ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=91)
-   -   شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=267600)

ابوالوليد المسلم 05-11-2021 10:18 AM

شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (1)




الشيخ.محمد الحمود النجدي




إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد[، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فلا يخفى على الجميع ما من الله سبحانه وتعالى به على هذه الأمة المباركة من اليقظة والصحوة بعد الغفلة، والتوجه نحو دين الله سبحانه وتعالى من الذكور والإناث، وهي يقظة شاملة - بحمد الله سبحانه وفضله -كل البلاد العربية والإسلامية على اختلافها وتباعدها، وتنوع أجناسها ولغاتها.

ولاشك أن هذه اليقظة والرجوع إلى الدين، تحتاج إلى الضوابط والقواعد الشرعية، التي تجعل من هذا الرجوع، ومن هذه اليقظة: يقظة صحيحة أولا, ونافعة ثانيا, ومباركة ثالثا, ومؤيدة بنصر الله سبحانه وتعالى رابعا, وإذا فقدت الصحوة أو فقدت اليقظة الإسلامية بتعبير أصح وأدق، الضوابط التي تضبط لها منهجها وطريقها ورجوعها إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإنها ستخسر جهدها ووقتها، وتخسر أبناءها، وتضيع سدى.

ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري.

ومن خلال شرحنا لهذا الكتاب (1) ، الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا به جميعا، سنتعرف على كثير من الضوابط التي تضبط لنا رجوعنا إلى الله تعالى، وتضبط لنا منهجنا، وتبين لنا الطريق الذي يجب أن يسلكه المسلم عموما، والداعية خصوصا في رجوعه إلى الله تعالى، وفي سعيه لإرجاع أمته إلى الله سبحانه وتعالى وإلى دينها الحق, والله سبحانه وتعالى، إنما كتب التأييد والنصر لعباده المؤمنين العالمين العاملين، وأما دون ذلك فلا يكون الإنسان مؤيدا من عند الله عز وجل، وإن تحقق على يده بعض النصر المؤقت أو بعض المصالح، فإن مجرد وجود المنفعة والمصلحة، لا يجعل الأمر مشروعا أو جائزا، كما هو معلوم.

وقد اخترنا كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث.

1 – وقد شرح هذا الكتاب في الدورة العلمية التي أقيمت بجمعية إحياء التراث الإسلامي فرع ضاحية صباح الناصر سنة 1427 هـ، والإمام الحافظ - بل جبل الحفظ - كما يصفه الحافظ ابن حجر في التقريب، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، الذي وفقه الله عز وجل وأعانه، لوضع أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، وهو "صحيحه" المعروف باسمه، فذكر فيه أصح ما ثبت لديه من الأحاديث النبوية والسنن، ومعها فقهه الواسع، وعلمه الغزير بالأحاديث، والذي بثه في تراجمها ، كما هو معلوم من طريقته في كتابه عند أهل الحديث.

وهذا الكتاب - أعني صحيح البخاري- قد انبرى لشرحه كثير من الأئمة والحفاظ، من أشهرهم وأوسعهم كتاب الإمام الحافظ أحمد بن على بن حجر العسقلاني، الذي يوصف بأنه خاتمة الحفاظ، وهو صاحب الشرح المشهور: بفتح الباري، حتى قال الإمام الشوكاني في مدح كتابة: "لا هجرة بعد الفتح" لعظمة هذا الكتاب وسعته وبيانه, وسماه بعض المعاصرين: بقاموس السنة، لما فيه من جمع للأحاديث النبوية واستقصاء طرقها وأسانيدها؛ فإن الإمام الحافظ ابن حجر شرح هذا الكتاب في ستة عشر سنة، وحشد فيه الطرق والأحاديث من السنن والمسانيد والمعاجم والأجزاء الحديثية وغيرها، مما لا تجد له مثيلا.

وقد اختصر كتاب الحافظ ابن حجر (الفتح) حافظ الهند وعلامته: صديق حسن خان في كتابه "عون الباري", وذلك في خمسة مجلدات كبار.

كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة:

بدأ الإمام البخاري رحمه الله "كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة" بخمسة أحاديث, ومن عادته أن يكتب البسملة في أول الكتاب, فإن كتابه مقسم على كتب، والكتب مقسمة على أبواب , والبسملة -كما هو معلوم - يؤتى بها تبركا وتيمنا، وتشبها بكتاب الله سبحانه وتعالى، الذي يبدأ فيه القارئ بالبسملة.

والاعتصام طلب لعصمة، وهي مأخوذة من قول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (آل عمران: 103) الآية، فقال أهل العلم: إن الإمام البخاري قد انتزع هذه التسمية في هذا الكتاب من الآية الكريمة.

والكتاب: هو القرآن, هذا هو العرف الشرعي، وهو المنزل على محمد[ بواسطة جبريل عليه السلام، والمتعبد بتلاوته.

والسنة في اللغة: هي الطريقة والهدي.

وأما في الشرع فهي: ما جاء عن النبي[ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلْقية أو خُلقية، هذا عند الأصوليين والمحدثين.

وأما عند الفقهاء؛ فإنهم يريدون بالسنة ما يوافق المستحب، ويرادف كلمة المستحب والمندوب، فيقولون: هذا العمل سنة, وهذا واجب.

والاعتصام بالكتاب والسنة يعني: الالتجاء إليهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد عصم كتابه عن الخطأ والزلل، كما قال الله سبحانه وتعالى عنه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42). قال الإمام ابن بطال - وهو من فقهاء المالكية: "لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو في سنة رسول الله[، أو في إجماع العلماء على معنى أحدهما".

يعني: لا عصمة لأحد بعد رسول الله[، إلا في كتاب الله أو في سنة رسوله[؛ فالكتاب معصوم عن الخطأ والزلل, والسنة كذلك معصومة؛ لأنها وحي من عند الله كالقرآن، فالرسول[ لا يتكلم من عند نفسه، بل كما قال الله عز وجل مزكيا منطقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4-3).

وقوله: "أو في إجماع العلماء على معنى أحدهما" أي: إذا أجمع العلماء وأولهم صحابة رسول الله[ على معنى آية أو على معنى حديث، فإن هذا الإجماع معصوم عن الزلل والخطأ، لقول الرسول[: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة». وفي لفظ: «أبى الله أن يجمع الأمة على ضلالة». رواه الترمذي وابن أبي عاصم في السنة والطبراني وغيرهم، من عدة طرق يقوي بعضها بعضا.

وبهذا نعلم أن الأمة ليست بحاجة إلى أفراد معصومين! كما ادعت الإمامية في أئمتها أنهم معصومون عن الخطأ! وأنه لا يصح أن يكون الإمام العام إلا معصوما! ولا يكون القائد إلا معصوما!

فالأمة لا تحتاج إلى إمام معصوم ؛ لأن عندها كتاب الله تعالى وسنة رسوله وهما محفوظان ومعصومان عن الخطأ، وبهما يعرف الخطأ من الصواب, وهما الميزان اللذان توزن بهما الأعمال والأحوال، والرجال والطوائف، فإذا أردت أن تعرف هل هذا العمل صحيح أو خطأ؟ حق أو باطل؟ فاعرضه على الكتاب أو على السنة أو على عمل السلف على معنى آية أو حديث، تعرف حاله .

وقول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ } (آل عمران: 103) جاء بعد قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران 102 - 103 ) فالله تعالى قد أمر بالتقوى - حق التقوى - في الآية التي قبلها, وهي كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.

ثم بين الطريق إلى التقوى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } (آل عمران: 103), إذن، إذا أردنا أن نتقي الله عز وجل حق التقوى؛ فعلينا أن نعتصم بحبل الله، وحبل الله، قال المفسرون هو: كتاب الله, وقال آخرون: هو الإسلام, ولا تضاد بين المعنيين؛ لأن الإسلام كتابه القرآن والسنة.

وتأمل كيف أن الله سبحانه وتعالى سمى كتابه "حبلا" لأن الحبل في الأصل ما يصل بين الشيئين, فكتاب الله عز وجل واصل بين الله وبين عباده, والحبل كذلك ما يصل به الإنسان إلى الأماكن العالية, إذا أراد أن يرتقي أخذ بالحبل وصعد, فمن أخذ بالقرآن ارتفعت منزلته، وعلا قدره عند الخلق، وحصلت له الرفعة في الدنيا والآخرة كما قال[: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين"(صحيح مسلم).

وأيضا الحبل يحصل به النجاة، فإذا سقط إنسان في حفرة أو في بئر دلينا له بحبل فأنقذناه به من الهلكة, فكذلك الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة من الهلكة، وهذه استعارة بديعة كما قال العلماء، تدل على هذه المعاني العظيمة الجليلة.

وأورد بعد ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى في الباب الأول خمسة أحاديث، نبدأ بأولها إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة.

والله تعالى أعلى وأعلم، ومنه نستمد العون في القول والعمل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين.


ابوالوليد المسلم 05-11-2021 10:40 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (2)


الشيخ.محمد الحمود النجدي




إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.

ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
وها نحن أولاء نبدأ في هذه الحلقة بشرح الأحاديث من هذا الكتاب:









- الحديث الأول: قال البخاري رحمه الله تعالى:

7268- حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان, عن مسعر وغيره, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين , لو أن علينا نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3) لاتخذنا ذلك اليوم عيدا , فقال عمر: إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية, نزلت يوم عرفة, في يوم جمعة». سمع سفيان من مسعر, ومسعر قيسا, وقيسا طارقا، طرفه في 45.
الشرح:
الحديث الأول: رواه البخاري عن شيخه الحميدي، وهو عبد الله بن الزبير الحميدي, عن سفيان وهو ابن عيينة الهلالي, عن مسعر وهو ابن كدام الهلالي, عن قيس وهو ابن مسلم الكوفي، عن طارق ابن شهاب البجلي وهو صحابي على الصحيح، قال: "قال رجل من اليهود لعمر", جاء في رواية البخاري في كتاب الإيمان أنه: "قالت اليهود", وفي رواية للإمام الطبري والطبراني أن القائل هو: كعب الأحبار، ولعل اليهود كلفوه بأن يسأل عمر.
«قال رجل من اليهود لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين, لو أن علينا نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3), لاتخذنا ذلك اليوم عيدا».
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}( المائدة : 3) , ظاهر هذه الآية يدل على أن الدين كملت أحكامه وتشريعاته، وحلاله وحرامه عند نزول هذه الآية, وهذه الآية كما قال أهل العلم نزلت على النبي [ قبل موته بثمانين يوما, وقد جزم السدي بأنه لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام، قال الحافظ: وفي ذلك نظر, وقال: قد ذهب جماعة إلى أن المراد بالإكمال: إكمال أصول الأركان، لا ما يتفرع عنها.
يعني: قد أكمل الله عز وجل لهذه الأمة أركان دينها ومعالم شريعتها بهذه الآية، أما الفروع التي هي دون الأصول والأركان فيمكن أن تزاد, وعلى كل حال فإن الجميع مجمعون على اكتمال الدين قبل وفاة الرسول [.
فالرسول [ لم يمت إلا بعد أن أكمل للأمة دينها، ووضح لها معالم شرعها, ولم يكتم [ من ذلك شيئا كما أمره الله عز وجل: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) , فلم يكتم عليه الصلاة والسلام شيئا من الوحي، بل بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه, فصلوات الله وسلامه عليه.
والرسول [ قد أنزل الله إليه القرآن ليبين للناس كما قال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل: 44) فربما وضح إليهم ما كان مجملا في كتاب الله، وفسر لهم ما كان غامضا في وقته عليه الصلاة والسلام, وبعده عليه الصلاة والسلام يُرجع في تفسير هذه المجملات إلى العلماء؛ كما قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83).
فقائل هذه الكلمة يعلم قيمة هذه الآية، ولهذا قال:"لاتخذنا ذلك اليوم عيدا" أي: نفرح فيه بإكمال الدين وإتمامه.
والعيد: مأخوذ من العود، وهو ما يعود في كل عام أو في كل زمان, فسمي العيد عيدا من العود, والعيد كما قال أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه:" اقتضاء الصراط المستقيم": العيد شريعة، ولا شريعة إلا ما شرعها الله"، وبهذا نعلم أن التوسع في إحداث الأعياد مخالف الشرع, والرسول [ لما جاء إلى المدينة، كان للناس يومان يلعبون فيهما؛ فقال [ : "إن الله أبدلكم بهما خيرا منهما، يومي الفطر والأضحى".
فألغى النبي [ ونسخ أعياد الجاهلية، وأثبت أعياد الإسلام, فاليومان اللذان كانا يلعبون فيهما نُسخا وألغيا، وأُثبت مكانهما يوما الفطر والأضحى.
وهناك عيد ثالث وهو يوم الجمعة المتكرر، فإن يوم الجمعة أفضل الأيام عند الله عز وجل؛ كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة؛ ولذلك اعتبره العلماء من الأعياد الأسبوعية المتكررة، ولأمر النبي [ فيه المسلم بالاغتسال في هذا اليوم العظيم، والتطيب والسواك، ولبس النظيف من الملابس, هذا كله يدل على أنه عيد في كل أسبوع للمسلمين, والآية السابقة نزلت في يوم جمعة، كما قال عمر: "إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية, نزلت يوم عرفة في يوم جمعة".
وفي رواية قال رضي الله عنه: «إني لأعلم أين نزلت هذه الآية، ومتى نزلت، أو حين نزلت». أي أعلم الزمان والمكان.
وفي رواية عند مسدد: "نزلت يوم جمعة, يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله عيد"، فهذه الآية قد نزلت يوم عيد للمسلمين, وذلك لأنها نزلت يوم جمعة, ويوم الجمعة هو عيد للمسلمين كما سبق, كما أنها في الزمان يوم عرفة, وعرفة ليلة العيد ويصح أن يقال: عرفة عيد.
فهذه الآية إذاً وافق نزولها يوم عيد للمسلمين، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة، أن الله تبارك وتعالى أنزل عليها هذه الآية في يوم عرفة ووافق الجمعة، فاجتمع فيه فضلان: فضل عرفة الذي صيامه يكفّر سنتين: ماضية ومستقبلة, ويوم جمعة الذي هو سيد الأيام وأفضلها عند الله تبارك وتعالى.
ويشيع عند العامة حديث: أن يوم عرفة إذا وافق الجمعة كان عن سبعين حجة! وهذا حديث ذكره رزين في زياداته على الموطأ، ولا أصل له في كتب السنة، ولا يعرف مخرجه ولا صحابيه، كما قال الحفاظ كالحافظ ابن حجر وغيره.
ولكن لا شك أن يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة كان فضلا على فضل، وربما يقال «سبعون» من باب المبالغة؛ كما قال الله وتعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: 80) على وجه المبالغة، أما أن من حج ووافق الجمعة عرفة، يكون ذلك عن سبعين حجة فى الأجر المعدود، فلا يثبت هذا, لكن لا شك أنه أفضل من غيره من الحجج.
قول البخاري رحمه الله: "سمع سفيان مسعر ومسعر قيسا وقيسا طارقا", هذا من باب إثبات السماع، وأن هذا الحديث متصل بالسماع, سفيان هو ابن عيينة سمع من مسعر، ومسعر سمع من قيس، وقيس سمع من طارق بن شهاب.
- الحديث الثاني:
7269- حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث, عن عقيل, عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك: أنه سمع عمر, الغد حين بايع المسلمون أبا بكر, واستوى على منبر رسول الله [ , تشهد قبل أبي بكر فقال: أما بعد, فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم, وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم, فخذوا به تهتدوا, وإنما هدى الله به رسوله"، طرفه في : 7219.
الشرح: الحديث رواه البخاري عن شيخه يحيى بن بكير وهو ابن عبدالله القرشي المصري الحافظ، عن الليث وهو ابن سعد الفهمي قاضي مصر في وقته ومحدثها وعالمها، وله مذهب لكنه انقرض تقريبا إلا ما في الكتب, حتى قال بعض أهل العلم: إن الليث أعلم من مالك، ولكن مالك قام به أصحابه والليث لم يقوموا به. وعقيل الذي يروي عنه هو ابن خالد, وعامة الرجال الذين بهذا الاسم بفتح العين "عَقيل" إلا الراوي عن الزهري فإنه بالضم "عُقيل" بن خالد. عن ابن شهاب وهو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري الإمام التابعي الجليل، وهو فيما ذكر أهل العلم أول من دون السنة بأمر من عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه, وعيب عليه دخوله على السلاطين, ولكنه كان قوّالا بالحق، يدخل عليهم فيعظهم ويذكرهم بالله، ولم يكن ممن استمالتهم الدنيا.
قال: أخبرني أنس بن مالك، وهو الصحابي الجليل خادم رسول الله [، وممن روى عن النبي [ فوق الألف من الأحاديث, والذين رووا فوق الألف من الحديث عن النبي [ سبعة من الصحابة، منهم أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
قوله: "أنه سمع عمر الغد حين بايع المسلمون أبا بكر واستوى على منبر رسول الله [، تشهد قبل أبي بكر فقال أما بعد: فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدي الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا, وإنما هدى الله به رسوله "وفي بعض النسخ" لما هدى الله به رسوله".
فأنس بن مالك رضي الله عنه يروي قصة مبايعة المسلمين لخليفة رسول الله [ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان خليفته [ في صلاته، فأم المسلمين في حياته [ بأمره، وقد رضيه الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم لدنياهم إذ رضيه رسول الله [ لدينهم، فالرسول [ رضي أبا بكر لدين المسلمين، فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" رواه البخاري؛ ولذا رضيه المسلمون والصحابة لإدارة شؤون دنياهم.
وقد قال السلف رحمهم الله: من قدّم عليا على أبي بكر، فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يعني: قد طعن في اختيار المهاجرين والأنصار، وانتقصهم واحتقرهم؛ لأن المهاجرين والأنصار هم الذين اختاروا أبا بكر, فمن قدم عليا على أبي بكر, أو قدم عثمان على أبي بكر, أو قدم عمر على أبي بكر, فقد أزرى وطعن واستخف بعقول المهاجرين والأنصار - والعياذ بالله - وهذا لا يرضاه مسلم لنفسه؛ لأن الله سبحانه قد أثنى على الصحابة من المهاجرين والأنصار، وأخبر أنه تعالى رضي عنهم وعمن تبعهم بإحسان، ورضوا عنه.
فمن تبع المهاجرين والأنصار فقد رضي الله عنه، ومن لم يتبعهم فقد سخط الله عز وجل عليه, لا شك في هذا، وهذه قاعدة مهمة في اتباع سلف الأمة.
قوله: "فلما بايع المسلمون أبا بكر واستوى على منبر رسول الله [ تشهد قبل أبي بكر, تشهد عمر وخطب قبل أن يخطب أبو بكر فقال عمر رضي الله عنه في خطبته: "أما بعد: فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم" يعني: أن الله عز وجل قد قبض نبيكم واختار له ما عنده جل وعلا في الرفيق الأعلى، على الذي عندكم في الحياة الدنيا.
"وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا، وإنما هدى الله به رسوله", أو "فخذوا به تهتدوا لما هدى الله به رسوله" وهذا تقرير من عمر رضي الله عنه وأرضاه أن موت النبي [ وإن كان مصيبة عظيمة حلت بالمسلمين، إلا أن الله تبارك وتعالى قد أبقى في أمته الكتاب العظيم الذي اهتدى به نبيها عليه الصلاة والسلام، فنحن وإن فقدنا رسول الله [ من بين أظهرنا، لكن كتابه لا يزال موجودا بيننا، وسنته عليه الصلاة والسلام لا تزال محفوظة, بل هما جميعا محفوظان إلى قيام الساعة؛ فلا يضر الإنسان موت النبي [ الضرر البالغ الذي يؤدي به إلى الضلال؛ لأن الكتاب محفوظ والسنة محفوظة, وقد قال الله سبحانه وتعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3), وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ( النساء: 80)، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، فكتاب الله سبحانه وتعالى الاعتصام به فلاح ونجاة.
وهذا حث من عمر على الاعتصام بالكتاب؛ لأنه يقول لهم: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات، ولكن الكتاب الذي هدى الله به رسوله بين أظهركم؛ فلا تخافوا من الضلالة، والله سبحانه وتعالى قد اختار لرسوله ما عنده على الذي عندكم، وهو سبحانه رؤوف رحيم بكم أيضا؛ لأنه لم يرفع الكتاب من بين أظهركم بعد وفاة نبيكم، بل هو لا يزال بين أظهركم تستطيعون الاهتداء به، وإذا أردتم الهداية لما هدى الله به رسوله.

هذا ملخص كلام عمر رضي الله عنه، وهي كلمات قليلة، لكنها وصية عظيمة بكتاب الله سبحانه وتعالى، وأن التمسك به سبب يحصل به المقصود من الهداية، والعصمة من الزيغ والضلال.
نسأله تعالى أن يعلمنا من كتابه ما جهلنا، ويذكرنا منه ما نسينا، إنه سميع الدعاء.








ابوالوليد المسلم 08-11-2021 04:28 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شــــرح كتـــــــــاب "الاعتصـــــام بالكتــــاب والســــنة" مــــن صحيــــح الإمام البـــخاري (3)




الشيخ.محمد الحمود النجدي






إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.



ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.



ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.







الحديث الثالث:



7270 - قال: حدثنا موسى بن إسماعيل. قال: حدثنا وهيب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني إليه النبي [ وقال: "اللهم علمه الكتاب" (طرفه في: 75).



الشرح:



الحديث الثالث رواه البخاري رحمه الله من طريق شيخه موسى بن إسماعيل التبوذكي الثقة الثبت، قال: حدثنا وهيب وهو ابن الورد القرشي، قال عن خالد وهو ابن مهران الحذاء، عن عكرمة مولى ابن عباس، ويكنى بأبي عبد الله وأصله من البربر من أهل المغرب، وكان ممن حفظ عن ابن عباس علما جما، ورجع إليه أهل العلم في معرفة الرواية عن ترجمان القرآن ابن عباس.



قال: عن ابن عباس قال: ضمني إليه النبي[ وقال: "اللهم علمه الكتاب".



سبب هذا الحديث: أن الرسول [ دخل الخلاء يوما، قال ابن عباس: فوضعت له وَضوءا، والوَضوء بفتح الواو: ماء الوضوء الذي يتطهر به، فلما خرج قال: "من وضع هذا؟" فأخبر [ أن الذي وضعه ابن عباس؛ فضمه[ وقال: "اللهم علمه الكتاب" وفي رواية "اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين".



هذا الحديث فيه دعاء النبي[ لابن عمه ابن عباس رضي الله عنه، دعا له بشيء عظيم، لم يدع له بالدنيا، وإنما دعا له بما تحصل له به النجاة في الدنيا والآخرة، ألا وهو تعلم الكتاب، والكتاب كما قلنا في عرف الشرع يعني: القرآن الكريم، فقال: "اللهم علمه الكتاب", ومعناه: فقّهه في كتاب الله وفهّمه، وألهمه حفظه، وفقهه في الدين والشريعة.



وهي دعوة عظيمة من رسول الله [، وقد تحققت هذه الدعوة له، فمن علم حال ابن عباس رضي الله عنهما في التفسير، ومعرفة الشريعة وأحكام الدين علم ذلك؛ فقد فاق ابن عباس على صغر سنه كثيرا من الصحابة في العلم ومعرفة كتاب الله، حتى إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يدخله مع الصحابة الكبار من أهل الشورى من البدريين وغيرهم؛ لما يعلم من علمه وفقهه، ولما احتجوا عليه: كيف تدخل معنا ابن عباس وتجلسه في مجلسنا، ومجلس مشاورتنا، وعندنا أبناء مثله؟! فسكت عمر ودعاه يوما، يقول ابن عباس: ما دعاني إلا ليعرفوا منزلتي، فسألهم رضي الله عنه: ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (النصر1-3)؟



فقال بعضهم: أمره الله سبحانه وتعالى إذا جاءه النصر والفتح أن يستغفر الله عز وجل ويتوب إليه، وقال بعضهم: الله أعلم بمرادها، ثم التفت إلى ابن عباس وقال: ما تقول فيها يابن عباس ؟ قال: هو أجل رسول الله [ أعلمه إياه. فقال عمر: والله لا أعلم منها إلا ما قلت.



فعلموا منزلته من ذلك اليوم وأنه غلام معلَّم مُلهم، وأن الله تعالى قد فهّمه الكتاب.



وقد سئل ابن عباس: بم أوتيت هذا العلم الجم؟ فقال: بقلب عقول، ولسان سؤول.



فكان رضي الله عنه قد فرّغ قلبه لطلب العلم، وهذا أمر ضروري لطالب العلم؛ لأن الإنسان صاحب القلب المشغول لا يمكن أن يطلب العلم كما ينبغي؛ فلا بد من تفريغ القلب من الشواغل والصوارف، وجعل العلم هو المقصد الأول، ولا شك أن الإنسان تمر به ظروف وأحوال أحيانا تلهيه أو تصده عن طلب العلم، ولكن متى وجد فرصة، فرغ قلبه لطلب العلم، وانكّب على القراءة وعلى السماع بقدر استطاعته.



وكذلك السؤال عما ينزل به مما لا يعرفه، أو لا يعرف حكمه، فهذا أمر ضروري ومطلوب، والحياء المانع من السؤال يفوّت على الإنسان علما كثيرا، والكبر أيضا مانع من السؤال، وهو كذلك يفوّت على الإنسان علما كثيرا.





الحديث الرابع:



7271 – قال: حدثنا عبد الله بن صباح قال: حدثنا معتمر قال: سمعت عوفا: أن أبا المنهال حدثه: أنه سمع أبا برزة قال: "إن الله يغنيكم - أو: نعشكم - بالإسلام، وبمحمد[". (طرفه في: 7112).



الشرح:



يقول البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن صباح وهو الهاشمي العطار، حدثنا معتمر وهو ابن سليمان البصري أبو محمد، قال: سمعت عوفا وهو ابن مالك بن نضلة الجشمي، ثقة، مشهور بأبي الأحوص، أن أبا المنهال حدثه وهو سيار بن سلامة الرياحي، ثقة، أنه سمع أبا برزة وهو الأسلمي صحابي من صحابة رسول الله[ واسمه نضلة بن عبيد، قال: "إن الله يغنيكم بالإسلام وبمحمد["، وفي لفظ: "إن الله نعشكم بالإسلام وبمحمد[". قال أبو عبد الله - وهو البخاري نفسه؛ فإذا وجدت في صحيح البخاري: "قال أبو عبد الله"، فاعلم أنه المؤلف والمصنف للصحيح وهو الإمام البخاري-: ووقع هاهنا: "يغنيكم" وإنما هو نعشكم، قال: ينظر في أصل كتاب الاعتصام. كأن البخاري رحمه الله كان له كتاب كبير اسمه "الاعتصام بالكتاب والسنة" انتقى منه ما كتبه في الصحيح، مثل ما فعله في "الأدب المفرد"، فـ"الأدب المفرد" كتاب واسع انتقى منه ما وضعه في كتاب الأدب من صحيحه؛ ولذلك لما حصل الشك في هذه اللفظة قال البخاري: يراجع الأصل. فربما كان في سفر ليس معه أصوله، فقال: يراجع الأصل؛ حتى يعلم الكلمة الصحيحة فيصلح منه.



أما الحديث: فأبو برزة الأسلمي رضي الله عنه قال هذه الكلمة، في وقت كان فيه اضطراب في الأمة الإسلامية، وذلك وقت أن بويع لابن الزبير رضي الله عنه بالخلافة في الحجاز، وحصلت فتنة القراء بالبصرة، وحصل ما حصل بين علي رضي الله عنه وأهل الشام، فجاءه بعض الناس يسألونه ويأخذون رأيه، فقالوا له: ألا ترى ما وقع فيه الناس! فقال رضي الله عنه وأرضاه - وهذه الرواية ذكرها البخاري في الفتن-: "إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش" يعني: قد أبغضت ما وقعوا فيه من الاختلاف وترك الاتفاق؛ فابن الزبير اختلف مع أهل الشام، وأهل الشام اختلفوا مع أهل الحجاز، وهذا خلاف ما أمر الله به؛ وذلك لأن الله سبحانه أمرنا بالتقوى ثم دلنا على الطريق فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، فإذا أردنا طريق التقوى فعلينا بالاعتصام بالقرآن والسنة، وترك التفرق؛ لأن ترك الاعتصام، والتفرق والاختلاف، سبب لضياع التقوى! فسبحان الله!



ثم قال: "إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة" أي: هذا ما كان عليه العرب قبل الإسلام، كانوا على قلة وذلة وضلالة وعماية! كانوا مستضعفين لا رأي لهم، ولا وزن لهم بين الأمم.



ثم قال: "وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد[، حتى بلغ بكم ما ترون" فقال في هذه الرواية: وإن الله أنقذكم بالإسلام.



وفي رواية كتاب الاعتصام هنا: "إن الله نعشكم أو يغنيكم"، وهي كلها متقاربة، ومفادها: أن الله سبحانه وتعالى أنقذ العرب بالإسلام وبرسالة محمد [، فأخرجهم به من الضلالة إلى الهداية، ومن الشر إلى الخير، ومن القلة والذلة، إلى الكثرة والعزة.




ثم قال رضي الله عنه: "وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم.." إلخ كلامه رحمه الله، فبين أن الدنيا أفسدت بين الناس، وأوقعت أحيانا الاختلاف والتفرق، والتحاسد والتباغض والتدابر، وهي أمراض حذر منها المصطفى[.



فالشاهد في هذا الحديث: أن أبا برزة ذكّر الناس بأن الله تبارك وتعالى قد أنقذهم من الذلة والقلة والضلالة بالإسلام وبالقرآن وبمحمد[؛ فلا طريق لنا نحن أيضا إلى الانتعاش مرة أخرى، ولا طريق لنا إلى القوة والرفعة والمجد، إلا بما ذكره الله تعالى مما سبق ذكره في كتابه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)؛ فعلينا التمسك بالكتاب والتمسك بالسنة وبفهم الصحابة لهما, فهذا أمر مهم وضروري، وسيتكرر التنبيه عليه.










ابوالوليد المسلم 10-11-2021 09:33 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شــــرح كتـــــــــاب "الاعتصـــــام بالكتــــاب والســــنة" مــــن صحيــــح الإمام البـــخاري (5)


الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.









ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.









ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.









• الحديث الثاني من الباب الأول:



7274- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثنا الليث، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي [ قال: " ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآياتِ مَا مِثلُهُ أومن، أو آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحياً أوحاهُ الله إلي، فأرجو أني أكثرهُم تابعا يومَ القيامةِ ".

(طرفه في: 4981).







الشرح:



بدأ الحديث الثاني في هذا الباب وهو أيضا من مسند أبي هريرة بقول البخاري - رحمه الله-: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثنا الليث، وهو ابن سعد الفهمي المصري: قال: عن سعيد، وهو ابن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، واسمه كيسان المدني ثقة ثبت، وهو من المكثرين في الرواية عن أبي هريرة، كما مر معنا.







عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي[ قال: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله أومن أو آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة".









قوله: "ما من الأنبياء نبي" هذه صيغة تفيد العموم، أي: كل الأنبياء قد أعطاهم الله تعالى من الآيات، وهي المعجزات ما يؤمن عليها البشر، فكل نبي آتاه الله آيات، والآية هي: اسم للأمر المعجز الذي يتحدى به النبي قومه ولا يستطيعون معارضته، وكثير من العلماء يسميها المعجزات، والأصوب تسميتها بالآيات، أولا: لأن الله تعالى سماها كذلك في كتابه؛ فهي لفظ القرآن كما في قوله: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً} (هود: 64) وغيرها.









ثانيا: أن الأمر الجميل، العجيب، الغريب، المعجز، يسمى في اللغة آية، وهذا أقرب لوصف معجزات الأنبياء.









والأنبياء تعددت آياتهم بحسب ظروفهم وأزمانهم وأقوامهم، فتحدى الله تعالى كل قوم من جنس ما يحسنون ويتقنون، فالسحر انتشر في عهد موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكانت آية موسى من جنس ما يحسنه قومه، وإن كانت هي ليست سحرا، وعيسى ابن مريم انتشر في عهده علم الطب والتداوي، فتحداهم الله عز وجل بأشياء عجز الطب عن مداواتها، كالبرص والعمى بل الكَمَه، والأكمه هو من يولد أعمى، ثم زاد في التحدي بأن أحيا لهم الموتى، وهذا لا يمكن أن يفعله الأطباء أبدا مهما أوتوا من علم وقوة، وفي زمن النبي [ برع العرب في الفصاحة والبلاغة والبيان والشعر والنثر والخطابة، فكانت آية النبي [ من جنس ما يتعاطاه قومه من فنون اللغة والشعر والأدب، وإن كان القرآن ليس شعرا ولا نثرا.



قوله: "ما مثله أومن"، وهي الراوية الأولى، من الأمن، يعني ما يأمن به الإنسان، فإذا رأى الناس آية النبي من الأنبياء، حصل لهم نوع من الأمان أنه صادق فيما يقول.

والرواية الثانية: " ما مثله آمن: من الإيمان، يعني ما يحصل به الإيمان.

قوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ"، الحصر هاهنا يعني: أن القرآن الكريم هو أعظم معجزاتي أو أعظم آياتي، فكان أعظم ما أوتيه عليه الصلاة والسلام هو الوحي والقرآن، ولم تكن معجزته الوحيدة القرآن، كما يظن بعض الناس، بل له معجزات باهرة عظيمة كثيرة غير القرآن، كانشقاق القمر المذكور في القرآن، وانفجار الماء من بين أصابعه الشريفة [، وتكثير الطعام له ولأصحابه، وتسبيحه وهو يؤكل، وكلامه لبعض العجماوات وفهمه عنها، وانقياد الشجر له، وغير ذلك كثير، لكن القرآن هو أعظم المعجزات أو الآيات على الإطلاق، وأفيدها وأدومها وأشملها؛ لأن كل آية كانت تنتهي بموت النبي، لكن آية نبينا محمد [ باقية دائمة إلى قيام الساعة، في حجيتها على الخلق، وسعة علومها، ودوام الانتفاع بها إلى أن يشاء الله تعالى رفعها من الأرض.

فالقرآن إذن أنفع وأعظم الآيات؛ لدوامه وبقائه وكثرة الانتفاع به على مر الدهور، وتعاقب الأيام والشهور، وهو معجز في نفسه، والإعجاز القرآني له وجوه كثيرة منها: أنه موجز في لفظه، وقد قال بعض الشراح: إن البخاري - رحمه الله - لما أورد الحديث الأول "بعثت بجوامع الكلم"، ثم أورد الحديث الثاني الذي يذكر القرآن، دل على أن المراد عنده بجوامع الكلم هو القرآن، وهذا ليس بلازم كما قال الحافظ ابن حجر، لكن لا شك في دخول القرآن في جوامع الكلم؛ لأن القرآن وجيز بليغ، وهناك أمثلة ذكرها أهل العلم لآيات وجيزة جامعة المعنى، مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179)، ومثل قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) ومثل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 52).

وأما جوامع الكلم في حديثه [، فأمثلتها كثيرة: منها قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" فهذا حديث عظيم موجز، لكنه واسع المعنى، ومثل قوله[: "مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، ومثل حديث: "مِنْ حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وحديث النعمان بن بشير "الحلال بيَّن والحرام بيَّن، وبينهما أمور مشتبهات"، هذه أربعة أحاديث يقول الإمام أحمد عنها: عليها مدار الإسلام، وهي جوامع من جوامع الكلم النبوي، والتي تتضمن قواعد شرعية عامة.

ومثلها حديث: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهو حديث عظيم، وكلمات موجزة، لكنه قاعدة عظيمة يمكنك أن تعرف بها أمورا كثيرة من أمور المعاملات بين الناس، ومثل قوله[ "كل مسكر خمر" ثلاث كلمات، ولكن بهذا الكلم الموجز أمكننا أن نعرف ماهية الخمر إلى قيام الساعة، فلم يقل[ الخمر من العنب، أو من الزبيب، أو من البر، أو من الذرة، وهكذا، بل قال: كل مسكر خمر، يعني كل شراب يؤدي إلى الإسكار فهو خمر. وفي الحديث الآخر: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"، ومثله حديث: "قل آمنت بالله ثم استقم" شرحه الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في وصية سماها الوصية الصغرى، وهو حديث جامع عظيم.

ولو أردنا أن نتتبع هذا الباب، لوجدنا أحاديث كثيرة، فالألفاظ النبوية تكون موجزة الألفاظ واسعة المعنى، وهو قد بعث بذلك، وهذا من معجزاته وآياته.







ولهذا نقول: إن المسلم المستمسك بسنته القولية سالم من كل شر، غانم لكل خير؛ لأن كلامه [ جامع مانع، ومن ذلك: الدعاء؛ فإن النبي [ " كان يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك " كما روت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهو في جامع الترمذي، أي ما كان[ يحب أن يوسع الكلام والألفاظ، وإنما كان يقتصر على الأدعية الجامعة النافعة.



وكثيرا ما نسأل عن كتب أو كتيبات ألَّفت في الدعاء، وهي قد تكون جميلة المعانى في الظاهر، ويغتر بها كثير من عامة المسلمين، ولكن إذا تفكر فيها العالم بالسنة، يرى فيها أشياء مخالفة للشرع؛ فبعضها يدخل في السجع المتكلف المذموم، والتكرار الدال على ضعف البلاغة والبيان، وبعضها يدخل في الاعتداء في الدعاء، فالأسلم الاقتصار على جوامع الدعاء النبوي.


ولهذا نحن نوصي دائما بأن الإنسان إذا أراد أن ينشر كتابا في الدعاء، أن يختار كتب الأدعية النبوية الثابتة؛ ففيها غنية وكفاية عن كل دعاء وثناء، ولا بأس بعد ذلك أن الإنسان يدعو لنفسه في صلاته وغيرها بحاجته مما يشاء ويحتاج إليه، فهذا أمر لا بأس به، ولكننا نعتقد أن الأدعية النبوية كافية، وتسد حاجات الإنسان إذا حفظ منها الثابت الصحيح، مما ورد عنه[ وجمعه العلماء قديما وحديثا، ككتاب «الدعوات من صحيح الإمام البخاري»، و«من جامع الترمذي»، وككتاب "صحيح الكلم الطيب" لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق العلامة الألباني، و"الوابل الصيب" لتلميذه ابن القيم - رحمهم الله تعالى - وغيرها.








ابوالوليد المسلم 13-11-2021 09:08 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (6)




الشيخ.محمد الحمود النجدي




إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله .







ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع سدى.









ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: " الاعتصام بالكتاب والسنة " من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة .














• الباب الثاني: باب الإقتداء بسنن رسول الله [









وقول الله تعالى: {واجعلنا للمتقين إماما}الفرقان: 74, قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا, ويقتدي بنا من بعدنا.



وقال ابن عون: ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها, والقرآن أن يتفهموه ويسألوا عنه, ويدعوا الناس إلا من خير.







الحديث الأول:



7275- حدثنا عمرو بن عباس: حدثنا عبد الرحمن: حدثنا سفيان, عن واصل عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد, قال: جلس إليّ عمر في مجلسك هذا، فقال: هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل ! قال: لم ؟ قلت: لم يفعله صاحباك، قال: هما المرآن يقتدى بهما . طرفه في 1549.







الشرح:



الباب الثاني من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح الإمام البخاري، هو باب الإقتداء بسنن رسول الله [، ومعنى الإقتداء بالسنن، أي: قبولها واتباعها والعمل بها – أي العمل بما دلت عليه السنة النبوية -، فأقواله [ تشتمل على الأخبار والأوامر والزواجر, فالأخبار تلقيها يكون بالقبول لها، والإيمان بها، والأوامر بالامتثال، والنواهي بالاجتناب.

وقول الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الفرقان: 74 ، هذا الدعاء ورد في القرآن من قول عباد الرحمن، في سورة الفرقان .

قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا، وهذا التفسير من قول مجاهد، أخرجه الطبري وغيره في تفسيره بسند صحيح, ومجاهد هو ابن جبر المفسر المشهور . قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا، يعني: نقتدي بسلفنا ومن سبقنا من أهل الفضل والصلاح، ويقتدي بنا من بعدنا من الخلف، وهذه هي الخصلة التي كان عليها السابقون الأولون ومن تبعهم بإحسان، وهي أنهم كانوا يقتدون بالرعيل الأول من الصحابة، فلا يبتدعون بل يتبعون، عملا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ولا تتبعوا من دونه أولياء} الأعراف 2، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}النساء 115, وقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُُ}التوبة 100 .

فالمسلم لا يكون إماما إلا إذا اقتدى بمن قبله من السلف الصالحين، وبعض الدعاة في عصرنا يظن أنه لا يتبعه الناس إلا إذا جاء بشيء جديد؟! هكذا يزين له الشيطان فيقول له: إنك لن تتبع ولن تشتهر إلا إذا جئت الناس بشيء جديد محدث لم يفعله أحد قبلك، فعند ذلك يلتفت لك الناس، ويلتفون حولك وتكون إماما ؟! والحق إن الإمامة قد تكون في الخير، وقد تكون في الشر، ففي الخير كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة (24) ، هذه الإمامة في الخير .

وأما الإمامة في الشر، فقال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} القصص 41، فلا يفرح الإنسان بكثرة الإتباع إذا لم يكن على الهدى والتقى والصراط المستقيم، فهم صاروا أئمة بإقتدائهم بمن قبلهم, واقتداء من بعدهم بهم, وهذا هو طريق النجاة, وقال قتادة رحمه الله كما روي عنه عبد بن حميد في مسنده بسند بصحيح: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}الفرقان: 74 ، قال: أي قادة في الخير، ودعاة هدي يؤتم بنا في الخير، وطوبى لمن جعله الله تعالى مفتاحا للخير, ومغلاقا للشر.

وقال ابن عون: ثلاث أحبهن لنفسي، ابن عون هو عبد الله بن عون البصري، من صغار التابعين ومن الأعلام، قال قرة: كنا نعجب من ورع ابن سيرين حتى رأينا ابن عون، وكان من الأئمة المجاهدين لأهل البدع .

يقول ابن عون رحمه الله: ثلاث أحبهن لنفسي، وهذا الأثر وصله محمد بن نصر المروزي في كتابه " السنة " بقول: ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني _ وفي رواية: ولأصحابي _ من باب أن يحب الإنسان لإخوانه ما يحبه لنفسه، وهو من الإيمان كما قال [ .

قوله " هذه السنة " وهي إشارة إلى طريقة النبي [ وإلى هديه، ليست سنة معينة، وإنما طريق النبي [، أي إشارة لنوع هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها .

قوله " والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه " وفي رواية " فيتدبروه " بدل أن يتفهموه .

وقوله "ويدع الناس إلا من خير " ويدَع بفتح الدال من الودع وهو الترك، وهذه الخصال الثلاث أحبها الإمام ابن عون لإخوانه، أن يتعلموا السنة ويسألوا عنها، أي يتعلموا هدي النبي [ وطريقته، والقرآن أن يتفهموه، لأن كثيرا من المسلمين يقرؤون القرآن ولا يفهمونه ولا يتدبرونه, فيكونوا قد أتوا بشيء وتركوا شيئا .

