ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=91)
-   -   شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=267600)

ابوالوليد المسلم 05-11-2021 11:18 AM

شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (1)




الشيخ.محمد الحمود النجدي




إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد[، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فلا يخفى على الجميع ما من الله سبحانه وتعالى به على هذه الأمة المباركة من اليقظة والصحوة بعد الغفلة، والتوجه نحو دين الله سبحانه وتعالى من الذكور والإناث، وهي يقظة شاملة - بحمد الله سبحانه وفضله -كل البلاد العربية والإسلامية على اختلافها وتباعدها، وتنوع أجناسها ولغاتها.

ولاشك أن هذه اليقظة والرجوع إلى الدين، تحتاج إلى الضوابط والقواعد الشرعية، التي تجعل من هذا الرجوع، ومن هذه اليقظة: يقظة صحيحة أولا, ونافعة ثانيا, ومباركة ثالثا, ومؤيدة بنصر الله سبحانه وتعالى رابعا, وإذا فقدت الصحوة أو فقدت اليقظة الإسلامية بتعبير أصح وأدق، الضوابط التي تضبط لها منهجها وطريقها ورجوعها إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإنها ستخسر جهدها ووقتها، وتخسر أبناءها، وتضيع سدى.

ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري.

ومن خلال شرحنا لهذا الكتاب (1) ، الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا به جميعا، سنتعرف على كثير من الضوابط التي تضبط لنا رجوعنا إلى الله تعالى، وتضبط لنا منهجنا، وتبين لنا الطريق الذي يجب أن يسلكه المسلم عموما، والداعية خصوصا في رجوعه إلى الله تعالى، وفي سعيه لإرجاع أمته إلى الله سبحانه وتعالى وإلى دينها الحق, والله سبحانه وتعالى، إنما كتب التأييد والنصر لعباده المؤمنين العالمين العاملين، وأما دون ذلك فلا يكون الإنسان مؤيدا من عند الله عز وجل، وإن تحقق على يده بعض النصر المؤقت أو بعض المصالح، فإن مجرد وجود المنفعة والمصلحة، لا يجعل الأمر مشروعا أو جائزا، كما هو معلوم.

وقد اخترنا كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث.

1 – وقد شرح هذا الكتاب في الدورة العلمية التي أقيمت بجمعية إحياء التراث الإسلامي فرع ضاحية صباح الناصر سنة 1427 هـ، والإمام الحافظ - بل جبل الحفظ - كما يصفه الحافظ ابن حجر في التقريب، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، الذي وفقه الله عز وجل وأعانه، لوضع أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، وهو "صحيحه" المعروف باسمه، فذكر فيه أصح ما ثبت لديه من الأحاديث النبوية والسنن، ومعها فقهه الواسع، وعلمه الغزير بالأحاديث، والذي بثه في تراجمها ، كما هو معلوم من طريقته في كتابه عند أهل الحديث.

وهذا الكتاب - أعني صحيح البخاري- قد انبرى لشرحه كثير من الأئمة والحفاظ، من أشهرهم وأوسعهم كتاب الإمام الحافظ أحمد بن على بن حجر العسقلاني، الذي يوصف بأنه خاتمة الحفاظ، وهو صاحب الشرح المشهور: بفتح الباري، حتى قال الإمام الشوكاني في مدح كتابة: "لا هجرة بعد الفتح" لعظمة هذا الكتاب وسعته وبيانه, وسماه بعض المعاصرين: بقاموس السنة، لما فيه من جمع للأحاديث النبوية واستقصاء طرقها وأسانيدها؛ فإن الإمام الحافظ ابن حجر شرح هذا الكتاب في ستة عشر سنة، وحشد فيه الطرق والأحاديث من السنن والمسانيد والمعاجم والأجزاء الحديثية وغيرها، مما لا تجد له مثيلا.

وقد اختصر كتاب الحافظ ابن حجر (الفتح) حافظ الهند وعلامته: صديق حسن خان في كتابه "عون الباري", وذلك في خمسة مجلدات كبار.

كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة:

بدأ الإمام البخاري رحمه الله "كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة" بخمسة أحاديث, ومن عادته أن يكتب البسملة في أول الكتاب, فإن كتابه مقسم على كتب، والكتب مقسمة على أبواب , والبسملة -كما هو معلوم - يؤتى بها تبركا وتيمنا، وتشبها بكتاب الله سبحانه وتعالى، الذي يبدأ فيه القارئ بالبسملة.

والاعتصام طلب لعصمة، وهي مأخوذة من قول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (آل عمران: 103) الآية، فقال أهل العلم: إن الإمام البخاري قد انتزع هذه التسمية في هذا الكتاب من الآية الكريمة.

والكتاب: هو القرآن, هذا هو العرف الشرعي، وهو المنزل على محمد[ بواسطة جبريل عليه السلام، والمتعبد بتلاوته.

والسنة في اللغة: هي الطريقة والهدي.

وأما في الشرع فهي: ما جاء عن النبي[ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلْقية أو خُلقية، هذا عند الأصوليين والمحدثين.

وأما عند الفقهاء؛ فإنهم يريدون بالسنة ما يوافق المستحب، ويرادف كلمة المستحب والمندوب، فيقولون: هذا العمل سنة, وهذا واجب.

والاعتصام بالكتاب والسنة يعني: الالتجاء إليهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد عصم كتابه عن الخطأ والزلل، كما قال الله سبحانه وتعالى عنه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42). قال الإمام ابن بطال - وهو من فقهاء المالكية: "لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو في سنة رسول الله[، أو في إجماع العلماء على معنى أحدهما".

يعني: لا عصمة لأحد بعد رسول الله[، إلا في كتاب الله أو في سنة رسوله[؛ فالكتاب معصوم عن الخطأ والزلل, والسنة كذلك معصومة؛ لأنها وحي من عند الله كالقرآن، فالرسول[ لا يتكلم من عند نفسه، بل كما قال الله عز وجل مزكيا منطقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4-3).

وقوله: "أو في إجماع العلماء على معنى أحدهما" أي: إذا أجمع العلماء وأولهم صحابة رسول الله[ على معنى آية أو على معنى حديث، فإن هذا الإجماع معصوم عن الزلل والخطأ، لقول الرسول[: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة». وفي لفظ: «أبى الله أن يجمع الأمة على ضلالة». رواه الترمذي وابن أبي عاصم في السنة والطبراني وغيرهم، من عدة طرق يقوي بعضها بعضا.

وبهذا نعلم أن الأمة ليست بحاجة إلى أفراد معصومين! كما ادعت الإمامية في أئمتها أنهم معصومون عن الخطأ! وأنه لا يصح أن يكون الإمام العام إلا معصوما! ولا يكون القائد إلا معصوما!

فالأمة لا تحتاج إلى إمام معصوم ؛ لأن عندها كتاب الله تعالى وسنة رسوله وهما محفوظان ومعصومان عن الخطأ، وبهما يعرف الخطأ من الصواب, وهما الميزان اللذان توزن بهما الأعمال والأحوال، والرجال والطوائف، فإذا أردت أن تعرف هل هذا العمل صحيح أو خطأ؟ حق أو باطل؟ فاعرضه على الكتاب أو على السنة أو على عمل السلف على معنى آية أو حديث، تعرف حاله .

وقول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ } (آل عمران: 103) جاء بعد قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران 102 - 103 ) فالله تعالى قد أمر بالتقوى - حق التقوى - في الآية التي قبلها, وهي كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.

ثم بين الطريق إلى التقوى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } (آل عمران: 103), إذن، إذا أردنا أن نتقي الله عز وجل حق التقوى؛ فعلينا أن نعتصم بحبل الله، وحبل الله، قال المفسرون هو: كتاب الله, وقال آخرون: هو الإسلام, ولا تضاد بين المعنيين؛ لأن الإسلام كتابه القرآن والسنة.

وتأمل كيف أن الله سبحانه وتعالى سمى كتابه "حبلا" لأن الحبل في الأصل ما يصل بين الشيئين, فكتاب الله عز وجل واصل بين الله وبين عباده, والحبل كذلك ما يصل به الإنسان إلى الأماكن العالية, إذا أراد أن يرتقي أخذ بالحبل وصعد, فمن أخذ بالقرآن ارتفعت منزلته، وعلا قدره عند الخلق، وحصلت له الرفعة في الدنيا والآخرة كما قال[: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين"(صحيح مسلم).

وأيضا الحبل يحصل به النجاة، فإذا سقط إنسان في حفرة أو في بئر دلينا له بحبل فأنقذناه به من الهلكة, فكذلك الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة من الهلكة، وهذه استعارة بديعة كما قال العلماء، تدل على هذه المعاني العظيمة الجليلة.

وأورد بعد ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى في الباب الأول خمسة أحاديث، نبدأ بأولها إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة.

والله تعالى أعلى وأعلم، ومنه نستمد العون في القول والعمل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين.


ابوالوليد المسلم 05-11-2021 11:40 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (2)


الشيخ.محمد الحمود النجدي




إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.

ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
وها نحن أولاء نبدأ في هذه الحلقة بشرح الأحاديث من هذا الكتاب:









- الحديث الأول: قال البخاري رحمه الله تعالى:

