لا نساء معهم، ولا يرفعون أصواتهم، لا بقراءة ولا غيرها، وهذه هي السنة باتفاق المسلمين"[6].

والسكينة في القلب هي محض فضل المولى تبارك وتعالى، "فليس كل ما فَضُلَ به الفاضل يكون مقدورًا لمن دونه، فكذلك من حقائق الإيمان ما لا يقدر عليه كثيرٌ من الناس، بل ولا أكثرهم، فهؤلاء يدخلون الجنة وإن لم يكونوا ممن تحققوا بحقائق الإيمان التي فضّل الله بها غيرَهم، ولا تركوا واجبًا عليهم وإن كان واجبًا على غيرهم.

ولهذا كان من الإيمان ما هو من المواهب والفضل من الله، فإنه من جنس العلم والإسلام الظاهر من جنس العمل؛ وقد قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17] وقال: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾ [مريم: 76] وقال: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]، ومثل هذه السكينة قد لا تكون مقدورة؛ ولكن الله يجعل ذلك في قلبه فضلًا منه وجزاء على عمل سابق، كما قال: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 66 - 68] وكما قال: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ﴾ [الحديد: 28]، وكما قال: ﴿ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ﴾ [المجادلة: 22]، ولهذا قيل: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم"[7].

والسكينة التي يجدها المؤمن في قلبه هي من ثمرات التوحيد، والناس كلهم لا تسكن نفوسهم إلا به، و"لا يجوز أن يصلح حالهم إلا بأن يكون الله إلههم ومعبودهم، وتكون حركاتهم لأجله عبادة له تجمع كمالَ محبته وكمالَ الذلّ له، فإن العبادة تجمع كمال الحب وكمال الذلّ، وهذا شأن المراد لذاته المقصود لذاته، وكلّ ما سواه فمفتقر إلى هذا المراد المحبوب المعبود لذاته، فلا يكون هو مرادًا محبوبًا لذاته، فإن محبته مستلزمة محبة محبوبه ومعبوده الذي هو أكمل منه، بل هو معبود له، والفساد أن يكون كل من الشيئين محبوبًا، والتابع لغيره محبوب لذاته، والمتبوع محبوب لغيره[8]![9]

والمؤمن أمَّار بالسكينة داعٍ لها، يحبها للناس كيما تسعد أرواحهم وتطيب نفوسهم في دنيا الكَبَد، قال صلى الله عليه وسلم: ((يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وسَكِّنُوا ولا تُنفِّروا))[10].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: سكينة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أخص مراتب السكينة وأعلى أقسامها؛ كالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل، وقد أُلقي في المنجنيق مسافرًا إلى ما أضرم له أعداء الله من النار، فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر!

وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم والبحر أمامهم، وقد استغاث بنو إسرائيل: يا موسى، إلى أين تذهب بنا؟! هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا، وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم اللَّه له نداءً وإيحاءً كلامًا حقيقة سمعه حقيقة بأذنه، وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعبانًا مبينًا، وكذلك السكينة التي نزلت عليه، وقد رأى حِبالَ القوم وَعِصِيَّهُمْ كأنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة.

وكذلك السكينة التي حصلت لنبيناصلى الله عليه وسلم وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوُّهما وهما في الغار، فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما، وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة وأعداء اللَّه قد أحاطوا به؛ كيوم بدر، ويوم حنين، ويوم الخندق، وغيره.

فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي من أعظم معجزاته عند أرباب البصائر، فإن الكذب -ولا سيما على اللَّه تعالى- أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطرابًا في مثل هذه المواطن، فلو لم يكن للرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم.

عباد الرحمن، وأما السكينة الخاصة فتكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم، وهي سكينة الإيمان، وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك؛ ولهذا أنزلها اللَّه تعالى على المؤمنين في أصعب المواطن أحوج ما كانوا إليها ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الفتح: 4]، فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم والجنود الداخلة فيهم وهي السكينة عند القلق والاضطراب الذي لم يصبر عليه مثل عمر بن الخطاب، وذلك يوم الحديبية، قال اللَّه سبحانه وتعالى يذكر نعمته عليهم بإنزالها أحوج ما كانوا إليها: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18] لمّا علم اللَّه سبحانه وتعالى ما في قلوبهم من القلق والاضطراب لمّا منعهم كفار قريش من دخول بيت اللَّه، وحبسوا الهدي عن محلِّه، واشترطوا عليهم تلك الشروط الجائرة الظالمة، فاضطربت قلوبهم وقلقت، ولم تُطِق الصبر؛ فعلم تعالى ما فيها، فثبتها بالسكينة رحمةً منه ورأفة ولطفًا، وهو اللطيف الخبير.

وثمرة هذه السكينة الطُّمَأْنينة للخبر تصديقًا وإيقانًا، وللأمر تسليمًا وإذعانًا، فلا تدع شبهة تعارض الخبر، ولا إرادة تعارض الأمر، فلا تمر معارضات السوء بالقلب إلا وهي مجتازة من مرور الوساوس الشيطانية التي يُبتلى بها العبد ليقوى إيمانه، ويعلو عند اللَّه ميزانه، بمدافعتها وردّها وعدم السكون إليها، فلا يظن المؤمن أنها لنقص درجته عند اللَّه تعالى.

ومنها السكينة عند القيام بوظائف العبودية، وهي التي تورث الخضوع والخشوع وغض الطرف وجمعية القلب على اللَّه تعالى، بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه، والخشوع نتيجة هذه السكينة وثمرتها، وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب.