فمن قرأ القرآن فقد أتى عبادة عظيمة، لكن يلزمه أيضا أن يتدبر وأن يفهم القرآن حسب طاقته وقدرته، ثم أن يعمل به فهي ثلاث واجبات: القراءة، ثم التدبر والفهم، ثم العمل، وكل هذه واجبات تلزم المسلم.

وأن يترك الناس، يعني يتركوا مخالطة الناس إلا من خير، ألا يخالطوا الناس إلا في مجالس الذكر مثلا، أو صلة الأرحام، وما فيه نفع، لأن كثرة الخلطة تذهب بالوقت والزمن، وتوقع الإنسان في القيل والقال, وتوقعه أيضا أحيانا في الجدال والخصام، وربما حصل من وراء ذلك أشياء لا تحمد.







الحديث الأول



قال البخاري رحمه الله: حدثنا عمرو ابن عباس: وهو الباهلي قال: حدثنا عبد الرحمن: وهو ابن مهدي اللؤلؤي الإمام الشهير الثقة، من حفاظ السنة، يقول الذهلي ما رأيت في يده كتابا قط لقوة حفظه, قال: حدثنا سفيان وهو الثوري، سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو إمام من أئمة المسلمين، له مذهب ولكن لم ينتشر كانتشار بقية المذاهب الأربعة، ولا يزال معروفا في ثنايا الكتب الفقهية، ويقال: هو مذهب الثوري .

عن واصل: واصل هو ابن حيان الأحدب الأسدي ثقة ثبت، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة الأسدي مخضرم ثقة، وأحد المشهورين بالرواية عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: جلست إلى شيبة، وشيبة هو ابن عثمان ابن طلحة العبدري حاجب الكعبة, وكانت الحجابة في بني شيبة، والحجابة هي العناية بالبيت الحرام، مما يتعلق بالكسوة، وحفظ مفتاح باب الكعبة، وما أشبه ذلك .

قوله: " جلست إلى شيبة في هذا المسجد ": يعني المسجد الحرام، قال: جلس إليّ عمر في مجلسك هذا فقال: هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين .

أي أن عمر رضي الله عنه قال لشيبة حاجب الكعبة: هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء، " فيها " الضمير عائد على الكعبة، وهو إشارة إلى كنز الكعبة، ففي الكعبة كنز مدفون في أرضها، يعلمه عمر ويعلمه الصحابة رضي الله عنهم ويعلمه النبي [ قبلهم، فعمر قال هممت أن أقسم كنز الكعبة، بدل أن يكون محبوسا لا ينتفع به أحد، هممت أن أنفقه على المسلمين وأقسمه بينهم .

فقال له شيبة: ما أنت بفاعل، ما قال له - أدبا معه وهو أمير المؤمنين - ما قال له: لا تقدر، ولا قال له: لا تفعل، بل قال له: ما أنت بفاعل ! أي أنت لا تفعل هذا!! فقال له عمر: لم ؟! قال: أي هذا الأمر لم يفعله صاحباك، يعني ما فعله الرسول [ وما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأنت معروف عنك من هديك وسيرتك الإقتداء بالنبي [ وصاحبه، فلما قال له هذه الكلمة، صدقه عمر ووافقه، وقال له: هما المرآن يقتدى بهما! يعني: نعم أنا لا أستطيع أن أفعل هذا ولا أفعله لأن النبي [ وهو الرؤوف الرحيم بأمته، الحريص على مصلحتها، لم يفعله! فلم قسم كنز الكعبة، ولا استخرجه وقسمه بين الصحابة مع حاجتهم في زمنه [، ولم يفعله أبو بكر الصديق أيضا في عهده، ولا شك أنه احتاج إلى الإنفاق وإلى تجهيز الجيوش، ولكنه لم يفعله، فأنت كذلك لا تفعل هذا الأمر، فما دام أن أبا بكر وقبله النبي [ لم يتعرضا له، لم يتعرضا لكنز الكعبة، لم يسعك يا عمر خلافهما، بل الإقتداء بهما واجب .


فيؤخذ من هذا الحديث: أن تقرير النبي [ وسكوته سنة يحتج بها، فالرسول [ أقر كنز الكعبة وسكت عنه وتركه، مع علمه به .

فيحتج بهذا: على كل من يريد أن يحدث حدثا، ويزعم أنه مصلحة، مع أن سببه أو شبهه كان موجودا على عهد النبي [ ومع ذلك لم يفعله، فهنا يجب علينا الإقتداء بالنبي [ في تركه، كما يجب الاقتداء في فعله، لأنه داخل في قول الله تعالى {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الأعراف: 158، وقوله سبحانه {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}(الأحزاب: 21) وهذا هو فهم الصحابة كما سبق في الحديث .







وكل خير في اتباعه [، وكل شر في مخالفته .






ابوالوليد المسلم 16-11-2021 09:59 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (8)




الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع سدى.
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
• الحديث الرابع: من الباب الثاني: قال البخاري:
7278, 7279- حدثنا مسدد: حدثنا سفيان: حدثنا الزهري، عن عبيد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد قال: كنا عند النبي [ فقال: «لأقضين بينكما بكتاب الله» (طرفه في 2314).
الشرح:
الحديث الرابع من باب الاقتداء بسنن رسول الله [ من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما يرويه البخاري رحمه الله تعالى عن شيخه مسدد، وهو مسدد بن مسرهد بن مسربل أبو ماسك الأسدي أحد الثقاة الأعلام، وقال أهل الحديث مسدد كاسمه، عن شيخه سفيان وهو ابن عيينة الهلالي الإمام الثقة المشهور، قال: حدثنا الزهري وقد مضى معنا اسمه، عن عبيد الله وهو ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود الثقة الفقيه المشهور الضرير.
يرويه عن أبي هريرة وزيد بن خالد قال: كنا عند النبي [ فقال: لأقضين بينكما بكتاب الله «هذا الاختصار يوهم أن الخطاب لهما، وليس الأمر كذلك! إنما الخطاب لوالد العسيف (الأجير) الذي استأجره رجل ثم زنى بامرأته، فتحاكما إلى النبي [، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، فقال الرسول [ لهما: «لأقضين بينكما بكتاب الله، المائة شاة والوليدة ردٌّ عليك» لأن والد الزاني كان قد اقترح أن يفدي ابنه بمائة شاة ووليدة (أي مملوكة)، فقال عليه الصلاة والسلام لوالد الرجل: «المائة شاة والوليدة رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت بالزنى فارجمها».
فهذا الحديث يبين أن «السنة النبوية» يطلق عليها كتاب الله، من حيث إنها وحي من عند الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه في كتابه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى < إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4)، وذلك لأن الجلد للزاني مائة جلدة ليس في كتاب الله، والتغريب ليس في كتاب الله، وإنما هو شيء زادته السنة وفصلته وفعله الرسول [، وتابعه عليه الخلفاء الراشدون، وقد قال [ قبل: «لأقضين بينكما بكتاب الله». فهذا دال: على أن ما قال رسول الله [، هو في الحجية بمنزلة ما قاله الله تبارك وتعالى، لأن الكل وحي من عند الله، وقال حسان ابن عطية التابعي الجليل: كان جبريل ينزل بالوحي على النبي [ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن.
فالقرآن والسنة كلاهما وحي من السماء من عند الله عز وجل، وقال الله تعالى أيضا {وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} النساء: 113)، والحكمة عند أهل العلم هي: السنة النبوية.
• الحديث الخامس:
7280- حدثنا محمد بن سنان: حدثنا فليح: حدثنا هلال بن علي، عن عطاء ابن يسار عن أبي هريرة: أن رسول الله [ قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى».
الشرح:
الحديث الخامس في هذا الباب - باب الاقتداء بسنن رسول الله [ - حديث أبي هريرة ] يرويه البخاري -رحمه الله تعالى- عن شيخه محمد بن سنان وهو الباهلي، أبو بكر البصري، وهو ثقة ثبت، قال: حدثنا فُليح وهو ابن سليمان الخزاعي المدني، وقد وثقه الدارقطني وضعفه غيره، وقال الحافظ: صدوق كثير الخطأ، والبخاري -رحمه الله- إنما انتقى من حديثه الأحاديث الحسنة الصالحة.
قال: حدثنا هلال بن علي، وهو ابن أبي ميمونة العامري المدني، ثقة، قال: عن عطاء بن يسار وهو الهلالي القاص، من كبار التابعين وعلمائهم، وصاحب عبادة ومواعظ.
يرويه عن الصحابي الجليل أبي هريرة ] أن رسول الله [ قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» يعني: إلا من امتنع، فمن امتنع عن دخول الجنة لا يدخلها، لكن ليس هذا هو المراد، بل المراد أن من امتنع عن الاستجابة لرسول الله [، والامتثال لأوامره بالطاعة لم يدخل الجنة.
وعدم دخوله الجنة إما أن يكون أبديا: بمعنى لا يدخل الجنة أبدا، وإما أن يكون عدم دخوله مؤقتا، لأنه يدخلها بعد ذلك، وهذا بحسب إبائه، فإن كان إباؤه امتناعا عن التصديق به رسولا نبيا من عند الله عز وجل، فهذا كافر والعياذ بالله، لا يدخل صاحبه الجنة، ومحروم منها أبدا، وإن كان امتناعه ومعصيته في بعض الأمور، وهو مسلم مؤمن بالله وبرسوله [، فإنه قد لا يدخلها مع أول الداخلين، بل يؤخر في النار ثم بعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة.
فإذا قال قائل: كيف يكون كافرا، وقد قال [ «كل أمتي» فكيف نسبه النبي [ إلى أمته؟
فالجواب: أن أمة النبي [ قسمان: أمة الدعوة هذا هو القسم الأول، والقسم الثاني: أمة الإجابة.
أما أمة الدعوة: فيراد بها كل من بلغته دعوة النبي فهو من أمة محمد [ سواء أسلم أم لم يسلم، والقسم الثاني: أمة الإجابة وهم من استجاب له [ بالإيمان والتصديق والطاعة فهذا مسلم.
ومن الأدلة على القسم الأول - وهم أمة الدعوة - قوله [: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» رواه مسلم.
فإذن اليهود الذين بلغتهم دعوته [، وعرفوا مبعثه وخروجه ثم لم يؤمنوا به هم من أمته لأنهم بلغتهم دعوته، وكذلك النصارى، فكل من بلغته دعوته [ من العالمين، من الإنس والجن، فهو مأمور بالإيمان به [ لأنه خاتم النبيين، ولا نبي بعده، وإذا امتنع عن الإيمان به فقد أبى دخول الجنة كما في الحديث «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى».
وقد روى الإمام أحمد -رحمه الله- هذا الحديث بلفظ آخر وطريق آخر، فقد رواه (5 / 258) عن أبي أمامة ]، مرفوعا بلفظ: «ألا كلكم يدخل الجنة، إلا من شرد على الله، شراد البعير على أهله» وسنده حسن.
فهذا وصف نبوي عجيب، لبعض المعرضين عن رسالته، أنهم يشردون على الله والعياذ بالله، كما يشرد البعير ويهرب عن أهله ويتيه، ضلالا وبعدا عن النجاة، ولاحظ وصف النبي [ لمن أعرض عن الامتثال والطاعة له [، أنه كما يشرد البعير على أهله، والشراد كما تعلمون فيه وصف السرعة والخفة، وعدم العقل والفهم، وهذا منطبق على من أعرض عن السنة النبوية الشريفة المباركة، المشتملة على كل خير، وخلفها وراءه، وولاها ظهره، نسأل الله تعالى المعافاة من ذلك.


ابوالوليد المسلم 18-11-2021 02:26 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (9)




الشيخ.محمد الحمود النجدي

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع سدى.
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

• الحديث السادس: قال البخاري رحمه الله:
7281 – حدثنا محمد بن عبادة: أخبرنا يزيد: حدثنا سليم بن حيان, وأثنى عليه: حدثنا سعيد بن ميناء: حدثنا أو سمعت: جابر بن عبد الله يقول: جاءت ملائكة إلى النبي[ وهو نائم, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا, فاضربوا له مثلا, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة, فقالوا: أولوها له يفقهها, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: فالدار الجنة, والداعي محمدا[ فمن أطاع محمداً[ فقد أطاع الله, ومن عصى محمدا[ فقد عصى الله, ومحمد[ فرق بين الناس. تابعه قتيبة, عن ليث, عن خالد, عن سعيد بن أبي هلال, عن جابر: خرج علينا النبي[.

الشرح :
الحديث السادس في هذا الباب حديث جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري الصحابي الجليل, وهو أحد السبعة الذين رووا عن النبي[ فوق الألف من الحديث كما قلنا سابقا, يرويه البخاري عن محمد بن عبادة الواسطي أبو جعفر الثقة, له في البخاري حديثان فقط ، قال: أخبرنا يزيد, ويزيد هو ابن هارون الواسطي الثقة الإمام، أحد أعلام أهل الحديث والسنة, وهو القائل رحمة الله: من قال الرحمن على العرش استوى خلاف ما َيقر في قلوب العامة، فهو جهمي.
قال: حدثنا سليم بن حيان وهو ثقة، وقد أثنى عليه يزيد, حدثنا سعيد بن ميناء وهو أبو الوليد مولى البختري ثقة، قال: حدثنا أو سمعت وهذا الشك من سليم بن حيان, وهو من دقة أهل الحديث في الرواية؛ حيث قال: حدثنا أو سمعت، مع أن حدثنا أو سمعت قريبتان في المعنى لأنهما من صيغ التصريح بالسماع، وإن كانت سمعت أقوى من حدثنا, ولكنهما قريبان في المعنى.
يقول جابر بن عبد الله: "جاءت ملائكة للنبي[ وهو نائم", لم يصرح بأسماء الملائكة, وورد عند الترمذي أنهما "جبريل وميكائيل".
قوله "فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان" وهكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم, يقول[: "إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا" ولهذا قد يوحي الله تبارك وتعالى إلى النبي[ وهو نائم, اقرأ قوله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (الصافات: 102), فماذا قال له ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} (الصافات: 102), فرؤيا الأنبياء وحي من الله تعالى، بخلاف رؤيا غيرهم من الناس؛ فإنها قد تكون وحيا، أو تخليطا من الشيطان، أو حديث نفس، كما جاء في الحديث، أما بالنسبة للأنبياء فإن رؤياهم وحي من الله تعالى.
ولهذا قال[ في الحديث عند البخاري (6989): "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ".
فالرؤيا الصادقة وحي من الله, لكن لا يستطيع الإنسان أن يجزم بأن ما رآه هو رؤيا صادقة حتى تتحقق! وقد افتتن كثير من أهل عصرنا بتأويل الأحلام، والسعي في طلب تفسيرها على أي حال كانت، سواء كانت عليها علامات الرؤيا أو كانت أضغاثا من الشيطان وأحلاما، أو حديث نفس, وجعل بعض الناس الحديث في الرؤيا كطعامه وشرابه.
ولبعض السلف كلمة ذهبية يقول فيها: من اتقى الله في اليقظة، لم يضره ما يراه في المنام؛ فمتى اتقى العبد ربه سبحانه وتعالى، وأقام حدوده ولم يقع فيما حرم الله فإن الله سبحانه وتعالى سيحفظه, والرؤيا الصادقة بشارة للمؤمن بالخير أو تحذير له من الشر.
فالحاصل أن رؤيا الأنبياء وحي من الله, لأنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
قوله : "فقالوا : قالوا إن لصاحبكم هذا مثلا، قال فاضربوا له مثلا" والمثل يقرب الشيء المعنوي إلى شيء حسي، المعاني تكون في صورة أشياء حسية فيقرب فهمها للسامع.
قوله: قالوا: "مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدُبة" المأدبة بضم الدال هي العشاء أو الطعام ، ويروى مأدَبة والمأدبة من الأدب, يعني جعل فيها ما يُتعلم فيه الأدب والخُلق, لكن سياق الحديث يدل على أن المراد بها الطعام، لأنه قال: "وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدُبَة" فالمراد هو الطعام لأنه قال: وأكل من المأدبة.
قوله: ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة؛ فهذا مثال ضربته الملائكة لرسول الله[ ودعوته، وهو أنه مثله كمثل رجل أو شخص بنى دارا، ثم بعث داعيا للناس يدعوهم لدخول الدار، والأكل من المأدبة والطعام ، فتنوعت استجابات الناس, فمن الناس من استجاب لهذا الداعي فدخل الدار وأكل من المأدبة, ومن الناس من لم يستجب فلم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة.
قوله: "فقالوا: أولوها له يفقهها" أولوها يعني: فسروها، وهذا هو معنى التأويل عند السلف السابقين, أنه بمعنى التفسير، ومر معنا قول النبي[: اللهم علمه التأويل، أي: تفسير القرآن، وسمى الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري كتابه بـ "جامع البيان في تأويل آي القرآن" يعني في تفسير آي القرآن, هذا هو المعنى الأول للتأويل عند السلف.
والمعنى الثاني للتأويل: ما تصير إليه الأشياء المخبر بها, ما تصير إليه الأشياء فتؤول بمعنى تصير، آل إلى كذا، يعنى رجع إليه, فما تصير إليه الأمور وترجع إليه يسمى تأويلا, يوسف عليه السلام ماذا قال؟ قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} (يوسف:101), يعني: هذا ما آلت إليه الرؤيا، وصارت إليه وظهرت، وقال عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} (الأعراف: 53)، أي: إذا حصل ووقع الذي أخبرت به الرسل يوم القيامة، تذكر أقوام الرسل ما أخبرت به الرسل في الدنيا، وندموا على عدم الإيمان حيث لا ينفع الندم، وسألوا الرجوع للدنيا.
فقوله: "فقالوا أولوها له يفقهها" يعني: اشرحوها له, فسروها له.
قوله: "فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان" هكذا تكررت هذه العبارة.
قوله: "فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمدا[، فمن أطاع محمدا[ فقد أطاع الله ومن عصى محمد[ فقد عصى الله, ومحمد فرق بين الناس "قالوا الدار هي الإسلام والجن، والداعي إليها هو محمد[، فمن أطاعه فقد أطاع الله ودخل الدار, أي دخل الجنة وأكل من طعامها، وناله من نعيمها وخيرها وبهجتها, ومن عصى محمد[ لم يدخل الجنة، ولم يحظ بالنعيم الذي في الجنة والطعام والشراب, والمتع التي تكون في الجنة.
وفي رواية عند الترمذي قال: "فالله هو الملك، والدار الإسلام, والبيت الجنة, وأنت يا محمد رسول الله" فالله تبارك وتعالى هو الذي بنى الدار، فالجنة أنشئت بأمر الله تعالى, وجنة عدن خصوصا خلقها الله تبارك وتعالى بيده ، تشريفا لها ولأهلها كما جاء في الأثر, فمن دخل إلى الدار, والدار هي الإسلام, والمأدبة هي الجائزة, وهي الجنة, والرسول الداعي الذي خرج يدعو الناس لدخول الدار, والأكل من المأدبة هو محمد[.
فهذا مثل ضربه النبي[ لمن أطاعه[؛ لأنه رسول صاحب المأدبة, فصاحب المأدبة هو الله تعالى, وهو باني الدار تعالى، وهو الذي هيأ لأهل الجنة نزلهم وكرامتهم ونعيمهم, فمن أجاب محمد[ دخل الدار, من دخل الإسلام أكل من المأدبة يعني دخل الجنة, ومن عصاه وأعرض عن طاعته ولم يدخل الإسلام, أو أن دخوله كان فيه نقص ، فتأخر عن دخول الدار دخولا كليا وجعل له نقص في التأخير.
قوله: "ومحمد فرق بين الناس" فيه روايتان هذه الرواية الأولى بالتخفيف "محمد فرق بين الناس" والرواية والثانية: "محمد فَرّق بين الناس", أما رواية "محمد فرق بين الناس" بالتخفيف: يعني محمد[ بدعوته وبدينه هو فرقان بين الحق والباطل, فإن الله تبارك وتعالى سمى كتابه فرقانا كما قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1), فالقرآن فرق بين الحق والباطل, فالناس منهم من هو محق ومنهم من هو مبطل, فمحمد[ يفصل بينهم, يفصل بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال, كما أن محمد[ يفرق بين الناس, إذ إنه يفرق بين المؤمن والكافر, والبر والفاجر, فليس من عصى الله كمن أطاع الله, وليس من عصى محمد[ كمن أطاعه , فـ{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (الحشر:20), وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُون} (السجدة: 18), وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:21), فلا يستوي هؤلاء وهؤلاء , والدين الذي جاء به محمد[ يفرق بين أهل الجنة وأهل النار, أهل الطاعة وأهل المعصية, أهل البر والإحسان, وبين أهل الإثم والمعصية.
ولهذا تجد أن المشركين كانوا يقولون لما جاءت دعوة الإسلام عن محمد[: هذا الذي فرق جماعتنا! يقولون: فرق بين الأب وابنه, فإذا آمن الابن فارق أباه الكافر، وكذلك إذا آمنت الزوجة فارقت زوجها الكافر والعكس, فكانوا يرون أن دعوة محمد[ تفرق بين المؤمن والكافر, فالمؤمن الذي آمن بالله وعرف دينه واتقى ربه، هل يستوي والكافر الذي لا يعرف ربا ولا دينا ولا خلقا؟! فلا يستوي هذا وهذا, فهذا في الحياة الطيبة في الدنيا والجنة في الآخرة، وهذا في الشقاء والضلال في الدنيا، والعذاب في النار في الآحرة ، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} (الممتحنة: 1).
وقال سبحانه: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} (البقرة: 257).
فالله تعالى هو الذي فرق بينهم، فيجب علينا أن نفرق بينهم كما أمرنا سبحانه.
وبعد أن نزلت الأحكام الشرعية بالمدينة أيضا بينت مزيدا من الفروق بين معاملة المؤمن ومعاملة الكافر, في النكاح والمواريث والعدد ، والسلم والحرب، وغيرها، فهناك فروق واضحة بين هؤلاء وهؤلاء في الشرع, وهذه كلمة عظيمة لو أردنا أن نتحدث فيها لطال بنا المقام, وللإمام شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله كتاب في هذا الموضوع اسمه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" مطبوع متداول.





ابوالوليد المسلم 21-11-2021 07:29 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (10)




الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

• الحديث السابع:

7282 – حدثنا أبو نعيم: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن همام, عن حذيفة قال: يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا, لقد ضللتم ضلالا بعيدا.

الشرح :

الحديث السابع - حديث حذيفة الموقوف, حذيفة هو ابن اليمان، صحابي جليل من السابقين، صاحب سر رسول الله، رضي الله عنه وعن أبيه, فهو وأبوه صحابيان, قتل أبوه رضي الله عنه يوم أحد خطأ بأيدي الصحابة.

يروي البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه أبي نعيم, واسمه الفضل بن دكين الكوفي، إمام مشهور ثقة حافظ، قال: حدثنا سفيان وهو ابن سعيد بن مسروق الثوري, قال: عن الأعمش، مر معنا واسمه سليمان ابن مهران الأعمش، وهو أحد القراء والثقاة المشاهير وكان فيه تشيع, والتشيع عند السابقين ليس كالتشيع في زماننا, فالتشيع عند السابقين يعني: إظهار المحبة لعلي وأهل بيته والتفضيل لهم، من دون طعن في الصحابة، فضلا عن الطعن في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أما من طعن في الصحابة فهو رافضي, ومن طعن في الشيخين فهو من غلاة الروافض, فهؤلاء لا يروى عنهم ولا كرامة.

وأهل الحديث اجتنبوا الرواية عن الرافضة؛ لأنهم ليسوا بأهل أن يروى عنهم, لكذبهم واختلاقهم للروايات ونفاقهم وطعنهم في الدين، لكن من كان فيه تشيع من الرواة قبلوا روايته، إذا سلم من الوهم والكذب؛ لأن هذا الخطأ اليسير الذي قد يخطئ فيه المسلم لا يسقط روايته، خصوصا إن كان إماما وحافظا للحديث، مما يجعل أهل الحديث يتسامحون معه.

عن إبراهيم, وإبراهيم هو ابن زيد النخعي، الإمام الثقة الفقيه المشهور، وله مذهب مشهور، يذكر في الكتب الفقهية فيقولون: هذا مذهب النخعي، فقد كان إماما في الفقه، عن همام وهو ابن الحارث بن قيس النخعي ثقة عابد, فالسند كله كوفيون.

عن حذيفة رضي الله عنه قال : «استقيموا يا معشر القراء « القراء : جمع قارئ، والمراد بهم العلماء بالقرآن والسنة والعباد, فحذيفة رضي الله عنه يخاطبهم فيقول: يا معشر القراء , يعني يا علماء المسلمين, ويا طلبة العلم , ويا أهل القرآن والسنة والطاعة والعبادة، استقيموا، يعني: اسلكوا طريق الاستقامة , والاستقامة هي التمسك بالقرآن والسنة بفهم سلف الأمة، قولا وفعلا وتركا.

كيف يكون التمسك بالقرآن والسنة قولا وفعلا وتركا؟

القول والفعل معروف , والترك هو أن تترك ما سكت عنه الكتاب والسنة، وأعرض عنه سلف الأمة, يعني: لا تحدث شيئا ليس له أصل في القرآن والسنة, فالقرآن والسنة مثلا سكتا عن شهر رجب، فلا تجعل في رجب عبادة ما أنزلها الله تعالى, ولا تخص رجبا بعبادة, لا بصيام ولا بقيام ولا بتجمع؛ لأن القرآن والسنة تركا هذا الشهر فلم يخصاه بشيء، فنتركه ولا نبتدع فيه عملا.

فهذا من الاستقامة التي يغفل عنها بعض المسلمين, ويظن أن من الاستقامة أن يكثر العبادة والطاعة دون مراعاة لضوابط الكتاب والسنة، ودون النظر إلى ما جاء في القرآن أو في السنة من الأعمال الصالحة المشروعة، وهذا يخالف الاعتصام بالكتاب والسنة؛ فإن من الاعتصام بالكتاب والسنة أن تسكت عما سكت الله تعالى عنه في كتابه، أو عما سكت عنه رسوله [, ولأن الباعث لهذه العبادات كان موجودا على عهد النبي [ ومع ذلك فلم يفعله، وكثرة الطاعات مطلوبة, لكن الله تعالى ورسوله أغفلاه.

وكذلك الأمر في غيره من الأعمال المخترعة كالاحتفال بالمولد والإسراء والمعراج والهجرة، فالصحابة رضي الله عنهم ما احتفلوا بمولده [، وما تجمعوا فيه واحتشدوا، أو سردوا الروايات في سيرته، أو قصوا القصص وأنشدوا الأشعار أو قاموا الليل، كل هذا ما فعلوه رضي الله عنهم أجمعين, وهم الذين لا يُسبقون في محبته [، والمسارعة للقيام بأمره وسنته.

فالاستقامة إذ: تمسك بالقرآن والسنة، وفهم سلف الأمة، قولا وفعلا وتركا.

قوله «استقيموا «: أي اسلكوا كما قلنا طريق الاستقامة، فإن فعلتم فقد سبقتم سبقا بعيدا، وهو بالفتح, ويروى بالضم: سُبقتم، فإن كان بالفتح «سَبقتم» يكون الخطاب موجها لمن أدرك الإسلام أو أوائل الإسلام من صحابة رسول الله [, أي أنتم يا معشر القراء قد سبقتم غيركم من الناس إلى الدخول في الإسلام والإيمان به, سبقتم غيركم من الناس إلى كل خير، وكل من جاء بعدكم لا يمكن أن يصل إلى ما وصلتم إليه؛ لأن الصحابة لا يدرك شأنهم في هذا المجال.

وإن كان بالضم «سُبقتم» فإنه يعني: أنتم يا معشر القراء قد سبقكم من كان قبلكم من المهاجرين والأنصار, ويمكن أن يقال أيضا: فقد ُسبقتم سبقا بعيدا إذا أنتم أخذتم بالكتاب والسنة وتمسكتم بهما، فقد سبقكم إلى ذلك من تقدمكم.

قوله: «فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا» أي: إن أخذتم عن الاستقامة يمينا وشمالا، فقد ضللتم ضللا بعيدا عن الصراط المستقيم، وفارقتم التقوى، وصرتم من الخاسرين.

وكلام حذيفة رضي الله عنه - كما يقول الشراح - مأخوذ من وصية الله سبحانه المذكورة في قوله تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأنعام : 153).

وجاء في حديث ابن مسعود: أن الرسول [ خط خطا مستقيما, وخط عن يمينه وشماله خطوطا صغارا, ثم قال: «هذا صراط الله، وهذه سبل الشيطان, على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153). وهذا الأثر: فيه الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين مضوا على الاستقامة، وماتوا أو استشهدوا بين يدي الرسول [ , وشهد النبي [ جنائزهم، أو ماتوا بعده على فرشهم، ولكن على الاستقامة التي يحبها الله تبارك وتعالى, فإن أردتم أن تكونوا مثلهم فاستقيموا كما استقاموا, أي: خذوا بالصراط المستقيم دون الالتفات للطرق يمينا وشمالا؛ فقد يزين الشيطان للسالك إلى الله سبحانه وتعالى طريقا من الطرق, ويقول له هذا طريق مختصر، وهين لين فاترك طريقك الذي تريده, اترك طريق السنة النبوية, أو اترك طريق السلف لأنه طريق طويل وشاق, وأما هذا الطريق فهو طريق مختصر ويفي بالغرض!!

ولكن في الحقيقة والواقع المشاهد أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم فقد ضل ضلالا بعيدا, وجنى على نفسه وعلى دعوته وعلى جماعته وأتباعه، وأدركه العذاب والتفرق والتشرد, وربما أصابه السجن والقتل والأذى الذي لا يطيقه، فرجع عن طريق التدين بالكلية كما سمعنا ورأينا، وكل ذلك بسبب مخالفته للسنة في دعوته إلى الله عز وجل، وفي سيره إلى ربه سبحانه.


نسأل الله عز وجل الثبات على الصراط المستقيم، وأن يعيذنا وإخواننا طرق الجهالة والبدع.






ابوالوليد المسلم 23-11-2021 10:19 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (12)




الشيخ.محمد الحمود النجدي




إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله .

ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية ، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته ، وتخسر أفراده ، ويضيع سدى . ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار ، كتاب : « الاعتصام بالكتاب والسنة « من صحيح الإمام البخاري ، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة .

الحديث التاسع:

7285,7284 – حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثتنا ليث, عن عقيل, عن الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة , عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستُخلف أبو بكر بعده , وكفر من كفر من العرب , قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله , فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه وحسابهم على الله . فقال: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة, فإن الزكاة حق المال , والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله [ لقاتلتهم علي منعه . فقال عمر]: فوالله ما هو إلا رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .

قال ابن بكير وعبد الله, عن الليث: عناقا, وهو أصح . (طرفه في 1399 , 1400) .

< الشرح:

الحديث التاسع حديث أبي هريرة ]: يرويه البخاري رحمه الله عن شيخه قتيبة بن سعيد أبو رجا البُغلاني الإمام الثقة، وقد مر معنا، قال: حدثنا ليث وهو ابن سعد الفهمي، إمام مصر في وقته , قال عن عقيل بضم العين، وهو ابن خالد الأيلي ثقة ثبت . عن الزهري محمد بن شهاب قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود الإمام الثقة الفقيه الضرير.

قال عن أبي هريرة ] قال: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف أبو بكر بعده, وكفر من كفر من العرب , قال عمر لأبي بكر «يقول أبو هريرة: لما توفي رسول [، واستخلف أبو بكر أي صار خليفة للمسلمين بعد النبي [, وكفر من كفر من العرب , قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله [ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله , فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله»

ظاهر هذا الحديث أن أبا هريرة رضي الله عنه شهد ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من محاورة وكلام.

والعرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم انقسموا إلى أربعة أقسام كما قاله الإمام ابن حزم وغيره:

1- قسم ثبتوا على دينهم، واستمروا على إيمانهم وإسلامهم وهم الأكثر .

2- وقسم بقوا على إسلامهم وصلاتهم، لكن امتنعوا عن أداء الزكاة، وقالوا: إن الزكاة كانت تدفع للنبي [؛ لأن الله يقول: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } (التوبة 103), والرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، فلا تدفع الزكاة لمن بعده .

3- قسم ارتدوا عن الإسلام بالكلية، ورجعوا إلى الكفر، كطليحة الأسدي وقومه , وسجاح وقومها في اليمن , وأكثر هؤلاء الذين ارتدوا عادوا للإسلام بحمد الله تعالى , فلم تمر عليهم السنة، إلا وقد عاد أكثرهم إلى الإسلام .

4- والقسم الرابع: قوم تربصوا، أي: وقفوا فلم يفعلوا شيئا، وانتظروا لمن تكون العاقبة والنهاية والنصر، للصحابة أو لغيرهم .

عند ذلك أمر الصديق الأكبر رضي الله عنه بتجهيز الجيوش لغزو هذه الطوائف والقبائل من العرب , أما من ارتد منها بالكلية فلا إشكال، وأما من بقي على الإسلام لكنه أبى دفع الزكاة ومنعها وقاتل عليها , فهاهنا استشكل عمر رضي الله عنه قتال هؤلاء، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله ويقيمون الصلاة، فقال لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قالوا لا إله إلا الله؟! والرسول [ يقول في حديثه: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله « أي: عصم نفسه وماله إلا بحقه، يعني: أنه لا يستحق العقوبة المالية أو العقوبة على النفس كما قال الله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ }(الأنعام: 151) .

وقوله: « وحسابه على الله « بمعنى: أن من أظهر لنا الإسلام فإن على المسلمين أن يقبلوا منه الإسلام ظاهرا، فإذا نطق بالشهادتين, وجب قبول ذلك منه, والكف عنه، وأمره إلى الله تعالى علام الغيوب، وعالم ما في الصدور، ولو أسر الكفر في نفسه، فإنما نحن نأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر .

فلما قال عمر رضي الله عنه ذلك لأبي بكر رضي الله عنه، قال أبو بكر: « والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة», ويروى: «لأقاتلن بين من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه , وفي رواية: «عناقا كانوا يؤدونه لرسول الله [ لقاتلتهم على منعه» .

وحجة أبي بكر أنه لا فرق بين الصلاة والزكاة فكلاهما من أركان الإسلام، فالشرع جاء بالتسوية بين الصلاة والزكاة , أي أن تارك الزكاة يستوي مع تارك الصلاة، فلماذا تفرق يا عمر بين تارك الزكاة وتارك الصلاة، والحق أنهما سواء، يعني من ترك الصلاة قاتلناه , ومن ترك الزكاة يجب أن نقاتله أيضا , فلماذا تفرق بينها وهما بمنزلة واحدة ؟!

ولا شك أن تارك الزكاة إن كان تركه على وجه الجحد والإنكار، فهذا كفر مخرج من الملة .

وإن كان منعه لها على وجه المعصية والبُخل، فإن هذا من كبائر الذنوب .

وكلاهما كان من حال طوائف من العرب، فطائفة منعوها بخلا ومنعا للحق، طائفة منعوها جحودا لفرضيتها بعد وفاة الرسول [, وفي الحالتين يجب قتال هؤلاء وهؤلاء، حتى يؤدوا الزكاة المفروضة , لهذا قال أبو بكر: «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله، لقاتلتهم عليه «والعقال: هو الحبل الذي يشد به البعير , هذا هو أصح الأقوال في تفسير العقال , وفي رواية أخرى «عناقا» والعناق: هي أنثى المعز الصغيرة .

وقد يسأل السائل فيقول: هل تؤخذ العناق في الزكاة ؟

قال العلماء: إن الغنم أو المعز إذا كانت كلها صغارا، تؤخذ منها الصغيرة , لكن إذا كان فيها الكبير والصغير، فإنه لا يؤخذ منها الصغير , وإنما يؤخذ الوسط , ومن أراد أن يرجع إلى هذا البحث فليرجع إليه، فقد ذكره أهل العلم في أبواب الزكاة .

وظاهر هذا: أن أبا بكر وعمر لم يكونا يعلمان بالرواية التي فيها ذكر فيها الرسول [: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فيما يحصل به عصمة الدم والمال، وهي رواية صحيحة رواها مسلم: من حديث أبي هريرة وغيره: أن النبي [ قال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» .

فلو كانت هذه الرواية الواضحة والحاسمة للخلاف معلومة لأبي بكر]، لما احتج على عمر بنفي الفارق فقط، والتسوية بين تارك الصلاة وتارك الزكاة , لأن عمر ] كان يوافق أبي بكر على قتال تارك الصلاة، لكنه أنكر عليه قتاله لتارك الزكاة , فهذه الرواية الصحيحة تبين أن من شهد الشهادتين قبل منه الإسلام , لكن يؤمر بعد ذلك ببقية الأركان , وطاعة الله تعالى ورسوله بتحريم ما حرم الله ورسوله، والقيام بما أوجب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه من الواجبات .

قوله: « فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق» قال عمر لما احتج عليه أبو بكر بذلك - أي بنفي الفارق بين تارك الصلاة وتارك الزكاة - أنه ظهر له صحة احتجاج أبي بكر بهذه الحجة، لا أن عمر قلده وتابعه دون حجة ! وإنما عمر لما احتج عليه بهذه الحجة وناظره بها أقرّ بها، وأنها حجة صحيحة.

< وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم:

أولا: جواز الاجتهاد في النوازل في الأمور الحادثة, وأن الاجتهاد في الأمور النازلة والحادثة يتم بالرجوع إلى الكتاب والسنة والفهم لهما .

فالمسلم إذا نزلت به نازلة أو سئل عن حادثة جديدة، عليه أن يجتهد بالرجوع إلى نصوص القرآن والسنة حتى يعلم حكم هذه الحادثة والواقعة هذا الذي يجب على من أراد أن يبحث عن حكم شرعي، ويجب أيضا على من أراد أن يناظر ويجادل غيره، أن يحتج بالكتاب والسنة وفهم السلف، في مناظرته وجداله .

ثانيا: أن الواجب على المناظر إذا ظهر له الدليل، وظهر له الحق من نصوص الكتاب والسنة، يجب عليه الاستجابة وعدم العناد , فإذا ظهر لك الدليل واتضحت لك الحجة، يجب عليك أن تقر وتوافق، لا أن تكابر وتعاند، لأن هذا خلاف الاعتصام بالكتاب والسنة .

ثالثا : يتجلى لنا في هذا الحديث أدب المناظرة الرفيع الذي كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أنهم كانوا يتناظرون بالنصوص الشرعية، لا بالأهواء ومجرد الآراء العارية عن الدليل .

فعمر لما احتج على أبي بكر، احتج عليه بحديث نبوي، ولم يحتج عليه برأي فقال له: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس .... الحديث» يعني احتج عليه بحديث ثابت صحيح

فهذا علم الصحابة, وهذا حالهم في المناظرة والاجتهاد والعمل , الرجوع إلى النصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية .

رابعا: أنه يجب اتباع الحاكم أو أمير المؤمنين في اجتهاده فيما لا نص فيه , فيقرر أهل العلم: أن الإمام أو الحاكم إذا اجتهد في أمر لا نص فيه، فإنه يجب على الأمة طاعته في اجتهاده، وأن لا تعصيه ولو كانت تخالفه في اجتهاده , بخلاف ما لو حكم بخلاف نص الكتاب والسنة , فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله, ففي هذه الحالة لا سمع ولا طاعة، لكن لو اجتهد الإمام أو الحاكم في أمر لا نص فيه واختار أحد الرأيين, فعند ذلك نصير إلى اجتهاده .

وأيضا الحديث يدل على أن من أظهر الإسلام قبل منه ذلك، وأجريت عليه أحكامه الظاهرة، وأوكلت سريرته إلى الله تعالى .

خامسا: ويدل الحديث أيضا على أن من ترك فريضة من فرائض الإسلام يجب أمره بها، وقتاله عليها إذا أصر على منعها أو تركها, وهذا مما لا خلاف فيه بين علماء الإسلام, بل حكى شيخ الإسلام ابن تيميه الإجماع على مشروعية قتال من منع الزكاة أو ترك الصلاة أو ترك الصيام أو أبى الحج إلى بيت الله أو غيرها من شعائر الإسلام، وكذا لو استباح محرما من المحرمات, كشرب الخمر أو الزنا أو الربا، أو الجمع بين الأختين أو الجمع بين المرأة وخالتها وما أشبه, فمتى تواطأ قوم واتفقوا على ترك فريضة، أو تواطئوا على فعل حرام، فإنه يجب قتالهم حتى ينتهوا عن ذلك، بخلاف ترك الواحد لفريضة أو فعله لحرام.

وقول البخاري في نهاية الحديث: قال ابن بكير - وهو يحي بن بكير المصري - وعبد الله وهو ابن صالح كاتب الليث - عن الليث «عناقا» وهو أصح, هذه إشارة من البخاري إلى الرواية الأخرى لهذا الحديث، التي رواها يحي بن بكير وعبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث, فالحديث هنا من رواية قتيبة بن سعيد عن الليث , وقتيبة قال في روايته قال: «والله لو منعوني عقالا» لكن رواية يحي ابن بكير الماضية في كتاب العلم، ورواية عبد الله بن صالح كاتب الليث كانت بلفظ «عناقا» قال وهو أصح, فالبخاري يرجح رواية يحي بن بكير وعبد الله بن صالح.


