ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=105)
-   -   النبوغ (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=280611)

ابوالوليد المسلم 17-08-2022 07:22 PM

النبوغ
 
النبوغ


مصطفى لطفي المنفلوطي





الكتاب: النظرات.
المؤلف: مصطفى لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ).
الناشر: دار الآفاق الجديدة.
الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ - 1982م.
عدد الأجزاء: 3.

مِن العجز أن يزدريَ المرء نفسَه فلا يقيمَ لها وزنًا، وأن ينظرَ إلى مَن هو فوقه من الناس نظَرَ الحيوانِ الأعجم إلى الحيوان الناطق، وعندي أن مَن يُخطئ في تقدير قيمته مستعليًا، خيرٌ ممن يُخطئ في تقديرها متدلِّيًا؛ فإن الرجلَ إذا صغُرَتْ نفسُه في عين نفسِه، يأبى لها مِن أحواله وأطوارِه إلا ما يُشاكِل منزلتَها عنده، فتراه صغيرًا في عِلمه، صغيرًا في أدبِه، صغيرًا في مُروءته وهمَّتِه، صغيرًا في ميولِه وأهوائِه، صغيرًا في جميعِ شؤونِه وأعماله، فإن عظُمَت نفسُه عظُم في جانبِها كلُّ ما كان صغيرًا في جانبِ النفس الصغيرة.

ولقد سأَل أحدُ الأئمة العظماء ولَدَه وكان نجيبًا: أيَّ غاية تطلُبُ في حياتِك يا بني، وأيَّ رجلٍ من عُظماء الرِّجال تحبُّ أن تكونَه؟ فأجابه: أحبُّ أن أكونَ مِثلَك، فقال: ويحك يا بني! لقد صغُرَتْ نفسُك، وسقَطَت هِمَّتك، فلتبكِ على عقلِك البواكي، لقد قدرتُ لنفسي يا بني في مبدأِ نشأتي أن أكونَ كعليِّ بن أبي طالب، فما زِلتُ أجدُّ وأكدَح حتى بلغت المنزلةَ التي تراها، وبيني وبين عليٍّ ما تعلَمُ من الشأوِ البعيد، والمَدى المستحيل، فهل يسُرُّك وقد طلبتَ منزلتي أن يكونَ ما بينَك وبيني مِن المَدى مِثْلَ ما بيني وبين عليٍّ.

كثيرًا ما يُخطئ الناسُ في التفريقِ بين التواضُع وصِغَر النَّفْس، وبين الكِبْر وعلوِّ الهمَّة، فيحسَبون المتذلِّل المتملِّق الدنيءَ متواضِعًا، ويسمُّون الرجلَ إذا ترفَّع بنفسِه عن الدنايا، وعرَف حقيقةَ منزلتِه من المجتمع الإنساني متكبِّرًا، وما التواضعُ إلا الأدبُ، ولا الكِبْر إلا سوءُ الأدب؛ فالرجل الذي يلقاك متبسمًا متهللاً، ويُقبِل عليك بوجهه، ويُصغي إليك إذا حدَّثتَه، ويزُورُك مهنئًا ومعزِّيًا، ليس صغيرَ النفس كما يظنون، بل هو عظيمُها؛ لأنه وجَد التواضعَ أليقَ بعظَمةِ نفسِه فتواضَع، والأدبَ أرفَعَ لشأنه فتأدَّب.
فتًى كان عَذْبَ الرُّوحِ لا مِن غَضاضةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولكِنَّ كِبْرًا أنْ يُقالَ به كِبْرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فإن بلَغ الذلُّ بالرجُل ذي الفضل أن ينكسَ رأسَه للكُبَراء، ويترامى على أيديهم وأقدامِهم لَثْمًا وتقبيلاً، ويتبذل بمخالطة السُّوقَة والغوغاء بلا ضرورةٍ ولا سببٍ، ويُكثِر من شَتْم نفسِه وتحقيرِها، ورميِها بالجهل والغباوة ليكونَ متواضعًا، ويُبَصبِص برأسه بَصبصة الكلبِ بذَنَبِه ليكون متأدِّبًا، ويجلس في مدارجِ الطُّرق جِلسةَ البائس المتسوِّل، ويمشي مِشيةَ الخائف المُبلس - فاعلَمْ أنه صغيرُ النفس، ساقط الهِمَّة، لا متواضِعٌ ولا متأدِّبٌ.

