تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (1): د. توفيق العبيد ( كتاب لا تنقضي عجائبه) (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) [سورة يوسف 1: 3] في أيامنا هذه التي تعصف بها المحن على أمتنا الإسلامية، حتى من هولها يكاد الحليم يكون حيرانا، يتلمس طريق النجاة .. كانت العودة للكتاب الخالد، والتدبر في معانية، ومقاصده، حبل النجاة الذي لا ينقطع ما امتد الدهر، أو اشدت الصعاب .. بجهد المقل، وبتأمل في القرآن الكريم، تلمست بعض الدروس والعبر من قصص أنبياء الله تعالى، سادة وقدوة البشر. كانت سورة يوسف عليه السلام محط النظر، ومداد الفكر بما سيخطه القلم. طالعت مطلع تلك السورة العجيبة، وتأملت في نسقها، وتناغم معانيها… فكان العجب ! يا لها من آيات لذلك الكتاب المبين! كتاب لا غموض فيه، رسالته واضحة، لا حاجة ليخفي منهجه، فهو يحمل الحق والعدل ورفعة البشرية. إنه ليس ككتب البشر التي تسطر كلماتها في أقبية الظلام، لتهلك الحرث والنسل، ولكنه بيِّن واضح لكل من يهوى معرفة الحقيقة. ويا لعجيب أمة نزل بلغتها كلام ربها! ثم بعد ذلك يهجرون تلك اللغة، التي هي مفتاح الدخول لعالم القرآن الذي رسم بها ما يسعدهم، ويرشدهم لطرق السيادة والقيادة والسعادة. ليتهم عقلوا أن القرآن هو الذي عزهم، وليتهم جعلوه منهجهم ودستورهم. ليتهم يدركون أن الله اصطفاهم بكتابه، ورفعهم بالذود عن حياضه، فلما باعوا عقولهم لزخرف الغرب وبهرجه صاروا لغيرهم أذلة. كتاب الله فيه أحسن قصص، وأبدع بيان، وأصدق قول، وأفصح لسان. لم تكن الأمة قبله موجودة، بل لا تملك مقومات الوجود، وأنى لها ذلك وأساس البناء للحضارات وهو العلم مفقود ؟ فلما جاءهم الكتاب، وحفظه الأصحاب، وانطلقوا به للآفاق صاروا أمة، وبنوا مجدا وحضارة. حقا .. كتاب فيه أحسن القصص وأعظم العبر، فهو وحي من الله، وقد كنا قبله في غفلة وضلال مبين، وعدنا لها لما جعلنا وراء ظهورنا واشتريناربه ثمنا قليلا . لخصت هذه الآيات التي كانت بمثابة تمهيد بين يدي السورة فحوى السورة كلها. لخصته بإيجاز وإعجاز عجيبين، فكل السورة واضحة المعالم، فهي سورة من كتاب مبين، رسمت حروفه بإعجاز منقطع النظير، وهي من أحسن القصص، وهي دروس لأمة تريد العيش بحرية وكرامة، وتخرج من ظلام أزماتها إلى أنوار المعرفة واليقين. ومع ختام هذه المقدمة القرآنية لسورة تحكي ملحمة إنسانية، تبدأ الآيات التالية لترفع الستارة الأولى لبداية رحلة يوسف التي تبدأ بحلم. |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (2): د. توفيق العبيد ( الأمجاد تبدأ بحلم ) (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [سورة يوسف : 4] يستكثرون علينا أن نحلم بمستقبل أجمل لنا ولأبنائنا ولأمتنا .. يحاولون زج الصعوبات أمام أحلامنا كي لا نفكر في تحقيقها .. لو استطاعوا لمنعونا أن نحلم .. بين يدي بداية الحديث عن حلم صار مجدا .. وعن تعب خلف سعادة على أمة بثبات فرد وحين اتصاله بالله. نام يوسف عليه السلام، ليبصر مستقبله العظيم، في رؤيا عجيبة، لم ير مثلها بشر قط، ولتكون تلك الرؤيا إيذانا برحلته نحو المجد، وعبر مصير ومحن لم يكن يعلمها، ولا يدري بها. إن غالب الناجحين بدأ نجاحهم بحلم، وساروا معه، وعاشوه حتى صار واقعا. لقد رأى ملكة السماء وهي الشمس مع طاقمها - السابح في ملكوت الله - تسجد له، كان عددهم أحد عشر كوكبا .. أشرقت الشمس التي رآها في المنام له ساجدة، ومضى يقص الحلم على أبيه، وياله من حلم عجيب! أتساءل: منذ متى كانت الكواكب والشمس والقمر تسجد لأحد؟ وهي المقيمة في علياء الكون، تطوف في فضائه بأمر ربها، كل في فلك يسبحون؟ بل لماذا يري الله يوسف تلك الرؤيا بتلك الرمزية التي تؤول لاحقا بإخوته الأحد عشر، وبأبويه الشمس والقمر؟ إنها إشارة إلى علو مقام الأخوة لو كان الإخوة يدركون! وإلى قداسة الأبوة لو كان أهل العقوق يعقلون. بل إنها تصف الرابط والصلة العجيبة بين الأب وابنه، في قوله: ( إذ قال يوسف لأبيه): إذ لم يكن أبا فحسب، بل كان الأب والأم والصديق، الذي نال ثقة ابنه، فراح يخص والده بأدق أمور حياته. فهل يتعظ الآباء الذين يناصبون أبناءهم العداء؟ أم هل ينتبه الأبناء الذين عقوا الآباء لأهمية الاب في حياتهم، وكونه السند لهم؟ يا إخوتي: إن ابنا لا يجد أذن أب صاغية له سيذهب لطريق آخر يبحث عمن يسمعه، ولربما لا يجده، ويجد من يقوده لطريق الدمار والخراب. وتأمل معي أي احترام وقداسة للأبوة تلك التي عاشها يوسف في تعامله مع أبيه، (يا أبت)، نداء ترجم الحنان، والحب، والاحترام. ومع الحلم كانت البداية التي تكشف عن مشهد يفتح الطريق لحكاية تبدأ لتستمر. |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (3): د. توفيق العبيد (رواية حلم ونذير خطر) (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [سورة يوسف : 5] من نافذة الحنان أبصرت ثمرة يانعة، مذاقها المودة، وريحها البر والصلة. ما أطيب ثمرة بر الابن وحنان الأب إذا امتزجا! إن ذاك التمازج يعزز ترابطا أسريا ينعكس ظله على تلاحم وتواصل المجتمع بأسره. إن الأب الذي تلقّى كلمات الود والاحترام والبر من ولده، يخاطب ذلك الابن بذات الأسلوب العاطفي السامي: ( يابني). يا لعجيب هذه الآيات، كيف ترسم لنا معالم النجاح بأسلوب أخَّاذ، يجعل الأمل يأخذ بيد الحلم ليحوله مع الثبات والإصرار إلى حقيقة تعانق عالم الشهادة، بعد أن كان في رحم الغيب . نحن نحلم بوطن حر كريم، وآخرون يسخرون من أحلامنا، وآخرون يتربصون بها، ولكن الأيام ستثبت لهم أن أحلامنا لم تكن أضغاثا لا واقع لها. بحنان الأبوة الحرَّى، وبلوعة أب أبصر من الخطر المحدق بولده بعض خيوطه، يتوجه يعقوب الأب، بالنصح لولده، أن يخفي رؤياه عن إخوته، فلا ينبغي أن نحدث أيا كان بتلك الأحلام، فلطالما أوقف الحسد تحققها!!! الرؤى قصص وليست مقالا أووخاطرة، إذ أنه في لحظة نوم يسجل العقل أحداثا تحتاج لكتاب لتدوين تفاصيلها، فليس أدق من وصفها بالقصص في قوله: ( لا تقصص رؤياك). إن كانت الآية التي قبلها ترمز للأخوة بالكواكب، وتشير كما قلت إلى قداسة تلك الرابطة فما بال الآية هنا تحذر من كيدهم؟!! الجواب يسطره آخر كلام يعقوب عليه السلام: "إن الشيطان للإنسان عدو مبين". إن من أخرج أبا البشرية من الجنة، لا يصعب عليه تأليب الأخوة على أخيهم، فالخوف ليس منهم بل من شيطان قد يغلبهم بوسوسته فيفعلون ما لا تحمد عقباه. وهنا أجدني أمام سؤال يفتح آفاق التامل أمامي: من يقص رؤياه على أحد ألا ينتظر عادة منه تأويلها؟ أليس يعقوب عليه السلام نبيا فلم لم يؤل رؤيا ولده؟! ذلك أن حكمة الله اقتضت أن يغيب عن يعقوب تأويل تلك الرؤيا، لكي تمضي سنة الله في أن يكون في خبر يوسف وإخوته العبرة والعظة. وليكون يعقوب نفسه أحد رموزها، ولو علمها لما أدركنا الدروس من فراق يعقوب ليوسف، ولا عرفنا كيف نثق بالله، وغيرها من العبر التي أجراها الله على نبيه يعقوب وهو لا يعلم. ولكنه في الوقت ذاته كان يستشعر بأن لابنه شأناً عظيماً. فقد أراد بالنصح له بعدم الإخبار لإخوته، أن يعطينا درسنا عظيما، بأن الناجحين لا يخبرون أحدا بأحلامهم كي لا يغتالها الحاسدون قبل تحققها. أما آن لنا أن ندرك أهمية الكتمان في مسيرة النجاح؟! إن البيانات التي يصدرها الثوار اليوم قبل بدء المعارك، هي كمن يبيع الدب قبل صيده، بينما في المعارك التي لها سياسة المباغته للعدو، هي الناجحة. الآية بإيجاز تحوي درسا مفاده: اخف أحلامك وامض في تحقيقها، فالحديث عنها قبل القدرة عليها يجعلها عرضة للموت قبل النمو. وتستمر الآيات لتفتح الآفاق أمام تأملاتنا، لتحكي ما أنعم الله به على يوسف وآل يعقوب، في أسلوب تصويري للقصة مبهر معجز. |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (4): د. توفيق العبيد (اصطفاء الله لأوليائه) (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة يوسف : 6] قصَّ يوسف عليه السلام رؤياه على أبيه، وأبصر الوالد من خلف رؤياه خيرا محفوفا بخطر ربما لم يدركا أبعاده، ولكنها فطرة الأبوة الحانية، التي تهمس في حنو ووجل: "لا تقصص رؤياك على إخوتك". تذكرت وأنا أتأمل خوف يعقوب وتحذيره، نداء حانيا لطالما هز وجداني، وحرك أشجاني، وأبكاني، يوم نادى نوح ابنه : ( يابني اركب معنا)، ولكن الابن عقَّ أباه، وحال الموج بينهما، وكان الغرق مآله والقبر مأواه. وظلت عاطفة الأبوة تنزف والقلب يتضرع، حتى أتاه النبأ: إنه ليس من أهلك. ليت الأبناء يدركون