ابوالوليد المسلم 24-11-2021 09:39 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (13)




الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع سدى.
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
• الحديث العاشر:
قال البخاري : 7286 – حدثني إسماعيل: حدثني ابن وهب, عن يونس, عن ابن شهاب حدثني عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر, فنزل على بن أخيه الحر بن قيس بن حصن وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته , كهولا كانوا أو شبانا, فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال سأستأذن لك عليه , قال ابن عباس فاستأذن لعيينة, فلما دخل قال: يا ابن الخطاب, والله ما تعطينا الجزل وما تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم بأن يقع به, فقال الحر: يا أمير المؤمنين, إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله ليه وسلم: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» وإن هذا من الجاهلين , فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه, كان وقافا عند كتاب الله (طرفة في: 4642) .
الشرح:
الحديث العاشر في هذا الباب حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، والذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم كما مر معنا بقوله: «اللهم علمه الكتاب».
يروي البخاري رحمه الله الحديث عن طريق شيخه إسماعيل وهو بن أبي أويس الأصبحي المدني, واسم أبي أويس: عبد الله، وإسماعيل بن أبي أويس , هو ابن أخت الإمام مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة, قال: حدثني ابن وهب وهو عبد الله بن وهب المصري ثقة إمام من أئمة أهل الحديث, وله تصانيف في الحديث, منها الجامع في الحديث «جامع ابن وهب» طبع أخيرا .
قال: عن يونس وهو ابن يزيد الأيلي, قال عن ابن شهاب وهو الزهري قال: حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهو ابن مسعود التابعي في الحديث السابق, أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وهو الفزاري, أسلم عام الفتح وأعطاه النبي [ من سهم المؤلفة قلوبهم, وكان مشهورا في الجاهلية بالشجاعة والجفاء , ولما مات النبي [ ارتد عيينة وافق طليحة الأسدي في ادعائه النبوة، فلما غلب المسلمون قوم طليحة في قتال المرتدين، فرّ طليحة، وأسر عيينة بن حصن فيمن أسر، فأتى به إلى أبي بكر فاستتابه، فتاب ورجع إلى الإسلام.
وفي الحديث هاهنا: أن عيينة بن حصن قدم المدينة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن الفزاري، والحر بن قيس مذكور في الصحابة، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله عنه، أي: كان من الطائفة التي كان يقرّبها عمر، وكان عمر يدني القراء, كما في قوله: «وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا» والقراء: هم العلماء والحفاظ والعباد, وكان العلماء هم أصحاب مجلس عمر, فانظر إلى من كان يجلس عمر رضي الله عنه إليه، كان يجلس إلى العلماء وحفاظ القرآن والحديث, هؤلاء هم أصحاب مشورته سواء كان هؤلاء العلماء شبانا أو كانوا شيوخا وكهولا, فإن العلم قد يؤتاه الشيخ الكبير في السن, وقد يؤتاه الصغير في السن أحيانا بمثابرته وقوة طلبه، وقوة حافظته وعزيمته.
وهذا يفيد أن الحر بن قيس كان من القراء، لأن ابن عباس يقول: وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, ومن الذي يدنيه عمر؟ كان يدني القراء فهذا يشعر أن الحر كان منهم.
قوله: «فقال عيينة لابن أخيه - يعني الحر - قال يا ابن أخي: هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه» يعني هل لك موضع عناية عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه, أي: تدخلني عليه في خلوته, لأن عمر لم يكن يحتجب عن الرعية إلا وقت راحته وخلوته , فأراد عيينة أن يدخل على عمر بن الخطاب في وقت خلوته, ولاحظ أن عيينة قال تستأذن لي على هذا الأمير! ولم يقل على أمير المؤمنين, وهذا من جفائه وجهله, فقال الحر عند ذلك: سأستأذن لك عليه، أي: سأطلب لك موعدا تدخل عليه في خلوته.
قوله: «فاستأذن لعيينة فلما دخل قال يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل, ما تعطينا الجزل: يعنى ما تعطينا العطاء العظيم الكثير. «ولا تحكم فينا بالعدل!!», فلم يقل له أولا: يا أمير المؤمنين، ثم خاطبه بهذه المخاطبة التي لا تليق بمقام عمر رضي الله عنه ولا بعدله, ولا بفضله ولا بمكانته من الإسلام والمسلمين.
قوله: «فغضب عمر حتى هم أن يقع به» يعنى أن يضربه. وفي رواية «حتى هم أن يوقع به» يعني: يأمر من يضربه, وهذا الضرب تعزير من أجل التأديب، لأنه أساء الأدب إلى أمير المؤمنين, وقال له مالا ينبغي, ويجوز له أن يؤدبه لأنه بمنزلة الوالد للمسلمين, والوالد له أن يؤدب أبناءه إذا أساؤوا الأدب معه بالقول أو بالفعل.
قوله: فقال الحر يا أمير المؤمنين: إن الله قال لنبيه : {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وإن هذا من الجاهلين».
ذَّكر الحر بن قيس رضي الله عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذه الآية الكريمة من آخر سورة الأعراف، والتي يقول الله تعالى فيها لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199), أي: يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الجامعة لحسن الخلق، بأن يأخذ العفو من أخلاق الناس, يعني: أن يأخذ منهم ما سهل تناوله من أخلاقهم, وسمحت به نفوسهم، فلا تكلفهم فوق طاقتهم .
فالإنسان إذا أخذ العفو ومن أخلاق الناس العفو، فلم يكلفهم مالا يطيقون ، لم ينفروا عنه , لكن إذا كنت تكلف صديقك وصاحبك وزميلك شيئا لا يطيقه، وتطلب منه ما لا يقدر عليه، فإنه سينقطع عنك وينفر, وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «يسروا ولا تعسروا». وقوله: [: «إني بعثت معلما وميسرا ، ولم أبعث معنتا ولا متعنتا».
وقوله: {وأمر بالعرف} أي: بكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والأخلاق.
قوله: {وأعرض عن الجاهلين} وهذه أيضا من صفات أهل الإيمان، إنهم يعرضون عن أهل الجهل وأهل السفه، كما قال الله تعالى في آيات في كتابه يصف فيها عباده عباد الرحمن, يقول عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان : 63), وقال سبحانه وتعالى أيضا: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}(القصص : 55) .
خذ العفو وأمر بالعرف: يعني أؤمر بالمعروف, العرف هو المعروف والمعروف كل ما مدحه الشرع ومدح فاعله ومدح صاحبه فهو معروف, وأعظم المعروف هو توحيد الله تعالى, ثم أركان الإسلام الأربعة بعد الشهادتين, فالله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بمكارم الأخلاق , وأمته مأمورة بما أمر الله به نبيها [ ، من حسن المعاشرة مع الناس، والإحسان إليهم ومداراتهم والإغضاء عن هفواتهم وزلاتهم .
قوله: «قال فوالله ما جاوزها - يعني عمر رضي الله عنه لما سمع هذه الآية ما جاوزها – «وهذا من كلام بن عباس إذ يقول: وكان وقافا عند كتاب الله , فعمر رضي الله عنه لما ذكر بهذه الآية ما جاوزها، يعني ما عمل بغير ما دلت عليه بل لما ذُكر بالله فتذكر، وهذه حال المؤمن الذي يؤمن بكتاب الله تعالى ويتبع رسوله [ أنه إذا ذُكر تذكر وإذا نبه تنبه, فلا يعاند ولا يصر؛ لأن هذا خلاف صفة أهل الإيمان ، فإنهم وقافون عند كتاب الله متبعون كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور: 51). ويقول عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36).
هذه حال أهل الإيمان , أما حال أهل النفاق فالله تعالى يقول عن المنافقين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (النور: 48) «هذا حال أهل النفاق إذا دعوا إلى الله وإلى كتاب الله وسنة رسوله وكلامه: {إذا فريق منهم معرضون} أما المؤمن فإنه وقاف عند كتاب الله لا يتجاوزه .
ومصيبة المسلمين اليوم أنهم يقرؤون ويعلمون، ولكنهم لا يعملون؟! إلا من رحم الله.
وقال العلماء والدعاة: مصيبة المسلمين اليوم من أمرين اثنين:
الأمر الأول : الجهل : فهناك قسم كبير من الأمة جاهل لا يعلم أمر الله تعالى ونهيه ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ونهيه ، فهو جاهل يعيش في عماية , هذا حال كثير من المسلمين اليوم .

والأمر الثاني : أن كثيرا من المسلمين اليوم يعلمون ولا يعملون , يعلم أن الله حرم عليه الربا , ولكنه يأكل الربا ويقترض ويتبايع بالربا.
فالمرأة تعلم مثلا أن الله أوجب عليها الحجاب, لكنها لا تلتزم بالحجاب, الرجل يعلم أن الله حرم الغش والربا ولكنه يغش ويتعامل بالربا، وهكذا, فالدين ضائع بين جهل طائفة، وعصيان طائفة أخرى، ومن يعلم أشد ذنبا ممن لا يعلم، إذ فيه شبه من قول أهل الكتاب سمعنا وعصينا؟!

فعمر رضي الله عنه وصفه ابن عباس بأنه كان وقافا عند كتاب الله تعالى, لا يمكن أن يتجاوز الآية إذا تليت عليه أو يتجاوز الحديث إذا ذكر به, وهذه والله هي خصلة أهل الإيمان المعتصمين بنصوص الكتاب والسنة التي مدح الله تعالى بها عباده المؤمنين.






ابوالوليد المسلم 27-11-2021 11:09 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (14)




الشيخ.محمد الحمود النجدي

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله .


ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع سدى.

ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الحديث الحادي عشر:

قال البخاري رحمه الله:

7287- حدثنا عبد الله بن مسلمة، , عن مالك, عن هشام بن عروة, عن فاطمة بنت المنذر, عن أسماء ابنة أبي بكر -رضي الله عنهما-أنها قالت: أتيت عائشة حين خسفت الشمس والناس قيام, وهي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها نحو السماء فقالت: سبحان الله, فقلت: آية؟ قالت برأسها: أن نعم, فلما انصرف رسول الله[ حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما من شيء لم أره، إلا وقد رأيته في مقامي, حتى الجنة والنار, وأوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال, فأما المؤمن أو المسلم – لا أدري أي ذلك قالت أسماء – فيقول: محمد جاءنا بالبينات، فأجبنا وآمنا, فيقال: نم صالحا علمنا أنك موقن, وأما المنافق أو المرتاب – لا أدري أي ذلك قالت أسماء – فيقول : لا أدري؟! سمعت الناس يقولون شيئا فقلته « . (طرفه في: 86).

الشرح:

الحديث الحادي عشر حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن أبيها, وأسماء أخت عائشة وكانت أكبر سنا من عائشة -رضي الله عنها- وهي زوج الزبير ابن العوام -رضي الله عنه- يرويه البخاري -رحمه الله- عن شيخه عبد الله بن مسلمة ابن قعنب القعنبي أبو عبد الرحمن البصري، الثقة الجليل، وكان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحدا.


يرويه عن شيخه مالك, وهو ابن أنس الأصبحي أمام دار الهجرة, عن هشام بن عروة، وهو ابن الزبير بن العوام الأسدي, ثقة فقيه ربما دلس، عن فاطمة بنت المنذر وهي بنت المنذر بن الزبير، فهي بنت عمه, وهي ثقة, وأسماء جدة لهما.

تقول أسماء: «أتيت عائشة حين خسفت الشمس», وفي رواية: «حين كسفت الشمس» والخسوف والكسوف ذهاب النور من جرم الشمس والقمر.

قولها: «والناس قيام» أي: في المسجد, لعلها لما جاءت إلى بيت عائشة من غرفتها إلى داخل المسجد فرأت الناس قيام يصلون.

قولها: «وهي قائمة تصلي» إما أنها كانت تصلي بصلاتهم, وإما أنها كانت تصلي لوحدها.

قولها: «فقلت ما للناس، أو ما شأن الناس - كما في الرواية الأخرى - فأشارت بيدها نحو السماء فقالت: سبحان الله «يعني عائشة أشارت بيدها إلى السماء أن سبحان الله، يعني: أن هناك آية عظيمة, وقولها «قالت» يعني أشارت – أشارت بيدها أن سبحان الله.

قولها: «فقلت آية فقالت برأسها أن نعم» يعني أشارت برأسها أن نعم, وهذا استعمال معروف في اللغة قال بيده يعني أشار بيده, قال برأسه يعني أشار برأسه.

قولها: «فلما انصرف رسول الله[ حمد الله وأثنى» أي: لما انتهى من صلاة الكسوف خطب خطبة حمد الله تعالى فيها وأثنى عليه, وهذا هديه[ في الكسوف أنه يصلي ثم يخطب، وهي سنة نبوية مؤكدة تشرع إذا حصل الخسوف في القمر أو الكسوف للشمس .

وهديه أيضا في خطبته، أنه يبدأ فيها بحمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله.

قولها: «ثم قال ما من شيء لم أره، إلا وقد رأيته في مقامي ، هذا حتى الجنة والنار».

فالرسول[ وهو يصلي صلاة الكسوف، يقول: عرض عليه أشياء كثيرة، حتى إنه قال: «إنه ما من شيء لم يره من قبل إلا وقد صور له أمامه في حائط المسجد حتى إنه رأى الجنة والنار, رأى الجنة حتى إنه تقدم ليتناول منها قطفا من عنب, ورأى النار حتى إنه شعر بلفح النار ولهيبها وحرها، فتراجع وتأخر.

قولها: «وأوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال»: أي أن النبي [ أمر أن يبلغ أصحابه وأمته، أن هذه الأمة تختبر في قبورها اختبارا عظيما، أي تعرض عليهم فتنة عظيمة، نسأل الله تعالى السلامة منها, قريبا من فتنة الدجال, وكان النبي [ كما ثبت عنه: أنه لا يصلي صلاة، إلا قال: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» فكان[ يتعوذ بالله تعالى في ختام كل صلاة من هؤلاء الأربع.

قوله: «فأما المؤمن أو المسلم - لا أدري أي ذلك قالت أسماء – أي الشك من الراوي, فيقول المؤمن والمسلم إذا سئل : من نبيك؟ كما جاء في الأحاديث الصحيحة المبسوطة، قال مجيبا: محمد[ جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا , هذا قول المؤمن إذا سئل في قبره عن نبيه[؛ لأن الميت يسأل في قبره عن ثلاث: عن ربه, وعن دينه, وعن نبيه, فأما المؤمن أو المسلم فيقول إذا سئل من نبيك، قال: «محمد[ جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا, فيقال: نم صالحا علمنا أنك موقن» وفي رواية أبي داود: « نم نومة العروس التي لا يوقظها إلا أحب الناس إليه « يعني: ينام نومة هنيئة سعيدة كنومة العروس, والعروس يطلق على الرجل والمرأة, وهو من تزوج حديثا منهما, أي: هكذا ينام الميت سعيدا فرحا مسرورا إلى أن تقوم الساعة.

وقوله: «محمد جاءنا بالبينات، فأجبنا وآمنا» أي: صدقنا به وبما جاء به، وأيقنا أنه صادق في هذه الكلمة ولم يكن مدعيا ولا كاذبا في دعواه، بل اتبع محمدا[، واعتصم بسنته وعمل بها في حياته، ونشرها بين الخلق ودعا الناس إليها، فهو صادق في هذه الكلمة ، لأنه أتبعها بالانقياد والعمل.

قوله: ولهذا تقول له الملائكة مصدقة له: «علمنا أنك موقن» أي: مصدق وأنك صادق في قولك هذا.

قوله: «وأما المنافق أو المرتاب» أي: شك الراوي أيهما قالت أسماء.

قوله: «فيقول لا أدري» أي: إذا سئل عن نبيه[ فإنه يقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» هكذا حال المنافق الذي لم يكن صاقا ولا مخلصا في إيمانه، وكان معرضا عن اتباع نبيه[، والعمل بما جاء به من الهدى والنور, فإنه - والعياذ بالله - يضل عقله ، وينسيه الله، ولا يعلم بماذا يجيب, فيذهل عن الجواب, هو كان يعرف في الدنيا أن نبيه محمد[، لكن لما كان مكذبا ومعرضا عن اتباعه ، مستمسكا بهدي غيره، فإن الله تعالى يضله في الآخرة، والقبر أول منازل الآخرة، جزاء وفاقا, وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن هذا الامتحان والاختبار في قوله سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 27).

وقد اختلف أهل العلم: هل هذا السؤال يكون للمنافق والكافر؟ أم أنه خاص بمن أظهر الإسلام وعصى الرسول[ وخالف سنته؟

فالقول الراجح من أقوال أهل العلم: أنه يشمل الجميع المنافق والكافر؛ لأن الكافر بعد بعثته[ يدخل في أمته, كما مر معنا سابقا، فهو يدخل في أمة الدعوة المحمدية، ولهذا فهو داخل فيمن يختبر ويسأل عن النبي[.

وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (الأعراف: 6).

وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 92).

كما أن الحديث النبوي يدل على ذلك، كما جاء في بعض الروايات: «فإن كان فاجرا أو كافرا» ففيها تصريح بأن الذي يسأل كان كافرا أو فاجرا، فإنه يقول: لا أدري.

إذاً من يدعي الإيمان من المنافقين أومن كان كافرا، فإنه يسأل عن نبيه في قبره، فعند ذلك لا يجيب ولا يعرف الإجابة.

وهذا الحديث فيه تحذير للمسلم من الإعراض عما جاء به محمد[ من الهدى والنور, أو ترك العمل به ومعصية أوامره، والإقبال على هدي غيره؟!

فمحمد[ جاء بالكتاب والسنة , وفيهما الهداية التامة، والنور التام، والنجاة في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} (طه: 123) كما قال: {فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
فاحذر يا عبد الله, واحذري يا أمة الله، من الإعراض أو الكفر أو الغفلة عما جاء به محمد[، وترك الاعتصام بما جاء عليه الصلاة والسلام به، والإيمان به، ثم العمل به، ودعوة الخلق إليه؛ حتى يثبتنا الله وإياكم جميعا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة.





ابوالوليد المسلم 30-11-2021 12:35 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (15)




الشيخ.محمد الحمود النجدي





إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.



ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.

ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.







• الحديث الثاني عشر :



7288- حدثنا إسماعيل: حدثني مالك, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي [ قال: «دعوني ما تركتكم , إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم, واختلافهم على أنبيائهم, فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه, وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

الشرح:

الحديث الثاني عشر في هذا الباب، حديث أبي هريرة - رضي الله عنه وأرضاه - يرويه البخاري - رحمه الله - عن إسماعيل بن أويس الأصبحي قال: حدثني مالك قال عن أبي الزناد, واسمه عبد الله بن ذكوان القرشي المدني ثقة فقيه، وأبو الزناد لقبه، وكان يغضب إذا قيل له : أبو الزناد، لكن هذا اللقب أو هذه الكنية غلبت عليه واشتهر بها، فلم يجد أهل الحديث بداً من أن يذكر بها, وهذا من المواضع التي تباح فيها الغيبة، وهو إذا كان الرجل لا يعرف إلا بلقبه، فإنه يجوز تلقيبه به, فهذا من الوجوه التي تسوغ فيها الغيبة، فإذا كان لا يعرف إلا بالأعرج, بالأعمش, أو بالأخفش, أو بالأفطس, أو بالطويل, أو بالقصير, إذا كان لا يعرف إلا بهذا الوصف فإنه يجوز تلقيبه بذلك ليعرف, أما إذا أمكن تحاشي هذه الألقاب فالواجب على المسلم أن يتحاشاها لئلا يقع في الغيبة, كما قال تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} (الحجرات: 11).

قوله: عن الأعرج، هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني، ثقة ثبت عالم، وهو أحد المكثرين في الرواية، عن أبي هريرة -رضي الله- عنه عن النبي [ قال: «دعوني ما تركتكم» وفي رواية: «ذروني ما تركتكم» وهي بمعنى: دعوني, وقد ذكر الإمام مسلم سبب هذا الحديث: وهو أن الرسول [ خطب الناس فقال: «يأيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت الرسول [ حتى قالها ثلاثا فقال: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم, ذروني ما تركتكم». وجاء في حديث ابن عباس عند الطبري أن الله تعالى أنزل عند ذلك: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة: 101), وسيأتي الكلام فيما يتعلق بالسؤال في الباب القادم.

فقوله: «ذروني ما تركتكم» يعني: اتركوني مدة تركي إياكم بغير أمر ولا نهي, إذا تركتكم فلم آمركم ولم أنهكم فاتركوني، فلا تسألوا في تلك المدة التي لم آمركم فيها بشيء، ولم أنهكم فيها عن شيء, لأن هذا من عفو الله تعالى, فالمراد ترك السؤال عن شيء لم يقع؛ خشية أن ينزل فيه تحريم أو إيجاب.

فالرسول [ كان رؤوفا رحيما بالأمة, ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما, وكان يكره أن يسأله أصحابه عن شيء لم يحرم فيحرم, وقد قال [ – كما في حديث مسلم-: «إن من أشد الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته».

وهذا ترهيب أن يُسأل عليه الصلاة والسلام عن شيء لم يحرم ولم يقع فيحرمه من أجل المسألة، وهذا الأمر - كما تعلمون - قد انتهى بوفاة النبي [, إذ بوفاته [ اكتمل الشرع, وكملت الفرائض, واكتملت الأحكام الشرعية، وشرعت الحدود.

وأيضا قوله: «دعوني ما تركتكم» نهي عن كثرة السؤال, لأن كثرة السؤال توقع الإنسان في العنت وفي الشدة, يعني: لا تكثر من الأسئلة ولا تكثر من الاستفصال الذي لا فائدة منه، ولا تنقب كما فعلت بنو إسرائيل لما أمروا أن يذبحوا بقرة: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (البقرة: 67)؛ فبنو إسرائيل لما أمروا أن يذبحوا بقرة تلكؤوا وتباطؤوا , ولو أخذوا أدنى بقرة وذبحوها لكفتهم، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم؛ ولهذا قال [: «إنما أَهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم» فبنوا إسرائيل شددوا على أنفسهم في البقرة، فقالوا: ما هي؟ ما سنها, ما لونها, ما وصفها؟ وفي كل مرة ينزل عليهم فيها تشديد، حتى إنهم - فيما ذكر أهل التفسير - لم يجدوا البقرة الموصوفة إلا عند رجل باعها بملء جلدها ذهبا! فهؤلاء لو أنهم أخذوا أي بقرة كما أخبرهم نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}، وأخذوا عضوا من أعضائها وضربوا به الميت لأحياه الله عز وجل ولأخبرهم بمن قتله, لكنهم شددوا حتى وقعوا في الشدة, وقد جاء ذلك مرفوعا إلى النبي [ عن أبي هريرة: «لو اعترض بنو إسرائيل أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم» رواه ابن أبي حاتم في تفسيره والبزار وفيه ضعف، ومعناه ورد عن ابن عباس وغيره.

إذًا هذا سبب هلاك السابقين: كثرة سؤالهم واعتراضهم على أنبيائهم, إما سؤالهم عن أشياء لم تقع، أو كثرة استفصالهم عند الأمر والنهي وعدم المسارعة للاستجابة.

وأيضا: كثرة الأسئلة المتكررة التي يحصل فيها عنت ومشقة.

ثم إن النبي [ دلهم على الواجب عليهم، وهو الاستجابة الفورية، وترك كثرة السؤال، فهذا هو الواجب على المؤمنين، كما قال [ في حديثه الآخر: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».

فيا عبد الله! اترك عنك كثرة القيل والقال, وترديد السؤال, واعمل بالواجب حالا، فهذا إرشاده [ للخلق أن يشتغلوا بما أمروا به. وإذا رأيت إنسانا يطلب علما لا فائدة منه، أو يكثر من السؤال عن أمور لا تنفعه ولا يترتب عليها عمل، أو يشتغل مثلا بأعراض العلماء والدعاة أو العاملين في مجال الدعوة بغير حق، فعليك أن تنصحه وتقول له: اشتغل بما أمرت به, وانته عما نهيت عنه؛ فالله تعالى أمرك بأن تجتنب محارمه، وأمرك بطاعته.

وكذا السؤال على وجه التعنت أو التكلف، أو السؤال عما لا يفع أصلا, فهذا أيضا من الذي نهينا عنه في هذا الحديث؛ لأن هناك ما هو أهم منه, فالحديث يشير إلى أن المسلم يجب عليه أن يشتغل بالمهم من الأمور، وما يحتاج إليه عاجلا أو آجلا, فربما لا أحتاج اليوم إلى معرفة أحكام الزكاة أو الحج؛ لأني لا أملك النصاب أو المال للحج, لكن أتعلم أحكام الزكاة والحج؛ لأني في المستقبل سيرزقني الله مالا وتجب علي الزكاة والحج.

وقوله [: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه مطلقا؛ لأنه لم يذكر الاستطاعة, وهذا عام في جميع المناهي الشرعية, فأي شيء نهاك الله تعالى عنه أو ورسوله [ فاجتنبه, هذا هو الأصل، إلا ما أكرهت عليه أو إلا ما اضطررت إليه، كأكل الميتة لمن خاف الهلاك مثلا؛ فقد قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام : 119), فحال الضرورة والاضطرار، أو حال الإكراه, هذه مسائل استثنائية، وإلا فالأصل أن الإنسان يترك جميع المنهيات الواردة في الكتاب والسنة, وقد جمعها جماعة من العلماء والمؤلفين قديما وحديثا باسم: «المنهيات الشرعية» أو الكبائر, يعني ما نهى الله عنه في كتابه، وما نهى عنه رسوله, وأعظم المنهيات الشرعية»، الشرك بأنواعه أما أعظم ما أمر الله تعالى به، فالتوحيد ومقاماته، كالتوكل والمحبة والخوف والتعظيم والرغبة والرهبة وغيرها.

فقوله: «إذا نهيتكم عن شيء» يعني: أي شيء فاجتنبوه, وهذا يدلنا على أن الأصل في النهي التحريم لا الكراهة؛ لأن الرسول [ يقول: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» فالأصل الاجتناب والبعد، فإذا نهاك الله عن شيء أو نهاك رسوله عنه، فالأصل فيه الاجتناب , إلا ما اضطررتم إليه.

وهاهنا مسألة: هل مما اضطررنا إليه أن نتداوى بالحرام؟!

والجواب: لا؛ لأن الرسول [ سأله رجل عن الخمر يصنعها؟ فقال [: «هي حرام» قال: إني أصنعها للدواء، فقال [: «إنها داء، وليست بدواء» رواه مسلم. فمنعه من التداوي بالخمر والحرام.

وفيه جواب لبعض الناس إذا سألوا: ما حكم شرب بعض دماء الحيوانات؟ يقولون بقصد التداوي!! كما يشرب بعضهم دم الضب بقصد التداوي؟! نقول: إنه داء وليس بدواء؛ فلا يجوز أن يتداوى الإنسان بحرام! وهو [: «نهى عن الدواء الخبيث» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، رضي الله عنه.

وهو القائل [: «تداووا عباد الله؛ فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء» رواه أحمد وأصحاب السنن.

فالحرام ليس بدواء، وهو وإن شفى شيئا من الأمراض، أورث أمراضا أخرى!! ولو لم يكن من الأمراض التي يورثها إلا الخدش والطعن في الدين والعقيدة لكفى, وهذا مرض عظيم, أن الإنسان يشفى من مرض البدن ويصاب بمرض القلب والروح والعقيدة! وأيهما أولى بالسلامة وأن يحافظ عليه الإنسان؟! لا شك أن العقيدة والقلب والروح أولى بأن يحافظ عليها المسلم من الداء الذي يدخلها النار والعياذ بالله, وأما مرض البدن فإنه وإن بقي في الدنيا فالإنسان مأجور عليه في الدنيا والآخرة.

وأيضا يقول العلماء: إن اجتناب المنهي لا يحصل إلا باجتماع جميعه, «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه», فلا تكون مجتنبا للنواهي حتى تجتنبها جميعا, أما بالنسبة للأمر فـ «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم», وهذا من جوامع الكلم النبوي كما قال النووي وغيره؛ لأنه يدخل فيها قواعد الإسلام وكثير من الأحكام الشرعية.

قوله: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، فمن لا يستطيع أن يصلي قائما نقول له صل قاعدا، ولا نقول له: اترك الصلاة!! لأن النبي [ يقول: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، فإن لم تستطع أن تصلي قاعدا فصل على جنب, وإذا لم تستطع أن تغسل جميع أعضاء الوضوء فاغسل منها ما استطعت ولا تترك الوضوء كله, وإذا لم تستطع أن تغتسل من الحدث الأكبر فاغسل ما استطعت، أو انتقل إلى التيمم, وإذا لم تستطع أن تستر العورة في الصلاة فاستر منها ما استطعت وصل, وإذا لم تستطع أن تؤدي زكاة الفطر عن نفسك وأهلك، فابدأ بنفسك، فإن فضل شيء فبزوجتك ثم ولدك، فلا يترك زكاة الفطر بالكلية، بل يؤدي منها ما استطاع.

وهكذا، فهذه قاعدة عظيمة، معمول بها في الشرع المطهر.

فكثير من الواجبات إذا عجز الإنسان عن شيء منها لا تسقط بالكلية، وإنما ينتقل المكلف إلى مرتبة أدنى، فمن أمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور، فإنه يسقط عنه ما عجز عنه؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وسعها} (البقرة: 286).

ومن فوائد هذا الحديث: النهي عن كثرة المسائل التي لا يترتب عليها عمل أو حكم شرعي، أو لا يترتب عليها فائدة للسائل , وهذه صفة في كثير من الناس أنه يسأل عن شيء لا ينفعه، وإنما هو إما من باب التطفل، أو إما من باب التدخل في شؤون الآخرين، وقد قال [: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وهو حديث حسن.

فأترك السؤال الذي لا ينفعك واسأل عما ينفعك, والحديث لا ينهى عن السؤال النافع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43), فما يحتاج إليه المسلم والمسلمة من أمور الدين والفقه فيه, ومعرفة ما أنزل الله تعالى على نبيه [ من الفرائض والأحكام نحن مأمورين بأن نبحث فيه, ونسأل عنه ونقرأ وندرس؛ لأن الله تعالى يقول: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (ص: 29).

ومن فوائد الحديث: أن فيه إشارة أو تنبيها على أن الإنسان يبدأ بالأهم فالمهم، فإذا أراد أن يتعلم العلوم فيجب عليه أن يقدم الأهم, فيقدم علم العقيدة والتوحيد, ثم معرفة كتاب الله ثم سنة رسول الله [, فإن بقي عنده وقت اشتغل بالنحو والعربية , إن بقي عنده وقت اشتغل بالرد على أهل الأهواء والبدع, لكن لا يعكس مراتب العلوم فيقدم فروض الكفاية على فروض الأعيان؟! فهناك علوم تلزم كل مسلم بعينه، وهناك علوم تجب على العلماء وطلبة العلم والدعاة, فإذا كان عند الإنسان سعة من الوقت والعمر بحث فيها وتعلمها.

والحديث أيضا فيه : ذم المراء والجدال الذي لا طائل من ورائه من باب أولى؛ لأن المراء والجدال لا نفع فيه! فهو مذموم كالسؤال الذي لا نفع فيه.
هذا، والله أسأل أن ينفعنا وإياكم بما قلنا من الحق، وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.





ابوالوليد المسلم 07-12-2021 11:01 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (16)




الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

• الباب الثالث: باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف مالا يعنيه وقوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} (المائدة: 101).

• الحديث الأول:

7289 – حدثنا عبد الله بن يزيد المقري: حدثنا سعيد: حدثني عقيل، عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه: أن النبي [ قال: « إن أعظم المسلمين جُرماً، مَن سأل عن شيءٍ لم يحرّم، فحُرم من أجل مسألته « [ طرفه في: مسلم: كتاب الفضائل، باب توقيره [ وترك إكثار سؤاله. رقم: 2358 ].

< الشرح:

الباب الثالث من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف مالا يعنيه، وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة:101), أي: هذه الآية على كراهة كثرة السؤال، وورد في ذلك آيات من الكتاب وأحاديث شريفة أخرى تدل على الكراهة – كراهة كثرة السؤال -.

وأيضا: وردت آيات وأحاديث تدل على كراهة تكلف ما لا يعني، واستدل البخاري رحمه الله بهذه الآية الكريمة من سورة المائدة: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة:101).

فالله سبحانه وتعالى ينهى في أول هذه الأمة عن كثرة السؤال عن أشياء لم تبد لهم، ولم تشرع ولم تبين لهم، ولم يحكم الله سبحانه وتعالى فيها، وليس في الآيات ولا الأحاديث المنع من السؤال عن بيان معنى آية، أو بيان معنى حديث، فهذا غير داخل في معنى الآية، وإنما المقصود السؤال عن النوازل التي لم تقع إلى أن تقع؛ فقد روى البزار والحاكم: من حديث أبي الدرداء ] عن النبي [: «ما أحلّ الله في كتابه فهو حلالٌ، وما حرّم الله فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن ينسى شيئا. ثم تلا الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64)، فما أحله الله لكم في الكتاب فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت الله عنه، فقد سكت عنه رحمة بكم من غير نسيان، فلا تسألوا عنه، وتفتشوا فيه، فإن الله عز وجل لم يكن لينسى شيئا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64).

وورد في حديث أنس ] أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا قد نُهوا أن يسألوا النبي [ شيئا، قال: «كنا نُهينا أن نسأل رسول الله [ عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية، فيسأله ونحن نسمع».

فالصحابة نُهوا عن سؤال النبي [، وكانوا يفرحون أو يعجبون إذا جاء رجل غريب من غير أهل المدينة والمهاجرين، فيسأل النبي [ وهم يسمعون.

وفي حديث ابن عمر ]: «أن الرسول عليه الصلاة والسلام كره المسائل وعابها». والمقصود به: المسائل التي لم تقع بعد، وسبب الحديث أن رجلا جاء إلى النبي [ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن وجد الرجل مع امرأته رجلا أفيقتله فتقتلوه؟ أم كيف يفعل؟». فالنبي عليه الصلاة والسلام كره سؤاله هذا؛ لأن هذا السؤال عن شيء لم يقع بعد! وعاب النبي [ المسائل التي من هذا النوع.

وروى الإمام مسلم: عن النواس بن سمعان ] قال: أقمت مع رسول الله سنةً بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي [، أي: إنه كان في حكم الوافدين إلى المدينة، لكن كان يكره أن يكون مهاجرا خشية أن يمنع من السؤال، فاستمر بهذه الصورة إلى قريب من سنة، خشية أن يصير مهاجرا فيمتنع عليه السؤال.

فهذه الآية منعت الصحابة من السؤال عن النوازل التي لم تقع، ومنعتهم من ابتداء الرسول [ بالسؤال عن الحكم.

فإن قيل: قد ورد في القرآن أسئلة كثيرة كقوله سبحانه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} (البقرة: 220)، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} (البقرة: 189)، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219)، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} (البقرة: 215)، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (البقرة: 222)، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (البقرة: 217)، وغيرها من الأسئلة التي وردت في القرآن، فكيف يمكن الجمع بين هذا وبين هذه الآيات؟

والجواب: إما أن يكون هذا قبل النهي؛ لأن المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة، وإما أن يكون النهي لا يتناول ما يحتاج إليه المكلف من الأحكام الشرعية الواقعة، أو الحاجات الضرورية اليومية، كمسائل اللباس والطعام والشراب، والذبح، وما يتعلق بحياة المسلم ومعاملته مع زوجه وأبويه، وما أشبه ذلك من المسائل التي تقع.

وقد ورد عن الصحابة والتابعين آثار تدل على كراهيتهم لكثرة المسائل التي لم تقع، فورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن. ووردت أيضا آثار أخرى مشابهة.

أما الأمر الآخر الذي نُهينا عن السؤال عنه: فهو السؤال عن الأمور الغيبية التي ورد الشرع بوجوب الإيمان بها وبمعانيها، مع ترك البحث والنظر والسؤال عن كيفياتها، كالسؤال عن وقت الساعة، وأمور الآخرة، وأشراط الساعة، وكالسؤال عن الروح، والسؤال عن عُمر هذه الأمة، وأمثال هذه الأشياء التي لا تعرف إلا بالنقل والسماع، فهذه الأمور يجب الإيمان بها من غير بحث، والبحث فيها يوقع الإنسان في الشك والحيرة، وسيأتي في حديث أبي هريرة مرفوعا إلى النبي [: « لا يزال الناس يتساءلون: من خلق كذا، من خلق كذا؟ حتى يقولوا: من خلق الله؟!». وهذا ناتج من كثرة السؤال عما لا يجوز.

وأيضا مما كرهه السلف: كثرة التفريع، أي: الإكثار من التفريع على المسائل الفقهية، وربما ذكر بعض الفقهاء مسائل لا أصل لها في الكتاب والسنة! بل قد تكون مسائل نادرة الوقوع جدا، والبحث والتفريع في المسائل النادرة الوقوع جدا، هو من تضييع الزمان بلا طائل ولا فائدة، فهذا أيضا ينبغي أن يترك التوسع فيه؛ لما سبق من الآية والحديث.

ولا شك أن كثرة السؤال في هذه الأمور، توقع الإنسان في التنطع والتكلف الذي نهينا عنه.

أما البحث عن معاني كتاب الله سبحانه وتعالى، أو البحث في شرح السنة النبوية ومفرداتها، وأحكامها وفوائدها، فهذا لا يدخل في هذا الباب بلا شك.

وأيضا يمكن أن يقال: إن هذه الآية {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)، أن هذا في العهد النبوي خاصة دون غيره؛ خشية أن ينزل من الآيات ما يشق على المكلفين امتثاله، فالرسول [ أمر الصحابة بأن يتركوا سؤاله لهذا السبب، وقد مر معنا في الحديث الماضي أنه [ لما قال: « إن الله كتب عليكم الحج فحجوا «، فسأله رجل: «أكلّ عام يا رسول الله؟» ، كان هذا السؤال في الحقيقة نوعا من التكلف، فرسول الله [ قال: « إن الله كتب عليكم الحج فحجوا»؛ ولهذا الرسول [ لم يجب السائل أول مرة، حتى سأل ثلاث مرات، فقال عندها: « دعوني ما تركتكم أو ذروني ما تركتكم» فمنعهم [ من السؤال إلا عن شيء نافع، أما البحث والتنقيب والتنطع فقد نهى الله تعالى عنه عباده، وُنهي عنه الصحابة خصوصا في زمن الوحي؛ خشية أن ينزل عليهم ما يشق عليهم القيام به من الواجبات، أو أن يحرم عليهم شيء من المباحات، كما سيأتي في الحديث الأول في هذا الباب.

< الحديث الأول:

حديث سعد بن أبي وقاص ] القرشي، وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وقال علي ]: ما سمعت النبي [ يجمع أبويه لأحد غير سعد، قال له: « ارمِ فداك أبي وأمي « وذلك يوم أحد. رواه البخاري (6184).

وعامر: هو ابن سعد بن عامر بن سعد من ثقات التابعين، وممن روى عن أبيه وتفقه عليه. وابن شهاب هو الزهري قد مر معنا مرارا، وعقيل كذلك، وسعيد: هو ابن أبي أيوب الخزاعي مولاهم، المصري ثقة ثبت، وعبد الله بن يزيد المكي المقرئ ثقة فاضل، وأحد الحفاظ، ومن مشايخ البخاري.

قوله: عن النبي [ أنه قال: «إن أعظم المسلمين جُرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته».

وفي رواية لمسلم: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرما، من سأل عن شيء لم يحرم فحرم»، وهذا الحديث فيه ترهيب من السؤال عن المسائل التي لم تقع، أو السؤال في الأمور التي لم تحرم، فالنبي [ شدد فقال: إن من أعظم المسلمين « وهذا تشديد وتفخيم، وقوله: (جرما) «يدل أيضا على أنه أجرم في حق المسلمين؛ بسبب مبالغته في البحث والاستقصاء، فيحرم على المسلمين الشيء بسببه.

وهذا كما قلنا سابقا: لا يدخل فيه السؤال عما يحتاج إليه من الأحكام التي وردت في القرآن أو السنة، فلو سأل سائل عن كيفية الصلاة والزكاة أو عن أمور من الطهارة، فهذا لا يدخل في هذا الباب، فهذه الأمور لا بد فيها من العلم والتفقه، ولأن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالسؤال عن أحكام الشريعة فقال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل: 43).


وكذا من حصلت عنده نازلة، أو وقعت عنده واقعة لا يعلم حكمها، فسأل عنها فهذا لا شيء عليه، ولا إثم يلحقه؛ لأن السؤال في هذه المسائل وهذه الأمور مطلوب بنص القرآن كما ذكرنا.

أما المنهي عنه: فهو السؤال الذي بسببه يصير الشيء المباح حراما؛ فيضيق بسبب السائل على جميع المسلمين والمكلفين، وهذا كما قلنا خاص بالعهد النبوي، وإلا فالأحكام الآن قد تمت، وأكمل الله سبحانه وتعالى الدين؛ فلا يضاف إليه شيء بعد وفاة النبي [.
وهذا الحديث يستفاد منه فائدة: أن الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يرد الشرع بخلاف ذلك.





ابوالوليد المسلم 09-12-2021 11:12 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب"الإعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (39)
: التحذير من التشبه بالأمم


الشيخ.محمد الحمود النجدي





إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.


- الباب الرابع عشر:


14 – باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم».

الحديث الأول:

7319 – حدثنا محمد بن يونس: حدثنا بن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشر وذراعا بذراع» 0 فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: «ومن الناس إلا أولئك؟!».

الحديث الثاني:

7320 – حدثنا محمد بن عبدالعزيز: حدثنا أبو عمر الصنعاني – من اليمن – عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم «قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى»؟ قال: «فمن؟!» (طرفه:3456 ).


- الشرح:

الباب الرابع عشر: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، والسنن: بفتح السين وضمها، والأكثر على الفتح، والمقصود بالسنن: الطرق والسبل.

ثم روى البخاري بسنده عن شيخه أحمد ابن يونس، وهو ابن عبدالله الكوفي التميمي اليربوعي، ثقة حافظ. قال: حدثنا ابن أبي ذئب، وهو عبدالرحمن بن أبي ذئب المدني، من الأئمة الأعلام المشهورين بالحفظ والإتقان، وكان قوالا بالحق. عن المقبري، وهو سعيد بن أبي سعيد كيسان المقبري، أبو سعد المدني، ثقة تغير قبل موته بأربع سنين، من الرواة المكثرين عن أبي هريرة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك؟!».

في الحديث إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم باتباع هذه الأمة للقرون من قبلها كما سيأتي بيانه، والقرون: جمع قرن، وهم الأمة من الناس، وقيل: القرن ثمانون سنة، وقيل: القرن مائة سنة، وهو الأشهر.

وفي الحديث الذي بعده، الذي رواه البخاري عن شيخه محمد بن عبدالعزيز وهو ابن محمد العمري، أبو عبدالله الرملي، صدوق يَهِمُ. قال: حدثنا أبو عمر الصنعاني، وهو حفص بن ميسرة العُقيلي، ثقة ربما وهم. وقول الراوي: من اليمن، يعني هو من أهل اليمن، والصنعاني نسبة إلى صنعاء اليمن، لا صنعاء الشام؛ لأن الشام كان بها أيضا بلد يسمى صنعاء، فأراد التنبيه.

عن زيد بن أسلم، وهو العدوي، أبوعبدالله وأبو أسامة، أحد الثقاة المشهورين بالحديث والتفسير. عن عطاء بن يسار التابعي الجليل المشهور، ومضى الكلام عليه.

قال: عن أبي سعيد الخدري، وهو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، أحد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فوق الألف كما مر معنا.

قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا شبرا، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟».

قوله: «لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم «أو» سُنن من كان قبلكم» فيه إخبار من المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر الغيبي، والذي هو من دلائل النبوة وعلامات الساعة الواقعة في الأمة، وهي خصلة إتباع سبيل من سبقها من الأمم، وطرق من سبقها من القرون، وهي أمم ضلت عن سواء السبيل، وانحرفت عن الصراط المستقيم، فسيكون أناس من هذه الأمة يأخذون بأخذها، والأخذ: يعنى السير على سيرتها، يقال: أخذ فلان بأخذ فلان، يعني: عمل بسيرته، وفعل مثل فعله، وقصد مثل قصده.

قوله: «شبرا بشبر، وذراعا بذراع» هذا للتشبيه، فالشبر والذراع من المقاييس، وهذا كله للتشبيه والتمثيل، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، هذا للتمثيل أيضا، والضب هو الحيوان المعروف، وقد قال العلماء: إن جحره ضيق، ويضرب به المثل في الضيق والسوء.

فهذا يدل على أن هناك طوائف من هذه الأمة ستأخذ بسيرة من قبلها من القرون من اليهود والنصارى، وفارس والروم، كما في الرواية الثانية، وكان فيهم يهود ونصارى، ولو كان شيئا فيه ضيق وسوء كالجحور! ولو كان أمرا مستقبحا، أو خلاف الفطرة، فإنهم سيقلدونهم ويتابعونهم عليه كالعميان!

وورد في أحاديث أخرى أيضا التحذير من هذه الخصلة التي ستكون في هذه الأمة، وفي أواخر هذه الأمة، وهي التشبه بالأمم، وهي تزداد بابتعاد الناس عن العصر النبوي والعلم الشرعي.

فقد ورد في حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لا تترك هذه الأمة شيئا من سنن الأولين حتى تأتيه» رواه الطبراني في (الأوسط)، يعني: كل الذنوب وكل الأفعال والأحوال والأقوال التي مضت فيمن سبق، سترتكبها طوائف ممن ينتسبون لهذه الأمة.

قال ابن بطال رحمه الله: أعلمَ صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور، والبدع والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائما عند خاصة من الناس.

قال الحافظ ابن حجر: قلت: وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم وسيقع بقية ذلك.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه أحمد وغيره.

وقال صلى الله عليه وسلم: « ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى «رواه الترمذي عن ابن عمرو رضي الله عنه.

فقوله: «ليس منا» تبرؤ ممن يقع في هذا الفعل المحرم.

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: «كفارس والروم» لما سئل فقال: «ومن الناس إلا أولئك؟!».

وفي الحديث الثاني: قلنا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» يعني: فمن الناس إلا هؤلاء، وذلك لأن فارس والروم كانوا أكبر ممكلتين في الدنيا، وأوسع أمتين في الأرض، وأكثرهم رعية، وأوسعهم بلادا.

وفي الحديث الآخر قال: «اليهود والنصارى»؛ لأن اليهودية والنصرانية كانتا أعظم ديانتين يدين بهما الناس قبل الإسلام، فقال أهل العلم: إن طوائف من هذه الأمة ستتبع ما يتعلق بالدنيا والسياسات أعظم أمتين سابقتين فيها، وهما فارس والروم، وأما فيما يتعلق بالديانات، وأصولها، وفروعها فسيحصل التقليد والتشبه باليهود والنصارى، وهذا الحديث يدل على ذم التشبه باليهود والنصارى، وغيرهما من الأمم من باب أولى؛ لأن اليهود والنصارى أهل كتاب، فكيف بغيرهما ممن لا كتاب له ولا نبي؟! فهذا أقبح.

وهذا الفعل الواقع في الأمة، هو مذموم، كما ذكرنا.

وقد وردت آيات من كتاب ربنا سبحانه وتعالى في ذلك، وهي تؤيد الأحاديث النبوية الصحيحة السابقة في ذم اتباع الأمم، كقوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18).

أي: قد شرعنا لك شريعة كاملة، تدعو إلى كل خير، وتنهى عن كل شر، فاتبعها فإن فيها السعادة في الدنيا والآخرة، ولا تتبع أهواء الجهلة الذين لا علم لهم ولا كتاب، بل يمشون وراء أهوائهم الفاسدة وشهواتهم الدنية.

وكقوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة: 51).

فينهى الله عز وجل عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، أي: أحبابا وأنصارا وأصفياء مقربين، بعد أن بين صفاتهم غير الحسنة في ثنايا كتابه الكريم، وتوليهم عن طاعة ربهم ورسله الكرام.

وغير ذلك من الأحاديث والآيات في هذا الباب، والتي تدل على حرمة التشبه بالأمم قبلنا؛ لأن الله تبارك وتعالى قد جعلنا على شريعة واضحة، ودين كامل شامل رضيه لنا وأتمه علينا، كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3 ).

وقد بدأ التشبه بالأمم الكافرة يسري إلى هذه الأمة لما دخل طوائف من اليهود والنصارى إلى الإسلام، ولما كثرت الفتوحات في الدولة المسلمة، فدخلت بعض العادات والتقاليد من البلاد المفتوحة إلى أبناء المسلمين الجهلة، ولا يزال هذا الأمر يعظم ويكثر كلما كثر الجهل بدين الله، واندثر العلم.

وقد كتب كثير من السلف والخلف في هذا الموضوع كتبا وبحوثا، يحذرون من الصفات الرديئة والعادات الطارئة التي دخلت على الأمة، وتبين خطرها على العقيدة والخلق والسلوك وعلى العبادة، بأن الله سبحانه وتعالى قد نهانا عن التشبه بغيرنا عقيدة وشريعة وخلقا وسلوكا، والتساهل في هذا الباب يضيع هوية المسلم وشخصيته، ولاسيما عند ضعف التقوى والأيمان.


وقد دخلت عادات الغربيين والشرقيين من الكفار والمشركين، في هذه الأيام إلى أبناء كثير من المسلمين عبر أجهزة الإعلام المختلفة، وخاصة الفضائيات التي تنقل الغث والسمين، وتنقل أحوال الكفار وملابسهم وعاداتهم، وتنقل عبرها احتفالاتهم واجتماعاتهم وأعيادهم الوثنية والشركية، فيراها أبناء وبنات المسلمين ويقلدونها، ويريدون أن يكون للمسلمين مثلها، ومعلوم أن الإنسان الجاهل والخالي الوفاض من العلم النبوي، يحب التقليد لغيره، أما إذا ذكر له سير الصالحين، وأحوال النبيين، وعلم أخبارهم، فإنه يحب أن يكون مثلهم، وإذا وضعت أمامه أحوالهم وأقوالهم وعاداتهم وذكرت له ملابسهم وزينهم، فإنه يحب أن يكون كذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.










ابوالوليد المسلم 11-12-2021 09:50 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (40)

إثم من دعا إلى ضلالة




الشيخ.محمد الحمود النجدي




إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.




الباب الخامس عشر:




15 – باب إثم مَن دعا إلى ضلالة , وسنّ سنة سيئة؛ لقول الله تعالى: {ومن أوزار الذين يضلونهم} (النحل: 25).




7321 – حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان: حدثنا الأعمش, عن عبدالله بن مرة, عن مسروق, عن عبدالله قال: قال النبي[: «ليس من نفسٍ تقتل ظلما, إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها – وربما قال سفيان: من دمها - لأنه أولُ من سنّ القتل أولا».




طرفه في: 3335 .




الشرح :




الباب الخامس عشر هو: باب إثم من دعا إلى ضلالة, وسن سنة سيئة؛ لقول الله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (النحل: 25).




ترجم البخاري - رحمه الله - لهذا الباب بحديثين ليسا على شرطه, واكتفى بما يؤدي معنى الحديثين, وهما حديثان أخرجهما صاحبه وتلميذه الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري .




فأما حديث: «من دعا إلى ضلالة» فأخرجه الإمام مسلم عن العلاء بن عبدالرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال [: «منَ دعا إلى هدى كان له من الأجر، مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا, ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».




وأما حديث: «من سن سنة سيئة» فأخرجه الإمام مسلم من رواية عبدالرحمن بن هلال عن جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - قال: قال[: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا, ومن سن في الإسلام سنة سيئةً، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا».




فهذا الباب في معنى هذين الحديثين العظيمين، ويبين أن من دعا إلى هدى جاء به النبي [, وأحياه وذكر به الناس, وعلم به الجاهل، فإن له أجر من استجاب له وعمل به، من غير أن ينقص من أجره شيئا وذلك إلى يوم القيامة, وإذا دعا إلى ضلالة, إذا ابتدع ضلالة أو ابتدع بدعة فعليه وزرها، ووز من عمل بها بعده، لا ينقص ذلك من وزره شيئا، والعياذ بالله .




وقوله [: «من سن في الإسلام سنة حسنة» يعني: أحيا سنة نبوية ميتة؛ فإن السنن تموت وتحيا, تموت بظهور البدع والمحدثات، وتحيا السنن بموتها, كما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «ما أحييت بدعة إلا وأميتت سنة»، فإحياء البدع معناه موت السنن, وهذه نتيجة طبيعية؛ وذلك أن للإنسان طاقة محصورة، وعمرا ووقتا محدودا, فإذا اشتغل بالبدع والمحدثات لم يبق له وقت, ولا جهد, ولا قصد, ولا همة لإحياء السن والاشتغال بها؛ لأنه قد اشتغل بضدها, وهكذا إذا اشتغل المسلم بالسنن, وملأ حياته بالاقتداء بسيد الخلق [, لم يبق عنده وقت للالتفات إلى المحدثات والبدع, أو إلى العادات السخيفة والطرائق التي تخالف طريقة نبينا عليه الصلاة والسلام.




ويدخل في إحياء السنن: العمل بكل ما أمر الله تعالى به, وما أمر به رسوله [؛ لأن سبب هذا الحديث أن الرسول [ دعا الناس إلى البذل والنفقة في سبيل الله؛ لمجيء قوم عراة أو لا يلبسون إلا ما يكاد يستر عوراتهم، فدعا الناس للإنفاق, فقام رجل بُصرة قد عجزت كفه عن حملها, وجاء آخر بثياب, وجاء آخر بطعام, حتى توافر لدى النبي [ كوم من طعام وكوم من ثياب؛ فتهلل وجهه عليه الصلاة والسلام, وقال هذا الحديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا».




وأما الآية في الباب: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (النحل: 25), أي: إن من أضل إنسانا عن سبيل الحق، ودعاه إلى الباطل، وقلده في قوله وعمله بجهل، فإنه يحمل وزره، ووزر من أضله إلى يوم القيامة على ظهره في المحشر.




وكذا من حمل أحدا على ارتكاب معصية, ومن زين لإنسان معصية ووقع فيها فعليه وزرها, فإنه يحمل ذنبه وذنب من أضله؛ ولهذا قال مجاهد إنهم يحملون ذنوب أنفسهم, وذنوب من أطاعوهم، يعني من زينوا لهم البدعة أو زينوا لهم المعصية فأطاعوهم, ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم شيئا؛ لأن من أطاع غيره في ارتكاب معصية فهو مسؤول عن نفسه, ومسؤول عن معصيته لكن من أمره بالمعصية فأطاعه يكون ذنبه مضاعفا .




واستدل البخاري بحديث ابن مسعود الذي ساقه من طريق شيخه الحميدي, والحميدي هو عبدالله بن الزبير , وهو أحد الحفاظ وصاحب المسند المعروف باسمه اليوم, وهو مطبوع في مجلدين باسم (مسند الحميدي)، قال: حدثنا سفيان, وهو شيخه سفيان بن عيينة الهلالي أبو محمد، قال: حدثنا الأعمش, وهو سليمان بن مهران كما مر معنا, عن عبدالله بن مرة وهو الهمداني تابعي ثقة.




عن مسروق وهو ابن الأجدع الهمداني، أبوعائشة الكوفي، ثقة فقيه مخضرم، وأحد أصحاب عبدالله بن مسعود، عن ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه - قال: قال النبي [: «ليس من نفس تقتل ظلماً، إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها أو كفل منها؛ لأنه سن القتل أولا».




وابن آدم الأول هو الذي قص الله سبحانه وتعالى علينا قصته في سورة المائدة في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة: 27 - 28) .




وحاصل القصة: أن أحد الرجلين اختلف مع أخيه في شيء، قيل: في زواجه من أخته التي معه بنفس البطن, وقيل: غير ذلك، فأمرهما أبوهما آدم عليه السلام أن يقربا قربانا، فمن تقبل قربانه فهو على الحق والصواب, والذي لا يتقبل قربانه فهو على الباطل والخطأ، فتقبل الله تبارك وتعالى قربان أحدهما, وذلك بنار تنزل من السماء فتأكل القربان؛ فعند ذلك اغتاظ الآخر وقال: لأقتلنك, فذكّره بالله تعالى، وأن هذا الفعل عدوان وظلم وحرام، وأخبره أنه لو أراد قتله فإنه لن يقتله, ولن يدافع عن نفسه, فقام أخوه, ويقال في التفسير أنه هابيل, قام على أخيه بصخرة عظيمة فشدق بها رأس أخيه قابيل وهو نائم.




فالنبي [ يذكر في هذا الحديث أنه لا تقتل نفس في الأرض ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل, والكفل: هو الحظ والنصيب, كما في قوله تعالى: {ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها} (النساء: 87).




والمعنى: إلا كان على ابن آدم الأول نصيب من وزرها , وكفل من إثمها ودمها، لماذا؟ لأنه كان أول من سن وابتدأ القتل.




فأول من أظهر هذه الجريمة في الأرض وهي القتل، هو هابيل، فاتبعه من تبعه من فجرة بني آدم في قتل النفوس ظلما, وتجاوز لحدود الله والوقوع في حرماته, والدعوة إلى هذا الفعل.




وهذا الباب في التحذير من الضلال, واجتناب البدع ومحدثات الأمور, والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين, وقد قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115).




وهذا الباب: فيه التحذير من الآثام التي تلحق المرء ولو بعد موته، فتكون من السيئات الجارية والعياذ بالله، من عمل بمعصية فاشتهرت عنه, وعمل بها الخلق من بعده؛ لأنه الأصل في إحداثها أو الدعوة إليها, ويدخل في ذلك في زماننا ما يكتبه وينشره أصحاب الكتب المنحرفة, والمناهج الهدامة, والبدع المضلة، الداعية للبدع والشركيات، وأصحاب المجلات الساقطة التي فيها الصور العارية الخليعة, وأصحاب إنتاج أشرطة (الفيديو كلب), والأفلام الخبيثة, وأشرطة المعازف والغناء، وكذا المغنون والمغنيات, والممثلون والممثلات, ومن على شاكلتهم من أصحاب الدعوات الباطلة والمنكرة، كلهم داخلون في هذا الباب والعياذ بالله تعالى؛ لأنهم دعاة إلى الشر, يدعون الناس إلى البدع والضلالات، أو الفسوق والفجور والعصيان, ويزينون للخلق كافة مخالفة ربهم, وعصيان رسوله [, فتكون لهم هذه الأعمال، سيئات جارية مستمرة حتى بعد خروجهم من الدنيا.




نحن سمعنا عن الصدقات الجارية ، كأن تحفر بئرا، أو تورث مصحفا، أو تبني مسجدا، أو تبني بيتا لابن السبيل أو لليتيم أو للأرملة، أو ما أشبه ذلك من الأوقاف الخيرية التي هي صدقات جارية لك بعد مماتك, لكن هل سمعنا عن السيئات الجارية؟! إنها التي يدعو فيها الإنسان الخلق إلى معصية الله, وارتكاب حرماته فتكتب وتسجل عليه، ثم كل من قلده فيها ووافقه وسار على نهجه كتب له من أوزارهم على ظهره كما قال الله عز وجل: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (النحل: 25).




فوالله العظيم، لو علم هؤلاء الدعاة إلى الضلال والشر والباطل, ماذا عليهم من الإثم لكفوا وانتهوا عن ذلك!





لو أنهم حكموا عقولهم، ونظروا بعين البصيرة ماذا يكون عليهم من الآثام في إضلالهم لخلق الله سبحانه وتعالى, ودعوتهم إلى الشر والمنكر والباطل , لكفوا عن ذلك وابتعدوا، واكتفوا على الأقل بسيئات أنفسهم.

وانظروا اليوم إلى السبل الكثيرة التي يراها المسلمون, والطرائق الخبيثة التي تعرض عليهم صباح مساء في الفضائيات, وفي الجرائد والمجلات، والأسواق وغيرها, حتى المسلم - أو المسلمة - إذا خرج على الناس وقد صنع بنفسه شيئا منكرا فقلده عليه غيره من خلق الله، فإنه يكون داعية إلى ذلك الشر, ويكون داخلا في قول الرسول [: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه, لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».

ابوالوليد المسلم 12-12-2021 10:56 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (41)

الإجماع وعمل أهل المدينة


الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.





الباب السادس عشر:

16- باب ما ذكر النبيُّ [ وحضّ على اتفاق أهل العلم، وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبي [ والمهاجرين والأنصار، ومصلى النبي [ والمنبر والقبر.

الحديث الأول:

7322 – حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله السلمي: أن أعرابيا بايع رسول الله [ على الإسلام، فأصاب الأعرابي وعكٌ بالمدينة، فجاء الأعرابي إلى رسول الله [ فقال: يا رسول الله، أقلني بيعتي، فأبى رسول الله [، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله [: «إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها وينصع طيبها « (طرفه في: 1883).

الشرح:

الباب السادس عشر: باب ما ذكر النبي [ وحض على اتفاق أهل العلم، وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبي [ والمهاجرين والأنصار، ومصلى النبي [ والمنبر والقبر.

فهذا الباب ذكر فيه البخاري رحمه الله ثلاثة وعشرين حديثا، فيها حث النبي [ وتحريضه على الاتفاق قدر المستطاع، والبعد عن الاختلاف والتنازع، وذكر حجية ما اجتمع عليه أهل الحرمين مكة والمدينة النبوية؛ لما كان فيهما من توافر أصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار.

وأما الإجماع فهو كما ذكر أهل العلم: اتفاق مجتهدي العصر من أمة محمد [ على أمر من الأمور الدينية.

وكان الإمام مالك رحمه الله يرى أن عمل أهل المدينة حجة على غيرهم وأنه إجماع، وعلل ذلك بأن المدينة النبوية هي مأوى النبي [، ودار إقامته، وهي محل إقامة أصحابه رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار من بعده؛ فعملهم حجة على غيرهم، بل عملهم حجة على فهم النصوص والعمل بها أو عدم العمل، هكذا رأى الإمام مالك؛ ولهذا لم يأخذ الإمام مالك رحمه الله بحديث: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» وهو متفق عليه؛ لأن أهل المدينة لم يكونوا يعملون به، والصحيح: أن عمل أهل المدينة لا شك في قوته وحجيته، لكن لا يمكن أن يقدم عملهم على النصوص الشرعية الواضحة الصريحة، بل النص الشرعي يقدم على قول كل أحد، وعمل كل أحد، كائنا من كان.

ثم إن أصحاب النبي [ خرج كثير منهم بعد وفاة النبي [ من المدينة إلى الفتوحات والبلدان المختلفة، واستقروا في البلاد المفتوحة، معلمين للخلق الدين والسنن، سنن نبينا [، فكانوا نعم القادة ونعم السادة المعلمون، المفقهون، المفهمون لكتاب الله تعالى وسنة رسوله [.

إذًا إجماع أهل المدينة حجة ما لم يخالف النص، ولا شك في أفضلية المدينة وأفضلية أهل المدينة، لكن الفاضل من الصحابة وغيرهم قد يخطئ كما هو معلوم، بل قد يخطىء الفاضل ويصيب المفضول.

وهناك أيضا من ذهب إلى حجية عمل أهل الكوفة؛ بحجة أن أهل الكوفة كان عامة علمائهم من أصحاب رسول الله [؛ لأنها من البلدان التي كثر فيها نزول الصحابة بعد فتحها في عهد عمر رضي الله عنه، أو تخطيطها في زمن عمر رضي الله عنه.

ونقول نحن: إن أفضلية المكان وأفضلية أهله، وكذا أفضلية الزمان، لا يدلان على إصابة الحق دائما، بل الحجة تدور مع النص حيث دار، وكما قيل: اعرف الحق تعرف أهله.

ويمكن أن يقال: إن الإمام مالك بن أنس رحمه الله بنى ذلك على ندرة مخالفة أهل المدينة للنصوص الشرعية، وهذا صحيح، لكن ليس دائما.

وعلى كل حال فإن عمل أهل المدينة حجة ما لم يخالف نصا من كتاب الله، أو سنة رسوله [.

ثم ذكر البخاري رحمه الله في أول ما ذكر من الأحاديث: حديث جابر بن عبدالله السلمي، يرويه عن إسماعيل وهو بن أبي أويس، قال: حدثني مالك، وهو الإمام المشهور مالك بن أنس إمام دار الهجرة، عن محمد بن المنكدر المدني، ثقة فاضل وهو من المكثرين في الرواية عن جابر.

عن جابر رضي الله عنه: «أن أعرابيا بايع النبي [ على الإسلام؛ فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة « يعني: أصابته وعكة ومرض، وهذا مما يصيب من سكن المدينة أولا، كما جاء في حديث ابن عمر مرفوعا: «لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد، إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» رواه مسلم (2/1004). واللأواء: حمى المدينة.

فجاء الأعرابي إلى رسول الله [ فقال: «يا رسول الله أقلني بيعتي» يعني: ردّ علي بيعتي لأني أريد أن أخرج من المدينة، فهو هاجر إلى المدينة، وبايع رسول الله على الهجرة، ثم إنه أراد ترك الهجرة والرجوع إلى البادية، فأبى رسول الله [ أن يرد عليه هجرته؛ لأنه لا يرد من بايعه، ولا يقيل من بايع على الهجرة أبدا.

قوله: «ثم جاءه مرة أخرى، وقال: أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه الثالثة فأبى [، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله [: «إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها، وينصع طيبها».

هذا الحديث استدل به البخاري على تفضيل المدينة النبوية على غيرها من المدن، بما خصها الله تعالى به من سكنى رسول الله وأصحابه الكرام، وبما أنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، والمقصود به خبث الناس أو الخبيث من الناس، فالمدينة تنفي الخبيث من الناس كما ينفي الكير خبث الحديد، والكير هو منفاخ الحداد الذي ينفخ به في النار حتى ينصهر الحديد، فكما أن الكير ينفي خبث الحديد إذا صهر، فكذلك المدينة تنفي الخبيث من الخلق والناس، وهذا كما قلنا يدل على فضل المدينة وسكناها.

وليس هذا الوصف المذكور عاما لها في جميع الأزمنة، بل هو خاص بزمن الرسول [؛ لأنه لم يكن أحد يخرج منها رغبة عن الإقامة فيها، إلا من لا خير فيه، فلا يخرج أحد من المدينة التي يقيم فيها رسول الله [، رسول رب العالمين، معلما، مفقها، تاليا للقرآن، محدثا عن الله، ذاكرا للواجبات، مبينا للمحرمات، لا أحد يخرج من هذا المكان وهذه البلدة، إلا من لا خير فيه من الخلق.

أما بعد وفاته [، وبعد اكتمال الدين والشريعة، وتمام القرآن والسنة النبوية، فقد خرج جماعة كثيرة من خيار الصحابة رضوان الله عليهم، وسكنوا خارج المدينة حتى ماتوا في تلك البلاد المفتوحة كما قلنا، وهم كثر، ومن أشهرهم: ابن مسعود، وأبوموسى الأشعري، وعلي، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، فقد سكنوا الكوفة، بل إن عليا ] وهو رابع الخلفاء الراشدين جعل الكوفة مقرا لخلافته، أي: نقل مقر الخلافة من المدينة إلى الكوفة، وكذلك سكن أبو ذر خارج المدينة، وعمار، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وغيرهم كثير سكنوا الشام، ومنهم من سكن المدائن بفارس، ومنهم من سكن مصر، وهكذا، وكما قلنا مقصدهم في ذلك مقصد عظيم وشريف، وهو إمارة البلدان وقيادتها وتعليم أهلها القرآن والسنن النبوية، وبيان ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه من الدين.

فهذا كله يدل على أن قوله [: «إنما المدينة كالكير تنفي خبثها» أنه خاص بزمنه [؛ حيث كانت الآيات القرآنية تنزل، والأحاديث تتلى، ولوجوب نصرته [ بالهجرة إليه والجهاد.

ومما يدل على ذلك أيضا: ما يقع في زمن الدجال عندما يحاصر المدينة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، يخرج على أثرها منها كل منافق ومنافقة.

فهذا الحديث: يدل أنه قد يسكن المدينة منافقون ومنافقات؛ لأنه إذا حاصر الدجال أهل المدينة رجفت المدينة فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا وخرج منها، فهذا يوم الخلاص الذي تتخلص فيه المدينة النبوية من المنافقين والمنافقات، والفاجرين والفاجرات الذين يستعلنون بنفاقهم، أو أنهم يخفونه حسب قوتهم، وترى أحيانا بعض ما لا يرضيك منهم في مكة أو المدينة من الساكنين فيها، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر الحرمين منهم.













ابوالوليد المسلم 21-12-2021 12:03 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (42)

الإجماع وعمل أهل المدينة (2)


الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.



الحديث الثاني:

7323 – حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا عبدالواحد: حدثنا معمر, عن الزهري, عن عبيدالله بن عبدالله قال: حدثني بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أقرئ عبدالرحمن بن عوف، فلما كان آخر حجةٍ حجها عمر، فقال عبدالرحمن بمنى: لو شهدت أمير المؤمنين، أتاه رجل قال: إن فلانا يقول: لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا, فقال عمر: لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم.

قلت: لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس, يغلبون على مجلسك, فأخاف ألا ينزلوها على وجهها, فيطير بها كل مطير, فأمهل حتى تقدم المدينة دارَ الهجرة ودار السنة, فتخلُص بأصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار, فيحفظوا مقالتك وينزّلوها على وجهها، فقال: والله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة.

قال ابن عباس: فقدمنا المدينة، فقال: إن الله بعث محمدا [ بالحق, وأنزل عليه الكتاب, فكان فيما أُنزل آية الرجم. (طرفه في: 2462).

الشرح:

الحديث الثاني في هذا الباب حديث ابن عباس عن عبدالرحمن بن عوف, والغرض منه هنا كما قال الحافظ ابن حجر: ما يتعلق بوصف المدينة بدار الهجرة، ودار السنة، ومأوى المهاجرين والأنصار.

وفي الحديث لما سمع عمر ] قول بعض الناس: لو مات أمير المؤمنين عمر لبايعنا فلانا وفلانا؟! فغضب عمر من هذه المقالة التي لا تستند إلى علم ولا دليل, ولا إلى رأي لمن جعله الله تعالى أهلا للحل والعقد, فأراد عمر ] أن يقوم فيخطب في أهل الموسم ممن حضر الحج في تلك السنة, وأن يحذرهم من هذه الأقاويل الفاسدة؛ لأن هذا الأمر ليس لكل أحد أن يبت فيه، أو أن يتكلم فيه أو أن يحكم فيه.

فقال له عبدالرحمن بن عوف: لا تفعل فإن موسم الحج يجمع رعاع الناس، وهم العوام من الناس، أو من لا رأي له, فقال له: أخاف ألا ينزلوا كلامك على غير وجهه، فيحصل به شر وفتنة، ويطير بها كل مطير.

قوله: «فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار»، وهذا موقع الشاهد للترجمة من هذا الحديث وهو قول عبدالرحمن بن عوف: «أمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة», فوصف المدينة بأنها دار الهجرة ودار السنة, وأن فيها أصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار الذين يفهمون مقالتك، وينزلونها على وجهها.

فدل هذا الحديث على تفضيل المدينة ووصفها بأنها دار الهجرة, وهي كذلك؛ فإنها مهاجر النبي [ ومأواه, وبها المهاجرون والأنصار, ومر معنا في الحديث الماضي قول من قال بحجية إجماع أهل المدينة، لكثرة من كان بها من أصحاب رسول الله [, وأقوى منه قول من قال بحجية إجماع الصحابة؛ وذلك لأن الصحابة شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، وعاصروا الرسول [ وسمعوا الحديث.

ولا شك أن إجماع الصحابة أقوى من إجماع أهل المدينة، والراجح كما ذكرنا في الحديث الماضي أن إجماع أهل المدينة، القول به أقوى من القول بغيره، ما لم يخالف نصا مرفوعا إلى الرسول [, وما ذاك إلا لفضل أهل المدينة، وقربهم من العلم, ولكون المدينة كانت دار السنة ودار الهجرة .

الحديث لثالث: قال البخاري رحمه الله:

7324 – حدثنا سليمان بن حرب: حدثنا حمادٌ, عن أيوب, عن محمد قال: كنا عند أبي هريرة, وعليه ثوبان ممشقان من كتان, فتمخط، فقال: «بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان, لقد رأيتني وإني لأخرّ فيما بين منبر رسول الله [ إلى حجرة عائشة مغشيا عليّ, فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي, وُيرَى أني مجنون, وما بي من جنون, ما بي إلا الجوع».

الشرح:

الحديث الثالث في هذا الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه, يرويه البخاري عن شيخه سليمان بن حرب عن حماد, وهو زيد بن درهم أحد الحمادين ومن الثقات الأثبات, عن أيوب هو ابن أبي تميمة السختياني, قال: عن محمد, وهو ابن سيرين الإمام المشهور التابعي الثقة, واشتهر بتأويل الرؤى والأحلام, وله كتاب مشهور في الأسواق وفيه بعض الأشياء الغريبة التي تدل غرابتها على أنها زيدت في الكتاب, وبعض أهل العلم يقول: إن هذا الكتاب مدسوس على ابن سيرين! لكن الذي يظهر والله أعلم أن ابن سيرين كان له اشتغال بالرؤى كثيرا، وقد فسرت وأول وكتبت, لكن جاء بعض الناس وزاد على هذا الكتاب أشياء، لأن الكتاب قديم, وله نسخ مخطوطة كثيرة.

قال: «كنا عند أبي هريرة ] وأرضاه وعليه ثوبان ممشقان» ممشقان يعني: مصبوغان بالمشق, والمشق هو الطين الأحمر.

قوله: «من كتان»: وهو نبات معروف تصنع منه الثياب.

قوله: «فتمخط فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان» وهذا بعد النبي [, وبعد أن حصل الرخاء, كثرت الأموال وفتحت, وبسطت الدنيا على الصحابة رضي الله عنهم بعد الضيق والشدة التي كانوا بها.

قوله: «فقال: بخ بخ» هذه الكلمة تقال للتعجب, وتقال أيضا للفرح، وفيها لغات.

قوله: «لقد رأيتني» هو يحكي حاله من قبل في زمن النبي [، حيث الحاجة والفقر هي الغالبة على حال الصحابة رضوان الله عليهم.

قوله: «وإني لأخرَّ فيما بين منبر رسول الله [ إلى حجرة عائشة مغشيا علي» أي: وهو مكان القبر الشريف الآن.

قوله: «فيجيء الجائي» أي: فيأتي الرجل من الناس» فيضع رجله على عنقي, ويرى أني مجنون «يعني: يظن أني مجنون ولهذا أصرع, وما بي من جنون, ما بي إلا الجوع»، فهو - رضي الله عنه وأرضاه - من شدة الجوع كان يخر مغشيا عليه، حتى يظن بعض الناس الذين يرونه مغشيا عليه، أن به صرعا من الجنون، فيضع رجله عليه, وما كان به من جنون, وإنما سبب وقوعه مغشيا عليه هو الجوع الشديد.

وهذا فيه بيان ما كان عليه أبو هريرة ] خاصة من الصبر على الجوع الشديد وقلة الطعام, والفقر والشدة من أجل ملازمة النبي [ في طلب العلم الشرعي, والحرص على مجالسة النبي [، وسماع الحديث النبوي منه، أي: إنه ترك السعي وراء الدنيا, والمعاش حرصا على ملازمة رسول الله [ وسماع أقواله كلها، فجوزي على ذلك بما انفرد به من كثرة الحديث عن رسول الله [، ونقله لأحاديثه حتى صار أكثر الصحابة حفظا, وهو راوية الإسلام بحق؛ فالمنقول عن أبي هريرة في الكتب الستة وغيرها يفوق الخمسة آلاف حديث، في حين أن أكثر الصحابة حديثا كأنس وابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم، لا يزيد حديثه على ألفين وكسر من الأحاديث.

ولهذا كثرت الطعون على هذا الصحابي الجليل من أعداء الإسلام والحاسدين، وكثر الكلام على ما نقله من الحديث النبوي الشريف, ووجهوا الاتهام له بالكذب, وهو ] وأرضاه بعيد عن ذلك كله, فأعداء الإسلام قديما وحديثا خاضوا في عرض هذا الصحابي الجليل، واتهموه بافتراء الكذب على النبي [؛ من أجل أن يسقطوا السنة النبوية وأحكامها, ومعلوم أن الطعن في الصحابة طريق الزنادقة والملاحدة، كما قال أبو زُرعة الرازي رحمه الله: هم يريدون أن يجرحوا شهودنا, والجرح بهم أولى، وهم زنادقة، وإنما نقل لنا الإسلام والسنة النبوية الصحابة.

يعني: إذا جرحوا الصحابة سقطت شهادتهم، وبذلك تسقط أحكام الإسلام التي نقلوها، وتندثر السنن، ويضيع الدين, وهذا هو مقصود الزنادقة والمنافقين قديما وحديثا, وفي هذا العصر أيضا كثرت المؤلفات والكتب من المؤلفين الحاقدين والمندسين بين أهل الإسلام وغيرهم من أهل الفرق المنحرفة، والطاعنين على أصحاب رسول الله [ وحملة الآثار والأحاديث؛ لصد الناس عن سبيل الله والاستقامة على دينه.


والمقصود من هذا الحديث: أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه لما صبر على الشدة والجوع وشظف العيش بالمدينة النبوية، جازاه الله تعالى بما انفرد به من كثرة الحديث المحفوظ عنه [ ونشره بين الناس.










ابوالوليد المسلم 04-01-2022 02:35 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (43)

الإجماع وعمل أهل المدينة (2)


الشيخ.محمد الحمود النجدي


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الحديث الرابع:

7325 – حدثنا محمد بن كثير: أخبرنا سفيان, عن عبدالرحمن بن عابس قال: سئل ابن عباس: أشهدت العيد مع النبي [؟ قال: نعم, ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصغر, فأتى الَعَلَم الذي عند دار كثير بن الصلت, فصلى ثم خطب, ولم يذكر أذانا ولا إقامة, ثم أمر بالصدقة, فجعل النساء يُشرن إلى آذانهن وحُلوقهن, فأمر بلالا فأتاهن ثم رجع إلى النبي [. (طرفه في: 977).

الشرح:

الحديث الرابع في هذا الباب: باب ما ذكر النبيُّ [ وحضّ على اتفاق أهل العلم, وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة, وما كان بهما من مشاهد النبي [ والمهاجرين والأنصار, ومصلى النبي [ والمنبر والقبر. حديث عبد الرحمن بن عابس وهو ابن ربيعة النخعي الكوفي، تابعي ثقة. عن ابن عباس رضي الله عنه لما سئل: «أشهدت العيد مع النبي [؟ قال: نعم، ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصغر» إشارة من ابن عباس أن صغير أهل المدينة وكبيرهم، ورجالهم ونساءهم بل وخدمهم، ضبطوا العلم معاينة عن النبي [ في مواطن عملية أخذوها عنه مشافهة، وليس لغيرهم من الناس هذه المنزلة.


قوله: «ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصغر» أي: لصغر سنه، حضر موعظة النساء، وضبطه يدل على ذكائه وحفظه.

وقال بعض أهل العلم: قوله: «ولولا منزلتي منه ما شهدته من الصغر» أن ابن عباس قصد أنه أخذ بعض كلامه [ وحاله من أهله، فهو ابن عمه أولا، وميمونة رضي الله عنها زوج النبي [ خالته، وهذا أيضا مما قربه إلى مجلس النبي [ , إذ كان يدخل عليه في بيت خالته ميمونة كما جاء في الحديث: «بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي [ يصلي من الليل فقمت معه «الحديث عند البخاري, فحظي بمجالس للنبي [ خاصة.

فلهذا وصل إلى هذه المنزلة في العلم، ثم هو صحابي ممن شاهد وعاصر.

ثم ذكر فعله [ فقال: «فأتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت» العلم: بفتحتين هو الشاخص الذي جعلوه علامة يعرف به المصلى، ودار كثير بن الصلت بنيت بعد العهد النبوي، واشتهرت باسمها، والغرض منه ذكر موضع المصلى النبوي للعيد بالمدينة النبوية.

قوله: «فصلى» يعني: في مصلى العيد ثم خطب ولم يذكر أذانا ولا إقامة؛ لأن صلاة العيد لا أذان فيها ولا إقامة , هذه هي السنة النبوية.

قوله: «ثم أمر بالصدقة، فجعل النساء يشرن إلى آذانهن وحلوقهن» يعني: جعل النساء يأخذن بأيديهن من أقراطهن إلى آذانهن، أي: إلى الأقراط التي تعلق بالآذان عند النساء «وإلى حلوقهن» يعني: إلى القلائد التي في الرقاب، أي: إنهن رضي الله عنهن لما دعاهن رسول الله [ إلى الصدقة والإنفاق، بادرن إلى التصدق من حليهن وذهبهن, ولم يؤخرن الاستجابة لله والرسول [.

«فأمر النبي [ بلال فأتاهن ثم رجع إلى النبي [»، أمر بلالا أن يجمع ما ألقين من الحلي والقلائد وغيرها, وجاء به إلى النبي [.

هذا الحديث الغرض منه ذكر ما اختص به أهل المدينة من وجود المصلى النبوي عندهم, وأن أهل المدينة لهم مصلى للعيد يصلون به العيد, وهذه سنة النبي [، فلم يكن يصلي العيد بالمسجد، مع أن مسجده [ من أشرف المساجد والصلاة فيه بألف صلاة, إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يصلي به العيد، بل كان يخرج للصلاة خارج المسجد, وما ذاك إلا لأن الشرع جاء بإحياء صلاة العيد خارج المسجد.

وقول ابن عباس: «لولا مكاني من الصغر ما شهدت»، فيه أيضا: فضل أهل المدينة, وأن هذا الفضل لا يختص بالكبير وحده، بل يعم الكبير والصغير والنساء والخدم والعبيد وغيرهم؛ لأن هؤلاء كلهم ضبطوا العلم عنه [، وعاينوا المصطفى [, وما كان يفعل بالمدينة وأفعاله وعباداته وسمع أقواله, فهذا فيه فضل لهم.

يعني أن هذا الفعل ليس خاصا بكبار الصحابة, بل كل من كان في المدينة في عهده [ رأى النبي [ لكن ابن عباس يختص بمزيّتين: أولاهما: أنه ابن عم النبي [, فالعباس أبوه, وعم النبي [.

وثانيتهما: أن خالة ابن عباس هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية, أخت أم ابن عباس. فالمقصود أن أهل المدينة لهم من الخصائص ما لا يشاركهم فيه من بعدهم, وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء, والله ذو الفضل العظيم.

الحديث الخامس:

قال البخاري رحمه الله:

7326 - حدثنا سفيان, عن عبدالله بن دينار, عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي [ كان يأتي قباء ماشيا وراكبا. (طرفه في: 1191).

الشرح:

الحديث الخامس حديث ابن عمر ] , يرويه البخاري رحمه الله عن شيخه أبي نعيم وهو: الفضل بن دكين الكوفي، مشهور بكنيته, ثقة ثبت. قال: حدثنا سفيان وهو ابن عيينة, عن عبدالله بن دينار هو التابعي الجليل, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي [ كان يأتي قباء ماشيا وراكبا.

المقصود من هذا الحديث أن النبي [ كان يعاينه الصحابة ماشيا وراكبا في تنقلاته المختلفة, ومنها ذهابه لمسجد قباء ماشيا، وهو مشهد من المشاهد التي لا يراها إلا من كان عنده بالمدينة, هذا هو المقصود، فإن هذا المشهد , وهو خروجه [ إلى الصلاة في مسجد قباء, وهو أول مسجد أسس في الإسلام, هذا المشهد لا يراه إلا أهل المدينة فهو خصيصة وفضل لأهل المدينة، لا يشاركهم فيه غيرهم.

الحديث السادس:

قال البخاري رحمه الله:

7327 – حدثنا عبيد بن إسماعيل: حدثنا أبو أسامة, عن هشام, عن أبيه, عن عائشة: قالت لعبدالله بن الزبير: ادفنّي مع صواحبي, ولا تدفني مع النبي [ في البيت؛ فإني أكره أن أزكَّى. (طرفه في: 1391).

الشرح:

الحديث السادس وهو حديث عائشة رضي الله عنها, يرويه البخاري عن عبيد بن إسماعيل وهو القرشي الهباري، ثقة، عن أبي أسامة وهو حماد بن أسامة القرشي مولاهم، مشهور بكنيته، ثقة ثبت. عن هشام وهو ابن عروة بن الزبير, عن أبيه عروة, عن عائشة رضي الله عنها، وهي خالته؛ لأن أمه هي أسماء بني أبي بكر رضي الله عنهما.

قالت عائشة لعبدالله بن الزبير - وهو ابن أختها -: «ادفني مع صواحبي» صواحبي جمع صاحبة، تريد أزواج النبي [. يعني: ادفني بمقبرة البقيع, مع بقية أزواج النبي [ أمهات المؤمنين.

قولها: «ولا تدفني مع النبي [ في البيت، فإني أكره أن أزكى» أي: لا أحب أن يثني علي أحدٌ بما ليس فيَّ, بل بمجرد كوني مدفونة مع النبي [ دون سائر نسائه؛ فإني إذا دفنت مع النبي [ في الحجرة التي دفن فيها, وهو بيتها أصلا, فإن الناس سيظنون أني خصصت بهذا الفضل دون سائر أزواجه [.

وهذا من العجب الذي لا ينقضي! كيف أن عائشة رضي الله عنها تواضعت هذا التواضع البليغ، وكرهت أن تزكى وأن تمدح بأنها دفنت مع النبي [ في حجرته, وفرت من هذا المقام خشية أن يظن بها أنها أفضل أزواج النبي [ مطلقا! مع أنها من أفضل نسائه، وأحبهن إلى رسول الله [، ولكنه التواضع.

وقد اختلف في التفضيل بينها وبين خديجة رضي الله عنها, فقال بعض العلماء: إن خديجة أفضل من عائشة, وقال آخرون: إن عائشة أفضل من خديجة, وعلى كل حال فإن عائشة أفقه من خديجة بلا شك؛ لأن خديجة ماتت أول الإسلام تقريبا, ولمّا تنزل بقية أحكام الشريعة والدين, ولما تثبت السنن وتستقر, وعائشة رضي الله عنها أيضا ماتت بعد النبي [ , وقد ملأت الدنيا علما وفقها وحديثا, بل إنها كانت تحكم بين الصحابة فيما كانوا يختلفون فيه من المسائل الفقهية, ولا سيما السنن البيتية، وقضايا الطهارة، كما جاء في الصحيح: أن الصحابة كانوا إذا اختلفوا في شيء، رجعوا إلى أم المؤمنين عائشة، فيجدون عندها علما، فرحمها الله تعالى رحمة واسعة ورضي عنها، وانتقم ممن طعن عليها بالزور والباطل، ورماها بالبهتان العظيم، من المنافقين وأشباههم إلى يوم الدين.










ابوالوليد المسلم 09-01-2022 10:47 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (44)

-الإجماع وعمل أهل المدينة (4)


الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الحديث السابع:

7328 – وعن هشام عن أبيه: «أن عمر أرسل إلى عائشة: ائذني لي أن أدفن مع صاحبيّ، فقالت: إي والله، قال: وكان الرجل إذا أرسل إليها من الصحابة قالت: لا والله، لا أوثرُهم بأحدٍ أبدا».

الشرح:

الحديث السابع في الباب: قال البخاري: وعن هشام عن أبيه، وهو هشام بن عروة ابن الزبير، وهو موصول بالسند الذي قبله، وعروة لم يدرك زمن إرسال عمر إلى عائشة، لكنه محمول على أنه سمعه من عائشة.

قوله «أن عمر أرسل إلى عائشة: أن ائذني لي أن أدفن مع صاحبيّ « صاحبي: بالتثنية، أي: مع رسول الله [ وأبي بكر، وهذا جاء مطولا في قصة مقتل أمير المؤمنين عمر ] وأرضاه؛ فإنه لما طعن أرسل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يستأذن، وقال للرسول: قل لعائشة: إن عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، ولا تقل لها: إن أمير المؤمنين يستأذن، فإني اليوم لست أميرا للمؤمنين، فجاء الرسول إلى عائشة رضي الله عنها، وبلّغها مطلب عمر رضي الله عنه، فقالت: إي والله، وكلمة (إي) عند العرب تعني: نعم، وجاءت هذه اللفظة في كتاب الله تبارك وتعالى جارية على لغة العرب في خطابهم في قوله سبحانه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (يونس: 53).

قوله: «فقالت عائشة - وهي تأذن للرسول -: إي»، أي: نعم لا بأس، إني راضية في أن يدفن عمر في الحجرة النبوية، «وكان الرجل إذا أرسل لها من الصحابة قالت: لا والله، لا أوثرهم بأحد أبدا». يعني كانت عائشة رضي الله عنها إذا استؤذنت في أن يدفن أحد مع أبي بكر وقبله مع رسول الله [، لا تأذن في ذلك، ولا تؤثر أحدا على نفسها في القرب من النبي [ وأبيها، ثم إن عائشة رضي الله عنها كرهت أن تدفن معهم؛ خشية أن يظن أحد أنها من أفضل الصحابة بعد النبي [ وصاحبيه، وأنها أفضل أزواج النبي [ كما مر معنا، ولهذا دفنت بالبقيع مع بقية أزواج النبي [ رضي الله عنهن جميعا.

وسأل هارون الرشيد رحمه الله الإمام مالك رحمه الله عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي [ في حياته؟ فقال الإمام مالك: كمنزلتهما منه بعد مماته. يعني: إذا أردت أن تعرف منزلة أبي بكر وعمر من النبي [، فإن منزلتهما منه [ في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته.

فالإمام مالك زكّى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بقربهما منه في البقعة المباركة، وفي التربة التي دفنوا فيها جميعا؛ فاستدل بذلك على أنهما أفضل الصحابة باختصاصهما به.

والحديث أيضا مما يدل على مزايا المدينة، وفضل من جاور بالمدينة كما هو ظاهر.

الحديث الثامن:

قال البخاري:7329 – حدثنا أيوب بن سليمان: حدثنا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن صالح بن كيسان: قال ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك: أن رسول الله [ كان يصلي العصر، فيأتي العوالي، والشمس مرتفعة. وزاد الليث عن يونس: وبُعد العَوالي أربعة أميال أو ثلاثة. (طرفه في: 548).

الشرح:

الحديث الثامن في الباب حديث أنس رضي الله عنه، يرويه البخاري من طريق شيخه أيوب بن سليمان وهو ابن بلال القرشي المدني ثقة. عن أبي بكر بن أبي أويس، وهو عبد الحميد بن عبد الله الأصبحي، مشهور بكنيته، ثقة. عن سليمان بن بلال وهو التيمي مولاهم، ثقة. عن صالح بن كيسان وهو المدني، أبو محمد، ويقال: أبو الحارث، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبت فقيه، فالسند كله مدنيون.

عن أنس: أن رسول الله [ كان يصلي العصر فيأتي العوالي والشمس مرتفعة.

ما وجه إيراد البخاري رحمه الله لهذا الحديث في هذا الباب الذي هو باب فضل المدينة وكونها مأوى النبي [ والمهاجرين والأنصار؟ ذكر المهلب: أن هذا الحديث تستطيع أن تعرف منه وقت صلاة العصر، ومتى كان النبي [ يصلي العصر؛ لأنه [ كان يصلي العصر في مسجده فيأتي عوالي المدينة، وهي تبعد عن مسجده أربعة أميال، والشمس لا تزال مرتفعة، يعني: لا تزال بيضاء غير نازلة ولا مصفرة، فبهذا الحديث تستطيع أن تعرف به مقدار الوقت الذي كان يصلي فيه النبي [ صلاة العصر، فتمشي عليه.

وهذا المعنى لا يوجد في أي بلد من العالم إلا في المدينة النبوية؛ لأن الرسول [ كان يصلي بها. ولم يقو هذا القول الحافظ ابن حجر، بل قال: فيه تكلف ! إنما كأنه على مثل الحديث السابق، وهو أنه [ كان يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا، فيكون المقصود منه أن النبي [ كان أيضا يراه من كان في طريقه إلى العوالي، والعوالي منطقة قريبة من المدينة كما ذكرنا.

الحديث التاسع:

قال البخاري:7330 – حدثنا عمرو بن زرارة: حدثنا القاسم بن مالك، عن الجعيد: سمعت السائب بن يزيد يقول: كان الصاع على عهد النبي [ مدا وثلثا بمدكم اليوم، وقد زيد فيه. (طرفه في: 185).

الحديث العاشر:

7331 – حدثنا عبدالله بن مسلمة، عن مالك، عن إسحاق بن عبدالله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك: أن رسول الله [ قال: «اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم ومدهم «. يعني أهل المدينة. (طرفه في: 2130).

الشرح:

الحديث التاسع يرويه البخاري عن شيخه عمرو بن زرارة وهو ابن واقد الكلابي أبو محمد النيسابوري، ثقة ثبت. والقاسم بن مالك هو المزني، ثقة، وثقه الجمهور وليّنه بعضهم. عن الجعيد، ويكبَّر فيقال: الجعد وهو ابن عبد الرحمن بن أوس الكندي ويقال: التميمي، ثقة.

عن السائب بن يزيد ] قال: كان الصاع على عهد النبي [ مدا وثلثا بمدكم اليوم، وقد زيد فيه.

والصاع أربعة أمداد، والمد قدر ملء كفي الرجل المعتدل.

فهذا الحديث فيه أن قدر الصاع هو ما اجتمع عليه أهل المدينة النبوية، فالصاع الشرعي إذاً هو صاع أهل المدينة، واستمر العمل على اعتباره، وإن كان قد زاد فيه بنو أمية في العهد الأموي.

وأيضا: فيه تقدير الأنصبة الشرعية المقدرة بالصاع، بصاع أهل المدينة، وأن المرجع في تقدير نصاب الزكاة مثلا للزروع، وهو خمسة أوسق - والوَسَق ستون صاعاً - وأيضا تقدير الكفارات وغيرها بالأصواع.

فالمرجع في تقدير الصاع، هو صاع أهل المدينة، فهذا ما قصد البخاري رحمه الله التنبيه عليه، وأن المعتبر شرعا هو الصاع النبوي الذي كان عند أهل المدينة.


والحديث العاشر:

أما سنده فقد مر معنا، وهو حديث أنس في الدعاء لأهل المدينة بالبركة في صاعهم ومدهم، فالرسول [ خصّ أهل المدينة بأن دعا لهم بالبركة في صاعهم ومدهم؛ مما دفع كثيرا من الخلق إلى قصدهم من أجل هذه البركة، وأنه [ جعل صاعهم معيارا للمقادير الشرعية التي ذكرناها, وأن من تبع أهل المدينة في تقدير صاعهم فقد أدى ما فرضه الله عليه؛ إذ لا غنى لأهل الأرض عن صاع أهل المدينة، وتقديرهم له، وهذا مما خص الله تبارك وتعالى به أيضا أهل المدينة.










ابوالوليد المسلم 14-01-2022 05:41 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
-شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (45)

-الإجماع وعمل أهل المدينة (5)


الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الحديث الحادي عشر:

قال البخاري رحمه الله:

7332 – حدثنا إبراهيم بن المنذر: حدثنا أبو ضمرة: حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع عن ابن عمر: أن اليهود جاءوا إلى النبي [ برجل وامرأة زنيا؛ فأمر بهما فرُجما، قريبا من حيث توضع الجنائز عند المسجد. (طرفه في: 1329).

الشرح:

الحديث الحادي عشر روى فيه البخاري رحمه الله تعالى عن شيخه إبراهيم بن المنذر وهو ابن عبدالله الأسدي الحزامي، صدوق تكلم فيه الإمام لأجل القرآن، عن أبي ضمرة وهو أنس بن عياض المدني ثقة، عن موسى بن عقبة وهو ابن أبي عياش الأسدى، ثقة فقيه إمام في المغازي، وهو صاحب كتاب (المغازي)، ووجد منه أجزاء مخطوطة كمغازي الإمام ابن إسحاق.

قال: عن نافع وهو أبو عبدالله المدني، مولى ابن عمر ثقة ثبت فقيه مشهور. قال: عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاءوا إلى النبي [ برجل وامرأة زنيا؛ فأمر بهما فرجما قريبا حيث توضع الجنائز عند المسجد.

في هذا الحديث إثبات حدّ الرجم بسنة رسول الله [ الفعلية، والرجم فريضة أنزلها الله تبارك وتعالى في آية من كتابه من سورة الأحزاب، وهي قوله «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجمهما ألبته نكالا من الله والله عزيز حكيم» ثم نسخت تلاوة هذه الآية، وبقي حكمها، وقد أورد الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث للتدليل على أن الرجم ذكر في القرآن في آية، ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وخطب عمر ابن الخطاب ]، وهو المحدَّث الملهم فقال: إن الرجم في كتاب الله تعالى حق، نزلت آية الرجم فقرأناها ووعيناها، فيوشك أن يضل قومٌ بترك فريضة أنزلها الله تبارك وتعالى في كتابه، فيقولوا: لا نجد الرجم في كتاب الله! وقد رجم رسول الله [ ورجمنا بعده.

فإذاً الرسول [ قد رجم، ورجم الخلفاء من بعده.

ومن الأدلة من السنة على وقوع الرجم هذا الحديث؛ إذ رجم رسول الله [ الزانيين من اليهود، وأيضا جاء في (صحيح مسلم): عن عبادة بن صامت أن النبي [ قال: « خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهم سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».

وثبت في (صحيح مسلم) أيضا: عن علي رضي الله عنه: أنه لما زنت شُراحة، وكانت محصنة جلدها مائة جلدة ورجمها في اليوم التالي، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله [.

فالرجم إذاً ثابت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، وهذه الحادثة أيضا التي حدثت في عهد النبي [، هي من الأدلة على ثبوت الرجم لمن أحصن، والمحصن: هو من ثبت له الدخول بزوجة بعقد صحيح، فإن وقع في الزنى بعد ذلك، فصاحبه مستحق للرجم حتى يموت.

واليهود لما حصلت عندهم هذه الحادثة، جاءوا إلى النبي [ يتحاكمون إليه، وكانوا يظنون أنه سيخفف عنهم أو يغير لهم حكم الله تعالى، لكن الرسول [ أمر بالزانيين المحصنين أن يرجما، وكان ذلك في مصلى الجنائز الذي اعتاد [ أن يصلي فيه على الجنائز، قريبا من مسجده [. فالحديث هنا لإثبات هذه السنة العملية عنه [، وفيه رد كما قلنا على أهل الأهواء والفرق الضالة من الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا هذه الفريضة.

الحديث الثاني عشر:

قال البخاري:

7333 – حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن عمرو مولى المطلب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله [ طلع له أحد، فقال: « هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها». تابعه سهل عن النبي [ في أحد. (طرفه في: 371).

الشرح:

الحديث الثاني عشر يقول فيه البخاري: حدثني إسماعيل، وهو ابن أبي أويس، حدثني مالك، وهو الإمام المشهور، عن عمرو مولى المطلب وهو ابن حنطب عن أنس، الصحابي الجليل المشهور أن رسول الله [ طلع إلى أحد فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه». وهذا قاله عند رجوعه [ من إحدى الغزوات، ويمكن أن يكون عند رجوعه من الحج [، بدا له جبل أحد، وهو جبل كبير بالمدينة طوله ما يقرب من ثمانية كيلو مترات، وارتفاعه حوالي خمسمائة متر.

وقال [: «جبل يحبنا» فأثبت المحبة للجبل، وهذا كما قال كثير من أهل العلم إن الجمادات جعل الله تبارك وتعالى لها شيئا أو نوعا من الإدراك بأمره سبحانه وتعالى، كما حصل أنين الجذع بمسجده لرسول الله [، وهو جذع نخلة قد قطع ويبس ووضع بالمسجد، ومع ذلك حصل له حنين وصوت كصوت ولد الناقة إذا صاح.

ومثله أيضا تسليم الحجر عليه [. وذكر أيضا الإمام الحافظ ابن كثير شيئا من الكلام عن هذه المسألة عند قوله تبارك وتعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} (الكهف: 77). فالله سبحانه وتعالى يقول عن الجدار: {يريد أن ينقض} وهذا بأمره سبحانه وتعالى، فنسب للجدار شيئا من الإرادة.

فجبل أحد من معالم المدينة النبوية، وقال عنه [: « يحبنا ونحبه « أي: نبادله المحبة، وعند جبل الرماة بجبل أحد، حصلت غزوة أحد الشهيرة المذكورة في سورة آل عمران.

وقوله [: « اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها » فنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حرم مكة، بمعنى: بين للخلق تحريم مكة وأبلغهم ذلك، وإلا فمكة حرمها الله سبحانه وتعالى يوم خلق السموات والأرض، كما قال [: « إن مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض، ولم يحرمها الناس « فيجمع بين هذا الحديث، وبين قوله [ هاهنا: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة» يعني أن إبراهيم عليه السلام أظهر للناس تحريم مكة، وأبان لهم أن الله عز وجل جعل هذا البلد حراما، ومعنى كونه حراما جاء بيانه وتفصيله في أحاديث أخر، وهو: «أنه لا يصاد صيده، ولا ينفر، ولا يقطع شجره» فالبلد الحرام الأول هو مكة.

والبلد الثاني الذي حرم على لسان نبينا محمد [، هو المدينة، فهي بلد حرام، لا يصاد صيده، ولا ينفر، يعني: لا يذعر ويطرد عن وكره، أو يجرى خلفه؛ فلا يجوز أن يصطاد المسلم فيه لا طيرا ولا أرنبا ولا غزالا.

وروى البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «والله لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها، سمعت رسول الله [ يقول: «إنها حرام إنها حرام ، أو إنه حرم ما بين لابتيها».

فمعنى كون البلد حراما أنه لا يصاد صيده، ولا ينفر أو يذعر.

أما إذا صيد خارج المدينة ثم جيء به إلى داخل المدينة فلا بأس، واستدل لذلك بحديث أن الرسول [ لما رأى طائرا صغيرا يلعب به أخ صغير لأنس قال له: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ « وهو طائر صغير يقال له: النغير. لكن هذا الطائر صيد خارج المدينة ثم أدخل إلى المدينة.

وكذلك الشجر، لا يجوز قطعه، وهو الشجر الذي ينبت بنفسه، لا ما استزرعه الإنسان، يعني ما أنبته الإنسان وزرعه من النباتات والثمار والزروع، فهذا يجوز له أن يقطعه، كما يجوز له أن يأكل الدجاج والدواجن التي يربيها، لكن المقصود بالذي لا يقطع من الشجر، الذي ينبت بنفسه.

ويجب الانتباه إلى أنه لا يثبت حكم الحرمة لسوى مكة والمدينة على وجه الأرض، وقد نبه أهل العلم على خطأ شائع بين المسلمين، وهو قولهم عن المسجد الأقصى - حرره الله بفضله وقوته - يقولون عنه: ثالث الحرمين؟! ويقولون: أولى القبلتين وثالث الحرمين! وهذا خطأ؛ لأنه لم يثبت تحريم أرض بيت المقدس، لا في القرآن ولا في السنة، والصحيح أنه أولى القبلتين كما ورد صحيحا في الحديث.

وأيضا: بيت المقدس من الأمكنة الشهيرة حيث تنزل الوحي ببيت المقدس مهد الرسالات السماوية السابقة، ولاحظ كيف أن الله سبحانه وتعالى جمع بين الأرضين المباركة المقدسة، التي نزل فيها الوحي في قوله سبحانه وتعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ < وَطُورِ سِينِينَ < وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (التين: 1-3) فالتين والزيتون: شجر يشتهر به بيت المقدس وما حوله، هذا الشجر يكثر نباته في فلسطين وما حولها، وطور سينين : جبل الطور الذي كلم الله سبحانه وتعالى عنده موسى عليه السلام، ونزلت عليه الرسالة فيه. والبلد الأمين: هو مكة، حيث ابتدأ نزول الوحي فيه.

وقوله: إن الرسول [ «حرم ما بين لابتيها» اللابتان: الحرة الشرقية والحرة الغربية، يعني: ما بين الحرتين، والحرة هي الأرض ذات الحجارة السود.


قال البخاري رحمه الله تابعه سهل عن النبي [ في أحد، سهل هو ابن سعد الصحابي ]، تابع أنسا في هذا الحديث. ومعنى المتابعة: هي المشاركة في الرواية عن الشيخ نفسه، فإذا قلنا: إن سعد قد تابع أنسا يعني: قد شاركه في الرواية عن النبي [ في هذا الحديث، وبالمتابعات تتقوى الأحاديث ويزداد الاطمئنان واليقين، فإن الخبر إذا نقله اثنان، يكون أقوى من نقل الواحد له، فالخبر الواحد إذا نقله أكثر من واحد، حصل من الطمأنينة بالنقل أكثر مما يحصل بنقل الفرد الواحد، وذلك لأن الفرد الواحد معرض للخطأ وللنسيان وللغفلة، لكن إذا تتابع الرواة على نقل حديث واحد بنصه، حصل للسامع ولصاحب التأليف من أهل الحديث الثقة والطمأنينة، بأن هذا الخبر محفوظ لم يدخله تغيير ولا خطأ ولا نسيان، وقد اعتنى أهل الحديث قديما وحديثا بجمع المتابعات؛ لأنها كما ذكرنا تقوي الأحاديث النبوية، ولاسيما بعض الأسانيد الضعيفة إذا رواها شيخ فيه ضعف من جهة الحفظ والإتقان، فإذا تابعه شيخ آخر قوي خبره، وربما ارتفع الحديث من منزلة الضعيف إلى منزلة الحسن لغيره، وتارة يتقوى الحديث الحسن بغيره فيكون صحيحا لغيره، كما هو معروف في مصطلح الحديث.








ابوالوليد المسلم 16-01-2022 03:01 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (46)

-الإجماع وعمل أهل المدينة (6)


الشيخ.محمد الحمود النجدي


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الحديث الثالث عشر:

قال البخاري رحمه الله:

7334 - حدثنا ابن أبي مريم: حدثنا أبو غسان: حدثني أبو حازم، عن سهل: «أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر ممر الشاة». (طرفه في: 496).

الشرح:

الحديث الثالث عشر رواه البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه ابن أبي مريم وهو سعيد بن الحكم بن محمد الجمحي، أبو محمد المصري، ثقة ثبت فقيه. عن أبي غسان وهو محمد بن مطرف الليثي المدني، ثقة. عن أبي حازم، وهو سلمة بن دينار الأعرج المدني القاضي، ثقة عابد.

قال: عن سهل وهو ابن سعد الساعدي الخزرجي رضي الله عنه الصحابي المشهور، له ولأبيه صحبة.

قوله: «أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة، وبين المنبر ممر الشاة. يعني بقوله: مما يلي القبلة: أي من جهة القبلة، وبين المنبر ممر الشاة. ففي هذا الحديث بيان القدر الذي كان بين جدار المسجد وبين المنبر، فإن سأل سائل: ما القدر بين جدار المسجد الذي هو من جهة القبلة وبين المنبر؟ فالجواب: أن بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر من المسافة، قدر ما تمر فيه الشاة.

وورد في سنته [: أنه كان يجعل هذا القدر بينه وبين السترة التي يستتر بها في صلاته، فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام يصلي، اتخذ سترة تستره عن المارين قدر ذلك، وهذا العمل من السنن التي هجرها كثير من المسلمين والمسلمات اليوم بجهلهم بالسنة، فتجد أحدهم يصلي في وسط المسجد أو في وسط البيت، والناس يمرون بين يديه، والمرأة تصلي وسط الدار، والصبيان يمرون بين يديها، وهذا خلاف السنة! النبي [ يقول: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها، ولا يدعن أحدا يمر بين يديه، فإن جاء أحدٌ يمر فليقاتله فإنما هو شيطان». رواه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان. وقوله: قليقاتله: يعني: ليدفعه وليمنعه من المرور.

وقال [ في حديث آخر: «لا تصل إلا إلى سترة» بل كان النبي [ في مكة يتخذ السترة، كما جاء في الحديث أنه [ صلى إلى جدار الكعبة.

والحكمة - كما قال بعض أهل العلم - في اتخاذ السترة، أن الإنسان إذا كان يخاطب عظيما أو ملكا، فإنه يكره كراهية عظيمة أن يقف أحد بينه وبينه، أو أن يمر بينه وبينه؛ لأنه يقطع مناجاته، ويقطع كلامه، وربما يقطع حديثه وخلوته، وكذلك العبد إذا قام يصلي فهو يناجي ربه فيكره أن يمر أحد بين يديه.

نعم ورد في السنة: أن مرور المرأة البالغة بين المصلي – رجلا كان أو امرأة - وبين موضع سجوده يقطع الصلاة، بخلاف مرور الرجل أو الطفل أو الطفلة فإنهم لا يقطعون الصلاة إذا مروا بين يدي الرجل أو المرأة.

وإذا قال القائل: لماذا يتخذ الإنسان سترة في موضع لا أحد فيه؟ أو إذا قال قائل: أنا أصلي في غرفة لا يمر فيها أحد بين يدي، فهل يشرع لي استخدام السترة؟ نقول: نعم؛ لأن الرسول [ يقول: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، لا يقطع الشيطان عليه صلاته» فأخبر أن هناك عدوا آخر يخطر بين الإنسان وبين صلاته - يعني يمر بينه وبين صلاته – ألا وهو الشيطان.

فهذا الحديث فيه تنبيه إلى ما كان عليه الأمر في العهد النبوي من اتخاذ السترة، وتنبيه إلى أن منبر رسول الله [ لم يكن كبيرا، بحيث إنه يقطع الصف الأول، كما ترى ذلك في بعض المساجد القديمة، أن المنبر يتخذ من الخشب ويكون حجمه ضخما بحيث إنه يكاد يقطع الصف الأول والثاني.

الحديث الرابع عشر:

قال البخاري رحمه الله:

7335 – حدثنا عمر بن علي: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي: حدثنا مالك، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله [: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي». (طرفه في: 1196).

الشرح:

الحديث الرابع عشر حديث أبي هريرة يرويه البخاري عن شيخه عمر بن علي وهو ابن عطاء المقدمي الواسطي، ثقة وكان يدلس. عن عبدالرحمن بن مهدي، وهو العنبري مولاهم، ثقة ثبت حافظ، من أمراء الحديث النبوي المشهورين بالرواية والعلم، قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه بالحديث. وعبدالرحمن بن مهدي هو الذي أشار على الإمام الشافعي -رحمه الله- بأن يضع له كتابا موجزا في القواعد الفقهية والأصول الفقهية، التي يجب على طالب العلم معرفتها، فكتب له الإمام الشافعي رحمه الله كتاب: (الرسالة) الذي لم تر الدنيا قبله مثله، وكان هذا الكتاب ربما اللبنة الأولى في علم أصول الفقه، ومن بعده أصل عليه العلماء والفقهاء الأصول الفقهية، أو علم ما يسمى بأصول الفقه، وفائدته عظيمة لطالب العلم؛ حيث إنه يعلم الإنسان طريقة الوصول إلى الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة، وقد استهان بعض طلبة العلم في زماننا بهذا العلم، ولم يولوه العناية المطلوبة؛ فحصل منهم الزلل والخطأ في استنباط الأحكام الشرعية.



قال: عن الإمام مالك، قال: عن خبيب بن عبدالرحمن، وهو ابن خبيب الأنصاري أبو الحارث المدني، تابعي ثقة. عن حفص ابن عاصم، وهو ابن عمر ابن الخطاب، تابعي ثقة. قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله [: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي».

قوله: «ما بين بيتي ومنبري»، وجاء عند ابن عساكر: «ما بين قبري ومنبري»! ولكنها لفظة لا تصح! إذ كيف يقول النبي [: ما بين قبري، وهو لا يزال حيا؟!

وورد عند الطبراني: «ما بين بيت عائشة ومنبري، روضة من رياض الجنة». وهذا كأن بعض المحدثين روى هذه اللفظة بالمعنى، أو أن المقصود: ما بين بيتي - الذي هو بيت عائشة الذي أنا فيه الآن – وبين منبري روضة من رياض الجنة.

ثم اختلف العلماء، ما معنى قول النبي [: «روضة من رياض الجنة»؟

فقال طائفة من أهل العلم: المقصود بذلك ما كان يعقده عليه الصلاة والسلام من حلق للذكر والعلم والتعليم، روضة من رياض الجنة، كما قال [ في الحديث الحسن: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا: يارسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: «حلق الذكر». رواه أحمد والترمذي، وفيه ضعف.

فشبه حلق العلم ببساتين الأشجار والأزهار ذات المياه والنضارة.

فكان مسجد النبي [ آنذاك عامرا بحلق الذكر والعلم، والفتيا، وتلاوة ما أنزل الله سبحانه في كتابه من الآيات والفرائض والأحكام، وكذا الصلوات والطاعات، ويكفي الجالس في تلك المجالس المباركة العظيمة التي لم تر الدنيا قبلها مثلها، ولا بعدها مثلها، يكفي الجالس في تلك المجالس بركة الجلوس مع سيد الخلق [، وشفيع الناس يوم القيامة، وخير من وطئت قدماه الثرى [، والاستفادة من علمه الزاخر، والفوز ببركة صحبته [؛ فإن منزلة الصحبة لا تدانيها منزلة في الدنيا بعد النبيين والمرسلين.

وقيل: إن الحديث يعني: إن هذا الموضع الذي ذكره رسول الله [ وهو: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» أن هذا الموضع بعينه: ما بين بيت رسول الله [ الذي مات فيه وهو بيت عائشة، وبين منبره، أنه بعينه سينتقل إلى الدار الآخرة، فيكون روضة من رياض الجنة.

وقيل: هو كروضة من رياض الجنة في تنزل الرحمات للموجود بها.

وقوله: «ومنبري على حوضي» وهذا على ظاهره، أن منبره [، الذي كان يقوم عليه فيخطب الجمع والأعياد وغيرها في بعض الأوقات، أن هذا المنبر سينصب له [ على حوضه في الدار الآخرة، وهذا من الأخبار الغيبية التي أخبر بها النبي [، ففيه شرف هذه البقعة من المدينة النبوية الشريفة والتي هي من الخصائص التي لا توجد في مكان آخر.




















ابوالوليد المسلم 23-01-2022 09:08 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (47)


الشيخ.محمد الحمود النجدي



الإجماع وعمل أهل المدينة (7)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.


الحديث الخامس عشر:

قال البخاري رحمه الله:

7336 – حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا جويرية, عن نافع, عن عبدالله قال: سابق النبي [ بين الخيل, فأرسلت التي ضمرت منها, وأمدها إلى الحفياء إلى ثنية الوداع, والتي لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق, وإن عبدالله كان فيمن سابق. (طرفه في: 42).

الشرح:

الحديث الخامس عشر يرويه المصنف عن شيخه موسى بن إسماعيل وهو التبوذكي, عن جويرية وهو ابن أسماء الضبعي البصري, ثقة وقصر الحافظ فقال: صدوق, ولا يعلم فيه جرح. عن نافع وهو أبو عبدالله المدني, ثقة ثبت فقيه مشهور.

عن عبدالله بن عمر الصحابي الجليل قال: سابق النبي [ بين الخيل فأرسلت التي ضمرت منها, وأمدها إلى الحفياء إلى ثنية الوداع, والتي لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق, وإن عبدالله كان فيمن سابق.

يخبر عبدالله بن عمر أن النبي [ أجرى سباقا بين الخيل بالمدينة, والخيل كما تعلمون, كانت وسيلة الجهاد العظيمة في ذلك الوقت, ومركوب الغزاة في سبيل الله تعالى, يحققون على ظهورها النصر للإسلام, والعزة للمسلمين, والحماية لدار الإسلام والمسلمين, بل لشرف هذه الخيل - خيل المجاهدين والغزاة - أقسم الله تبارك وتعالى بها في آيات من كتابه فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}, {العاديات}: أي الخيل التي تعدو وتجري, {ضبحا} يعني: صوت نَفََسَ الخيل إذا ركضت, وكذا قوله {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} (العاديات: 2-5) وهذا كله قسم بخيل المجاهدين والغازين في سبيل الله وأحوالها.

والإسلام لا يعارض الرياضة بكل أحوالها وأشكالها, إنما دعا إلى الرياضة النافعة التي فيها نفع للإنسان في بدنه وصحته وعافيته, ونفع لأهل الإسلام؛ ولهذا جاء الحث من النبي [, ومن الخلفاء الراشدين بعده على تعلم ركوب الخيل؛ لأنها كما قلنا كانت مركوب الجهاد وآلته, وعلى تعلم السباحة, وتعلم الرمي؛ يقول [: « كل لهو باطل, إلا تعلم الرجل السباحة, وركوبه الخيل, ومشيه بين الغرضين, ومداعبته لأهله «.

وأيضا ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل.

وأيضا كان عمر رضي الله عنه يقول لابن عباس: تعال أباقيك تحت الماء. يعني: يأخذ نفسا وينزل تحت الماء وينظر أيهما يبقى في الماء أكثر، وهو نوع من الرياضة والتمرين. وكان الصحابة يتسابقون على الأقدام, بل إن النبي [ سابق عائشة كما في الصحيح, فهذه الرياضات النافعة هي مما ينتفع بها الإنسان في نفسه, وينفع بعد ذلك بها أمته في جهادها لأعدائها, ولو نظرنا نظرة عابرة اليوم إلى الرياضات الموجودة, لرأينا أن أكثرها لا فائدة منه, بل هو بعيد كل البعد عن الإسلام وشريعته, ونهج النبي [ وسنته, فرياضة المصارعة التي ورد أن الصحابة كانوا يتصارعون أحيانا, وورد أن النبي [ صارع أعرابيا يسمى ركانة, لو نظرنا إلى هذه الرياضة اليوم لرأينا أنها يتعرى فيها المصارعون! إلا من ملابس لا تكاد تستر السوءة, وهناك رياضات تخالف الشرع كرياضة الملاكمة؛ لأنها قائمة على لكم الوجه ولطمه, والرسول [ قد نهى عن ذلك بقوله [: « إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه « متفق عليه.

وإذا رأينا رياضة السباحة رأينا فيها تعري الرجال, وإذا كان الأمر بالنسبة للنساء فهو أشد وأشد, ثم إن رياضات النساء التي تنتشر اليوم على اختلاف أشكالها وصورها, تنقل للأسف الشديد على شاشات الفضائيات في بيوت المسلمين اليوم؟ ويشاهدها ملايين الرجال؟! فهذه رياضات قصدها الفساد والإفساد, لا الفائدة والنفع للمسلم وأمته, فالمرأة فيها لا تلبس إلا القليل من الثياب! التي ربما لا تستر إلا السوءة! ثم تقوم برياضة (الجمباز) أو ما يسمونه زورا برياضة (الباليه)! أو رياضة التنس الأرضي – الإسكواش – التي تلبس فيه المرأة الشورت القصير؟! فكلها رياضات للأسف الشديد تحارب الخلق الكريم, وتدعو إلى الرذيلة والتفسخ وكشف العورات, وتنشر الفساد في ديار الإسلام والمسلمين, بين الأبناء والبنات، وإذا تكلمنا في هذا الأمر قالوا: إن هذا إنسان جامد, أو إنسان رجعي, لا يعرف ولا يقدر قيمة الرياضة!

فالرسول [ كما في هذا الحديث سابق بين الخيل في المدينة, وجعل السباق على نوعين: سباق للخيل المضمرة, وهي الخيل التي حصل لها التضمير, وهو تقليل الطعام وتجليل الجسد, أي وضع الجِلال وهي الثياب التي توضع على بدن الحصان فيعرق ويذهب عنه الشحم, فلا يبقى فيها إلا العضل, ويكون بعد ذلك سريعا جدا، فالخيل المضمرة جعل لها النبي [ أمدا أطول من أمد الخيل التي لم تضمر، أي: التي بقيت على حالها؛ لأن قدرتها في الجري أقل.

وفي الحديث: أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان فيمن سابق وشارك في ذلك السباق.

الحديث السادس عشر:

قال البخاري:

7337 – حدثنا قتيبة, عن ليث, عن نافع, عن ابن عمر، ( ح ): وحدثني إسحق، أخبرنا عيسى بن إدريس, وابن أبي غنية, عن أبي حيان, عن الشعبي, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت عمر على منبر النبي [. (طرفه في: 4619).

الحديث السابع عشر

7338 – حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب, عن الزهري: أخبرني السائب بن يزيد: سمع عثمان بن عفان خطبنا على منبر النبي [.

الشرح:

الحديث السادس عشر يرويه البخاري رحمه الله تعالى بإسنادين: الإسناد الأول من طريق قتيبة, وهو ابن سعيد بن جميل, أبو رجا البَغلاني, ثقة ثبت, وأحد أئمة الحديث. قال عن ليث, وهو ابن سعد، أبو سعد الفهمي المصري عالم مصر ومفتيها في زمنه, كان يقرن بالإمام مالك رحمه الله في العلم والفقه، وكان له مذهب وأتباع. قال: عن نافع عن ابن عمر (ح), وحرف (ح) هذا اختصار لكلمة: تحويل, أي: أن المحدث سيحدث بهذا الحديث من طريق آخر غير الطريق السابق. قال البخاري: وحدثنا إسحاق, وهو ابن إبراهيم بن راهويه الإمام المشهور, قال أخبرنا عيسى وابن إدريس, وابن أبي غنية, ابن إدريس هو عبدالله ابن إدريس الأودي الكوفي, ثقة فقيه عابد, وابن أبي غنية هو يحيى بن عبدالملك الخزاعي, صدوق.

عن أبي حيان واسمه يحيى بن سعيد بن حيان التيمي, ثقة عابد, قال: عن الشعبي، ومضى معنا, قال: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت عمر على منبر النبي [.

والحديث الذي بعده قال البخاري فيه: حدثنا أبو اليمان, وهو الحكم بن نافع, أخبرنا شعيب وهو ابن أبي حمزة عن الزهري قال: أخبرنا السائب بن يزيد أنه سمع عثمان بن عفان خطيبا على منبر النبي [.

والمقصد من سرد هذين الحديثين بيان أن المنبر واستعماله, سنة نبوية متبعة, وكان معروفا عند الخلفاء الراشدين بعد رسول الله [, فالخطابة على المنبر من السنن النبوية, ولا سيما في الأمور المهمة؛ إذ بالمنبر يمكن للخطيب إيصال الموعظة والتذكير, وإيصال الحديث والكلام يحصل إذا أشرف الخطيب على المنبر.

وأشار البخاري رحمه الله في هذين الحديثين إلى المنبر النبوي, وأن المنبر النبوي بقي إلى عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما لم يتغير بزيادة ولا نقص, وكانا يقومان على منبر النبي [ خطيبين فيما تحتاجه الأمة, فهذا كان عملهما واتباعهما لسنة المصطفى [.

وجاء أيضا في غير هذا الموضع أن المنبر النبوي بقي على حاله أزمانا طويلة, إلى أن زاد فيه بعض الخلفاء في عدد درجاته, وفي حجمة, وارتفاعه.

وقد كان منبره [ ثلاث درجات يصعد الخطيب الدرجة الأولى, ثم الدرجة الثانية, ثم يقف على الدرجة الثالثة, وهذا يدل على أن منبر النبي [ لم يكن عاليا علوا زائدا عن العادة؛ لأن هذا العلو يعني ارتفاع الخطيب ارتفاعا زائدا عن قدر الحاجة, وأيضا يستدعي في كثير من الأحيان أن يمتد المنبر ويطول فيقطع الصف الأول! لأجل امتداد الدرجات, فما كان منبره [ إلا ثلاث درجات, لا يزاد عليه, وهذه هي السنة النبوية, والحمد لله أن وزارة الأوقاف أخذت بهذا وعممته على المساجد التي تتولى الإشراف على بنائها, لكن بعض الناس إذا بنوا المسجد لا يدرون ما السنة! ولا يستشيرون أهل العلم فيبنون المنبر أعلى من المطلوب!


وأيضا من البدع التي حصلت ونراها في هذه الأيام كون المسجد له منبران منبر عن اليمين, ومنبر عن الشمال! وهذا من البدع المحدثة التي لا أصل لها, وإنما أحدثها من أحدثها بقصد الزينة وتزيين المسجد بزعمه! إذ يقول: كيف يكون المسجد له منبر عن اليمين مزخرف ويكون الجانب الأيسر بلا منبر مزخرف, فجعل في الجانب الأيسر أيضا منبرا مزخرفا.










ابوالوليد المسلم 26-01-2022 10:08 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (48)
-الإجماع وعمل أهل المدينة (8)


الشيخ.محمد الحمود النجدي





إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

(من السنن النبوية في التطهر - الحلف)

قال البخاري رحمه الله :

7339 – حدثنا محمد بن بشار: حدثنا عبد الأعلى: حدثنا هشام بن حسان: أن هشام ابن عروة حدثه: عن أبيه: {أن عائشة قالت: كان يوضع لي ولرسول الله [ هذا المركن، فنشرع فيه جميعا} (طرفه في: 25)

الشرح:

الحديث الثامن عشر حديث عائشة الذي يرويه البخاري رحمه الله من طريق شيخه محمد بن بشار وهو العبدي أبو بكر، وهو الحافظ المشهور ولقبه بندار، قال: حدثنا عبد الأعلى وهو ابن عبد الأعلى السامي البصري، ثقة. قال: حدثنا هشام بن حسان، وهو القردوسي البصري، ثقة من أثبت في ابن سيرين. أن هشام بن عروة حدثه عن أبيه عروة بن الزبير، عن خالته عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت: كان يدفع لي الرسول [ هذا المركن فنشرع فيه جميعا. المركن: هو إناء من أدم أي: جلد، شبيه الحوض الصغير من النحاس.

قوله: «فنشرع فيه جميعا» أي: نتناول من الماء الذي فيه بأيدينا بغير إناء، أي: أنها رضي الله عنها كانت تغتسل مع النبي [ من إناء واحد، والشروع أصله الورود على الماء للشرب، ثم استعمل في كل حالة يتناول فيها الماء.

وهذا الحديث فيه شيء من سنن النبي [ في الطهارة وغيرها، أولها: بيان مقدار ما يكفي الزوج وزوجته من الماء إذا اغتسلا، فإنه[ كان لا يسرف في وضوئه ولا في غسله من الجنابة، فقد روت عنه عائشة رضي الله عنها: أنه كان [ يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد . متفق عليه.

والمد هو: ملء كفي الرجل المعتدل الخلقة، والصاع أربعة أمداد، فكان [ يغتسل بهذا المقدار من الماء، وهو قليل بالنسبة لما تعود عليه كثير من الناس اليوم ، من الإسراف في استعمال الماء عند الوضوء والغسل، بفتح الماء عن آخره وصبه شديدا، فيهدر المياه ويخالف السنة النبوية الشريفة.

وقد صح في الحديث: أن النبي [ مرّ على سعد رضي الله عنه وهو يتوضأ، فقال: يا سعد! ما هذا السرف في الوضوء؟! فقال: وفي الوضوء سرف يا رسول الله؟! قال: «نعم، ولو كنت على نهر جار». رواه أحمد وغيره.

يعني: أنه لا يشرع للإنسان أن يتوضأ بماء كثير، ولو كان على نهر جار.

وأيضا: روى عبدالله بن المغفل رضي الله عنه - كما في سن أبي داوود - عن النبي [ أنه قال: «سيكون أقوام يعتدون في الطهور والدعاء». والاعتداء: معناه مجاوزة الحدّ والإسراف، فمن الاعتداء مثلا: أن يتوضأ المسلم أربعا أربعا، لأن السنة وردت بثلاث غَسَلات فقط، فمن زاد عليها فقد تعدى الحد الشرعي. وثبت أيضا في السنن: أنه [ توضأ ثلاثا ثم قال: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم».

وورد في الحديث أيضا: «من توضأ كما أمر، وصلى كما أمر، غفر له ما قدم من عمل» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان.

فقوله: «من توضأ كما أمر» تنبيه على المتابعة.

وقال: «من توضأ مثل وضوئي هذا». فلا بد من متابعة الرسول [ في العبادات وكيفياتها وأعدادها وأوقاتها وأماكنها.

وإذا قال بعضهم: إني بحاجة إلى التنظيف، وغسل الرأس بالصابون، والبدن مع غسل الجنابة أو مع غسل الحيض، فنقول: اجعل غسل الجنابة آخرا بعد أن تنظف وتغسل رأسك بالصابون، فعند ذلك إذا أردت الخروج فاغتسل الغسل الشرعي، وخفف فيه من استعمال الماء، وعلى كل حال فالإسراف مذموم، قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } (الإسراء: 26- 27).

ففي هذا الحديث بيان ما يجب أن يتبع من سنة النبي [ في مقدار ما يكفي من الغسل.

وفيه أيضا: أن النبي [ كان يلاطف أهله أحيانا ويؤانسهم فيغتسلا جميعا. وفيه أيضا: دليل لمن أباح نظر كل من الزوجين لعورة صاحبه، وغير ذلك من الفوائد المذكورة في مظانها.

والله تعالى أعلم .

الحديث التاسع عشر:

قال البخاري رحمه الله:

734 – حدثنا مسدد: حدثنا عباد بن عباد: حدثنا عاصم الأحول، عن أنس قال: «حالف النبي [ بين الأنصار، وقريش في داري التي بالمدينة» (طرفه في: 2294).

{وقنت شهرا يدعو على أحياء من بني سليم} (طرفه في : 1..1)

الشرح:

الحديث التاسع عشر في الباب: حديث أنس ]، يرويه البخاري رحمه الله من طريق شيخه مسدد، وقد مضى. قال: حدثنا عباد بن عباد، وهو ابن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، ثقة. قال حدثنا عاصم الأحول، هو ابن سليمان أبو عبدالرحمن البصري، ثقة قال عن أنس رضي الله عنه: «حالف النبي [ بين الأنصار، وقريش في داري التي بالمدينة».

الحلف هو: المعاهدة، ومحالفة النبي [ بين الأنصار وقريش أي المهاجرين، لأنهم جاؤوا من مكة وغالب أهلها من قريش، هذا الحلف محمول على المؤاخاة التي حصلت بالمدينة بين المهاجرين والأنصار، فالرسول [ عندما هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى كما جاء في صحيح البخاري بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكان هذا الحلف أو هذه المؤاخاة عظيمة متينة إلى درجة أن سعد بن الربيع كان له زوجتان فقال لعبد الرحمن بن عوف: إني ذو مال كثير فخذ شطر مالي، ولي زوجتان، فانظر إلى أجملهما لك حتى أطلقها، فإذا انقضت عدتها تزوجتها، فقال له عبد الرحمن، وما أعجب ما قال! قال له: بارك الله لك في مالك وأهلك وأبى أن يأخذ منه شيئا، ثم قال: دلوني على السوق، فباع واشترى رضي الله عنه حتى تزوج بعد ذلك وكثر ماله، فكان من أثرياء الصحابة ] .



وقال بعض أهل العلم :إن الرسول [ آخى بين أصحابه مرتين: مرة بمكة آخى بين أهل مكة، من أسلم من أصحابه من أهل مكة آخى بينهم، أي: جعل الرابطة بينهم هي رابطة الإيمان والإسلام دون رابطة القبيلة والنسب، من أجل أن يصيروا قلبا واحدا، وبدنا واحدا.

وهكذا كان أصحاب رسول الله [.

والمؤاخاة الثانية الثابتة: حصلت لما هاجر النبي [ إلى المدينة، فآخى بين المهاجرين والأنصار، جعلهم إخوة في الإسلام دون إخوة النسب، وكان أول الأمر إذا مات الأنصاري، ورثه أخوه المهاجري إلى أن نزل قوله سبحانه وتعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّه} (الأنفال: 75)، أي: أرجع الله الأمر إلى سابقه ، وهو: أنه إذا مات الميت، ورثه قرابته من أهله وعصبته.

وإذا قال قائل : كيف نجمع بين هذا الحديث، وهو: «أنه [ حالف بين المهاجرين والأنصار بالمدينة»، وبين قوله [: «لا حلف في الإسلام» رواه مسلم. وهو حديث صحيح رواه مسلم وغيره؟!

والجواب: أن الحلف المنهي عنه في قوله [: «لاحلف في الإسلام» هو الحلف الذي يخالف الشرع، فقد كان العرب يتحالفون في الجاهلية على النصرة والإغاثة، ولو كان أحدهم ظالما، فينصر بعضهم بعضا، ولو كانوا ظالمين معتدين، فنهى النبي [ عن ذلك وقال: «لا حلف في الإسلام» يعني: لا حلف يبيح لك تعدي حرمات الله، والوقوع فيما حرم الله، وأما التحالف على الحق، ونصرة الحق وأهله، التحالف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتآخي والتعاهد والتواصي بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وحفظ القرآن، وقيام الليل، وصيام التطوع .. إلخ، التواصي بذلك والتآخي عليه، فهذا لا بأس به في الإسلام، بل هو مما يحبه الله تبارك وتعالى، ويحبه رسوله [.


وقوله: في «داري التي بالمدينة» فيها فضل المدينة النبوية، وفضل الدار التي حصلت فيها المؤاخاة، وأنس ] من صغار الصحابة، لكن كانت أمه، وهي أم سليم من الصحابيات اللاتي كان لهن مكانة في المدينة، وذكرت في غير ما حديث.








ابوالوليد المسلم 14-02-2022 10:44 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (49)

الإجماع وعمل أهل المدينة (9)

الشيخ.محمد الحمود النجدي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.




- حديث: «وقنت شهرا على أحياء من بني سليم».

هذا الحديث رواه البخاري بسنده السابق عن أنس قال: «وقنت شهرا على أحياء من بني سليم», وهي القصة المعروفة ببئر معونة؛ وذلك أن أحياء من الأعراب جاءوا إلى النبي [ وطلبوا منه أن يرسل معهم من يعلمهم القرآن والإسلام, فأرسل النبي [ معهم سبعين رجلا كان يقال لهم القراء, يعني ممن حفظوا كتاب الله أو حفظوا جملة من كتاب الله تعالى, وأحكام الدين والشرع, أرسلهم معهم يعلمونهم القرآن والإسلام، فلما كانوا ببعض الطريق غدروا بهم فقتلوهم أجمعين, فقنت النبي [ عليهم في الصلوات الخمس يدعوا عليهم ويلعنهم, حتى نهي عن ذلك [ بقول الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: 128).

والقنوت له معان كثيرة تصل إلى عشرة, فمن معاني القنوت: الطاعة والعبادة والدعاء والخشوع والقيام والقراءة وطول القيام, كل هذه من معاني القنوت, لكن المراد بالقنوت هنا: هو الدعاء في الصلوات الخمس والذي يعرف بقنوت النوازل, إذا حصلت بالمسلمين نازلة من حرب أو عدو أو سيل أو قحط شديد أو ما أشبه ذلك, فللإمام أن يقنت في صلاته يدعو للمسلمين, وذكر علماؤنا أنه ينبغي أن يكون ذلك بإذن ولي الأمر؛ لئلا تحدث في المسلمين فوضى وتشويش على المصلين, فإنه إذا صار هذا المسجد يقنت, وذلك المسجد لا يقنت, ويختلفان, فإن هذا يؤدي إلى الاضطراب والاختلاف؛ ولذا فيربط بوزارات الشؤون الإسلامية التي هي الجهة المسؤولة عن تدبير وتصريف أمور المساجد والأئمة والمؤذنين.

ولو قال قائل: هل تحجرون الدعاء للمسلمين وتربطونه بإذن أحد من الناس؟

نقول: أبدا لا نمنع الدعاء, بل الدعاء متاح ومفسوح في الوقت كله, فلك أن تدعو في صلاتك, في سجودك بما تشاء, وقبل السلام بما تشاء, ولك أن تصلي في بيتك وتدعو بما تشاء, فالدعاء ليس محصورا في قنوت النوازل بل هو أمر واسع, والحمد لله رب العالمين.

الحديث الواحد والعشرون:

رواه البخاري رحمه الله:

7341 - 7342 - حدثني أبو كريب: حدثنا أبو أسامة: حدثنا بريد: عن أبي بردة قال: قدمت المدينة, فلقيني عبدالله بن سلام, فقال لي: انطلق إلى المنزل, فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله [, وتصلي في مسجد صلى فيه رسول الله [, فانطلقت معه, فسقاني سويقا, وأطعمني تمرا, وصليت في مسجده. (طرفه في: 3814).

الشرح:

حديث أبي بردة, وهو ابن أبي موسى الأشعري ], يرويه البخاري رحمه الله من طريق شيخه أبي كريب, وهو محمد بن العلاء الهمداني الحافظ, قال: حدثنا أبو أسامة, وهو حماد بن أسامة القرشي الكوفي, مشهور بكنيته, ثقة ثبت ربما دلس. قال: حدثنا بريد وهو ابن عبدالله بن أبي بردة, تابعي ثقة.

قال: عن أبي موسى الأشعري قال: قدمت المدينة فلقيني عبدالله بن سلام, وجاء من طريق آخر عند البخاري قال: أرسلني أبي إلى عبدالله بن سلام لأتعلم منه, فسألني من أنت؟ فأخبرته فرحب بي, وهذا من الرحلة في طلب الحديث, وهو أمر مشهور عند السلف رحمهم الله تعالى من أجل الاستزادة في العلم والفقه والقرآن, كانوا يسافرون ويرحلون.

وعبدالله بن سلام حبر من أحبار اليهود, أي: عالم من علمائهم, وفقه الله سبحانه وتعالى للإسلام, وحبب إليه الإيمان, فآمن بمحمد [ وحسن إسلامه, وقد كان معظما عند يهود المدينة, فنبذوه بعد إسلامه وتبرؤوا منه, ولو آمن معه تسعة لآمنت يهود بأسرها, كما قال عليه الصلاة والسلام: « لو آمن بي عشرة من اليهود, لآمن بي اليهود « رواه البخاري.

والمقصود بالعشرة كما قال أهل العلم: عشرة من العلماء والكبار منهم, لكن الذين آمنوا بالرسول [ من الأحبار - أي العلماء – في عهده كانوا قلة, مع أنه كان يجب عليهم المبادرة إلى الإيمان بالرسول [, لأنهم كانوا يعلمون أنه رسول الله [؛ يقينا, بصفاته المذكورة في التوراة والإنجيل, بلا شك ولا ارتياب, لكن كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان: 43 - 44).

بل كان علماؤهم ممن يصدون عن الإيمان بالرسول [! ويكابرون ويقولون: ليس هو النبي الذي بشرنا به في التوراة!! مع أنهم كانوا يعلمون يقينا أنه هو عليه الصلاة والسلام, ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم, كما أخبرنا القرآن بذلك.

قوله: «فلما جاء أبو بردة إلى عبدالله بن سلام قال له: انطلق معي إلى المنزل فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله [«.

والقدح بالفتح هو الذي يُشرب ويؤكل فيه.

وهذا الحديث: فيه فضل الصحابة رضي الله عنهم؛ إذ كان عندهم من آثار النبي [ وأوانيه ما ليس عند غيرهم, وهذا مقصود هذا الباب, وهو فضل أهل المدينة, وما كان عند أهل المدينة من العلم بالشرع وأحواله ما ليس عند غيرهم, فكان عبد الله بن سلام يحتفظ بهذا القدح الذي شرب فيه الرسول [.


وفيه: مشروعية التبرك بآثار النبي [.

وأما التبرك بغيره فلا يشرع على الصحيح؛ لأنه لم يرد عن الصحابة أنهم تبركوا بأبي بكر الصديق أو عمر الفاروق أو غيرهما من الخلفاء الراشدين, أو بأحد العشرة المبشرين, أو بأهل بدر أو غيرهم.

قوله: «وتصلي في مسجد صلى فيه النبي [« والمراد بالمسجد هاهنا مكان السجود, أي: المكان الذي سجد فيه النبي [ ووضع جبهته عليه.

قوله: «فانطلقت معه فسقاني سويقا» والسويق: هو الدقيق الذي يطرى بشيء من الماء. قال: وأطعمني تمرا, وصليت في مسجده.










ابوالوليد المسلم 17-02-2022 10:13 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (50)

الإجماع وعمل أهل المدينة (10)


الشيخ.محمد الحمود النجدي




إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.


قال البخاري رحمه الله :

الحديث الثاني والعشرون :

7343 – حدثنا سعيد بن الربيع: حدثنا علي بن المبارك، عن يحي بن أبي كثير: حدثني عكرمة، عن ابن عباس : أن عمر رضي الله عنه حدثه قال: حدثني النبي[ قال: «أتاني الليلة آت من ربي، وهو بالعقيق، أن صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة وحجة». وقال هارون بن إسماعيل: حدثنا علي: «عمرة في حجة» (طرفه في: 1534).

الشرح :

حديث ابن عباس يرويه البخاري عن سعيد بن الربيع وهو العامري الحرشي، ثقة وهو من أقدم شيوخ البخاري وفاة. قال حدثنا علي بن المبارك، وهو الهنائي بضم الهاء ثقة، قال عن يحي بن أبي كثير وهو الطائي مولاهم، ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل، قال حدثني عكرمة، وهو أبو عبدالله البربري، تابعي ثقة مشهور.

قال إن عمر رضي الله عنه حدثه عن النبي [، أنه قال: «أتاني الليلة آت من ربي» أي: بالمنام أتاه آت في المنام ، وهو بالعقيق، ورؤيا الأنبياء حق كما هو معلوم ووحي كما قال الله تبارك وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} (الصافات: 1-2) ، فجعل ما يراه في المنام أمرا من عند الله تبارك وتعالى، وذلك أن الأنبياء - كما قال عليه الصلاة والسلام-: «وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم» رواه البخاري . فقلوبهم محل الوحي ، وتنزل كلام الله تبارك وتعالى عليها ، ومخاطبة الله تعالى لهم بواسطة الملك .

قوله: «وهو بالعقيق»، والعقيق: واد قريب من المدينة، ووصف بأنه مبارك, فالله تبارك وتعالى أمره أن يقول فيه: «عمرة وحجة» أي: يقرن بين العمرة والحج، فكان [ في حجته التي لم يحج غيرها قارنا ، وفي رواية: «قل عمرة في حجة» يعني: عمرة قد دخلت فيها حجة.

ففي هذا الحديث: وصف النبي [ الوادي المذكور، بأنه مبارك، وأنه يستحب لمن أحرم بالمدينة أن يصلي فيه ركعتين، لأنه أمر فيه [ أن يصلي فيه ركعتين.

وفيه: فضل الإحرام من المدينة، لأن المواقيت الأخرى لا يوجد فيها مثل هذا الفضل، فلم توصف بما ذكر [ من وجود بقعة مباركة أمر فيها النبي [ أن يصلي فيها ركعتين، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إنه ليس للإحرام صلاة خاصة، لأنه [ إنما صلى في هذا الوادي بأمر الله تبارك وتعالى لا للإحرام، وهذا القول هو الصحيح، ونصره غير واحد من أهل العلم المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، لكن إذا احرم المسلم وكانت هناك صلاة حاضرة، فإنه يستحب له أن يحرم عقبها، يعني إذا حضرت صلاة الظهر والإنسان بالميقات، استحب له أن يحرم عقب الصلاة، أو أنه يتوضأ وينوي بصلاته ركعتي الوضوء ثم يحرم عقب الصلاة، وأما مجرد الإحرام فليس له صلاة تخصه، ولهذا فمن أحرم بالطائرة فإنه لا يلزمه أن يصلي ركعتين قبل الإحرام.



الحديث الثالث والعشرون:

قال البخاري رحمه الله:

7344 – حدثنا محمد بن يوسف: حدثنا سفيان، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر: وقت النبي[ قرنا لأهل نجد، والجحفة لأهل الشام، وذا الحليفة لأهل المدينة، قال: سمعت هذا من النبي[، وبلغني أن النبي[ قال: «ولأهل اليمن يلملم». وذكر العراق، فقال: لم يكن عراق يومئذ .

الشرح :

الحديث الثالث والعشرون: حديث ابن عمر يرويه البخاري من طريق شيخه محمد بن يوسف وهو الفريابي، عن شيخه سفيان، وهو الثوري مر معنا، وهو الإمام المشهور بالسنة، عن عبدالله بن دينار، وهو العدوي مولاهم، مولى ابن عمر ، ثقة من أفاضل التابعين.

قوله : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «وقت النبي [ قرنا لأهل نجد، والجحفة لأهل الشام، وذا الحليفة لأهل المدينة، قال: سمعت هذا من النبي [ «في ذكر المواقيت التي هي للحاج والمعتمر.

والمواقيت كما هو معلوم مواقيت مكانية، ومواقيت زمنية، والمذكور في هذا الحديث هي المواقيت المكانية التي يحرم منها الحاج والمعتمر، فالسنة أن يحرم الإنسان منها بحسب بلده ومكانه الذي هو فيه، فإن كان من أهل نجد وما قبلها، وما كان من ناحيتها، فإنه يحرم من قرن، أو قرن المنازل، وهو المعروف اليوم: بالسيل الكبير.

وما كان من أهل الشام فإنه يحرم من الجحفة، والجحفة اليوم قرية خربة، فيحرم من رابغ، وهي قبلها بيسير.

وما كان من أهل المدينة فإنه يحرم من ذي الحليفة، والتي سبق ذكرها في الحديث الماضي.

وهذه المواقيت هي مواقيت مكانية محددة شرعا، لا يشرع للإنسان أن يحرم قبلها بغير ضرورة.

يعني لو قال الإنسان: أنا أريد أن أطول زمن الإحرام، فأحرم من بيتي هنا في الكويت مثلا، حتى أصل للبيت!

يقول: لأجل أن أطول زمن التلبية!

نقول: إن هذا خلاف هدي النبي [، وخلاف الإعتصام بسنته المباركة!

وقد سئل الإمام مالك رحمه الله بنحو هذا: جاء إليه رجل فقال له: من أين أحرم ؟ قال: من حيث أحرم رسول الله [ يعني من ذي الحليفة - فقال له: أني أريد أن أحرم من بيتي! يعني من بيته بالمدينة، فقال له مالك: لا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة! فقال: وأي فتنة، وإنما هي أميال أزيدها! فقال له الإمام مالك رحمه الله: وأي فتنة أعظم، من إنك ترى أنك خصصت بفضل، لم يخص به رسول الله [!

وهذا من الفقه العميق للإمام مالك، فقد ردّ به على هذا الرجل، وقال له: إني أخاف عليك الفتنة والضلال! وهو يشير إلى قول الله تبارك وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63). فلمن تكون الفتنة؟ ولمن يكون العذاب الأليم؟ يقول تعالى في الآية: هي لمن خالف أمر الرسول [، وهديه في فعله وقوله، والإمام مالك قال له: إذا رأيت أن الإحرام من بيتك بالمدينة أفضل من الإحرام من الموضع الذي أحرم منه رسول الله [، فمعنى ذلك: أنك قد خصصت بفضل لم يخص به رسول الله [ فصرت في منزلة وعبادة هي أفضل من المنزلة والعبادة التي كان عليها الرسول [، وإذا ظننت ذلك فقد هلك؟ لأن الله تبارك وتعالى قد جعل منزلة رسوله [ من الدين والعلم منزلة لا يصلها أحد من الأمة.

وقد قال [: «والذي نفسي بيده أني أتقاكم لله وأعلمكم به « متفق عليه. فأتقى الناس هو رسول الله [، وأعلم الناس بالله، وبأسمائه وصفاته هو رسول الله[، وأعلم الناس وبدينه وبشرعه هو أيضا ، فلا يمكن أن يستدرك مستدرك على رسول الله [ أحد، ولا أن يقول إني أفعل هذا وإن لم يفعله رسول الله [، كما يحصل من كثير من المبتدعة الذين يحتفلون مثلا بمولده[ ويعتقدون أنهم سبقوا إلى خير لم يسبق إليه المهاجرون والأنصار! بل لم يسبقهم إليه سيد المهاجرين والأنصار وهو رسول الله [، فمعنى ذلك أنهم سبقوهم إلى الفضل والعبادة والدرجة، والعياذ بالله.

ثم قال: «سمعت هذا من النبي [، وبلغني أن النبي [ قال: «ولأهل اليمن يلملم». هذا من دقة الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنهما وإتقانه للحديث ، فإنه ميز ما سمعه مشافهة عن النبي [ عما بلغه عنه من طريق صحابي آخر، والصحابة كما تعلمون كلهم ثقات وعدول، وإنما قد يحصل الوهم لبعض الصحابة أحيانا والنسيان لأنهم بشر، ويعرف ذلك إذا عرضت مروياته على مرويات الآخرين من الصحابة .

فوقّت النبي [ لأهل اليمن ميقات اسمه: يلملم، وهي المعروفة اليوم بالسعدية.

قوله: «وذكر العراق» ولم يذكر في الحديث: من الذي ذكر العراق في السؤال؟ فقال ابن عمر: لم يكن عراق يومئذ، يعني لما سأله سائل: ما ميقات أهل العراق؟ فقال ابن عمر: لم يكن عراق يومئذ. المقصود أنه لم يكن بأيدي المسلمين عراق يومئذ، لأن العراق في عهد النبي [ كانت بأيدي كسرى ونوابه من الفرس والعرب، يعني جزء منها بيد الفرس وجزء بيد العرب من المناذرة، فكأنه يقول له: لم يكن في العراق مسلمين حينئذ حتى يوقت لهم ميقاتا.

ويمكن أن يقال: النبي [ ذكر أهل الشام مع أنهم لم يسلموا في عهده [!

والجواب عن هذا: أن ابن عمر لعله أراد الكوفة والبصرة، وهما مصران أنشئا في عهد عمر رضي الله عنهما، ولم يكونا في عهده [.


وهذا الحديث هو ما علمه ابن عمر، لأنه قد جاء في الحديث الصحيح: أن النبي [ «وقت لأهل العراق ذات عرق» وهذا ثابت عنه [.

واستدل أهل العلم بتوقيته [ لأهل الشام الميقات الذي يحجون منه ويعتمرون، ولأهل العراق الميقات الذي يحجون منه ويعتمرون أن النبي [ يكون قد بشر أمته أو بشر أصحابه بأن هذه البلاد ستصير وتؤول إلى ملك المسلمين، حتى أنهم سيحجون منها ويعتمرون، وهذه بشارة نبوية.

وأيضا: هي دلالة من دلالات نبوته [، وإخباره بالغيب الذي لم يحصل بعد .








ابوالوليد المسلم 23-02-2022 11:06 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (51)

قنـوت النبـي صلى الله عليه وسلم


الشيخ.محمد الحمود النجدي


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الباب السابع عشر:

17 - باب قول الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128).

قال الإمام البخاري رحمه الله:

7346 – حدثنا أحمد بن محمد: أخبرنا عبدالله: أخبرنا معمرٌ، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أنه سمع النبي [ يقول في صلاة الفجر - ورفع رأسه من الركوع - قال: «اللهم ربنا ولك الحمد - في الأخيرة - ثم قال: «اللهم العن فلانا وفلانا»، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (طرفه في 4559).

الشرح

الباب السابع عشر باب قول الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128)، وروى فيه البخاري الحديث عن شيخه أحمد بن محمد وهو ابن موسى أبو العباس السمسار، ثقة حافظ. قال: أخبرنا عبدالله، وهو ابن المبارك المروزي، الإمام الثقة الثبت الفقيه العالم الجواد المجاهد. قال: أخبرنا معمر، وهو ابن راشد الصنعاني، عن الزهري وقد تقدما، عن سالم، وهو ابن عبدالله بن عمر بن الخطاب رحمه الله، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة، ثقة عابد، كان يشبّه بأبيه في الهدي والسمت.

عن أبيه وهو ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع النبي [ يقول في صلاة الفجر، ورفع رأسه من الركوع، قال: «اللهم ربنا ولك الحمد»، فكان [ يقول بعد رفعه من الركوع: اللهم ربنا ولك الحمد، وهي إحدى صيغ التحميد بعد الرفع من الركوع، وورد أيضا عنه: اللهم ربنا لك الحمد، وورد أيضا دون قوله: اللهم، فيقول: «ربنا ولك الحمد»، وورد «ربنا لك الحمد» بدون حرف الواو.

قوله « في الأخيرة « يعني: في الركعة الأخيرة. وهو موضع القنوت في النوازل والوتر.

قوله: ثم قال: «اللهم العن فلانا وفلانا « وهذا كان بعدما جرى ما جرى يوم أُحد من مصائب على النبي [ وصحبه رضوان الله عليهم ما رفع الله تعالى به درجاتهم، وكفر به من سيئاتهم، فالنبي [ شُج رأسه وكُسرت رباعيته، فقال: «كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم؟!».

وجعل [ يدعو على رؤساء المشركين مثل: أبي سفيان قبل أن يسلم، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، فكان يذكرهم بأسمائهم، ويلعنهم في صلاته، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله [ نهيا عن الدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله، وهو قوله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ < وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: 128-129).

والقنوت الذي في الحديث هو قنوت النوازل، ويكون بعد الرفع من الركوع، لا قبل الرفع من الركوع، من الركعة الأخيرة، وأما قنوت الوتر فيكون قبل الركوع وبعده، كما في الأحاديث الصحيحة.

وأما كونه في صلاة الصبح، فكان [ يقنت في كل الصلوات، لكن كان يخص الصبح والمغرب بمزيد من القنوت، وإن كان هو [ يقنت في كل الصلوات.

والرسول [ دعا شهرا أو أقل، ثم انتهى.

وفي الحديث: «أن النبي [ كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع... « رواه البخاري في المغازي (4560).

وقيل: إن هذا الحديث قد لعن رعل، وذكوان، وهما قبيلتان عربيتان كانتا قد خانتا النبي [ فقتلنا القراء من أصحابه وهم سبعون رجلا، بعثهم النبي [ إلى رعل وذكوان لأجل أن يعلموهم الإسلام، ويقرئهم القرآن، فلما كانوا ببعض الطريق غدروا بهم، وقتلوهم عن آخرهم، فقنت النبي [ يدعو عليهم بأعيانهم وبأسمائهم.

ولا مانع من كون النبي [ دعا على المذكورين جميعا في صلاته، حتى نزلت الآية فيهما.

وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} شبيه بقوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (البقرة: 272)، وبقوله سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56)، فالله تعالى يقول لنبيه [: إنما عليك البلاغ والإرشاد، ودعوة الخلق إلى الحق، والحرص على مصالح الناس ورحمتهم وهدايتهم، وأما أمر التعذيب، أو أمر المغفرة والرحمة، وكذا الهداية والإضلال، فهي بيد الله سبحانه وتعالى وحده؛ ولذا منعه تبارك وتعالى من الدعاء عليهم بالهلاك؛ لأنه جل وعلا يمنّ على من يشاء من عباده، فيتوب على من يشاء، فضلا منه ورحمة وإحسانا، ويعذب من يشاء عدلا منه وحكمة، وبظلم العبد نفسه وعمله، كما قال: {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: 128).

فسبب عذابهم أنهم ظالمون، ولاحظ كيف أن الله تعالى لما ذكر التوبة نسبها إلى نفسه، فقال {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}؛ لأن الله عز وجل هو الذي يوفقهم للتوبة، ويخلق الرغبة فيها بقلوبهم، وأما إذا عذّبهم فبظلمهم لأنفسهم، فهو سبحانه وتعالى حكمٌ عدل حكيم، لا يظلم أحدا، ولا يضع العقوبة إلا في موضعها، كما قال تعالى {وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون} (آل عمران: 117).

وقال {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} (هود: 101).

ولما نفى الله عن رسوله الله [ أنه ليس له من الأمر شيء، قرر أن الأمر له وحده، فقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (آل عمران: 129).

فالجميع ملكٌ له وعبيد، وهو سبحانه وتعالى متصرّف فيهم، فكل من في السموات من الملائكة وغيرهم، ومن في الأرض، من الإنس والجن، والحيوان، والجماد، وغيره كله ملك لله سبحانه وتعالى، والجميع عبيد له مخلوقون مدبرون، يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء أو يتوب عليه، ويعذب من يشاء بأن يكله إلى نفسه الظالمة الجاهلة، ويعذبه على ذلك.

ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية باسمين كريمين له، فقال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ليدل عباده على أن رحمته غلبت غضبه، فهو سبحانه وتعالى وإن كان يعذب الظالمين، وإن كان ينتقم ممن عصاه، إلا أن رحمته سبحانه وتعالى وإحسانه قد عما الجميع، فمغفرته تغلب مؤاخذته، ورحمته تغلب غضبه تبارك وتعالى، نسأله تبارك وتعالى أن يتغمدنا جميعا برحمته، ويدخلنا في زمرة عباده الصالحين.

أما مناسبة هذا الحديث من كتاب الاعتصام، فقد قال ابن بطال المالكي ما معناه: إن مناسبة هذه الترجمة في كتاب الاعتصام كون النبي [ دعا باللعنة على من لم يذعن لطاعته، ويعتصم بقوله وبكلامه، فدعا على المذكورين لكونهم لم يذعنوا للإيمان به [، وبرسالته فاستحقوا اللعنة.


فهذا تحذير من الدخول تحت دعاء النبي [، ولعنته على من عصاه.

وهذه الترجمة وهذا الحديث قد مر معنا قبل ثمانية أبواب: باب هل للنبي [ أن يجتهد في الأحكام أم لا؟







ابوالوليد المسلم 04-03-2022 10:47 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (52 )

أدب جــدال



الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الباب الثامن عشر :

18- باب قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكهف: 54)، وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).

الحديث الأول :

قال البخاري رحمه الله:

7347 – حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيبٌ، عن الزهري (ح) حدثني محمد بن سلام: أخبرنا عتاب بن بشير عن إسحاقَ عن الزهري : أخبرني علي بن حسين: أن حسين ابن علي -رضي الله عنهما- أخبره: أن علي بن أبي طالب قال: إن رسول الله[ طرقه وفاطمة عليهما السلام بنت رسول الله[، فقال لهم: «ألا تصلون؟!» فقال علي: فقلت: يا رسول الله إنما أنفُسنا بيد الله، فإذا شاء أن يَبعثنا بعثنا. فانصرف رسول الله[ حين قال له ذلك، ولم يَرجع إليه شيئا، ثم سمعه وهو مدبرٌ ، يضرب فخذه ، وهو يقول: «وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا».

قال أبو عبدالله: ما أتاك ليلا فهو طارق، ويقال: الطارق النجم، الثاقب: المضيء، يقال: أثقب نارك للموقد. (طرفه في: 1127).

الشرح :

الباب الثامن عشر قال البخاري رحمه الله باب قوله تعالى: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} (الكهف: 54)، وقوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).

ترجم البخاري رحمه الله لهذا الباب بآيتين كريمتين، الآية الأولى من سورة الكهف: {َكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف: 54)، أي: كان الإنسان أكثر الخلق مجادلة، فالإنسان مجبول على هذا الخلق وهو الجدال، والدفاع عن النفس، فهو من حيث الطبع مجبول على الذب عن نفسه بالقول والعمل، ولكن ينبغي له أن يجاهد نفسه على قبول النصيحة من غيره، وألا يدافع ويجادل إلا بالاعتدال، بغير إفراط ولا تفريط.

وأما أهل الكفر والعناد فهو دافعهم للجدال بغير حق، ولو كانت الحجة لا قصور فيها ولا خفاء، ولذا يأتيهم العذاب.

وأما قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)، فهو إرشاد من الله سبحانه وتعالى إلى مخاطبة أهل الكتاب، وجدالهم بالتي هي أحسن، وسيأتي.

ونعلم من الآية أن الجدال أقسام: والجدال هو المفاوضة والمنازعة والنقاش.

فالجدال والخصام أقسام منه: حسن، وأحسن، وقبيح، فما هو أحسن هو الذي طلبه الله تبارك وتعالى من عباده، فقال: {َلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)، يعني: التمسوا أحسن الطرق في مجادلة أهل الكتاب، فيؤخذ منه القيام بدعوة أهل الكتاب، لكن على الوجه الذي هو أحسن، والحسن ما كان دون الأحسن، وأما القبيح، فهو ما كان مؤديا إلى الخصام أو مؤديا إلى الحرام كالسباب والحقد والضغينة والقطيعة، أو كان مجادلة في حق بعد ما تبين، أو ما كان محتويا على الكذب أو التدليس، فالجدال مراتب من حيث أنه أحسن، وحسن، وقبيح.

وأيضا الجدال منه ما هو واجب على الإنسان، مثل نصر الحق إذا لم ينصره أحد ولم يدفع عنه، فإنه يتعين على من عنده علم وقدرة ذلك.

ومنه ما هو مستحب، مثل إذا كان هناك من يغني عنك بجداله بالحق، ويرد عن الإسلام والمسلمين، وعم عقيدتهم ودينهم، فإن هذا لا يكون واجبا في هذه الحالة، وإنما يكون مستحبا.

ومنه ما هو مباح، فما كان في المباح، فهو مباح.

ثم أورد البخاري رحمه حديثين في الباب:

الحديث الأول : حديث علي رضي الله عنه، يرويه من طريق شيخه أبي اليمان واسمه: الحكم بن نافع البهراني قال: أخبرنا شعيب، وهو ابن أبي حمزة الأموي، ثقة عابد من أثبت الناس في الزهري، كان من خاصة أصحاب الزهري.

( ح ) وهذا إسناد آخر لهذا الحديث، وهو من طريق شيخه محمد بن سلام، قال: أخبرنا عتاب بن بشير عن إسحاق عن الزهري، قال: أخبرني علي بن حسين، وهو الهاشمي الذي يقال له زين العابدين ، ثقة ثبت عابد مشهور، قال الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه .

أن حسين بن علي- رضي الله عنهما- أخبره أن علي رضي الله عنه قال: أن رسول الله[ طلبه وفاطمة فقال لهما: «ألا تصلون»، وفي رواية شعيب «ألا تصليان» بالتثنية، وهذا جائز أن يقال للاثنين أو أن يُخاطب الاثنان فما فوقهما بخطاب الجماعة، ذلك لأن أقل الجمع اثنان، أو للتعظيم، أن يقال ذلك للتعظيم لا بأس.

ومعنى طرق : قال أبو عبدالله - والمقصود به البخاري - فإذا قال : قال أبو عبد الله فهو يعني نفسه ، وهذا من المواضع التي يعلق فيها الإمام البخاري على الأحاديث ومعناها، فالبخاري يقول: ما آتاك ليلا فهو طارق، وشرح البخاري قول الله تبارك وتعالى: {والسماء والطارق} قال: الطارق هنا بمعنى النجم، الطارق هو: النجم الثاقب، أي: المضيء، يقال: أثقب نارك للموقد، يقال للذي يوقد النار أثقب نارك يعني: أضيء نارك، فالنجم الثاقب هو النجم المضيء، وقال بعض أهل التفسير يقال: له طارق، لأن ضوءه يطرق، يعني أنه يضيء ثم يخفت، يضيء ثم يخفت بالنسبة للناظر.

نعود فنقول: إن النبي[ جاء ليلا إلى بيت علي وفاطمة رضي الله عنهما، وقال لهما: «ألا تصليان» فالنبي[ حثهما على الصلاة، وحثهما على الطاعة والقربة، وهذا من أمره[ لابنته ولزوج ابنته، وهو صهره، ولغة يقال صهره، ولا نسيبه! وحثه على الصلاة، وقيام الليل، فهذا من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر للأقارب، فالرسول[ كان يتفقد أهله يتفقد ابنته وزوجها، وقد أمره ربه سبحانه وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم 6) .

فالواجب على الأب وعلى الأم أن يتفقدوا الأبناء والبنات، وأن يأمروهم بالصلاة، لأنها من أعظم واجبات الدين، ولا مانع أن يدخل عليهم في محل نومهم لتفقد الأحوال، فهذا فعله[، ولا يدخل في التجسس المنهي عنه، إذا كان بطرق الباب والدخول، مالم يخش الإنسان أو يرتاب ، فله أن ينظر ولو بخفية.

فوله: فقال لهم: «ألا تصلون»؟ فقال علي: فقلت يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا.

علي رضي الله عنه اعتذر بالقدر! فقال: إنما أنفسنا بيد الله إذا شاء الله تعالى أن يبعثنا للقيام، ويمكنا منه فعل، ولما احتج بالقدر تعجب النبي[ من قوله، وضرب فخذه تعجبا من جوابه.

ويحتمل أن يكون تعجب النبي[ من سرعة جواب علي رضي الله عنه وفهمه وعقله، واستحضاره الجواب، فيكون تسليما لما قاله علي رضي الله عنه.

وقال بعض الشراح: إن جواب علي يحتمل أن يكون من الاعتذار بالتي هي أحسن، والمجادلة بالتي هي أحسن، لأنه يحتمل أن يكون لهما عذرا يمنعهما من الصلاة فاستحيا علي من ذكره ، وأراد دفع الخجل عن نفسه وعن أهله فاحتج بالقدر.


ويستفاد من الحديث أيضا: جواز ضرب الإنسان بعض بدنه أو بعض أعضائه تعجبا، وكذا أسفا.

والحديث أيضا: يدل على فضيلة ظاهرة لعلي رضي الله عنه، إذ أن عليا -رضي الله عنه - روى هذا الحديث مع ما في الحديث قد يدل على معاتبة النبي[ له، لكن هذا من تواضعه ، من تواضع علي ومن أمانته في تبليغ ونقل كلام النبي[ للأمة، فروى هذا الحديث ولم يلتفت إلى وجود العتاب فيه في حقه.










ابوالوليد المسلم 07-03-2022 12:00 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (53 )

أدب جــدال (2)



الشيخ.محمد الحمود النجدي







إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الباب الثامن عشر:

18- باب قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكهف: 54)، وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).

الحديث الثاني:

قال البخاري رحمه الله:

7348 - حدثنا قتيبة: حدثنا الليثُ، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: بينما نحن في المسجد، خرج رسول الله [ فقال: «انطلقوا إلى يهود» فانطلقنا معه حتى جئنا بيت المدراس، فقام النبي [ فناداهم فقال: «يا معشرَ يهود، أسلموا تَسلموا». فقالوا: قد بلّغت يا أبا القاسم، قال: فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد، أسلموا تسلموا». فقالوا: قد بلغتَ يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد» ثم قالها الثالثة، فقال: «اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئا فليَبعه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله» (طرفه في: 3167).

الشرح:

الحديث الثاني: يرويه البخاري عن شيخه قتيبة، وهو ابن سعيد كما مر معنا، قال: حدثنا الليث، وهو ابن سعد الفهمي عالم مصر ومفتيها في وقته، قال: عن سعيد، وهو ابن أبي سعيد المقبري، عن أبيه واسمه كيسان المدني، تابعي ثقة ثبت، ومن المكثرين عن أبي هريرة ].

قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد خرج رسول الله [ فقال: انطلقوا إلى يهود، ولم يُعرّفْ النبي [ هذا الاسم، أي: لم يذكرهم بالألف واللام، إما لكونه قصد بعض اليهود، أو أنه [ لم يرد أن يعظم هذا الاسم، فقال: انطلقوا إلى يهود بغير ألف ولام.

قال أبو هريرة: فخرجنا معه حتى أتينا بيت المدراس، وبيت المدراس: هو البيت الذي يتدارسون فيه التوراة.

قوله: «فقام النبي [ فناداهم «يظهر من هذا أنه ناداهم من خارج البيت فقال: «يا معشر يهود، أسلموا تسلموا» أسلموا أي: ادخلوا في دين الإسلام، واشهدوا أني رسول الله تسلموا في الدنيا والآخرة، ففيه فضل الإسلام، والشهادة لرسول الله [ أنه رسول الله حقا وصدقا، وأن ذلك سبب للسلامة من الآفات ومن العذاب والفتنة والشر والبلاء في الدنيا والآخرة، ففيه فضل الاعتصام بالرسول [ وقوله وهديه، وأنهم إذا أسلموا سلموا من الشرور والعقوبات في الدنيا والآخرة.

وهكذا كل من انقاد لرسول الله [، ولم يخالف أمره فإنه يسلم من الشرور والعقوبات، قال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور 63). فحذر الله عز وجل من مخالفة أمر الرسول [، وأخبر أن من يخالف أمره أنه يعاقب بعقوبة عاجلة أو آجلة، بفتنة في دينه وشرك، أو شر وعذاب.

قوله: «قالوا: بلغت يا أبا القاسم» ولم يقولوا يا رسول الله ؟! بل خاطبوه بكنيته [، فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد» يعني: أنا أريد البلاغ وإيصال الحجة، وإقامة الحجة عليكم.

قوله: «أسلموا تسلموا» أعاد عليهم [ عرض الإسلام والدعوة إليه، قالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله [: «ذلك أريد»، قالها الثالثة، يعني: كرر عليهم [ الدعوة والبلاغ ثلاث مرات، وهذا من التأكيد عليهم، وقد قال الله تعالى له: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67).

فهو مأمور [ بالبلاغ وأداء الرسالة التي كلفه الله بها، وجاء إلى اليهود ودعاهم إلى الإسلام والاعتصام به.

فقالوا له: بلغت ! لكن لم يذعنوا له بالطاعة والاتباع، فأعاد عليهم وبالغ، وهذا التكرير من المجادلة بالتي هي أحسن؛ لأنه [ لم يعنفهم، ولم يغلظ عليهم، ولم يسبهم أو يلعنهم مع أنهم مستحقين لذلك، وإنما دعاهم بالحسنى، كما قال تعالى {وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن} (النحل: 125).

وهذا موافق لقول الله تبارك وتعالى هاهنا: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46).

فجادلهم [ كما أمره الله تبارك وتعالى في كتابه.

وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهي قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ....} (التوبة: 5).

وقيل: إن مجادلة أهل الكتاب هي فيمن له عهد وأمان، وفيمن يؤدي الجزية، وأما أهل الحرب، فإنه يشرع قتالهم بالسيف لدفع شرهم؛ لأنه [ أمر أن يقاتل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن لا يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، كما قال الله له: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة: 29).

فالنبي [ أمر بمقاتلة الكفار جميعا، وهم كل من لم يؤمن به عليه الصلاة والسلام، فيدخل فيهم الأميون الذين لا كتاب لهم ولم يكن لهم نبي سابق، ويدخل فيهم أيضا أهل الكتاب الذين لا يؤمنون برسالة محمد [ من اليهود والنصارى.

ثم إن النبي [ أعلمهم أنه يريد أن يجليهم عن المدينة، وبعد ذلك يجليهم عن جزيرة العرب كلها، كما أمر وأوصى [ أصحابه فقال: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب» رواه مسلم من حديث عمر ].

وقال عن المشركين أيضا: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب..» رواه الشيخان.

وقال [: «لئن عشت - إن شاء الله - لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» رواه الترمذي.

ثم قال لهم: «اعلموا أن الأرض لله ورسوله» أي: هذه الأرض التي أنتم فيها هي لله ورسوله؛ لأنها مهبط الوحي على محمد [، وفيها مشاهد الإسلام، وعلامات النبوة، وبيت الرسالة، و«إني أريد أن أجليكم»، الجلاء بمعنى الخروج عن هذه الأرض، «فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله». ثم إن النبي [ أجلاهم بعد ذلك إلى خيبر.

فهذه وصايا نبوية شريفة نافعة للمسلمين لو أخذوا بها، لكن انظروا اليوم إلى واقع المسلمين والمسلمات، حيث ضعف التمسك والاعتصام بالسنن، وصاروا يتساهلون في إحضار اليهود والنصارى إلى جزيرة العرب، بل الوثنين من البوذيين والمجوس عبدة النار وعبدة الأبقار، من غير ضرورة، فترى مئات الألوف من العمال والخدم الكفار، فضلا عن أهل الكتاب، يملؤون جزيرة العرب، وهي مخالفة صريحة للنبي الله [، ولا شك أن ما يصيبنا اليوم من بلاء وتقهقر ورجوع وذلة، إنما هو بسبب مخالفتنا للاعتصام بسنة رسول الله [ وبهديه وبقوله وعمله.

وجزيرة العرب محدودة بالبحار: ببحر عمان أو ما يسمى بالخليج العربي، وبحر عدن، والبحر الأحمر، هذه جزيرة العرب على الصحيح؛ لأنها مهبط الوحي ومنها شعت أنوار النبوة، وهي مهد الرسالة فلا يجوز التساهل بإدخالهم إليها.

فحاصل هذا الباب الوصية بالمجادلة بالتي هي أحسن للناس جميعا، إلا الذين ظلموا منهم، يعني من ظلم أهل الإسلام، فحاربهم وامتنع عن بذل الجزية، فإنه يقاتل وينتقل معه من المجادلة بالتي هي أحسن إلى المقاتلة؛ لأنه ظلم نفسه أولا، وظلم أهل الإسلام فحاربهم، وأبى الدخول في الإسلام، وأبى أن يدفع لهم الجزية، فعند ذلك إذا عاند انتقلنا معه من المجادلة إلى المجالدة، من المجادلة بالبيان والحجة بطريق الإنصاف، إلى طريق المقاتلة بالغلظة والقوة، وهي مجالدة بالسيف.







