قراءة في قصائد "سبعون" لعدد من الشعراء
قراءة في قصائد "سبعون" لعدد من الشعراء د. محمد منير الجنباز كثر في العصر الحديث إذا ما بلغ الشاعر سن السبعين أن ينفح قراء الشعر قصيدة بهذه المناسبة، يجعل فيها جماع تجربته منذ أن قرض الشعر إلى هذه المرحلة العمرية التي يرى فيها أنه نضج مكتملاً شعراً وتجربة حياة، أو يبث فيها معاناته وأشجانه، وأنه آن له أن يترجل ويستريح من عناء السنين وما حمل خلالها من هموم الأدب ومساراته، أو ما تعانيه الأمة من مشكلات وما تلاقيه من سهام الأعداء وتحدياتهم التي لا تسكن مع الإشادة بماضيها وما كانت عليه من المجد والسؤدد وأمنيات العودة لهذا الماضي المشرق، ومن عدم فهم المجتمع أو بعض الأصدقاء لرسالته التي يتبناها. ذلك كان منهج أكثر من كتب قصيدة السبعين، ولن أكثر من النماذج فأمامي قصيدة الشيخ عبد العزيز الرفاعي، وقصيدة الدكتور غازي القصيبي -رحمهما الله- فالشيخ الرفاعي بتواضعه الجم لا يعد نفسه أنه قد أعطى للأدب شيئاً يُذكر، وخميسيته الذائعة الصيت تشهد بأنه قد أثرى بها ساحة الأدب والشعر المعاصر لأكثر من ثلث قرن وقصدها القاصي والداني فكانت شامة في جبين الرياض لا تدانيها أية ندوة أدبية أخرى معاصرة -إلا ما قيل عن ندوة الشيخ عبد المقصود خوجة- وفيها الحنين للأصحاب وقد فرقهم الزمن بين بعيد أو مغيب بالموت، يقول الشيخ الرفاعي في قصيدته «سبعون»: سبْعونَ يا صَحْبي، وجَلَّ مُصابُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولدى الشَّدائدِ تُعْرفُ الأصحابُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سبعونَ يا للهوْلِ أيَّةُ حقبةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif طالَتْ، ورَانَ على الرَّحيقِ الصَّابُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سبعونَ ظَنَّ أَحبَّتي أني بها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أُعْلي القِبابَ، وما هُناكَ قِبَابُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنا مَنْ بَنَيْتُ عَلى الخَيالِ قَوَاعِدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فتَصَدَّعَتْ وانْهارتِ الأطْنابُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إنِّي لدى التعريفِ رُبْعُ مثَقَّفٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif صَحِبَ الكتابَ فلَمْ يَخُنْهُ كِتابُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأما الدكتور غازي القصيبي فأنكر نفسه لما بلغ السبعين، لأنه شعر بالضعف بعد القوة، وبالهرم بعد الشباب، وبدنو الأجل.. ربما هذا الإحساس لمعاناته من المرض، فقال: ماذا تريدُ من السبعينَ.. يا رجلُ؟! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا أنتَ أنتَ.. ولا أيامك الأُولُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif جاءتك حاسرةَ الأنيابِ.. كالحَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كأنّما هي وجهٌ سَلَّه الأجلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أوّاه! سيدتي السبعونَ! معذرةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا التقينا ولم يعصفْ بيَ الجَذَلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قد كنتُ أحسبُ أنَّ الدربَ منقطعٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأنَّني قبلَ لقيانا سأرتحلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهكذا كان اليأس قد أخذ منه كل مأخذ متندماً على الشباب وعلى فقد الأصحاب لكنه كان ممتلئ النفس بالإيمان راضياً بقضاء الله ممتثلاً لمشيئته: تباركَ اللهُ! قد شاءتْ إرادتُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ليَ البقاءَ.. فهذا العبدُ ممتثلُ! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif واللهُ يعلمُ ما يلقى.. وفي يدِه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أودعتُ نفسي.. وفيه وحدَه الأملُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif |
رد: قراءة في قصائد "سبعون" لعدد من الشعراء
فهذا السبيل لكلا الشاعرين من استعجال الموت نهى عنه أهل العلم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي». ويختلف عن الشاعرين الرفاعي والقصيبي الدكتور وجيه البارودي شاعر حماة الذي كان له نهج آخر، فقد شعر أنه لما بلغ السبعين وهو صحيح معافى أنه بهذا قهر الزمن وتحداه بما امتلك من صحة ونشاط، فجاء في قصيدته التي ألقاها بهذه المناسبة: تقادم العهد لا يسري علي كما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يسري على الناس إني قاهر زمني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكان علماني المعتقد بعيداً عن فهم المنهج الإسلامي بأن الله تعالى قد حدد الأعمار؛ بل إنه تعالى قد حدد لكل جنس من مخلوقاته سنين من العمر لا يتعدونها إلا نادراً، وأن الإنسان إذا تجاوز الحوادث والأمراض القاتلة فإن الهرم أو الشيخوخة هي التي ستقضي عليه مع فارق مدتها بين شخص وآخر. بيد أن الدكتور وجيه البارودي الذي اشتهر بأنه طبيب الفقراء، حيث يداويهم دون مقابل مادي حتى في بيوتهم عندما تستدعي الحاجة حضوره، ولعل دعوة مخلصة من أحدهم أصابته فنزع عباءة العلمانية وتوجه في شتاء عمره للحج فأدى هذه الفريضة قبل أن يلقى ربه عن عمر ناهز التسعين عاماً. أما قصيدة «سبعون» للدكتور عبد العزيز خوجة فتختلف في مسارها عن النماذج التي قدمناها، فهي بوح نفسي وتفريغ لهموم أثقلت صاحبها ولجوء إلى من بيده العفو والصفح عما سلف من أخطاء -وابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون- ولا غرو في هذا البوح وقد نهج هذا المنهج عدد من الشعراء خصوصاً المتصوفة منهم كالبوصيري وابن الفارض والسهروردي وابن الخيمي.. وقد تكون القصيدة النموذج المصغر لرباعيات الخيام التي انتهت بالتوبة الصادقة ورجاء العفو من الخالق الحكيم. يمكن لنا أن نجد في قصيدة الدكتور خوجة المحاور