إن علوَّ الهمة إذا لم يُخالِطْه كِبْر يُزري به، ويدعو صاحبه إلى التنطُّع، وسوء العِشرة - كان أحسَنَ ذريعةٍ يتذرَّع بها الإنسانُ إلى النبوغ في هذه الحياة، وليس في الناس مَن هو أحوجُ إلى علوِّ الهمَّة من طالب العلم؛ لأن حاجةَ الأمَّة إلى نبوغه أكثرُ مِن حاجتها إلى نبوغِ سواه مِن الصانعين والمحترفين، وهل الصانعون والمحترِفون إلا حَسنةٌ مِن حسناته، وأثَرٌ من آثاره، بل هو البحرُ الزَّاخر الذي تستقي منه الجداولُ والغُدْرانُ.

فيا طالبَ العلم، كُنْ عاليَ الهمَّة، ولا يكُنْ نظرُك في تاريخِ عظماء الرجال نظَرًا يبعثُ في قلبِك الرهبةَ والهيبة، فتتضاءلَ وتتصاغَرَ كما يفعل الجبانُ المستطار حينما يسمعُ قصةً من قصص الحروب، أو خُرافةً من خرافات الجِنِّ، وحذارِ أن يملِك اليأسُ عليك قوتَك وشجاعتك، فتستسلمَ استسلامَ العاجز الضعيف, وتقول: مَن لي بسُلَّم أصعَدُ عليه إلى السماء حتى أصلَ إلى قُبَّة الفَلَك، فأجالس فيها عظماءَ الرِّجال.

يا طالب العلم، أنت لا تحتاج في بلوغك الغايةَ التي بلَغها النابغون من قَبلِك إلى خَلْق غيرِ خَلْقك، وجوٍّ غير جوك، وسماءٍ وأرض غيرِ سمائك وأرضك، وعقلٍ وأداة غيرِ عقلك وأداتك، ولكنك في حاجة إلى نفسٍ عالية كنفوسهم، وهمة عالية كهِمَمهم، وأملٍ أوسعَ من رقعة الأرض، وأرحبَ مِن صدر الحليم، ولا يقعُدَنَّ بك عن ذلك ما يهمِسُ به حاسدوك في خَلَواتِهم مِن وصفِك بالوقاحةِ أو بالسَّماجة، فنِعْمَ الخُلُق هي إن كانت السبيلَ إلى بلوغ الغاية؛ فامضِ على وجهِك، ودَعْهم في غَيِّهم يعمَهون.

جناحانِ عظيمانِ يطير بهما المتعلمُ إلى سماء المجد والشرف: علوُّ الهمة، والفَهم في العلم، أما علو الهمة فقد عرَفتَه، وأما الفهمُ في العلم فإليك الكلمة الآتية:
العِلم علمان؛ عِلم محفوظ، وعِلم مفهوم، أما العلم المحفوظ فيستوي صاحبُه فيه مع الكِتاب المرقوم، ولا فَرْقَ بين أن تسمعَ من الحافظِ كلمة، أو تقرأَ في الكتاب صفحة، فإن أشكل عليك شيءٌ مما تسمع، فانظُرْ إن نطَق الكتابُ بشَرْح مشكلاته، نطَق الحافظُ بتفسير كلماته.

الحافظ يحفَظُ ما يسمع؛ لأنه قويُّ الذاكرة، وقوة الذاكرة قدرٌ مشترك بين الذَّكيِّ والغبي، والنَّابهِ والأبله؛ لأن الحافظةَ مَلَكة مستقلَّة بنفسها عن بقية الملَكات، وإنك لترى الشيخَ الفاني الذي لا يميِّزُ بين الطفولة والهَرَم، والذي يبكي على الحلوى بكاءَ الطفل عليها، ويرتعدُ فَرَقًا إذا سمِع ابنته تُخيف طفلها بأسماء الشياطين، يسرد لك من تواريخِ شبيبتِه وكهولته ما لو دوَّنْتَه لكان تاريخًا صحيحًا ضخمًا مملوءًا بالغرائبِ والنوادر، وقيل لأحدِ العلماء: إن فلانًا حفِظ متنَ البخاريِّ، فقال: لقد زادت نسخةٌ في البلد.

ذلك هو السرُّ العظيم في كثرةِ المتعلِّمين وقلة العاملين؛ لأن مَن فهِم معلومًا من المعلومات حقَّ الفهم أُشرِبَتْه رُوحُه، وخالط لحمَه ودمَه، ووصل من قلبه إلى سويدائِه، وكان إحدى غرائزِه لا يرى له بدًّا من العمل به، رضِي أم أبى.