أي وجل يتملكنا عليهم ونحن نعظهم من خطر نبصره ولا يبصرونه، ونعظمه ويحقرونه. كانت رؤيا يوسف عظيمة، وتشير إلى مكانة يريدها ربه له، فراح الأب يزف لابنه بشرى الاجتباء والاصطفاء من رب الأرض والسماء. هكذا يجب أن نعامل من أتانا هاربا من خوف أصابه، أو رؤيا أهالته وأطارت صوابه، بالتطمين، والتشجيع، فتلك الإيجابية في التعامل لها وقعها في تحفيز النفس نحو الخير. يا للمكانة التي نلتها يا نبي الله بوسف!!! إنَّ الذي يجتبيك ليس ملكا انحنت العمائم أمام دنياه، تزين إجرامه وفساده وفق هواه… وليس غنيا تتزلف النفوس الضعيفة إليه وتقبل ذلا يداه. إن الذي سيجتبيك هو الله . يارب سبحانك!!! سبحانه، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله. أنت القادر على أن ترفع وتخفض، وتعز وتذل، وتعطي وتمنع، تعطي من تشاء بفضلك وتمنع من تشاء بعدلك.. ومع هذا جعلت للاجتباء والاصطفاء طريقا واحدا لا ثاني له، إنه العلم. وبعد حين سنجد كيف يرفع الله الابن فوق أبيه، لا بقوة ولا بجاه، ولكنه بالعلم، وقد سبق أن رفع الله سليمان على داوود عليهما السلام وكلا آتاه علما وحكمة: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [سورة الانبياء : 79] ولما ذكر سليمان نعم الله عليه، كان أولها :( وعلمنا منطق الطير) .. ولما أراد الله إقامة الحجة على ملائكته بشأن آدم، علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فلما عجزوا، أَمَر الله آدم أن يخبرهم بها، ليدلنا على أنه لا رفعة بغير العلم. يامن لا تحسنون تلاوة القرآن كيف تفتون بفهم ما لاتحسنون تلاوته؟! بل كيف تستبيحون دما لا تعظمون حرمته؟! اعلموا أن الحكم لا يثبت بالسلاح، ولكن يثبت بالعلم، ولطالما غلب دهاة الحروب جيوشا جرارة بعلمهم وخبرتهم. ولكن ليس كل علم يرفع صاحبه، فلابد من العلم الذي يحتاجه الناس، فمن درس علما لا يحتاجه الناس لم ينل الرفعة ولا المكانة. وما أحوج الناس لعلم الرؤى اليوم لا سيما لأمة عدد ساعات نوم أبنائها أكثر من عملهم وابداعهم!!! أكثر الكتب مبيعا في مكتبات المسلمبن اليوم هي كتب الطبخ وتأويل المنامات؛ لأننا أمة اهتمت بالنوم والطعام فخضعت رقابها لحكام الظلام. "ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب"، ذلك أن صلاح الفرد ينعكس على أسرة بأكملها: العلم يرفع بيتا لا عماد لها والجهل يهدم بيت العز والكرم ولأن العلم طريق نجاح وتحقق حلم يوسف، كانت خاتمة الآية :{ إن ربك حكيم عليم}. حكيم بجعل الأمور في مكانها ونصابها. عليم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. ويسدل الستار على مشهد يوسف مع أبيه، ليرفع في الآيات التالية عن مشهد جديد إيذانا بنهاية المقدمة. وبداية رحلة نخوضها في أعماق التاريخ، فنبصر طفولة وصراعا، ورحلة عناء ما كانت في حساب يوسف ولا حساب أبيه. |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (5): د. توفيق العبيد آيات للسائلين (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) [سورة يوسف : 7] بدأت الحكاية، ورفعت الستارة عن أول مشاهد قصة ملحمة الإنسان. المشهد يلمح بأن ثمة صراع بين النفس التي تلوثت بالحسد، فأخرجت علقما أسودا مرا، وخلصت لفعل ضعفت أمامه علاقة الأخوة، وبين الفطرة طمست وعلا صوت الحسد فيها لتتولد المأساة. يا لعجيب بيان القرآن! إنه يتكلم ويجيب عن حوارات تدور في النفس، بل وقبل أن تنطق الشفاه بها كان الجواب حاضرا. فحينما حذر يعقوب عليه السلام ولده من كيد إخوته، لا شك أن منا من تساءل: أليس المفترض أن يفرحوا لما سيكون لأخيهم من خير؟ أليسوا سينالهم من ذلك الخير خير؟! فلم يكيدون لمن سيكون مصدر خير لهم؟ لأجل هذا التساؤل الخفي كانت الآية الكريمة: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) لم يقل آية، بل آيات كثيرة. إن الجواب أكبر من أن تحويه سطور، لذلك اختصر الجواب بقوله: ( آيات للسائلين). وجاء بكلمة :(آيات) بالتنكير وبدأ بعدها بالقصة، ليشير أن تلك الآيات سيعرفها ويدركها السائل من طيات القصة. ولهذا جاءت الآية التالية تستفتح بقوله: (إذ قالوا)، في إشارة إلى أن المتساءل سيجد الجواب ابتداء من رفع الستارة عن أولى مشاهد القصة. إن قصة يوسف وإخوته تحكي صراع نوازع الفطرة والغريزة مع الإيمان في معركة ليست من السهل بمكان، وينتصر في نهايتها الإيمان. تلك الآيات التي جعلها الله في قصة يوسف عليه السلام هي التي سنبحر في أعماقها لنستخرج اللآلئ الثمينة. هاقد بدأنا نعود للزمن الماضي، وها نحن على أبواب تاريخ يمتد لآلاف السنين، لنعيش أولى أحداث القصة، في تصوير للحوار الأول الذي بين الإخوة، وما سيتمخض عنه. |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (6): د. توفيق العبيد تآمر الباطل الكثير لا يجعله صوابا (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [سورة يوسف : 8] طالما تغنى العالم بتقدمه وتطوره حينما سلم الحكم للأكثرية، متجاهلا أن الباطل عادة يفوق الحق كثرة. ها هو عدد البشرية فاق الستة مليار نسمة، خمس مليارات منهم يكفرون بالله تعالى، فهل صارت كثرتهم حقا؟! إنهم بهذا الفكر يرسخون لحكم أنطمة الباطل، بل حينما تكون الكثرة أحيانا للحق، ويوشك أهل الحق تسلم حركة الحياة، سرعان ما ينقضون عليهم ليعدوا دفة الحكم للباطل. ولكن سيبقى الحق حقا كثر أو قل وسينصتر على الباطل في المعاركه الفاصلة كثر أنصار الباطل أو قلوا، فتلك سنة الله: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة : 249] في ثنايا تأملاتنا في هذه الآية سنتحدث عن موطن الشاهد الذي دعاني للتقديم بهذه المقدمة بين يدي هذه الآية من سورة يوسف عليه السلام. الآية التي بين أيدينا تجسد حقيقة لا يمكن تغييرها وهي : أن اعتقاد أهل الباطل أنهم على الحق بداعي الكثرة، وهم مفرط ساقهم إليه عميق الجهل، والكبر والحسد اللذين طمسا نور الفطرة. وفي ذات الوقت تصور الآية، أحداثا وحوارات في مؤتمر شيطاني يعقده إخوة الدم، الذين شيطنهم الحسد ذاك الذي أخرج إبليس من الجنة. يتم فيه التباحث بشرٍّ ما كان للإخوة أن يفعلوه بأخيهم لو لم يكن هذا الشعور قد شغلهم طويلا وطفا على قلوبهم. ياله من أمر خطير وغريب ذلك الذي اجتمعوا لأجله!!! إنهم يوضحون بهذا المؤتمر سنة أهل الباطل حينما يضيقون ذرعا بالحق وأهله. لم يجتمعوا لمساعدة أخيهم، ولا لإدخال السرور عليه وصد الأذى عنه، بل للأسف اجتمعوا بشأن التخلص منه! . طريقة معالجة من شيطن إبليس قلوبهم، لا تكاد تختلف عبر الزمن، ألا نتذكر ذلك المؤتمر الذي عقدته قريش للفتك بمحمد عليه الصلاة والسلام حيث اجتمعت بدار الندوة وحضر الشيطان ذلك الاجتماع على هيئة رجل من نجد وحينها نزل القرآن يحكي مكرهم المهزوم أمام مكر العظيم الجبار سبحانه: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [سورة ا?نفال : 30] ولكن مادام الله خير الماكرين فلا نخشى مكر الطغاة والمجرمين، مهما علا صوتهم وعظم كيدهم وكثرت مؤتمراتهم. وها أنا أتأمل بهذه الكلمات التي استوقفتني زمنا: "إن أبانا لفي ضلال مبين": إنها تحكي أسلوب من يبيتون إزاحة معارضيهم من طريقهم. إنهم يحاكمونهم ويصدرون عليهم الحكم الذي يشتهون، ويبررون لأنفسهم بعد ذلك بما يزيح عن كاهلهم ألم لوم النفس التي جعلها الله بين جنبينا لتصرخ بنا وتنبهنا كلما حدثتنا بفعل السوء. إنهم بتلك الحجة الواهية، يخفون دفين حسدهم. لقد جعلوا من توهمهم ضلال أبيهم، سببا يسكت في داخلهم كل لوم، وهذه سنة الظالمين .. وهل يفوتهم أن أباهم نبيا، والنبي لا يضل؟! إنهم يكممون حتى أفواه أنفسهم، ليعلو صوت الغيظ ورغبة التخلص من أخيهم بأي وسيلة. إخوة يوسف – والكثير من الناس – يرون أن الأكثرية دائماً على صواب وغيرهم على خطأ. والآية هنا تبدد بقايا هذا الوهم الأحمق بشأن الأكثرية، في نسيج بيانها لطريقة تفكير من ظهر للعيان خطؤهم فيما بعد، مع أنهم كما قالوا عصبة: "إذ قالوا : ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منا ، ونحن عُصبة ...". وقد أكد القرآن الكريم خطأ هذه النظرة غير مرة منها مثلا : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [سورة ا?