التالية: • النفس الراضية بما قدر الله وكتبه مع طلب العفو والصفح عما سلف. إنّي لقيتُك يا سبعونَ مبتسماً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif راضٍ بما قد مضى راضٍ بما قُسَما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لم أَشْك من نَصَب قد مرّ بي حِقبا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وما بكيتُ على عُمرٍ قد انصرما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لم يبقَ لي غيرُ عفو الله أطْلبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ورحمةً منه أرجوها ومعتصَما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكلّ ما حلّ بي كربٌ على أُفُقي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أدعوه يُذهب عنّي الكربَ والسَّقما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif • مسيرة الحياة للإنسان لا تخلو من صواب وزلل، مع يقظة القلب في السبعين وطلب الصفح، وانكسار صبوته وخمود نار غرامه.. أوَاه كم حَمَلتْ سبعون من زللٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كم يرحمُ اللهُ مِنْ ذَنبٍ وإنْ عظما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ربّاه إني على الأبواب ملتجئٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مالي سواك تقبَّل عبدَك الهرِما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لم يبقَ في القلب لا ليلى ولا رغدٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أمّا روانٌ فما راعتْ لنا ذِمَما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif • اتهام النفس الأمارة بميلها بصاحبها إلى الهوى, والهروب من هذا الماضي المزري بصاحبه ونسيانه. إنّي سهَرتُ الليالي في الهوى أَثِماً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أصدّقُ الزيفَ وعداً كان أو قَسَما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أكلّما قلتُ أَنسى صِرتُ أذكرهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وصاح شوقٌ قديمٌ فزّ واضطرما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كأنه في خلايا القلب مسكنُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أهواهُ إنْ عدلا، أهواهُ إن ظَلَما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكلّما طاب جرْحٌ نزّ إخوتُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وثار جَرح جديدٌ غار ما الْتَأما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif |
رد: قراءة في قصائد "سبعون" لعدد من الشعراء
• الاغترار بالعلم ولوم النفس على هذا المسلك، فالسير وراء السراب جهل. قد كنتُ، كم كنتُ مغروراً بمعرفتي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حتى حَسِبت بأنّي أبلغُ القِمما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما كنتُ أعلم أن الدربَ خادعةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حتى إذا أومأتْ سِرنا لها قُدُما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن الذي خلتُه في القفر ملتجأً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كان السرابَ وكان الجَدبَ والعَدما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif • مزالق الهوى وسجل الحياة المخيف الذي كدرته الشوائب مدون في سجل الله. يا حاديَ الوهم كم زلّت بنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكنت أحسب أني أَبلغُ السُّدُما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سبعون مرّتْ بما فيها كثانيةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أوراقُها سقطتْ والغصنُ ما سَلِما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لكنّها في سجلِّ الله قد كُتبتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أَحصى دقائقَها ما جدّ أو قَدُما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لكن شاعرنا نسي أن الحسنات يذهبن السيئات (يمح الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)، فالتوبة النصوح تجب ما سبق من وزر خلا أوزار أكل المال وسفك الدم. • الخوف والرجاء بالندم عما سلف باللجوء إلى الله طالباً العفو والصفح منه. إنّي أتيتك يا ربّاه من ظُلَمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أرجو بنورك أن تُجلي ليَ الظُلما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إنّي اعترفت فهبْ لي منك مغفرةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنت الحليمُ على من ضلَّ أو أَثِما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أرجو مِنْ الله يمحو كلّ معصية https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويقبلُ الله عبداً تاب أو نَدِما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثم الصلاة على الهادي وعُتْرته https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والآلِ والصّحب من أهْدوا لنا القِيمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif الالتجاء إلى الله بنفس منكسرة تبدي التوبة والندم في ذل وخضوع لله تقرب التائب من ربه وتغسل أدران المعصية، فما أروع النفس التي تؤوب إلى الخالق وتنضوي تحت جناح الرحمة راجية مستغفرة، والله هو الغفور الرحيم لا يرد عبداً قصده، ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ أرى أن هذه القصيدة تحمل رسالة لكل مسلم في مراجعة النفس والتوجه إلى الله بالتوبة والعمل الصالح، فالأمور بخواتيمها، وقد جاءت من رجل كبير في منصبه ندي في شعره وما منعه هذا من ذرف دموع التوبة والانكسار أمام خالقه وبارئه ليعلن أنه الفارّ إلى الله الهاجر للذنوب الراجي عفو ربه.. ويبقى أن القصيدة أدبية رائعة، انسيابية سلسة بأسلوب سهل ومن شاعر متمكن. |
الساعة الآن : 04:15 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour