ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الإنشاء (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=76)
-   -   كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=78640)

أم عبد الله 24-07-2009 11:56 AM

كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
سيماهم في وجوهم

د. عائض بن عبد الله القرني

أم عبد الله 24-07-2009 11:57 AM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله البشير النذير ، والسراج المنير صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :
فإن من العقائد المقررة في الإسلام : حب الصحابة من المهاجرين والأنصار ،والذين اتبعوهم بإحسان ، واعتقاد فضيلتهم وصدقهم ، والترحم على صغيرهم وكبيرهم ، وأولهم وآخرهم ، وصيانة أعراضهم وحرماتهم ، فذلك أمر ضروري ، وهو أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها ، وضبط حقوقها ، والأخذ على يد من هتكها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في مجمع الحج : (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهر كم هذا في بلدكم هذا فليبلغ الشاهد الغائب ))(1) .
فهتك عرض مسلم والجناية عليه عظيم عند الله ورسوله والمؤمنين وهو من كبائر الذنوب ومن التشبه بالمنافقين وأعظم منه غمس الالسنه والأقلام في أهل العلم ومحاولة إسقاط قدرهم بأوهام من هنا وهناك والإيغال بالدخول في نياتهم ومقاصدهم والصد عن سبيلهم والاستخفاف بهم.
فهم خير الناس للناس ، وأفضل تابع لخير متبوع ، وهم الذين فتحوا البلاد بالسنان والقلوب بالإيمان ، ولم يعرف التاريخ البشري منذ بدايته ، تاريخا أعظم من تاريخهم ،ولا رجالا دون الأنبياء أفضل منهم ولا أشجع ، ومن داخله ش في هذا ، فلينظر في سيرهم على ضوء الأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة ، يرى أمرا هائلا من حال القوم وعظيم ما آتاهم الله من الإيمان والحكمة والشجاعة والقوة .
وحين ضن غيرهم بالنفس والمال ، واستثقلوا مفارقة الأهل والولدان ، استرخصوهما في إقامة الدين وتمكين الأمم والشعوب من العيش في آمن ورغد تحت حكم الإسلام ، فلا كان ولا يكون مثلهم ، فهم غيظ الأعداء ، وأهل الولاء والبراء ، وأنصار الدين ، ووزراء رسول رب العالمين .
وقد اصطفاهم الله لصحبة نبيه ونشر دينه ،فأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ،ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ،ومن جور أهل الطغيان إلى عدل الإسلام ، وعلى أيديهم سقطت عروش الكفر ، وتحطمت شعائر الإلحاد ، وذلت رقاب الجبابرة والطغاة ، ودانت لهم الممالك ،
وقد اتفق أهل العلم على انهم خير الناس بعد الأنبياء ؛ فقد جاء في الحديث عن عبد الله رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( خير الناس قرني ... ))(2) . وافضل الصحابة : أبو بكر ،ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم أجمعين ،وأدلة هذا كثيرة وعامة أهل العلم عل هذا ، وقد جعل الله جل وعلا بقاء الصحابة أمنة للأمة ، فإذا ذهب قرنهم وانقرض جيلهم حلت بمن بعدهم الفتن ، وظهرت البدع ، وفشا الجور والفساد . ففي (( صحيح مسلم ))(3) عن أبي موسى قال : صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء ، قال : فجلسنا فخرج علينا فقال : (( ما زلتم ههنا ؟ )) قلنا : يا رسول الله ، صلينا معك المغرب . ثم قلنا : نجلس حتى نصلي معك العشاء ، قال : (( أحسنتم أو أصبتم )) قال : فرفع رأسه إلى السماء ، وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء فقال : (( النجوم أمنة للسماء ، وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء فقال : (( النجوم أمنة للسماء ، فإذا هبت النجوم الله تعالى السماء ما توعد ، وأنا امنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أمتي ما يوعدون )) .
وهذا دليل على فضلهم ، وعظيم ما دفع الله بهم من البدع والفتن والجور والفساد ، فلا جرم أن جعلهم الله وزراء نبيه وحزب خليله .
قال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه : ( إن الله ينظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد ، فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد فجعلهم الله وزراء نبيه يقاتلون على دينه )(4).
وقال ابن أبي حاتم : ( فأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل ، وعرفوا التفسير والتأويل ، وهم الذين اختارهم الله عز وجل لصحبه نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته ، وإقامة دينه وإظهار حقه ، فرضيهم له صحابة ، وجلهم لنا أعلاما وقدوة ، فحظوا عنه صلى الله عليه وسلم ما بلغهم عن الله عز وجل ،وما سن وما شرع ، وحكم وقضى ، وندب وأمر ونهى وأدب ، ووعوه وأتقنوه ففقهوا في الدين ، وعلموا أمر الله ونهيه ، ومراده بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهم منه واستنباطهم عنه ، فشرفهم الله عز وجل بما من عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة ، فنفى عنهم الشك والكذب ، والغلط والريبة ، والغمز ، وسماهم عدول الأمة ، فقال عز ذكره في محكم كتابه : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } (البقرة: من الآية 143) ففسر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز ذكره قوله : {وسطا } قال : (( عدلا )) ، فكانوا عدول الأمة وأئمة الهد وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة . وندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فقال : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}(النساء: من الآية 115) (5).
فمن انطوت سريرته على محبتهم ، ودان الله تعالى بتفضيلهم ومودتهم ، وتبرأ ممن أضمر بغضهم ، فهو الفائز بالمدح الذي مدحهم الله تعالى فقال {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر:10) .
وأما من سبهم ، وانتقص منهم ومن قدرهم ، وحكم على أكثرهم بالردة ، وزعم انهم بدلوا وغيروا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
وها نحن هنا نجلي شيئا من فضائلهم ، ونذكر بعضا من مآثرهم ، مع إيراد بعض الأخبار عن مجموعة منهم ، ثم من سار على منهجهم ، وسميت كتابي هذا : ( سيماهم في وجوههم )) تيمنا بالآية الكريمة ، راجيا الرب تعالى أن يسلكني في سبيلهم ، وأن يحشرني معهم ، وأن يلحقنا بهم في دار الكرامة ، وللصحابة خصائص وصفات فاقوا بها من بعدهم ، وجاوزوا بها غيرهم ، فما هي هذه الخصائص التي فضلوا بها على غيرهم ؟
بلغ الأشواق والحب الصحابة *** سادة القوم وأرباب النجابه
هم حماة الدين أبطال الردى *** بل غيوث البذل بل آساد غابه
حبهم دين ومن يبغضهم *** ربنا في ناره الآخر أذابه
ذب عن أعراضهم إن كنت من *** ضربهم لا تعتدي كل ذبابه
وأطلب الآثار منهم إنهم *** علماء الدين فتواهم أصابه


(1) رواه البخاري [67] ومسلم [1679] عن أبي بكرة ، رضي الله عنه .

(2) رواه البخاري (2652) ، ومسلم (2533)

(3) رقم (2531) .

(4) رواه الإمام احمد [3791] عنه وسنده حسن

(5) انظر كتاب ( الجرح والتعديل )) (1/7).



أم عبد الله 24-07-2009 11:57 AM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
فمن خصائص هذا الجيل :
1- أن الله زكاهم ، ومن بعدهم فإنه يحتاج إلى من يزكيه ، فلا نحتاج معهم لكلام العالم يحيى بن معين ، ولا لأبي حاتم ، ولا لابن حبان ، بل لكلام الله عز وجل ، وهو يزكي أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح: من الآية 29)
فهو صلى الله عليه وسلم مع أصحابه مزكون طاهرون ، زكاهم الله في التوراة والإنجيل ، ثم زكاهم في القرآن ، والله عز وجل قد تكفل بتطهيرهم وتزكيتهم .
وان ابن مسعود ، رضي الله عنه و أرضاه ، يقول عليكم بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد أصفاها وأتقاها ، ثم نظر في قلوب الناس فوجد قلوب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أصفى القلوب وأتقاها فاختارهم لصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم .
يقول سبحانه وتعالى :{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(التوبة:88).
والذين جاهدوا معه ، هم : أصحابه ، قتلوا بين يديه ، وقطعوا في بدر وفي أحد لرفع لا إله إلا الله .
وتستمر التزكية العاطرة من الواحد الأحد في كتابه {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً }(الحشر: من الآية 8) . هذا وصف المهاجرين ، خرجوا من مكة ، طردتهم الجاهلية فهم صورة ناصعة .
فمنهم : صهيب بن سنان ، رضي الله عنه وأرضاه ، أخرجوه وطاردوه بالسلام فقال للمشركين : دعوني ، وخذوا كل مالي ، فقبلوا وتكروه ووفد صهيب على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكل صهيب أسى ، وكله جوع ، وله ظمأ ، وكله سهاد، لكن في سبيل الله ، فلما رأى وجهه صلى الله عليه وسلم قال : (( ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى )) ، فانزل الله المبايعة فقال : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة:207) .
وأتى مصعب بن عمير ، ترك لحافه الوثير ، وفراشه الدافئ ، وذهبه وفضته لأمه المشركة العجوز ، فلما رآه صلى الله عليه وسلم دمعت عيناه ، وقال : (( والذي نفسي بيده لقد رأيت مصعبا من أغنى أهل مكة )) ثم ترك ذلك كله لله ، ومع ذلك ما كفى مصعبا : أن يترك أمواله ودوره وسكنه ، بل زاد على ذلك بأن قطع جسمه في أحد ، فأتي ببردة لتكون كفنه ، فكانوا إذا غطوا رآه بدت رجلاه ، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه ، فبكى صلى الله عليه وسلم مرة آخر عند هذا الجثمان .
قال سبحانه وتعالى : {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}( الحشر : من الآية 8 ).
هذه ميزة للصحابة {وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، أولئك هم الصادقون .
ثم التفت الخطاب إلى الأنصار {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (الحشر: من الآية 9).
قال تعالى : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح:18) .
قال أهل التفسير : فعلم ما في قلوبهم من الإخلاص .
وقال غيرهم فعلم ما في قلوبهم من الحب لله .
والصحيح : علم ما في قلوبهم من الخير .
يقول بعض الأدباء : كأني بالصحابة ،أي مشاعر عاشوها ؟ يسمعون نداء الله من فوق سبع سماوات يقول لهم {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ويقول سبحانه : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ }(التوبة: من الآية 100).
من لي بمثل سيرك المدلل *** تمشي رويدا وتجي في الأول
الأولون ، يوم الفقر والعوز ، يوم الشدة ، يوم التهديد ، يوم تقف الجاهلية كلها ضد الرسول صلى الله عليه وسلم ، يوم تهدده الكرة الأرضية ، تهدده اليهودية والنصرانية والصابئة والمجوس ، فيقف معه أبو بكر وعمر ، والصفوة الأولى .
قم يقول سبحانه وتعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأنصار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:100) وهو خير من فوز الدنيا وما فيها .
أما الأحاديث في فضلهم ، رضوان الله عليهم ، فكثيرة . منها ما جاء من حديث عمران بن الحصين ، رضي الله عنهما ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )).
فهم خير القرون أبدا ، ومن طعن فيهم فهو علامة البدعة والرجس والخبث والهوى ، علامة الجهل بأمر الله سبحانه وتعالى .
وثبت من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تسبوا أصحابي ، لا تسبوا أصحابي ، فإن أحدكم لو انفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )).
وفي الحديث : (( الله الله في أصحابي ، لا تتخذوا أعراضهم غرضا ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن ابغضهم فببغضي ابغضهم )).
ولذلك عقد البخاري في الصحيح ( باب ) : آية الإيمان حب الأنصار .. وآية النفاق بغض الأنصار .
فمن خاف في إعراض الصحابة أو تعرض لهم ،فواجب تأديبه ، والأخذ عل يديه ، وهو سفيه ، لأن الله تعالى مدحهم وأثنى عليهم وزكاهم .
وثبت في (( صحيح مسلم )) عن عروة قال : قالت لي عائشة : يا ابن أختي ، أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم .
قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر:10) .
قال ابن تيمية : لا يجوز أن يدفع الفيء إلى الرافضة ؛ لأنهم لم يقولوا { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ } (الحشر: من الآية 10) .
وقال صلى الله عليه وسلم ، وهو يرفع طرفه إلى السماء : (( النجوم آمنة السماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمنة لأصحابه من الفتن . ولذلك لم تظهر البدع إلا بعد موتهر صلى الله عليه وسلم ، والصحابة أمنة للأمة لما حموله من الآثار ، وما صدقوا فيه من الأخبار ، ولما قدموا فيه الانتصارات الباهرة .
وعن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : من كان مستنا فليستن بالميت ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة .
قال بعض الشعراء يمدح أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم :
وقاتلت معنا الأملاك في أحد *** تحت العجاجة ما حادوا وما انكشفوا
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا *** إياك نعبد من سلسألها رشقوا
أملاك ربي بماء المزن قد غسلوا **** جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلم الله من أوس شهيدهم *** من غير ترجمة زيحت له السجف

2- من الخصائص : أنهم يهتمون بأعمال القلوب أكثر من اهتمامهم بأعمال الجوارح ، لا لأنهم مقصرون في أعمال الجوارح ، لكن ليسوا كتقصير الأجيال الحالية يوم اهتمت بأعمال الجوارح وتركت أعمال القلوب ، إلا من رحم الله ، فتجد في المتأخرين من يهتم بأمر السنة في الظاهر فيطلق لحيته ، وهذا لابد منه ،ويقصر ثوبه ، وهذا لابد منه، وتجده يتفنن في إيراد السنة على مظهره ، ولكن قلبه محشو من الكبر والعجب والرياء والحسد .
فأما الصحابة فقد صفى الله قلوبهم من هذه الأمراض فلا تجد منهم حسدا ولا كبرا ولا رياء ؛ لأن الله اصطفاهم مخلصين ، وصفاهم سبحانه وتعالى بالمحن والزلازل والفتن إلى درجة أن جعلهم عبادا له خلصا ، رضوان الله عليهم .
عن قتادة قال: سئل ابن عمر هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون ؟
قال : نعم ، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال .
كانوا يضحكون كما يضحك الناس ، وكانوا يتمازحون ، ولحياتهم بساطة ويسر وسهولة .
لكن إذا وصلت التضحية قدموا رؤوسهم على أياديهم ، وسلوا سيوفهم في سبيل الله .
وهذا أمر يفوت الكثيرين ، حتى تجد الناس يتكلمون في الأمور الظاهرية ، بينما يتركون الأمور الباطنية التي هي من أعمال القلوب . فانك الآن لو سمعت بشارب خمر لقامت الدنيا وقعدت ،ولم تسكن ، بينما يوجد في الناس من يحسد ، ومن يتكبر على عباد الله ، لا يفعل الكبائر الظاهرة ، فيبدو عند الناس من أهل الصلاح .
فالصحابة كانوا مجردين له في بواطنهم ، قد أخلصوها للواحد الأحد .
قيل لابن عمر ، رضي الله عنهما ، وهو محرم : ألم تسمع ما يقول هذا الشاعر – شاعر يتغنى وهو محرم ؟
قال : ماذا يقول الشاعر ؟
قالوا : يقول :
قف بالطواف ترى الغزال المحرما *** حج الحجيج وعاد يقصد زمزما
لو أن بيت الله كلم عاشقا *** من قبل هذا كاد أن يتكلما