نعام : 116] ومن جانب آخر يبين أنه قد ينتصر القليل بصوابه على الكثير بخطئه: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " لأنها على الحق والله تعالى معها في دفع الباطل ومحاربته . وهذا ما قدمنا به الحديث بين يدي الآية آنفا. ويا عجبا للحسد كيف يعمي بصيرة صاحبه!!! فقد طمس الحسدُ الإحساس بالإخوة؛ لذلك لم يقولوا وأخونا، بل قالوا( وأخوه)، لقد طمست الإخوة، التي لو اتقدت بين جنبيهم لمنعتم من التفكير بأذية أخويهم. طمست لمنع أي مشاعر داخل أنفسهم من شأنها أن تحول بينهم وبين ما أرادوا من مكر وأذية لأخويهم. كما سبق وطمسوا النفس اللوامة بإسكات صوتها بحجج واهية يتخلصون بها من لومها على ما سيفعلونه من خطأ. وتتصدر كلمة ضلال مشهد الصراع في كل مرحلة من مراحل حياة وقصة يوسف عليه السلام: "إن أبانا لفي ضلال مبين". امرأة العزيز تلام من النسوة: "إنا لنراها في ضلال مبين". إخوة يوسف يؤكدون ما اعتقدوه بداية، حينما يذكر يعقوب ريح يوسف فيقولون له: "إنك لفي ضلالك القديم". وهكذا نجد أنهم أرداوا أن أباهم مخطئ بتمييز يوسف عليهم، وليس مرادهم بالضلال المرادف للكفر، عياذا بالله تعالى. ولكن يعقوب عليه السلام لم يكن مخطئا بتمييز يوسف كما يعتقد البعض، وذلك أن له أسبابه والتي منها: يوسف يتيم الأم فحاجته للحنان أكثر من إخوته الذين كانوا بسن الرجولة. إن يوسف كان صغيرا وحاجته للعناية أعظم من حاجة الكبار من أولاده. ولكن حينما يفرط بعض الآباء بتمييز أحد الأولاد عن إخوته، بحجة الاقتداء بيعقوب عليه السلام، نقول له: لا تفعل، فأنت لست كيعقوب. إن هذا الإفراط في تمييز ولد على آخر، قد يوقع بين الأولاد ما يثيرهم على بعض، ويجعل تنافسهم على قلبه، هدفا يمكن أن يصل بهم لقتل بعضهم مقابل اصطفاء قلب الأب. أيها الأب الكريم؛ لا تبن مملكتك على جماجم أولادك، ولا على حساب تغليف قلوبهم تجاه بعضهم بلون الحسد المقيت المفضي للتنازع . اعدل في عاطفتك تقتل مداخل الشيطان في نفوس أولادك نحو بعضهم. مكان الابن عند أبيه هو مطمح كل ابن، فلنمنحهم تلك المكانة، ولا نحوجهم للخطأ لينالوها. مرة أخرى أقف مذهولا أمام عظمة القرآن وأنا أتأمل هذه الجملة القرآنية: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِين) فهي تحكي لكنا كيف يؤكد ضعفاء الحجج حينما يتكلمون بما لا يقتنعون به، فيسوقون كلامهم بأساليب التوكيد، كما هو هنا: أسلوب الجملة الإسمية التي تزحلقت فيها لام الابتداء إلى الخبر بعد دخول إنَّ. ويالروعة البيان، الذي يأخذ بالقلب والجنان وأنت تتلو قوله (إذ قالوا): لقد لخص بها واقعا مؤلما نعيشه، حيث إن المتكلم على الحقيقة واحد، إذ لا يعقل نطقهم بالعبارة نفسها في الوقت ذاته، ولكن تكلم واحد وصمت الباقي جعل القول يشملهم جميعا. إن القرآن فيض معان لا ينتهي، وعجائب لا تنحصر. لطالما أبهرنا بعجائبه، فأجدني في هذه التأملات أمام إيجاز وبيان يلخص بهذه الآية - التي لم تتجاوز كتابتها السطر - مؤتمرا عقده إخوة يوسف للتخلص منه. وكأنه أعطانا البيان الختامي الذي يصدر عادة بعد الانتهاء من المؤتمر. مع أن مؤتمرات العرب اليوم تكتب البيان الختامي قبل البدء بالمؤتمر أصلا، أما هنا فالقرآن يذكر ما انتهوا إليه بعد بحث طويل. ولعل متسائلا يقول: وما الحوار الذي دار بينهم ليكون البيان الختامي بهذه الصورة؟؟!! تفاصيل ذلك المشهد، ودروسه في الآيات التالية، إن شاء الله فابقوا معنا. |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (7): د. توفيق العبيد التوبة المسبقة الصنع لا تقبل (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [سورة يوسف : 9] مازال مؤتمرهم منعقداً، ومازال الشر يسيطر على تفكيرهم، وتكاد تستشعر من سياق البيان القرآني المعجز حرارة أنفاسهم الملوثة بسواد النية، وقد أعمى الحسد بصيرتهم، وقتل عاطفة الأخوة فيهم. الكلام الآن حول قرار النطق بالحكم في محكمة الجاني فيها بريء، بل هو غائب عن جلساتها. وأخيرا صدر الحكم باتفاق الغالبية، ولولا ضمير أحدهم المستيقظ لكان إجماعا. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا. يا لعجب الوصف، ودقة البيان !!! فقد جمع بين خيارين الموت فيهما مشترك. إما قتل أو موت في ديار الغربة وألمها وصعابها. كم هي مؤلمة حياة الغربة عن الوطن ! لقد اختاروها إحدى الأحكام القاسية التي قرروها بحق أخيهم .. حقا لولا أنها تساوي القتل في القسوة لما جعلوها محط تخيير بينها وبين قتله.. إن البعد عن الوطن له مرارته التي لا يعرفها إلا من تجرعها، فشتان بين حضن وطن يضمك، وحضن وطن ليس لك. في الغربة لا أحد يقف بجانبك حال تعرضك للذل والاستعباد. غُصْت في أعماق القصة، ورجعت عبر الزمن أفتش عن جرم ارتكبه يوسف ليستحق هذا الحكم الصادر من إخوة الدم، ترى إذا كان هذا هو حكم الإخوة فكيف حكم العدو إذاً ؟؟!! لم أجد جرما له سوى يتمه الذي أحوجه لمزيد عطف من أبيه. وصغر سن دفعت الأب الشيخ الهرم أن يلحظه بمزيد من العناية، فالنبتة الصغيرة تحتاج لرعاية أكبر لتصل لحال مثيلاتها من القوة. وأقف مندهشا وأنا اتأمل كلمات آية تتحدث في طياتها عن نبض الحدث، وأنفاس شخصياته، بدقة عجيبة!! . كلمات تصف غايتهم من اقتراف الجرم بحق أخيهم، إنه التنافس للفوز بمملكة قلب الأب وعرشه، وبوابة ذلك أن لا يبصر سواهم. «يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» .. هم لا يريدون الوجه عينه، بل يريدون قلبه، وبوابة القلوب وجه يقابل وجها، ونفس ترتاح لنفس. غرر بهم الشيطان وزيّن لهم أن غياب يوسف سيجعل أباهم ينظر لهم، لأنه سيضطر للشعور بوجودهم في حال لم يجد يوسف. آه من المكر وأهله !!! كم منا من يعتقد أن وصوله لقلب رب العمل ومحبته مرهون بإبعاد أخيه الذي كان له حظوة أكثر من غيره عند رب العمل !!! كان الأجدر بإخوة يوسف أن يخرجوا من صندوقهم المغلق ويفكروا خارجه قليلا : كيف نبدع لنلفت انتباه الآخرين لنا ؟؟! أما إشغال العقل بالتفكير في كيفية التخلص من المنافس، فهذ تخلف، وتعطيل لأعظم نعمة منحها الله للإنسان وهي العقل. يعلمنا الله تعالى أن تحقيق الأهداف لا يتعلق بإزاحة المنافس من الطريق؛ لأن هذا التفكير سيقود للإجرام. وهذه السياسة لا يستعملها إلا الحكام مع معارضيهم، ولطالما انتهت هذه الطريقة بثورة تجتث إجرامهم وتنتقم لكل معارض قتل، وما حال الشام ببعيد!. «وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» ! .. وهنا يكمن العجب من فعل إخوة يوسف: حيث يزين لهم الشيطان جريمتهم، ويسول للنفوس عند ما تغضب وتفقد زمامها، وتفقد صحة تقديرها للأشياء والأحداث. أي خبث لدى الشيطان حتى أوجد تلك الحجج التي قتلت النفس اللوامة من قبل شروعها في إيقاظ ضمائر لم تعد تفكر بغير الخطأ. لقد غلا في صدورهم مرجل الحقد وتعزز في نفوسهم صواب خطأ سيتبعونه بتوبة تصلح بحسب زعمهم ما تم من جريمة! ترى هل أصابوا حينما بيتوا جريمة وتوبة معا؟ الحقيقة أن من شروط التوبة: الإقلاع عن الذنب… العزم على عدم فعله… ورد المظالم لأهلها… الندم على فعله. وعليه فلم يكن التوفيق حليفهم هذه المرة، فليس هذا طريق التوبة .. إن التوبة مسبقة الصنع لجريمة ينوي المرء فعلها لا تسمى توبة. إنما هي تبرير لارتكاب جريمة يزينها الشيطان! إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلاً جاهلاً غير ذاكر حتى إذا تذكر ندم، وجاشت نفسه بالتوبة. لم يكن قرار محكمة الظلم المخالفة للفطرة قرارا بالاجماع، إذ خرق الإجماع شخص من بينهم، وكان رأيه هو الرأي. إن هذا المخالف رغم ضعفه وعدم وجود مناصر له وقف موقفا يعلمنا فيه أسس قيام السياسة، وكيف تنصر المظلوم من غير أن تُؤذى في حالة ضعفك. تفاصيل ذلك سيكون في المشهد التالي بإذن الله… |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (8): د. توفيق العبيد حينما يجند الله من الباطل انصارا للحق «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ، وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ، يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ». تتجلى قدرته تعالى في جعل نصرة الحق من بين صف فريق الباطل الذي بات يعتقد أن النصر بجمعه وقوته. فبينما كاد الموتمر المنعقد للبحث في أفضل حكم يشف صدور المتآمرين على يوسف، يوشك أن يخرج باجماع يقر الجريمة، كانت إرادة الله هي الغالبة، حيث أوقف زحف تلك الجريمة لحيز التنفيذ واحدا منهم ليكون في تحريك أحدهم نحو إبطال ذلك الإجماع. إن المعترض ليس بعيدا عنهم ولا غريبا عن حلفهم، إنه منهم: (قال قائل منهم). يا لعظيم قدرة الله، فقد كان سبحانه قادرا أن يجعل ليوسف أنصارا من طرفه، ولكن لتمام تصوير قدرة الله تعالى كان نصير يوسف فردا منهم، فمهما كان مكرهم فلله المكر جميعا. إن الآية تقرر حقيقة عظيمة مفادها: لا يزال الخير موجودا ما وجدت أنفس تكره الجريمة، وتواجه الباطل والطغيان، ولن يسلم للباطل مراده بموت كل معارض، أو محاولة صبغ كل البشرية بصبغته. ربما يكون صاحب تلك النفس ضعيفا أمام قوة الباطل وسطوته، فهو واحد من بين جماعة، كلهم أجمعوا على الجريمة وهو يخالفهم بها، ومع هذا لم يمنعه قوة الباطل وضعفه من الاحتيال عليهم بمقترح يصرفهم عن الجريمة، ويجعل رأيه هو الراجح عندهم على كثرتهم وقوتهم. ما أحوجنا لمثل فكر هذا المعارض الحكيم في زمن سطوة وطغيان الباطل، لقد علمنا أن منع الإجرام لا يكون بالقوة فحسب، فلربما لو استعمل معهم القوة لقتلوه قبل أي أحد. ولكم ضرب القرآن أمثلة عن رجل غير بموقفه منهج أمة. إن انتصار الحق والوقف بوجه الباطل لا يحتاج دوما لنظرية الكثرة والقوة. ها هو يشير عليهم بأن لا يقتلوا يوسف، وبذات الوقت يتحقق لهم مرادهم أن يخلو لهم وجه أبيهم، وذلك بجعل يوسف في جب يسهل على مارة أخذه بعيدا، وبهذا صرفهم عن الجريمة. ( إن كنتم فاعلين) كلمات هزتي من الأعماق، وهي تنير أمام عيني عظمة القرآن وروعة بلاغته: لقد جاءت (إن) الشرطية لتبين التشكيك في الاصرار على ايقاع الأذى بيوسف، فالنفس السليمة من شوائب الحقد والحسد لا تقبل هذا الفعل، ولا يعبر عن ذلك مثل الشرط باستعمال ( إن). وتبين مدى الحكمة وحسن السياسة من الحق الضعيف في شخص القائل، فهو يعلم إصرارهم على قتل أو ابعاد يوسف، ولا يمكنه فرض رأيه، ولذلك طرح رأيه الصارف عن قتل يوسف، بطريقة يقول لهم فيها: هذا هو أقرب ما يشفي غليلكم من يوسف دون أن ترتكبوا الجريمة، وإن كنت أشكك في قبولكم لرأي مع كونه الأخف ضرارا. بهذا التشكيك مهد لنفسوهم أن تقبله، وإن قبلوه فنفوسهم مطئنة أن القبول لم يكن بإملاءات خارجية تزعجهم، ولا بغلبة من هو أقوى منهم. الحمد لله فقد نجا يوسف من القتل، وبدأ الجميع بالإعداد لتنفيذ ما هو أخف من القتل برأيهم، وأشرفت شمس الصباح وتجهزوا للاحتيال على أبيهم ليأخذوه من أحضانه. المشهد التالي فيه أحداث مذهلة فابقوا معنا. |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (9): د. توفيق العبيد الحيل وسيلة تنفيذة المؤامرة (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى? يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) [سورة يوسف : 11] أشرقت شمس الصباح، وبان ما دبر بليل عن مخطط خطير سيفرق بين الأحبة، ويفتح نهرا من الدموع، وآلاما من الحزن. يدخل الإخوة الذين بيتوا مكرا لأخيهم، على أبيهم بلسان الناصحين، وبثوب الحب والأمان. لا يمكن للمؤمرات أن تنفذ بغير الحيل، ولهذا لجؤوا للحيل، ولبسوا ثوبا ليس ثوبهم، وتكلموا بغير ما في قلوبهم. عجبا لبيان القرآن! إنه ليس مجرد كلمات تعبر عن مراد قائلها، بل كلمات يفهم سامعها منها البنية النفسية للقائل حين قال، وتوحي بخواطره التي دارت في خلده، وهو أسلوب لا يقدر عليه بشر. هاهم يحاولون اقتحام أسوار قلب أبيهم، وأضعف أبواب قلب الأب نداء الأبوة فاسمع ما يقولون: يا أبانا : نداء منحهم مفتاح قلب أبيهم، فلا تجد كلمة ألذ وأطيب لقلب الأب من نداء الابن لأبيه بلفظ يا أبي. ولكن أي قلب يملكه الابن الذي يلتذ بقهر أبيه ؟! أو تجده عاقا لأبيه؟!. لطالما حلم الأب أصلا بهذه الكلمة أن يسمعها من بنيه. ومرة أخرى يلجأون للحيل: مالك لا تأمنا: أسلوب بياني قرآني آخر، مدهش! معجز! يأخذ بالألباب. يصف كيف عمدوا لحيلة أخرى، ارتكزت على فرض أمر لا يقصده الأب، ليسعى تلقائيا بنفيه ويسلمهم يوسف كإثبات لعدم وجود هذا الافتراض. وهو الذي يخاف عليه من حر الشمس، وتعب العمل الذي يمارسه الإخوة، ولم يكن منعه عن صحبتهم بدافع عدم استئمانهم على أخيهم. وفي حيلتهم هذه دروس منها: * أن الأمان والثقة هما مقتل المرء وحياته، فمن نال ثقة إنسان ملك قلبه وشاركه بكل شيء. فإما أن يكون الذي منحته الثقة كما اعتقدت فتسعد به، أو يكون مخادعا فلات حين مندم. *هناك من لا أمان لهم ولا يوجد في قلبهم مكان له، حينما يجعلونك تطمئن لهم وتأمن جانبهم، ولكن ويل لك من ألم طعنهم ونزيف المشاعر حينما تكون السكين بيد من أعطيته الثقة والأمان. * ليس كل من يدعي الثقة فهو ثقة، ولا كل من يلبس لباس الناصحين ناصح. * يا للخطر العظيم الذي يحصل للناس حينما يلبس أهل الشر لباس التقوى والصلاح. * ما أعظم أن يخدعك من كنت تظنه مقربا، بلباس يمنحك الأمان ظاهره، ثم ما يلبث يرسلك لجب عميق من التعب والقلق، ولعلك لا ترجو حينها سيارة ينقذونك. * ولطالما كنت أقول: حينما يسيء فهمك من هم في قلبك، فاعلم أن لغات العالم باتت عقيمة عن أن تلد المعاني. * وأكثر منه عجبا وألما حينما يطعنك بسكين النصح والظهور بمظهر الخائف على مصلحتك، وفي داخله مخطط خبيث ربما لو نفذه لجعلك بعيدا عمن تحب، ولجعلك في غياهب الألم والتعب. * سبحانك يارب: يكاد المريب يقول خذوني. إن إصرارهم على أبيهم بشتى الحيل والتي آخرها ادعاء النصح، يكاد يفضح خبيئة ما خططوا له قبلا. وهكذا شأن الذين يزكون أنفسهم: بمقدار علمهم بخبث نفوسهم يكون سعيهم لتزكيتها. وإلا فالتزكية يفرضها حسن العمل وصدق النية على الآخرين أن يقروا بها لا أن يدّعيها المرء لنفسه. ترى ما هي الحاجة التي يريدون يوسف لأجلها والتي إن ذكروها لأبيهم سمح لهم بيوسف دون تردد؟! هذا ما سوف نعلمه في المنشور القادم بإذن الله فابقوا معنا. |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (10): د. توفيق العبيد يكاد المريب يقول خذوني (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة يوسف : 12] بعد أن قوَّلوا الأب ما يقل: (مالك لا تأمنا على يوسف)، وجعلوه في موضع دفاع ليس مضطرا له، أتبعوه بعروض تجعله يوافق. إنهم مستمرون في محاولة التسلل لقلب أبيهم، لكي يأخذوا يوسف نحو المجهول. بات الخطر يداهم يوسف .. ورحلة المشقة والعذاب توشك أن تبدأ. لون بدايتها لون مودة ومحبة، ووصفهم للرحلة بأنها ترفيهية، وجاذبيتها في كون اللعب جزء منها. تلك هي الثياب التي كسا بها إخوة يوسف مؤامرتهم على أخيهم، وذلك ليقتنع أبوهم بتركه معهم، تحت غطاء المحبة والترفيه. تلك هي الغاية التي أوهموا أباهم بها. لطالما تسلل أعداؤنا لديننا وقلوبنا باسم الحرية تارة، وباسم المدنية والحضارة والعلم تارة أخرى، فتخفي الذئب بجلد الحمل الوديع لهو خطر يداهم أصحاب القلوب الطيبة، يوشك أن يفتك بها. لقد تذكرت كلمة قال لي أحد مشايخي: ( إذا صعدت الحافلة فاعتقد أن كل الركاب أولياء ولكن ضع يدك على جيبك). ومرة أخرى يكاد المريب يقول خذوني… وهذا ما ألمحه في قوله: (وإنا له لحافظون): حيث البيان بجملة أسمية فيها دخول اللام التي تزحلقت من الابتداء إلى الخبر، لتضفي على الجملة معنى التأكيد والتوثيق… مما يثير حفيظة التفس للتساؤل: لم الحرص والتأكيد والتوثيق؟! ولمَ يريدونه بهذا اليوم حصرا؟ ! .. كل ذلك كاد يكشف خبيئة ما خططوا له. ويمكن التساؤل أيضا لم قالوا (ونحن له حافظون) مع أنه سبق أن وصفوا أنفسهم بالأمانة حين قالوا:(مالك لا تأمنا ..) وهل أشعرهم أبوهم بأنه يشك بصحة نيتهم حتى يخبروه أنهم له حافظون؟ ومن تكلم أصلا بموضوع الحفاظ على يوسف من التهاون به؟! ولكن هو المخطئ لا يمكنه صناعة جريمة كاملة. يحاول الأب وضع مزيد من العقبات أمام كذبهم عليه، ليصرفهم عما أرادوا .. ولكن الشيطنة قد استلمت زمان قيادة عقول لم تعد تعي أكثر من الإصرار على تنفيذ ما خططوا له. ليتنا نعي أن شيطنة عقولنا تعني دمارا لأناس أبرياء، وقطع للأرحام، ومخططات لا تنتهي إلا بإجرام. ماهي تلك العقبات التي وضعها سيدنا يعقوب، وكيف تجاوزوها بمكر عجيب، هذا ما سنعرفه في المنشور القادم بإذن الله. ابقو معنا عبر منشورات( تأملات في سورة يوسف). |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (11): د. توفيق العبيد حينما ننسى التوكل على الله تأت المحن (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) (قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ) [سورة يوسف 13: 14]بات يوسف على مرمى حجر من بداية المحن، وتلاحق الاختبارات، وكيف لا يتسارع قربه من تلك المأساة، وإخوته هم من يقودون الحرب عليه. ولكن هذه المرة سبب السرعة في اقتراب المحن فوات التوكل على الله، الذي هو خير حافظا، خطأ تداركه يعقوب عليه السلام في حادثة أخذ يوسف لأخيه كما سيمر معنا. بالمقابل لا شك أن حرب الإخوة أشد ضراوة وفتكا، ولذلك يعمد الشيطان أن يحرض الأخ على أخيه، ويعتمد أعوانه على