7268- حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان, عن مسعر وغيره, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين , لو أن علينا نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3) لاتخذنا ذلك اليوم عيدا , فقال عمر: إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية, نزلت يوم عرفة, في يوم جمعة». سمع سفيان من مسعر, ومسعر قيسا, وقيسا طارقا، طرفه في 45.
الشرح:
الحديث الأول: رواه البخاري عن شيخه الحميدي، وهو عبد الله بن الزبير الحميدي, عن سفيان وهو ابن عيينة الهلالي, عن مسعر وهو ابن كدام الهلالي, عن قيس وهو ابن مسلم الكوفي، عن طارق ابن شهاب البجلي وهو صحابي على الصحيح، قال: "قال رجل من اليهود لعمر", جاء في رواية البخاري في كتاب الإيمان أنه: "قالت اليهود", وفي رواية للإمام الطبري والطبراني أن القائل هو: كعب الأحبار، ولعل اليهود كلفوه بأن يسأل عمر.
«قال رجل من اليهود لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين, لو أن علينا نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3), لاتخذنا ذلك اليوم عيدا».
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}( المائدة : 3) , ظاهر هذه الآية يدل على أن الدين كملت أحكامه وتشريعاته، وحلاله وحرامه عند نزول هذه الآية, وهذه الآية كما قال أهل العلم نزلت على النبي [ قبل موته بثمانين يوما, وقد جزم السدي بأنه لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام، قال الحافظ: وفي ذلك نظر, وقال: قد ذهب جماعة إلى أن المراد بالإكمال: إكمال أصول الأركان، لا ما يتفرع عنها.
يعني: قد أكمل الله عز وجل لهذه الأمة أركان دينها ومعالم شريعتها بهذه الآية، أما الفروع التي هي دون الأصول والأركان فيمكن أن تزاد, وعلى كل حال فإن الجميع مجمعون على اكتمال الدين قبل وفاة الرسول [.
فالرسول [ لم يمت إلا بعد أن أكمل للأمة دينها، ووضح لها معالم شرعها, ولم يكتم [ من ذلك شيئا كما أمره الله عز وجل: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) , فلم يكتم عليه الصلاة والسلام شيئا من الوحي، بل بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه, فصلوات الله وسلامه عليه.
والرسول [ قد أنزل الله إليه القرآن ليبين للناس كما قال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل: 44) فربما وضح إليهم ما كان مجملا في كتاب الله، وفسر لهم ما كان غامضا في وقته عليه الصلاة والسلام, وبعده عليه الصلاة والسلام يُرجع في تفسير هذه المجملات إلى العلماء؛ كما قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83).
فقائل هذه الكلمة يعلم قيمة هذه الآية، ولهذا قال:"لاتخذنا ذلك اليوم عيدا" أي: نفرح فيه بإكمال الدين وإتمامه.
والعيد: مأخوذ من العود، وهو ما يعود في كل عام أو في كل زمان, فسمي العيد عيدا من العود, والعيد كما قال أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه:" اقتضاء الصراط المستقيم": العيد شريعة، ولا شريعة إلا ما شرعها الله"، وبهذا نعلم أن التوسع في إحداث الأعياد مخالف الشرع, والرسول [ لما جاء إلى المدينة، كان للناس يومان يلعبون فيهما؛ فقال [ : "إن الله أبدلكم بهما خيرا منهما، يومي الفطر والأضحى".
فألغى النبي [ ونسخ أعياد الجاهلية، وأثبت أعياد الإسلام, فاليومان اللذان كانا يلعبون فيهما نُسخا وألغيا، وأُثبت مكانهما يوما الفطر والأضحى.
وهناك عيد ثالث وهو يوم الجمعة المتكرر، فإن يوم الجمعة أفضل الأيام عند الله عز وجل؛ كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة؛ ولذلك اعتبره العلماء من الأعياد الأسبوعية المتكررة، ولأمر النبي [ فيه المسلم بالاغتسال في هذا اليوم العظيم، والتطيب والسواك، ولبس النظيف من الملابس, هذا كله يدل على أنه عيد في كل أسبوع للمسلمين, والآية السابقة نزلت في يوم جمعة، كما قال عمر: "إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية, نزلت يوم عرفة في يوم جمعة".
وفي رواية قال رضي الله عنه: «إني لأعلم أين نزلت هذه الآية، ومتى نزلت، أو حين نزلت». أي أعلم الزمان والمكان.
وفي رواية عند مسدد: "نزلت يوم جمعة, يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله عيد"، فهذه الآية قد نزلت يوم عيد للمسلمين, وذلك لأنها نزلت يوم جمعة, ويوم الجمعة هو عيد للمسلمين كما سبق, كما أنها في الزمان يوم عرفة, وعرفة ليلة العيد ويصح أن يقال: عرفة عيد.
فهذه الآية إذاً وافق نزولها يوم عيد للمسلمين، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة، أن الله تبارك وتعالى أنزل عليها هذه الآية في يوم عرفة ووافق الجمعة، فاجتمع فيه فضلان: فضل عرفة الذي صيامه يكفّر سنتين: ماضية ومستقبلة, ويوم جمعة الذي هو سيد الأيام وأفضلها عند الله تبارك وتعالى.
ويشيع عند العامة حديث: أن يوم عرفة إذا وافق الجمعة كان عن سبعين حجة! وهذا حديث ذكره رزين في زياداته على الموطأ، ولا أصل له في كتب السنة، ولا يعرف مخرجه ولا صحابيه، كما قال الحفاظ كالحافظ ابن حجر وغيره.
ولكن لا شك أن يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة كان فضلا على فضل، وربما يقال «سبعون» من باب المبالغة؛ كما قال الله وتعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: 80) على وجه المبالغة، أما أن من حج ووافق الجمعة عرفة، يكون ذلك عن سبعين حجة فى الأجر المعدود، فلا يثبت هذا, لكن لا شك أنه أفضل من غيره من الحجج.
قول البخاري رحمه الله: "سمع سفيان مسعر ومسعر قيسا وقيسا طارقا", هذا من باب إثبات السماع، وأن هذا الحديث متصل بالسماع, سفيان هو ابن عيينة سمع من مسعر، ومسعر سمع من قيس، وقيس سمع من طارق بن شهاب.
- الحديث الثاني:
7269- حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث, عن عقيل, عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك: أنه سمع عمر, الغد حين بايع المسلمون أبا بكر, واستوى على منبر رسول الله [ , تشهد قبل أبي بكر فقال: أما بعد, فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم, وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم, فخذوا به تهتدوا, وإنما هدى الله به رسوله"، طرفه في : 7219.
الشرح: الحديث رواه البخاري عن شيخه يحيى بن بكير وهو ابن عبدالله القرشي المصري الحافظ، عن الليث وهو ابن سعد الفهمي قاضي مصر في وقته ومحدثها وعالمها، وله مذهب لكنه انقرض تقريبا إلا ما في الكتب, حتى قال بعض أهل العلم: إن الليث أعلم من مالك، ولكن مالك قام به أصحابه والليث لم يقوموا به. وعقيل الذي يروي عنه هو ابن خالد, وعامة الرجال الذين بهذا الاسم بفتح العين "عَقيل" إلا الراوي عن الزهري فإنه بالضم "عُقيل" بن خالد. عن ابن شهاب وهو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري الإمام التابعي الجليل، وهو فيما ذكر أهل العلم أول من دون السنة بأمر من عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه, وعيب عليه دخوله على السلاطين, ولكنه كان قوّالا بالحق، يدخل عليهم فيعظهم ويذكرهم بالله، ولم يكن ممن استمالتهم الدنيا.
قال: أخبرني أنس بن مالك، وهو الصحابي الجليل خادم رسول الله [، وممن روى عن النبي [ فوق الألف من الأحاديث, والذين رووا فوق الألف من الحديث عن النبي [ سبعة من الصحابة، منهم أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
قوله: "أنه سمع عمر الغد حين بايع المسلمون أبا بكر واستوى على منبر رسول الله [، تشهد قبل أبي بكر فقال أما بعد: فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدي الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا, وإنما هدى الله به رسوله "وفي بعض النسخ" لما هدى الله به رسوله".
فأنس بن مالك رضي الله عنه يروي قصة مبايعة المسلمين لخليفة رسول الله [ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان خليفته [ في صلاته، فأم المسلمين في حياته [ بأمره، وقد رضيه الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم لدنياهم إذ رضيه رسول الله [ لدينهم، فالرسول [ رضي أبا بكر لدين المسلمين، فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" رواه البخاري؛ ولذا رضيه المسلمون والصحابة لإدارة شؤون دنياهم.
وقد قال السلف رحمهم الله: من قدّم عليا على أبي بكر، فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يعني: قد طعن في اختيار المهاجرين والأنصار، وانتقصهم واحتقرهم؛ لأن المهاجرين والأنصار هم الذين اختاروا أبا بكر, فمن قدم عليا على أبي بكر, أو قدم عثمان على أبي بكر, أو قدم عمر على أبي بكر, فقد أزرى وطعن واستخف بعقول المهاجرين والأنصار - والعياذ بالله - وهذا لا يرضاه مسلم لنفسه؛ لأن الله سبحانه قد أثنى على الصحابة من المهاجرين والأنصار، وأخبر أنه تعالى رضي عنهم وعمن تبعهم بإحسان، ورضوا عنه.
فمن تبع المهاجرين والأنصار فقد رضي الله عنه، ومن لم يتبعهم فقد سخط الله عز وجل عليه, لا شك في هذا، وهذه قاعدة مهمة في اتباع سلف الأمة.
قوله: "فلما بايع المسلمون أبا بكر واستوى على منبر رسول الله [ تشهد قبل أبي بكر, تشهد عمر وخطب قبل أن يخطب أبو بكر فقال عمر رضي الله عنه في خطبته: "أما بعد: فاختار الله لرسوله [ الذي عنده على الذي عندكم" يعني: أن الله عز وجل قد قبض نبيكم واختار له ما عنده جل وعلا في الرفيق الأعلى، على الذي عندكم في الحياة الدنيا.
"وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا، وإنما هدى الله به رسوله", أو "فخذوا به تهتدوا لما هدى الله به رسوله" وهذا تقرير من عمر رضي الله عنه وأرضاه أن موت النبي [ وإن كان مصيبة عظيمة حلت بالمسلمين، إلا أن الله تبارك وتعالى قد أبقى في أمته الكتاب العظيم الذي اهتدى به نبيها عليه الصلاة والسلام، فنحن وإن فقدنا رسول الله [ من بين أظهرنا، لكن كتابه لا يزال موجودا بيننا، وسنته عليه الصلاة والسلام لا تزال محفوظة, بل هما جميعا محفوظان إلى قيام الساعة؛ فلا يضر الإنسان موت النبي [ الضرر البالغ الذي يؤدي به إلى الضلال؛ لأن الكتاب محفوظ والسنة محفوظة, وقد قال الله سبحانه وتعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3), وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ( النساء: 80)، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، فكتاب الله سبحانه وتعالى الاعتصام به فلاح ونجاة.
وهذا حث من عمر على الاعتصام بالكتاب؛ لأنه يقول لهم: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات، ولكن الكتاب الذي هدى الله به رسوله بين أظهركم؛ فلا تخافوا من الضلالة، والله سبحانه وتعالى قد اختار لرسوله ما عنده على الذي عندكم، وهو سبحانه رؤوف رحيم بكم أيضا؛ لأنه لم يرفع الكتاب من بين أظهركم بعد وفاة نبيكم، بل هو لا يزال بين أظهركم تستطيعون الاهتداء به، وإذا أردتم الهداية لما هدى الله به رسوله.

هذا ملخص كلام عمر رضي الله عنه، وهي كلمات قليلة، لكنها وصية عظيمة بكتاب الله سبحانه وتعالى، وأن التمسك به سبب يحصل به المقصود من الهداية، والعصمة من الزيغ والضلال.
نسأله تعالى أن يعلمنا من كتابه ما جهلنا، ويذكرنا منه ما نسينا، إنه سميع الدعاء.








ابوالوليد المسلم 08-11-2021 05:28 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شــــرح كتـــــــــاب "الاعتصـــــام بالكتــــاب والســــنة" مــــن صحيــــح الإمام البـــخاري (3)




الشيخ.محمد الحمود النجدي






إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.



ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.



ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.







الحديث الثالث:



7270 - قال: حدثنا موسى بن إسماعيل. قال: حدثنا وهيب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني إليه النبي [ وقال: "اللهم علمه الكتاب" (طرفه في: 75).



الشرح:



الحديث الثالث رواه البخاري رحمه الله من طريق شيخه موسى بن إسماعيل التبوذكي الثقة الثبت، قال: حدثنا وهيب وهو ابن الورد القرشي، قال عن خالد وهو ابن مهران الحذاء، عن عكرمة مولى ابن عباس، ويكنى بأبي عبد الله وأصله من البربر من أهل المغرب، وكان ممن حفظ عن ابن عباس علما جما، ورجع إليه أهل العلم في معرفة الرواية عن ترجمان القرآن ابن عباس.



قال: عن ابن عباس قال: ضمني إليه النبي[ وقال: "اللهم علمه الكتاب".



سبب هذا الحديث: أن الرسول [ دخل الخلاء يوما، قال ابن عباس: فوضعت له وَضوءا، والوَضوء بفتح الواو: ماء الوضوء الذي يتطهر به، فلما خرج قال: "من وضع هذا؟" فأخبر [ أن الذي وضعه ابن عباس؛ فضمه[ وقال: "اللهم علمه الكتاب" وفي رواية "اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين".



هذا الحديث فيه دعاء النبي[ لابن عمه ابن عباس رضي الله عنه، دعا له بشيء عظيم، لم يدع له بالدنيا، وإنما دعا له بما تحصل له به النجاة في الدنيا والآخرة، ألا وهو تعلم الكتاب، والكتاب كما قلنا في عرف الشرع يعني: القرآن الكريم، فقال: "اللهم علمه الكتاب", ومعناه: فقّهه في كتاب الله وفهّمه، وألهمه حفظه، وفقهه في الدين والشريعة.



وهي دعوة عظيمة من رسول الله [، وقد تحققت هذه الدعوة له، فمن علم حال ابن عباس رضي الله عنهما في التفسير، ومعرفة الشريعة وأحكام الدين علم ذلك؛ فقد فاق ابن عباس على صغر سنه كثيرا من الصحابة في العلم ومعرفة كتاب الله، حتى إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يدخله مع الصحابة الكبار من أهل الشورى من البدريين وغيرهم؛ لما يعلم من علمه وفقهه، ولما احتجوا عليه: كيف تدخل معنا ابن عباس وتجلسه في مجلسنا، ومجلس مشاورتنا، وعندنا أبناء مثله؟! فسكت عمر ودعاه يوما، يقول ابن عباس: ما دعاني إلا ليعرفوا منزلتي، فسألهم رضي الله عنه: ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (النصر1-3)؟



فقال بعضهم: أمره الله سبحانه وتعالى إذا جاءه النصر والفتح أن يستغفر الله عز وجل ويتوب إليه، وقال بعضهم: الله أعلم بمرادها، ثم التفت إلى ابن عباس وقال: ما تقول فيها يابن عباس ؟ قال: هو أجل رسول الله [ أعلمه إياه. فقال عمر: والله لا أعلم منها إلا ما قلت.