فهذا حاج محرم ،رأى هذه الجميلة فضيع الأركان والطواف والسعي ، وأخذ يتغزل !
قال ابن عمر : سبحان الله ! والله الذي لا إله إلا هو ، ما دخلت الحرم إلا ونسيت الدنيا .
3- من الخصائص : سلامتهم النفاق العملي والاعتقادي ، فلا تجد صفات المنافقين فيهم ؛ مثل : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان ، وإذا خاصم فجر ، وإذا عاهد غدر .
بينما تجد من يقوم الليل في المتأخرين ، أو من يصوم الاثنين والخميس ، أو من يقرا القرآن ويختمه كل أسبوع ،أو من يكثر من التسبيح ، توجد فيه بعض هذه المسائل ، فالصحابة خصهم الله بان برأهم من النفاق الاعتقادي والعملي .
قال ابن أبي ملية : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول : انه على إيمان جبريل وميكائيل .
فخوف الصحابة من النفاق لعلهم مبرئين منه .
أما المتأخرون فتجدهم يبرئون انفهم بأنفسهم ، حتى تجد الواحد منا إذا قلت : بأنك منافق غضب وأرعد ، وقد يكون منافقا حقيقيا لكن مع ذلك لا يرضى بهذا ، ويغضب عليك ، حتى يقول الحسن : ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق .
والمعنى : ما خاف النفاق إلا مؤمن ، فإذا رأيت الرجل يخاف من الرياء ، ويخاف النفاق ، ويخاف أن يكون مشركا ، فاعلم انه قريب من الله ، إما من يأمن من مكر الله فهو مخذول لا محالة .
وفي الحديث أن عمر ، رضي الله عنه و أرضاه ،قال لحذيفة بن اليمان: يا حذيفة ، أسالك بالله أسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ؟
قال : لا ، ولا أزكي أحداً بعدك .
4- ومن الخصائص : جهدهم المنقطع النظير في الدنيا ، قد يأتي أفراد في الدنيا يكونون في الزهد على درجة عالية ، لكن الزهد الجماعي الذي عاشه الصحابة، والتخلي عن ملذات الدنيا ، وطلب رضوان الله عز وجل ، وطلب ما عند الله عز وجل أمر عظيم ، وفي حديث أبي هريرة المشهور ، قال : صليت المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف الناس تعرضت لعمر بن الخطاب ما بي إلا الجوع ، الجوع الشديد الذي كان يصيب أبا هريرة ، حتى يقول : والذي نفي بيده لقد كنت اصرع بين المنبر وبين بيت الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة الجوع ، فيظن الناس أن بي مسا من الجنون !
قال : فتصديت لعمر فسألته عن الآيات من أواخر سورة آل عمران فتلاها .
قال : فتصديت لأبي بكر وسألته عن الآيات .
قال : اعرفها ، فتلاها علي
فخرج صلى الله عليه وسلم فتصدى له أبو هريرة ، فسأله عن الآيات من آخر سورة آل عمران ، فضحك صلى الله عليه وسلم ، ثم اخذه بيده ودخل على إحدى زوجاته .
فقال : أعندكم طعام .
قالت لا ، إلا شيء من لبن أرسله لنا بنو فلان من الأنصار .
قال : يا أبا هريرة ،أطلق إلى أهل الصفة فتعال بهم .
قال أبو هريرة لنفسه :ماذا يصنع هذا اللبن مع أهل الصفة ؟ وهم فقراء بالعشرات في المسجد ، وماذا يبقى لي ، قال : فاخذوا أماكنهم.
قال صلى الله عليه وسلم : (( يا أبا هريرة ، خذ الكوب وناول الناس )) ، فيأخذ الإناء يملؤه ويعطيهم واحدا واحداً ، حتى رووا من اللبن .
قال : (( يا أبا هريرة ، بقيت أنا وأنت )) .
قال : صدقت ، يا رسول الله .
قال : (( اشرب )) .
والرسول صلى الله عليه وسلم يبتسم .
فشرب ، قال: (( زد )) ، فشرب ، قال : ( زد)) ،فشرب قال : (( زد )) .
قال : والذي نفسي بيده ، يا رسول الله ، لا أجد له مسلكا .
رأى ابن عمر رفقة من أهل اليمن ، رحالهم الجلود الممزقة القديمة ، فقال : من أحب أن ينظر إلى شبه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هؤلاء .
وعن عائشة قالت : مات أبو بكر فما ترك دينارا ولا درهما ، وكان قد أخذ قبل ذلك ماله فألقاه في بيت المال .
وفي سيرة أبي بكر ، رضي الله عنه : انه ترك بغلة وثوبين ، فدفعهما إلى عمر ، وكتب له سطرين ، قال : يا عمر ، قد وليتك امر أمة محمد ، فاتق الله ، لا يصرعنك الله مصرعا كمصرعي .
فلما وصلت عمر جلس يبكي ، ويقول : أتعبت الخلفاء بعدك ، يا أبا بكر .
وفي (( كتب السير )) أن سعد بن أبي وقاص لما فتح المدائن وجد المائدة الكبرى ؛ مائدة انو شروان ، مائدة مرصعة بالذهب والزمرد واللؤلؤ والدر .
فحملوها على الرؤوس ، ووضعوها على جمل ، وأرسلوها لعمر .
فلما رآها عمر بكى ، وقال : والذي نفسي بيده ، إن رجالا بلغوها اياي لأمناء .
فهذا زهدهم ، رضي الله عنهم ، الذي ميزهم عن غيرهم .
5- من الخصائص : علم اليقين ، فهم ارفع من كل الطبقات والقرون بعلم اليقين أي : انهم يعبدون الله بعلم اليقين ،فالواحد منهم في الصباح يذهب إلى المعركة ، ويقول لأهله : استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
قالوا : تعود إلينا ؟
قال : والله ، لا أعود ، أريد جنة عرضها السماوات والأرض .
ابن رواحة يقول له الصحابة : يا ابن رواحة عد لنا بالسلامة .
قال لا ، لا أريد أن أعود .
قالوا : لماذا ؟
قال :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة *** وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي *** يا ارشد الله من غاز وقد رشدا

ذكر عن علي ، رضي الله عنه وأرضاه ، انه قال : والذي نفسي بيده لو كشف الله لي الغطاء ما زدت على ما عندي من إيمان حبة خردل .
ونحن عندنا الظن ، يعني : نصدق بأن هناك جنة ، لكن أعمالنا وتطبيقنا وصلاحنا لا يدل على هذا .
ومن الناس من وصل إلى حال مناقض لحال الصحابة ، فلم يعد يبصر إلا المادة .
يقول أحدهم وهو المتنبي
خذ ما رأيت ودع شيئا ودع شيئا سمعت به *** في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
أي : تعجل شهوات ، ويقول آخر :
لبست ثوب العمر لم استشر وتهت فيه بين شتى الصور
فما أطال النوم عمرا ولا *** قصر في الأعمار طول السهر
يقول : اشرب ، وكل ، واعص الله ، فانك لا تدري ما النتيجة تخرج ، أو لا تخرج من هذه الدنيا !!
فالصحابة كانوا يعبدون الله على علم اليقين .
6- من الخصائص اهتمامهم باجتماع الكلمة ، ونبذ الفرقة فإن الله سبحانه وتعالى ذم الخلاف ، ونهى عن التفرق ، فقال )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )(آل عمران: من الآية 103) ، وقال سبحانه وتعالى : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105) ، فالصحابة كانوا يحرصون على اجتماع الكلمة ، وكانوا نصحة .
فعن سليم بن قيس العامري ،قال : سأل ابن الكوا – أحد الخوارج – عليا عن السنة والبدعة ، وعن الجماعة والفرقة .
فقال : يا ابن الكوا ، حفظت المسالة ، فافهم الجواب : السنة ، والله ، سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، والبدعة ما فارقها ، والجماعة ،والله ، ما اجتمع عليه أهل الحق ، وان قلوا ، والفرقة ما فارق ذلك ، واجتمع عليه أهل الباطل .
وجاء رجل إلى علي ، رضي الله عنه ، فقال : يا ابن أبي طالب ، أتدري أن أولئك على باطل وأنت على حق ؟
قال : ويل ، اعرف الحق تعرف أهله ، ولا تعرف الحق بالرجال .
فكانوا يحرصون على اجتماع الكلمة .
ومن ذلك : ما جاء عن قتادة قال : لما بلغ ابن مسعود أن عثمان صلى بمنى أربعا استرجع ،ثم قام فصلى أربعا .
فقيل له استرجعت ثم صليت أربعا .
قال : الخلاف شر ، الخلاف شر .
فكانوا ، رضي الله عنهم ، احرص الناس على الائتلاف ونبذ الفرقة .

أم عبد الله 24-07-2009 11:58 AM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
7- من الخصائص : أنهم أهل السنة والجماعة أهل التضحيات الكبرى ، فبالله لا تذكر للناس سجلي ، ولا سجلك فيما قدمنا للإسلام ، فلي عندنا شيء .
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
فليس لنا سجلات من العمل الإسلامي ، كالصحابة رضوان الله عليهم ، لكن الصحابة يكفيك أن تنظر لترجمة الواحد منهم لترى التضحيات .
قالوا : حضر إحدى وعشرين غزوة ، وقالوا عن الثاني : وقطعت يده في اليمامة .. وقالوا عن الثالث : قتل أبناؤه الأربعة في القادسية ، فكل منهم كما قال النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

8- من الخصائص : إنهم كانوا لا يتكلفون في كل أمورهم ، فلا كلفة في الملبس ولا كلفة في الأكل والشرب والمعيشة ، ويأتي على رأس ذلك ترك التكلف في مسائل العلم .
فلم يكونوا يتعنتون في البحث ، والتنقير عن كل مسالة ، إلا ما ينفعهم فيدنياهم وأخراهم .
أما غيرهم فقد انشغل بالقول وترك العمل ، انشغل بالتنقيب عن قضايا تضحك أصحاب العقول . قديما وحديثا .
فقديما ، بحثوا عن لون كلب أهل الكهف ! وبحثوا عن ألوان الطيور التي ذبحها إبراهيم عليه السلام !
هذه بعض خصائص الصحابة ، رضوان الله عليهم ، ولهم أمور معطرة أخرى ذكرها الله في كتابه ، وذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم واهل العلم ، لكن معي ومعك شيء واحد أذكرك به .
يقول صلى الله عليه وسلم : (( المرء يحشر مع من أحب ))(6).. وإنا نحن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ، ولم نعمل بعملهم ، اللهم فاشهد أنا نعلم إننا لم نعمل كأعمال أصحاب رسولك صلى الله عليه وسلم ، ولم نبذل كبذلهم ، ولم نصدق كصدقهم ، ولم نضح كتضحيتهم ، لكن يا رب نحبهم .. يا رب نحبهم .. يا رب نحبهم .
أسالك أن تنفعنا يوم العرض الأكبر بهذا الحب ، وأن تحشرنا معهم بهذا الحب ، وأن تجمعنا بهم في جنات ونهر ،في مقعد صدق عند مليك مقتدر بهذا الحب ، فالأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين .


د. عائض بن عبد الله القرني
الرياض

(6) رواه البخاري (6167) ، ومسلم (2639) عن انس بن مالك ، رضي الله عنه .



أم عبد الله 24-07-2009 11:58 AM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
سيماهم في وجوههم

وهؤلاء ثمانية نماذج من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ الذين أعلنوا إسلامهم ، وهداهم الله من الضلالة وبصرهم من العمى ، و أخرجهم من الظلمات إلى النور {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}(الجمعة:2){أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسلام فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية 22) {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسلام وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}(الأنعام : من الآية 125) {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30) {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء:101)
{لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} (الأنبياء:102).

هؤلاء الثمانية الأبطال : أناس عاشوا الشرك والكفر والوثنية ، ثم هداهم الله ، فأسلموا وآمنوا :
1- عمير بن وهب المفاجأة الكبرى.
2- الطفيل بن عمرو الدوسي الداعية العملاق .
3- عمرو بن العاص مكسب للإسلام.
4- ثمامة بن أثال بطل المغامرة.
5- ضمام بن ثعلبة صاحب المسائل العقدية .
6- عبد الله بن سلام شاهد من بني إسرائيل .
7- عكرمة بن أبي جهل الراكب المهاجر.

*********************************************

عمير بن وهب
أما عمير بن وهب ، فقد كان وثنيا مشركا ، لا يعرف الله ، بل كفر بلا إله إلا الله محمد رسول الله .
أسلم كثير من كفار قريش ، أما هو فأبى أن يسلم .
قتل أقاربه في بدر ، فاجتمع هو وصفوان بن أمية عند البيت العتيق ، والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة لا يعلم عنهما شيئا ، لكن الله تعالى يعلم .
اجتمعوا تحت الميزاب ،وتشاوروا في مناجاة ؛ لا يسمعهم ثلاث إلا الله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } (المجادلة: من الآية 7) .
قال عمير لصفوان : وددت أن أحداً يكفل أهلي ومالي ، وأذهب إلى محمد في المدينة فأقتله .
فقال صفوان : أنا اكفل اهلك ، وأقوم بأطفالك : الدم دمي والهدم هدمي .
قال : فاكتم هذا الأمر .
قال : أكتمه.
قال : فإني ذاهب إلى محمد ، وأقول للنا : إني أريد الاسارى ، يعني : أرى أهل بدر ، وكانوا سبعين اسيرا في المدينة ، ولا تخبر أحداً .
لكن علام الغيوب الذي لا يخفى عليه خافية علم .
ذهب عمير بن وهب ، فأخذ سيفه فسمه بالسم الأزرق ، حتى اصبح السيف ازرق من السم .
وخرج يمضي في الليل ، ووصل إلى المدينة قبل الغروب ، فرآه عمر بن الخطاب ، وعمر قد أوتي فراسة الإيمان ، يلتقط بعينه الشياطين من رؤوس الملاحدة .
فقال للصحابة : إني أرى الشيطان متقمصا هذا الرجل ، يعني : عمير بن وهب ، فأقبل عمر منه ، وقال : إلى أين يا عمير ؟
قال عمير : أتيت الأفادى الاسارى من محمد .
فمسكه بقميصه ، وثيابه ، وأخذ يقتاده إلى محمد صلى الله عليه وسلم رهينة .
السيف مع ذاك ، لكن الله مع عمر ، والموت مع ذاك . ولكن الحق مع عمر .
فأخذه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده سلاح ، وعمير معه سيف مسموم ، ولكن :
عناية الله أغنت عن مضاعفة *** من الدروع وعن عال من الاطم
قال صلى الله عليه وسلم : (( يا عمير ، ماذا جاء بك ))؟
قال : أتيت من أجل قرابة لي أسرتهم يوم بدر أفاديهم .
فقال صلى الله عليه وسلم : (( لا ، والذي نفسي بيده ، إنك جلست أنت وصفوان بن أمية ليلة كذا في يوم كذا تحت ميزاب الكعب فقلت لصفوان : وددت إني اقتل محمدا لكن أهلي وأطفالي ، فقال لك صفوان : اذهب وأنا أكفيك الأطفال ، فسممت سيفك شهرا ، ثم أتيت لتقتلني ، وما كان الله ليسلطك على ذلك )).
فقام عمير وقال : اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله(7) {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} (الطور:15) ؟.
أكهانة هذه ، أم هو الحق الصراح ؛ الذي أتى به الوحي مع جبريل عليه السلام {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}(لنجم:1)
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}(لنجم:2) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (لنجم:3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (لنجم:4)
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (لنجم:5) .

وفي قصة عمير دروس :
وقال ابن عمر : كنا نتحدث أن السكينة تنزل على لسان عمر .
الثاني : علم الله وسعته {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام:59)
الثالث : معجزة له صلى الله عليه وسلم ، وقد علمه الله .
الرابع : أن من ادعى علم الغيب ، فقد كذب إلا الأنبياء والرسل {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل:65)
الخامس : فضيلة لعمير ؛ لأنه عندما علم الحق أذعن له وأسلم ، ولم يكابر ، فأصبح بطلا من أبطال الإسلام .

(7) أنظر القصة في (( الإصابة )) (6053 ).



