ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   من بوح قلمي (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=72)
-   -   أبناء مترفيها (قصة) (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=271559)

ابوالوليد المسلم 27-11-2021 03:59 AM

أبناء مترفيها (قصة)
 
أبناء مترفيها (قصة)
حميد بن خيبش






كعادته منذ أن غادر سلك الجندية، يصرُّ "با عُمر" على أن يكون النِّظام سيد كل حركة وسكنة في الضيعة، هناك، حيث يبدِّد الحاج ضجره من المدينة وأهلها، يبدو كل شيء متناسقًا ومُغريًا بالدعة؛ الشجيرات مرصوصة مثل كتيبة في ساحة الحرب، والأُصص الطينية تحرس مداخل البيت وشرفاته الثلاث في رونق يحرِّك غيرة جيرانه من المُلاك، ولا يحدث تغيير ملحوظ في الإيقاع اليومي للضيعة إلا حين يطرقها الحاج ليلًا بمفرده، فمُنيته التي ينشدها هنا هي النوم بسلام حتى توقظه جراء "لايكا"، كلبته المدللة التي كاد صهره المَخمور يدهسها بعد مشادَّة بذيئة مع زوجته! "لايكا" تحفظ له قدرًا من الوفاء لا يُبديه أبناؤه إلا حين يردُّهم شباك المصرف على أعقابهم مفلسين!

لا يُخفي با عمر تبرمه من أبناء الأغنياء، إنهم مجرد كائنات رخوة لا تُطيق حر الشمس أو لسعات البرد القارس، همُّ الواحد منهم لا يعدو اللهو بحاسوبه، وحضور الحفلات الصاخبة! ما قيمة المرء إن لم يتصبَّب جبينه عرقًا وهو ينحت بصبرٍ سلَّم مجده في صخرة الحياة؟ ودَّ مرارًا لو يُفصح للحاج عن امتعاضه مما يَحدث في الضيعة نهاية كل أسبوع: خمر، وصخب، وأغانٍ بذيئة، وصَغيرات يَعبثْن بالترتيب العسكري للحديقة.

أنت مجرد حارس حقير، إن لم يرُقك ما يجري هنا فاحزم أمتعتَك وعُد إلى الثكنة لتنعَمَ بلدغِ العقارب!

امتدَّت الكف الخشنة لتصفع خدًّا ناعمًا وتُلقي بالغلام أرضًا! هي الكف ذاتها التي لوَّحت مُهدِّدة بالذبح كل من يجرؤ على العبث بأغراضه الخاصة مذ كان تلميذًا في الصف الرابع، والكف التي استلَّت خَنجرًا وهمَّت بطعن ضابط بعد سيل مِن الشتائم القذرة التي لوثت نسبه الموقر.

"لا يُمكنك العيش إلا وكفُّك مغلولة إلى عنقك!" بهذه الكلمات شيَّعه رفاقه بعد استدعائه من لدن المحكمة العسكرية، ثمَّ العزل من سلك الجندية في ظرف قياسي؛ لأن احترام الرتب العليا مقدم على عزة نفسه.

كرامة الجندي سلاحه، والسلاح لا يُشهَر إلا في وجه عدو!

أمضى ليلته أرقًا وهو يَستعرض سيناريوهات الغد، الحاج رجل عركته السنون، وسيتفهَّم الأمر، لكن، ماذا لو أصرَّ على التنكُّر لكل ما أبداه مِن تفانٍ وقرَّر طرده؟ ألن يكون من الأجدى ترك الكفِّ تُقرِّر بدلًا عنه؟ لاح أمام ناظريه مرأى الحاج وهو يتوسَّل بعد أن أمسكت الكف بياقة قميصه، عيناه جاحظتان وقلبه المنهك يَخفق بشدة.

قرَّر أن يعتذر، لكنه لن يسمح بكلمة واحدة تقلب موازين العدل.

غلام طائش ومزهوٌّ بثروة أبيه لا يحق له أن يتطاولَ على مَن أفنى عمره مُرابطًا في الصحراء.

لو يعلم أمثاله ما يفعله لهيب الصحراء وليلها المُوحش بمن يَحرسون أمن الوطن للحس تراب قدمَيه.

تفنى الأعمار في الثغور متوجِّسة كل ليلة مِن طلقة بندقية طائشة أو لغم ناسف، بينما لا ينشغل هو وأقرانه بغير العلف والسُّكْر واللهو بالصَّغيرات.

هل حقًّا نحرس الوطن، أم نَحرُس ترفهم ونذالتهم؟
لاح مِن شقوق النافذة بياض الفجر، فصبَّ جام لعناته على الشيطان، ثمَّ قام ليتوضأ ويُباشر دوره في تحويل مجرى الساقية إلى الأخاديد التي تَروي الشجيرات وأحواض الخضر.

انساب الماء كأُفعوان بين الشجيرات، ومعه انسابت ذكريات با عمر، عيناها وهي تُسلم الروح بعد حادثة دهس مروعة تطرقان منامه كلما انحل رباط جأشه:
عِدْني أن تكف عن رعونتك! زينب "بنت الناس" وستشدُّ مِن أزرك حين يتقوَّس الظهر!

سيارة دفع رباعي يَجلس خلف مقودها ابن مدلَّل لأحد المترفين ألقت بجسدها النحيل لأمتار عديدة، تم تكييف المحضر مع الوضع الحساس للوالد المُترف، فكانت مصاريف الدفن وخيمة العزاء تعبيرًا عن الامتنان للجندي الباسل المؤمن بالقضاء والقدر! كم يُحسن هؤلاء المترفون العبث حتى بمصائبنا!

بكى يومها كما لم يَبكِ رجل من قبل، لم يكن جزعًا كما خُيِّل لمن هبوا للنجدة أو الفُرجة، بل تكفيرًا عن حصص اللطم والركل وكسر الضلوع، بكى لأنَّ لحمها ظل لسنوات إسفنجًا يمتصُّ غضبه ويأسه، وما إن تهدأ ثائرته حتى تُسارع لاحتضانه وحثه على لعن الشيطان الذي يَفرح إذا خبا في قلب المؤمن سراج الأمل!

حوَّل مجرى الماء إلى الضيعة المجاورة، ثمَّ ألقى بمعوله في المرآب.


بدا الغلام المترف متردِّدًا وهو يهمُّ بالخروج، أعاد الهاتف الجوال إلى جيب سترته وألقى ببضع كلمات وهو يَرمقه خلسة:
أبي يَطلُب منك أن تُرسل له ما يوجد في قن الدجاج من بيض هذا الصباح.

تلقَّف الكلمات ببرود، ثمَّ انحنى على سلَّة مهترئة في الجوار وألقاها باتجاهه:

تولَّ جمعَه بنفسك!



الساعة الآن : 11:16 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 8.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 8.45 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (1.10%)]