فعلموا منزلته من ذلك اليوم وأنه غلام معلَّم مُلهم، وأن الله تعالى قد فهّمه الكتاب.



وقد سئل ابن عباس: بم أوتيت هذا العلم الجم؟ فقال: بقلب عقول، ولسان سؤول.



فكان رضي الله عنه قد فرّغ قلبه لطلب العلم، وهذا أمر ضروري لطالب العلم؛ لأن الإنسان صاحب القلب المشغول لا يمكن أن يطلب العلم كما ينبغي؛ فلا بد من تفريغ القلب من الشواغل والصوارف، وجعل العلم هو المقصد الأول، ولا شك أن الإنسان تمر به ظروف وأحوال أحيانا تلهيه أو تصده عن طلب العلم، ولكن متى وجد فرصة، فرغ قلبه لطلب العلم، وانكّب على القراءة وعلى السماع بقدر استطاعته.



وكذلك السؤال عما ينزل به مما لا يعرفه، أو لا يعرف حكمه، فهذا أمر ضروري ومطلوب، والحياء المانع من السؤال يفوّت على الإنسان علما كثيرا، والكبر أيضا مانع من السؤال، وهو كذلك يفوّت على الإنسان علما كثيرا.





الحديث الرابع:



7271 – قال: حدثنا عبد الله بن صباح قال: حدثنا معتمر قال: سمعت عوفا: أن أبا المنهال حدثه: أنه سمع أبا برزة قال: "إن الله يغنيكم - أو: نعشكم - بالإسلام، وبمحمد[". (طرفه في: 7112).



الشرح:



يقول البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن صباح وهو الهاشمي العطار، حدثنا معتمر وهو ابن سليمان البصري أبو محمد، قال: سمعت عوفا وهو ابن مالك بن نضلة الجشمي، ثقة، مشهور بأبي الأحوص، أن أبا المنهال حدثه وهو سيار بن سلامة الرياحي، ثقة، أنه سمع أبا برزة وهو الأسلمي صحابي من صحابة رسول الله[ واسمه نضلة بن عبيد، قال: "إن الله يغنيكم بالإسلام وبمحمد["، وفي لفظ: "إن الله نعشكم بالإسلام وبمحمد[". قال أبو عبد الله - وهو البخاري نفسه؛ فإذا وجدت في صحيح البخاري: "قال أبو عبد الله"، فاعلم أنه المؤلف والمصنف للصحيح وهو الإمام البخاري-: ووقع هاهنا: "يغنيكم" وإنما هو نعشكم، قال: ينظر في أصل كتاب الاعتصام. كأن البخاري رحمه الله كان له كتاب كبير اسمه "الاعتصام بالكتاب والسنة" انتقى منه ما كتبه في الصحيح، مثل ما فعله في "الأدب المفرد"، فـ"الأدب المفرد" كتاب واسع انتقى منه ما وضعه في كتاب الأدب من صحيحه؛ ولذلك لما حصل الشك في هذه اللفظة قال البخاري: يراجع الأصل. فربما كان في سفر ليس معه أصوله، فقال: يراجع الأصل؛ حتى يعلم الكلمة الصحيحة فيصلح منه.



أما الحديث: فأبو برزة الأسلمي رضي الله عنه قال هذه الكلمة، في وقت كان فيه اضطراب في الأمة الإسلامية، وذلك وقت أن بويع لابن الزبير رضي الله عنه بالخلافة في الحجاز، وحصلت فتنة القراء بالبصرة، وحصل ما حصل بين علي رضي الله عنه وأهل الشام، فجاءه بعض الناس يسألونه ويأخذون رأيه، فقالوا له: ألا ترى ما وقع فيه الناس! فقال رضي الله عنه وأرضاه - وهذه الرواية ذكرها البخاري في الفتن-: "إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش" يعني: قد أبغضت ما وقعوا فيه من الاختلاف وترك الاتفاق؛ فابن الزبير اختلف مع أهل الشام، وأهل الشام اختلفوا مع أهل الحجاز، وهذا خلاف ما أمر الله به؛ وذلك لأن الله سبحانه أمرنا بالتقوى ثم دلنا على الطريق فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، فإذا أردنا طريق التقوى فعلينا بالاعتصام بالقرآن والسنة، وترك التفرق؛ لأن ترك الاعتصام، والتفرق والاختلاف، سبب لضياع التقوى! فسبحان الله!



ثم قال: "إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة" أي: هذا ما كان عليه العرب قبل الإسلام، كانوا على قلة وذلة وضلالة وعماية! كانوا مستضعفين لا رأي لهم، ولا وزن لهم بين الأمم.



ثم قال: "وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد[، حتى بلغ بكم ما ترون" فقال في هذه الرواية: وإن الله أنقذكم بالإسلام.



وفي رواية كتاب الاعتصام هنا: "إن الله نعشكم أو يغنيكم"، وهي كلها متقاربة، ومفادها: أن الله سبحانه وتعالى أنقذ العرب بالإسلام وبرسالة محمد [، فأخرجهم به من الضلالة إلى الهداية، ومن الشر إلى الخير، ومن القلة والذلة، إلى الكثرة والعزة.




ثم قال رضي الله عنه: "وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم.." إلخ كلامه رحمه الله، فبين أن الدنيا أفسدت بين الناس، وأوقعت أحيانا الاختلاف والتفرق، والتحاسد والتباغض والتدابر، وهي أمراض حذر منها المصطفى[.



فالشاهد في هذا الحديث: أن أبا برزة ذكّر الناس بأن الله تبارك وتعالى قد أنقذهم من الذلة والقلة والضلالة بالإسلام وبالقرآن وبمحمد[؛ فلا طريق لنا نحن أيضا إلى الانتعاش مرة أخرى، ولا طريق لنا إلى القوة والرفعة والمجد، إلا بما ذكره الله تعالى مما سبق ذكره في كتابه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)؛ فعلينا التمسك بالكتاب والتمسك بالسنة وبفهم الصحابة لهما, فهذا أمر مهم وضروري، وسيتكرر التنبيه عليه.










ابوالوليد المسلم 10-11-2021 10:33 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شــــرح كتـــــــــاب "الاعتصـــــام بالكتــــاب والســــنة" مــــن صحيــــح الإمام البـــخاري (5)


الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.









ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى.









ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.









• الحديث الثاني من الباب الأول:



7274- حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثنا الليث، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي [ قال: " ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآياتِ مَا مِثلُهُ أومن، أو آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحياً أوحاهُ الله إلي، فأرجو أني أكثرهُم تابعا يومَ القيامةِ ".

(طرفه في: 4981).







الشرح:



بدأ الحديث الثاني في هذا الباب وهو أيضا من مسند أبي هريرة بقول البخاري - رحمه الله-: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثنا الليث، وهو ابن سعد الفهمي المصري: قال: عن سعيد، وهو ابن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، واسمه كيسان المدني ثقة ثبت، وهو من المكثرين في الرواية عن أبي هريرة، كما مر معنا.







عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي[ قال: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله أومن أو آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة".









قوله: "ما من الأنبياء نبي" هذه صيغة تفيد العموم، أي: كل الأنبياء قد أعطاهم الله تعالى من الآيات، وهي المعجزات ما يؤمن عليها البشر، فكل نبي آتاه الله آيات، والآية هي: اسم للأمر المعجز الذي يتحدى به النبي قومه ولا يستطيعون معارضته، وكثير من العلماء يسميها المعجزات، والأصوب تسميتها بالآيات، أولا: لأن الله تعالى سماها كذلك في كتابه؛ فهي لفظ القرآن كما في قوله: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً} (هود: 64) وغيرها.









ثانيا: أن الأمر الجميل، العجيب، الغريب، المعجز، يسمى في اللغة آية، وهذا أقرب لوصف معجزات الأنبياء.









والأنبياء تعددت آياتهم بحسب ظروفهم وأزمانهم وأقوامهم، فتحدى الله تعالى كل قوم من جنس ما يحسنون ويتقنون، فالسحر انتشر في عهد موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكانت آية موسى من جنس ما يحسنه قومه، وإن كانت هي ليست سحرا، وعيسى ابن مريم انتشر في عهده علم الطب والتداوي، فتحداهم الله عز وجل بأشياء عجز الطب عن مداواتها، كالبرص والعمى بل الكَمَه، والأكمه هو من يولد أعمى، ثم زاد في التحدي بأن أحيا لهم الموتى، وهذا لا يمكن أن يفعله الأطباء أبدا مهما أوتوا من علم وقوة، وفي زمن النبي [ برع العرب في الفصاحة والبلاغة والبيان والشعر والنثر والخطابة، فكانت آية النبي [ من جنس ما يتعاطاه قومه من فنون اللغة والشعر والأدب، وإن كان القرآن ليس شعرا ولا نثرا.



قوله: "ما مثله أومن"، وهي الراوية الأولى، من الأمن، يعني ما يأمن به الإنسان، فإذا رأى الناس آية النبي من الأنبياء، حصل لهم نوع من الأمان أنه صادق فيما يقول.

والرواية الثانية: " ما مثله آمن: من الإيمان، يعني ما يحصل به الإيمان.

قوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ"، الحصر هاهنا يعني: أن القرآن الكريم هو أعظم معجزاتي أو أعظم آياتي، فكان أعظم ما أوتيه عليه الصلاة والسلام هو الوحي والقرآن، ولم تكن معجزته الوحيدة القرآن، كما يظن بعض الناس، بل له معجزات باهرة عظيمة كثيرة غير القرآن، كانشقاق القمر المذكور في القرآن، وانفجار الماء من بين أصابعه الشريفة [، وتكثير الطعام له ولأصحابه، وتسبيحه وهو يؤكل، وكلامه لبعض العجماوات وفهمه عنها، وانقياد الشجر له، وغير ذلك كثير، لكن القرآن هو أعظم المعجزات أو الآيات على الإطلاق، وأفيدها وأدومها وأشملها؛ لأن كل آية كانت تنتهي بموت النبي، لكن آية نبينا محمد [ باقية دائمة إلى قيام الساعة، في حجيتها على الخلق، وسعة علومها، ودوام الانتفاع بها إلى أن يشاء الله تعالى رفعها من الأرض.

فالقرآن إذن أنفع وأعظم الآيات؛ لدوامه وبقائه وكثرة الانتفاع به على مر الدهور، وتعاقب الأيام والشهور، وهو معجز في نفسه، والإعجاز القرآني له وجوه كثيرة منها: أنه موجز في لفظه، وقد قال بعض الشراح: إن البخاري - رحمه الله - لما أورد الحديث الأول "بعثت بجوامع الكلم"، ثم أورد الحديث الثاني الذي يذكر القرآن، دل على أن المراد عنده بجوامع الكلم هو القرآن، وهذا ليس بلازم كما قال الحافظ ابن حجر، لكن لا شك في دخول القرآن في جوامع الكلم؛ لأن القرآن وجيز بليغ، وهناك أمثلة ذكرها أهل العلم لآيات وجيزة جامعة المعنى، مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179)، ومثل قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) ومثل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 52).

وأما جوامع الكلم في حديثه [، فأمثلتها كثيرة: منها قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" فهذا حديث عظيم موجز، لكنه واسع المعنى، ومثل قوله[: "مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، ومثل حديث: "مِنْ حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وحديث النعمان بن بشير "الحلال بيَّن والحرام بيَّن، وبينهما أمور مشتبهات"، هذه أربعة أحاديث يقول الإمام أحمد عنها: عليها مدار الإسلام، وهي جوامع من جوامع الكلم النبوي، والتي تتضمن قواعد شرعية عامة.