أم عبد الله 24-07-2009 12:03 PM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
الطفيل بن عمرو
أما العلم والبطل الثاني فهو الطفيل بن عمرو الدوسي : وهو من دوس زهران ، من السراة سمع بالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ، فركب جمله ، وأخذ متاعه ، ولبس ثيابه.
وكان الطفيل شاعرا مجيدا ، وخطيبا فصيحا ، يعرف جزل الكلام من ضعيفه .
وصل إلى مكة ، ولكن الدعايات المغرضة ضد الرسول صلى الله عليه وسلم تتحرك من المشركين لتشويه سمعة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالقول المريض ، والتعليقات المرة .
دخل مكة ، فلقيه كفار قريش .
فقالوا : إلى أين يا طفيل ؟
قال : أريد هذا الذي يزعم انه نبي
قالوا : ما أشبه ذلك تريد ؟
قال : أريد أن اسمع كلامه ، إن كان حقا اتبعته ، وإن كان باطلا تركته .
قالوا : إياك وإياه ، إنه ساحر ، انه شاعر ، انه كاهن ، انه مجنون ، أحذر لا تسمع كلامه .
قال الطفيل : فوالله ، ما زالوا بي يخوفونني حتى أخذت القطن فوضعته في اذني .
لكن الحق أقوى من القطن ، والقران ينفذ من خلال القطن إلى القلب .
قال : ودخلت الحرم يوما ، والقطن في أذني لا اسمع شيئا .
لكن أراد الله عز وجل أن يفتح أذنيه ؛ لأن بعض الناس له أذنان وعينان وقلب ، لكن كما قال سبحانه : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (لأعراف:179)
أتى فرأى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : فلما رأيت وجهه عرفت انه ليس بوجه كذاب .
لو لم تكن فيه آيات مبينة *** لكن منظره ينبئك بالخير
وجه الكذاب تعرفه ، ووجه الخمار تعرفه ، ووجه تارك الصلاة تعرفه ، وهكذا وجه المصلي والصادق تعرفه ، وأصدق الصادقين وخير الناس أجمعين : محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الطفيل : فسمعته صلى الله عليه وسلم يقرأ ، لكن لا اسمع ؛ لأن في أذني القطن ، فقلت لنفسي : عجبا لي ، أنا رجل شاعر فصيح ، اعرف حسن الكلام من قبيحه ، لماذا لا أضع القطن ، فإن سمعت الكلام طيبا وإلا تركته ؟!
فوضع القطن ، وهذه هي الخطوة الأولى .
وبدأ صلى الله عليه وسلم يقرأ آيات القرآن .
فلما سمع الكلام وقع في قلبه .
هل يستطيع ملحد ، إن كان عنده عقل أن يسمع {طه} (طـه:1) {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} (طـه:2) {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (طـه:3)
ولا يؤمن ؟
من يستطع أن يسمع {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (قّ:1){بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} (قّ:2) ولا يسلم ؟
قال : فلما سمعت الكلام ، تقدمت ، وقلت : عم صباحا ، يا أخا العرب.
هذه تحية جاهلية ، وهي ملغاة عند محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا تقبل .
وقد كانت تقال في الجاهلية : عم صباحا ، ولذلك يقول امرؤ القيس :
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي *** وهل يعمن من كان في الأعصر الخالي
فقال صلى الله عليه وسلم : (( أبدلني الله بتحية خير من تحيتك )) .
قال : وما هي ؟
قال : (( أبدلني الله بتحية خير من تحيتك )) .
قال : وما هي ؟
قال : (( السلام عليكم ورحمة الله )) .
ما أحسن الكلام !
فقال : السلام عليكم .
فرد عليه .
قال : من أنت ؟
قال : (( أنا رسول الله )) .
قال : من أرسلك ؟
قال : (( الله )) .
فقال الطفيل : إلى ماذا تدعو ؟
فأخبره وقرا عليه شيئا من القرآن .
قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله (8).
ثم قال : يا رسول الله ، أنا من دوس ( هو سيد قبيلة دوس ) .
فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعود داعية إليهم .
فعاد داعية إلى دوس ؛ فلما وصل إليهم قال : هدمي من هدمكم حرام ، ودمي من دمكم حرام ، حتى تؤمنوا بالله ، فكفروا ، وأعرضوا ، وغلبهم الزنا .
فأتى مرة ثانية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله ، غلب على دوس الزنا ، وكفروا بالله ، فادع الله عليهم ، يا رسول الله . أي : أن يسحقهم ويحطمهم ، ويجعلهم شذر مذر .
لكن محمدا صلى الله عليه وسلم كان كما قال الله : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران: من الآية 159) {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128)
فرفع يديه صلى الله عليه وسلم ، يريد أن يدعو لهم ، فظن الطفيل انه يدعو عليهم .
فقال الطفيل : هلكت دوس .
فقال صلى الله عليه وسلم : (( اللهم اهد دوسا وائت بهم ، اللهم اهد دوسا وائت بهم ، اللهم اهد دوسا وائت بهم ))(9).
ثم قال : يا طفيل ، اذهب إلى دوس ، فادعهم إلى الإسلام ، ومن ألم معك ، فقاتل به من كفر ، فذهب ، وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل له آية .
فسال له فوقع نور في جبهته يضيء له في الليل .
أضاءت لهم أحابهم ووجوههم *** من الليل حتى نظم الجذع ثاقبه
قال : يا رسول الله ، أخشى أن يقولوا : في مثلة ( أي : مرض ) فادع الله أن يحول عني هذا النور ، فحوله إلى العصاء ، فكان إذا رفع العصا أضاءت له جبال زهران .
فلما وصلهم ، كانوا قد تهيؤوا بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال: (( أدعوكم إلى لا إله إلا الله محمد رسول الله )) ، ثم أراهم الآية .
فاسلموا جميعا ودخلوا في دين الله أفواجا ، فسبحان من يهدي .
وأتى بهم ، رضي الله عنه وأرضاه ، في موكب عظيم ، ود
ودخل بهم بعد الهجرة إلى المدينة في جيش عرمرم ، حتى ثار الغبار من رؤوسهم ، وكلهم ف يميزان الطفيل .
وكان من حسناته : أبو هريرة ،صاحب الحديث ، وأستاذ المحدثين في الإسلام ، وابر حافظ في الأمة المحمدية ، والراوية العملاق ، رضي الله عنه و أرضاه .
واستمر الطفيل يدعو ، ويجاهد ، وكان قد باع نفه من الله ، حتى قتل في اليمامة شهيدا {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}(الفجر:27)
{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (الفجر:28)
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (الفجر:29)
{وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر:30)
وفي قصة إسلام الطفيل دروس :
أولها : أن تحية أهل الإسلام : (( السلام عليكم )) ولا تستبدل بغيرها .
الثاني : أن على الداعية أن يعرض القرآن ، ولا يستبدل به في دعوته كلاما آخر .
الثالث : أن على الداعية ألا يستعجل ، وان يكون حليما صبورا ، واسع الصدر ، لعل الله أن يهدي به .
الرابع : أن الله أيد رسوله صلى الله عليه وسلم بمعجزات .
الخامس : إثبات أهل السنة للكرامات التي للأولياء ، فإن من كرامات الأولياء : ما وقع للطفيل .
السادس : أن من دعا إلى خير ، والى هدى ، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، وبالعكس : من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه إلى يوم القيامة
السابع : أن الله تعالى يكرم عباده بالشهادة ، وقد أكرم الطفيل بذلك .

(8) أنظر القصة في (( سيرة ابن هشام )) (1/382).

(9) متفق عليه



أم عبد الله 24-07-2009 12:04 PM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
عمرو بن العاص

أما الرجل الثالث ، فهو عمرو بن العاص داهية العرب : الذي كان إذا رآه عمر بن الخطاب ، قال : رمينا ارطبون الروم بارطبون العرب .
كان عمرو بن العاص دقيقا قصيرا ، لكن كله عقل وذكاء يتوقد .
وجاء عن عمر انه كان إذا رآه يقول : ليس لأبي عبد الله أن يمشي إلا أميرا .
روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( بنو العاص مؤمنان عمرو وهشام )) والحديث هذا صحيح(10) .
تأخر في الإسلام ، رضي الله عنه و أرضاه ، فرافقه إلى المدينة عثمان بن أبي شيبة ؛ من بني عبد الدار وخالد بن الوليد ، فلما اقتربوا من المدينة ، قال عمرو لهم : دعوني حتى أقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن لي ذنوبا اعتذر منها .
فتركوه .
فاقبل عمرو ، فلما رآه صلى الله عليه وسلم هش وبش في وجهه ، وقام له فأجلسه بجانبه .
قال : يا رسول الله ، أريد أن اسلم ابسط يدك لأبايعك .
فبسط يده صلى الله عليه وسلم ، فقبض عمرو يده .
قال صلى الله عليه وسلم : (( ما لك يا عمرو )) ؟
قال : اشترط .
قال : (( ماذا تشترط )) ؟
قال : اشترط أن يغفر الله لي ذنبي .
قال : (( أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما قبله وان التوبة تجب ما قبلها )) ؟
قال عمرو : فأسلمت ، فوالله الذي لا إله إلا هو ، ما كان أحد احب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما ملأت عيني بعد الإسلام منه إجلالا له ، والله لو سألتموني الآن أن أصفه ما استطعت أن أصفه.
فاسلم ، وأصبح من دهاة الناس ، عظيما من العظماء ، ينفع الله به هذا الدين ، ويقود كتائب المسلمين .
وله مواقف مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
في ترجمته أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يتألفه في أول أيام الإسلام ، فخطب صلى الله عليه وسلم فكان ينظر إلى عمرو ولا ينظر إلى الناس يتألفه بالنظر .
قال عمرو : فتوهمت إني أفضل الناس .
فلما انتهت الخطبة قلت : يا رسول الله من أفضل – ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيقول : عمرو بن العاص !..
قال : (( أبو بكر )) .
قال : ثم من ؟
قال : (( عمر )).
قال : ثم عدد رجالا ، فوددت أن الأرض خسفت بي(11).
قال عمرو : أرسلني صلى الله عليه وسلم في غزوة فأتيت لأتهيأ ، وهو يتوضأ صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أنا لا أريد المال أريد الجهاد في سبيل الله ، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال : (( يا عمرو نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح ))(12).
وصح انه خرج في غزوة ، وكان قائدا على ابي بكر وعمر ، وعلى أمثالهما من الصحابة ، فأصابته جنابة في ليلة شاتبة .
فترك الماء ، لأنه ما استطاع أن يغتسل به فتيمم وصلى بهم .
فشكوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
فقال صلى الله عليه وسلم : (( يا عمرو أصليت بأصحابك جنبا )) ؟
قال : يا رسول الله إن الله يقول :{ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: من الآية 29) يفتي بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ! .
فتبسم صلى الله عليه وسلم وسكت (13).
والتبسم عند أهل الحديث : إقرار ، فإذا تبسم صلى الله عليه وسلم ، وسكت فسكوته : إقرار ، : اقره على ما فعل ، رضي الله عنه وأرضاه .
وفي إسلامه دروس :
أولا : أن التوبة تهدم ما قبلها من الذنوب والخطايا ، ولو كانت كالجبال إذا كانت صادقة نصوحا ، وأن الإسلام يهدم ما قبله من الخطايا فلا يعاتب العبد إذا أحسن على ما فعل في الجاهلية .
الثاني : أن علي الداعية أن يتألف القلوب بنظرة أو كلمة حانية .
الثالث : المبايعة بالأيدي ، وأنها سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم
الرابع : حبه صلى الله عليه وسلم وما كان له من منزلة في قلوب الصحابة .
الخامس : أن الناس يوزنون بميزان قوله – سبحانه وتعالى -:{أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الاحقاف:16)
السادس : أن الإنسان يقدر ببلائه في الإسلام .
السابع : أن الدهاء يستخدم لإعلاء كلمة الله ، ولا باس به ، وإذا استخدم لإضرار المسلمين فهو خبث ونكاية ونفاق ، والعياذ بالله .

(10) صحيح ، رواه أحمد (2/304 ، 327) ،والبخاري في (( التاريخ الكبير )) (6/303) ، والنسائي في (( فضائل الصحابة )) (195) ، والحاكم (3/268) ، والطبراني في (( الأوسط )) (7/28) ، وابن أبي عاصم في (( الأحاد والمثاني ))(2/99) ، جميعا من حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة به . وصححه الحاكم عل شرط مسلم ، وأقره الذهبي ، وانظر (( مجمع الزوائد )) (9/352).

(11) متفق عليه .

(12) صحيح ، اخرجه الطيالي (1061) ، وابن أبي شيبة (22182) ،وأحمد (4/202) ، والبخاري في (( الأدب المفرد )) (299) ، وأبو يعلى (7336) ، وابن حبان (3211- إحسان ) ، والحاكم (2/2) ، جميعا من حديث موسى بن علي ، عن أبيه ، عن عمرو بن العاص به . وصححه الحاكم على شرط مسلم وأقره الذهبي ، وهو كما قالا ، فرجاله كلهم ثقات على رسم مسلم في (( صحيحه )).

(13) صحيح ، رواه أحمد (4/203) ، وصححه الألباني في (( الإرواء )) (154).



أم عبد الله 24-07-2009 12:04 PM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
ثمامة بن أثال
أما الرجل الرابع ، فهو : ثمامة بن أثال ؛ سيد بني حنفية ، وبنو حنيفة منهم : مسيلمة الكذاب ، ومنهم : ثمامة بن أثال .
ثمامة بن أثا كان يسكن في حصن له في ارض بني حنيفة في نجد ، وفي ليلة من الليالي سمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن ثمامة هذا يريد أن يغزو المدينة .
فقال صلى الله عليه وسلم ، فيما يروى عنه : ( بل أنا اغزوه إن شاء الله )) .
أي : قبل أن يتحرك من هناك نرسل له من يغزوه .
فأرسل له صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في كوكبه وفي سرية .
فأخذ خالد سيفه وخيله ، ومشى بالأبطال إلى وادي بني حنيفة في نجد .
وفي إحدى الليالي قال ثمامة لزوجته : أنا لا اخرج هذه الليلة للصيد أبدا ؛ لأنه شعر بشيء .
لكن الله إذا أراد شيئا اتمه { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}(لأنفال: من الآية 17).
قال زوجته : لم ؟
قال : أتوجس ، أي : أتاني خوفا لا ادري ما سببه .
فمكث في حصنه وقصره ، والأبواب مغلقة عليه ، لكن أراد الله أن يخرجه لخالد ليأسره ويذهب به إلى المدينة ، فأرسل الله له الغزلان والظباء تلك الليلة حتى كانت تنطح باب الحصن .
فقالت زوجته وهو في ضوء القمر : عجيب أمرك كل ليلة تطارد الغزلان ، ولا تجدها ، واليوم أتت تناطح أبوابنا ، انه لمن العجز أن تتركا .
فأخذ القوس والأسهم ، وأتى وراء الغزلان، ففتح الباب ففرت الغزلان قليلا ، ففر وراءها ، فدخلت حديقة ، فدخل وراءها ، فخرج ، فخرج من الحديقة .
فلما أصبح في الصحراء ، وإذا بخالد يطوقه .
قال : من أنت ؟
قال : خالد بن الوليد ، إن كنت لا تعرفني تعرفني الليلة .
قال : ماذا جاء بك ؟
قال : سمعنا انك تريد أن تغزو يثرب ، وقد أرسلني صلى الله عليه وسلم إليك .
قال : من اكلم ؟
قال كلم رسول الله في المدينة ، فركب معه واتى به أسيرا
مشدودا . والحديث في (( الصحيحين )) ، وقال البخاري ( باب ) ربط الأسير في المسجد من حديث أبي هريرة .
فدخل خالد بهذا الأسير وربطه في سارية المسجد لثلاث مسائل :
أولها : أن هذا إهانة للأسير المشرك .
الثاني : لعله أن يرى صولة الصحابة وجولتهم، فيراهم وقد تجمعوا في المجد ، وقد اهتدوا فيهتدي .
الثالث : لعله أن يسمع الوحي والقرآن والصلاة إذا صلى صلى الله عليه وسلم فيتأثر .
فربطه في سارية المسجد .
فأتى صلى الله عليه وسلم للصلاة ، فقال : (( أسلم يا ثمامة )).
قال ثمامة : يا محمد ، إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر .
يقول : إن قتلتني فإن دمي لا يضيع فأنا سيد قبيلة ، فورائي أبطال يأخذون بدمي ، وإن عفوت عني وأطلقتني فسوف تجد الجميل عندي محفوظا .
فتركه صلى الله عليه وسلم .
فكان صلى الله عليه وسلم خلال ثلاثة أيام كلما أتى إلى الصلاة قال:((يا ثمامة أسلم))
فيعيد قوله .
فقال صلى الله عليه وسلم : (( أطلقوه )) .
فأطلقوه ، فذهب إلى نخلة من نخل المدينة ، فأخذ ماء فاغتسل ثم دخل المسجد ، وقال : اشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله .
فقال له صلى الله عليه وسلم: (( ولماذا لم تسلم وأنت في القيد )) ؟
قال : أخشى أن تتحدث العرب إني أسلمت ذلا ؛ لأنه سيد من السادات .
قال : يا رسول الله ، إن شئت أن امنع حنطة اليمامة عن قريش فعلت .
قال : امنعها عنهم .
فذهب يعتمر ، فقال له كفار قريش : هيه ، يا ثمامة صبأت مع محمد .
قال : والله ، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة .
فقيدوه ، فخرج من القيد ، وفر إلى اليمامة ، فضرب حظرا اقتصاديا عليهم فما وصلتهم حبة (14)

وفي قصته دروس :
أولا : جواز إدخال الكافر المجد للحاجة .
الثاني : التمهل بالكافر ثلاثة أيام لعله أن يهتدي .
الثالث : التضييق على الكافر لعله أن يهتدي أو يخاف .
الرابع : استخدام أهل الوجاهات وإنزالهم منازلهم .
الخامس : الغسل للكافر .






أم عبد الله 24-07-2009 12:05 PM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
ضمام بن ثعلبة
وأما الرجل الخامس ، فهو : ضمام بن ثعلبة : وحديثه في (( الصحيحين )) .
سمع بداع للرسول صلى الله عليه وسلم يعرض الإسلام ، فاطمأن قلبه ، فأخذ ناقته ، وركبها ووفد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
فأتى ، والصحابة مجتمعون في المسجد مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان من هديه أن يتكئ أحيانا على الميسرة ، وأحيانا على الميمنة ، فيأتي الأعرابي والغريب فلا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم
فأتى هذا الرجل ، فعقل ناقته في طرف المسجد ، وجاء بعصاه يتخطى الصفوف ، وقال : أين ابن عبد المطلب ؟ أي : محمد صلى الله عليه وسلم !!
فأتى هذا الرجل ، فعقل ناقته في طرف المسجد ، وجاء بعصاه يتخطى الصفوف ، وقال : أين ابن عبد المطلب ؟ أي : محمد صلى الله عليه وسلم !!
وهو ابن عبد الله ، لكن كان جده عند العرب أشهر ؛ لأنه كان سيدا مطاعا .
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حنين :
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
قال للصحابة : أين ابن عبد المطلب ؟
قال الصحابة : هو ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق . ( الأمهق : المشوب بحمرة ، والمرتفق : أي المتكئ ) .
فتخطى الصفوف وقال : يا ابن عبد المطلب .
فقال صلى الله عليه وسلم : (( قد أجبتك )) .
قال : إني سائلك فمشدد عليك في المسالة .
يقول بعض العلماء: هذا أقوى ، أو أصعب سؤال ورد عن التوحيد في السنة .
قال : (( سلما بدا لك )) .
قال : من رفع الماء ؟
قال : (( الله )).
قال : من بطن الأرض ؟
قال : (( الله )) .
قال : من نصب الجبال ؟
قال : (( الله )).
قال : أسالك بمن رفع السماء ، وبط الأرض ، ونصب الجبال ، آلله أرسلك إلينا رسولا ؟
فجل صلى الله عليه وسلم من عظم السؤال ، وقال : (( اللهم نعم )) .
قال : أسألك بمن رفع السماء ، وبسط الأرض ، ونصب الجبال ، آلله أمرك بأن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة ؟
قال : (( اللهم نعم )) .
فسأله عن الصيام ، قم قال : اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص ، أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني عد بن بكر ، ثم ولى .
تعريف موجز ، وسؤال موجز ، ، وموقف موجز ، فما أهل الإسلام!.
قال صلى الله عليه وسلم : (( من سره أن ينر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)) وفي لفظ آخر : (( أفلح الرجل ودخل الجنة إن صدق )).
قال ابن عبا : ما رأينا وافدا أخير لقومه من ضمام بن ثعلبة .
قال أنس : ما رأينا أعقل من ضمام بن ثعلبة .
لأنه اختصر في المسالة ، وسال عن مسائل عظيمة .

وفي إسلامه دروس :
أولهما : ألا يؤخذ بجفا الإنسان حتى يبصر ويعرف بالصواب .
الثاني : انه لا باس أن ينادي الإنسان بأمه أو أم أبيه ؛ لأن بعض الناس قد يغضب عليك إذا لم تقل له : يا شيخ ، أو يا صاحب الفضيلة ، أو يا صاحب السعادة ، أو يا صاحب الفخامة .
الثالث : أما في حقه صلى الله عليه وسلم فالواجب أن ينادى باسم الرسالة لقوله تعالى {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} (النور: من الآية 63) فينادي بيا رسول الله ، أو يا نبي الله
الرابع : جواز العرض على الشيخ والمعلم ما يفعل أهل الحديث .
الخامس : أن على العالم أن يكون واسع الصدر .

أم عبد الله 24-07-2009 12:06 PM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
عبدالله بن سلام

وأما الرجل السادس ، فهو : عبد الله بن سلام الذي يقول الله فيه : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الاحقاف:10) كان يهوديا فأسلم ، وقصة إسلامه عجيبة .
هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فاستقبلته القلوب وحيته الأرواح ، وعانقته النفوس .
فنزل في سوق المدينة .
قال ابن سلام : انجفل الناس ( أي : هرعوا ) إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكنت فيمن انجفل فاجتمعت معهم ، فلما استبنت وجه الرسول صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه لي بوجه كذاب فاقتربت منه فإذا هو يقول : (( يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام )) رواه الترمذي وهو صحيح .
قال : فلما سمعت هذه الكلمات ، أتيت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ، اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد انك رسول الله ؛ لأنه كان يقرأ التوراة ويعرف وصف الرسول صلى الله عليه وسلم فيها .
قال : يا رسول الله ، أسألك عن ثلاث مسائل لا يعرفها إلا نبي .
قال : (( ما هي ))؟
قال : ما هو أول طعام أهل الجنة ، وكيف يشبه الولد أمه أو أباه ، وما هي أول علامات الساعة ؟
فقال لابن سلام : (( أما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت )) .
قال : صدقت (15).
قال : (( وأما لماذا يشبه الولد أباه أو أمه فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه أباه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أمه )).
قال : صدقت .
قال : (( وأما أول علامات الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب )).
قال : صدقت .
قم شهد أن لا إله إلا الله وأن الرسول رسول الله ، ثم قال : يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت إذا علموا إني أسلمت بهتوني ، فأدخلني في هذه المشربة ( غرفة ) ، واسألهم عني .
فأدخله صلى الله عليه وسلم في المشربة وأغلق عليه ، واستدعى اليهود ، وقال : (( كيف عبد الله بن سلام فيكم )) ؟
قالوا : خيرنا وابن خيرنا، وعالمنا وابن عالمنا ، وفقيهنا وابن فقيهنا .
قال صلى الله عليه وسلم : (( أرأيتم إن اسلم ))؟
قالوا : أعاذه الله من ذلك
فخرج ابن لام وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله .
فقاموا ينفضون ثيابهم ، ويتناخرون كالحمير ، ويقولون : شرنا وابن شرنا ، وسيئنا وابن سيئنا ، أو كما قالوا .
فقال الله في ذلك : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الاحقاف:10) .

وفي قصته دروس :
أولا : أن وصفه صلى الله عليه وسلم كان موجودا في التوراة ،كما قال تعالى { يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } (لأعراف: من الآية 157) .
ثانياً : أن من اسلم من اليهود أو النصارى فله أجران ؛ اجر إسلامه بكتابه وبنبيه ، و إسلامه بنبينا وكتابنا ،ونحن نؤمن بجميع الكتب التي أنزلها الله والرسل الذين أرسلهم الله جميعا
ثالثا : أن الشاهد إذا شهد بحق ، ثم نقضه في مجلسه ، لا يقبل ؛ لأنه ما نقضه إلا لأمر
رابعا : البلاغة التي أوتيها صلى الله عليه وسلم .
خامسا : أن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على كثير من علم الغيب ، ومن علامات الساعة ، فأخبر الناس فأسلموا بتلك المعجزات.

(15) متفق عليه



أم عبد الله 24-07-2009 12:06 PM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
ابن سعنة

أما الرجل السابع ، فهو : ابن سعنة يهودي تاجر .
يقول : عرفت أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وصفا واحدا .
قيل : ما هو ؟
قال : وجدت مكتوبا في التوراة انه إذا أغضب يزداد حلما صلى الله عليه وسلم .
هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فرآه ابن سعنة هذا ، فرأى أوصافه الموجودة في التوراة كلها إلا صفة واحدة ؛ انك إذا أغضبته يزداد حلما .
فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا القاسم .
قال : (( نعم )).
قال : أنا تاجر من تجار اليهود ،وأنت تحتاج مالا ، وأنا غني ، فأريد أن اسلفك شيئا من المال حتى يفتح الله عليه .
وما مرت أيام بعد أن وصل المال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلا وبهذا التاجر في المسجد قبل صلاة العصر .
فقال : يا محمد ، أعطني مالي ، إنكم مطل يا بني عبد المطلب !!
يعني : تماطلون الناس .
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أما أعطيتني المال إلى أجل ))؟
قال : لا ، أعطني مالي ، إنكم مطل يا بني عبد المطلب .
فنظر إليه عمر بن الخطاب وقال : يا رسول الله ، دعني اقطع عنق الكافر .
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أحب أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحن الاقتضاء )).
ثم أخذ اليهودي يرفع صوته ، فأخذ صلى الله عليه وسلم يتبسم ، وكلما رفع صوته تبسم .
فأخذه صلى الله عليه وسلم من يده ، وذهب به إلى بيته ، فأعطاه ماله وزاده .
قال : اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، قرأت اوصافك فرأيتها فيك غير انك إذا أغضبت ازددت حلما ، وقد رأيته اليوم (16).
قال صلى الله عليه وسلم : (( لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم أو جميعهم )) (17).
وفي قصته : أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من احلم الناس ويكفي في ذلك قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)

(16) انظر : قصة إسلامه في (( الإصابة )) (2897) ، وقد صححها الحافظ.

(17) رواه مسلم.



أم عبد الله 24-07-2009 12:08 PM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
عكرمة بن أبي جهل
أما آخر الأصحاب ، فهو : عكرمة بن أبي جهل
فسبحان الذي يخرج الحي من الميت ، والميت من الحي ، لقد كان أبوه فرعون هذه الأمة .
تأخر إسلامه حتى يوم الفتح .
كان مشركا آنذاك ، وقاوم مقاومة عنيفة ، لكن انهارت مقاومته أمام خالد .
فركب إلى البحر يريد أن يرمي نفسه في البحر ، ويخرج إلى إحدى الجزر ، أو أن يضيع في العالم ؛ لأنه ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يذبحه .
فأتت امرأته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقالت : زوجي فر منك .
قال : (( خذي له الأمان )).
قيل : أعطاها صلى الله عليه وسلم كساء ، وقيل : عمامة ، وقيل : أعطاها قلنسوة ، فقال : (( خذيها وأخبريه )).
فأتت وإذا هو يتهيأ على البحر يريد أن يركب سفينة ، فأشارت إليه قائلة : الأمان ، الأمان.
قال : لا أمان ، لا أمان .
قالت : هذه عمامة محمد صلى الله عليه وسلم وقلنسوته .
فلما عاد ، ورآه صلى الله عليه وسلم مقبلا مع زوجته تبسم صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه ليس من الحكمة أن يقول : أين أنت يا فار أو يا كافر .
ولكنه صلى الله عليه وسلم قال : (( مرحبا بالراكب المهاجر )) (18)، أنت هاجرت إلى الله ورسوله .
فقال : اشهد أن لا إله إلا الله واشهد انك رسول الله ، والله يا رسول الله ، لا اترك موقفا حاربت الإسلام فيه إلا حاربت مع الإسلام فيه ، ولا نفقة أنفقتها في حرب الإسلام ، إلا أنفقت ضعفها في نصرة الإسلام .
حضر اليرموك ، رضي الله عنه و أرضاه ، فانهزم المسلمون في أول معركة .
فلما رأى الهزيمة لبس أكفانه ، واغتسل وتطيب ،وسل سيفه وكسر غمده على ركبته ، وقال : يا مسلمون ، من يبايعني على الموت؟ من يشتري الموت اليوم ؟
فبايعه أربعمائة مقاتل ، فشق بهم صفوف الروم كالسيل ، حتى وصل إلى وسط الروم ، فقاتل حتى صلاة الظهر ، ثم تناوشته الرماح والسيوف من كل جانب فوقع صريعا على الأرض .
فحملوه على الأكتاف حتى وصل إلى القائد خالد بن الوليد .
فرآه خالد فاحتضنه ؛ لأنه كان صديقا له في الجاهلية وقال : ماذا تريد يا عكرمة ؟
فأشار بلسانه يريد الماء ، لأنه لا يستطيع أن يتكلم ، فهو في آخر رمق الحياة .
فأتى خالد بماء بارد من خيمته ، فاندفع نحو عكرمة ليسقيه ، وما هي إلا لحظات حتى جيء بالحارث بن هشام ، عم عكرمة ،أخو أبي جهل ، وهو في آخر رمق ، فوضع على رجلي خالد ،فأتى بابن عكرمة ، وهو شهيد فوضع بجانبه وجي برابع .
فأتى خالد بالماء ليعطي عكرمة فأشار إلى عمه ، يقول : اسقه قبلي { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: من الآية 9) .
فأعطى عمه ، فرفض أن يشرب قبل ابن عكرمة .
فدفعوا الماء للشاب الصغير ، فرفض أن يشرب قبل الرجل الرابع .
فحولوه إلى الرابع ، فقال : لا حتى يشرب عكرمة .
فعاد إلى عكرمة فوجده قد مات .
فدفعه إلى الحارث بن هشام ، فوجده قد مات .
فأعاده إلى الثالث ، فوجده قد مات
فأعاده إلى الرابع ، فوجده قد مات .
قال أهل العلم : فانتحب خالد من البكاء ، وقال : اللهم اسقهم من جنتك زعم فلان ( يعني : أحد الكفار ) أنا لا نموت إلا حبطا ( يعني : لا نموت إلا على الفرش ) لا والله ، بل نموت تحت قصف السيوف وضرب الرماح .
هذا عكرمة بن أبي جهل وهو مثل للشباب المسلم .
قيل للإمام أحمد : هل يقبل المصحف ؟
قال : كان عكرمة يقرأ القرآن ، ويبكي ، ويقبل المصحف ، ويقول : كلام ربي ، كلام ربي .
هؤلاء هم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم ، وأملنا في الله أن يجمعنا بهم في الجنة ؛ لنرى فيها : عمير بن وهب ، والطفيل بن عمرو ، وعمرو بن العاص ، وثمامة بن أثال ، وضمام بن ثعلبة ، وعبد الله بن سلام ، وابن سعنة ، وعكرمة بن أبي جهل .
ومن أراد أن يجتمع بهم فليفعل كفعلهم .
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا *** أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون كفعلهـم *** وإن حاولوا في النازلات وأجملـوا


أولئك آبائي
إنها أخبار عجيبة وجميلة ، يطرب لها القلب ، وتتشنف لها الآذان ،وتثلج بها الصدور .
أخبار علمائنا الذين جعلهم الله عز وجل كأنبياء بني إسرائيل ، ووف أقص عليكم قصصا عجيبا من أخبارهم .
الأول : تحملهم المشاق في طلب العلم.
الثاني : زهدهم في الدنيا وإعراضهم عنها .
الثالث : قولهم كلمة الحق فلا يخافون في الله لومة لائم.
الرابع : بذلهم العلم لطالبيه ونشرهم المعرفة.
الخامس : خشيتهم لله تعالى .
السادس : تواضعهم لربهم تبارك وتعالى .
إن العلم اشرف مطلوب ، وهو يوصل صاحبه إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، أو يوصله إلى نار تلظى.
فمن الناس من طلب العلم فكان حجة عليه ، وخيبة وندامة ، فكان الحمار يحمل أسفارا ، كما قال الله عز وجل في علماء بني إسرائيل { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} (الجمعة: من الآية 5) وقال عالمهم الضال المجرم : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } (لأعراف: من الآية 176).
قال عبد العزيز الجرجاني ، وهو أديب عجيب ، وقصيدته من أحسن القصائد ، وقد قال الناس : ما لك تعتزلنا ولا تخالطنا ولا تذهب آل السلاطين ؟ فرد عليهم بقصيدة ، قال في بعض أبياتها :
يقولون لي فيك انقباض وإنما *** رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلـة *** إذا فاتباع الجهل قد كان أحزمـا
ولم ابتذل في مطلب العلم مهجتي *** لأخدم من لاقيت لكن لأخدمــا