لولا أن العلمَ الدِّيني اليوم علمٌ محفوظ، لَمَا وجدتَ في العلماء مَن يجمع بين اعتقاد الوحدانية والتردُّد على أبوابِ الأحياء والأموات في مزاراتهم أو في مقابرهم يسأَلُهم المعونة والمساعدة على قضاء الله وقدره، ولا وجدتَ بين الذين يحفَظون قولَه تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ﴾ [الأعراف: 188]: مَن يُسند النفعَ والضرر إلى كل مَن سال لعابه، وتمزَّق إهابه، ولا وجدتَ في الناس كثيرًا مِن ضعفاء العزيمة الذين يحفَظون ما ورد على ألسنةِ النبوَّة والحِكمة مِن مَدْحِ الفضائل وذمِّ الرذائل، ثم لا تجد فَرْقًا بينهم وبين العامَّة في ارتكابِ المنكَرات، والنفور من الصالحات.

لو كان العلمُ المحفوظ عِلمًا - وهو على ما نُشاهد ونعلم مِن سوء الأثرِ وقلَّة الجدوى - ما ورَد مدحُ العِلم في كتاب ولا سنَّة، ولا قدَّسه كاتبٌ، أو ترنَّم بمَدْحه شاعر، فإذا سمعتَ ذِكر العِلم فاعلَمْ أنه العِلم المفهوم لا المحفوظ، وإذا أردتَ أن تلقِّبَ بالعالِم، فلا تلقِّبْ به مَن يحفَظُ، بل من يفهَمُ ما يحفظ، وآيةُ فَهم المعلوم تأثُّرُ العالِم به, وظهورُه في حركاته وسكناته، وتَرَقْرقُه في شمائلِه تَرقرُقَ الصهباء في وجهِ شاربها، ولا تثِقْ بالحافظ فيما ينقُلُ إليك، فربما مر بالمعلومِ محرَّفًا فأخَذه على علاَّتِه، وأقبَحُ ما عرفنا مِن أطواره أنه يجمعُ في حافظته بين النقيض ونقيضِه، والغثِّ والسمين، والجيِّد والزائف, فكأن ذاكرتَه حانوتُ عطارٍ اختلطت فيها الأدويةُ الشافية بالعقاقير السامَّة.


وجملة الأمرِ أن الحافظ البحتَ لا رأيَ له في مبحث، فيُسأَلَ عن مذهب، ولا أثَر لمعلوماته في نفسِه فيُقتَدى به، ولا ذوقَ له في الفهم، فيُعتَمَدَ على شرحِه وتأويلِه.


أما العِلم المفهوم فهو الواسطةُ التي إذا جمع المتعلم بينها وبين علوِّ الهمةِ طار إلى المجدِّ بجَناحين، وكان له سبيلٌ مختَصَر إلى منزلةِ العظماء، ودرجة النابغين، والعِلم سلسلة طويلة، طرَفاها في يدي آدَمَ أبي البشَرِ، وإسرافيلَ صاحب الصُّور[1]، ومسائلُه حلقاتٌ يصنَعُ كلُّ نابغة من نوابغ العلماء منها حلقةً، ولن يبلغ المتعلِّمُ درجة النبوغ إلا إذا وضَع في العِلم الذي مارسه مسألةً، أو كشَف حقيقة، أو أصلَح هفوة، أو اخترَع طريقة، ولن يسلس له ذلك إلا إذا كان عِلمُه مفهومًا لا محفوظًا، ولا يكون مفهومًا إلا إذا أخلَص المتعلم إليه، وتعبَّد له، وأنِس به أُنْسَ العاشق بمعشوقه، ولم ينظُرْ إليه نظر التاجرِ لسِلعته، والمحترف إلى حِرفته؛ فالتاجر يجمَعُ من السِّلع ما يَنفُقُ سوقُه، لا ما يغلو جوهرُه، والمحترف لا يُهمُّه مِن حِرفته إلا لقمةُ الخبز وجرعة الماء، أحسَن أم أساء.


لا يزُورُ العِلم قلبًا مشغولاً بترقُّب المناصب، وحساب الرَّواتب، وسوق الآمال وراء الأموال، كما لا يزور قلبًا مقسمًا بين تصفيف الطرَّة، وصَقْل الغرَّة، وحُسْن القَوام، وجمال الهُنْدام، وطول الهُيَام بالكأسينِ؛ كأسِ المُدامِ، وكأسِ الغَرَامِ.


[1] المراد أن العلومَ لا يتم تدوينها ولا تنحصر مسائلُها ما دامت العقول تُفكِّر؛ فالعمل دائبٌ فيها من ابتداءِ الدُّنيا إلى انتهائِها.








الساعة الآن : 03:14 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 12.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 12.69 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.73%)]