ومثلها حديث: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهو حديث عظيم، وكلمات موجزة، لكنه قاعدة عظيمة يمكنك أن تعرف بها أمورا كثيرة من أمور المعاملات بين الناس، ومثل قوله[ "كل مسكر خمر" ثلاث كلمات، ولكن بهذا الكلم الموجز أمكننا أن نعرف ماهية الخمر إلى قيام الساعة، فلم يقل[ الخمر من العنب، أو من الزبيب، أو من البر، أو من الذرة، وهكذا، بل قال: كل مسكر خمر، يعني كل شراب يؤدي إلى الإسكار فهو خمر. وفي الحديث الآخر: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"، ومثله حديث: "قل آمنت بالله ثم استقم" شرحه الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في وصية سماها الوصية الصغرى، وهو حديث جامع عظيم.

ولو أردنا أن نتتبع هذا الباب، لوجدنا أحاديث كثيرة، فالألفاظ النبوية تكون موجزة الألفاظ واسعة المعنى، وهو قد بعث بذلك، وهذا من معجزاته وآياته.







ولهذا نقول: إن المسلم المستمسك بسنته القولية سالم من كل شر، غانم لكل خير؛ لأن كلامه [ جامع مانع، ومن ذلك: الدعاء؛ فإن النبي [ " كان يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك " كما روت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهو في جامع الترمذي، أي ما كان[ يحب أن يوسع الكلام والألفاظ، وإنما كان يقتصر على الأدعية الجامعة النافعة.



وكثيرا ما نسأل عن كتب أو كتيبات ألَّفت في الدعاء، وهي قد تكون جميلة المعانى في الظاهر، ويغتر بها كثير من عامة المسلمين، ولكن إذا تفكر فيها العالم بالسنة، يرى فيها أشياء مخالفة للشرع؛ فبعضها يدخل في السجع المتكلف المذموم، والتكرار الدال على ضعف البلاغة والبيان، وبعضها يدخل في الاعتداء في الدعاء، فالأسلم الاقتصار على جوامع الدعاء النبوي.


ولهذا نحن نوصي دائما بأن الإنسان إذا أراد أن ينشر كتابا في الدعاء، أن يختار كتب الأدعية النبوية الثابتة؛ ففيها غنية وكفاية عن كل دعاء وثناء، ولا بأس بعد ذلك أن الإنسان يدعو لنفسه في صلاته وغيرها بحاجته مما يشاء ويحتاج إليه، فهذا أمر لا بأس به، ولكننا نعتقد أن الأدعية النبوية كافية، وتسد حاجات الإنسان إذا حفظ منها الثابت الصحيح، مما ورد عنه[ وجمعه العلماء قديما وحديثا، ككتاب «الدعوات من صحيح الإمام البخاري»، و«من جامع الترمذي»، وككتاب "صحيح الكلم الطيب" لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق العلامة الألباني، و"الوابل الصيب" لتلميذه ابن القيم - رحمهم الله تعالى - وغيرها.








ابوالوليد المسلم 13-11-2021 10:08 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (6)




الشيخ.محمد الحمود النجدي




إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله .







ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع سدى.









ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: " الاعتصام بالكتاب والسنة " من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة .














• الباب الثاني: باب الإقتداء بسنن رسول الله [









وقول الله تعالى: {واجعلنا للمتقين إماما}الفرقان: 74, قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا, ويقتدي بنا من بعدنا.



وقال ابن عون: ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها, والقرآن أن يتفهموه ويسألوا عنه, ويدعوا الناس إلا من خير.







الحديث الأول:



7275- حدثنا عمرو بن عباس: حدثنا عبد الرحمن: حدثنا سفيان, عن واصل عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد, قال: جلس إليّ عمر في مجلسك هذا، فقال: هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل ! قال: لم ؟ قلت: لم يفعله صاحباك، قال: هما المرآن يقتدى بهما . طرفه في 1549.







الشرح:



الباب الثاني من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح الإمام البخاري، هو باب الإقتداء بسنن رسول الله [، ومعنى الإقتداء بالسنن، أي: قبولها واتباعها والعمل بها – أي العمل بما دلت عليه السنة النبوية -، فأقواله [ تشتمل على الأخبار والأوامر والزواجر, فالأخبار تلقيها يكون بالقبول لها، والإيمان بها، والأوامر بالامتثال، والنواهي بالاجتناب.

وقول الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} الفرقان: 74 ، هذا الدعاء ورد في القرآن من قول عباد الرحمن، في سورة الفرقان .

قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا، وهذا التفسير من قول مجاهد، أخرجه الطبري وغيره في تفسيره بسند صحيح, ومجاهد هو ابن جبر المفسر المشهور . قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا، يعني: نقتدي بسلفنا ومن سبقنا من أهل الفضل والصلاح، ويقتدي بنا من بعدنا من الخلف، وهذه هي الخصلة التي كان عليها السابقون الأولون ومن تبعهم بإحسان، وهي أنهم كانوا يقتدون بالرعيل الأول من الصحابة، فلا يبتدعون بل يتبعون، عملا بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ولا تتبعوا من دونه أولياء} الأعراف 2، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}النساء 115, وقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُُ}التوبة 100 .

فالمسلم لا يكون إماما إلا إذا اقتدى بمن قبله من السلف الصالحين، وبعض الدعاة في عصرنا يظن أنه لا يتبعه الناس إلا إذا جاء بشيء جديد؟! هكذا يزين له الشيطان فيقول له: إنك لن تتبع ولن تشتهر إلا إذا جئت الناس بشيء جديد محدث لم يفعله أحد قبلك، فعند ذلك يلتفت لك الناس، ويلتفون حولك وتكون إماما ؟! والحق إن الإمامة قد تكون في الخير، وقد تكون في الشر، ففي الخير كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة (24) ، هذه الإمامة في الخير .

وأما الإمامة في الشر، فقال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} القصص 41، فلا يفرح الإنسان بكثرة الإتباع إذا لم يكن على الهدى والتقى والصراط المستقيم، فهم صاروا أئمة بإقتدائهم بمن قبلهم, واقتداء من بعدهم بهم, وهذا هو طريق النجاة, وقال قتادة رحمه الله كما روي عنه عبد بن حميد في مسنده بسند بصحيح: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}الفرقان: 74 ، قال: أي قادة في الخير، ودعاة هدي يؤتم بنا في الخير، وطوبى لمن جعله الله تعالى مفتاحا للخير, ومغلاقا للشر.

وقال ابن عون: ثلاث أحبهن لنفسي، ابن عون هو عبد الله بن عون البصري، من صغار التابعين ومن الأعلام، قال قرة: كنا نعجب من ورع ابن سيرين حتى رأينا ابن عون، وكان من الأئمة المجاهدين لأهل البدع .

يقول ابن عون رحمه الله: ثلاث أحبهن لنفسي، وهذا الأثر وصله محمد بن نصر المروزي في كتابه " السنة " بقول: ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني _ وفي رواية: ولأصحابي _ من باب أن يحب الإنسان لإخوانه ما يحبه لنفسه، وهو من الإيمان كما قال [ .

قوله " هذه السنة " وهي إشارة إلى طريقة النبي [ وإلى هديه، ليست سنة معينة، وإنما طريق النبي [، أي إشارة لنوع هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها .

قوله " والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه " وفي رواية " فيتدبروه " بدل أن يتفهموه .

وقوله "ويدع الناس إلا من خير " ويدَع بفتح الدال من الودع وهو الترك، وهذه الخصال الثلاث أحبها الإمام ابن عون لإخوانه، أن يتعلموا السنة ويسألوا عنها، أي يتعلموا هدي النبي [ وطريقته، والقرآن أن يتفهموه، لأن كثيرا من المسلمين يقرؤون القرآن ولا يفهمونه ولا يتدبرونه, فيكونوا قد أتوا بشيء وتركوا شيئا .

فمن قرأ القرآن فقد أتى عبادة عظيمة، لكن يلزمه أيضا أن يتدبر وأن يفهم القرآن حسب طاقته وقدرته، ثم أن يعمل به فهي ثلاث واجبات: القراءة، ثم التدبر والفهم، ثم العمل، وكل هذه واجبات تلزم المسلم.

وأن يترك الناس، يعني يتركوا مخالطة الناس إلا من خير، ألا يخالطوا الناس إلا في مجالس الذكر مثلا، أو صلة الأرحام، وما فيه نفع، لأن كثرة الخلطة تذهب بالوقت والزمن، وتوقع الإنسان في القيل والقال, وتوقعه أيضا أحيانا في الجدال والخصام، وربما حصل من وراء ذلك أشياء لا تحمد.







الحديث الأول



قال البخاري رحمه الله: حدثنا عمرو ابن عباس: وهو الباهلي قال: حدثنا عبد الرحمن: وهو ابن مهدي اللؤلؤي الإمام الشهير الثقة، من حفاظ السنة، يقول الذهلي ما رأيت في يده كتابا قط لقوة حفظه, قال: حدثنا سفيان وهو الثوري، سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو إمام من أئمة المسلمين، له مذهب ولكن لم ينتشر كانتشار بقية المذاهب الأربعة، ولا يزال معروفا في ثنايا الكتب الفقهية، ويقال: هو مذهب الثوري .

عن واصل: واصل هو ابن حيان الأحدب الأسدي ثقة ثبت، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة الأسدي مخضرم ثقة، وأحد المشهورين بالرواية عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: جلست إلى شيبة، وشيبة هو ابن عثمان ابن طلحة العبدري حاجب الكعبة, وكانت الحجابة في بني شيبة، والحجابة هي العناية بالبيت الحرام، مما يتعلق بالكسوة، وحفظ مفتاح باب الكعبة، وما أشبه ذلك .

قوله: " جلست إلى شيبة في هذا المسجد ": يعني المسجد الحرام، قال: جلس إليّ عمر في مجلسك هذا فقال: هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين .

أي أن عمر رضي الله عنه قال لشيبة حاجب الكعبة: هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء، " فيها " الضمير عائد على الكعبة، وهو إشارة إلى كنز الكعبة، ففي الكعبة كنز مدفون في أرضها، يعلمه عمر ويعلمه الصحابة رضي الله عنهم ويعلمه النبي [ قبلهم، فعمر قال هممت أن أقسم كنز الكعبة، بدل أن يكون محبوسا لا ينتفع به أحد، هممت أن أنفقه على المسلمين وأقسمه بينهم .

فقال له شيبة: ما أنت بفاعل، ما قال له - أدبا معه وهو أمير المؤمنين - ما قال له: لا تقدر، ولا قال له: لا تفعل، بل قال له: ما أنت بفاعل ! أي أنت لا تفعل هذا!! فقال له عمر: لم ؟! قال: أي هذا الأمر لم يفعله صاحباك، يعني ما فعله الرسول [ وما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأنت معروف عنك من هديك وسيرتك الإقتداء بالنبي [ وصاحبه، فلما قال له هذه الكلمة، صدقه عمر ووافقه، وقال له: هما المرآن يقتدى بهما! يعني: نعم أنا لا أستطيع أن أفعل هذا ولا أفعله لأن النبي [ وهو الرؤوف الرحيم بأمته، الحريص على مصلحتها، لم يفعله! فلم قسم كنز الكعبة، ولا استخرجه وقسمه بين الصحابة مع حاجتهم في زمنه [، ولم يفعله أبو بكر الصديق أيضا في عهده، ولا شك أنه احتاج إلى الإنفاق وإلى تجهيز الجيوش، ولكنه لم يفعله، فأنت كذلك لا تفعل هذا الأمر، فما دام أن أبا بكر وقبله النبي [ لم يتعرضا له، لم يتعرضا لكنز الكعبة، لم يسعك يا عمر خلافهما، بل الإقتداء بهما واجب .