جعل الأخ يحارب أخاه تحت ذرائع شتى. وحينما يحاربك العدو فنصرك عليه يعتمد على مدى استعدادك للمواجهة، وأنت مطئن أن أخاك يحمي ظهرك، ولكن إن كان الطعن في الظهر من أخ يربطك به نسب، أو من صديق جريمتك أنك ذات يوم وثقت به، فحينها باطن الأرض خير من ظاهرها، وستعلم ألم طعن من وثقت بهم. هاهو يعقوب يحاول إيقاظ ما بقي من رحمة في قلوبهم، ويصرح لهم بحزن سيصيبه على فراق يوسف. حقا هو الحزن، ذاك الشعور الذي يغزو النفس بين حين وآخر، بقدر ما تهب عواصف المكدرات، والعجيب في الحزن أنه لا تترجمه الكلمات، ولكنها وحدها الدموع وتلوي القلب وتعصر الأمعاء تشير لذلك. واعلم أنه حينما يعبر الإنسان عن الحزن ويقول: ( يحزنني)، أن الذي أمامه لا يملك مشاعر تحسن قراءة حزنه، وأنى لنفوس ملأها الحسد، والكبر وأعمى بصيرتها الأنا أن تفهم أو تقرأ؟! ويا لعجيب الحسد كيف يفعل بصاحبه، إنه يجعله خارج منظومة البشر، لقد طار بهم الحسد إلى مرحلة الإصرار على التخلص من يوسف بأي ثمن، لذلك لم تكن أحزان يعقوب لتشفع له عند بنيه الذين ظلموا أنفسهم وأخاهم وأباهم. لقد هاجت أحقادهم وعميت بصائرهم أكثر لما أدركوا مدى تعلق يعقوب بيوسف الأخ والخصم معا. ترى مالذي دفع يعقوب عليه السلام أن يوضح لبنيه هذا الإحساس، حتى كأنه يدافع عن نفسه؟! حقا هو يدافع عن نفسه لأنهم اتهموه بما أحوجه لهذا الدفاع، وقالو له: مالك لا تأمنا على يوسف .. كل ذلك ليكسروا أي حاجز يمنعهم من الظفر بيوسف، ولا يمكن لأبيهم أن يظهر لهم أنه لا يأمنهم عليه، فليس ثمة حجة عنده عليهم. لذلك حذاري أن يقع أحدنا في شرك أصحاب المؤمرات، ونسمح لهم أن يضعونا بمكان المدافع الذي يريدونه أن نكون فيه، ليبعدوا أضواء اللوم عن ساحتهم، فلا يكشف زيف خبث نفوسهم أحد تحت ضغط اتهاماتهم. وكان الأولى أن لا ينحرج المرء من اتهاماتهم، لأننا إن تركناهم يعبثوا بمشاعرنا وعقولنا، فلن ننج من مصير كمصير يوسف عليه السلام. ويا لبيان القرآن الذي يدهشني كلما تأملته، وأنصت لما وراء سطوره بعجب وتعظيم. ها هو قوله تعالى: ( وأخاف أن يأكله الذئب .. )، حيث توضح ان المرء ربما أعان خصمه عليه حينما يمنحهم الحجة التي ستقلب الأمور عليه. لقد لقنهم الحجة التي تصدعت رؤوسهم وهم يبحثون عنها، إنها الحجة المطلوبة. ومرة أخرى يقطعون العهود والمواثيق على أنفسهم بحفظ الأمانة ، ولكن الحقد والحسد، ما جعلهم يبصرون سوء عقابة ما ينوون فعله. وبعد ذلك الجهد من المكر والخداع، يترك يعقوب يوسف مع إخوته، ليكتب القدر بداية الفراق المر، والمحن التي ستتوالى على الحبيبن يوسف ويعقوب. انطلق يوسف يسير نحو المجهول، وأسدل ستار على زمان الأنس بالأب الرحيم، والحنان الذي طالما صانه وشمله. تفاصيل تلك المحن في منشور قادم بإذن الله. |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (12): د. توفيق العبيد وسط ظلمات المحن يشع نور الفرج (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ? وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَ?ذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [سورة يوسف : 15] بعد إلحاح واحتيال، وتفنن في أساليب استمالة قلب الأب، استسلم لأبنائه وسمح لهم بأخذ يوسف. ومع سماح يعقوب لبنيه باصطحاب يوسف، وتسليمه لهم تحت ضغط مطالبهم، تبدأ رحلة معاناة يوسف وتهب رياح المحن. كان يعقوب عليه السلام يعلم يقينا أن إخوة يوسف سيكيدون له، وهو الذي حذرهرحينما قص يوسف عليه الرؤيا:(قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى? إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ? إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[سورة يوسف 5] ولكن من المقدور لا ينجو الحذر. وربما لم يكن يتوقع أن يصل الأمر للقتل أو أن يلقى في غيابت الجب، لذلك لم يحتط لنفسه مما حذر منه ولده. لقد استقر أمرهم أن يجعلوا يوسف في غيابت الجب، ويسلموا طفولته البريئة وضعفه لليأس والهلاك المحتم. ولكن مهما مكر الماكرون، فهناك من يسمع ويرى، ويعلم السر وأخفى. فمن وسط ظلمات المحن شع نور الفرج، ولا أمله، ومهما ظن الماكرون أنهم قادرون على سلبك حياة قدرت لك، أو مجدا كتب لك، أو رزقا ساقه الله إليك، فإن الواقع سيكذب ظنهم، ويشعرهم مع الوقت بعظيم عجزهم، فما كان لأي قدرة مهما عظمت أن تتحدى قدرة الله تعالى وحكمته ولو كثر عددهم واتحد رأيهم. واعلم أنه حين يسلمك من يريدون أن لا يروك حيا للهلاك المحتم، تدرك حينها أثر كلمات الوحي التي تأتي لتؤنس نفسك المتعبة من صنيع من خالفوا الفطرة وأسلموا أنفسهم للهوى. وحينما أقرأ قوله تعالى (أوحينا إليه ): يتولد في نفسي شعور بروعة وحنو نداء الوحي، الذي أتى كماء بارد على ظمأ، وأُنس في وسط ظلمات الوحشة. والأجمل من ذلك كله أنه قال: ( أوحينا) فالذي تولى الأمر كله هو الله وحده، وأتى ب (نا) الدالة على العظمة في إشارة إلى أن عِظم مكرهم سيكون له بالمرصاد عظيم، عظمته فوق مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال. ( لتنبأنهم بأمرهم هذا ): صعب ما فعلوه بك، وجريمة بشعة أن يسلموا طفولتك الغضة للمحن والمتاعب، في وقت تحتاج فيه للحنان والرأفة، ولكن هو الله وحده الذي سيداوي جراحك ويمنحك فرصة تذكيرهم بصنيع لا يقود تذكرهم به إلا للحسرة والندامة. حقا هو الله وحده الذي سينصرك عليهم، ويرفعك فوقهم. أما قوله: ( وهم لا يشعرون): أي وهم لا يشعرون أن الذي أمامهم يوسف. وتعلمنا هذه الآية الكريمة كيف تلوثت الفطرة حينما سُلِّم القلب للهوى والشيطان. تعلمنا كيف تنتصر إرادة الله رغم مكر الماكرين واجتماع المتآمرين. وكيف أن الله قد يسلم حبيبه لمحنةٍ وعذابٍ يطاله من قبل البشر، ولكنه سيمنحه بالمقابل لذة أنسه بنصره وتطمينه له بالنجاة من مكرهم مهما عظمت. وتبين موقفهم حين الندم . يوسف الآن في غيابت الجب… ولكن بأي عذر سيعود الإخوة إلى أبيهم الذي وثق بهم، واستأمنهم على أخيهم، حين يعودون إليه من غير يوسف؟. ما هي دلالات تلك الأعذار وما الذي يسطره القدر في طياتها، كل ذلك وأكثر نعرفه في منشور قادم بإذن الله. |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (13): د. توفيق العبيد الدموع الكاذبة لا تخفي الحقيقة (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ? وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [سورة يوسف 16: 17] انهارت معاني الإنسانية، وباتت في جب عميق، يحتوي ضحية ضعيفة، زجها بذلك العمق إخوة الدم والنسب، إخوة ابتعدوا عن الفطرة، ولوثوها بالحسد. عاد إخوة يوسف بعد تنفيذ جرمهم، وتركوا يوسف ليبدأ مشوار العذاب .. كانت عودتهم في الليل، لأنه يخفي ملامح الوجه ويكشف حقيقة الدموع المصطنعة. جاؤوا إلى أبيهم يبكون متلثمين بحزن كاذب مصطنع يخفون خلفه الحقيقة التي آلمت الحجر والشجر وما كانت لتؤلمهم أو تهز من كيانهم . يالعجيب المكر الذي مكروه!!! هاهم ثانية يستعطفون أباهم، بالنداء ذاته الذي سبق وأن أجابهم لطلبهم يوسف لما نادوه به: (يا أبانا).. نعم إنها كلمة السر التي تفتح باب الرحمة للابن من قلب أبيه. وتهيج مشاعر الأبوة الممزوجة بالحنان والرفق ... تلك المشاعر التي لا يدرك حرارتها ابن عق والديه… ولا يحسن فهم لغتها من تطاول على أبيه… أتذكرون معي ما الحيلة التي بموجبها أخذوا يوسف من أحضان أبيه؟! إنها قولهم: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة يوسف : 12 فما بالهم يقولون الآن: ( إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا )؟ فهل أخذتموه ليلعب أم لتجعلوه حارسا على متاعكم؟ ولكن يكاد المريب يقول خذوني… فالكاذب مهما كان حاذقا في ديباجة الكذب فإنه لا بد من زلة للسان تكشف كذبه .. وقد سبق الوعد منهم لأبيهم: ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) حيث أكَّدوا الحفظ بثلاث طُرق: ب: "إنَّ" ، وتقديم شبه الجملة "له" لإفادة زيادة الحرص، واقتران خبر "إن" بلام التوكيد. أضف لذلك أنّ كلمةَ الحفظ ذاتها دالةٌ على الصيانة والحراسة والرعاية. وقد أخلفوا وعدهم من عدة جوانب وأقروا بذلك: الوعد أن يلعب يوسف معهم، وخالفوا ذلك أن جعلوه حارسا لمتاعهم . إذاً هو لم يشترك معهم في اللعب، وهذا أول تصريح منهم بمخالفة الوعد .. ثم يأت السؤال: أي استباقٍ هذا الذي شغَلهم عن حراسة أخيهم حتى أكله الذئب، وقد أعطوا العهود والمواثيق لأبيهم بحفظه؟! إن من يعطي مثل تلك التأكيدات حري به أن لا تغفل عنه عينه لحظة واحدة؛ لأنه تحمل أمانة تثقل كاهله بهذه التأكيدات. ولكن؛ لأنهم كانوا كاذبين، جعلوا يختلقون الحكايات وبادروا أباهم قبل أن يسألهم ليغيّبوا عنه الحقيقة بطريقتين: بإدخال الباءِ على خبر "ما" التي تفيد التوكيد ? وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ ?، وبادِّعاءالصِّدق ? وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ?. يا لروعة ودقة بيان القرآن لحكاية ما قالوه لأبيهم. ففي قولهم (ولو كنا صادقين) لفتتات كشفت كذبهم : هم لم يقولوا مثلاً: "وإن كنا صادقين"، لأن "إنْ" حرف شرط جازم، يجعَلُ التعلُّق مقرونا بالمستقبل، كالقول مثلاً: إن اعترفت بحقيقة الأمر عفوتُ عنك؛ فالإخبار والعفو سيكونانِ في المستقبل. ولو قال الإخوة: وإن كنا صادقين، لكان ذلك مشيرًا إلى أن صدقَهم سيظهرُ فيما بعد، وبما أنهم كانوا كاذبين، فإن الاستعمالَ الدقيق ارتهن بـ: "لو"؛ فهو يتعلقُ بالماضي، ويُوقِف الادعاءَ في زمن الكلام ولا يجرُّه لزمن المستقبل كما تفعل "إن" . ويمكن أيضًا أن يلحظ أنَّ "إنْ" جازمة و"لو" غير جازمة، ولأنهم كانوا كاذبين، وبذات الوقت عاجزين عن الجزم بالصدق الذي يدعونه، عدَلوا عن (إن) إلى استعمال ما لا جزم فيه، وهو "لو". و الأعجب من ذلك: (أكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)، وهل سبق له أن كذّبكم حتى تسكتوه بهذا القول؟ لتمنعوه حتى من مجرد التفكير في تكذيبكم؟ ألم تكذبوا من قبل بقولكم: أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ؟ ومع هذا صدقكم .. فلم اليوم تدّعون عدم تصديقه حيث قلتم: ( ولو كنتم صادقين)؟! ولكن الجرم لا يمنح المجرم استقرارا فكريا، مهما كان يملك من العبقرية التي تسعفه في التخلص من أصعب المواقف؛ لذلك تجده مرتابا وهو يحاول إنكار جرمه. ذلك أن الجرم يصغّره أمام نفسه، ويهزّه من الداخل بعنف، فمهما بدا متماسكا فإن عوامل الانهيار ستبدو عليه رغما عنه. هل يكفي الكلام لإقناع والدهم بحجتهم؟ وما هو موقف الأب المسكين وكيف تقبّل الأمر؟ تابعونا لتعرفوا البقية .. |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (14): د. توفيق العبيد البرهان الكاذب (وَجَاءُوا عَلَى? قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ? قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ? فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ? وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى? مَا تَصِفُونَ)[سورة يوسف 18] هل تخيلتم يوما أن يكذِّب البرهان صاحبه؟! وهل يكون برهانا أصلا إن لم يكن صادقا مقنعا؟! تجد الإجابة في هذا المشهد من قصة يوسف عليه السلام. ففي خضم محاولات يائسة لجعل الباطل حقا، وإلباسه ثوب الحقيقة يجد الإخوة - الذين جاؤوا أباهم عشاء يخفون ملامح الوجه التي ستفضحهم لو قابلوه نهارا، ويبكون بكاء يظنون أنه كاف لإخفاء حقيقة مكر وكيد فعلوه، فساق أخاهم لمصير مجهول، إنهم أمام صدمة كادت تكشف سوء صنيعهم وسريرتهم. فالبكاء لم ينفع ولم يقنع الأب .. فليس كل من يبكي حزينا .. وليس كل دمع يدل على ألم فراق الحبيب، فهناك من يطعنونك ويبكون عليك بكاء المتألم لفراق حبيبه. أولم يقولوا في الأمثال: " قتل القتيل ومشى في جنازته "! وعلى الرغم من ذلك فلا بد من البرهان المادي ليدعم موقفهم .. ولكن برهانهم فضحهم ! فيا لروعة تصوير البيان القرآني، كيف يحكي لنا حقيقة ما أحوجنا لإدراكها، مفادها: سيبقى الباطل باطلا .. وسيبقى وجهه مسودا .. مهما حاول تجميل ذاته بما يظنه حججا كفيلة لقلب الموازين. ولذلك كان البيان القرآني بقوله تعالى: "بدم كذب ". شتان بين دم سال من هجوم وحش ضارٍ هذا طبعه في الخلقة .. وبين دم سال بسبب قتل إنسان تلبسته وحشية تفوق وحشية من خُلق وحشا يعيش في البراري. فذاك إن فتك وقتل فهو طبعه، وخِلقته .. وأما الإنسان الذي أوحي إليه بشرع يهديه ويهذب طبعه، ومع ذلك تجاهله وسلم نفسه للهوى والغرائز، فذاك أشد فتكا من الوحش ذاته. ولكن من ترك ميدان التهذيب بعلوم الوحي فماذا أنت فاعل له ؟! فشل برهانهم .. وأجابهم أبوهم بما يؤكد تلك الحقيقة الربانية .. الباطل لا يكون حقا أبدا .. والبراهين جنود الله تعالى لا تناصر غير الحق، فإن أرغمها دعاة الباطل لتقف معهم فضحتهم. انظروا لأصحاب العمائم كيف فضحتهم براهينهم الكاذبة حينما تجنوا على النصوص ليلووا أعناقها، ويجعلوها تشهد على إفكهم، فأبت النصوص الوقوف معهم . هذا ما لخصه ربنا حكاية عن يعقوب عليه السلام بل سولت لكم أنفسكم أمرا .. ويختم البيان الرباني ذلك السجال بين ثلة ارتكبت جريمة بحق الأخوة والإنسانية، وبين أب أجبره أبناؤه أن يتجرع مرارة فقد الولد الحبيب، في زمن كبر سنه، وضعف جسده، فزادوه تعبا، بدل السعي لتخفيف معاناته. في غيابة الجب تسكن الطفولة البريئة المظلومة، وتستغيث ضمائر ماتت، بل لم تشفع لدى قلوبها براءة تلك الطفولة .. الإجرام لا تشفع عنده براءة طفولة، ولا ضعف امرأة، ولا كبر شيخ… ومن شاء التعرف على الإجرام على أصوله فدونكم الشام وبراميل الموت الأسدي كيف تفتك بالأبرياء، ولكن الله غالب على أمره. يوسف في الجب وفصل جديد يؤذن ببداية طريق طويل من المعاناة… تابعوا معنا مراحل حياة يوسف في سلسلة تأملات خطها قلم |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (15): د. توفيق العبيد من عمق المحن تولد المنح (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى? دَلْوَهُ ? قَالَ يَا بُشْرَى? هَ?ذَا غُلَامٌ ? وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ? وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [سورة يوسف 19 - 20] حينما تغيب معاني الإنسانية في قلوب البشر فلا عجب حينها من صنيع إخوة كبار بأخيهم الطفل الصغير، حيث أسلموه لظلمات الجب ووحشته رغبة في التخلص منه. عجباً لهم كيف شعروا أن الطفولة البريئة تنافس دنياهم التي يتنازعون عليها. ولكن أين الله من ذلك ؟ سؤال يتوارد على الذهن حينما يشتد سيف الظلم على المظلوم. الإجابة كانت في وعد الله ليوسف وهو في ظلمات الجب، وما ألطفه من وعد .. وما أعظمه من أنيس .. ((… وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَ?ذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) ففرج الله مبهر ومبهج حينما يقع. بدأت مراحل تنفيذ وعد الله ليوسف .. إن الله حينما يريد أمرا فكيد العالمين مجتمعا لا يرد إرادته .. ولذلك بعد إحكام الجريمة من وجهة نظر المجرم كانت بداية الفرج. قافلة تمر من مكان يضم طفلاً موعوداً بالمجد وهو لا يدري… يسيِّرُ الله تلك القافلة لتشرب في مكان لا جدوى من البحث فيه عن بئر غير بئر يوسف .. نزل الساقي .. ماذا وجد ؟! وجد جمالاً يتلألأ .. وجد طفولة تبكي نزيف الإنسانية… وجد ضعفاً لا يدري أن قوة السماء تسانده.. صرخ الساقي : يا بشرى… لاعجب من صيحات الساقي .. فماذا نتوقع أن يكون موقف من يعثر على كنز ثمين؟! .. وأي كنز عثر عليه ساقي القوم ؟! لقد عثر على النبوة في مهدها .. والخير في طفولته. هذا غلام .. وهل يدري أي غلام يحمل؟! ذلك يبين لنا أن في راحلتنا أناسا يهيئهم الله لما لا يعلم أحد من العالمين… فكم من شخص زهد فيه أهله قبل غيرهم فإذا به ذات يوم قائداً لأمة. ولكن ماذا تصنع للجهل حينما لا يفكر صاحبه بأن قيمة الشيء لا تقدر بغير المال؟ لقد أسرُّوه بضاعة، وحزموا أمر بيعه .. يا عجباً للإنسان كيف يبيع أخاه الإنسان لأخيه الإنسان! صرختك يا عمر ستبقى تدوي في العالمين وتزعج آذان الطغاة : "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". وشروه بثمن بخس دراهم معدودة .. تلك الدنيا مهما عظمت في عين أهلها تبقى لاشيء بمنظور خالقها، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء. وكانوا فيه من الزاهدين : ليتهم يعلمون أي نسمة مباركة حملوا .. بل ليتهم يدركون أي عذاب عانت منه الطفولة حينما تشيطنت قلوب الإخوة. لا عجب فالدم النازف في شامنا الحبيبة يحكي أساطير عن فظائع إجرام مجرم هز عرشه أطفالٌ فجروا ثورة. ولكن السؤال الذي نتشوق لمعرفة الإجابة عليه: من الذي اشترى تلك الغرسة المبشرة من محياها بخير عظيم؟ وكيف يبدأ طريق المجد ؟ تابعوا معنا |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (16): د. توفيق العبيد لعله خير!! (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى? أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ? وَكَذَ?لِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ? وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). [سورة يوسف 21] في خضم معركة السعي نحو السعادة التي خططنا لنيلها بما استغرق منا الزمن والجهد، نتفاجأ بأن لا يحصل ذاك الذي سعينا لتحقيقه بغية نيل السعادة التي نلهث وراءها، ولا يقع حينها إلا الذي قدره الله لنا، ونصاب بضيق يكاد يطبق على صدورنا .. بل ربما نبكي لشعورنا بالفشل… ولكن سرعان ما يسعفنا إيماننا بأن قدر الله وخياره هو الخير الحقيقي وإن غاب عنا إدراكه: "(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ? مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ? سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة القصص 68]… ونردد بقلب مطمئن: " لعله خير". في هذا المشهد من قصة يوسف عليه السلام نبصر، بل ونعيش ثمرات معنى هذا البلسم الشافي من كل أوجاع المحن .. بلسم اسمه : " لعله خير "… والذي عبر بيان القرآن عنه بقوله تعالى "عَسَى? أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا". وفي أعجوبة البيان، وإعجاز القرآن، يتم التجاوز عن أحداث ليست من الأهمية بمكان أن تذكر تفاصيلها في نص القرآن، فسياق النص توقف عند حدود (يا بشرى هذا غلام)، ولم يصف لنا حال فرح يوسف حينما أنجاه الله؛ لأن ذكر ما ينتظره من مجد - بشر به وهو في الجب- أهم من ذكر فرحه بنجاة من محنة بسيطة مقارنة مع ما سيمر به من محن .. المهم أنه خرج من غيابة جب دفن مع خروجه منه بقايا إنسانية ماتت في قلوب إخوة شيطنهم الحسد والبغضاء .. كما لم يخبرنا عن تفاصيل ما دار حول بيع يوسف عليه السلام، فهناك ما هو أهم من ذلك… نعم هناك خبر مصير القافلة وذكر الذي اشتراه بعد أن أسرّه القوم بضاعةً تباع وهم فيه من الزاهدين، فكثيرا ما يبيع الجاهل جوهرة ورثها عن أبيه بثمن بخس لكونه لا يعلم قيمتها.، فمن وجد شيئا بهون هان عليه ذلك الشيء. فقط يذكر لنا من الذي اشتراه؟! إنه عزيز مصر. إن المكانة التي تناسب هذا الغلام الموعود بالمجد، في أن يذكر الذي جعل الله قدر مجد يوسف من قصره .. حقا هو عزيز مصر ! فليس من أحد يليق بمقام كفالة يوسف إلا عزيزا كريما سيدا في قومه. لم يكن عزيز مصر قد ذهب ليشتري يوسف ولا غيره، ولم يكن بحسبانه ذلك، ولكن قدر الله ساقه لما لم يكن يخطط، وقدر له خيرا مما قصد، فها هو يكفل الجمال في كماله، ويتوسم الخير في بهاء طلعته، وهل بغير الوجوه الصِّباح يتوسم الخير؟! حقا لعله خير .. لعله خير يا عزيز مصر .. فقد اشتريت عزيزا عند الله وعزيزا عند ابيه، وعزيزا في الدنيا بأسرها .. وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام عن يوسف: "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم خليل الرحمن عز وجل". رواه أحمد. ويا لعجيب وبديع نظم القرآن ! إنك لا تجد فيه عوجا ولا أمتا، ولا تناقضا ولا اختلافا، فالذي قال في غير هذا الموضع أن التمكين كائن بالقوة والعلم، هو ذاته الذي يؤكد هنا أنه مكن ليوسف بالقوة والعلم : (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ? وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ? وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة 247] وابنة الرجل الصالح من قوم مدين قالت: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ? إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [سورة القصص 26] وهنا يقول: "وَكَذَ?لِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث". فلله در العلم وأهله، وحقا ما قيل: العلم يبني بيوتا لا عناد لها والجهل يهدم بيت العز والكرم وتختم الآية بروعة البيان، وجميل مناسبته للمضون، بقوله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ): حقا لا عجب أن يحقق ليوسف أسباب التمكين، فهو سبحانه فعال لما يريد، ولا يغلبه على مراده أحد، ولا يمكن لأي قوة في الكون أن تغلب أمره إذا أرده أن ينفذ. ويمكن فهم الآية بمعنى آحر وهو أن الله غالب على أمر يوسف، حيث أن تحقيق رؤياه يسير بتنظيم وعناية ربانية، محاطة بغلبة ومعونة إلهية. والسؤال الذي يطرح ذاته هنا: كيف يقول تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف ..." مع أن يوسف في هذه الآية لايزال ضعيفا، عبدا عند العزيز تم شراؤه من قريب ؟! الجواب كائن في بلاغة البيان القرآني، فكل ما هو متيقن الحصول في المستقبل يعبر عنه بصيغة الماضي، تأكيدا أن قدر الله في تحققه حاصل لامحالة، كما لو أنه حصل ومضى زمنا على حصوله. وهذا مثل قوله تعالى: ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه) فأمر الله لم يأت بعد، ولكن لكونه متيقن الإتيان عبر عنه. بقوله (أتى). ومثله ( إذا زلزلت ..) .. وهكذا كل أمر متيقن حصوله في المستقبل يأت بيانه في القرآن بلفظ الماضي. انتهت الآية في بيان ما سيكون بقدر الله من تمكين يوسف في الأرض، ولكن المشوار لايزال طويلا، ولا يعلم يوسف عليه السلام ما ينتطره. وفي الحقيقة بدأ مشوار الحلم .. وبدأت تظهر ملامح طريق المجد.. فمن بيت العزيز ستكون البداية .. لكن محنة ستمر بيوسف عليه السلام .. واختبارا آخر. فليس بلوغ المجد بالأمر الهين: لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا وهذه المحنة تحتاج لاستعداد من نوع خاص .. في محنة الجب: آنسه وعد وبشرى الوحي له بالفرج فاطمئن قلبه. ولكن هنا محنة تتعلق بصراع بين أقوى طاقتين في الوجود: طاقة غريزة الجنس لدى الشباب وعنفوانه .. وطاقة العبودية وحقيقتها في قلب إنسان من سلالة سيد الموحدين وخليل رب العالمين إبراهيم عليه أفضل ابصلاة وأتم التسليم. وها هو النص القرآني ثانية يتجاوز سني يوسف ونموه، ولحظات اشتداد عوده سنة بعد سنة، وما حصل من تطور في عظمة جماله .. لينقلنا إلى زمن يوسف وهو في ريعان الشباب .. ومالذي أوتيه ليتمكن من مواجهة ما سيأتيه .. تابعوا معنا… |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (17): د. توفيق العبيد التشريف والتكليف غنم وغرم (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ? وَكَذَ?لِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [سورة يوسف 22] ولت مراتع الصبا، ومازالت أيام الرق تمضي بثقلها على نفس ولد صاحبها حرا، وألفت الفيافي والقفار. لا شيء أثقل على نفس الحر من حياة رق وعبودية يلزم بها حينما تغيب الإنسانية، وتَحجب الشيطنة نورها، ويقودُ النفوسَ الحسدُ والحقد المفضي للجريمة. لكنها المحن التي سنها الله تعالى، لتصنع السائرين في الطريق إلى المجد والاصطفاء، وقد أخبر نبينا عنها ففي الحديث: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: "الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ" رواه ابن ماجة. وإن سألت لم سنَّ الله المحن طريقا لمن يريد لهم المجد؟ ذلك أن التشريف الحصال من التكليف غنم وغرم، فلا يمكن حصول الغنم بلا غرم، والمجد غنم، والمحن غرم. بدأ يظهر جمال الشباب على يوسف عليه السلام كزهر تفتح بأجمل الألوان وأطيب العطور. ولاح نور مجد شع بريقه من خلف حجب محنة قلما يسلم أحد من الوقوع فيها ممن يتعرضون لمثلها. وهل غير المحن سبيل لإدارك حقيقة الرجال، وكشف القدارت الكامنة في أشخاص ما كان يؤبه لهم؟!. فكم اكتشف رؤساء شركات كبرى أن فراش الشركة يحمل شهادة جامعية لو توظف بموجبها لأفاد الشركة بخبرات تزيد أرباحها وتسهم في تقدم نجاحها، ولولا موقف صعب كان الفراش فارسه، لما عرفوا خبرته، ولما أدركوا أن قلة ذات اليد ألجأته للعمل فيما لم يخلق له. وكم من زعيم أُنقذ من هلاك محتم لولا شجاعة جندي لا نجوم على كتفه .. والأمثلة. كثيرة، فطالما ولد من رحم المحن منح، لو أنفقنا ما في الأرض ما كنا لنحصل عليها. اليوم يتحدث الجمال ويقول كلمته .. ويسهم في محنة تتولد منها بإذن الله منحة يعود نفعها على الناس. لنعلم أن جمال الدنيا كان بكفة وجمال يوسف عليه السلام بكفة أخرى… لا تسألني عن جماله، فثمَّ موضع في قصته يكون الحديث فيه عن الجمال، وجمال يوسف عليه السلام خاصة، وستعرف حينها لم أخَّر القرآن الحديث عن جماله .. وفوق الجمال الذي لاحت مفاتنه، رجولة مزدانة برجاحة عقل وصفاء السريرة، وتوقد الذهن الذي يصل لدرجة القدرة على قيادة أمة، ولو كلفها لكان أمينا عليها. بل وكل تلك الملكات والجمال يكاد يذهب بالعقول، فكيف إن كان ذلك كله أمام عيني من تربى في بيتها ترقب رقي جماله صباح مساء، وهو