آل أن يقول :
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنســوا *** محياه بالأطماع حتى تجهمـا
قال أهل السير : كان أحد العلماء المسلمين طلب العلم ، وحفظ القرآن والحديث ، ثم أدركه الخذلان ، والعياذ بالله .
خرج يوما يصلي ، فنظر إلى بيت من البيوت في دمشق ، أو في حمص ، فرأى امرأة أطلت عليه من البيت كشمس الضحى ، وكانت نصرانية كافرة ، فوقع عشقها في قلبه ، فترك المسجد ، وعاد آل البيت ، فرالها ، فاشترطت عليه أن لا يتزوجها ، إلا إذا ارتد عن الإسلام.
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران:8)
حاول فيها ، فقالت : المهر : أن تترك الإسلام ، والمسجد ، والقران .
فتزوجها ، وارتد عن الإسلام ، فذهبت به إلى ارض النصارى.
فمر به أحد زملائه ، فوجده يرعى الخنازير !
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: من الآية 13) .
قال : يا فلان ، أين القرآن ؟ أين الحديث ؟
قال : والله ، ما أصبحت أحفظ من القرآن إلا آية واحدة .
قال : ما هي ؟
قال : قوله سبحانه وتعالى :{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}(الحجر:2) (19)
هذا في العلماء المخذولين ، أما علماؤنا فإليكم طرفا من أخبارهم .
أما تحملهم للمشاق : فأمر عجيب . والله سبحانه وتعالى ذكر موسى ، عليه السلام ، في القرآن ، واخبر انه ركب البحر في طلب العلم .
وبوب البخاري في كتاب العلم ( باب ) ركوب البحر في طلب العلم ، وذكر قصته ، عليه السلام ، عندما وقف خطيبا في بني إسرائيل فقالوا له : أتعلم أحداً أعلم منك في الأرض؟
قال : ما اعلم أحداً اعلم مني .
فلامه الله ، وعاتبه الله على انه ما رد العلم إلى الله .
فقال الله له :بل عبدنا بمجمع البحرين ، الخضر اعلم منك.
فسافر إليه ،وطلب منه الخير ، كما قرأتم في القرآن .
وكان صلى الله عليه وسلم يتابع قصة موسى والخضر في القرآن باشتياق ، فلما انتهت القصة ، وقال الخضر : { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } (الكهف: من الآية 78) قال صلى الله عليه وسلم : (( رحم الله موسى وددت انه صبر حتى يقص الله علينا من نبئهما ))(20).
وقال البخاري : وسافر جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، شهرا كاملا في طلب حديث واحد .
سافر من المدينة إلى الصحابي الجليل عبد الله بن أنيس ، رضي الله عنه ، في مصر .
فلما لقيه في مصر عانقه عبدالله ، وقال له : ادخل اجلس ، حيهلا بك وسهلا .
قال : لا ، أنا خرجت لوجه الله ، ولا أفسد هجرتي ، أريد الحديث الذي سمعته من الرسول صلى الله عليه وسلم .
فأخذ الحديث ، وهو واقف ، ثم ركب ناقته وعاد !
أما سعيد بن المسيب ، فيقول عن نفسه : والله الذي لا إله إلا هو ، لقد كنت أسافر ثلاثة أيام بلياليهن في طلب حديث واحد .
ولذلك بارك الله في علمهم، وبارك في جهدهم .
كانوا يسهرون الليالي ، ولم يكن عندهم مما عندنا من الوسائل الحديثة.
فعندنا كهرباء ، وعندنا وسائل اتصال ، ومطاعم شهية ، ومراكب وطية ، وملابس حسنة .
ولكن قل التحصيل ، ونشكو حالنا آل الله الواحد الأحد .
ويذكرون عن القفال أحد علماء الشافعية انه سافر لطلب العلم ، وكان عمره أربعين سنة ، فلما مشى في الطريق ، قال له الشيطان : كيف تطلب العلم في الأربعين ؟
فرجع من الطريق ، فوجد رجلا يعمل في سانية ، وقد أثر الحبل في الصخر.
فقال القفال :
اطلب ولا تضجر من مطلب *** فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول المدى *** على صليب الصخر قد أثرا

وقيل لعامر الشعبي :بم طلبت العلم ؟
قال : بصبر كصبر الجمال ، وببكور كبكور الغراب .
أي : بعد صلاة الفجر مباشرة.
ودخل الإمام أحمد أكثر من ثلاثين إقليما في طلب الحديث على رجله ، ليس معه إلا بقشته ، فيها الشعير والملح.
دخل خراسان بمدنها ، وسمرقند ، وبخارى ، وتركستان ، وطشقند ، والسند ، وأطراف الهند ، وأطراف أفغانستان ، على ما ينقل في سيرته ، ودخل مصر بأكثر مدنها ، والعراق ، والحجاز ، وذهب إلى الشام ، ثم دخل اليمن ، وطاف الاقاليم .
حتى قال بعضهم : لو حسبت المسافات التي سارها لكانت طوفت الدنيا .
سافر لعبد الرزاق في اليمن ، ولكنه لقيه في مكة يعتمر .
فقال صاحبه يحيى بن معين : هيا بنا ، هذا عبد الرزاق قد حضر ، نأخذ العلم منه ونعود .
قال أحمد : أنا خرجت لله ، و أريد أن يعود عبد الرازق إلى صنعاء ؛ لأذهب إليه ، ولتكون سفرتي في سبيل الله .
فلما عاد عبد الرزاق إلى صنعاء سافر إليه الإمام أحمد .
فترك ، رحمه الله ، لنا ( المسند ) الذي لو تب بالدموع ما أنصفناه .
أما الشافعي ، فقالوا : انفق ثلاثين ألف دينار في طلب العلم ، وهي ميزانية هائلة .
سكن في بداية عهده مع أمه ، وكانت أمه فقيرة ،فدخلت به في بيت ضيق ، فكان يذهب يطلب العلم ، ولا يجد أوراقا ؛ لأنها غالية الثمن ، ولم تكن متوفرة ، فكان يأخذ الجلود والرقاع ، ويأخذ العظام ، ويأخذ الصخور الملساء ، فيكتب فيها العلم ، حتى ضيق على أمه السكن فقالت: يا بني أنخرج ونترك البيت لكتبك !
ثم ذهب إلى البادية فحفظ أشعار ثلاثين شاعرا ، ثم عاد ، فقال له رجل من أهل مكنة : إني أراك نابها فصيحا ذكيا ، فاذهب إلى المدينة ، إلى عالمها ، إلى مالك بن انس فاطلب منه العلم .
فذهب فحفظ (( الموطأ )) في تسع ليالي .
الموطأ المجلد الكامل ، آثاره ، وأحاديثه ، ومرسلاته ، ومقطوعاته ، وموقوفاته حفظه في تسع ليالي .
فلما جلس عند الإمام مالك ؛ ليقرأ عليه ، قال له الإمام مالك : إني أرى عليك نورا ، فلا تفده بالمعصية .
أما عطاء بن أبي رباح فكان مولى عبد ،وكلنا عبيد الله ؛ لأن الإسلام لا يعترف بالدماء ، ولا بالأنساب ، ولا بالألقاب ، ولا بالأسر { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات: من الآية 13) .
كانت سيدته امرأة من مكة ، فأصيب بالشلل ، وأصيب بمرض في جسمه ، فتركته ، فمكث في الحرم ثلاثين سنة يطلب العلم ، حتى برز في العلوم .
ثلاثون نة يقول ما رفعت فراشي في الحرم .
ثلاثون سنة ليلا ونهارا يطلب العلم حتى اصبح عالم المسلمين .
أما ابن عبا ، فكان الأولى أن يقدم في هذا الباب ، ولكننا نقدمه مهما تأخر لفظا ، فإنه متقدم في الرتبة .
ابن عباس ، رضي الله عنهما ، كان يقول : ذللت طالبا فعززت مطلوبا.
العلم حرب للفت المتعالي *** كالسيل حرب للمكان العالي
ما أحسن العلم إذا تواضع المرء في طلبه .
قالوا لابن عباس : كيف حصلت على العلم ؟
قال : كنت اخرج من الظهيرة في شدة الحر ، فاذهب إلى بيوت الأنصار ، فأجد الأنصاري نائما ، فلا اطرق عليه بابه من الهيرة ، فأتوسد بردتي عند بيته ، فتلفحني الريح بالتراب ، فيستيقظ الأنصاري ، فيقول : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أيقظتني أدخلك ؟
فيقول : أخاف أن أزعج.
قال : فطلبت العلم هكذا .
فأصبح عالم الأمة ، رضي الله عنه وأرضاه .
أما زهدهم في الدنيا وإعراضهم عنها :
فالدنيا لمن يعرفها ، ولمن يذوقها ، ولمن يستمرئها لا تساوي شيئا .
وأشرف ما تطلبه أنت في الحياة : أن تنقذ نفسك من النار{ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران: من الآية 185) .
قيل لأحد العلماء : كيف عرفت الدنيا ؟
قال : دلني العلم على الزهد في الدنيا .
وفي حديث حسن: ((أزهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس))(21)
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الدنيا ملعونة ما فيها إلا كتاب الله وما والاه أو عالم أو متعلم ))(22).
وقال تعالى )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أعمالهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (هود:15) )أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:16)
وقال )اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد:20)
وقال عمران بن حطان الخارجي في الدنيا ، وكان شاعرا مجيدا على بدعته :
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها *** على أنهم فيها عراة وجوع
أراها وإن كانت تسر فإنـها *** سحابة صيف عن قليل تقشع
لما انتصر قتيبة بن مسلم في المشرق أتي بغنائم كرؤوس الأبقار من الذهب والجواهر والدرر .
فالتفت إلى الغنائم وقال لأصحابه : ما رأيكم لو عرضت هذه الأموال على أحد الناس أيردها ؟
قالوا : ما ترى أحدا يردها.
من الذي يرد الذهب ؟
من الذي يرفض المال ؟
قال قتيبة : والله ، لأرينكم قوما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، المال عندهم مثل التراب .
فأرسل بها إلى العالم الزاهد محمد بن واسع ، وكان معه في الجيش.
فقبلها محمد !
فلما علم قتيبة قال : اللهم لا تخيب ظني فيه .
فقال قتيبة لأحد الجنود : تابع ابن واع ، وانظر أين يذهب .
فتابعه ، وقد أخذ الذهب ، فمر به فقير من الجيش ، وهو يسأل الناس من مال الله ، أعطوني .
فأعطاه كل المال .
فذهب الجندي إلى قتيبة فأخبره .
فتبسم ، وقال : لقد قلت لكم: إن هناك أناسا من أمة محمد الذهب عندهم كالتراب .
وكان علي ، رضي الله عنه ، يقول : لقد ارتحلت الآخرة مقبلة وارتحلت الدنيا مدبرة فكونوا من أبناء الآخرة ،ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
دخل قيس بن أبي حازم على سليمان بن عبد الملك ؛ الخليفة الأموي فقال : السلام عليك يا سليمان !
قال : الناس يقولون السلام عليك ، يا أمير المؤمنين ، وأنت تقول يا سليمان .
قال : لأني لم أبايعك بالخلافة ، فأنت بويعت بالخلافة على غير رضى مني ، فكيف اسميك أمير المؤمنين ؟
قال : ما لنا نحب الحياة ونكره الموت يا قيس ؟
قال : لأنكم عمرتم حياتكم ، وخربتم خرتكم ، فأنتم تكرهون الانتقال من العمار إلى الخراب .
قال : ما رأيك أن تصحبنا ، وأعطيك نصف ملكي ؟
قال : لا. إن الله قال {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود: من الآية 113) .
قال : ونصف الملك ؟
قال : كم تعطيني من جناح البعوضة ؟ أتعطيني نصف جناح بعوضة ؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ))(23) ثم خرج وتركه .
وكان سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، يطوف بالبيت فمر سليمان هذا بالموكب والوزراء والأمراء ، فلما رآه توقف فاقترب منه ، وقال : يا سالم ، ألك إلى حاجة ؟
قال : يا سليمان ، أما تستحي من الله ؟ تعرض علي المسائل في بيت الله .
فتره ، فلما خرج عرض عليه السؤال ، قال : ألك إلي حاجة؟
قال : من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة ؟
قال : بل من حوائج الدنيا ، أما الآخرة فلا يملكها إلا الله .
قال : والله ، الذي لا إله إلا هو ما سالت حوائج الدنيا من الذي يملكها ، وهو الله ،فكيف اسألها منك؟
وهذا درس لنا : بان نعلم أن ما عند الله هو الباقي { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل: من الآية 96) ، وان افضل ما يمكن أن يكنزه العبد ، هو : العبادة، والصلاح، والعلم النافع {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (الرعد: من الآية 17) .
ودخل الوليد بن عبد الملك المدينة فأرسل أعطيات لبعض الناس ، ومنهم : سعيد بن المسيب .
فذهب الجندي إلى سعيد ، فوجده يصلي ركعتين ، فلما سلم، قال : خذ هذا العطاء .
قال : ممن هذا العطاء ؟
قال : من الوليد بن عبد الملك .
قال : يسرق أموال المسلمين ، ويعطيني العطاء ، ويحاسبني الله على عطائه ، ربما أراد غيري .
قال : لا ، أرادك أنت .
قال : اذهب إليه بالعطاء ، وله : هل يريدني أو يريد غيري ؟
فأخذ الكي ،وذهب به .
فأخذ سعيد بن المسيب حذاءه ، وخرج من طرف المسجد !!
وأما قولهم كلمة الحق : فانهم كانوا لا يخافون في الله لومة لائم.
يقول صلى الله عليه وسلم : (( افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )) (24).
لن هذه لا يستطيع لها إلا قلائل من أمثال سعيد بن جبير ، رحمه الله .
لقد كانت لهم ، رحمهم الله ، مواقف صلبة في قول الحق .
وكيف لا يكونون كذلك ، وسلفهم في ذلك عمر بن الخطاب الذي اقر هذا المبدأ ؟
يقف ، رضي الله عنه ، على المنبر فيقول : يا أيها الناس ، ما رأيكم لو حدت عن الطريق هكذا ؟
فقام أعرابي عنده سيف عند سارية في آخر المسجد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، والله الذي لا إله إلا هو ، لو قلت عن الطريق هذا ، لقلنا بالسيف هكذا .
قال عمر : الحمد لله الذي جعل من رعيتي من إذا قلت عن الطريق هكذا قال بسيفه هكذا .
دخل الزهري العلامة المحدث ، رواية (( الصحيحين )) العظيم مع كثير من العلماء على هشام بن عبد الملك وكان هشام ناصبيا يبغض عليا ، رضي الله عنه .