فيؤخذ من هذا الحديث: أن تقرير النبي [ وسكوته سنة يحتج بها، فالرسول [ أقر كنز الكعبة وسكت عنه وتركه، مع علمه به .

فيحتج بهذا: على كل من يريد أن يحدث حدثا، ويزعم أنه مصلحة، مع أن سببه أو شبهه كان موجودا على عهد النبي [ ومع ذلك لم يفعله، فهنا يجب علينا الإقتداء بالنبي [ في تركه، كما يجب الاقتداء في فعله، لأنه داخل في قول الله تعالى {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الأعراف: 158، وقوله سبحانه {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}(الأحزاب: 21) وهذا هو فهم الصحابة كما سبق في الحديث .







وكل خير في اتباعه [، وكل شر في مخالفته .






ابوالوليد المسلم 16-11-2021 10:59 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (8)




الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع سدى.
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
• الحديث الرابع: من الباب الثاني: قال البخاري:
7278, 7279- حدثنا مسدد: حدثنا سفيان: حدثنا الزهري، عن عبيد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد قال: كنا عند النبي [ فقال: «لأقضين بينكما بكتاب الله» (طرفه في 2314).
الشرح:
الحديث الرابع من باب الاقتداء بسنن رسول الله [ من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما يرويه البخاري رحمه الله تعالى عن شيخه مسدد، وهو مسدد بن مسرهد بن مسربل أبو ماسك الأسدي أحد الثقاة الأعلام، وقال أهل الحديث مسدد كاسمه، عن شيخه سفيان وهو ابن عيينة الهلالي الإمام الثقة المشهور، قال: حدثنا الزهري وقد مضى معنا اسمه، عن عبيد الله وهو ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود الثقة الفقيه المشهور الضرير.
يرويه عن أبي هريرة وزيد بن خالد قال: كنا عند النبي [ فقال: لأقضين بينكما بكتاب الله «هذا الاختصار يوهم أن الخطاب لهما، وليس الأمر كذلك! إنما الخطاب لوالد العسيف (الأجير) الذي استأجره رجل ثم زنى بامرأته، فتحاكما إلى النبي [، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، فقال الرسول [ لهما: «لأقضين بينكما بكتاب الله، المائة شاة والوليدة ردٌّ عليك» لأن والد الزاني كان قد اقترح أن يفدي ابنه بمائة شاة ووليدة (أي مملوكة)، فقال عليه الصلاة والسلام لوالد الرجل: «المائة شاة والوليدة رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت بالزنى فارجمها».
فهذا الحديث يبين أن «السنة النبوية» يطلق عليها كتاب الله، من حيث إنها وحي من عند الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه في كتابه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى < إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4)، وذلك لأن الجلد للزاني مائة جلدة ليس في كتاب الله، والتغريب ليس في كتاب الله، وإنما هو شيء زادته السنة وفصلته وفعله الرسول [، وتابعه عليه الخلفاء الراشدون، وقد قال [ قبل: «لأقضين بينكما بكتاب الله». فهذا دال: على أن ما قال رسول الله [، هو في الحجية بمنزلة ما قاله الله تبارك وتعالى، لأن الكل وحي من عند الله، وقال حسان ابن عطية التابعي الجليل: كان جبريل ينزل بالوحي على النبي [ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن.
فالقرآن والسنة كلاهما وحي من السماء من عند الله عز وجل، وقال الله تعالى أيضا {وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} النساء: 113)، والحكمة عند أهل العلم هي: السنة النبوية.
• الحديث الخامس:
7280- حدثنا محمد بن سنان: حدثنا فليح: حدثنا هلال بن علي، عن عطاء ابن يسار عن أبي هريرة: أن رسول الله [ قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى».
الشرح:
الحديث الخامس في هذا الباب - باب الاقتداء بسنن رسول الله [ - حديث أبي هريرة ] يرويه البخاري -رحمه الله تعالى- عن شيخه محمد بن سنان وهو الباهلي، أبو بكر البصري، وهو ثقة ثبت، قال: حدثنا فُليح وهو ابن سليمان الخزاعي المدني، وقد وثقه الدارقطني وضعفه غيره، وقال الحافظ: صدوق كثير الخطأ، والبخاري -رحمه الله- إنما انتقى من حديثه الأحاديث الحسنة الصالحة.
قال: حدثنا هلال بن علي، وهو ابن أبي ميمونة العامري المدني، ثقة، قال: عن عطاء بن يسار وهو الهلالي القاص، من كبار التابعين وعلمائهم، وصاحب عبادة ومواعظ.
يرويه عن الصحابي الجليل أبي هريرة ] أن رسول الله [ قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» يعني: إلا من امتنع، فمن امتنع عن دخول الجنة لا يدخلها، لكن ليس هذا هو المراد، بل المراد أن من امتنع عن الاستجابة لرسول الله [، والامتثال لأوامره بالطاعة لم يدخل الجنة.
وعدم دخوله الجنة إما أن يكون أبديا: بمعنى لا يدخل الجنة أبدا، وإما أن يكون عدم دخوله مؤقتا، لأنه يدخلها بعد ذلك، وهذا بحسب إبائه، فإن كان إباؤه امتناعا عن التصديق به رسولا نبيا من عند الله عز وجل، فهذا كافر والعياذ بالله، لا يدخل صاحبه الجنة، ومحروم منها أبدا، وإن كان امتناعه ومعصيته في بعض الأمور، وهو مسلم مؤمن بالله وبرسوله [، فإنه قد لا يدخلها مع أول الداخلين، بل يؤخر في النار ثم بعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة.
فإذا قال قائل: كيف يكون كافرا، وقد قال [ «كل أمتي» فكيف نسبه النبي [ إلى أمته؟
فالجواب: أن أمة النبي [ قسمان: أمة الدعوة هذا هو القسم الأول، والقسم الثاني: أمة الإجابة.
أما أمة الدعوة: فيراد بها كل من بلغته دعوة النبي فهو من أمة محمد [ سواء أسلم أم لم يسلم، والقسم الثاني: أمة الإجابة وهم من استجاب له [ بالإيمان والتصديق والطاعة فهذا مسلم.
ومن الأدلة على القسم الأول - وهم أمة الدعوة - قوله [: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» رواه مسلم.
فإذن اليهود الذين بلغتهم دعوته [، وعرفوا مبعثه وخروجه ثم لم يؤمنوا به هم من أمته لأنهم بلغتهم دعوته، وكذلك النصارى، فكل من بلغته دعوته [ من العالمين، من الإنس والجن، فهو مأمور بالإيمان به [ لأنه خاتم النبيين، ولا نبي بعده، وإذا امتنع عن الإيمان به فقد أبى دخول الجنة كما في الحديث «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى».
وقد روى الإمام أحمد -رحمه الله- هذا الحديث بلفظ آخر وطريق آخر، فقد رواه (5 / 258) عن أبي أمامة ]، مرفوعا بلفظ: «ألا كلكم يدخل الجنة، إلا من شرد على الله، شراد البعير على أهله» وسنده حسن.
فهذا وصف نبوي عجيب، لبعض المعرضين عن رسالته، أنهم يشردون على الله والعياذ بالله، كما يشرد البعير ويهرب عن أهله ويتيه، ضلالا وبعدا عن النجاة، ولاحظ وصف النبي [ لمن أعرض عن الامتثال والطاعة له [، أنه كما يشرد البعير على أهله، والشراد كما تعلمون فيه وصف السرعة والخفة، وعدم العقل والفهم، وهذا منطبق على من أعرض عن السنة النبوية الشريفة المباركة، المشتملة على كل خير، وخلفها وراءه، وولاها ظهره، نسأل الله تعالى المعافاة من ذلك.


ابوالوليد المسلم 18-11-2021 03:26 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (9)




الشيخ.محمد الحمود النجدي

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع سدى.
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

• الحديث السادس: قال البخاري رحمه الله:
7281 – حدثنا محمد بن عبادة: أخبرنا يزيد: حدثنا سليم بن حيان, وأثنى عليه: حدثنا سعيد بن ميناء: حدثنا أو سمعت: جابر بن عبد الله يقول: جاءت ملائكة إلى النبي[ وهو نائم, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا, فاضربوا له مثلا, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة, فقالوا: أولوها له يفقهها, فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان, فقالوا: فالدار الجنة, والداعي محمدا[ فمن أطاع محمداً[ فقد أطاع الله, ومن عصى محمدا[ فقد عصى الله, ومحمد[ فرق بين الناس. تابعه قتيبة, عن ليث, عن خالد, عن سعيد بن أبي هلال, عن جابر: خرج علينا النبي[.