عباد الله، وللسكينة أسباب؛ فسببها استيلاء مراقبة العبد لربه عز وجل حتى كأنه يراه، وكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء والسكينة والمحبة والخضوع والخشوع والخوف والرجاء ما لا يحصل بدونها، فالمراقبةُ أساسُ الأعمال القلبية كلها وعمودها الذي قيامها به، ولقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصول أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة، وهي قوله في الإحسان: ((أنْ تعبُدَ اللَّهَ كأنَّكَ تراه))[11]، فتأمل كل مقام من مقامات الدين وكل عمل من أعمال القلوب، كيف تجد هذا أصله ومنبعه؟

والمقصود أن العبد محتاج إلى السكينة عند الوساوس المعترضة في أصل الإيمان ليثبت قلبه ولا يَزيغ، وعند الوساوس والخَطَرات القادحة في أعمال الإيمان لئلا تقوى وتصير همومًا وغمومًا وإرادات ينقص بها إيمانه، وعند أسباب المخاوف على اختلافها ليثبت قلبه ويسكن جأشه، وعند أسباب الفرح لئلا يطمح به مركبُه، فيجاوز الحد الذي لا يعبر فينقلب تَرَحًا وحزنًا، وكم ممن أنعم اللَّه عليه بما يُفرحه فجمح به مركب الفرح وتجاوز الحد، فانقلب تَرَحًا عاجلًا، ولو أُعِين بسكينة تُعَدِّل فرحَه لأُريد به الخير، وعند هجوم الأسباب المؤلمة على اختلافها الظاهرة والباطنة، فما أحوجَه إلى السكينة حينئذٍ! وما أنفعها له وأجداها عليه وأحسن عاقبتها! والسكينة في هذه المواطن علامة على الظفر وحصول المحبوب، واندفاع المكروه، وفقدها علامة على ضد ذلك، لا يخطئ هذا، ولا هذا، واللَّه المستعان"[12]، وقال رحمه الله: "السكينة إذا نزلت على القلب اطمأنَّ بها، وسكنت إليها الجوارح وخشعت واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش واللغو والهُجْر وكل باطل"[13].

بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا -رحمني الله وإياكم- أن السكينة هي من السَّمْت الحسن الذي جاء وصفه بأنه جزء من النبوّة، فقد روى الترمذي رحمه الله في سننه[14] عن عبدالله بن سرجس المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((السَّمْتُ الْحَسَنُ، وَالتُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ، جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ))، والسَّمْتُ الحسن هو السيرة المرضية والطريقة المستحسنة، والتُّؤَدَة: التأني في جميع الأمور، والاقتصاد: التوسُّط في الأحوال، والتحرُّز عن طرفي الإفراط والتفريط.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ))؛ أي: من أجزائها، قال الخطابي: يريد أن هذه الخصال من شمائل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنها جزء من أجزاء فضائلهم، فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها، وليس معناها أن النبوة تتجزَّأ، ولا أن من جمع هذه الخِصال كان نبيًّا، فإن النبوة غير مكتسبة، وإنما هي كرامة يخصُّ اللهُ بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالته، ويحتمل أن يكون معناه أن هذه الخلال مما جاءت به النبوة ودعا إليها الأنبياء"[15].

هذا، ومن فروع السكينة يا عباد الله الطُّمَأْنينة، فالمؤمن بربِّه مطمئنُّ النفس، هادئ البال، رخيُّ الفؤاد، حنيف الوجه لربه عما يقلقل قلوب عبّاد الدنيا، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، وقال تعالى: ﴿ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 - 30]، قال ابن القيم رحمه الله: "الطُّمَأْنينة: سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه، ومنه الأثر المعروف: ((الصدق طُمَأْنينة، والكذب ريبة))[16]؛ أي: الصدق يطمئن إليه قلب السامع، ويجد عنده سكونًا إليه، والكذب يوجب له اضطرابًا وارتيابًا، ومنه قوله: ((البرُّ ما اطْمأنَّ إليه القلب))[17]؛ أي: سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه"[18].

اللهم صلِّ على محمد.

[1] البخاري (4106) واللفظ له، ومسلم (5/ 187).

[2] مدارج السالكين (2/ 502، 503)، وانظر: المستدرك على مجموع الفتاوى (1 / 183).

[3] القواعد النورانية الفقهية (1 / 42).

[4] كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه (22 / 565).

[5] البخاري 2/ 201 ( 1671 ) ، ومسلم 4/ 70 ( 1282 ) ( 268 ) والبر: الطاعة، والإيضاع: الإسراع.

[6] المستدرك على مجموع الفتاوى (3 / 146).

[7] مجموع الفتاوى (7 / 338).

[8] وأنت حين يضيق صدرك تجد نفسك تبادر بالإهلال بالتوحيد فتجأر بصوتك: "لا إله إلا الله"؛ فتسكن نفسك وتأمن وتطمئن.

[9] جامع المسائل لابن تيمية (6 / 122).

[10] البخاري (6125) ومسلم (1734)، وفي رواية عند مسلم (1732): ((بَشِّروا ولا تُنفِّروا، ويَسِّروا ولا تُعَسِّروا)).

[11] البخاري (٥٥)، ومسلم (٨).

[12] إعلام الموقعين (6 ‏/ 107/ 111) باختصار.

[13] مدارج السالكين (2 / 506).

[14] الترمذي (2010) وصححه الألباني.

[15] تحفة الأحوذي (6 / 127).

[16] الترمذي ( 2518 ) وقال: حديث حسن صحيح، عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبك؛ فإن الصدق طُمَأْنينة، والكذب ريبة))، وصححه الألباني.

[17] أحمد (18001) وضعَّفه محققوه.

[18] مدارج السالكين (2 / 512).







الساعة الآن : 05:42 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 40.09 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.95 كيلو بايت... تم توفير 0.14 كيلو بايت...بمعدل (0.34%)]