أم عبد الله 24-07-2009 12:08 PM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
فقال هشام : يا سليمان بن يسار ( أحد العلماء ) من الذي تولى كبره ؟ أي : في قوله تعالى :{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النور: من الآية 11) في حادثة الإفك .
قال : عبد الله بن أبي .
قال : كذبت .
فقال : يا فلان ، من الذي تولى كبره ؟
قال : عبد الله بن أبي .
قال : كذبت ، الذي تولى كبره هو علي .
فقال : يا زهري من الذي تولى كبره .
قال : عبد الله بن أبي .
قال : كذبت .
فقام الزهري ، وكان جالسا قال : كذبت أنت وأبوك وجدك ! الذي تولى كبره : عبد الله بن أبي بن سلول ، حدثني بذلك عروة عن عائشة ، ووالله لو نادى مناد من السماء أن الكذب حلال ما كذبت.
فانتفض هشام ، وقال : لعلنا هيجنا الشيخ!
وكان عبد الله بن علي العباسي سفاكا ، والغا في الدماء والأموال ، فسال وزراءه : أترون أحداً يعترض على ما فعلت ؟
قالوا : نظن الاوزاعي يعترض
فاستدعوا الاوزاعي .
قال الاوزاعي : انتظروا قليلا ، فلس أكفانه بعد أن اغتسل وتطيب ، ولبس ثيابه والأكفان من تحتها .
فدخل على عبد الله بن علي .
قال الاوزاعي : والله ، الذي نفي بيده ،لما دخلت عليه أصبح كأنه ذباب في عيني ، وكأني أتصور عرش الله بارزا للناس .
قال : فانعقد في جبينه عرق ، وفي يده خيزران ، وكانت السيوف قد اشرعت على رأس الاوزاعي .
فقال : يا اوزاعي ، ما رأيك في الدماء التي سفكناها ؟
قال : حدثنا فلان ، عن فلان، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل دم المسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك للجماعة )).
فغضب وقال : والأموال ؟
قال : حلالها حساب ، وحرامها عقاب .
قال : اخرج
فخرجت .
قال: ارجع .
فرجعت ، وانتظرت السيف أن يعلوني .
قال : خذ هذه الصرة ، فيها فضة وذهب .
فأخذها فوزعها على الجنود، ثم خرج !
وهكذا فعل الإمام أحمد مع المعتصم.
أما بذلهم للعلم :فهي مسالة نشكو منها .
فنحن نعيش أزمة علماء ، وأزمة دعاة ؛ لأن منهم من يقطر العلم بقطارة ، ومنهم من ينفق العلم ، وكأنه ينفق من جيبه .
العلماء كثير وكثير ن ولكن الساحة تشتكي ، فهي تريد أن ينزلوا ؛ لأن الأجيال بحاجة لهم .
كان عروة بن الزبير يتألف الناس على الحديث ، ويقول لطلابه : من يحضر منكم اليوم فله دينار .
لماذا ؟
لأنه يريد أن ينشر العلم الذي عنده ؛ لأن العلم حياة ، والعلم إذا حبس ضاع ، وإذا حب نقص فهو :
يقول تعالى :{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران:187) وقال سبحانه وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة:159) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:160)

أما خشيتهم لله عز وجل :
فالله يقول في القرآن {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: من الآية 28) .
لأنهم تعرفوا على الله ، فهابوا ، وكل شيء تقرب منه تأمنه إلا الله كلما اقتربت منه خفته .
لذلك تجد الفاجر لا رهب الله ، فهو يضحك ، ويمزح ويعربد بكلام سيئ ، ويعصي الله ، ويفجر وليس بخائف .
والمؤمن التقي العالم بالله ، إذا عصا معصية ، أو فعل فعلة ، استغفر واستوحش ، وبقي في اضطراب ، وفزع وخوف وحزن ، وهم وغم .
ولذلك يقول ابن مسعود : إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبا ، قال به هكذا فطار من على انفه .
قال أبو وائل : والله ، لقد رأيت جفني ابن عباس من البكاء كالشراكين الباليين .
وورد عنه انه قام ليلة في الحرم من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يردد قوله سبحانه وتعالى : {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (النساء:123)
وأبو بكر لما نزلت هذه الآية قال للرسول صلى الله عليه وسلم : كيف العمل بعد هذه الآية ؟{مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ} (النساء: من الآية 123) .
فقال صلى الله عليه وسلم : غفر الله لك ، يا أبا بكر ، ألست تهتم ؟ ألست تحزن ؟ ألست تمرض ؟
قال : بلى ، يا رسول الله.
قال : (( لا يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا وصب ولا مرض إلا كفر الله بها من خطاياه)) (25).
قال بعض أرباب القلوب : رب باك دمعت عيناه من البكاء ، ولكن لا ينظر إلى نظر الله إليه .
ورب ساكت ساكن ، يخاف من وقعات قدمه : أن تعطيش به في نار جهنم.
فليس المقصد البكاء ، وإنما المقصد : خشية الله الواحد الأحد { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: من الآية 28) .
خرج ابن المبارك الزاهد العباد الشهير ، فمر بقصر لطاهر بن حسين في خراسان .
فنظر إلى القصر ، وكان مهولا ،فدمعت عيناه ، وقال : والله لقصيدة عدي بن زيد أحب ، وأحسن عندي من هذا القصر .
عدي بن زيد شاعر جاهلي يقول :
أيها الشامت المعير بالدهر *** أأنت المبرأ الموفور
هل رأيت المنايا خلدن أمن *** ذا عليه من أين يضام مجير
أين كسرى الملوك انو شروان *** أم أين قبله سابور
وأما توضعهم لربهم تبارك وتعالى : فإن اكبر ميزة للعالم التواضع ؛ لأن العلم كالمال قد يطغى صاحبه {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى} (العلق:6)
{ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} (عبس:5)
ولذلك تجد اكبر الناس كبرا وعتوا : المثقفون بلا إيمان من فروخ العلمانية ، وفروخ النصرانية ، وفروخ الماسونية ، وأذناب الشيوعية .
فمن صفة العالم : التواضع الذي يجلب التبسم.
فهو يرحم الضعيف ، ويقف مع المسكين ، ويقود الأعمى ، ويساعد الأرملة ، ويخدم بجاهه ، ويقلمه ، وبكتبه ، وبماله ، وبوقته .
خرج ابن معود من المسجد ، فخرج تلاميذه وراءه ، فقال : عودوا إلى أماكنكم ، والله ، لو علمتم ما عندي من الذنوب لحثوتم بالتراب على رأسي .
هذا ، وهو ابن مسعود صاحب قيام الليل ، والصحابي الشهير ،الذي يقول أحد تلاميذه : نمت عنده ، فتركني ، ثم قام يتلو القرآن كأنه نحلة حتى الفجر .
يقول العلامة الأندلسي يناجي الله في الليل ببيتين فيقول :
يا من سترت مثالبي ومعايبي *** وجعلت كل الناس كالإخوان
والله لو علموا قبيح سريرتي *** لأبي السالم علي من يلقاني
لماذا يتكبر العبد ؟
لماذا لا يعود إلى تاريخه المظلم ؟
لماذا لا يتذكر سيئاته مع الواحد الأحد؟
تخيل ، لو كشف الله مخازيك ، وعرضها على الناس ، والله لا يتجملون لك ، ولا يسلمون عليك ، ولا يزورونك ، ولا يرحبون بك ، ولا يستقبلونك.
فكيف برب العباد الذي ير الخطأ منك ليل صباح ، ويغفر ويعفو ويستر ؟
دخل أحدهم على ابن تيمية ، شيخ الإسلام ، فمدحه ، وقال يا ابن تيمية أنت العالم البحر .
فغضب ابن تيمية حتى احمر وجهه وقال :
أنا المكدي وابن المكدي *** وكذا كان أبي وجدي
يقول أنا فقير ، وأبي فقير ،وجدي فقير .
وله قصيدة اسمها الفقرية يشكو فيها فقره على الله ، يقول :
أنا الفقير إلى رب السماوات *** أنا المسكين في مجموع حالاتي
وفي الحديث الصحيح : (( من تواضع لله رفعه ، ومن تكبر على الله وضعه )).
فكلما يتكبر العبد يقول الله له : اخأ فلن تعدو قدرك .
وكلما تواضع قال الله : انهض فقد رفعك الله .
إذا علم ذلك ، فإن من مما يميز علماء الإسلام علماء السنة على غيرهم ، هو : التواضع لله عز وجل {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجاهلونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان:63) .
ولو ذهبت أعدد آثارهم ، وحكاياتهم في التواضع لطال المجال .
ولكن القوم فيما ظهر من أحوالهم : قد ساروا خطى قدوتهم وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي كان يضرب به المثل في التواضع ، كما علم هذا كثيرا ، حيث كان يركب الحمار ،وهو خاتم النبيين .
ويمشي مع الجارية .
ويقوم بأعماله المنزلية .
ويساعد أهله .
بل كان الداخل إلى المسجد ليسأله ، وهو لا يعرفه لا يستطيع أن يميزه من بين أصحابه ، حتى يسال عنه ؛ لأنه لا يتميز عليهم بثوب أو بجلسة أو بغير ذلك .

(18) رواه الترمذي (3736) ، والحاكم (3/242) وصححه وتعقبه الذهبي بقوله : لكنه منقطع ، وفي ثبوت الحديث بحث .

(19) وقد ذكر ابن الجوزي وغيره ، انه تاب وحسن إسلامه ، ثم أسلمت امرأته النصرانية.

(20) متفق عليه .

(21) صحيح ، رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وصححه الألباني في الصحيحة (944).

(22) حسن ، رواه ابن ماجه (4112) ، وحسنه الألباني في المشكاة (5176).

(23) صحيح ، رواه الترمذي ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (943).

(24) صحيح ، رواه أبو داود (4344) ، وابن ماجة (4011).

(25) صحيح ، رواه احمد ، وأصله في (( الصحيحين )) ، من حديثه ، رضي الله عنه .


أم عبد الله 24-07-2009 12:09 PM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
بطل المحنة

سير الصالحين مدرسة، أسسها القرآن ،ووعتها السنة ، ومعنا في هذه الأوراق : صالح من الصالحين ، بل أمام الدنيا ، وحافظ العصر ، وأحفظ أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحديث .
وعت الدنيا اسمه ، وحفظت القلوب رسمه ، فما هنالك فيما أظن مسلم يصلي خمس صلوات في اليوم والليلة ، إلا ويعرف هذا الإمام حتى من أعدائه من الكفار ، والمنافقين فأنهم يعرفونه إلى قيام الساعة .
هو الإمام ( أحمد بن حنبل ) أمام أهل السنة ، الواقف يوم المحنة ، الزاهد فيما سوى الله ، المتقن للحديث .
فمن هو الإمام أحمد ؟ علنا نقتدي بشيء من سيرته ، فإن لم نستطع ، فلنحبه في الله ، فإن المؤمن يحشر مع من أحب ، والمؤمن والخليل على دين خليله ، والله عز وجل يقرن الأصناف مع أصنافهم ، والأنواع مع أنواعهم والأشباه مع أشباههم.
أحب الصالحين ولست منهم *** لعلي أن أنال بهم شفاعة
واره من تجارته المعاصي *** ولو كنا سواء في البضاعة
ولد الإمام أحمد في آخر القرآن الثاني ، وعاش في بيت فقير .
مات أبوه ، وهو طفل ، فكفلته أمه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة .
قال أحمد ، رحمه الله : فحفظتني أمي القرآن ، وعمري عشر سنوات ، فحفظ كتاب الله ، واستوعباه في صدره ، ففرت الوساوس والشياطين من صدره ، فأصبح عابدا لله .
وقال أحمد ، رحمه الله : كانت أمي تلبسني اللباس ، وتوقظني وتحمي لي الماء قبل صلاة الفجر ، وأنا ابن عشر سنوات ، ثم كانت تتخمر وتتغطى بحجابها ،وتذهب معه إلى المسجد ؛ لأن المسجد بعيد ، ولأن الطريق مظلمة .
فانظر إلى هذه المرأة الصالحة !
عاش في هذا الجو ، وعاش في هذا البيت ،وكل همه : أن يعبد الله بكلام الله ، وان يكون عبدا خالصا لله .
قال : فأعطتني متاع السفر .
أتدرون ماذا أعطته من الزاد وكم أعطته من الألوف ؟ وكم أعطته من الدراهم والدنانير ؟
لقد صنعت له ما يقارب عشرة من الأرغفة من الشعير ، ووضعتها في حقيبة من قماش معه ، ووضعت معها صرة ملح!!
وقالت : يا بني ، إن الله إذا استودع شيئا لا يضيعه أبدا ، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه .
فذهب من عندها من بغداد ، من عاصمة الدنيا ، من دار السلام .
ل ماذا ذهب ؟ اذهب للسياحة كما يفعل اللاهون اللاغون اللعابون ؟
أم ذهب إلى التسكع كما يذهب السادرون المخمورون المسكورون ؟
أم ذهب إلى ضياع الأوقات والتدحرج على الثلج كما يذهب الذين رفعت عنهم أقلام التكليف ؟
لا ، بل ذهب ليبحث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذهب إلى مكة والمدينة .
من زار بابك لم تبرح جوارحه *** تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة *** والقلب عن جابر والسمع عن حسن