الشرح :
الحديث السادس في هذا الباب حديث جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري الصحابي الجليل, وهو أحد السبعة الذين رووا عن النبي[ فوق الألف من الحديث كما قلنا سابقا, يرويه البخاري عن محمد بن عبادة الواسطي أبو جعفر الثقة, له في البخاري حديثان فقط ، قال: أخبرنا يزيد, ويزيد هو ابن هارون الواسطي الثقة الإمام، أحد أعلام أهل الحديث والسنة, وهو القائل رحمة الله: من قال الرحمن على العرش استوى خلاف ما َيقر في قلوب العامة، فهو جهمي.
قال: حدثنا سليم بن حيان وهو ثقة، وقد أثنى عليه يزيد, حدثنا سعيد بن ميناء وهو أبو الوليد مولى البختري ثقة، قال: حدثنا أو سمعت وهذا الشك من سليم بن حيان, وهو من دقة أهل الحديث في الرواية؛ حيث قال: حدثنا أو سمعت، مع أن حدثنا أو سمعت قريبتان في المعنى لأنهما من صيغ التصريح بالسماع، وإن كانت سمعت أقوى من حدثنا, ولكنهما قريبان في المعنى.
يقول جابر بن عبد الله: "جاءت ملائكة للنبي[ وهو نائم", لم يصرح بأسماء الملائكة, وورد عند الترمذي أنهما "جبريل وميكائيل".
قوله "فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان" وهكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم, يقول[: "إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا" ولهذا قد يوحي الله تبارك وتعالى إلى النبي[ وهو نائم, اقرأ قوله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (الصافات: 102), فماذا قال له ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} (الصافات: 102), فرؤيا الأنبياء وحي من الله تعالى، بخلاف رؤيا غيرهم من الناس؛ فإنها قد تكون وحيا، أو تخليطا من الشيطان، أو حديث نفس، كما جاء في الحديث، أما بالنسبة للأنبياء فإن رؤياهم وحي من الله تعالى.
ولهذا قال[ في الحديث عند البخاري (6989): "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ".
فالرؤيا الصادقة وحي من الله, لكن لا يستطيع الإنسان أن يجزم بأن ما رآه هو رؤيا صادقة حتى تتحقق! وقد افتتن كثير من أهل عصرنا بتأويل الأحلام، والسعي في طلب تفسيرها على أي حال كانت، سواء كانت عليها علامات الرؤيا أو كانت أضغاثا من الشيطان وأحلاما، أو حديث نفس, وجعل بعض الناس الحديث في الرؤيا كطعامه وشرابه.
ولبعض السلف كلمة ذهبية يقول فيها: من اتقى الله في اليقظة، لم يضره ما يراه في المنام؛ فمتى اتقى العبد ربه سبحانه وتعالى، وأقام حدوده ولم يقع فيما حرم الله فإن الله سبحانه وتعالى سيحفظه, والرؤيا الصادقة بشارة للمؤمن بالخير أو تحذير له من الشر.
فالحاصل أن رؤيا الأنبياء وحي من الله, لأنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
قوله : "فقالوا : قالوا إن لصاحبكم هذا مثلا، قال فاضربوا له مثلا" والمثل يقرب الشيء المعنوي إلى شيء حسي، المعاني تكون في صورة أشياء حسية فيقرب فهمها للسامع.
قوله: قالوا: "مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدُبة" المأدبة بضم الدال هي العشاء أو الطعام ، ويروى مأدَبة والمأدبة من الأدب, يعني جعل فيها ما يُتعلم فيه الأدب والخُلق, لكن سياق الحديث يدل على أن المراد بها الطعام، لأنه قال: "وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدُبَة" فالمراد هو الطعام لأنه قال: وأكل من المأدبة.
قوله: ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة؛ فهذا مثال ضربته الملائكة لرسول الله[ ودعوته، وهو أنه مثله كمثل رجل أو شخص بنى دارا، ثم بعث داعيا للناس يدعوهم لدخول الدار، والأكل من المأدبة والطعام ، فتنوعت استجابات الناس, فمن الناس من استجاب لهذا الداعي فدخل الدار وأكل من المأدبة, ومن الناس من لم يستجب فلم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة.
قوله: "فقالوا: أولوها له يفقهها" أولوها يعني: فسروها، وهذا هو معنى التأويل عند السلف السابقين, أنه بمعنى التفسير، ومر معنا قول النبي[: اللهم علمه التأويل، أي: تفسير القرآن، وسمى الإمام أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري كتابه بـ "جامع البيان في تأويل آي القرآن" يعني في تفسير آي القرآن, هذا هو المعنى الأول للتأويل عند السلف.
والمعنى الثاني للتأويل: ما تصير إليه الأشياء المخبر بها, ما تصير إليه الأشياء فتؤول بمعنى تصير، آل إلى كذا، يعنى رجع إليه, فما تصير إليه الأمور وترجع إليه يسمى تأويلا, يوسف عليه السلام ماذا قال؟ قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} (يوسف:101), يعني: هذا ما آلت إليه الرؤيا، وصارت إليه وظهرت، وقال عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} (الأعراف: 53)، أي: إذا حصل ووقع الذي أخبرت به الرسل يوم القيامة، تذكر أقوام الرسل ما أخبرت به الرسل في الدنيا، وندموا على عدم الإيمان حيث لا ينفع الندم، وسألوا الرجوع للدنيا.
فقوله: "فقالوا أولوها له يفقهها" يعني: اشرحوها له, فسروها له.
قوله: "فقال بعضهم: إنه نائم, وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان" هكذا تكررت هذه العبارة.
قوله: "فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمدا[، فمن أطاع محمدا[ فقد أطاع الله ومن عصى محمد[ فقد عصى الله, ومحمد فرق بين الناس "قالوا الدار هي الإسلام والجن، والداعي إليها هو محمد[، فمن أطاعه فقد أطاع الله ودخل الدار, أي دخل الجنة وأكل من طعامها، وناله من نعيمها وخيرها وبهجتها, ومن عصى محمد[ لم يدخل الجنة، ولم يحظ بالنعيم الذي في الجنة والطعام والشراب, والمتع التي تكون في الجنة.
وفي رواية عند الترمذي قال: "فالله هو الملك، والدار الإسلام, والبيت الجنة, وأنت يا محمد رسول الله" فالله تبارك وتعالى هو الذي بنى الدار، فالجنة أنشئت بأمر الله تعالى, وجنة عدن خصوصا خلقها الله تبارك وتعالى بيده ، تشريفا لها ولأهلها كما جاء في الأثر, فمن دخل إلى الدار, والدار هي الإسلام, والمأدبة هي الجائزة, وهي الجنة, والرسول الداعي الذي خرج يدعو الناس لدخول الدار, والأكل من المأدبة هو محمد[.
فهذا مثل ضربه النبي[ لمن أطاعه[؛ لأنه رسول صاحب المأدبة, فصاحب المأدبة هو الله تعالى, وهو باني الدار تعالى، وهو الذي هيأ لأهل الجنة نزلهم وكرامتهم ونعيمهم, فمن أجاب محمد[ دخل الدار, من دخل الإسلام أكل من المأدبة يعني دخل الجنة, ومن عصاه وأعرض عن طاعته ولم يدخل الإسلام, أو أن دخوله كان فيه نقص ، فتأخر عن دخول الدار دخولا كليا وجعل له نقص في التأخير.
قوله: "ومحمد فرق بين الناس" فيه روايتان هذه الرواية الأولى بالتخفيف "محمد فرق بين الناس" والرواية والثانية: "محمد فَرّق بين الناس", أما رواية "محمد فرق بين الناس" بالتخفيف: يعني محمد[ بدعوته وبدينه هو فرقان بين الحق والباطل, فإن الله تبارك وتعالى سمى كتابه فرقانا كما قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1), فالقرآن فرق بين الحق والباطل, فالناس منهم من هو محق ومنهم من هو مبطل, فمحمد[ يفصل بينهم, يفصل بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال, كما أن محمد[ يفرق بين الناس, إذ إنه يفرق بين المؤمن والكافر, والبر والفاجر, فليس من عصى الله كمن أطاع الله, وليس من عصى محمد[ كمن أطاعه , فـ{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (الحشر:20), وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُون} (السجدة: 18), وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:21), فلا يستوي هؤلاء وهؤلاء , والدين الذي جاء به محمد[ يفرق بين أهل الجنة وأهل النار, أهل الطاعة وأهل المعصية, أهل البر والإحسان, وبين أهل الإثم والمعصية.
ولهذا تجد أن المشركين كانوا يقولون لما جاءت دعوة الإسلام عن محمد[: هذا الذي فرق جماعتنا! يقولون: فرق بين الأب وابنه, فإذا آمن الابن فارق أباه الكافر، وكذلك إذا آمنت الزوجة فارقت زوجها الكافر والعكس, فكانوا يرون أن دعوة محمد[ تفرق بين المؤمن والكافر, فالمؤمن الذي آمن بالله وعرف دينه واتقى ربه، هل يستوي والكافر الذي لا يعرف ربا ولا دينا ولا خلقا؟! فلا يستوي هذا وهذا, فهذا في الحياة الطيبة في الدنيا والجنة في الآخرة، وهذا في الشقاء والضلال في الدنيا، والعذاب في النار في الآحرة ، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} (الممتحنة: 1).
وقال سبحانه: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} (البقرة: 257).
فالله تعالى هو الذي فرق بينهم، فيجب علينا أن نفرق بينهم كما أمرنا سبحانه.
وبعد أن نزلت الأحكام الشرعية بالمدينة أيضا بينت مزيدا من الفروق بين معاملة المؤمن ومعاملة الكافر, في النكاح والمواريث والعدد ، والسلم والحرب، وغيرها، فهناك فروق واضحة بين هؤلاء وهؤلاء في الشرع, وهذه كلمة عظيمة لو أردنا أن نتحدث فيها لطال بنا المقام, وللإمام شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله كتاب في هذا الموضوع اسمه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" مطبوع متداول.





ابوالوليد المسلم 21-11-2021 08:29 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (10)




الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.

• الحديث السابع:

7282 – حدثنا أبو نعيم: حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن همام, عن حذيفة قال: يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا، فإن أخذتم يمينا وشمالا, لقد ضللتم ضلالا بعيدا.

الشرح :

الحديث السابع - حديث حذيفة الموقوف, حذيفة هو ابن اليمان، صحابي جليل من السابقين، صاحب سر رسول الله، رضي الله عنه وعن أبيه, فهو وأبوه صحابيان, قتل أبوه رضي الله عنه يوم أحد خطأ بأيدي الصحابة.

يروي البخاري -رحمه الله- من طريق شيخه أبي نعيم, واسمه الفضل بن دكين الكوفي، إمام مشهور ثقة حافظ، قال: حدثنا سفيان وهو ابن سعيد بن مسروق الثوري, قال: عن الأعمش، مر معنا واسمه سليمان ابن مهران الأعمش، وهو أحد القراء والثقاة المشاهير وكان فيه تشيع, والتشيع عند السابقين ليس كالتشيع في زماننا, فالتشيع عند السابقين يعني: إظهار المحبة لعلي وأهل بيته والتفضيل لهم، من دون طعن في الصحابة، فضلا عن الطعن في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أما من طعن في الصحابة فهو رافضي, ومن طعن في الشيخين فهو من غلاة الروافض, فهؤلاء لا يروى عنهم ولا كرامة.

وأهل الحديث اجتنبوا الرواية عن الرافضة؛ لأنهم ليسوا بأهل أن يروى عنهم, لكذبهم واختلاقهم للروايات ونفاقهم وطعنهم في الدين، لكن من كان فيه تشيع من الرواة قبلوا روايته، إذا سلم من الوهم والكذب؛ لأن هذا الخطأ اليسير الذي قد يخطئ فيه المسلم لا يسقط روايته، خصوصا إن كان إماما وحافظا للحديث، مما يجعل أهل الحديث يتسامحون معه.

عن إبراهيم, وإبراهيم هو ابن زيد النخعي، الإمام الثقة الفقيه المشهور، وله مذهب مشهور، يذكر في الكتب الفقهية فيقولون: هذا مذهب النخعي، فقد كان إماما في الفقه، عن همام وهو ابن الحارث بن قيس النخعي ثقة عابد, فالسند كله كوفيون.

عن حذيفة رضي الله عنه قال : «استقيموا يا معشر القراء « القراء : جمع قارئ، والمراد بهم العلماء بالقرآن والسنة والعباد, فحذيفة رضي الله عنه يخاطبهم فيقول: يا معشر القراء , يعني يا علماء المسلمين, ويا طلبة العلم , ويا أهل القرآن والسنة والطاعة والعبادة، استقيموا، يعني: اسلكوا طريق الاستقامة , والاستقامة هي التمسك بالقرآن والسنة بفهم سلف الأمة، قولا وفعلا وتركا.

كيف يكون التمسك بالقرآن والسنة قولا وفعلا وتركا؟

القول والفعل معروف , والترك هو أن تترك ما سكت عنه الكتاب والسنة، وأعرض عنه سلف الأمة, يعني: لا تحدث شيئا ليس له أصل في القرآن والسنة, فالقرآن والسنة مثلا سكتا عن شهر رجب، فلا تجعل في رجب عبادة ما أنزلها الله تعالى, ولا تخص رجبا بعبادة, لا بصيام ولا بقيام ولا بتجمع؛ لأن القرآن والسنة تركا هذا الشهر فلم يخصاه بشيء، فنتركه ولا نبتدع فيه عملا.

فهذا من الاستقامة التي يغفل عنها بعض المسلمين, ويظن أن من الاستقامة أن يكثر العبادة والطاعة دون مراعاة لضوابط الكتاب والسنة، ودون النظر إلى ما جاء في القرآن أو في السنة من الأعمال الصالحة المشروعة، وهذا يخالف الاعتصام بالكتاب والسنة؛ فإن من الاعتصام بالكتاب والسنة أن تسكت عما سكت الله تعالى عنه في كتابه، أو عما سكت عنه رسوله [, ولأن الباعث لهذه العبادات كان موجودا على عهد النبي [ ومع ذلك فلم يفعله، وكثرة الطاعات مطلوبة, لكن الله تعالى ورسوله أغفلاه.

وكذلك الأمر في غيره من الأعمال المخترعة كالاحتفال بالمولد والإسراء والمعراج والهجرة، فالصحابة رضي الله عنهم ما احتفلوا بمولده [، وما تجمعوا فيه واحتشدوا، أو سردوا الروايات في سيرته، أو قصوا القصص وأنشدوا الأشعار أو قاموا الليل، كل هذا ما فعلوه رضي الله عنهم أجمعين, وهم الذين لا يُسبقون في محبته [، والمسارعة للقيام بأمره وسنته.

فالاستقامة إذ: تمسك بالقرآن والسنة، وفهم سلف الأمة، قولا وفعلا وتركا.

قوله «استقيموا «: أي اسلكوا كما قلنا طريق الاستقامة، فإن فعلتم فقد سبقتم سبقا بعيدا، وهو بالفتح, ويروى بالضم: سُبقتم، فإن كان بالفتح «سَبقتم» يكون الخطاب موجها لمن أدرك الإسلام أو أوائل الإسلام من صحابة رسول الله [, أي أنتم يا معشر القراء قد سبقتم غيركم من الناس إلى الدخول في الإسلام والإيمان به, سبقتم غيركم من الناس إلى كل خير، وكل من جاء بعدكم لا يمكن أن يصل إلى ما وصلتم إليه؛ لأن الصحابة لا يدرك شأنهم في هذا المجال.