ابوالوليد المسلم 09-03-2022 08:31 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (54)

وسطيـة الأمـة


الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

الباب التاسع عشر:

19 - باب قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: 143)، وما أمر النبي [ بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم.

قال البخاري رحمه الله:

7349 – حدثنا إسحق بن منصور: حدثنا أبو أسامة: حدثنا الأعمش: حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله [: «يجاء بنوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب، فتُسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير؟ فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ رسول الله [: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.

وعن جعفر بن عون: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي [ بهذا. (طرفه في: 3339).

الشرح:

الباب التاسع عشر من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح الإمام أبي عبدالله البخاري، باب قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}، الأمة الوسط فسرها النبي [ في رواية لهذا الحديث الصحيح: بالعدل. رواه البخاري في التفسير (4487). وهي العدالة، فهذه الأمة موصوفة بأنها أعدل الأمم، والعدل: الخيار، وهو خير الأمور وأوسطها، فامتن الله تبارك وتعالى على هذه الأمة بالعدالة والهداية لأوسط الأمور .

قال الطبري: الوسط في كلام العرب الخيار، يقولون : فلان وسط في قومه وواسط، إذا أرادوا الرفع في حسبه. قال: والذي أرى أن معنى الوسط في الآية الجزء بين الطرفين، والمعنى أنهم وسط لتوسطهم في الدين فلم يغلوا كغلو النصارى، ولم يقصروا كتقصير اليهود ، ولكنهم أهل وسط واعتدال ( الفتح 8/ 172 – 173 ) .

ولا شك أن أهل السنة والجماعة من هذه الأمة الإسلامية، وهم أهل العلم بالقرآن الكريم والسنة النبوية والعلوم الشرعية، هم الذين ينطبق عليهم وصف العدل والوسط والخيار؛ لأن أهل الجهل ليسوا عدولاً، كما هو معلوم، وكذلك أهل البدع ليسوا عدولا، ولهذا استنبط البخاري رحمه الله من هذه الآية: وجوب لزوم جماعة أهل السنة والجماعة، وهم أهل العلم والحديث والأثر .

فقال البخاري: وما أمر النبي [ بلزوم الجماعة، وهم أهلُ العلم.

وهذا استنباط نفيس، يدل على بعد نظر الإمام البخاري رحمه الله ، وسعة علمه.

وقال الإمام ابن بطال: المراد بالباب: الحض على الاعتصام بالجماعة؛ لقوله تعالى:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة: 143).

وشرط قبول الشهادة: العدالة، وقد ثبتت لهم هذه الصفة بقوله: {وسطا} (البقرة: 143)، والوسط، العدل، والمراد بالجماعة: أهل الحل والعقد من كل عصر (الفتح) .

وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي [ تأمر بلزوم الجماعة وتنهى عن الفرقة، فمنها: حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ولما سئل عنها [ عنها قال: «هي الجماعة» رواه أهل السنن، وهو حديث صحيح ومشهور، وإن شكك في ثبوته أهل البدع.

وقال أيضا [: «عليكم بالجماعة»، وفي رواية: «الجماعة رحمة والفرقة عذاب» رواه ابن أبي عاصم في (السنة) وعبدالله في (المسند).

وخطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطبته بالجابية من أرض الشام فقال: «عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد» إلى أن قال: «ومن أراد بُحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة « رواه ابن أبي عاصم.

و«بحبوحة الجنة» تعني: باحتها وساحتها الواسعة.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: 143).

مقتضى ذلك عصمة الجماعة المؤمنة من الخطأ فيما أجمعوا عليه قولا وعملا، وذلك أن الأمة بجماعتها أو بعمومها معصومة من الخطأ، أي: الإجماع على الخطأ! وورد هذا صريحا في الحديث الصحيح فيما رواه ابن أبي عاصم في (السنة) وأحمد وغيرهما: قال [: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» رواه الترمذي وابن أبي عاصم والحاكم وغيرهم.

فالجماعة معصومة من الاجتماع على الخطأ، وهذا من فضل الله العظيم على هذه الأمة، في حين أن الفرد معرض للخطأ والضلال؛ ولهذا رغب السلف بلزوم الجماعة، وهي التي تكون على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله [، بفهم سلف الأمة الصالحين، وحضوا على ملازمتها، وحذروا من مفارقة جماعة المسلمين القائمة بالكتاب والسنة قولا وعملا واعتقادا.

ومجرد حدوث اختلاف بينك وبين أحد من جماعة المسلمين السابقة الذكر، فإنه لا يبيح لك أن تفارق جماعتهم وتهجرهم! وتلحق بسواهم! وهذا يحصل لكثير من أفراد المسلمين، أنهم يحصل بينهم وبين إخوانهم القائمين بالكتاب والسنة سوء فهم واختلاف، فيدعوه ذلك إلى مفارقتهم! بل ربما الانتساب إلى دعوات أخرى مخالفة ومبتدعة!

فلا بد من الصبر إذًا على لزوم جماعة المسلمين، وهو واجب من واجبات الاعتصام بالكتاب والسنة؛ لأنه لا يحصل الاعتصام إلا بذلك والمراد بالجماعة كما ذكرنا: أهل العلم المجمعون على التزام الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.

وهو الأصل في المسلمين عامة، وبلاد المسلمين، أنهم على هذا الطريق، إلا من شذ وابتدع، أو تأثر بجماعة بدعية، أو دعوة خارجية ونحو ذلك.

ثم روى البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه إسحق بن منصور وهو ابن (بهرام الكوسج)، التميمي المروزي، ثقة ثبت، قال: حدثنا أبو أسامة، وهو حماد بن أسامة القرشي الكوفي الثقة الثبت، قال: حدثنا الأعمش، ومر معنا مرارا، واسمه سليمان بن مهران الكوفي، قال: حدثنا أبو صالح وهو السمان ومر أيضا، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله [: «يُجاء بنوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب ، فتُسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير» أي: يجحدون الرسالة، يجحدون أن يكون قد جاءهم نذير ورسول من عند الله تعالى، فالله تعالى سيسأل الأمم عن الرسل هل بلغوا رسالاته؟ وسيُسأل الرسل عنا: هل أجبناهم واتبعناهم؟ كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ} (الأعراف: 6) وقال: {َيَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} (المائدة: 109) وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ} (القصص:65)، وقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزُّخرف:44).

وقال النبي [ في خطبة الوداع: «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» رواه مسلم.

والمشركون سيُسألون يوم القيامة عن شركهم بالله تعالى، وكذبهم عليه سبحانه، وتكذيبهم لرسله، وافترائهم على دينه ورسله وملائكته عليهم السلام ، كما قال: {وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (الزُّخرف: 19).

وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} (النحل: 56)، وهكذا كل من كذب على الله تعالى أو نسب إلى دينه ما ليس منه، أو أخرج منه ما هو منه، فأحل المحرمات، أو حرم المباحات؛ اتباعاً لهواه أو لأهواء الناس وأذواقهم ومصالحهم ، فويل له من يوم يُسأل فيه عن ذلك كله، كما ذكر لنا كتاب الله.

والله تعالى أرسل الرسل ، وأنزل الكتب؛ لئلا يكون للناس عليه حجة ولا عذر، كما قال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما} (النساء: 165).

وقال سبحانه: {يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير} (المائدة: 19).

وقوله هنا في الحديث: «فيقول: من شهودك؟» أي: فيقال لنوح عليه السلام: من شهودك؟ أي من يشهد لك أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ونصحت لأمتك؟ لأن أمته تنكر رسالته؛ طلبا لنجاتهم من النار والعذاب، كما قال الله عنهم: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} (الأنعام : 22 – 24).

فالمشركون يحلفون بالله يوم القيامة إنهم ما كانوا مشركين!

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: يا بن عباس سمعت الله يقول: {والله ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام: 23). قال : أما قوله {والله ربنا ما كنا مشركين} فأنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة ، فقالوا: تعالوا فلنجحد! فيجحدون، فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ولا يكتمون الله حديثا.

(حسن التحرير 2/111).

قوله: «فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون».

وزاد الإمام أحمد: أن هذه الأمة إذا جيء بها لتشهد لنوح عليه الصلاة والسلام يقال لهم: «ما علمكم أن نوح عليه الصلاة والسلام قد بلغ؟ فيقولون: أخبرنا نبينا [ أن الرسل قد بلغوا فصدقناه».


فهذا قول الأمة المسلمة يوم القيامة، أنها تشهد للرسل بأنهم قد بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وجاهدوا في الله تعالى حق الجهاد، حتى توفاهم الله، فيشهدون لنوح عليه السلام.

وليس الأمر خاصا لنوح عليه الصلاة والسلام، بل هو لجميع الأمم، ولجميع الرسل، ثم قرأ [ الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة : 143).

وهذا الحديث قد رواه أيضا أبو أسامة عن جعفر بن عون عن الأعمش بالسند نفسه، والقائل: وعن جعفر بن عون، هو أبو أسامة الذي روى عن الأعمش الرواية السابقة.

وقيل: إن قوله «وعن جعفر بن عون...» هو من قول الإمام البخاري؛ فيكون هذا السند معلقا عنده من هذا الطريق.








ابوالوليد المسلم 02-10-2023 02:26 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (55)


الشيخ.محمد الحمود النجدي




اجتهاد العالم بخلاف الدليل


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب العشرون:
20 - باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول [ من غير علم، فحكمه مردودٌ؛ لقول النبي [: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد ».
قال البخاري رحمه الله:
7350، 7351 – حدثنا إسماعيل، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن عبدالمجيد بن سهيل بن عبدالرحمن بن عوف: أنه سمع سعيد بن المسيب يحدّث: أن أبا سعيد الخدري وأبا هريرة حدثاه: أن رسول الله [: «بعث أخا بني عدي الأنصاري، واستعمله على خيبر، فقدم بتمر جنيب، فقال له رسول الله [ أكل تمر خيبر هكذا؟ « قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع، فقال رسول الله [: « لا تفعلوا، لكن مثلاً بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان ». (طرفه في: 221).
الشرح:
الباب العشرون، قال الإمام البخاري رحمه الله: باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم، وفي رواية لصحيح البخاري، وهي رواية الكشميهني يقول: « إذا اجتهد العالم» بدل العامل أو الحاكم، والمراد بالحاكم: القاضي، فإذا أخطأ خلاف الرسول [ بغير علم فحكمه مردود، لقول النبي [: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».
والاجتهاد: هو بذل الوسع في الوصول إلى حكم الشرع في مسألة من المسائل النازلة.
فيبذل العالم المجتهد وسعه في الوصول إلى ما يظنه أنه حكم الله تعالى أو حكم رسوله [ في مسألة من المسائل الحادثة النازلة، أي: التي لم يسبق أن حدثت بعينها، فيجتهد في الوصول إلى حكمها، وذلك بقياسها على ما شابهها من الحوادث السابقة، أي الحوادث التي فيها نص في القرآن الكريم أو في السنة النبوية المطهرة.
فإذا اجتهد العالم أو العامل، والعامل كما ورد في الحديث هو عامل الزكاة أو الجابي للصدقة، أو الموظف لدى الإمام أو الدولة المسلمة، فالموظف المكلف بفعل من الأفعال إذا اجتهد فأخطأ وخالف الشرع، فحكمه مردود، وكذلك القاضي إذا اجتهد في القضية التي تعرض عليه فأخطأ، ومثله العالم المفتي إذا أخطأ في فتواه، وخالف الدليل أو السنة إما غفلة أو نسيانا، أو لعدم وصول الدليل إليه، فحكمه مردود، ويعمل بما ثبت من الأدلة الصحيحة.
والعالم المتبع للكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، والمفتي والفقيه، لا يمكن أن يخالف القرآن عمدا أو صراحة، ولا السنة النبوية، وإنما يقع ذلك منه على وجه الوهم والخطأ، أو عدم العلم، كما سيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه.
فإذا أخطأ العالم أو القاضي وخالف الرسول [ في قضيته أو في حكمه فهو مردود، وهذا مما أجمع عليه علماء الإسلام، أن القضاء إذا خالف السنة النبوية المنقولة فهو مردود، ونقصد بالسنة: ما نقل عن النبي [ من قول أو فعل أو تقرير، ولا نقصد بالسنة الأمر المستحب بتعبير الفقهاء، وإنما مرادنا بالسنة، الهدي والطريقة المحمدية والمنهاج.
وقلنا: إذا أخطأ العالم أو العامل خطأ يخالف به الرسول [، فحكمه مردود؛ لقول النبي [ الذي رواه البخاري هاهنا معلقا لأنه ذكره بغير إسناد، أي حذف البخاري من مبتدأ إسناده راو يا فأكثر، والحديث هو قوله [: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» وروى البخاري حديثا آخر يدلل به على مراده بالباب، وهو أنه يرد ما عمل به العامل، أو حكم به العالم إذا خالف الشرع.
ثم روى بسنده عن إسماعيل، وهو ابن أبي أويس الأصبحي واسمه عبدالله، عن أخيه وهو عبدالحميد بن عبد الله بن أبي أويس الأصبحي أبو بكر، ثقة، قال: عن سليمان ابن بلال، وهو التيمي مولاهم المدني، عن عبدالمجيد بن سهيل بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، أي هو من أحفاد الصحابي عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، أنه سمع سعيد بن المسيب العالم المشهور الثقة من علماء التابعين يحدث أن أبا سعيد الخدري وأبا هريرة، أي أن سعيد بن المسيب له في هذا الحديث شيخان من الصحابة: أولهما: أبو سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك، وأبوهريرة واسمه عبدالرحمن بن صخر على الصحيح رضي الله عنهما.
قوله: حدثاه: « أن رسول الله [ بعثا أخا بني عدي الأنصاري» أي من بني النجار، وهم بطن من الأوس، واسم هذا المبعوث: سواد بن غزية، بعثه النبي [ واستعمله على خيبر، وذلك بعد أن فتحها وأقرّ أهلها على العمل فيها بالمساقاة، وهي دفع الشجر لمن يقوم بمصالحه بجزء من ثمره، بشرط كون الشجر معلوما للمالك والعامل، برؤية أو وصف، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «عامل النبي [ أهل خبير بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» متفق عليه.
قوله «فقدم العامل بتمر جنيب»، والتمر الجنيب نوع جيد من أنواع التمر، فقال له [: « أكلّ تمر خيبر هكذا» أي: كل تمرهم هكذا جيد وطيب.
قوله: « قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع» والجمع هو التمر الرديء، أي: أنه يبيع صاعين من التمر الرديء، ويأخذ بدلهما صاعا من تمر جنيب، وهو التمر الجيد، فقال [: «لا تفعلوا»، وفي رواية في غير هذا الموضع قال [: «أوه، عين الربا»، فأنكر النبي [، هذا الفعل لأنه بيع ربوي بجنسه متفاضلا، وهذا هو ربا الفضل المحرم.
وربا الفضل صورته: أن يباع ربوي بجنسه متفاضلا، فقد قال [: « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ويدا بيد، ولا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ويدا بيد، ولا التمر بالتمر إلا مثلا بمثل ويدا بيد، ولا البر بالبر إلا مثلا بمثل ويدا بيد، ولا الشعير بالشعير إلا مثلا بمثل ويدا بيد» متفق عليه.
وفي رواية: « ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا منها بناجز».
فهذه أعيان يجري فيها الربا، وهي الذهب والفضة من الأثمان، والتمر والبر وهو القمح والشعير من المطعومات، فإذا بعت مثلا تمرا بتمر، وهو ربوي بجنسه، وجب مراعاة شرطين اثنين:
الشرط الأول: التماثل في الكيل أو الوزن.
الشرط الثاني: التقابض في المجلس نفسه؛ فلا تفترقا وبينكما شيء.
أما إذا اختلفت هذه الأصناف، فقد قال [: « فبيعوا كيف شئتم» أي يجوز أن يبيع ذهبا بفضة متفاضلا، أي بعضه أكثر من بعض، لكن يشترط في ذلك التقابض، كما في الحديث.
وأما بيع التمر بالدراهم، فلا يشترط فيه التفاضل، ولا التقابض؛ لأنه لا يجري فيه الربا – أي ربا الفضل – فإذا بعت تمرا بتمر فإنه يجب أن يكون هناك تماثل في الكيل، وتقابض في المجلس نفسه.
فهذا العامل الذي بعثه رسول الله [ لما كان تمر خيبر متفاضلا بعضه جيد «جنيب»، وبعضه رديء، فصار يشتري التمر الجنيب بأن يدفع صاعين من تمر رديء، ويأخذ بدلهما صاعا من تمر جيد، فقال له [ منكرا: « لا تفعلوا ! ولكن مثلا بمثل «يعني: لا يجوز بيع التمر بالتمر، إلا مثلا بمثل ويدا بيد.
ولهذا دلهم النبي [ على المخرج الشرعي للتبادل، أو على الحيلة الشرعية الصحيحة، والحيلة الشرعية هي التي لا تخالف الشرع، وليس فيها إسقاط حق من حقوق الله تعالى، ولا تحايل على ما حرم الله، فإن هذا محرم، كما فعل أصحاب السبت بأن ألقوا الشباك يوم السبت وأخذوا الأسماك يوم الأحد؟! وظنوا أنهم لم يقعوا في المحظور؟! وقد لعنهم الله على تحايلهم هذا على ما حرم الله!
أما في هذه المسألة: فما هو الحل في أن تمتلك التمر الجيد وأنت عندك تمر رديء؟ الحل: أن تبيع التمر الرديء بالدراهم وبالمال، ثم تشتري بالدراهم تمرا جيدا، فهذا الذي دل النبي [ عليه هذا العامل.
وفي الحديث: أنه إذا حصل خطأ من الموظف أو العامل، وخالف الشرع وأحكامه، فإن معاملته ترد ولا تقبل، ثم تجري بعد ذلك على وفق الشرع، وسيأتي مزيد بيان لذلك في الباب التالي.


ابوالوليد المسلم 02-10-2023 02:28 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (56)


الشيخ.محمد الحمود النجدي





أجر العالم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الحادي والعشرون :
21 - باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ . قال البخاري رحمه الله:
7352 – حدثنا عبدالله بن يزيد المقري المكي: حدثنا حيوة: حدثني يزيد بن عبدالله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله[ يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».
قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة . وقال عبدالعزيز بن المطلب ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبي سلمة ، عن النبي[ مثله.
الشرح:
الباب الحادي والعشرون: باب باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، وروى فيه البخاري حديثا واحدا عن عبدالله بن يزيد المقرئ المكي وهو من شيوخ البخاري المشهورين، ثقة فاضل، وسمي بالمقرئ لأته أقرأ الناس القرآن نيفا وسبعين سنة، رحمه الله. قال: حدثنا حيوة بن شريح، وهو التجيبي أبو زرعة المصري، ثقة ثبت فقيه زاهد. قال: حدثني يزيد بن عبدالله بن الهاد، وهو الليثي أبو عبدالله المدني، ثقة مكثر. عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، هو التيمي أبو عبدالله المدني ثقة له أفراد، ولأبيه صحبة. عن بسر بن سعيد، هو المدني العابد، مولى ابن الحضرمي، ثقة جليل. عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، واسمه عبدالرحمن بن ثابت، ثقة. وهؤلاء الأربعة كلهم من التابعين، وهذا من لطائف الإسناد، يزيد بن الهاد، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث، وبسر بن سعيد، وأبو قيس مولى عمر بن العاص، كلهم من التابعين، وقد روى بعضهم عن بعض.
كلهم قالوا: عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله[ يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».
أراد البخاري رحمه الله من هذا الباب والحديث: أنه لا يلزم من رد حكم القاضي، أو فتوى المفتي أو العالم، أو عمل العامل إذا خالف الشرع، لا يلزم من رد فتواهم أو حكمهم عليهم، أن يكونوا أثموا بما قالوا أو عملوا، بل إذا بذل العالم وسعه للوصول إلى الحق، وبذل الحاكم أو القاضي وسعه كذلك واجتهد فحكم أو أفتى وخالف بذلك الصواب والحق، فإنه يكون مأجورا ، ولو خالف الشرع في حقيقة الأمر، إذا كان ذلك بعد الاجتهاد وبذل الوسع وهو أهل للاجتهاد، فهو مأجور أجرا واحدا.
ولكن متى يؤجر العالم أو متى يؤجر الحاكم؟ يؤجر إذا كان عالما قادرا على الاجتهاد ، وأما الجاهل فلا؟!
قال ابن المنذر رحمه الله : وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ، إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالما فلا.
أي: القاضي إذا كان عالما بالاجتهاد وقادرا على الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي، ثم بذل وسعه واجتهد فأخطأ، فإنه يؤجر أجرا واحدا، لكن إن كان قد قضى على جهل فهو مأزور غير مأجور .
ثم استدل ابن المنذر في هذا الموضع بحديث: «أن القضاة ثلاثة : قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار، وقاض قضى للناس على جهل فهو في النار».
وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن، ومروي من عدة طرق ، وهو حديث صحيح حسن .
وقال الخطابي: إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه، ثم إنما يؤجر اجتهاده في طلب الحق عبادة، هذا إذا أصاب، وأما إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط؛ فإذا قضى الحاكم على جهل، فهو في النار والعياذ بالله.
وكذلك إذا سئل الإنسان فأفتى بغير علم فهو آثم، وقد قال[: «من أفتى بفتيا غير ثبت ، كان إثمه على مَن أفتاه ، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه « رواه أبوداود. فالإثم يرجع عليك إن تكلمت بغير علم، أو حصل منك تقديم بين يدي الله ورسوله[ وقد قال الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} (الحجرات: 1).
إذاً إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد، وهو ما إذا كان حافظا للقرآن والسنة النبوية، وله معرفة وفهم لهما، وكذلك معرفة بأقوال الصحابة والمفتين والفقهاء ، مع العلم بالعربية وقواعدها، فهذا لا إثم عليه إذا اجتهد ثم أخطا .
أما إذا أفتى أو حكم وأخطأ، لأنه لا يعرف الأحكام ويجهل، ومع ذلك قضى وأفتى على جهل ، فإنه لا يؤجر على ذلك؛ لأنه معتد ومتطاول .
ولماذا الذي يقضي ويخالف الحق له أجر؟! نقول: له أجر واحد على اجتهاده، وبذله لوسعه، وتعبه في الوصول إلى حكم الله تبارك وتعالى أو حكم رسوله[.
وأما قوله[: «إذا حكم الحاكم فاجتهد» هكذا وقع في الرواية ، بدأ بالحكم قبل الاجتهاد ، ومعلوم أنه إنما يحكم بعد الاجتهاد ، ولا يجوز له أن يحكم قبل الاجتهاد ؟! ولماذا لم يقل : إذا اجتهد الحاكم فحكم...؟
فالجواب: أن المعنى عند العلماء أنه: إذا اجتهد الحاكم فحكم، هذا معنى قول النبي[: «إذا حكم الحاكم فاجتهد»؛ لأن الحكم لا يكون إلا بعد الاجتهاد كما هو معلوم ، ولا يكون الحكم قبل الاجتهاد، والفاء هاهنا ليست تعقيبية، فيكون التقدير: إذا حكم بعد الاجتهاد.
وقال بعض أهل العلم معنى: «إذا حكم الحاكم فاجتهد» أي: إذا أراد أن يحكم فاجتهد فأصاب فله أجران. وهذا أيضا معنى صحيح .
ولهذا قال أهل الأصول: إنه يجب على العالم المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع النازلة مرة أخرى، ولا يعتمد على الاجتهاد السابق؛ لإمكان أن يظهر له خلاف ما قضى أو حكم به أو أفتى سابقا .
وقوله: «إذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» يعني: بان له الخطأ أو لم يتبين، فإن له أجرا على اجتهاده وتعبه في تحصيل الحكم، ولا يعني أن له أجرا على خطئه؟! ولكن يكون الإثم مرفوعا عنه، وهذا من لطف الله تعالى بعباده ورحمته بهم أنه لا يكلفهم ما لا يطيقون كما قال: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (البقرة: 286).
وهل يمكن أن يستدل بهذا الحديث على أن كل مجتهد مصيب؟!
والجواب: إذا كان المقصود بقول القائل: «كل مجتهد مصيب» أنهم كلهم على الحق في نفس الأمر، فهذا خطأ!! لأن الحق لا يتعدد، فالحق واحد، كما قال سبحانه: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس: 32).
إلا إذا كان الحق من باب الأمر المتنوع ، وهو أنه يجوز أن يكون كذلك، ويجوز أن يكون أيضا على وجه آخر، أي من الأمور التي تقبل أن يكون فيها العمل متنوعا .
أما إذا كان المقصود بقولهم: «كل مجتهد مصيب» بمعنى أنه إذا اجتهد وبذل وسعه فأخطأ فهو مصيب من هذه الجهة؛ لأنه لو اجتهد على جهل فهو آثم مخطئ، أما إذا اجتهد وهو يملك آلة الاجتهاد من العلوم الشرعية المطلوبة للاجتهاد، فأخطأ فإنه مصيب لبذله وسعه، واستفراغه وسعه، وليس مصيبا في تلك المسألة بعينها، فهذا واضح والحمد لله .
وأيضا ننبه على أن الاجتهاد والقياس إنما يكون عند عدم النص، وأما مع وجود النص فلا اجتهاد ولا قياس ولا عقل يعارض؛ فكما أنه لا تيمم مع وجود الماء، وأنه إذا حضر الماء بطل التيمم ، فكذلك إذا قال الله تعالى، أو قال رسوله[، فلا قول لأحد من الناس كائنا من كان، قال سبحانه وتعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} (الأحزاب: 36).
وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات: 1).


ابوالوليد المسلم 02-10-2023 02:30 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (57)


الشيخ.محمد الحمود النجدي


ظهور أحكام النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر الناس



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الثاني والعشرون
22 – باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام.
الحديث الأول: قال البخاري رحمه الله: 7353 - حدثنا مسدد: حدثنا يحيى، عن ابن جريج: حدثني عطاء: عن عبيد بن عمير قال: استأذن أبو موسى على عمر، فكأنه وجده مشغولا فرجع، فقال عمر: ألم أسمع صوت عبدالله بن قيس؟ ائذنوا له، فدعي له، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنا كنا نؤمر بهذا. قال: فائتني على هذا ببينة أو لأفعلن بك، فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد إلا أصاغرنا، فقام أبو سعيد الخدري فقال: قد كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: خفي علي هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ألهاني الصفق بالأسواق. (طرفه في: 2062).
الشرح:
الباب الثاني والعشرون: باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام.
عقد الإمام البخاري هذا الباب لبيان أن كثيرا من الصحابة، بل من أكابر الصحابة، من كان يغيب عنه بعض ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يفعله، من الأقوال والأعمال فيستمر هو على ما كان قد اطلع عليه أو علمه من القرآن أو السنة، وربما كان منسوخا لعدم اطلاعه على الناسخ، وإما أن يستمر على البراءة الأصلية.
ومعلوم أن فعل الصحابي يكون حجة ما لم يعارض نصا من كتاب أو سنة، وأقوال الصحابة وفتاويهم أيضا حجة شرعية ما لم تعارض نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن الله تبارك وتعالى.
ولا يتصور أن الصحابة يخالفون نصا عمدا! لكن يقع ذلك منهم بسهو أو نسيان أو عدم اطلاع على النص أو على الناسخ، فحاشاهم عن المخالفة عمدا.
فمن قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة للناس، فإنما هو للأكثر والأغلب، وإلا فهناك بعض الأحكام والسنن المنقولة عن نبينا صلى الله عليه وسلم قد خفيت على بعض الصحابة، بل على بعض علماء الصحابة وأكابرهم.
فمن ذلك: حديث أبي بكر رضي الله عنه في الجدة، وذلك أنه رضي الله عنه خفي عليه نصيب الجدة من الميراث، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه: أنه صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، والحديث في الموطأ.
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه في الرجل يعقد على المرأة ثم يطلقها ويريد أن يتزوج أمها، فأجازه.
وتجويزه بيع الفضة المكسرة بالصحيحة متفاضلا.
ثم رجوعه عن الأمرين لما سمع من غيره من الصحابة النهي عنهما.
وحديث عمر رضي الله عنه هاهنا في الاستئذان.
وتقدم معنا: أن عمر كان يتناوب في النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو ورجل من الأنصار، فينزل هذا يوما وهذا يوما، ويخبر كل منهما الآخر بما سمع وشاهد من النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك أمثلة كثيرة مذكورة في مظانها من كتب الفقه وأصوله، ككتاب: أعلام الموقعين للإمام ابن القيم وغيره، في بيان رجوع كثير من الصحابة عن قضايا وأحكام كانوا قد حكموا وقضوا بها، أو أفتوا بها، ثم رجعوا عنها لما علموا أن الدليل بخلافها.
وقال ابن بطال: إن البخاري رحمه الله أراد الرد على الرافضة والخوارج الذين يزعمون أن كل أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وسننه منقولة بالتواتر! ولا يجوز العمل بما لا ينقل متواترا!
وهذا القول مردود بما صح أولا من الأحاديث الكثيرة أن الصحابة رضي الله عنهم كان يستفيد بعضهم من بعض، ويرجع بعضهم إلى ما رواه غيره، وهم أفراد.
وقد انعقد الإجماع عند السلف على العمل بأحاديث الآحاد، وعليه العمل عندهم، وأنها حجة بنفسها.
وهي الأحاديث التي يرويها الواحد والاثنان والثلاثة ولا تبلغ حد التواتر، والتواتر هو رواية الجم الغفير من الرواة عن مثلهم.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث الرسل إلى الملوك والأمم، وكانوا أفرادا وآحادا، وكان يرسلهم بدعوة الإسلام كله، عقيدة وشريعة، فلو كان الآحاد والأفراد من الناس لا تقوم بهم الحجة على الخلق، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسلهم!
والأدلة والأمثلة في الباب كثيرة، وأول من ردّ على هذا القول المنحرف: الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه (الرسالة)، ثم تتابعت الردود، ولشيخنا الإمام الألباني رحمه الله تعالى رسالة نفيسة في هذا الباب اسمها: (الحديث حجة بنفسه). مطبوعة.
أما الحديث الأول في هذا الباب، فيرويه البخاري عن شيخه مسدد وقد مضى. عن يحيى وهو ابن سعيد الأنصاري وهو من شيوخ ابن جريج، عن ابن جريج وهو عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج المكي، قال: حدثنا عطاء، وهو ابن أبي رباح المكي، قال: عن عبيد بن عمير وهو ابن قتادة الليثي أبو عاصم المكي، من كبار التابعين، وكان قاصّ أهل مكة، مجمع على ثقته.
قوله: «استأذن أبو موسى على عمر» فكأنه وجده مشغولا بجلسائه فلم يلتفت إليه، فرجع من حيث أتى.
قوله: « فقال عمر: ألم أسمع صوت عبدالله بن قيس؟ ائذنوا له، فدعي له». وكان قد انصرف بعد أن استأذن ثلاث مرات، كما في الروايات الأخرى لهذا الحديث.
قوله « فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: إنا كنا نؤمر بهذا «يعني: كنا نؤمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، أن يستأذن الرجل على أخيه ثلاثا، فإن أذن له وإلا انصرف.
قوله: «قال له عمر: فائتني على هذا ببينة أو لأفعلن بك «يعني: لأنزلن بك عقوبة لدعواك هذه ! وهذا من تشديد عمر رضي الله عنه في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد إلا أصاغرُنا» وفي رواية أن القائل: هو أبي بن كعب، وأصاغرنا أي: أصغرنا سنا؛ وذلك للتدليل على أن هذا الأمر من الوضوح والظهور ما يعلمه الجميع.
قوله: « فقام أبو سعيد الخدري فقال: قد كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: خفي عليّ هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ألهاني الصفقُ بالأسواق» الصفق بالأسواق هو التبايع؛ لأنه كان يتاجر لكسب الرزق لعياله ويستغني عن الناس.
فهذا الحديث فيه أبين حجة، وأوضح دلالة على أنه قد يخفى على الصحابي الجليل بعض سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه؛ لغيابه عن بعض مجالس النبي صلى الله عليه وسلم بحكم الحاجات التي لا ينفك عنها البشر.
وفيه أيضا حجة واضحة على ثبوت خبر الواحد، وأن الصحابة كان الشاهد منهم يبلغ الغائب ما شهد من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وأن ذلك الغائب عن ذلك المجلس كان يقبل ممن حدثه من الصحابة ما يقوله ويعتمده ويعمل به.
وإنما طلب عمر رضي الله عنه من أبي موسى الأشعري الحجة والبينة على حديث الاستئذان، من باب زيادة الاطمئنان وليس من باب الرد للخبر، وإنما كان عمر رضي الله عنه يتثبت ويشدد في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتساهل الناس في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويتجرؤوا على الدين، ولأن الرواية عنه دين وشريعة، فما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم دين يعمل به وحجة على الخلق أجمعين.
والدليل على أن عمر كان يقبل حديث الآحاد: حديث عبدالرحمن بن عوف لما شهد له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، ولما شهد به بخبر النبي [ في حديث الطاعون، وهو: « إذا وقع الطاعون بأرض فلا تخرجوا فرارا منه، ولا تقدموا عليه».
وحديث عمرو بن حزم في التسوية بين الأصابع في الدية، وكان عمر رضي الله عنه يفرق بين الأصابع فيقول: هذه منفعتها أكبر من هذه، فيجعل في هذه غير ما يجعله في الأخرى من الأصابع، فشهد بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل في الأصابع عشرا من الإبل، فأخذ به عمر رضي الله عنه وقضى به.
وحديث الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها، فقد كان لا يورث المرأة من دية الزوج، وحديث سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين، وغيرها من الشواهد على أن الصحابة رضي الله عنهم كان يبلغ الشاهد منهم الغائب، وأن الغائب كان يقبل ما يسمع منه، ويعمل به.
وذكر البخاري من كتاب العلم في صحيحه أن عمر رضي الله عنه كان يتناوب النزول إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم هو ورجل من الأنصار، فينزل هذا يوما وهذا يوما، ويخبر كل واحد منهما الآخر بما غاب عنه، يعني أن عمر رضي الله عنه كان له إبل، وكان يشغله العمل فيها عن بعض مجالس النبي صلى الله عليه وسلم ، فاتفق هو وأخ له من الأنصار على أن ينزل هو يوما، ويبقى الأنصاري في إبله يأخذ مكانه، ثم في اليوم الآخر ينزل الأنصاري ويبقى عمر عند الإبل، ويخبر كل واحد منهما صاحبه بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وبما شاهده من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
يعني أن عمر لم يأخذ كل العلم مشافهة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل بعضه مشافهة وبعضه بالواسطة، وفعل ذلك الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بغير نكير منه صلى الله عليه وسلم.


ابوالوليد المسلم 15-10-2023 10:53 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (58)


الشيخ.محمد الحمود النجدي




- ظهور أحكام النبي [ لأكثر الناس (2)



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: (الاعتصام بالكتاب والسنة) من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الحديث الثاني في الباب:
7354 – حدثنا علي: حدثنا سفيان: حدثني الزهري: أنه سمع من الأعرج يقول: أخبرني أبو هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله [، والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينا، ألزم رسول الله [ على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت من رسول الله [ ذات يوم، وقال: « من يبسط ردائي حتى أقضيَ مقالتي، ثم يقبضه، فلن ينسى شيئا سمعه مني «. فبسطت بردة كانت عليّ، فوالذي بعثه بالحق، ما نسيت شيئا سمعته منه. (طرفه في: 118).
الشرح:
الحديث الثاني في هذا الباب: باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي [ كانت ظاهرة، وما كان يغيب بعضهم من مشاهد النبي [ وأمور الإسلام، هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أيضا بيان السبب في خفاء بعض الأحكام والسنن النبوية على بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم فضلا عن صغارهم، وهو ما ذكره الصحابي الجليل أبو هريرة هاهنا، وهو أن المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، يعني: عقد الصفقات، والبيع والشراء لأنهم يتاجرون ويتكسبون لأجل الرزق لعيالهم وأسرهم، وأن الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، يعني: في بساتينهم، وفي زروعهم والعناية بها، وهذا يبين أن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة في الأغلب، وأن الأنصار كانوا أصحاب زراعة وبساتين، رضي الله عنهم أجمعين.
فيقول أبو هريرة ] في هذا الحديث الذي رواه البخاري من طريق شيخه علي، وهو ابن المديني الإمام الحجة المشهور الذي قال البخاري عنه: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند ابن المديني، وإنما يذكره البخاري باسمه مجردا، وتارة يقول: حدثني علي بن عبدالله، ولا يصرح باسمه المديني؛ لأن عليا بن المديني أشيع عنه أنه قال بخلق القرآن، وحصلت فتنة لبعض المحدثين، واجتنب الحديث عنهم وهجرت مجالسهم، تارة بالحق، وتارة بغير الحق، فكان ابن المديني ممن أشيع أنه أجاب إلى خلق القرآن، وربما كان قد أجاب خوفا من الحبس أو من الضرب، وإلا فالثابت والمنقول عنه أنه كان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق.
أما سفيان فهو ابن عيينة أبو محمد الهلالي شيخ ابن المديني. والزهري قد مضى. والأعرج من المكثرين من الرواية عن أبي هريرة ].
قال أبو هريرة: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله [، والله الموعد» وجاء في رواية مالك عن الزهري في العلم (118) أنه قال ]: ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} الآيتان من سورة البقرة: 159-160.
يعني أن أبا هريرة كان قد تعرض لشيء من الكلام عليه في زمنه من بعض الناس؛ لأنه كان صاحب حديث كثير، وكان يعقد مجالس التحديث ] وأرضاه في مسجد رسول الله [ وغيره، وقد كان الصحابة يدافعون عنه ويصدقونه فيقولون: نعم قد سمعنا رسول الله [ يقول ذلك، وكان أبو هريرة إذا جاءه السائل وسأله عن حديث وحدثه به عن رسول الله [ قال له: اذهب إلى فلان - من الصحابة - فسيحدثك بمثل ما حدثتك، فيذهب إليه ويصدقه وهذا من باب شد الأزر، ومعاضدة الرواية، وتقوية الخبر.
وجاء في كتاب الجنائز من الصحيح: أن ابن عمر ] قال: أكثر علينا أبو هريرة، فصدقت عائشة أبا هريرة، أي: صدقته في الحديث الذي حدث به. وما كان ] متهما أبدا، وإنما أشاع أعداء السنة من الرافضة والمستشرقين والعلمانيين الكلام على مروياته، ولا سيما في السنين المتأخرة من أجل الطعن في الدين، وصد الناس عن السنن النبوية الشريفة، فيتوصلون بذلك إلى هدم الدين!!
ومن أسباب كثرة الحديث عن أبي هريرة أنه قد مات أكابر الصحابة قبله، وعمّر أبو هريرة إلى ما بعد سنة الستين للهجرة، فاتسعت روايته، وكثر تلاميذه والآخذون عنه من التابعين وغيرهم.
وبين هاهنا سببا من أسباب كثرة تحديثه، وهو أن المهاجرين كانت تشغلهم التجارة، وأن الأنصار كان يشغلهم العمل في زروعم وبساتينهم، وقوله: « كنت امرأ مسكينا» يعني: كنت رجلا مسكينا «من فقراء المهاجرين، ألزم رسول الله [»، وفي رواية مسلم: «أخدم رسول الله على ملء بطني» بمعنى أنه كان يرضى باليسير، ويكتفي بأقل القليل، فيكفيه أن يأكل ما يشبعه ولا يطلب المزيد، وليس لديه تجارة ولا أرض يزرعها ويشتغل بها، ولا هو ممن يطلب مالا ولا أرضا ولا عقارا ولا خدما، ولا غير ذلك، بل كان يكفيه أن يلازم رسول الله [ ويخدمه ويكون بقربه ويسمع حديثه ويشهد أحكامه، ويحفظ عنه.
وكان النبي [ تأتيه هدايا من أصحابه من لبن أو تمر أو غير ذلك، فكان أبو هريرة ] يصيب مما يأتي رسول الله [، ويأوي إلى فقراء الصُّفّة الذين كانوا يبيتون بالمسجد في صفة لهم أي: ظلة؛ إذ لا سكن لهم ولا يلوون على أهل ولا عشيرة؛ لأنهم من فقراء المهاجرين.
وأهل الصفة كانوا يأكلون في المسجد، ويتصدق عليهم الناس؛ لأنهم هاجروا في سبيل الله عز وجل، وتركوا خلفهم ديارهم وأموالهم، وفي بعض الأحيان أهلهم ونساءهم وأولادهم طلبا لمرضاة الله تبارك وتعالى.
وما أعظم هذه الهجرة وأشدها على النفس، إلا إن كانت نفسا مؤمنة مطمئنة، موقنة بثواب الله تبارك وتعالى، قد اشترت الآخرة بالدنيا.
فلذلك شهد أبو هريرة ] ما لم يشهد غيره، وسمع ما لم يسمعوا؛ لأنه كان يلزم رسول الله [، وفي رواية: « فيشهد إذا غابوا، ويحفظ إذا نسوا»، وجاء في رواية البخاري أيضا: «وكنت امرأ مسكينا من مساكين الصفة، أعي حيث ينسون، فشهدت من رسول الله [ ذات يوم»، يعني شهد مجلسا. وفي المسند والترمذي: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لأبي هريرة: كنت ألزمنا لرسول الله [ وأعرفنا بحديثه.
قوله [: «من يبسط رداءه» أي: من منكم يفرش ثوبه على الأرض.
قوله: «فلم ينسى شيئا سمعه مني» وفي رواية: «فلن ينس شيئا». وهو وعد صادق منه [، وقد وقع الأمر كما قال، فكان أبو هريرة ] راوية الإسلام، والمقدم من الصحابة في الحديث، فروى ما يزيد على خمسة آلاف حديث نبوي شريف، وليس ذلك لغيره؛ بسبب دعوة النبي [ له، وهو من أعظم أسباب حفظه ].
قوله: « فبسطت بردة كانت علي، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه « وفي رواية أخرى: «فحثا له النبي [ ثلاث حثيات، وقال له: ضُم رداءك» وهذا أيضا سبب من أسباب سعة حفظه وثبوته في صدره، وتفوقه على بقية الصحابة في هذا الباب.
وفي كتاب العلم: «أن أباهريرة قال: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثا كثيرا أنساه، قال: «ابسط رداءك»، قال: فغرف بيديه، ثم قال: «ضمه»، فضممته، فما نسيت شيئا بعده.
وقال هاهنا أبو هريرة: فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه».
وهذا من الآيات والمعجزات، والدلائل النبوية، وبركة من بركاته عليه الصلاة والسلام، ولم ير أبو هريرة شيئا بعينيه، فسبحان الله العظيم!
ومن أراد الاطلاع على ترجمة أبي هريرة والدفاع عنه فليراجع كتاب العلامة يحيي المعلمي في الرد على المدعو محمود أبي رية، واسم الكتاب «الأضواء الكاشفة» وهو كتاب نفيس في الرد على محمود أبي رية، الذي طعن في هذا الصحابي الجليل ومروياته، فرد عليه العلامة المعلمي رداً مباركا عظيما في هذا الكتاب.