فذهب ، رحمه الله ، وقال مضيت من بغداد على رجلي إلى مكة ، فضعت في الطريق ثلاث مرات ، فكنت كلما ضعت استغفرت الله ، ودعوت الله .
قال : فوالله ما انتهيت من كلامي ، إلا وبدلني الله تعالى على الطريق .
من هو ملجأ الخائفين ؟ انه الله .
من هو منقذ العارفين ؟ انه الله .
فكان كلما ضاع في الصحراء ، التجأ إلى الله فليس عنده علامات ، ولا بوصلات ولا خطوط صحراء ، بل هي ارض مقفرة يضيع فيها الذكي والبليد.
فضاع الإمام أحمد ، ولكن رد اتجاهه إلى الله (( أحفظ الله يحفظ )) فلما حفظ الله حفظه الله في سمعه وجوارحه ودينه ومستقبله وسمعته إلى يوم القيامة .
وحفظ الله اسمه للملايين ؛ عند مسلمي الصين واليابان والملايو والعراق والجزيرة وسوريا والجزائر ، ومسلمي أمريكا ، فلهم يسمعون بأحمد بن حنبل ؛ لأنه حفظ الله .
ثم وصل إلى مكة ، وأخذ حديث مكة ، وبعدها سافر إلى اليمن إلى صنعاء اليمن ، إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني يطلب الحديث ، وبينما هو في طريقه ضاع مرة رابعة ، قال : وانتهت نفقتي من الخبز إما الدراهم فما كان عندي دراهم ، فماذا افعل ؟
قال : نلت إلى قوم أهل مزارع ، يحصدون ويصرمون ، فأجرت منهم نفسي ثلاثة أيام ، يا سبحان الله ! أمام الأئمة الذي يحفظ ألف ألف حديث ، كما يقول الذهبي وابن كثير ( أي : مليون حديث ) ويؤجر نفسه من الحصادين فيحصد لهم .
ووصل بحفظ الله إلى صنعاء ، واخذ الأحاديث النبوية وكتبها .
كان يسهر الليل حتى الفجر ،ويصوم النهار حتى الغروب .
يقول ابنه عبد الله : كان أبي يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة.
وانظروا (( تذكرة الحفاظ )) للذهبي ، و(( سير أعلام النبلاء )) له و((البداية والنهاية)) لابن كثير ، و(( تاريخ بغداد )) ، و (( تاريخ دمشق )) فكلها متواترة على انه كان يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة ، وكان يسرد الصوم إلا في بعض الأيام .
ووصل إلى صنعاء ، فقدم له جوائز من السلطان ،ومن الأغنياء ، فرفض وأبى وقال : اعمل بيدي ، فاشتغل في بعض الصناعات ، فرفض وأبى وقال : اعمل بيدي ، فاشتغل في بعض الصناعات بيده حتى أعطاه الله بعض النقود ، ثم عاد إلى بغداد .
أما علمه ، رحمه الله ، فهو البحر ، وحدث عن البحر ولا حرج ، (( واتقوا الله ويعلمكم الله )) فالعلم لي بالمؤسسات ، ولا بالشهادات ، ولا بالجامعات ، العلم :تقوى الله ، العلم :طلب العلم من الحي القيوم الذي يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم:{ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طـه: من الآية 114) ويقول لسليمان {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} (الأنبياء: من الآية 79).
فالفهم من عند الله ، والعلم من عند الله ، والفقه من عند الله ، والذكاء من عند الله ، فيا من اغتر بشهادته ، أو بمستواه ، أو بمنصبه ، والله ، لن تنفعك عند الله جناح بعوضة ، العلم : أن تتعلم وتعمل ، وتعلم الناس لي إلا ، سواء عندك شهادة ، أو لم يكن هناك شهادة ، سواء تعلمت في مدرسة أو لم تتعلم .
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } (البقرة: من الآية 282) ، فعلم الله الإمام أحمد ، فحفظ ألف ألف حديث ، يستحضرها كما يستحضر الفاتحة حتى كتب (( المسند)) من حفظه في أربعين ألف حديث ، فهو اكبر مسند في الدنيا ، وفي المعمورة ، وعلى البسيطة ، وبين أيدينا ، ولكن من يقرأ (( المسند ))؟ ومن يطالع (( المسند ))؟ ومن يتفقه في (( المسند))؟ أأهل الصحف اليومية والخزعبلات وأهل الملاهي والملاغي ؟ إلا من رحم الله .
وأصبح مطبوعا لنا طبعة فاخرة ، وأصبح معروضا لنا عرضا جيدا ، وأصبح محققا في الدواليب عندنا ، فوضعناه ديكورا وزينة .
فيا أمة محمد ، من يقرأ (( مسند )) أحمد ؟ إن من يقرأه سوف يجد التقوى والزهد ، والرفعة ، والخوف من الله خشية الله عز وجل .
أفت الإمام أحمد في ستين ألف مسالة ، يقال الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذم المنطق وذم الرأي ، وذم الفلسفة والجدل .
أما تواضعه : فمنقطع النظير ، وطالب العلم ، والمسلم ، والعالم والمسؤول ، إذا لم يكن متواضعا لله ، فلا تنظر إليه ؛ فإن الله قد مقته من فوق سبع سماوات ، وقد باء بخزي من الله ، إن لم يتب .
كان ، رحمه الله ، متواضعا جد التواضع.
قال الحفاظ : رأينا الإمام أحمد نزل إلى سوق بغداد ، فاشترى حزمة من الحطب ، وجعلها على كتفه ، فلما عرفه الناس ، ترك أهل المتاجر متاجرهم ، وأهل الدكاكين دكاكينهم ، وتوقف المارة في طرقهم ، يسلمون عليه ، ويقولون : نحمل عنك الحطب ، فهز يده ،واحمر وجهه ،ودمعت عيناه وقال : نحن قوم مساكين ، لولا ستر الله لافتضحنا ، نحن قوم مساكين لولا ستر الله لافتضحنا .
والعجيب في الإسلام: أن العبد كلما ازداد تواضعا لله ، كلما زاده الله رفعة، وكلما ارتفع كلما زاده الله حقارة ومهانة ، ومذلة جزاء وفاقا .
أتى رجل ليمدح الإمام أحمد ، فقال له الإمام أحمد : أشهد الله إني أمقتك في هذا الكلام ،والله ، لو علمت ما عندي من الذنوب والخطايا لحثوت على رأسي بالتراب ، انظر إلى الإمام ! انظر إلى العابد !
جاءه قوم فقالوا : يا أحمد ، يا ابن حنبل ،إن الله قد نشر لك الثناء الحسن ، والله أنا لنسمع الثناء عليك في كل مكان ،حتى في الثغور مع الجيش ،وهم يقاتلون العدو ، ويدعون لك وقت ما يرمون بالمنجنيق ، فدمعت عيناه ، وقال : أظن انه استدراج من الله عز وجل ، فقيل له : بل هي عاجل بشرى المؤمن .
أما زهده في الدنيا ، فقد رفعه عن كثير ممن عاش معه ، وأتته الدنيا راغمة إلى باب بيته فأباها .
طلب من أن يتولى القضاء فامتنع وقال : إن تركتموني ، وإلا فوالله لأهاجر إلى مكان لا تجدوني فيه أبدا .
كان دخله في الشهر سبعة عشر درهما فيقول : هذه تكفينا .
يقول أبناؤه : يا أبتاه، هذه لا تكفينا .
فيقول : إنما هي أيام قلائل ، وطعام دون طعام ، ولبا دون لبا حتى نلقى الله الواحد الأحد .
يقول ابنه عبد الله : بقيت حذاء أبي في رجله ثمانية عشر سنة ، كلما خرمت خصفها بيده ،وهو إمام الدنيا .
أرسل لها المتوكل ثمانية أحمال من الذهب والفضة ، حملها الوزراء على أكتافهم مع سرية من الجيش بعد المحنة ، فردها ، وقال : والله ، لا يدخل بيتي منها درهما ولا دينارا .
وأما خلقه ، فأحسن الناس خلقا ؛ لأن من يتعلم صباح مساء من القرآن ، ومن يجلس مع القرآن ، فسوف يؤثر فيه ، ولو طالت السنوات والأعوام.
والذي لا يأخذ أخلاقه من القران والسنة ، فمن أين يأخذ الأخلاق ؟ ومن أين يتعلم الآداب ؟ أمن ديكارت ، وكانت ، وغيرهم من الكفرة الذين نقلوا ثقافتهم إلينا لنتعلم منهم ؟ متى كانوا أساتذة ؟ ومتى كانوا معلمين ؟ بل هم أحقر الناس وأخبث الناس مع الناس .
إنما يتعلم من وحي السماء ؛ الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم .
يقول الإمام أحمد : رحم الله أم صالح ( يعني : زوجته وقد توفيت ) صاحبتني ثلاثين سنة،والله ما اختلفت أنا وهي في كلمة واحدة .
زوجته في بيته ، صاحبته ثلاثين سنة، ما اختلف معها في كلمة واحدة .
أتاه رجل من اتباع السلطان المعتصم ، فسب الإمام أحمد أمام الناس ، وجدعه وشتمه ، وأخزاه بالكلام ، ولكن لي بمخز ، إن شاء الله .
فقال الناس : يا أبا عبد الله ، يا أحمد ، رد على هذا السفيه .
قال : لا والله ، فأين القرآن إذن ؟ يقول الله عز من قائل : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجاهلونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان: من الآية 63) هذا هو القرآن الذي يمشي على الأرض .
كان يجلس للناس ،رحمه الله ، فيتعلمون منه وينظر إليهم ويباسطهم .
قال ابنه عبد الله : دخلت على أبي ، وهو جالس في البيت متربعا مستقبل القبلة، ودموعه تهمل على خديه ، فقالت : يا أبتاه، ما لك ؟
قال : تذكرت في هذه الغرفة موقفي في القبر وحدي لا أنيس إلا الله .
قال : فأراك متربعا لماذا لا تتكئ وتريح نفسك ؟ ( لأنه شيخ كبير ) ؟.
قال : استحي أن أجالس الله ،وأنا متكئ ، أما يقول الله : أنا جليس من ذكرني ،أنا جليس من ذكرني .
دخل عليه الأديب الكبير ثعلب فقال له الإمام أحمد : ماذا تحفظ من الأدب والشعر ؟
قال : أحفظ بيتين .
قال : ما هما ؟
قال : قول الأول .
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل طرفــه *** ولا أن ما يخفى عليه يغيب

فوضع الكتاب من يده ، وقام وأغلق على نفسه بابا ، وبقي في الغرفة .
قال تلاميذه: والله ، لقد سمعنا بكاءه من وراء الباب ،وهو يردد البيت :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
كانت اكبر الأماني في حياته أن يحمل السيف مجاهدا في سبيل الله .
نظر إلى قدميه وقت الوفاة فبك ، وقال : يا ليتها جاهدت في سبيل الله .
لكن والله ، لقد جاهد جهادا من أعظم الجهاد ، وبذلك علمه ، وبذل خلقه ، وبذل جاهه ، وبذل ماله، وبذل كل ما يملك في رفع لا إله إلا الله فكان إمام الدنيا بحق .
قال يحيى بن معين : والله ما رأيت أحدا كأحمد من حنبل ، والله ما أستطيع أن أكون مثله ثلاثة أيام .
وقال الإمام الشافعي ، رحمه الله : خرجت من بغداد وسكانها ألف ألف ( يعني: مليون) فوالله ، ما خلفت رجلا أتقى لله ، وأعلم بالله ، وازهد لله وأورع عن حرمات الله ،ولا أحب من الإمام أحمد بن حنبل .
رحم الله الإمام أحمد بن حنبل وأسكنه فسيح جناته وحشرنا في زمرته .

* فتنة خلق القرآن :
يقول سبحانه وتعالى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت:2 - 3) .
ويقول عز من قائل : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخباركُمْ} (محمد:31)
لما قرأ الفضيل بن عياض ، رحمه الله ، هذه الآية بكى ،وقال اللهم لا تبلونا فتفضحنا ، فنحن في ستر الله ، نال الله أن لا يفضحنا ، وأن لا يفتنا ، وأن يجعلنا في عافية وستر حتى نلقاه .
لكن للفتنة نتائج طيبة ،يجعلها الله للصابرين ، قال سبحانه وتعالى : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة:24)
فالمحنة والفتنة التي ترعض لها الإمام أحمد رواها أهل التاريخ جميعا ، وسمعت بها الدنيا شرقا وغربا ، وشمالا وجنوبا ، إلى قيام الساعة ، هي : محنة خلق القرآن ، أو الفتنة التي أورثها المأمون في الأمة والقول بخلق القرآن ، واختصارا لتعريف هذه المحنة ، فهي :
أن المأمون كان مشوبا برأي منطقي معتزلي .
يقول ابن تيمية : رحمه الله : إن الله لا يغفل عن المأمون لما أدخله من علم المنطق عند المسلمين .
والمأمون الخليفة العباسي ابن هارون الرشيد ، قال : بان القرآن مخلوق ، وكذب على الله ، فالقران كلام الله عز وجل ، والله يتكلم بما شاء متى يشاء ، لم يزل متكلما سبحانه وتعالى ، يقول عز من قائل :{ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } (لأعراف: من الآية 54) فالأمر هنا القرآن .
فقال هذا الخليفة : بان القرآن مخلوق ، واستخدم السيف ليثبت هذه القضية في الأمة ، وقتل ما يقارب ألفا من العلماء الكبار من علماء الأمة . من زملاء الإمام أحمد ، وملأ السجون بكافة العلماء ، فبعضهم أجاب خوفا من السيف ، وبعضهم رفض وقال : لا أجيب فقتل في الحال ، ومنع التدريس في المساجد ، ومنعت الخطابة إلا للمعتزلة ، وانتشر الشر الكثير ، فنصر الله الإسلام بالإمام أحمد بن حنبل ،الذي وقف وحده ، وقال : لا والله ، القرآن كلام الله . فطلبه الخليفة .
قال الإمام أحمد : أخت من بيتي وسط الليل ، وأنا أصلي فوضع الحديد في يدي ، وفي رجلي ، حتى أن الحديد أثقل من جسمي ، ووضعت على فرس ، فكدت اسقط ثلاث مرات كل مرة أقول : اللهم أحفظني، فكان يردني الله حتى أتساوى على الفرص (( أحفظ الله يحفظك )) ، وكان الجندي الذي معه يضرب الفرس لعل الإمام أحمد يسقط على وجهه .
قال : فلما أدخلت السجن سحبت على وجهي ، فنزلت فكنت استغفر الله ، قال : فلا أدري أين القبلة ، ولا ادري أين أنا في ظلام ، وفي وحشة لا يعلمها إلا الله ، فكنت أقول : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .
قال : فمددت يدي ، فإذا بماء بارد ،فتوضأت منه ، وقمت أصلي إلى الفجر ، انظر إلى حفظ الله حتى في الساعات الحرجة ، لا ينسى ربه تبارك وتعالى لأنه العون .
فالزم يد بحبل الله معتصمـــــا *** فإنه الركن إن خانت أركان

قال : فلما أصبح الصباح حملت على الفرس ثانية ، وما طعمت طعاما ، وكدت اسقط من الجوع ، فأدخلت على المعتصم الخليفة الثاني ، الخليفة العكسري ، صاحب عمورية ، فلما دخلت عليه هز السيف في وجهي ، وقال: يا أحمد ، والله ،إني احبك كابني هارون فلا تعرض من دمك لنا .
فقال الإمام أحمد : ائتوني بكتاب الله ، أو بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فدعي بالجلادين ، ودعي بجبار من الجبابرة ، وقال له : اضرب هذا الرجل ، يعني : الإمام أحمد ، فجلده مائة وستين سوطا ،حتى غشي عليه ثم استفاق .
فكان يقول : لا إله إلا الله ، حسبي الله ونعم الوكيل لأنها أطول كلمات ، ولأنها قوة هائلة ، ولأنها قوة فتاكة {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: من الآية 173) .
يقول ابن عباس ، رضي الله عنهما : قالها إبراهيم فنجاه الله من النار ، وقالها محمد فنجاه الله من كيد الكفار صلى الله عليه وسلم .
ورفض أن يجيب حتى تمزق ظهره من كثرة الجلد ، فرفع على الفرس وأعيد .
وبقي في السجن ثمانية وعشرين شهرا سرد الصيام في هذه الفترة ، كما قال ابنه عبد الله فما افطر يوما واحدا .
ثم في الأخير عرض على السيف ، ورفض فلما أعجزهم ، وأكلهم وأملهم أعادوه إلى بيته ، فأنزلوه ، وهو جريح .
يقول ابنه عبد الله : دخل أبونا علينا في الليل بعد ما أطلق من السجن ، قال : فأنزلناه من على الفرس فوقع من التعب ،ومن الإعياء ، ومن الضعف والهزال ، والمرض على وجهه فبقي أياما ، ثم تولى الخلافة المتوكل ، فنصر السنة، وأتى بالمال والذهب إلى الإمام أحمد ، فبكى الإمام أحمد ، وقال : والله ، إني أخاف من فتنة النعمة أكثر من فتنة المصيبة والمحنة،فرفض ، وما أخذ شيئا وبقي على هذا الحال .
وكان يقول : يا ليتني ما عرفت الشهرة، يا ليتني في شعب من شعاب مكة ما عرفني الناس .
فلما أراد الله أن يرفع ذكره قبضه إليه في يوم من اسعد الأيام مرض تسعة أيام ،ومحص الله ما بقي عليه من خطايا ومن ذنوب ومن سيئات ، لا يخلو عنها البشر في هذه التسعة الأيام ، وفي اليوم الأخير سمع الخليفة انه مريض ، فأمرر الناس بزيارته ،فانقلبت بغداد العاصمة؛ عاصمة الدنيا ، دار السلام ،ظهرا وبطن متجه طوابير ، وفي كتائب إلى بيت الإمام أحمد ؛ لتزوره في اليوم الأخير .
فقال أبناؤه : والله ، لقد أغلقت المتاجر حول بيوتنا ، ولقد وقف الباعة من كثرة الناس ، فرفض الإمام أحمد أن يدخل عليه إلا الصبيان ، والمساكين ، فأدخلوا الأطفال عليه ، فأخذ يبكي ويقبلهم ، ويمسح على رؤوسهم ، ويدعو لهم ، ثم ادخل عليه الفقراء، فأخذ ينظر إليهم ، ويقول : اصبروا فإنها أيام قلائل ، لباس دون لباس ، وطعام دون طعام حتى نلقى الله .
وفي سكرات الموت التفت إلى طرفه بيته ، والى طرف غرفته ، وقال : لا بعد ، لا بعد ، لا بعد .
فقالوا : ما لك ؟
قال : تصور لي الشيطان ، ورأيته يعض على إصبعه .
ويقول : فتني يا أحمد ، فتني يا أحمد ، يعني : هربت مني ، فقد فتنت الناس إلا أنت ، فيقول الإمام أحمد : لا بعد ، يعني : انتظر فإني أخاف على نفسي ، فقبضه الله عز وجل .
وكانت آخر كلماته : اللهم اعف عن من ظلمني ، اللهم اعف عن من شتمني ،اللهم سامح من ضربني ، اللهم سامح من سجنني ، إلا صاحب بدعة يكيد بها دينك ، فلا تسامحه ، وقبضت روحه ، رضي الله عنه وأرضاه .
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر *** فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

فأمر المتوكل أن يشعوا الجنازة ، ففتحت الثكنات العسكرية لجيش الخليفة ، وبقي الناس يتوضؤون من الضحى إلى صلاة العصر ، وحملت الجنازة ، وارتفعت في الصباح من بيته ، ووصلت إلى مصلاها قريبا من ضاحية بغداد في العصر من كثرة الزحام .
شيعه كما يقول أهل العلم : مليون وثلاثمائة ألف كما أثبتت ذلك التواريخ ، وتوقف اليهود والنصارى من بيعهم ذاك اليوم ، وهبت ريح على بغداد ، حتى قال بعض الجهلة : قامت القيامة ، وخرج الجيش ، وقوامه : تسعون ألفا في مقدمة الناس ، يرتبون الصفوف ، وترددت بغداد بالبكاء من أولها لآخرها ، ووصلت جنازته حتى قال بعض أهل التاريخ : كانت تذهب الجنازة على رؤوس الناس تحمل بالأصابع ، وتعود إلى المؤخرة ، وتذهب وتأتي ، فملا وضعت ارتفع البكاء ، وقام الناس يصلون عليها {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (الفجر:27) {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (الفجر:28 - 29){وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر:30) .
دفن ، لكن ما دفن علمه ، ولا تواضعه ، ولا زهده ، ولا ذكره الحسن ؛ فقد ابقى الله له ذكرا إلى قيام الساعة .
قال ابن كثير : رآه أحد الصالحين ، فقال : ما فعل الله بك ؟ قال : ناداني ، فقال : يا عبد الله ، الحق بابي عبد الله وأبى عبد الله وأبي عبد الله .
قلت : من هم ؟
قال : الشافعي ، وسفيان الثوري ، والإمام مال . {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الاحقاف:16)

أم عبد الله 24-07-2009 12:10 PM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
دروس من سيرة الإمام أحمد :
الدرس الأول : من سريته ، رحمه الله ، أن الرفعة من الواحد الأحد وان من يحفظ الله يحفظه .
الدرس الثاني : أن الدنيا لا تساوي جناح بعوضة وقد خلقها وما التفت إليها منذ خلقها .
الدرس الثالث : أن العلم النافع : العلم الصحيح ، العلم القويم ، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
الدرس الرابع : أن من أراد الرفعة ، ومن أراد المنزلة ، ومن أراد المكانة عند الله ، فعليه أن يتواضع ، وعليه أن ينزل نفسه ، وعليه أن يلغي اعتباراته ليرفعه الله .
الدرس الخامس : انك كلما سجدت لله سجدة ، رفعك بها درجة ، وهذا الإمام يصلي لله كل يوم ثلاثمائة ركعة ؛ لأن كل سجدة بدرجة عند الواحد الأحد .
الدرس السادس : أن في سير هؤلاء زكاة للقلب ، وتربية للروح وهداية إلى الواحد الأحد ، فطالعوا أخبارهم ، وتلمحوا سيرهم، وكونوا متشبهين بهم ، لعل الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل .

*****************************
حياة شيخ الإسلام
ابن تيمية

هو إمام عملاق ، وجهبذ قدير في هذا الدين .
وهو مجدد من المجددين ، وزاهد من الزاهدين ، وعابد من العابدين ، وعالم من العاملين بعلمهم .
هو .. ابن تيمية .
اسمه : أحمد بن عبد السلام ابن تيمية الحراني ، ولد سنة 666 هـ ، وتوفي سنة 728هـ ، ولكن قبل أن نبدأ في ترجمة الرجل ، لا بد أن أبين لكم عناصر لا بد أن تعرفوها:
العلماء هم الدعاة ، والدعاة هم العلماء ، فلا دعوة إلا بعلم ،ولا علم إلا بدعوة .
قال الله تعالى لائما بني إسرائيل ، لما توقف علماؤهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة:63)
ويقول سبحانه وتعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } (آل عمران: من الآية 187).
العلم الذي لا ينشر بين الناس ،ولا ينفق منه كنز مشؤوم على صاحبه .
يقول الأندلسي أبو إسحاق يوصي ابنه لطلب العلم ،ويمدح العلم :
هو العضب المهند ليس ينبــــو *** تصيب به مضارب من ضربت
وكنز لا تخاف عليه لصــــا *** خفيف الحمل يوجد حيث كنـت
يزيد بكثرة الإنفاق منـــه *** وينقص إن به كفا شــددت

ولتهاون العلماء بالدعوة هزمت الأمة .
فما تأخرت أمة الإسلام ، ولا انهزمت أمة الإسلام إلا بسبب نكوص العلماء عن إبلاغ دعوة الله ،وعدم جلوسهم مع الأمة .
يقول الله تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (لأعراف:175- 176) .
معنى الآية : أن مثل هذا العالم الذي ما نفع نفسه ، ولا نفع الأمة مثل الكلب ، فالكلب تجعله في الشمس أو في الظل فهو يمد لسانه أبدا .
* نشأة ابن تيمية :
ولد في بيت ملتزم ؛ بيت متقي ، بيت عابد زاهد ، يريد وجه الله ، والدار الآخرة .
ومنذ كان عمره ثمانية سنوات ، كان يمرغ وجهه في التراب مع الفجر ويقول : ( يا معلم إبراهيم علمني،ويا مفهم سليمان فهمني ).
فعلمه معلم إبراهيم ، وفهمه مفهم سليمان ،وأعطاه علما لا كالعلوم ،وأعطاه فهما لا كالإفهام .
علم وفهم اخترق بهما ما يقارب سبعة قرون ، حتى أصبح مجددا لمئات السنون ،حتى يقول مستشرق فرنسي يترجم لأبن تيمية : ( ابن تيمية وضع ألغاما في الأرض ، فجر بعضها ابن عبد الوهاب وبقي بعضها لم يفجر ).
* مؤهلاته :
أما مؤهلاته في مجال الدعوة فهي خمس مؤهلات :
1- الإخلاص ، والتجرد ،والنصيحة ،وقصد وجه الله عز وجل ، فهو يريد الدار الآخرة ، ويريد ما عند الله ، وهو دائما وأبدا ينصح غيره بأنه ينبغي الاعتناء بقوله صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم ، إخلاص العمل لوجه الله ، ومناصحة ولاة الأمور ،ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيد من وراءهم )).
ويقول ابن تيمية : بعض الناس يتعصب لهوى ، أو مذهب ،أو طائفة ، أو حزب ،فيجعلها هي المقصود بالدعوة ،وهذا خطأ بين ، أن المقصود بالدعوة ، هو : الله سبحانه وتعالى ، وليس الحزب ،وليست الطائفة، وليست الفرقة ، وليس الرأي الذي يدعو إليه .
ويقول أيضاً من أراد المنصب فليعلم انه لا يحصل على منصب أعلى من فرعون ،ولكن أين فرعون ؟ انه يعرض على النار غدوا وعشيا . { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر: من الآية 46) .
وإن كنت تريد المال ، فاعلم أن قارون حصل على مال كثير ، لا تحصل عليه أنت ، خسف به الله الأرض، فماذا نفعل ؟
قال : فعليك بإخلاص العمل لوجه الله، فإن وجهه هو الباقي وما سواه فإني.
2- من مؤهلات ابن تيمية : العمل بعلمه ، وتقواه لربه تبارك وتعالى ، فعلم ليس فيه عمل ، وليس فيه خشية ، وليس فيه امتثال ، إنما هو معلومات مجردة يحفظها الإنسان في ذهنه ، ولا تنفعه أبدا ، ولا تقربه من الله سبحانه وتعالى .
فأما عمله – أي :ابن تيمية – بعلمه فله جوانب :
الأول : الزهد ،فقد كان منقطع النظير في الزهد ، فما تولى منصبا في حياته على الإطلاق .
وكان له ثوب ابيض دائم ، وله عمامة بيضاء ،وكان ربما يرتدي في البرد ثوبين .
يقال : مر في سكة من سكك دمشق ، فمر به سائل يسأله فبحث في جيوبه ، فلم يجد شيئا من الدراهم،ولا الدنانير، فاختفى وراء سور هناك ثم خلع ثوبه الأعلى وأعطاه المسكين!!
يقول صاحب (( الأعلام العلية )): تأتيه الدنيا ؛ الذهب والفضة والخيول والحواري ، إلى غير ذلك ،فينفقها في ساعتها ،ولا يدخل ولو درهما عنده .
الثاني : في الشجاعة : فقد وقف مع سلطان المغول ، لما دخل دمشق ، وحدثه بقوة وجرأة منقطعة النظير .
ولما دخل التتار بلاد المسلمين ،جمع الناس ، وقام وسل سيفه. وقال : أيها الناس ،افطروا هذا اليوم – ليتقووا على القتال – ثم تناول كوبا من الماء ، فأفطر أمام الناس ، فأفطروا ، ثم قال للسلطان : عليك أن تنزل الجيش من الثكنات للقتال ، فأنزل السلطان الجيش ، وبدأت المعركة ،وشيخ الإسلام في المقدمة .
وكان يقول : والله ، لننتصر في هذا اليوم ، فيقول تلاميذه له : قل إن شاء الله .
قال : تحقيقا لا تعليقاً.
أما مؤهلاته في عالم الأخلاق ، فان الله قد آتاه الخلق الحسن ، لولا الحدة التي تعريه ، والحدة في الرجل لقوته ،حتى يقول شاعر اليمن يمدح شيخ الإسلام .
وقاد ذهن إذا سالت قريحتـــه *** يكاد يخشى عليه من تلهبه
وقد كان عنده من الصبر الشيء العجيب
يقول ابن القيم : مات أحد أعدائه من العلماء فأتيت أبشره .
قال : فاحمر وجهه ودمعت عيناه ،وقال : تبشرني بموت مسلم ، ثم قام فقمنا معه ، حتى ذهب إلى بيت خصمه ،فعزى أهله ودعا لميتهم ، فبكى أهل بيته، وتأثروا من هذا الموقف ، بالأمس كان أبوهم ألد الأعداء لابن تيمية ، واليوم يقول ابن تيمية هذه الكلمات الطيبة . {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: من الآية34) .
3- المؤهل الثالث لابن تيمية في مجال دعوته : اعتصامه بالكتاب والسنة ، ومن ضمن أقواله : وعلى طالب العلم : أن يعتصم بدليل في كل مسالة ، وان يترك كل دليل ،أو كل رأي يخالف ما فهمه من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فإنه المعصوم .
ولما اعتصم بالكتاب والسنة ، رزقه الله سبحانه وتعالى تمييزا وذكاء وفهما .
ويقول : أهل السنة والجماعة وسط في الأسماء والصفات ، ووسط في الوعد والوعيد ، ووسط في الإيمان ، ووسط في القدر ، ووسط في الأمر بالمعروف ،ووسط في الفقه .
4- العامل الرابع من عوامل مؤهلاته في عالم الدعوة : صدق اللجوء وقوة التوكل .
فقد كان يذكر الله بعد صلاة الفجر دائما ، هذا غذاؤه .
ويقول: لو لم أذكر الله لخارت قواي .
ويقول لابن القيم: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة .
ويقول : إنها لتصعب على المسالة، فاستغفر الله ألف مرة،أو اقل أو أكثر ، فيفتحها الله علي .
ولذلك أورد عنه ابن القيم في (( مدارج السالكين)) انه أن يقول : يا حي يا قيوم ،لا إله إلا أنت برحمتك ،أستغيث أربعين مرة ،أو أكثر أو اقل .
وذكر عنه الذهبي : أن عيناه كانت كأنها لسانان ناطقان من كثرة الذكر .
وقال الذهبي عنه : لو حلفت بين الركن والمقام إني ما رأيت كابن تيمية لصدقت ، ولو حلفت من الركن والمقام انه ما رأى مثل نفسه لصدقت .
وقال له تلاميذه : نراك ما يفتر لسانك من ذكر الله .
قال : قلبي كالسمكة ، إذا خرجت من الماء ماتت ، وقلبي إذا تركته من الذكر مات !
ويقول ابن القيم عنه : رأيته في السجن ،وهو ساجد يبكي ،ويقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك . يرددها طويلا .
وأما صلاته ، فكان يصلي في بعض الأحيان بالناس في مسجد بني أمية في دمشق ، فكان إذا قال : ( الله أكبر ) رفع صوته حتى سمعه من في الطرقات ، فتكاد تنخلع القلوب إذا كبر .
ويروي ابن القيم في ( روضة المحبين ) ، عن تقي الدين بن شقير ،انه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية صلى صلاة العصر في مسجد بني أمية ، ثم خرج إلى الصحراء وحده ، قال تقي الدين بن شقير وكان من تلاميذه : فخرجت وراءه ، حيث أراه ، ولا يراني ، فلما توسط الصحراء رفع طرفه إلى السماء وقال : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، ثم بكى ثم قال :
وأخرج من بين البيوت لعلنــــي *** أحدث عنك النفس بالسر خاليا

ولذلك يقول ابن رجب :أن من الأسباب التي حمته ومنعته من كيد الأعداء : كثرة الذكر والأوراد ؛ التي ما كان يخل بها .
5- العامل الخامس : من مؤهلات ابن تيمية ، رحمه الله ، في مجال دعوته معرفته الواسعة بحال عصره وواقع أمته .
فبعض الناس يعيش في هذا العصر ، وكأنه يعيش في القرآن الثالث ، ولكن ابن تيمية يعيش في القرن السابع ، ويعرف مشاكله ،ومتطلباته ، وماذا يريد منه أنباء العصر ، ولذلك عرف الكتاب ولسنة ،وعرف هذا الدين ثم أتى يتكلم بهما للناس بما يحتاجه العصر .
ولذلك كتبه تدل على هذا ،ويأتي على رأسها كتاب (( اقتضاء الصراط المستقيم ))، الذي سماه محمد حامد الفقي ( القنبلة الذرية) !! فهذا الكتاب ألفه ليواجه به الجاهلية التي كانت في عصره .
فمعرفته لواقعه ، وحال عصره ،أفاده بان يضع الدواء على الداء فنفعه الله في ذلك ، وقد حل كثيرا من مشكلات عصره ، وصحح كثيرا من الأخطاء التي عاشها في عصره ، وعالج كثيرا من الأمراض التي رآها في عصره، رحمه الله رحمة واسعة .

أم عبد الله 24-07-2009 12:11 PM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
*وسائل دعوة ابن تيمية
هي وسيلتان :
الوسيلة الأولى : التأليف وهي على ثلاث نواحي :
الرسائل .
الردود .
والمصنفات الكبار .
فالرسائل ؛ كأن يسأل عن قضية ، فيجيب عليها رحمه الله ( الكحموية ) لأهل حماه ، ( والوسطية ) لأهل واسط ، ( والتدمرية ) لأهل تدمر ، فيرسل الرسائل إلى الناس ينفعهم بها ، ويفيدهم ، ويقودهم إلى الله عز وجل .
أما الردود ؛ كان دائما يرد الفكر والشبه التي تؤثر في أصول الدين ككتاب 0 (الصارم المسلول ) ، وسببه : أنه سمع نصرانيا يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فذهب إلى السلطان فشكى النصراني .
فأتى العوام ، فقالوا :الحق مع النصراني ، والخطأ على ابن تيمية !! فجلده السلطان في المجلس !! ولكن :
إن كان سركم ما قال حاسدنـــا *** فما لجرح إذا أرضاكم ألم

فما دام أن الجلد في سبيل الله، فأهلا به وسهلا ، فخرج غاضبا من المجلس وكتب : (الصارم المسلول على شاتم الرسول) فأبدع في هذا الكتاب. ورد فيه على اليهود والنصارى .
ومن الردود : (( الرد على الأخنائي )) ، رد عليه في (( مسالة الزيارة )) ورد على السبكي في (( مسالة الزيارة)).
ومن الردود : (( منهاج السنة )) ، رد فيه على الشيعة الرافضة .
أما المصنفات الكبار : فككتاب ( درء تعارض العقل والنقل ) ، وهذا الكتاب من يقرؤه فهو من أذكياء العالم !
يقول ابن القيم : ما طرق العالم مثل هذا الكتاب .
الوسيلة الثانية :
اللقاء مع الناس ، فقد التقى مع العلماء ،والتقى مع السلاطين ،والتقى مع عامة الناس .
فأما العلماء : فكان يلتقي معهم ، ويناظرهم ، ويباحثهم ، وهذا مستفيض من سيرته .
والتقى مع سلطان الشام ، وسلطان التتار وغيرهم .
وأما العوام : ففي دروسه في المساجد ، وفي الفتاوى ، التي ترده منهم .
********************
1- وقوف السلاطين مع خصومه .
2- جرأته وحدته التي خسر بها كثيرا ممن كادوا أن يناصروه .
3- خطورة القضايا التي عالجها ، فقد تكلم كثيرا في الأصول .
4- كثرة الخصوم وتعدد الجبهات التي واجهها( الشيعة ، الأشاعرة ،اليهود والنصارى ، الصوفية ، المقلدة ، السلاطين ... إلخ ).
5- الحبس والسجن ، ولكنه ما ازداد به إلا قوة وصلابة .
6- الجلد والتشهير ، فقد جلد ، وشهر به ، وتكلم في عرضه في كل مجلس .


ولكن في الختام ، كان نجاح منقطع النظير يحققه ابن تيمية في عالم الدعوة ، وينتهي إلى أن يعقد الإجماع من قلوب الموحدين من الأمة على انه هو رجل الساعة في فترته .
وتحيا كتبه قرونا طويلة تحيي قلوب المجتهدين والعاملين للإسلام .. ليرتفعوا رفعته .

والله اعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آهل وأصحابه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،



وكتب
د. عائض بن عبد الله القرني

قطرات الندى 25-07-2009 12:21 AM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
مراقبتنا الغالية
جزاك الله خيرا
على هذا الجهد الطيب...

أم عبد الله 26-07-2009 10:25 AM

رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
 
جزانا الله وإياكم اشكر مرورك مراقبتنا الغالية


الساعة الآن : 07:42 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 195.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 195.08 كيلو بايت... تم توفير 0.81 كيلو بايت...بمعدل (0.41%)]