وإن كان بالضم «سُبقتم» فإنه يعني: أنتم يا معشر القراء قد سبقكم من كان قبلكم من المهاجرين والأنصار, ويمكن أن يقال أيضا: فقد ُسبقتم سبقا بعيدا إذا أنتم أخذتم بالكتاب والسنة وتمسكتم بهما، فقد سبقكم إلى ذلك من تقدمكم.

قوله: «فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا» أي: إن أخذتم عن الاستقامة يمينا وشمالا، فقد ضللتم ضللا بعيدا عن الصراط المستقيم، وفارقتم التقوى، وصرتم من الخاسرين.

وكلام حذيفة رضي الله عنه - كما يقول الشراح - مأخوذ من وصية الله سبحانه المذكورة في قوله تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأنعام : 153).

وجاء في حديث ابن مسعود: أن الرسول [ خط خطا مستقيما, وخط عن يمينه وشماله خطوطا صغارا, ثم قال: «هذا صراط الله، وهذه سبل الشيطان, على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153). وهذا الأثر: فيه الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين مضوا على الاستقامة، وماتوا أو استشهدوا بين يدي الرسول [ , وشهد النبي [ جنائزهم، أو ماتوا بعده على فرشهم، ولكن على الاستقامة التي يحبها الله تبارك وتعالى, فإن أردتم أن تكونوا مثلهم فاستقيموا كما استقاموا, أي: خذوا بالصراط المستقيم دون الالتفات للطرق يمينا وشمالا؛ فقد يزين الشيطان للسالك إلى الله سبحانه وتعالى طريقا من الطرق, ويقول له هذا طريق مختصر، وهين لين فاترك طريقك الذي تريده, اترك طريق السنة النبوية, أو اترك طريق السلف لأنه طريق طويل وشاق, وأما هذا الطريق فهو طريق مختصر ويفي بالغرض!!

ولكن في الحقيقة والواقع المشاهد أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم فقد ضل ضلالا بعيدا, وجنى على نفسه وعلى دعوته وعلى جماعته وأتباعه، وأدركه العذاب والتفرق والتشرد, وربما أصابه السجن والقتل والأذى الذي لا يطيقه، فرجع عن طريق التدين بالكلية كما سمعنا ورأينا، وكل ذلك بسبب مخالفته للسنة في دعوته إلى الله عز وجل، وفي سيره إلى ربه سبحانه.


نسأل الله عز وجل الثبات على الصراط المستقيم، وأن يعيذنا وإخواننا طرق الجهالة والبدع.






ابوالوليد المسلم 23-11-2021 11:19 AM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (12)




الشيخ.محمد الحمود النجدي




إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله .

ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية ، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته ، وتخسر أفراده ، ويضيع سدى . ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار ، كتاب : « الاعتصام بالكتاب والسنة « من صحيح الإمام البخاري ، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة .

الحديث التاسع:

7285,7284 – حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثتنا ليث, عن عقيل, عن الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة , عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستُخلف أبو بكر بعده , وكفر من كفر من العرب , قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله , فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه وحسابهم على الله . فقال: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة, فإن الزكاة حق المال , والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله [ لقاتلتهم علي منعه . فقال عمر]: فوالله ما هو إلا رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .

قال ابن بكير وعبد الله, عن الليث: عناقا, وهو أصح . (طرفه في 1399 , 1400) .

< الشرح:

الحديث التاسع حديث أبي هريرة ]: يرويه البخاري رحمه الله عن شيخه قتيبة بن سعيد أبو رجا البُغلاني الإمام الثقة، وقد مر معنا، قال: حدثنا ليث وهو ابن سعد الفهمي، إمام مصر في وقته , قال عن عقيل بضم العين، وهو ابن خالد الأيلي ثقة ثبت . عن الزهري محمد بن شهاب قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود الإمام الثقة الفقيه الضرير.

قال عن أبي هريرة ] قال: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف أبو بكر بعده, وكفر من كفر من العرب , قال عمر لأبي بكر «يقول أبو هريرة: لما توفي رسول [، واستخلف أبو بكر أي صار خليفة للمسلمين بعد النبي [, وكفر من كفر من العرب , قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله [ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله , فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله»

ظاهر هذا الحديث أن أبا هريرة رضي الله عنه شهد ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من محاورة وكلام.

والعرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم انقسموا إلى أربعة أقسام كما قاله الإمام ابن حزم وغيره:

1- قسم ثبتوا على دينهم، واستمروا على إيمانهم وإسلامهم وهم الأكثر .

2- وقسم بقوا على إسلامهم وصلاتهم، لكن امتنعوا عن أداء الزكاة، وقالوا: إن الزكاة كانت تدفع للنبي [؛ لأن الله يقول: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } (التوبة 103), والرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، فلا تدفع الزكاة لمن بعده .

3- قسم ارتدوا عن الإسلام بالكلية، ورجعوا إلى الكفر، كطليحة الأسدي وقومه , وسجاح وقومها في اليمن , وأكثر هؤلاء الذين ارتدوا عادوا للإسلام بحمد الله تعالى , فلم تمر عليهم السنة، إلا وقد عاد أكثرهم إلى الإسلام .

4- والقسم الرابع: قوم تربصوا، أي: وقفوا فلم يفعلوا شيئا، وانتظروا لمن تكون العاقبة والنهاية والنصر، للصحابة أو لغيرهم .

عند ذلك أمر الصديق الأكبر رضي الله عنه بتجهيز الجيوش لغزو هذه الطوائف والقبائل من العرب , أما من ارتد منها بالكلية فلا إشكال، وأما من بقي على الإسلام لكنه أبى دفع الزكاة ومنعها وقاتل عليها , فهاهنا استشكل عمر رضي الله عنه قتال هؤلاء، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله ويقيمون الصلاة، فقال لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قالوا لا إله إلا الله؟! والرسول [ يقول في حديثه: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله « أي: عصم نفسه وماله إلا بحقه، يعني: أنه لا يستحق العقوبة المالية أو العقوبة على النفس كما قال الله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ }(الأنعام: 151) .

وقوله: « وحسابه على الله « بمعنى: أن من أظهر لنا الإسلام فإن على المسلمين أن يقبلوا منه الإسلام ظاهرا، فإذا نطق بالشهادتين, وجب قبول ذلك منه, والكف عنه، وأمره إلى الله تعالى علام الغيوب، وعالم ما في الصدور، ولو أسر الكفر في نفسه، فإنما نحن نأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر .

فلما قال عمر رضي الله عنه ذلك لأبي بكر رضي الله عنه، قال أبو بكر: « والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة», ويروى: «لأقاتلن بين من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه , وفي رواية: «عناقا كانوا يؤدونه لرسول الله [ لقاتلتهم على منعه» .

وحجة أبي بكر أنه لا فرق بين الصلاة والزكاة فكلاهما من أركان الإسلام، فالشرع جاء بالتسوية بين الصلاة والزكاة , أي أن تارك الزكاة يستوي مع تارك الصلاة، فلماذا تفرق يا عمر بين تارك الزكاة وتارك الصلاة، والحق أنهما سواء، يعني من ترك الصلاة قاتلناه , ومن ترك الزكاة يجب أن نقاتله أيضا , فلماذا تفرق بينها وهما بمنزلة واحدة ؟!

ولا شك أن تارك الزكاة إن كان تركه على وجه الجحد والإنكار، فهذا كفر مخرج من الملة .

وإن كان منعه لها على وجه المعصية والبُخل، فإن هذا من كبائر الذنوب .

وكلاهما كان من حال طوائف من العرب، فطائفة منعوها بخلا ومنعا للحق، طائفة منعوها جحودا لفرضيتها بعد وفاة الرسول [, وفي الحالتين يجب قتال هؤلاء وهؤلاء، حتى يؤدوا الزكاة المفروضة , لهذا قال أبو بكر: «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله، لقاتلتهم عليه «والعقال: هو الحبل الذي يشد به البعير , هذا هو أصح الأقوال في تفسير العقال , وفي رواية أخرى «عناقا» والعناق: هي أنثى المعز الصغيرة .

وقد يسأل السائل فيقول: هل تؤخذ العناق في الزكاة ؟

قال العلماء: إن الغنم أو المعز إذا كانت كلها صغارا، تؤخذ منها الصغيرة , لكن إذا كان فيها الكبير والصغير، فإنه لا يؤخذ منها الصغير , وإنما يؤخذ الوسط , ومن أراد أن يرجع إلى هذا البحث فليرجع إليه، فقد ذكره أهل العلم في أبواب الزكاة .

وظاهر هذا: أن أبا بكر وعمر لم يكونا يعلمان بالرواية التي فيها ذكر فيها الرسول [: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فيما يحصل به عصمة الدم والمال، وهي رواية صحيحة رواها مسلم: من حديث أبي هريرة وغيره: أن النبي [ قال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» .

فلو كانت هذه الرواية الواضحة والحاسمة للخلاف معلومة لأبي بكر]، لما احتج على عمر بنفي الفارق فقط، والتسوية بين تارك الصلاة وتارك الزكاة , لأن عمر ] كان يوافق أبي بكر على قتال تارك الصلاة، لكنه أنكر عليه قتاله لتارك الزكاة , فهذه الرواية الصحيحة تبين أن من شهد الشهادتين قبل منه الإسلام , لكن يؤمر بعد ذلك ببقية الأركان , وطاعة الله تعالى ورسوله بتحريم ما حرم الله ورسوله، والقيام بما أوجب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه من الواجبات .

قوله: « فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق» قال عمر لما احتج عليه أبو بكر بذلك - أي بنفي الفارق بين تارك الصلاة وتارك الزكاة - أنه ظهر له صحة احتجاج أبي بكر بهذه الحجة، لا أن عمر قلده وتابعه دون حجة ! وإنما عمر لما احتج عليه بهذه الحجة وناظره بها أقرّ بها، وأنها حجة صحيحة.

< وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم:

أولا: جواز الاجتهاد في النوازل في الأمور الحادثة, وأن الاجتهاد في الأمور النازلة والحادثة يتم بالرجوع إلى الكتاب والسنة والفهم لهما .

فالمسلم إذا نزلت به نازلة أو سئل عن حادثة جديدة، عليه أن يجتهد بالرجوع إلى نصوص القرآن والسنة حتى يعلم حكم هذه الحادثة والواقعة هذا الذي يجب على من أراد أن يبحث عن حكم شرعي، ويجب أيضا على من أراد أن يناظر ويجادل غيره، أن يحتج بالكتاب والسنة وفهم السلف، في مناظرته وجداله .

ثانيا: أن الواجب على المناظر إذا ظهر له الدليل، وظهر له الحق من نصوص الكتاب والسنة، يجب عليه الاستجابة وعدم العناد , فإذا ظهر لك الدليل واتضحت لك الحجة، يجب عليك أن تقر وتوافق، لا أن تكابر وتعاند، لأن هذا خلاف الاعتصام بالكتاب والسنة .

ثالثا : يتجلى لنا في هذا الحديث أدب المناظرة الرفيع الذي كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أنهم كانوا يتناظرون بالنصوص الشرعية، لا بالأهواء ومجرد الآراء العارية عن الدليل .

فعمر لما احتج على أبي بكر، احتج عليه بحديث نبوي، ولم يحتج عليه برأي فقال له: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس .... الحديث» يعني احتج عليه بحديث ثابت صحيح

فهذا علم الصحابة, وهذا حالهم في المناظرة والاجتهاد والعمل , الرجوع إلى النصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية .

رابعا: أنه يجب اتباع الحاكم أو أمير المؤمنين في اجتهاده فيما لا نص فيه , فيقرر أهل العلم: أن الإمام أو الحاكم إذا اجتهد في أمر لا نص فيه، فإنه يجب على الأمة طاعته في اجتهاده، وأن لا تعصيه ولو كانت تخالفه في اجتهاده , بخلاف ما لو حكم بخلاف نص الكتاب والسنة , فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله, ففي هذه الحالة لا سمع ولا طاعة، لكن لو اجتهد الإمام أو الحاكم في أمر لا نص فيه واختار أحد الرأيين, فعند ذلك نصير إلى اجتهاده .

وأيضا الحديث يدل على أن من أظهر الإسلام قبل منه ذلك، وأجريت عليه أحكامه الظاهرة، وأوكلت سريرته إلى الله تعالى .

خامسا: ويدل الحديث أيضا على أن من ترك فريضة من فرائض الإسلام يجب أمره بها، وقتاله عليها إذا أصر على منعها أو تركها, وهذا مما لا خلاف فيه بين علماء الإسلام, بل حكى شيخ الإسلام ابن تيميه الإجماع على مشروعية قتال من منع الزكاة أو ترك الصلاة أو ترك الصيام أو أبى الحج إلى بيت الله أو غيرها من شعائر الإسلام، وكذا لو استباح محرما من المحرمات, كشرب الخمر أو الزنا أو الربا، أو الجمع بين الأختين أو الجمع بين المرأة وخالتها وما أشبه, فمتى تواطأ قوم واتفقوا على ترك فريضة، أو تواطئوا على فعل حرام، فإنه يجب قتالهم حتى ينتهوا عن ذلك، بخلاف ترك الواحد لفريضة أو فعله لحرام.

وقول البخاري في نهاية الحديث: قال ابن بكير - وهو يحي بن بكير المصري - وعبد الله وهو ابن صالح كاتب الليث - عن الليث «عناقا» وهو أصح, هذه إشارة من البخاري إلى الرواية الأخرى لهذا الحديث، التي رواها يحي بن بكير وعبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث, فالحديث هنا من رواية قتيبة بن سعيد عن الليث , وقتيبة قال في روايته قال: «والله لو منعوني عقالا» لكن رواية يحي ابن بكير الماضية في كتاب العلم، ورواية عبد الله بن صالح كاتب الليث كانت بلفظ «عناقا» قال وهو أصح, فالبخاري يرجح رواية يحي بن بكير وعبد الله بن صالح.


ابوالوليد المسلم 24-11-2021 10:39 PM

رد: شرح صحيح البخارى للشيخ محمد الحمود النجدي
 
شرح كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة" من صحيح الإمام البخاري (13)




الشيخ.محمد الحمود النجدي



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله.
ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، وتخسر أفراده، ويضيع سدى.
ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
• الحديث العاشر:
قال البخاري : 7286 – حدثني إسماعيل: حدثني ابن وهب, عن يونس, عن ابن شهاب حدثني عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر, فنزل على بن أخيه الحر بن قيس بن حصن وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته , كهولا كانوا أو شبانا, فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال سأستأذن لك عليه , قال ابن عباس فاستأذن لعيينة, فلما دخل قال: يا ابن الخطاب, والله ما تعطينا الجزل وما تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم بأن يقع به, فقال الحر: يا أمير المؤمنين, إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله ليه وسلم: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» وإن هذا من الجاهلين , فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه, كان وقافا عند كتاب الله (طرفة في: 4642) .
الشرح:
الحديث العاشر في هذا الباب حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، والذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم كما مر معنا بقوله: «اللهم علمه الكتاب».
يروي البخاري رحمه الله الحديث عن طريق شيخه إسماعيل وهو بن أبي أويس الأصبحي المدني, واسم أبي أويس: عبد الله، وإسماعيل بن أبي أويس , هو ابن أخت الإمام مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة, قال: حدثني ابن وهب وهو عبد الله بن وهب المصري ثقة إمام من أئمة أهل الحديث, وله تصانيف في الحديث, منها الجامع في الحديث «جامع ابن وهب» طبع أخيرا .
قال: عن يونس وهو ابن يزيد الأيلي, قال عن ابن شهاب وهو الزهري قال: حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهو ابن مسعود التابعي في الحديث السابق, أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وهو الفزاري, أسلم عام الفتح وأعطاه النبي [ من سهم المؤلفة قلوبهم, وكان مشهورا في الجاهلية بالشجاعة والجفاء , ولما مات النبي [ ارتد عيينة وافق طليحة الأسدي في ادعائه النبوة، فلما غلب المسلمون قوم طليحة في قتال المرتدين، فرّ طليحة، وأسر عيينة بن حصن فيمن أسر، فأتى به إلى أبي بكر فاستتابه، فتاب ورجع إلى الإسلام.
وفي الحديث هاهنا: أن عيينة بن حصن قدم المدينة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن الفزاري، والحر بن قيس مذكور في الصحابة، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله عنه، أي: كان من الطائفة التي كان يقرّبها عمر، وكان عمر يدني القراء, كما في قوله: «وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا» والقراء: هم العلماء والحفاظ والعباد, وكان العلماء هم أصحاب مجلس عمر, فانظر إلى من كان يجلس عمر رضي الله عنه إليه، كان يجلس إلى العلماء وحفاظ القرآن والحديث, هؤلاء هم أصحاب مشورته سواء كان هؤلاء العلماء شبانا أو كانوا شيوخا وكهولا, فإن العلم قد يؤتاه الشيخ الكبير في السن, وقد يؤتاه الصغير في السن أحيانا بمثابرته وقوة طلبه، وقوة حافظته وعزيمته.
وهذا يفيد أن الحر بن قيس كان من القراء، لأن ابن عباس يقول: وكان من النفر الذين يدنيهم عمر, ومن الذي يدنيه عمر؟ كان يدني القراء فهذا يشعر أن الحر كان منهم.
قوله: «فقال عيينة لابن أخيه - يعني الحر - قال يا ابن أخي: هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه» يعني هل لك موضع عناية عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه, أي: تدخلني عليه في خلوته, لأن عمر لم يكن يحتجب عن الرعية إلا وقت راحته وخلوته , فأراد عيينة أن يدخل على عمر بن الخطاب في وقت خلوته, ولاحظ أن عيينة قال تستأذن لي على هذا الأمير! ولم يقل على أمير المؤمنين, وهذا من جفائه وجهله, فقال الحر عند ذلك: سأستأذن لك عليه، أي: سأطلب لك موعدا تدخل عليه في خلوته.
قوله: «فاستأذن لعيينة فلما دخل قال يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل, ما تعطينا الجزل: يعنى ما تعطينا العطاء العظيم الكثير. «ولا تحكم فينا بالعدل!!», فلم يقل له أولا: يا أمير المؤمنين، ثم خاطبه بهذه المخاطبة التي لا تليق بمقام عمر رضي الله عنه ولا بعدله, ولا بفضله ولا بمكانته من الإسلام والمسلمين.
قوله: «فغضب عمر حتى هم أن يقع به» يعنى أن يضربه. وفي رواية «حتى هم أن يوقع به» يعني: يأمر من يضربه, وهذا الضرب تعزير من أجل التأديب، لأنه أساء الأدب إلى أمير المؤمنين, وقال له مالا ينبغي, ويجوز له أن يؤدبه لأنه بمنزلة الوالد للمسلمين, والوالد له أن يؤدب أبناءه إذا أساؤوا الأدب معه بالقول أو بالفعل.
قوله: فقال الحر يا أمير المؤمنين: إن الله قال لنبيه : {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وإن هذا من الجاهلين».
ذَّكر الحر بن قيس رضي الله عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذه الآية الكريمة من آخر سورة الأعراف، والتي يقول الله تعالى فيها لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199), أي: يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الجامعة لحسن الخلق، بأن يأخذ العفو من أخلاق الناس, يعني: أن يأخذ منهم ما سهل تناوله من أخلاقهم, وسمحت به نفوسهم، فلا تكلفهم فوق طاقتهم .
فالإنسان إذا أخذ العفو ومن أخلاق الناس العفو، فلم يكلفهم مالا يطيقون ، لم ينفروا عنه , لكن إذا كنت تكلف صديقك وصاحبك وزميلك شيئا لا يطيقه، وتطلب منه ما لا يقدر عليه، فإنه سينقطع عنك وينفر, وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «يسروا ولا تعسروا». وقوله: [: «إني بعثت معلما وميسرا ، ولم أبعث معنتا ولا متعنتا».
وقوله: {وأمر بالعرف} أي: بكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والأخلاق.
قوله: {وأعرض عن الجاهلين} وهذه أيضا من صفات أهل الإيمان، إنهم يعرضون عن أهل الجهل وأهل السفه، كما قال الله تعالى في آيات في كتابه يصف فيها عباده عباد الرحمن, يقول عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان : 63), وقال سبحانه وتعالى أيضا: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}(القصص : 55) .
خذ العفو وأمر بالعرف: يعني أؤمر بالمعروف, العرف هو المعروف والمعروف كل ما مدحه الشرع ومدح فاعله ومدح صاحبه فهو معروف, وأعظم المعروف هو توحيد الله تعالى, ثم أركان الإسلام الأربعة بعد الشهادتين, فالله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بمكارم الأخلاق , وأمته مأمورة بما أمر الله به نبيها [ ، من حسن المعاشرة مع الناس، والإحسان إليهم ومداراتهم والإغضاء عن هفواتهم وزلاتهم .
قوله: «قال فوالله ما جاوزها - يعني عمر رضي الله عنه لما سمع هذه الآية ما جاوزها – «وهذا من كلام بن عباس إذ يقول: وكان وقافا عند كتاب الله , فعمر رضي الله عنه لما ذكر بهذه الآية ما جاوزها، يعني ما عمل بغير ما دلت عليه بل لما ذُكر بالله فتذكر، وهذه حال المؤمن الذي يؤمن بكتاب الله تعالى ويتبع رسوله [ أنه إذا ذُكر تذكر وإذا نبه تنبه, فلا يعاند ولا يصر؛ لأن هذا خلاف صفة أهل الإيمان ، فإنهم وقافون عند كتاب الله متبعون كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور: 51). ويقول عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (الأحزاب: 36).
هذه حال أهل الإيمان , أما حال أهل النفاق فالله تعالى يقول عن المنافقين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (النور: 48) «هذا حال أهل النفاق إذا دعوا إلى الله وإلى كتاب الله وسنة رسوله وكلامه: {إذا فريق منهم معرضون} أما المؤمن فإنه وقاف عند كتاب الله لا يتجاوزه .
ومصيبة المسلمين اليوم أنهم يقرؤون ويعلمون، ولكنهم لا يعملون؟! إلا من رحم الله.
وقال العلماء والدعاة: مصيبة المسلمين اليوم من أمرين اثنين:
الأمر الأول : الجهل : فهناك قسم كبير من الأمة جاهل لا يعلم أمر الله تعالى ونهيه ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ونهيه ، فهو جاهل يعيش في عماية , هذا حال كثير من المسلمين اليوم .

والأمر الثاني : أن كثيرا من المسلمين اليوم يعلمون ولا يعملون , يعلم أن الله حرم عليه الربا , ولكنه يأكل الربا ويقترض ويتبايع بالربا.
فالمرأة تعلم مثلا أن الله أوجب عليها الحجاب, لكنها لا تلتزم بالحجاب, الرجل يعلم أن الله حرم الغش والربا ولكنه يغش ويتعامل بالربا، وهكذا, فالدين ضائع بين جهل طائفة، وعصيان طائفة أخرى، ومن يعلم أشد ذنبا ممن لا يعلم، إذ فيه شبه من قول أهل الكتاب سمعنا وعصينا؟!

فعمر رضي الله عنه وصفه ابن عباس بأنه كان وقافا عند كتاب الله تعالى, لا يمكن أن يتجاوز الآية إذا تليت عليه أو يتجاوز الحديث إذا ذكر به, وهذه والله هي خصلة أهل الإيمان المعتصمين بنصوص الكتاب والسنة التي مدح الله تعالى بها عباده المؤمنين.







الساعة الآن : 02:04 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 114.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 114.21 كيلو بايت... تم توفير 0.51 كيلو بايت...بمعدل (0.45%)]