ابوالوليد المسلم 15-10-2023 10:55 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (59)


الشيخ.محمد الحمود النجدي



(59)- إقـرار النبـي صلى الله عليه وسلم حُجّـة


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الثالث والعشرون:
23 – باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة، لا من غير الرسول.
7355 – حدثنا حماد بن حميد: حدثنا عبيدالله بن معاذ: حدثنا أبي: حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن المنكدر قال، رأيت جابر بن عبدالله يحلف بالله: أن ابن الصياد الدجالُ، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم.
الشرح: الباب الثالث والعشرون - باب من رأى ترك النكير - يعني ترك الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم حجة، لا من غير الرسول فإنه ليس بحجة، والنكير: هو المبالغة في الإنكار، وقد مرّ معنا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي: ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، فكل ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير فهو حجة في دين الله تعالى.
واتفق العلماء على أن تقريره صلى الله عليه وسلم حجة أيضا، فما يفعل بحضرته، أو يطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم فيرضاه، أو يصل إليه خبره ويسكت عنه، أن هذا كله دال على الإباحة؛ لأن العصمة النبوية تأبى السكوت عن المنكر أو عن الباطل.
ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يُقر أحدٌ على باطل أبدا، أي: في عهده صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفعل أحد باطلا أو محرما ثم يسكت عنه الوحي، ولو لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحضره فإن الله تعالى يبلغه بواسطة الوحي.
فسكوته إذاً صلى الله عليه وسلم يدل على أقل الأحوال على الإباحة، أما غير الرسول صلى الله عليه وسلم – وهو موضوع الباب - فإن سكوته لا يدل على الجواز؛ لأن غير الرسول صلى الله عليه وسلم لا عصمة له من الخطأ - كما هو مقرر عند أهل السنة - فقد يسكت نسيانا أو سهوا أو جهلا أو خوفا أو تأويلا أو غير ذلك من الأسباب.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فليس كأحد من الناس؛ فلا يفعل بحضرته شيء ثم يسكت عنه مع حرمته، أما غيره فقد قال كثير من أهل العلم: إنه لا ينسب لساكت قول، فمجرد السكوت لا يدل على الموافقة، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن الإجماع السكوتي ليس بحجة؛ لأن سكوت العالم عن شيء لا يكون دليلا على الجواز؛ لاحتمال أنه لم يبلغه الحكم، أو أنه سكت خوفا من المخالفة أو غير ذلك كما ذكرنا.
لكن الراجح أنه إذا قال المجتهد قولا وانتشر ولم يخالفه غيره فهو حجة، بشرط ألا يخالف نصا من كتاب أو سنة.
وقد روى البخاري في هذا الباب حديثا واحدا عن حماد بن حميد، وهو الخراساني، وهو الحديث الوحيد له في الصحيح، وفيه لين، لكنه متابع فقد أخرجه مسلم وغيره من طرق.
عن عبيد الله بن معاذ وهو ابن نصر بن حسان العنبري، ثقة حافظ. وسعد بن إبراهيم هو ابن سعد بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، ثقة. ومحمد بن المنكدر التيمي المدني، ثقة حافظ، من المكثرين في الرواية عن جابر رضي الله عنه. وسعد بن إبراهيم، ومحمد بن المنكدر من طبقة واحدة، ولهذا تعد هذه الرواية من رواية الأقران عن بعضهم البعض.
قال: « رأيت جابر بن عبدالله يحلف» يعني: أنه شاهده حين حلف بالله عز وجل أن ابن الصياد، وفي رواية: «أن ابن صياد» بدون ألف ولام، وفي رواية مسلم: « يحلف بالله أن ابن الصياد الدجالُ». قوله: «قلت تحلف بالله»؟! قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم ينكره صلى الله عليه وسلم ».
فجابر رضي الله عنه لما سمع عمر رضي الله عنه يحلف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن الصياد هو الدجال، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم جابر من هذا التقرير والسكوت - إقرار النبي صلى الله عليه وسلم عمر - على كلامه ذلك، اعتبره حجة واحتج به، لكن هذا مقيد بألا يعارضه التصريح بخلافه، فإن قال النبي صلى الله عليه وسلم أو فعل بخلاف ذلك دل على نسخ ذلك التقرير، إلا إذا ثبت دليل الخصوصية.
والحديث صريح في أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم كان عند الصحابة حجة معمولاً بها، فجابر هاهنا احتج بإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على أن ابن الصياد هو الدجال.
وأما مسألة: هل كان ابن صياد هو الدجال الذي يخرج آخر الزمان أم لا؟
فالراجح - والله تعالى أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم تردد في شأنه أولا؛ ولهذا سكت، ولم ينكر على عمر في ذلك المجلس؛ إذ جاء في قصة ابن صياد أن عمر رضي الله عنه قال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله ! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن يكن هو فلن تسلط عليه «. يعني: إن يكن ابن الصياد هو الدجال، فلن تمكن أنت من قتله؛ لأن الذي يقتل الدجال هو عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو كائن آخر الزمان، وإن لم يكن هو الدجال، فلا خير لك في قتله، فتردد النبي صلى الله عليه وسلم في ابن الصياد - والله أعلم - لعدم الوحي إليه فيه كما سيأتي.
ووردت أحاديث كثيرة في ابن الصياد، استدل بعض الصحابة بها على أنه هو الدجال بما رآه منه، فمن ذلك كما رواه عبدالرزاق بسند صحيح: عن ابن عمر قال: « لقيت ابن صياد يوما، ومعه رجل من اليهود فإذا عينه قد طفئت، وهي خارجة مثل عين الجمل، فلما رأيتها، قلت: أنشدك بالله يا ابن صياد، متى طفئت عينك؟ قال: لا أدري والرحمن، قلت: كذبت لا تدري وهي في رأسك، قال: فمسحها ونخر ثلاثا، فزعم اليهود أني ضربت بيدي صدره، وقلت له: اخسأ فلن تعدوا قدرك، فذكرت ذلك لحفصة، فقالت حفصة: اجتنب هذا الرجل، فإنما يتحدث أن الدجال يخرج من غضبة يغضبها «.
ووردت أحاديث تدل على ذلك أنه ليس هو الدجال، فأخرج الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « صحبني ابن صياد إلى مكة فقال لي: ماذا لقيت؟ يزعمون أني الدجال. يعني أنه يشكو إليه ما يقول الناس فيه، أنهم يقولون عني أني أنا الدجال، ثم قال له: ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنه لا يولد له، قلت: بلى ! قال: فإنه قد وُلد لي، قال: أولست سمعته يقول: لا يدخل المدينة ولا مكة ! قلت: بلى، قال: فقد ولدت بالمدينة، وها أنا أريد مكة ».
وورد في الحديث أنه خرج حاجا مع أبي سعيد وأصحابه. فهذا الأحاديث يَستدل بها من قال إن ابن صياد لم يكن هو الدجال.
وقال البيهقي رحمه الله في حديث الباب: ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على حلف عمر، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفا في أمره ثم جاءه الثبت من الله تعالى بأنه غيره، على ما تقتضيه قصة تميم الداري، وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صياد، وطريقه أصح، وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال.
قال الحافظ ابن حجر: قلت: قصة تميم الداري أخرجها الإمام مسلم من حديث فاطمة بنت قيس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس، وذكر أن تميما الداري ركب في سفينة مع ثلاثون رجلا من قومه، فلعب بهم الموج شهرا، ثم نزلوا إلى جزيرة فلقيتهم دابة كثيرة الشعر فقالت لهم: أنا الجساسة، ودلتهم على رجل بالدير- أي بالقصر- قال: فانطلقنا سراعا فدخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيته قط خلقا، وأشده وثاقا - يعني أنه مربوط وموثق بشدة - ومجموعة يداه إلى عنقه بالحديد، فقلنا: ويلك ! ما أنت...» فذكر الحديث.
قال: وفيه: - أي في هذا الحديث - سألهم عن نبي الأميين: هل بعث؟ وأنه قال: إن يطيعوه خير لهم، وأنه سألهم عن بحيرة طبرية، وعن عين زُغر، ونخل بيسان - وكلها بفلسطين - وفيه أنه قال لهم: إني مخبركم عني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة» انتهى.
فهذا قول الدجال لتميم الداري صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا معه في الجزيرة.
فلا يمكن الجزم لمن قرأ هذا الحديث بأن ابن صياد هو الدجال، ومن جزم أن ابن صياد هو الدجال فهو لم يسمع بقصة تميم؛ لأنه يستحيل الجمع بين من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة صغيرا قريبا من الاحتلام، وبين من رآه الصحابة رجلا كبيرا مسجونا في جزيرة من جزر البحر، موثقا بالحديد، يستفهم من الصحابة عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم ، هل خرج أم لا؟!
فهذا الحديث والله تعالى أعلم مما يدل على أن ابن صياد ليس هو الدجال، وأما جابر رضي الله عنه فقد حلف على ما كان اطلع عليه من عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: قال العلماء: قصة ابن صياد مشكلة، وأمره مشتبه، لكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه في أمره بشيء، وإنما أوحي بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة؛ فلذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقطع في أمره بشيء، بل قال لعمر: «لا خير لك في قتل...» الحديث.
قال: وأما إسلامه وحجه وجهاده فليس فيه تصريح بأنه غير الدجال؛ لاحتمال أن يختم له بالشر. فقصته أشكلت على كثير من الصحابة فضلا عن غيرهم.
وورد أنه كان يأتيه شيطانه كما في الصحيح، وربما كان هذا في أول حياته في صغره ثم رجع عنه لما كبر؛ إذ ورد عنه إسلامه وحجه، وروى أبوداود: عن جابر قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرة.
قال ابن حجر: صحيح. أي: لعله قتل يومئذ، والله تعالى أعلم. والحديث يدل أيضا على جواز الحلف بما يغلب على الظن.



ابوالوليد المسلم 18-10-2023 10:06 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (60)


الشيخ.محمد الحمود النجدي


(60) الاجتهاد والقياس ومعرفة المجمل


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الرابع والعشرون:
باب: الأحكام التي ُتعرف بالدلائل، وكيف معنى الدلالة وتفسيرها
وقد أخبر النبيُ[ أمرَ الخيل وغيرها ، ثم سئل عن الحمر، فدلهم على قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، وسئل النبي[ عن الضب، فقال: «لا آكله ولا أحرمه». وأكل على مائدة النبي[ الضبُ، فاستدل ابن عباس بأنه ليس بحرام.
الحديث الأول:
7356 – حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله[ قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجرٌ، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها، فاستنت شرفا أو شرفين، كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرّت بنهر فشربت منه - ولم ُيرد أن يسقي به - كان ذلك حسنات له، وهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تغنيّاً وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر . ورجل ربطها فخراً ورياء، فهي على ذلك وزر». وسئل رسول الله[ عن الحمر، فقال: «ما أنزل الله علي فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} طرفه في: 2371 .
الشرح:
الباب الرابع والعشرون هو: باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها.
والأحكام هي الشرعية التي تعرف بالدلائل، وفي بعض النسخ: بالدليل.
والدليل يُعرّف بأنه: ما يرشد إلى المطلوب، ويلزم من العلم به العلم بالمدلول، وأصله في اللغة: من أرشد إلى الطريق، قاصدا إلى طريق يوصله إلى مقصده. والدلالة يجوز فيها فتح الدال وكسرها، والفتح أفصح. والمراد بها في الاصطلاح الشرعي: الإرشاد إلى حكم الشيء الخاص الذي لم يرد فيه نص خاص، وإنما هو داخل تحت حكم دليل آخر بطريق العموم.
هذا معنى الدلالة، وتفسيرها يعني: تبيينها، فالتفسير هو التبيين، وهو تعليم المأمور، أي: تعليم المكلف كيفية ما أُمر به، أو كيفية الوصول إلى ما أمر به من الأحكام.
ويستفاد من هذه الترجمة: أن الاستنباط والاجتهاد في الوصول إلى ما يظن أنه حكم الله تعالى ورسوله[، محمود إذا تم بضوابطه الشرعية، وأن الجمود على النصوص الظاهرة ليس هو طريق النبي[، فليس من طريق النبي[ أن يجمد على ظاهر النص، ويهمل الإشارة أو الدلالة، والأدلة على ذلك ما ذكره البخاري تحت هذا الباب من الأحاديث.
وقوله: «سئل النبي[ عن الضب فقال: لا آكله ولا أحرمه»، هو الحديث الثالث في الباب وسيأتي الكلام فيه.
أما الحديث الأول في الباب: الذي يرويه البخاري من طريق شيخه إسماعيل بن أبي أويس، عن الإمام مالك، عن زيد بن أسلم وقد مضت تراجمهم. عن أبي صالح السمان واسمه ذكوان المدني، وسمي بالسمان أو الزيات لكونه كان يتجر بالزيت، يرويه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أن رسول الله[: «الخيل لثلاثة» أي: لثلاثة أصناف أو ثلاثة أنواع من الناس.
قوله: «لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله» يعني رجل ربط هذه الفرس من أجل الغزو والجهاد، وهذا معنى ربطها في سبيل الله، أي: أنه أعدها وربطها ذخرا للجهاد.
قوله: «فأطال في مرج أو روضة» يعني أطال الحبل. قوله: «فما أصابت في طيلها ذلك المرج والروض كان له حسنات» أي: إذا تحركت هذه الخيل ومشت أو ركضت على حسب طول الحبل كان له به حسنات.
قوله: «ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين» أي: إذا قطعت حبلها، واستنت أي: ركضت، والشرف: هو المكان المرتفع.
قوله: «كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن تسقي بهه كان ذلك حسنات له» فهذه الفرس كلها حسنات وأجر وثواب لصاحبها، فكل طعامها وشرابها يوضع في ميزان صاحبها، بل حتى أرواثها توضع في ميزانه، وحتى تحركها يمينا وشمالا في مرجها يحسب له حسنات.
قوله: «ورجلا ربطها تغنيا وتعففا» أي: طلبا للنسل، فيطلب تولدها لأجل أن يبيع من أولادها، ولم ينس حق الله في رقابها، ولا ظهورها، فهي له ستر، لأنها تغنيه عن السؤال وتستره هو وعياله.
أما الرجل الثالث: «فرجل ربطها فخرا ورياء» أي: يتخذها لمجرد الفخر على الناس والخيلاء، بأنه يملك من الخيل كذا وكذا، أو من الأفراس كذا وكذا، فهي على ذلك الرجل وزر، لعدم وجود النية الصالحة في اتخاذها.
قوله: «وسئل[ عن الحُمر» وهي جمع حمار، الحيوان المعروف. فقال: ما أنزل الله علي فيها إلا هذه الآية الفذة الجامعة، الفذة يعني الجامعة الفريدة، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7- 8)، فالرسول[ لما بيّن حكم اقتناء الخيل وأحوال مقتنيها من الناس، وسئل عن الحمر أشار إلى أن حكمها وحكم الحمر وحكم غيرها مندرج في عموم قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8)، وهذا من باب الإرشاد إلى أن حكم الشيء الخاص الذي لم يرد فيه نص خاص، قد يندرج تحت دليل آخر بطريق العموم كما قلنا، وهذا هو القياس.
فقال أهل العلم: إن هذا الحديث فيه حجة على إثبات القياس، ولا شك في أن فيه إشارة واضحة إلى حجية القياس، وتعليم النبي[ أمته كيف يصلوا إلى الحكم الشرعي بالإستنباط، وإلى الأدلة على الشيء الخاص في نظرهم في الأدلة العامة.
الحديث الثاني:
7357 – حدثنا يحي: حدثنا ابن عيينة، عن منصور بن صفية، عن أمه، عن عائشة: أن امرأة سألت النبي[.
طرفه في: 314 . ح / حدثنا محمد – هو ابن عقبة - حدثنا الفضيل بن سليمان النميري البصري: حدثنا منصور بن عبد الرحمن بن شيبة، حدثتني أمي، عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة سألت النبي[ عن الحيض، كيف تغتسل منه؟ قال: «تأخذين فرصة ممسكة، فتوضئين بها» . قالت: كيف أتوضأ بها يا رسول الله؟ قال النبي[: «توضئي». قالت: كيف أتوضأ بها يا رسول الله؟ قال النبي[: «توضئين بها». قالت عائشة: فعرفتُ الذي يريد رسول الله[ فجذبتها إليَّ فعلّمتها.
الشرح:
الحديث الثاني في هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها والذي يرويه البخاري رحمه الله بإسنادين: الأول: من طريق يحي، وهو ابن موسى البلخي، ثقة. قال: حدثنا ابن عيينة، وهو سفيان عن منصور بن صفيه وهو ابن عبد الرحمن العبدري الحجبي المكي، ثقة. عن عن أمه وهي صفية بنت شيبة ابن عثمان بن أبي طلحة العبدرية، لها صحابية رؤية عن عائشة رضي الله عنها.
ويرويه البخاري بسند آخر: عن محمد بن عقبة هو الشيباني الطحان الكوفي، ثقة. عن الفضيل بن سليمان النميري، عن منصور بن عبدالرحمن بن شيبة عن أمه، عائشة رضي الله عنها.
قوله: «أن امرأة سألت النبي[ عن الحيض كيف تغتسل منه» أي: كيف تتطهر منه.
فقال النبي[: «تأخذين فرصة ممسكة فتوضئين بها» يعني بعد أن تغسل المرأة رأسها وبدنها، فإنها تإخذ فرصة ممسكة، والفرصة بكسر يعني تأخذ قطعة من المسك، وقيل تأخذ قطنة ممسكة، يعني فيها شيء من المسك فتتوضأ بها.
وأراد النبي[ بالوضوء ها هنا: تتبع آثار الدم، وهذا وضوء خاص لأنه اقترن بذكر الدم والأذى، فالنبي[ أحب لنساء أمته أنهن إذا طهرن من المحيض أن يتطهرن بالماء ويغسلن رؤسهن وأبدانهن، ثم تأخذ المرأة قطنة ممسكة، فيها شيء من المسك أو الطيب، فتتبع بها آثار الدم لتدفع به الرائحة الكريهة، وقد ذكر بعض الأطباء فائدة هذا للرحم وفائدته للمرأة عموما، وقيل: فائدته للزوجين، لترغيب الرجل بجماع امرأته.
وإنما قال النبي[: «توضئين بها» لأنه استحي[ أن يذكر اللفظ الصريح.
فقالت المرأة: كيف أتوضأ بها يا رسول الله، وأعادته عليه عليه الصلاة والسلام مرتين أو ثلاثا، وهو يقول لها: توضئين بها.
قوله: «قالت عائشة ، فعرفت الذي يريد» أي: عرفت غرض النبي عليه الصلاة والسلام ومقصده، فعرفت أنه يريد أن تتبع بها آثار الدم، موضع الدم وهو الفرج، فبينت للمرأة ما خفي عليها من ذلك.
وهذا الحديث كما أنه حجة في هذا الباب، وهو أن الأمر المجمل يعرف بيانه بالقرائن والإشارات، والمجمل هو الأمر الذي لم تتضح دلالته، فإن القرآن والسنة فيهما مجمل ومبين:
أما المجمل: فهو الذي المبهم والمحتمل، أي مالا تتضح دلالته.
وأما المبين: فهو الذي لا يحتاج إلى بيان.
فالمجمل تختلف الأذهان والأفهام في إدراكه، ولذلك عرفت عائشة قصد النبي[ ولم تعرفه المرأة، وهذا فيه فضل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها على غيرها من نساء الصحابة، وفقهها وعلمها بالشرع.
والمجمل ينقسم إلى قسمين: فقد يكون لفظا مفردا، وقد يكون جملة مركبة.
أما اللفظ المفرد فـ»كالقرء»: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (البقرة: 228)، فالقرء لفظ مجمل يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، ولذلك يحتاج إلى بيان.
ومنه حديث الباب، فإن النبي[ قال لها: «توضئي بها»، والوضوء قد يطلق على العبادة الشرعية المعروفة، وقد يطلق أحيانا على عموم التطهر ، كما في حديث الباب.
أما المجمل المركب فكقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (البقرة: 237).
فيحتمل أن يكون الذي بيده عقدة النكاح وإنهائها، هو الزوج . وهناك قول ثان: أن الذي بيده عقدة النكاح هو: الولي، لأنه الذي عقد النكاح أولا، فهذا من المجمل المركب، وله نظائر كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى.
وممن اهتم ببيان مجمل القرآن وتفسيره، أي تفسير القرآن بالقرآن، العلامة الشنقيطي محمد الأمين في كتابه: «أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن».


ابوالوليد المسلم 18-10-2023 10:08 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (61)


الشيخ.محمد الحمود النجدي

-الاجتهاد والقياس والمجمل (2)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الحديث الثالث:
7358 – حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن أم حفيد بنت الحارث بن حزن أهدت إلى النبي[ سمنا وأقطا وأضبًا. فدعا بهن النبي[، فأكلن على مائدته، فتركهن النبي[ كالمتقذّر لهن، ولو كنّ حراما ما أكلن على مائدته ، ولا أمر بأكلهن. (طرفه في: 2575).
الشرح : الحديث الثالث الذي جاء في هذا الباب، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها.
يرويه البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، وهو الوضاح بن عبدالله اليشكري ثقة ثبت، يرويه عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية وهو ابن إياس اليشكري، وهو ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير، قال: عن سعيد بن جبير، وهو من تلامذة ابن عباس المشهورين والمكثرين عنه. أن أم حفيد واسمها: هزيلة بنت الحارث بن حزن الهلالية، وهي أخت ميمونة بنت الحارث الهلالية أم المؤمنين زوج النبي[، وهي خالة ابن عباس، وخالة خالد بن الوليد رضي الله عنهم.
قوله: «أهدت أم حفيد إلى النبي] سمنا» السمن وهو معروف وهو الدهن، وأقطا، والأقط: هو اللبن المجفف، وأضبا جمع ضب، وهو الحيوان المعروف لدى أهل البوادي.
قوله: «فدعا بهن النبي[ فأكلن على مائدته» أي: أكلت هذه الأطعمة على مائدة النبي[ ولم ينه عنها . قوله: «فتركهن النبي[ كالمتقذر لهن» أي: هو استقذر أكل الضب وكرهه لأنه لم يعتد على ذلك. قوله: «ولو كن حراما ما أكلن على مائدته ولا أمر بأكلهن» وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
فهذا الحديث فيه استدلال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه بفعل النبي[ وإقراره، فالنبي[ دعا بالطعام، فجيء له بهذا الطعام المشتمل على السمن والأقط والضب أو الأضب، فأكل من السمن والأقط، وترك الأضب وأكلت الأضب على مائدته وأمامه، لكن النبي[ ترك أكلها تقذرا، يعني: أن نفسه تقذرت الضب، ولم تستسغ أكله.
وسأله خالد بن الوليد كما في الحديث الصحيح في البخاري ( 9/663): أحرام هو يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه - يعني: نفسي تعافه لا تقبله» – قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله[ ينظر.
فالضب لم يكن بأرض مكة وما حولها؛ لأنه يشتهر ببلاد نجد، وتشتهر نجد بأكله. فاستدل ابن عباس بإقرار النبي[ لخالد على إباحة الضب، وقال: لو كن حراما ما أكلن على مائدته، يعني: النبي[ لا يسكت على محرم، وهذا من الاستدلال بالفعل أو التقرير على إباحة الشيء. وقد بينا أن أقوال النبي[ وأفعاله وتقريراته هي حجة في دين الله عز وجل.
الحديث الرابع:
7359 - حدثنا أحمد بن صالح: حدثنا ابن وهب: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب: أخبرني عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبدالله قال: قال النبي[: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته». وإنه أتي ببدر، قال ابن وهب: يعني طبقا، فيه خضروات من بقول، فوجد لها ريحا، فسأل عنها فخَبُر بما فيها من البقول، فقال: «قربوها»، فقربوها إلى بعض أصحابه كان معه ، فلما رآه كره أكلها قال: «كل فإني أناجي من لا تناجي».
وقال ابن عفير عن ابن وهب: بقدر فيه خضراوات، ولم يذكر الليث وأبو صفوان، عن يونس، قصة القدر، فلا أدري هو من قول الزهري أو في الحديث. (طرفه في: 854).
الشرح: الحديث الرابع: حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما يرويه البخاري من طريق شيخه أحمد بن صالح المصري الثقة المشهور، عن ابن وهب وهو عبدالله بن وهب المصري، قال: أخبرنا يونس، عن بن شهاب، وقد مضيا، أخبرنا عطاء بن أبي رباح الإمام الثقة المفسر الشهير يرويه عن جابر رضي الله عنه.
قوله: قال النبي[: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته». وهذا الحديث: فيه النهي عن أكل البصل وأكل الثوم ثم إتيان المساجد؛ لأن لها رائحة منفرة مؤذية للمصلين وللملائكة، كما جاء في الحديث، فنهى النبي[ آكل الثوم والبصل أن يأتي المسجد، وليس هذا من باب الرخصة لآكل البصل والثوم أن يصلي ببيته كما يفهم بعض الناس، وإنما هو من باب الزجر والطرد، فالنبي[ لم يرخص لمن أراد أن يتخلف عن الجماعة أن يأكل الثوم والبصل؟! لأن الجماعة في المساجد واجبة على الرجل البالغ العاقل المقيم الصحيح، الذي لا علة فيه؛ فلا يجوز أن يترك إتيان المساجد في الصلوات الخمس ، وإنما منع من كان فيه إيذاء للمؤمنين وعباد الله أن يأتي المسجد إذا كانت به رائحة خبيثة منفرة.
وأخبر[: أن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم، قوله: «وأنه أتي ببدر» جاء في التفسير عن الراوي - وهو ابن وهب - على هيئة البدر. يعني الطبق على هيئة القمر ليلة البدر في الاستدارة.
قوله: «فيه خضراوات من بقول، فوجد لها ريحا فسأل عنها فأخبر بما فيها من البقول، فقال: «قربوها». فقربوها إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه كره أكلها، أي : كره أبو أيوب أكلها، متأسيا في ذلك برسول الله[، كما قال الله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} فعموم الآية يدل على مشروعية متابعته في جميع أفعاله، فلما امتنع من أكلها ، كره أبو أيوب أكلها وأعرض عنها.
فقال له رسول الله[ لما رآه كره أكلها: «كُلْ»، يعني: كل من هذا الطبق، ومن هذه البقول لأنها ليست حراما.
قوله: «فإني أناجي من لا تناجي».
وفي لفظ للبخاري: «إني أخاف أن أوذي صاحبي».
وعند ابن خزيمة «إني أستحيي من ملائكة الله وليس بمحرم».
فهذا الحديث فيه دلالة على جواز أكل الثوم والبصل لعامة الناس، أما النبي[ فكونه كان يناجي جبريل ويتكلم معه فيكره أن يؤذيه برائحة البصل والثوم، ولا يلزم هذا في غير حقه من البشر، بل قال ابن بطال: إن قول النبي[: «كلوه» أو قال: «قربوه», دليل على جواز الأكل.
وقال بعضهم: فيه استحباب أكل البصل والثوم في غير أوقات الصلاة لقوله: «كلوه»؛ لأنه نوع من الحث على أكله، وقد أثبت العلم الحديث والطب المعاصر فوائد جمة للبصل والثوم في دفع الأمراض، ومحاربة الجراثيم، وتخفيض الضغط الدموي، وغيرها من الفوائد، وكذا ما ذكره الإمام ابن القيم في كتابه «الطب النبوي» من فوائد.
وإنما كره الشرع أكلها وقت الصلاة لمناجاة الله سبحانه وتعالى، أو لمنافاته لأخذ الزينة المطلوبة عند ارتياد المساجد، وخشية أذية الناس.
الحديث الخامس:
736 – حدثني عبيد الله بن سعد بن إبراهيم: حدثني أبي وعمي قالا: حدثنا أبي، عن أبيه، أخبرني محمد بن جبير: أن أباه جبير بن مطعم أخبره: أن امرأة من الأنصار أتت رسول الله [ فكلمته في شيء، فأمرها بأمر، فقالت: أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر». زاد الحميدي، عن إبراهيم بن سعد: «كأنها تعني الموت».
الشرح: الحديث الخامس: قال البخاري: حدثني عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، وهو ابن عبدالرحمن بن عوف الزهري، قاضي أصبهان، ثقة. قال: حدثني أبي وعمي، أبوه ثقة، واسم عمه: يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثقة فاضل. قال حدثنا أبي وهو إبراهيم بن سعد المدني ثقة حجة تُكُلم فيه بلا قادح. عن أبيه: وهو سعد بن إبراهيم الزهري ثقة فاضل عابد. أخبرني محمد بن جبير وهو ابن مطعم النوفلي، ثقة عارف بالنسب. أن أباه جبير بن مطعم وهو صحابي معروف،أخبره أن امرأة من الأنصار أتت رسول الله [ فكلمته في شيء» لم تسم هذه المرأة.
قوله: « فأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر، فقالت المرأة أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» زاد الحميدي عن إبراهيم بن سعد: كأنها تعني الموت.
هذه المرأة جاءت إلى الرسول [ فأمرها بأمر، وفي رواية - كما في كتاب المناقب لأبي بكر الصديق – «أن تأتيه من قابل» أي: إنه وعدها أن تأتيه من قابل، أي في السنة القادمة.
قوله: «فقالت: يا رسول الله: أرأيت إن لم أجدك? كأنها تعني الموت « ولم تنطق به، ولأن هذا اللفظ عام، فيحتمل الموت ويحتمل الغياب وعدم الحضور، يعني ربما يكون مؤقتا وربما يكون أعم من ذلك; لأنها قالت: إن لم أجدك؟ والرسول عليه الصلاة والسلام أجابها جوابا مطابقا لذلك العموم فقال لها « إن لم تجديني، فأتي أبا بكر».
أي: ليقضي لك حاجتك، أو يقوم بما تريدين من حوائج.
وقد استدل بهذا على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لكن بطريق الإشارة لا بطريق التصريح، لكن هو قريب من التصريح.
وقد وقع التصريح بخلافة أبي بكر الصديق في أحاديث: منها قوله [ لعائشة رضي الله عنها: « ادعي لي أباك وأخاك، فإني أريد أن أكتب كتابا، فإني أخشى أن يقول قائل، ويتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا ابا بكر» رواه البخاري وغيره.
ومنها قوله [: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» متفق عليه. فمن رضيه لنا رسول الله [ للإمامة في ديننا، أفلا نرضاه للإمامة في دنيانا؟!
فهذا الحديث: فيه الدليل الواضح على أن الخليفة بعد رسول الله [ هو أبو بكر رضي الله عنه.
ومناسبة هذا الحديث الأخير في هذا الباب: أنه يستدل على خلافة أبي بكر الصديق بالدلائل والمعاني الواضحة من النصوص النبوية الشريفة، كما يستدل بالنصوص الصريحة.


ابوالوليد المسلم 18-10-2023 10:14 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري (62)


الشيخ.محمد الحمود النجدي

– (الإسرائيليات)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
الباب الخامس والعشرون: قال البخاري رحمه الله:
25 – باب قول النبي [: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء».
الحديث الأول:
7361 – وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيبٌ، عن الزهري: أخبرني حميد بن عبدالرحمن: سمع معاوية يُحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعبَ الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين ُيحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب!
الحديث الثاني:
7362 – حدثني محمد بن بشار: حدثنا عثمان بن عمر: أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول اله [: « لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل...} الآية (البقرة: 136). (طرفه في: 4485).
الحديث الثالث:
7363 - حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا إبراهيم: أخبرنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبدالله: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله [ أحدث؟! تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا! ألا ينهاكم ما جاء من العلم عن مسألتهم؟! لا والله، ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم . (طرفه في: 2685).
الشرح:
الباب الخامس والعشرون: باب قول النبي [ « لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء « وهذا الحديث قد جاء مرفوعا عند أحمد وغيره: عن النبي [، وهذا المرفوع فيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف، لكنه يتقوى بطرق أخرى عند البزار وغيره، والحديث: أن عمر ] أتى النبي [ بصحيفة من التوراة، فقرأها على رسول اله [، فغضب النبي [، وقال: «لا تسألوهم عن شيء» وجاء أيضا أنه قال: «لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني».
وجاء أيضا في مصنف عبدالرزاق: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: « لا تسألوا أهل الكتاب فإنهم لن يهدوكم، وقد أضلوا أنفسهم فَتُكَذِّبوا بحق، وتُصَدِّقوا بباطل» . فهذا النهي منه [ هو عن سؤالهم عما لا نص فيه من شرعنا، كسؤالهم عن بعض التفاصيل التي وردت في قصص القرآن مثل قصة أصحاب الكهف، في أي زمان كانوا، وما أسماؤهم، واسم ملكهم، وما أشبه ذلك في تلك القصة، وكذلك بعض التفاصيل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وقومه وما حصل لهم في مصر، وما حصل لهم بعد الخروج، وما أشبه هذا.
أما ما ذكر تفصيله في القرآن، فإن السائل لا يسأل أهل الكتاب لأنه مكتف بما في القرآن، أما ما كان في أخباره موافقا لشرعنا وإخبارنا عن الأمم السالفة فإنه مقبول.
وعلى هذا فإخبار أهل الكتاب على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما وافق بأيدينا من القرآن والسنة الصحيحة، فهذا نقبله ونصدقه .
النوع الثاني: ما خالف ما بأيدينا من القرآن والسنة، فهذا نرده ونكذبه.
النوع الثالث: هو الذي لا يخالف ولا يوافق، فهذا لا نصدقه ولا نكذبه، وإنما نقول إذا حدثنا أهل الكتاب به: {آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة 136).
وأما قوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك} (يونس: 94).
فمعناه: اسأل أهل الكتاب المنصفين والراسخين في العلم، فإنهم سيقرون بصدق رسالتك، وما جئت به؛ لأن ما عنك موافق لما عندهم في كتبهم؛ ولهذا قال سبحانه: {لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}.
أما الحديث الأول في الباب فقال البخاري: قال أبو اليمان، وأبو اليمان هو الحكم بن نافع البهراني من شيوخ الإمام البخاري المشهورين ، وتقدم، وعدم تصريح البخاري بقوله: حدثنا أبو اليمان، إما لكونه أخذه عنه مذاكرة، وإما لكونه فاته سماعه منه، لكن قد ورد عند الإسماعيلي التصريح بالسماع منه، أو لكونه أثرا موقوفا، لكن الراجح أنه سمعه منه ولم يصرح بالسماع هاهنا . قال: أخبرنا شعيب وهو ابن أبي حمزة، تقدم . قال: عن الزهري، تقدم . قال: أخبرني حميد ابن عبدالرحمن، وهو ابن عوف الزهري.
قال: سمع معاوية - وهو ابن أبي سفيان الصحابي - يحدث رهطا، يعني: جماعة من قريش بالمدينة، وذلك لما حج معاوية رضي الله عنه.
قوله: «وذكر كعب الأحبار» كعب الأحبار هو: كعب بن ماتع بن عمر بن قيس الحميري، كان في حياة النبي [ رجلا لكنه كان على اليهودية، عالما بكتابهم حتى إنه كان يقال له: كعب الأحبار، والحبر هو العالم، وأسلم في عهد عمر، وقيل في خلافة أبي بكر، وقيل: أسلم في عهد النبي [، ولكنه تأخرت هجرته فلم ير النبي [، فيكون على هذا مخضرما، ثم إنه سكن المدينة في خلافة عمر، ثم تحول عنها في خلافة عثمان إلى الشام، فسكنها إلى أن مات بحمص في خلافة عثمان ].
أما قول معاوية: « إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين، الذين ُيحدثون عن أهل الكتاب» أي: يحدثون عن كتبهم، فيشمل التوراة والإنجيل.
ومعنى « نبلو» نختبر، أي: يقع في بعض ما يخبرنا به شيء من الكذب، وهذا مدح لكعب الأحبار رحمه الله، أنه كان أحسن من يحدث عن أهل الكتاب، وأكثرهم بصيرة به، وأعرفهم بأخبار أهل الكتاب، ولم يقصد معاوية أن كعب الأحبار كان يكذب ! وإنما كان ينقل ما يقع في كتب أهل الكتاب، وكتب أهل الكتاب قد وقع فيها شيء من الكذب؛ لكونهم بدلوا وحرفوا كما هو معلوم، فالمعنى أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا لا أنه يتعمد الكذب؛ لأن كعبا رحمه الله كان من أخيار الأحبار، كما قال ابن الجوزي وابن حبان وغيرهما في توجيه كلام معاوية.
وأخرج ابن سعد: عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: قال معاوية: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالبحار، وإن كنا فيه لمفرطين.
أما الحديث الثاني: فيرويه البخاري -رحمه الله- عن شيخه محمد بن بشار وتقدم . قال: حدثنا عثمان بن عمر وهو ابن فارس العبدي البصري ثقة . قال: أخبرنا علي بن المبارك وهو الهُنائي، ثقة . عن يحيى بن أبي كثير الطائي، ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل أحيانا. عن أبي سلمة وقد تقدم.
عن أبي هريرة قال: « كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام» فقال النبي [: «لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة 136).
فالرسول [ كره أن يسمع المسلمون من أهل الكتاب تفسيرهم للتوراة؛ لأن التوراة دخلها التحريف والتبديل والكذب والتغيير وكتب فيها من أقوال الناس ما ليس منها، فقال [: «لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم» وهذا كما قلنا في الذي لا يوافق ما عندنا ولا يخالفه، فإننا نتوقف فيه، أما ما وافق ما عندنا فإننا نقبله، وما خالف ما عندنا فإننا نرده ولا نقبله.
وحاصل الأحاديث: أن النبي [ أراد لأهل الإسلام أن يستغنوا بما عندهم من القرآن الكريم والسنة النبوية، وهي أخبار صحيحة حديثة طرية لم يدخلها شيء من اللعب أو التغيير أو التبديل، فأراد أن يستغني أهل الإسلام بكتابهم كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} (العنكبوت: 51).
أي: ألم تكفهم آيات القرآن البينات، وما جاء فيه من الدلالات الواضحات، والمعجزات الظاهرات، التي وردت في كتاب الله القرآن، وما فيه أيضا من الأحكام الشرعية، والآداب المرعية، والهداية للعالمين، والخير الكثير، والعلم الغزير، والغيوب المتقدمة والمتأخرة، وقصص الأولين، والهيمنة على الكتب السابقة، وتصحيح ما وقع فيها من الأخطاء، فهو في الحقيقة كفاية وغنية عما سواه، والشفاء من جميع الأمراض الحسية والنفسية.
فالقرآن الكريم فيه غناء عن بقية الكتب السماوية الموجودة الآن، والمنسوبة إلى الرسل، فضلا عن غيرها من الكتب الأرضية، والتي كتبها البشر بحسب عقولهم وعلومهم وأهوائهم، فإذا كان القرآن فيه غناء لنا عن التوراة والإنجيل، أفلا يغنينا عن بقية الكتب الأرضية التي كتبها الخلق ؟! وما فيها من الأخطاء والأهواء ؟! بل هذا من باب أولى!
فواعجبا لطوائف من أهل الإسلام، انبهرت بعلوم العصريين وكتبهم، فزينت للمسلمين الإقبال عليها بغثها وسمينها، بل وعلى القوانين الأوروبية الفاجرة والحكم بها بين الناس، والتي تبيح الفواحش والمحرمات، بل لا تبالي بالشرك برب الأرض والسموات، مع الإعراض عما جاءت به الرسل الكرام، وعما في كتاب الله سبحانه وتعالى، من حكم وأحكام وقصص ومواعظ وتذكير، نعوذ بالله مولانا من الفتنة والخذلان!
أما الحديث الثالث والأخير في الباب: فقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، وهو المنقري التبوذكي، ثقة ثبت . قال: حدثنا إبراهيم وهو ابن سعد الزهري، ثقة حجة . قال: أخبرنا ابن شهاب، تقدم . قال: عن عبيد الله بن عبدالله وهو ابن عتبة بن مسعود الهذلي، الفقيه الثقة الثبت .
قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء» وهذا استفهام فيه إنكار، إنكار على من سأل أهل الكتاب عن شيء من الدين والشرع؟!
قوله: «وكتابكم الذي أنزل على رسول الله أحدث» يعني: هو أقرب الكتب إلى الله عز وجل، فكيف يأخذ الإنسان بالقديم المنسوخ أكثره، ويترك الجديد الناسخ لما تقدم ، والقرآن هو الحديث القريب العهد بالله تبارك وتعالى، كما قال تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} (الأنبياء: 2).
قال ابن كثير وغيره: {محدث} أي: جديد إنزاله، فهو آخر الكتب السماوية نزولا. انتهى.
ويقال كذلك لكل كلام يبلغ الإنسان: حديث، وقد سمى الله كتابه حديثا، فقال: {فليأتوا بحديث مثله} (الطور: 34).
وقال: {أفمن هذا الحديث تعجبون} النجم: 59.
قوله: «تقرؤونه محضا لم يشب» أي: خالصا لم يدخله شيئا من الخلط أو اللبس، كاللبن المحض الذي لم يشب بالماء.
قوله: «وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه ...» أي: حدثكم الله تعالى في القرآن بذلك التبديل والتغيير، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78).
والذي دفعهم إلى ذلك هو ليشتروا به ثمنا قليلا، من أجل مصالحهم، من أجل أن يأكلوا به عرضا من الدنيا قليلا، وقد قال أهل التفسير: إن الدنيا بأسرها ثمن قليل بالنسبة للآخرة، أي لو أعطي العبد الدنيا بأسرها ليبدل كلام الله تعالى، لكانت ثمنا قليلا بالنسبة لحظه ونصيبه في الآخرة.
قوله: «ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم» وفي رواية: «مساءلتهم» يعني: ألا ينهاكم ما سمعتم في كتاب الله تعالى، من تحريفهم وتغييرهم وتبديلهم وكذبهم، عن أن تسألوهم عما في أيديهم.
قوله: «لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل إليكم « يعني: ما رأينا العكس! أي ما رأينا أحدا من أحبار اليهود، ولا رهبان النصارى يسألونكم عما في أيديكم من كتاب الله تبارك وتعالى، ويستفيدون من علوم القرآن والسنة النبوية، فلم أنتم تسألونهم وتقبلون عليهم، وتعظمونهم؛ فإن هذا خلاف ما أمر الله تعالى به، وخلاف ما ينبغي أن يكون عليه أهل الإسلام، من الاستغناء عما في أيدي الناس من الأقوال والأعمال والأحكام والمعتقدات والكتب، فما في أيدينا كاف لنا معاشر المسلمين.


الساعة الآن : 11:34 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 403.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 402.01 كيلو بايت... تم توفير 1.61 كيلو بايت...بمعدل (0.40%)]