ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   من بوح قلمي (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=72)
-   -   اكتم أسرارك عن مشاريعك (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=258336)

ابوالوليد المسلم 12-05-2021 03:38 AM

اكتم أسرارك عن مشاريعك
 
اكتم أسرارك عن مشاريعك
ربيع بن المدني السملالي




إذا خطرَت لك فكرة لكتابة بحثٍ غير مسبوق، أو تأليف كتابٍ لم يَر موضوعُه النورَ من قبل، أو عنَّ لك أن تدبِّج مقالةً في تحقيق مسألة، أو جمع شتاتها من بين رُكام المصادر والمراجع - فاكتُم ذلك، واستعن على قضائه بصمتٍ كصمتِ أهل القبور، ولا تُعلن عن مشروعك قبل الانتهاء منه وقيامه على ساقِه؛ فإن سُرَّاق الأفكار قد أصبَحوا من الكثرة بحيث يصعب تَعدادهم وتمييزهم، والصبر على كتمان السرِّ أيسرُ من الندامة على إفشائه، فكيف إذا كان هذا السرُّ مشروعَ حياة؟! ومصيرَ مستقبلٍ تتوقف عليه حياتك؟!



فكتمان الأمور على كل حال فعلُ الحازم[1].



وقد سأل الصحفيُّ الأديب (خالد النجار) الروائيَّ الإيطالي المشهور (ألبرتو مورافيا): ماذا تكتب الآن؟ فأجاب: دائمًا أكتب روايةً ما، أنا روائيٌّ، وحاليًّا لديَّ رواية سأُنهيها، ولن أحدثك عنها[2]!



نعم، لن يحدثه عن مشروعه قبل الانتهاء منه؛ فالعجَلة ليست من شيم العقلاء.



وكان يُقال: مِن وهي الأمر إعلانُه قبل إحكامه، وقال الشاعر لله دره:

إذا أنت لم تَحفظ لنفسِك سرَّها ♦♦♦ فسرُّك عند الناس أفشى وأضيعُ



وهذا أعرابيٌّ يُسأل: كيف كتمانك للسر؟ فيقول: ما قَلبي له إلا قبر.



فكيف بك أنت أيها الحضَري، يا مَن قرأتَ حتى كاد نور عينيه ينطفئ، ومع ذلك يَضيق قلبك عن كتمان أسرارك ومشاريعك الثقافية، فتُحدِّث بها كلَّ من هب ودب، وبعد أيام تجد يدَ الغدر قد سبقَتك إلى ما أتعبتَ من أجله نفسَك وروحك، وأنفقت في سبيله أيامَك ولياليَك؟!



وأسوق إليك مثالًا من بين عشرات الأمثلة؛ لعلك تطمئن إلى حديثي هذا، الذي ما أردتُ به إلا تنبيهَك ونصيحتَك، التي هي واجبة على مَن له قلب وقلم، أو ألقى السمع وهو شهيد؛ فخُذها أو فدَع:

يقول الدكتور (إبراهيم الحمد) في كتابه "ومضـات": يحدِّثني أحد الإعلاميين البارزين أنه كان يَنوي طرح برنامجٍ كبير، وأنه قد تصوَّر فكرته وصار يُحدِّث بها أحيانًا في بعض مجالسه، ولما استوَت تلك الفكرة على ساقها ولم يبقَ إلا القليل على تنفيذها؛ فوجئ بأن شخصًا آخر قد تبنَّى تلك الفكرة وبدأ بتنفيذها عمَليًّا!



يقول ذلك الإعلامي: فلما رأيتُ الأمر هكذا عدَلتُ عن رأيي.



وقُل مثل ذلك في شأن الرسائل العلمية؛ فقد يقع نظر شخصٍ على موضوعٍ معين، ثم يشرع في كتابة خُطة بحثِ ذلك الموضوع، وقد يُحدِّث مَن حوله ثم ينتشر خبرُ ذلك الموضوع، فيُفاجَأ بأن شخصًا آخر سمع به فقدَّمه قبله، مع أن الفكرة في الأصل فكرةُ الأول[3].



قلت: وقد صدق الشاعر حين قال:

إذا أنتَ حمَّلتَ الخَؤون أمانةً ♦♦♦ فإنك قد أسنَدتَها شرَّ مسندِ



وعمرو بن العاص يقول: ما استودعتُ رجلًا سرًّا فأفشاه فلُمتُه؛ لأني كنتُ أضيقَ صدرًا حين استودعتُه.



وكانت الحكماء تقول: "سِرُّك من دمك"، ويَعنون به أنه ربما كان في إفشائه سفكُ دمك؛ على حد قول ابنِ عبدربِّه في "العقد الفريد".



وفي كتاب "المحاسن والمساوئ" للبيهقي: إنَّ مِن أنفذ المصادر كتمانَ السر حتى يُبرَم المبروم[4].

قلتُ: إي والله.



ولا ينبغي أن يُفهم من كلامي هذا عدمُ استشارة أهل العلم والفضل الموثوقِ بعِلمهم وتَقواهم، لكن الأصدقاء لا يوثَق بهم في الغالب! وفي هذا يقول ابن الجوزي: وكذلك إذا اصطفيتَ صديقًا وخبَرتَه فلا تُخبره بكلِّ ما عندك، بل تَعاهَدْه بالإحسان كما تتعاهَد الشجر، فإنها إذا كانت جيدةَ الأصل حسُنَت ثمرتُها بالتَّعاهد، ثم كن منه على حذَر؛ فقد تغيره الأحوال! وقد قيل:



احذَر عدوَّك مرَّةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

واحذَر صديقَك ألفَ مرَّةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فلرُبما انقلَب الصدي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قُ فكان أعلمَ بالمضرَّةْ[5] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






قال عليُّ بن أبي طالب: "سرُّك أسيرُك، فإن تكلمتَ به صِرتَ أسيرَه"! وقال بعضهم: "مَن حصَّن سرَّه فله بتحصينه خصلتان؛ الظفر بحاجته، والسلامة من السطوات".



وكان معاوية رضي الله عنه يقول: ما أفشيتُ سري إلى أحدٍ إلا أعقَبني طولَ الندم وشدةَ الأسف، ولا أودعتُه جوانح صدري فخطمتُه بين أضلاعي إلا كسَّبَني ذلك مجدًا وذِكرًا، وسَناءً ورِفعة.



وقال: ما كنتَ كاتِمَه عن عدوِّك فلا تُظهِر عليه صديقَك[6].



واسمع إلى أبي عثمان الجاحظ وهو يحذِّرك من عداوات الأصدقاء، فيقول: فإنما صارت العداوة بعد المودة أشدَّ؛ لاطِّلاع الصديق على سرِّ صديقه، وإحصائه مَعايبَه، وربما كان في حال الصداقة يَجمع عليه السَّقطات ويُحصي العيوب، ويحتفظ بالرِّقاع؛ إرصادًا ليوم النَّبْوة، وإعدادًا لحال الصَّريمة[7].



لذلك فالصديق مهما كان وفيًّا فقد يَغلِبه إبليسُ على نفسه فيَحسدك، وقد يُؤذيك فيما أطلعتَه عليه من أسرارك، لا سيما فيما يتعلق بمشاريعك الثقافية التي تكلَّمنا عنها قبل قليل، فكن يقظًا فطنًا، ولا تكن عاطفيًّا متحمسًا أكثرَ من اللازم، وكتمان السر من الأخلاق الحميدة التي كان يتمتع بها الصالحون، ويتغنَّون بها ويُشيدون بمن كان له نصيبٌ منها.



لذلك نجد في كتب الأدب والأخلاق أبوابًا مستقلةً تحت عنوان "باب ما جاء في كتمان السر"، فراجعها أخي القارئ/ أختي القارئة؛ فهي في غاية الأهمية؛ لعل الله ينفع بها من كان مُقبِلًا على مشروع، لكنَّ حَماسه يأبى عليه إلا أن يُخبر به كلَّ من يَلقاه في طريقه، فتضيع الفكرة بين كثرة الآراء، أو يتلقَّفها لئيمٌ فيُسرع إلى تطبيقها على أرض الواقع قبل صاحبها كما قدَّمنا، فتبقى الحسراتُ في قلب صاحبها الأولِ تَنهشه، وذلك جزاء المتسرِّعين!



ورحم الله من قال:



احفظ لسانك لا تَبُحْ بثلاثة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سنٍّ ومالٍ ما استطعتَ ومَذهَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فعَلى الثلاثةِ تُبتلى بثلاثةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بمُموِّهٍ وممخرِّقٍ ومكذِّبِ[8] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






ودامت لكم المسرَّات!





[1] صيد الخاطر، ص 91، ط الغزالي.



[2] سراج الرعاة، ص 17.



[3] ومضات، 272، 273.



[4] المحاسن والمساوئ، ص 375.



[5] صيد الخاطر، 393.



[6] المحاسن والمساوئ، 376؛ للشيخ إبراهيم بن محمد البيهقي، ط صادر.



[7] رسائل الجاحظ، ج 1، ص 158، طبعة الخانجي، تحقيق هارون.



[8] أنشدهما ابن الجوزي في موضعين من كتابه الرائع "صيد الخاطر"؛ انظر: ص 91.







الساعة الآن : 02:54 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 17.67 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.58 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.53%)]