عبد عند زوجها في بيتها لا حول له ولا قدرة، يمكن نيل المبتغى منه بسهولة لو قُصد ذلك، وفقا للعرف العام في الشأن العبد؟! وبأبلغ بيان وأجمل الكلام، يصف القرآن كيف كان زمن بلوغ يوسف عليه السلام حيث قال: ( ولما بلغ أشده ). لم يكن زمن ركض وراء شهوة فانية، أو لذة عابرة.. لم يكن مر بشذوذ المراهقة وانحرافاتها عن سبيل الفطرة… وليت الآباء قبل الأبناء يعون أنه لا وجود لشيء اسمه سن مراهقة يعذر فيه البالغ على حماقاته، وتركه لما ينبغي أن رباه أبواه عليه من دين وخلق، فتلك السن بداية كتابة القلم على العبد، فإما بلوغ المرء أشده واعيا، قائدا، يحمل ملكات وطاقات بناء أمة، وإما بلوغ ضعيف لا يحسن صاحبه السيطرة على نفسه فضلا أن يكون قائدا لأمة. ولو خضت في أعماق مطلع الآية والحديث عن اشتداد عوده عليه السلام، لما وسعت كلماتي صفحات، إذ بين كل حرف منها حكاية عفة وطهارة، فتلك معالم النبوة وإرهاصاتها تلوح من خلف ذلك كله. بل تلك المرحلة من حياة الإنسان عامة، طالما سجل التاريخ لها أسماء عظماء منهم: أسامة بن زيد قاد جيشا فيه أبو بكر وعمر، كان ابن 17 سنة. ومحمد الفاتح، فتح القسطنطينية وهو ابن 22 سنة .. ثم قال سبحانه وتعالى: " وآتيناه حكما وعلما" : إن اشتداد عود يوسف رافقه حكم وعلم… ولكن عن أي حكم تتحدث الآية ويوسف حينها لا يزال عبدا في بيت العزيز؟! وصدق من قال: وكيفَ نُحرِّرُ الأوطانَ يوماً إذا الإنسانُ عبدُ مُستَرق الجواب كامن في فصاحة وجمال ورعة التعبير القرآني المعجز: حيث يعبر بالماضي عما هو متيقن حصوله في المستقبل، ولذلك قال:( آتيناه ). ومثله لما قال تعالى: (أَتَى? أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ? ) فقيام الساعة محتم الوقوع، لذا قال: ( أتى أمر الله) مع أنه لم يأت بعد، بدليل قوله: (فلا تستعجلوه)، فما مضى لا يستعجل، وهذا ما يوضح أن مراده ب(أتى) هو توكيد الإتيان لا أكثر. وكذلك حديثه عما سيحصل حين تتزلزل الدنيا إيذانا ببدء عالم الآخرة، كان التعبير عنها بالماضي أيضا:( إذا زلزلت الأرض). وهكذا جمال وروعة بلاغة القرآن، حيث الحديث هنا عن العلم والحكم حديث عما لم يأت بعد لكنه آت لا محالة. وكذلك نجزي المحسنين: السؤال الذي يتبارد للذهن حينما يسمع (وكذلك نجزي) والمعنى ومثل هذا الجزاء كائن للمحسنين: ما هو الإحسان الذي بدا من يوسف عليه السلام، ليكون الحكم والعلم جزاء له؟ الجواب كامن في طيات بلاغة نص القرآن، حيث يشير إلى أن نيله الحكم والعلم كائن لإحسان يظهر من يوسف عليه السلام يجعله أهلا لهذا المقام، فالآية تتناول حديثا استباقيا لحدث لما يحصل بعد. لا عجب أن الحكم كائن بعد إحسان سيظهر منه، حيث سنجد شهادة السجينين في يوسف لاحقا : (… ُ ? نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ? إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة يوسف 36] فبشهادة من سُجن معه أنه من المحسنين، وبهذا نعلم أن القرآن مترابط نصه، متماسك بقوة، يوضح بعضه بعضا. فحينما يخبر أنه منحه الحكم والعلم لإحسانه، تعلم لماذا أجرى الله الشهادة بإحسان يوسف على لسان من سجن معه. انتهت المقدمات وبدأ ليل المحن يرخي سدوله، فامرأة العزيز لم تعد تحتمل صبرا .. فماذا جرى في بيت العزيز؟ أي محنة تلك التي مهدت ليحكم يوسف الأرض؟ كيف واجه يوسف المحن وإلى أين تسير بنا الأحداث؟ تابعوا معنا تأملات في سورة يوسف… |
رد: تأملات في سورة يوسف عليه السلام
تأملات في سورة يوسف عليه السلام (18): د. توفيق العبيد الاختبار الصعب والمحنة الكبرى (1) (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ? قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ? إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ? إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [سورة يوسف 23]. اشتد عود يوسف _عليه السلام_ وبدا جماله الذي حاز نصف جمال الدنيا يتلألأ نوراً أبهى من أنوار الدنيا بأسرها. بدأت تتقد حوله نار الافتتان بذاك الجمال الأخّاذ، في قلب من تبصره عن كثب، يسري لقلبها رويداً رويداً .. مع الوقت لم تعد امرأة العزيز تتحمل أكثر من ذلك، إنها أمام جمال لا يوصف، ولا يقاوم .. قد سطع ذلك الجمال على قلبها، فشغفها حباً، ولم تعد تبصر مكانتها، ولا جمالها، ولا عاقبة أمرها… صار جلُّ همها كيف تظفر بذلك الجمال الآخذ بالألباب . إن سياط الحب باتت تشعرها بألم الشوق كلما أشرقت طلعته البهية. ولا يمكننا أن نظن ولو للحظة واحدة بعد تأمل وتعمق في الآية- أن تصل امرأة بمكانة امرأة العزيز وجمالها لتتنازل عن عزة أنوثتها لتكون هي الطالبة والبادئة للرجل بالتعبير عن حاجتها له (وهذا ما جعل النسوة -كما سنجد ذلك لاحقا- يستغربن تصرفها). و لولا أن ذلك الحب تدرج في نفسها مع الوقت حتى ملكها، لما وصلت لمرحلة أن أخرجها عن مسار الطبيعة التي عُهِدت بالمرأة من كونها لمثل هذا الأمر مطلوبة لا طالبة، ومرغوبة لا راغبة. بتصوير راق، وحبك متقن للمشهد، اختزل القرآن الحديث عما كان من بدايات أمر حبها ليوسف، فكلمة (راودته) أغنت عن ذلك كله، وحكت بين حروفها آلام عشق اشتعل فتيله من زمن بعيد، ووصل لمرحلة نار متقدة من الصعب إخمادها بغير ماء الوصال. لكن لحكمة أرادها الله تعالى أن يُعلِّم خلقه: أن من أُعطِي ما حُرمَه غيره لا يعني أن ذلك المُعطى قد ملك السعادة، فلطالما كانت النعمة امتحانا ربما أسقط صاحبه في هاوية الهلاك. وهذا الجمال الذي لم يعطه أحد كان كذلك بالنسبة لنبي الله يوسف عليه السلام، ولكنه نجا من السقوط وحلق في عالم الفضيلة، قدوة وطيبا، وباتت محنته رحماً ولدت منه أعظمُ المنح. تأملت في كلامه تعالى بهذه الآية، فوجدت وصفا عجيبا وأسلوبا لا نظير له، يصف ما حصل - في بيت ضم يوسف منذ صغره، وكان سبب رعايته وحفظه - وكأنما الحدث يجري الآن، وذلك ببيان حركي وصفي عجيب، يشمل في طياته من المعاني ما يعجز البشر عن مثله. بعد تأمل ونظر وجدت ما أبهرني، وما جعلني أزداد حبا لجمال القرآن وبيانه، وكيف تراه يوصلك لفهم ما تعجز الكلمات عن بيانه، فتأمل معي: ففي قوله: " وراودته التي هو في بيتها" لفتة جميلة: إذ لم يقل في بيت العزيز، ولا في بيته كإشارة له، مع أن ملك البيت عادة ينسب للرجل دون المرأة، لا سيما وقد بين آيات سابقة الإشارة لملكية العزيز للبيت في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى? أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ? ) .. ومعلوم أن صاحب الأمر في البيت مالكه. ذلك أن العزيز أحسن ليوسف عليه السلام، ولا يناسب مكافأته بإلحاق السمعة السيئة به وقد كان سببا في رعاية نبي الله يوسف. كما أنه لم يسء، بل زوجته هي التي أخطأت، لذلك لما كان الموضوع هنا حديثا عن الخطيئة، لم يشر للعزيز بشيء. وهذا يدلنا على وجوب عدم الإساءة للفضلاء إذا وقع أحد ذويهم ومقربيهم في خطأ، إذ لا ذنب للفضلاء بأن يحملوا جريرة ما لم يفعلوه. وكأني أحسب أنه يلمح من قوله: " التي في بيتها": أنه يتعذر لها أيضا، فمن كانت في مكانها، تشهد مثل ذاك الجمال في بيتها، من المحال أن تصمد… ويبين من جانب آخر عظمة الفتنة، التي حصلت ليوسف عليه السلام، إذ أن دعوة امرأة لرجل لنفسها وفي بيتها من أعظم الحالات التي تضعف الرجل عن مقاومة ذلك النداء الأشبه بمغناطيس شدة جاذبيته من القوة بمكان أنها لا تقاوم. وفي قوله: " راودته التي هو في بيتها" ملمح رائع: راود فهل تعدى لمفعوله ب (عن)، ولما كانت المراودة تشير الى حركة( المراودة تعني الحركة بدهاء)، و(عن) حرف جر يدل على المجاوزة، فكأنها تجاوزت بحيلها وأنوثتها ما يجرده عن السيطرة على نفسه، بحيث تملك نفسه هي وحدها، دون أدنى مقاومة من نفسه لطلبها. والظاهر كما أشار كثير من أهل التفسير، أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة، أي فالنفس أريد بها عفافه وتمكينها منه لما تريد، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه، فلا يقاومها ولا يصدها. لازلت أعيش في جماليات وروعة بيان القرآن في هذه الآية التي أجدني سأكتب المطولات عنها لو أسعفني الوقت والقلم. ولكن سأدع قلمي يتابع مدادده في منشور قادم حول هذه الآية، كي يتاح لي أن أفرغ كل ما في قلبي من تأملات لها، بما لا يطيل المنشور فيمل قارئه. تابعوا معي مشهد المحنة الكبرى والاختبار الصعب في حياة يوسف عليه السلام. |
| الساعة الآن : 06:45 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour