قصَّة موسى في القرآن الكريم
2-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي لقد كانت أمّ موسى عليه السلام، من المتوكلين على الله حقاً إذ استوفت كلَّ الأسباب، وفوَّضت الأمرَ لله، واستسلمت لحكمته وإرادته.فالخطوة الأولى هي إرضاع الطفل، حتى إذا خافت عليه من القتل وانكشاف الأمر تلقيه في اليم. بين يدي فرعون: ويحمل اليمُّ التابوتَ كما أمره الله تعالى: [أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] {طه:39}. أي: ضَعي ابْنَك موسى بعد ولادته في الصندوق الذي تُعدِّينَهُ إعداداً حسناً؛ ليطفوَ على الماء دون أن يتعرَّض للغرق، فألقيه واطرحيه بسرعة في نهر النِّيل، فسوفَ يُلقيه النِّيل على شاطئ البحر، فيأخذُهُ فرعون عَدوِّي وعدوٌّ لموسى، وأنزلت بإلقاءٍ سريع عليك محبَّةً مني، فأحبَبْتُك وَحَبَّبْتُك إلى الخَلْق، وَلِتُربَّى ويُحسَنَ إليك، وأنا مُراعيك ومراقبك بمرأى مني. ويصل الصندوق لُقَطة من غير طلب، ويؤخذ أخذ اعتناء وصيانة له من الضياع. فَوَضَعتْهُ في صندوقٍ وألقته في النِّيل، فَعَثر عليه أعوان فرعون وأخذوه، ليتحقَّق ما قدَّره الله بأن يكون موسى رسولاً مُعادياً لهم، ومثيراً لحزنهم بنقد دينهم، والطعن على ظلمهم. {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}أي: إنَّ فرعون، ووزيره الأول هامان، وجنودهما كانوا مذنبين آثمين مُسْرفين في الطغيان والفَسَاد عن عَمْد وإصرار، اتِّباعاً للأهواء والشهوات، ومصالح الحكم والسلطان. ويفتح الصندوق، و يخرج موسى منه، ويوضع بين يدي فرعون وزوجه وثلة من زبانيته، الذين يشيرون بأن هذا الوليد من بني إسرائيل، فاقتله، ويكاد يفعل، ولكن كيف؟ والله قد وعد أمَّه بردّه إليها وهو الذي ألقى محبَّة منه، فيحبه كل من رآه لأول وهلة!. ومن كان في محبة الله وكنفه فمن ذا يملك أن يمسَّه بسُوء؟ ويتحرَّك هذا الحب في الذَّود عن الوليد ناطقاً عن لسان امرأة فرعون: [وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] {القصص:9}والمعنى: وقالت امرأة فرعون حين رأت موسى لزوجها فرعون: هذا الطفل الذي التقطناه من اليمِّ، مَبْعثُ السُّرور لي ولك، لا تُصدر أوامرك لجندك بأن يقتلوه؛ رجاء أن ينفعنا إذا كَبِرَ وَنَمَا في قصرنا، أو نتبنَّاه، والحال أنَّ فرعون وآله لا يدركون أقلّ إدراك بما قدَّر الله في شأنه، بأن يكون هذا الصبيُّ سبباً في هلاك فرعون، وتقويض مملكته في مصر. ما أعجبها من مُقابلة، فرعون بقسوته وظلمه، والمحبَّة بشفافيتها ورقتها !! لقد كانت المحبة ستاراً للقدرة الإلهيَّة، في حماية الوليد من القتل، ولقد حقق الله رجاء امرأة فرعون، حين قالت: [عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا] {القصص:9}. لقد كانت أمور موسى تسير بتدبير الله سبحانه، ولقد دخل موسى عليه السلام قصر فرعون، رغم أنف الظالم وزبانيته، ليخرج منه حين اتَّجَه إلى مدْيَن، ثم يعود إليه مخلِّصاً أهلَه من الظلم، وشعبه من الاستعباد، وأهل مصر من الكفر والعناد... وقديماً دخل جدُّه يوسف عليه السلام قصر ملك مصر مُعزَّزاً مُكرَّماً ليخرج منه إلى السجن، ثم يعود إليه مخلِّصاً أهله كذلك من الموت جوعاً، فكان خيراً وبركة على مصر وأهلها، كما سيكون موسى عليه السلام، ذريَّة بعضها من بعض. انشغال أم موسى عليه السلام: [وأصبح فؤاد أمِّ موسى فارغاً إن كادت لتُبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ] { القصص: 10} وأصبح عُمْق قلب أمِّ موسى بعد إلقاء وليدها في تابوته في النيل خفيفاً طائشاً، غيرَ ذي وزنٍ ثقيل يُثبِّتُه، وبخفَّته وطيْشه صار مُؤهَّلاً لأن يتأثَّر بآلام نفسها من أجل ولدها، فيُعطي توجيهَهُ لإرادتها، فتُصدر أوامرَها للسانها بأن يبوح بما فعلت سراً، أو المعنى: وصار فؤادها فارغاً من كل شيء سوى ذكر موسى عليه السلام وما حصل له. إنَّ الشأن الخطير أنَّ أمَّ موسى، كادت لتُصرِّح بأنه ابنها من شدَّة وَجَلها، وعندئذ يفتضح أمرها، ويشيع خبرها، لولا أنْ رَبَطْنا على قلبها بالعصمة والصَّبر والتثبيت؛ لتكون بخصائصها النفسيَّة من المؤمنين الصَّابرين الثابتين المتوكلين على الله من الرجال، الذين يضْبطون بإراداتهم الحازمات تصرُّفاتهم على مُقْتضى الحكمة، بخلاف النساء فإنَّ طبائعهنَّ تَغْلبُهُنَّ فتدفَعُهنَّ الخفّة إلى تصرُّفاتٍ لا تُحمد عُقْباها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (فإنَّه لما توارى عنها ـ موسى ـ ندَّمها الشيطان، وقالت في نفسها: لو ذبح عندي فكفنته وواريته لكان أحب إليَّ من إلقائه ) تفسير ابن كثير 3/148. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
3-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي أخت موسى تَتَتبّع أخبار أخيها: طلبت أم موسى من أخته أن تقصَّ أثرَه وتَتَتبَّع أخباره لتعرف هل قتلوه أم ما زال حياً؟ وتخرج أخته باحثةً عنه، فبصُرت به عن بُعْد، فوجدت أهله في حيرة من أمرهم، طفل جميل مَلَكَ قلبَ امرأةِ فرعون، ولكنه لا يقبل المرضعات على كثرة من عُرض عليه ويُعرض عليه منهنَّ، رغم حرصهنَّ جميعاً على ذلك لتنال الفائزة منهم الشرف والنعيم في قصر فرعون. قال تعالى: [ وقالت لأخته قصِّيه فبصرت به عن جُنٌب وهم لا يشعرون ] { القصص : 11}. أي: وقالت أمُّ موسى عليه السلام ـ بعد أن ألقته في النيل ـ لأخته: اتَّبعي أثر موسى، حتى تعرفي خبره؟ فَتَتَبَّعت أثره، فعلمت به علماً صحيحاً مؤكَّداً حالة كونها مُتجاوزةً مكاناً يفْصل بينها وبين النيل بمقدارٍ هو في نظر الناس بعيد، لا يُعتَبَر الموجود فيه مراقباً لما يحدث في النهر، وهم لا يدركون أقلّ إدراك أنها أخته، وأنها ترقُبه. أخت موسى في قصر فرعون : وتقدَّمت أختُ موسى تعرضُ عليهم هل أدلكم على من يكفله؟. وتتوجَّه إليها الأنظار، كأنَّهم قالوا: نعم، من هم؟ فقالت: أهل بيت يكفلونه لكم، وهم له ناصحون. [وحرَّمنا عليه المراضع من قبل، فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفُلونَه لكم وهم له ناصحون]{القصص:12} أي: وحرَّمنا على موسى المراضع تحريماً قدريّاً، فمنعناه أن يرضع ثَدْياً لمُرضع، من قبل وصول أخته إلى مكان طلب مُرضعٍ له؛ لنردَّه إلى أمِّه، وكانت أخته تَتَتَبَّع أخباره، فلمَّا وصلت إلى حيث يُطلب له مرضعٌ يقْبلُ ثديها، قالت للذين يبحثون له عن مرضعة تُرضعه وتكفله: هل أدلكم على أهل بيتٍ يضمُّونه ويُرضعونه، ويقومون بتربيته وحضانته لأجلكم؟ وهم له ناصحون مخلصون، ليس في كفالتهم غشٌّ ولا خيانة، فأجابوها إلى ذلك. جاءت أخت موسى عليه السلام بلفظ «بيت» نكرة، وقالت: «أهل بيت»، ولم تقل: مُرضعة، لتلاحظ مدى استجابتهم للعرض، ولتُبْعد الشُّبهة عن أن تكون أمُّه في هذا البيت، خوفاً على أخيها وأمِّها، فلما استوثقت من تلهُّفهم، وصدق رغبتهم، وأنهم لم يشعروا بأنها ذات علاقةٍ ما بالطفل. وترجع الأخت لتصحبَ أمَّها إلى القصر، وتُعطي الطفل الذي يسكت على الفور، ويلتقم ثديها يعبُّ منه برغبة تامّة ما شاء الله من اللبن المُصفَّى، ويغشى القصرَ سكونٌ رهيب، وبين دهشة الفرحة أنَّهم وجدوا من يُسْكِتُ محبوبَهم، وبين شدَّة العجب من لقاء الوليد بالمرضعة. عودة موسى إلى بيت أمِّه: ويتحرَّك أصحاب الشر، ويقولون: هي أمُّه، وهي من بني إسرائيل، وإلا لم يقبلها، فتقول: إني امرأة طيِّعة اللبن، لا أوتى طفل إلا قبلني، فيردُّ إليها الطفل مع الهدايا، وتعود به إلى بيتها، فكانت عودته مصداقاً لوعد الله، وتبشيراً بالخطوة الثانية، وهي الرسالة، ويتربَّى موسى في حِجْر أمه وحنانها، آمناً مُعزَّزاً مُكرَّماً، حتى إذا بلغ من العمر ما يكفي لردِّه إلى القصر، عاد إليه لتكمل مراحل تربيته، كما يليق بأبناء الفراعنة. قال الله تعالى:[ فَرَدَدْناه إلى أمِّه كي تَقَرََّ عينَُهَا ولا تحزنَ ولتَعلمَ أنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون ] { القصص:13} أي: فأرجعنا الصبيَّ موسى إلى أمِّه؛ لتقوم بإرضاعه وكفالته، كي تطيبَ نفسها وتفرح بردِّ ولدها الرضيع إليها، ولئلاَّ تحزن بسبب فراقه لها، ولتعلمَ أنَّ وعد الله حقٌّ بردِّه إليها، وبجَعْله نبياً ورسولاً، ولكنَّ أكثر الناس جاهلون لا يعلمون هذه الحقيقة. إيتاء موسى الحكمَ والعلمَ: قال الله تعالى: [وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ] {القصص:14 }. أي: ولمَّا بلغ موسى الناشئ في القصر الفرعونيِّ نهاية قوَّته ونُضجه الجسديِّ والفكريِّ والنفسيِّ، واستقامَ واعتدل، وكان في سلوكه وفي نشأته وشبابه، وفي اكتمال رجولته، من المحسنين، آتينَاهُ فقهاً في الأمور، ومعرفةً للحق والباطل، والخير والشر وحدودهما، يُصدر بها أحكامه العلميَّة والعمليَّة والقضائيَّة، وآتيناه معارف دينيَّة ودنيويَّة، ومِثْلَ ذلك الإحسان الذي أحسنَّا به إلى موسى، نُكافىءُ كلَّ المُحسنين على إحسانهم. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
4-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي بعد أن تحدثنا في الحلقات الثلاثة السابقة عن حال بني إسرائيل قبل ميلاد موسى عليه السلام ، وإرضاع أمه له، وإلقائه له في اليمّ قبل انكشاف أمره، وكيف وصل إلى قصر فرعون، وانشغال أم موسى عليه، وتتبُّع أخته لأخباره، وعودته إلى بيت أمه، وإيتائه العلم والحكمة . سبب الخروج إلى مدين: وذات يوم دخل المدينة على حين غفلةٍ من أهلها، وبينما هو يتجوَّل إذ برجلين يقتتلان هذا من شيعته، والثاني من عدوه، فيستغيثه الإسرائيليُّ على القبطيِّ، ويستجيب موسى عليه السلام له، فيتقدَّم للفصل بينهما بالحق، إلا أن يده تصيب القبطي بوكزة تقضي عليه من غير قصد لقتله، وهنا ترجع نفسه التوَّابة، وتعلن أنَّ هذا العمل من الشيطان العدو المضل المبين، ويستغفر الله تعالى من هذا الذنب ويعلن البراءة من كل ظلم وظالم. قال تعالى: [ودخل المدينةَ على حين غفلةٍ من أهلها، فوجد فيها رَجُلَيْن يَقْتَتِلان ،هذا من شيعته وهذا من عدوِّه ، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوِّه، فوكزه موسى فقضى عليه ، قال: هذا من عمل الشيطان إنه عدوٌّ مضلٌّ مبينٌ (15). قَالَ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ(16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ(17) فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ(18) ]. {القصص}. والمعنى: وَدَخَل موسى المدينةَ مُسْتَخفياً وقتَ غفلة أهلها، عَقِب غروب الشمس، عند دخول أول الليل، يدل على ذلك قوله تعالى :[فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ] فوجد فيها رَجُلَيْن يَتَخاصَمَان ويتضاربان تضارباً يُشبه التقاتل: هذا من بني إسرائيل من قومِ موسى، وهذا من القِبْط قومِ فرعون الذين يُسخِّرون الشعب الإسرائيليَّ ظلماً وعدواناً ويستعبدونهم، فسأله الإسرائيليُّ أن يُخلِّصه من عدوِّه القبطيِّ الظالم، وينصره عليه، فتدخَّل موسى ليُصلح بينهما، فتطاول عليه المصريُّ مُعتزّاً بعنصريَّته، فغضِبَ موسى وضربه بيده مضمومةً أصابعها في صدره، فسقط المصريُّ في الأرض قتيلاً من قوَّة الدفع، وكان موسى شديدَ القوة البدنيَّة، وكان المصريُّ يُهاجم ويُضارب، وندم موسى على تَسُرُّعه لمّا رأى المصريَّ قتيلاً، ولم يكن قَصْده القتل. قال موسى: هذا من نَزْغ الشيطان؛ بأن هيَّج غضبي، حتى ضربت هذا القبطيَّ، فَهَلَك؛ إنَّ الشيطان عدوٌّ مُضِلٌّ بيِّنُ الضَّلالة. دعاء موسى عليه السلام: [ قَالَ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ(16)] قال موسى داعياً ربَّه: ربِّ إني عَمِلتُ عملاً منكراً من مثلي لم تأمرني به، ولم تأذن لي به، فظلمتُ نفسي بارتكابه، فاغفر لي فعلتي، فاستجاب الله دعاءه، فَغَفَر له وستره فلم يفتضح أمره؛ إنَّ الله كثير المغفرة لذنوب عباده، يسترها لهم، ولا يُؤاخذهم عليها، عظيم الرحمة بهم، يمدُّهم بعطائه ومعونته، ويُسكِّن نفوسهم، ويُطَمْئن قلوبهم. [ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ(17)] قال مُوسَى مُتضَرِّعاً: ربِّ بالمغفرة والسَّتْر الذي أنعمتَ عَليَّ، فلم تكشف أنّي أنا الذي قتلتُ المصريَّ، فلن أكونَ مُعَاوناً لأحدٍ من المجرمين، ولو كان من قومي وشيعتي الإسرائيليين. غفر الله لموسى ذنبه، وقبل توبته، لأنه لم يكن يقصد قتلَ القبطيّ إلا أن ذلك، وقع لأمر يشاؤه الله تعالى ويدبِّر له، حتى يكون سبباً لخروج موسى عليه السلام إلى مدين. فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ: بينما موسى عليه السلام يترقَّب الأخبار، خشيةَ كيد الأعداء إن عرفوه، أو أن ينكشف السر الذي حيَّر آل فرعون؛ إذا هو برجل الأمس يستصرخه اليوم على قبطيٍّ آخر، وينفعل موسى غضباً، ويقول للإسرائيلي: " إنك لغويٌّ مبين " لأنك تقاتل من لا تطيق دفع شرِّه عن نفسك. قال تعالى :[فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ] {القصص:18} والمعنى: فدخل موسى في أول النهار يسير في أسواق المدينة التي قتل فيها القبطي، حالة كونه خائفاً يترصَّد الأخبار بانتباه شديد، من جرَّاء قتله القبطي، ففوجئ مُوسى بأنَّ الإسرائيليَّ الذي طَلَب منه النُّصرة بالأمس على القبطيِّ، يستغيثُ به من قبطيٍّ آخر بصوت مرتفع. قال موسى للإسرائيليِّ: إنَّك لَضَالُّ بَيِّن الضلالة، ظاهر البُعْد عن جَادَّة الحقّ، قاتلتُ رجلاً بالأمس فقتلتُه بسببك، وتقاتل اليوم آخر وتَستغيثُني عليه. فأدرك شهودُ الحَدَث في السُّوق أنَّ موسى هو الذي اسْتغاث به الإسرائيلي بالأمس، فنصره، فقتل خصمه المصريّ، وأخذ الناس يتهامسون بهذا، ويشيعون الخبر، ووصل النبأ إلى أسماع رجال الأمن، فنقلوه بسرعة إلى رؤسائهم. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
5-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي نتابع في هذه الحلقة في قصة موسى عليه السلام سبب خروج موسى إلى مدين بعد أن أدرك شهودُ الحَدَث في السُّوق أنَّ موسى هو الذي اسْتغاث به الإسرائيلي بالأمس، فنصره، فقتل خصمه المصريّ، وأخذ الناس يتهامسون بهذا، ويشيعون الخبر، ووصل النبأ إلى أسماع رجال الأمن، فنقلوه بسرعة إلى رؤسائهم. قال الله تعالى: [فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِينَ] {القصص:19} أخذت موسى الغَيْرةُ والرقَّة للإسرائيليِّ، فَمَدَّ يدَه ليبطشَ بالقبْطيِّ، فظنَّ الإسرائيليُّ أنَّه يريد أن يبطش به لِمَا رأى من غضب موسى. قال الإسرائيليُّ: يا موسى أتريدُ أن تقتلني كما قتلتَ القبطيَّ بالأمس؟ ما تريد إلاَّ أن تكون مُتعاظماً في أرض «مصر»، مُتسلِّطاً بالقوَّة، وما تريد أن تكون من المصلحين بين الخصماء. وانكشف سرُّ قتيل الأمس، بثبوت التهمة التي ألقاها القبطي في وجه موسى عليه السلام. ووصل النبأ إلى مسامع فرعون، ودارت به الدنيا، لأنه رأى فيها تحركاً مضادّاً له ولحكمه، كما أنها أثارت ثائرة بطانة السوء الحاقدة على موسى وقومه، وواتتهم الفرصة للإجهاز عليه، فاجتمعت أركان الدولة لتداول الأمر. ولكم سفكوا من دماء بغير حق ، وكم قتلوا من الأبرياء بغير عدل، عن قصد وبعمد...!!، فما بالهم اليوم تهتز أركانهم لمقتل قبطيٍّ واحد! لكنها طبائع الظالمين وطرقهم في التخلص ممَّن لا يسير في ركابهم، ويهدد عروش ظلمهم وفسادهم. وجاء رجلٌ من أقصى المدينة يسعى : ولكن أين تدبيرهم من تدبير العليم الحكيم، لقد خرج في هذا الوقت الذي لا يبدو فيه بصيص أمل، رجل من آل فرعون، امتلأ قلبه بالحق والهدى والنور، كان يخفي محبته لموسى عليه السلام؛ لينقذ موسى ممَّا يدبَّر له، فينسل من بينهم، ثم يهرول مسرعاً باحثاً عن موسى صلى الله عليه وسلم . قال الله تعالى:[وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ] {القصص:20} أي: ولما فَشَا أنَّ موسى قَتَل القبطيَّ، ووصل الخبر إلى رجال القصر الفرعونيِّ، عقد وزراء القصر الفرعوني مجلس تَشَاورٍ على وجه السرعة بشأن الحدَث، واتَّجهت الآراء لإصدار الأمر بقتل موسى عقوبةً له على قتله المصريِّ، وسمع بذلك رجلٌ مؤمن من آل فرعون، فأتى إلى موسى من آخر أطراف المدينة يُسرع في مشيه، وأخبره وأنذره بما سمع. قال يا موسى: إنَّ وجوهَ القوم وكبراءَهم ووزراء فرعون ومجلس مُسْتشاريه يتشاورون في شأنك ليقْتلوك، فاخْرُج من هذه المدينة مُهاجراً، حتى لا يظفروا بك فيقتلوك، وأُؤكِّدُ لك أنَّني من المشفقين عليك النّاصحين لك في الأمر بالخروج وإرشادك إلى ما فيه الصلاح والخير. خروج موسى إلى مدين مهاجراً خائفاً على نفسه من كيد فرعون : وبسرعة يخرج موسى غير منتظر ولا متزوِّد، وهي طبيعة الخائفين دائماً، يطلب النجاة لنفسه أولاً.. توجَّه موسى عليه السلام تلقاء مَدْيَن لا يلوي على شيء، خائفاً يترقَّب، قاطعاً صحراء سيناء الواسعة على قدميه، من غير زاد، ولا رفيق، سوى الأمل بأن يهديَه ربُّه سواء السبيل، وينجيه من فرعون وقومه. قال تعالى: [فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ] {القصص:21-22} أي: فاستجاب موسى لنصح الرجل الصَّادق، فَخَرَج من المدينة حالة كونه خائفاً على نفسه من آل فرعون، ينتظر ويتوقع ويلاحظ بانتباه شديدٍ بسمعه وبصره ما يتعلَّق بالحكم عليه بالقتل، وبالقبض عليه أينما وجد، وسأل ربَّه داعياً مع أوَّل شروعه في الخروج: [قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] {القصص:21}أي: يا ربِّ خَلِّصني واحفظني من فرعون وجنوده الظالمين بكفرهم وأعمالهم الظالمة لعباد الله.، المتجاوزين الحد ببطشهم وطغيانهم، وكفى به سبحانه منجياً وهادياً، وأنعم به دليلاً وصاحباً. [وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ] {القصص:22}أي: ولمَّا قصد موسى بوجهه مُسْتقبلاً بلادَ «مَدْيَن» فارّاً من مصر وجنود فرعون، قال: أرجو من ربِّي أن يُحقِّق لي بمعونته وتوفيقه وتسديده الطريق الوسط الذي فيه النجاة من القوم الظالمين في مصر، فأخرج عن حدود سلطانهم إلى أرض «مَدْيَن»، وذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
6-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي في مَدْيَن: تحدثنا في الحلقة الخامسة عن خروج موسى عليه السلام إلى مدْيَن مهاجراً خائفاً على نفسه من كيد فرعون ، وقد خرج بسرعة غير منتظر ولا متزوِّد، وتوجَّه تلقاء مَدْيَن لا يلوي على شيء، خائفاً يترقَّب، قاطعاً صحراء سيناء الواسعة على قدميه، من غير زاد، ولا رفيق، سوى الأمل بأن يهديَه ربُّه سواء السبيل، وينجيه من فرعون وقومه. حتى إذا وصل مدين، كان أول ما لاقاه نبع الماء الذي يسقي عليه الرعاة، ورأى امرأتين تذودان غنمهما عن الماء بينما يسقي الرجال من غير التفات إليهما أو مساعدة على الأقل، فيتحرك للمساعدة في إحقاق الحق، وقال لهما مستوضحاً الأمر مُتبيِّناً السبب حتى يكون تصرُّفه صحيحاً سليماً: ما خطبكما؟ والخطب: هو الأمر العظيم. وكان جواب الفتاتين واضحاً محدَّداً مختصراً: [قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ] {القصص:23}. قال تعالى: [وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ] {القصص:23} أي: وحين أشرف موسى على الأرض التي فيها ماء آل مَدْين، وكانوا يسقون منها مواشيهم، وَجَد على الماء جماعةً كثيرة من الناس، يستخرجون الماءَ من البئر بالدِّلاء ويصبُّونَهُ في أجرانٍ، لتشربَ أنعامُهم ودوابُّهم، ووجد موسى من خلف الجماعة امرأتين تُبْعدان أغنامَهُما عن الماء حتى يفرغ الناس، وتخلو لهما البئر. قال موسى للمَرأتين: ما شأنكما لا تَسْقيان مواشيكما مع الناس؟! قالتا: إنا امرأتان لا نزاحم الرجال أدباً واستحياءً، فإذا رجع الرُّعاة عن الماء سَقَيْنا مواشينا مِنْ فَضْل ما بقيَ من الماء، والسبب في قيامنا بوظيفة سَقْيِ مواشي أبينا، أنه ليس لنا إخوةٌ ذكورٌ للقيام بهذه الوظيفة، وأبونا شيخٌ كبير لا يَقْدر أن يسقي مواشيه. [فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] {القصص:24} فلمَّا سمع كلامَهما رقَّ لهما ورحمهما، وسقى لهما الغنم، وبعد أن ساقت المرأتان أغنامَهُما، وابتعدتا في اتِّجاه دار أبيهما، ابتعد موسى عن مكان البئر، وأوى إلى شجرة، فجلس في ظلِّها من شدَّة الحرِّ، فسأل ربَّه قائلاً: ربِّ إني لما سَبَق أن أنزلت إليَّ من النَّجاة من الظالمين، والوصول إلى ماء «مَدْين»، والاستظلال آمناً في ظلِّ هذه الشجرة، مُفْتَقرٌ إلى ما تسوقُه إليَّ من خيرٍ ورزق تفضُّلاً منك وإنعاماً، ومن ذلك: تزويجي بزوجةٍ صالحةٍ عفيفةٍ تعفُّني وتكون لي سكناً. وتأتيه الاستجابة سريعاً: [فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا] {القصص:25} أي: وصلت الفتاتان إلى أبيهما، وأخبرتاه خبرَ الرجل الغريب الذي سقى لهما، وعقب دعاءِ موسى ربَّه مباشرةً جاءت إحدى الفتاتين اللتين سقى لهما تسيرُ إليه في حياءٍ، قالت: إنَّ أبي، يطلب منك أن تأتي إليه؛ ليُعطيَكَ أجْرَ سَقْيك لنا. هكذا كلها حياء وأدب، حتى لكأنَّ الحياء طريقها على الأرض التي تسير عليها فكل خطوة من خطواتها أدب وحياء. وحين يصل موسى بيت الشيخ الصالح، ويقص عليه قصته، وما كان من أمره يبشره الشيخ بالأمان والنجاة من القوم الظالمين.. قال الله تعالى: [فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] {القصص:25} أي: فلمَّا جاء موسى أباهما الشيخ الكبير، وأخبره بأمره أجمع، قال الشيخ أبو المرأتين لموسى: لا تَخَفْ من جنود السُّلطة الفرعونيَّة، فنحن في «مدين» نقع خارج سلطته ونظام حكمه، وبوصولك إلى هذه الأرض نَجَوْتَ من فرعون وقومه الظالمين.. وما كان أحوجَ موسى عليه السلام لمثل هذه البشرى، في مثل هذا الوقت. ويشاءُ الله تعالى أن يكمل لموسى نعمة الأمن الذي حصل عليه بنعمة الاستقرار في بيت وأسرة، فتتقدَّم إحدى المرأتين طالبةً من أبيها أن يستأجر موسى ليحلَّ مكانها في العمل: [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ] {القصص:26} قالت إحدى الفتاتَيْن: يا أَبَتِ اتَّخِذه أجيراً ليرعى أغنامنا، ويقوم على حفظها، فهو قويُّ الجسد، استخرج الماء بالدِّلاء من البئر بقوَّة وهمَّة، على الرُّغم من قدومه إلى «مدْين» ماشياً على قدمَيْه من مصر، وهو أمين، فقد اختار أن يمشي أمامنا إلى مسكننا، حتى لا تصف الريح جسدنا؛ إنَّ خير مَن استعملت مَنْ قَوِيَ على العمل وأدَّى الأمانة. والقوة والأمانة من أهم ما يجب توفره في العامل والمستأجر والموظف والمدير حتى يكون عمله نافعاً مفيدا. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
7-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي تحدثنا في الحلقة السابقة عن وصول موسى إلى مدين، وسَقْيِه للمرأتين اللتين كانتا تمنعان أغنامهما عن الماء خوف الزحام ومنازعة الرجال، ويدعو الله سبحانه:[ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ]، وتأتيه الاستجابة سريعاً: [فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا] ويشاءُ الله تعالى أن يكمل لموسى نعمة الأمن الذي حصل عليه بنعمة الاستقرار في بيت وأسرة، فتتقدَّم إحدى المرأتين طالبةً من أبيها أن يستأجر موسى ليحلَّ مكانها في العمل : [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ] روى الحاكم في " المستدرك"2/407 عن عمر رضي الله عنه، قال: إن موسى لما ورد ماء مدين، وجد عليه أمّةً من الناس يسقون، فلما فرغوا، أعادوا الصخرة على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين، قال: ما خطبكما ؟ فحدَّثتاه، فأتى الحجر فرفعه وحده، ثم استقى، فلم يستقِ إلا ذَنوباً واحداً حتى رويت الغنم، فرجعت المرأتان إلى أبيهما فحدَّثتاه، وتولى موسى إلى الظل، فقال: [رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] قال: [فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ] واضعة ثوبها على وجهها ليست بسلفع ـ أي: سليطة ـ من النساء خرَّاجة ولاَّجة [قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ]، فقام معها موسى، فقال لها: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابَك فيصف جسدك، فلما انتهى إلى أبيها قصَّ عليه، فقالت إحداهما: [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ] قال: يا بنية ما علمك بأمانته وقوته؟ قالت: أما قوته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشر رجال، وأما أمانته فقال: امشي خلفي. زواجه عليه السلام: والاستقرار في مَدْيَن كان نقلة محكمة في تربية موسى عليه السلام وإعداده للرسالة، حيث نقلته القدرة الإلهيَّة من حياة القصور وما فيها إلى حياة الرعي، لتستكمل نفس موسى عليه السلام التجارب والأحاسيس لمعرفة مستويات الناس وأحوالهم، ليكون ذلك عوناً له على أداء رسالته في المستقبل، هذا وحين أتم موسى عليه السلام السنوات العشر، في خدمة الشيخ طلب موسى الإذن ليعود لأهله في مصر. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
8-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي مقدمات النداء: رضيَ موسى عليه السلام بعرض الشيخ الصالح بـ «مدْين»، وتزوَّج البنت التي اختارها من ابْنتيه على الشَّرط الذي عَرَضه عليه أبوها، فلمَّا أتمَّ موسى المُدَّة عشر سنين، وهي أكملُ المُدَّتَيْن، وقام بالخدمة على الوجه المطلوب المرضي، واستأذن أبا زوجته أن يسافر إلى «مصر»، مُسْتصحباً زوجته وولده، وأذن له، وأعدّ ما يلزم لهذا الرَّحيل، وسار مُصَاحباً أهله، مُتَّجهاً شطر مصر، حيث قومه بنو إسرائيل. سار موسى بأهله، عائداً إلى مصر، تدفعه يد القدرة التي كانت بالأمس تنقل خطاه، خطوة خطوة، في طريق الإعداد والتهيئة للرسالة، تحت حماية الله ورعايته، وهي ذاتها التي تقوده للعودة إلى مصر بدافع الميل الفطري للأهل والعشيرة، وتهوِّن عليه الخطر المتوقَّع من فرعون ومَلئه، وتُدْنيه من لحظات الحفاوة والتكريم المقدَّرة له في هذا الطريق ـ (في ظلال القرآن 5/3691). ها هو يسير بأهله في سيناء، من حيث قد عبرها بالأمس هرباً إلى "مدْين" وحيداً طريداً خائفاً يتلفَّت، وفي سيناء ضلَّ الطريق في ليلة باردة مظلمة ليس فيها ما يهدي فالظلمة تعمّ ما حوله، والسماء لا يرى منها شيئاً لاحتجابها بالغيوم، فآثر التوقف ريثما يشرق الصباح بضيائه فيتحقَّق الطريق. رؤية النار: قال الله تعالى: [فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ] {القصص:29}. أي: أبصر موسى من ناحية جبل الطُّور ناراً تتعالى ألسنة لهبها في الجوِّ، وكان البرد شديداً، وكان الطريق السويُّ إلى مصر غير واضح. قال موسى لأهله: تمهَّلوا وانتظروا، إني أبصرتُ ناراً، وإنِّي ذاهبٌ إلى المكان الذي هي فيه، أتوقَّع دون جزْم أنْ آتيكم من أهلها بخبر عن الطريق المُوصل إلى «مصر»، أو عودٍ من الخشب في رأسه نار، لتوقدوا منها حطباً، رجاء أن تستدفئوا بناره. وقال تعالى مخاطبا نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم مشوِّقاً ومقرِّراً، وحاثّاً على الإصغاء لما سيلقى عليه: [وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى] {طه:10} أي: هل وصل إليك قصة موسى مع أهله وربه وفرعون وقومه حين أبصر عياناً في ليلةٍ شاتية شديدة البرد، وهو قادمٌ من «مَدْيَن» إلى مصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطُّور، فقال لامرأته: أقيموا هنا، وانتظروا وتمهَّلوا إني أبْصَرت ناراً، أتوقَّع دون جزم أن آتيكم منها بشعلة من نار في طَرَف عود، أو أجد على المشرفين على إيقاد النار هادياً يدلُّني على الطريق الموصل إلى مصر. وقال عزّ وجل: [إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ] {النمل:7} أي: ضع في ذاكرتك ـ أيها المتلقِّي لهذا البيان ـ حين قال موسى وهو عائد بأهله من «مَدْين» إلى «مصر»: إنِّي أبصرت من بُعدٍ ناراً، فأنا ذاهبٌ إلى جهتها، وسائلٌ أهلها عن أخبار الطريق إلى «مصر»، وأرجو أني سآتيكم من عند أصحاب النار بخبرٍ عن الطريق الذي يُوصلنا إلى «مصر»، أو آتيكم بشعلةِ نارٍ ساطعة؛ رجاءَ أنْ تَسْتدفئوا بها من البرد. أذهبت رؤية النار وحشة الجو الذي كان يعيشه موسى عليه السلام تلك اللحظات، وآنست نفسه، وأمَّل أن يجد عند تيك النار هادياً يهديه، أو يعود منها بقبس يضيء له ظلام ليله، أو جذوة يدفئ بها نفسه وأهله. موقع النداء: قال الله تعالى: [وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا] {مريم:52} ونادَيْنا موسى حين أقْبل من «مَدْيَن» ورأى النار، من ناحيةِ جبل الطُّور اليُمنى من موسى، وقرَّبناه إلى جهة النداء، وشرَّفناه بإسماعه كلامنا سراً. وهناك عند جانب الطور الأيمن، يمين موسى وهو متَّجه إلى مصر، في صحراء سيناء على جانب الوادي المسمَّى (طوى) كانت البقعة المباركة من الشجرة ومنها كان النداء. قال تعالى: [هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى] {النَّازعات:16}. حين ناداه ربُّه بالوادي المُطهَّر «طُوى»؛ الواقع إلى جانب جبل الطُّور. طوى: اسم للوادي، وقيل: صفة له. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
9-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي المناداة: وصل موسى عليه السلام إلى جهة النار، وكله أمل بأن يجد الهادي عندها، أو يعود منها بقبس يُعينه على قضاء ليلته، ولم يخيِّب الله رجاءه، فلقد وجد الهادي، وعاد بالضياء، وعاد بنور النبوَّة والرسالة. قال الله تعالى:[فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الوَادِ الأَيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {القصص:30}. أي: فلمَّا أتى موسى عليه السلام النار التي أبصرها، ناداه الله تعالى من جانب الوادي الذي عن يمين موسى في القطعة من الأرض المتميِّزة ممَّا حولها، التي جعل اللَّهُ عزَّ وجلّ فيها الزيادة من الخير والنَّماء، من ناحية الشجرة: أنْ يا موسى، أُؤكِّد لك ما أقول لك: أنا الله الذي تُؤمن به، أنت وآباؤك المؤمنون الموحِّدون، وأنا خالق الكائنات كلها، والمُتَصرِّف فيها بحكمته دواماً، وبسلطان ربوبيَّته الشاملة لكلِّ ما في الكون من حوادث وتصاريف. وقال سبحانه: [فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى(11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى(12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(13) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى(15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى(16)]. {طه: 11-16}. أي: حين أتى موسى إلى قُرب موقع النَّار، ناداهُ اللَّهُ تعالى: يا موسى، إنّي أنا الذي أُكلِّمك من وراء حجاب خالقُك ومُمِدُّك بعطاءات ربوبيَّتي دائماً. ثم بيَّن له ما ينبغي أن يفعله تأدباً مع الله تعالى:[فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ]أي: فاخْلَع ما تلْبَسُ بقَدَمَيْك، وألْصق قدميك حافيتَيْن بترابه ورماله، وقفْ موقفَ الخضوع والتواضع والأدب الجمّ، فَخَلَع موسى نعليه، وألقاهما من وراء الوادي استعداداً لمناجاة ربِّه. . ثم عرَّفه في أيِّ مكان هو: [إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى]أي: إنَّك بالوادي المُطَهَّر من الأرجاس الماديَّة والمعنويَّة؛ «طوى» المتَّصل بحبل «الطُّور» . ويأتيه النداء: [وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى] {طه:13}. أي: وأنا اصْطَفَيتُكَ ـ يا موسى ـ برسالاتي وبكلامي، لقد جاءك أمرٌ عظيم، فتأهَّب له، واسمع بإصغاءٍ كامل، ووعيٍ تامٍّ لما يُوحى إليك منِّي. فهي الرسالة والنبوة، إنها منَّة كبرى، وسعادة وتشريف، ودلَّت الآية على أن النبوة لا تكون اكتساباً، بل هبة من الله عزَّ وجل . نداءات الله تعالى لموسى في البقعة المباركة: حين وطئ موسى عليه السلام البقعةَ المباركة نُودي بهذه النداءات حيث عرَّفه ربُّه تعالى من هو المنادي له: [إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {القصص:30} . أي: أُؤكِّد لك ما أقول لك: أنا الله الذي تُؤمن به، أنت وآباؤك المؤمنون الموحِّدون، وأنا خالق الكائنات كلها، والمُتَصرِّف فيها بحكمته دواماً، وبسلطان ربوبيَّته الشاملة لكلِّ ما في الكون من حوادث وتصاريف.. [فلمَّا جاءها نُوديَ أن بُورك من في النار ومن حولها وسبحانَ الله ربِّ العالمين يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {النمل:8-9}أي: فلما جاء موسى المكان الذي رأى النار تشتعل فيه، ناداه الله تعالى بأنه ثَبَتَ واستقرَّ وكَثُرَ خَيْرُ مَنْ في مكان النار من الملائكة، وموسى والملائكة الذين حَوْل النار. وحتى لا يشتبه على أحدٍ من الخلق أن الله تعالى يحدّه زمان أو مكان أو جهة قال تعالى: [وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {النمل:8}أي: وتنزَّه اللَّهُ خالق العالمين ورازقهم ومالكهم ومُربِّيهم عن كلِّ سوء ونقص ومُمَاثلةٍ للحوادث. [ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {النمل:9}أي: إنَّ الشأن العظيم الجليل الذي أُطالبك بأن تدركه، أنْ تؤمن بأني أنا الله القويُّ الغالبُ، ذو الإرادة الحكيمة النافذة، فلا تُفارق مشيئتي المُطلقة حكمتي في تصاريفي. يا موسى إنَّ الشأن العظيم الجليل الذي أُطالبك بأن تدركه، أنْ تؤمن بأني أنا الله القويُّ الغالبُ، ذو الإرادة الحكيمة النافذة، فلا تُفارق مشيئتي المُطلقة حكمتي في تصاريفي. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
10-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي مضمون الرسالة: قال الله تعالى: [إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى(15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى(16)] {طه:14-16}. أي: اعلم بتأكيد شديد ـ يا موسى ـ إنَّني أنا اللَّهُ الأزليُّ الأبديُّ، خالق الأكوان والمُتصرِّف فيها، لا معبود بحقٍّ في الوجود كلِّه إلا أنا، فاعبدني، ولا تعبد غيري، وَأَقم الصَّلاةَ بإتمام حقوقها، والمواظبة على أدائها في أوقاتها؛ لتذكرني فيها. إنَّ الساعةَ التي يُبعث فيها الناس للحياة الأخرى آتيةٌ لا محالة، أقرُب أن أُزيل خفاءَها، وأكشف غطاءَها، وأظهر علاماتها وأشراطها الكبرى، فكونوا على حذرٍ منها كل وقت؛ إنها آتية لتُجزى يوم الدين كل نفس موضوعة للاختبار في الحياة الدنيا بما تعمل من خير أو شر على تَتَابع الزمن في هذه الحياة الدنيا. فلا يَصرِفَنَّك ـ يا موسى ـ عن السَّعي للظفر بأعظم الجزاء في جنَّات النعيم يوم الدين بعد قيام الساعة، مَنْ لا يُؤمنُ بالجزاء الربَّاني، واتَّبع ما تميل إليه نفسه، وخالف أمر الله، فَتَسْقُطَ في أودية الآثام والجرائم، إن أنت انصرفت عن ذكرها ومراقبتها والتأهُّب لها هذه هي مادة الوحي وأصول الرسالة التي سيحملها موسى عليه السلام : الاعتقاد بالوحدانيَّة، والتوجُّه بالعبادة، والإيمان بالساعة والمعاد، وخصَّت الصلاة بالذكر لأنها أكمل صور العبادة، وأعظم وسيلة من وسائل الذكر. وجاءه النداء: [وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى] {طه:17}، وكان السؤال يتضمَّن التنبيه وجمع النفس لتلقي ما يرِد عليها، فلما سمع موسى عليه السلام السؤال، أجاب بما يعرف من خواصِّها، وما يعلم منها بالتجربة: [قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى] {طه:21} المعجزات مؤيِّدات الرسالة: بعد أن عرَّف الله سبحانه موسى بمضمون الرسالة، عرَّفه بوسائل تأييدها، وهي (العصا، واليد). العصا: قال تعالى: [وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى(18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى(19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى(20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى(21){ طه} سال الله موسى عليه السلام: وما تلك بيدك اليمنى ـ يا موسى ـ؟ قال موسى عليه السلام: هي عَصَايَ أعتمدُ عليها إذا مشيت، وإذا عييت، وأهزُّ بها الشجر؛ ليسقط ورقها على غنمي، فتأكل منه، ولي فيها حاجاتٌ ومنافعُ أخرى. والذي دعا موسى عليه السلام إلى بسْط الكلام، وإطالة الحديث، رغبةُ التشرُّف والاستئناس والتلذُّذ بطول المحادثة مع الربِّ عزَّ وجلّ. قال الله تعالى لموسى عليه السلام: ألْقِ عَصَاك. فطرحها موسى على وَجْهِ الأرض، ثمَّ حانت منه نظرة، فإذا هي حيَّةٌ من أعظم ما تكون من الحيَّات، تمشي بسرعة على بطنها، فولّى موسى مُدْبراً وهرب. قال الله تعالى لموسى: خُذ الحيَّة بيمينك كما لو كانت عَصَا، ولا تَخف، سنُرجعها بعد أن تُمْسكَ بها وهي حيَّة إلى هيئتها السابقة التي كانت عليها؛ عَصَا لا حياة فيها ولا حَرَكة. يا موسى هذا مثال من الأمثلة على قدرتنا على التصرف بالجمادات من وضع الحياة فيها وسلبها، وسنريك قدرتنا على التصرف بالأحياء أنفسهم. لقد تحوَّلت العصا - بقدرة الله تعالى- إلى حيَّة تسعى في سرعة الجانّ من الحيات. وما أعظم المعجزة.. إنَّ التي يهشُّ بها على غنمه هي اللحظة حيَّة تسعى! وإنَّ التي يتوكأ عليها في عمله اليومي، ستصبح تكأة دعوته في المستقبل ودليل صدقها!. وقال سبحانه: [وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآَمِنِينَ(31)]{القصص31-32} وأن ادفع عَصَاك من يدك إلى الأرض رَمْياً، فرماها، فلمَّا رآها تتحرَّك بشدَّة واضْطراب كأنَّها في سرعة حركتها وخفَّتها كالحيَّة الصغيرة، انهزم مُبْتعداً، مُعطياً ظهره لجهة العَصَا التي انقلبت حيَّةً مخيفة تسعى، ولم يرجع من شدَّة خوفه على نفسه، فناداه ربُّه عند ذلك: يا موسى أقْبل على النداء، وعُد إلى مكانك الذي فَرَرت منه خوفاً من الحيّة، ولا تَخَفْ أن تُؤْذيَكَ؛ إنَّك من الآمنين من كلِّ مكروه بتأمين ربِّك لك. ولما رأى موسى عليه السلام عصاه قد تحوَّلت إلى حيَّة تسعى بسرعة الجانِّ ولم يكن تعوَّد مثل هذا الأمر، ولَّى هارباً ولم يُعَقِّب ـ يرجع ـ ولكن إلى أين يا موسى؟ [يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ] { النمل: 10} قال الله تعالى: يا موسى لا تَخَف، وكُن آمناً فلن يُصيبك مكروه من هذا الثعبان الذي يسعى ويهتزُّ بقوة ونشاط وسرعة حركة؛ إنِّي لا يخاف لديَّ المُرسلون إذا أمَّنتهم، لكن مَنْ ظلم بمخالفة أمري أو نَهْيي، فإنَّه يخاف عقابي، فإنْ تاب وجاء بعملٍ فيه حُسنٌ من بعد عملٍ فيه سوء، فإني كثير السَّتْر، واسع الرحمة بعبادي المؤمنين، أشملهم بعطاءات رحمتي دواماً. [أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآَمِنِينَ] {القصص:31}. لقد أعطي الأمان... بل إن الأمن محيط به من كل جانب... فلمَ الخوف؟! [وألقِ عَصَاك فلمَّا رآها تهتزُّ كأنَّها جَانٌّ ولَّى مُدْبرا ولم يُعقِّب يا موسى لا تخف إنه لا يخاف لدي المرسلون (10)] {النمل} أي: وادفع عَصَاك إلى الأرض دفعةً واحدة؛ لتعلم معجزتَك فتأْنَسَ بها، فألقاها، فلمَّا رآها موسى عليه السلام تتحرَّك وتَضْطرب، كأنها في شدَّة حركتها واضطرابها مع عِظم جثّتها: حيَّةٌ سريعة الحركة، انصرف مُبتعداً، وأدار ظهره، ولم يرجع ويلتفت. قال الله تعالى: يا موسى لا تَخَف، وكُن آمناً فلن يُصيبك مكروه من هذا الثعبان الذي يسعى ويهتزُّ بقوة ونشاط وسرعة حركة؛ إنِّي لا يخاف لديَّ المُرسلون إذا أمَّنتهم، لكن مَنْ ظلم بمخالفة أمري أو نَهْيي، فإنَّه يخاف عقابي، فإنْ تاب وجاء بعملٍ فيه حُسنٌ من بعد عملٍ فيه سوء، فإني كثير السَّتْر، واسع الرحمة بعبادي المؤمنين، أشملهم بعطاءات رحمتي دواماً. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
11-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي أحوال العصا وتحوُّلاتها: لقد كان لعصا موسى - عليه السلام - دور كبير في حياته، قبل الرسالة، وبعدَها، كما كان لها دورٌ كبير في حياة بني إسرائيل وحياةِ فرعون ومماته. قبل الرسالة كان موسى عليه السلام يهشُّ بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى، وبعد الرسالة أصبحت معجزة رسالته. أما مع بني إسرائيل فقد ساهمت في إجابة طلباتهم، ودلَّت على صدق نبوَّة موسى عليه السلام، وذلك حين ضرب البحر فانفلق كل فرق كالطود العظيم، وحين ضرب بها الحجر فانبجس منه الماء ليشرب بنو إسرائيل. وكذلك مع فرعون حين أراه إيَّاها كدليل صدق له، ثم حين أبطلت كيد الساحرين، فآمنوا وخاب فرعون بما افترى. ونلخص هذه الاستعمالات والتحولات مرتبة حسب وقوعها: 1 ـ في ساعة المناداة : تحوَّلت إلى حيّة تسعى وتهتز كأنها جانّ. 2 ـ في ساعة المحاورة مع فرعون: تحوَّلت إلى ثعبان مبين. 3 ـ في ساعة المباراة مع السحرة: تلقفت ما يأفكون، وأبطلت ما صنعوا من سحر. 4 ـ في ساعة الخروج : ضرب بها البحر فانفلق لينجو بنو إسرائيل ويغرق فرعون. 5 ـ في سيناء : ضرب بها الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم. آية اليد: ومن المؤيِّدات التي أيَّد الله بها موسى – عليه السلام – قبل إرساله إلى فرعون : آية اليد : قال الله تعالى: [وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى(22) لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الكُبْرَى(23)]. {طه}. أي: واضْمُمْ يَدك اليمنى إلى إبْطك وأخرجها، تخرج بيضاء حسناء نيِّرةً مُشْرقةً من غير بَرَص، حالة كون هذه التحويلة في اليد دلالةً أخرى على صِدْقك، غيرَ آيةِ العصا وتحويلها إلى حيّةٍ تسعى. فعلنا ذلك؛ لكي نُرِيَك ـ يا موسى ـ بعض آياتنا الكبرى، الدالَّة على عظيم قُدرتنا، وصحَّة نُبُوَّتِكَ. ولقد أصابت موسى عليه السلام الخشية من الله تعالى حين رأى ما رأى، وسمع ما سمع من الله تعالى، فأمره الله تعالى أن يضمم إليه جناحه، أي: يضع يديه تحت إبطيه كأنه يحتضن نفسه حتى يطمئنَّ قلبه ويذهب ما به من الرهب والخوف. وهكذا كانت (العصا واليد) برهانان من ربِّ موسى على رسالته لفرعون و قومه وإلى بني إسرائيل. قال سبحانه:[اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(32)]{ القصص}. أي: أدْخِل يَدَك في فتحة قميصك، وأوصلها إلى إبْطك، وأخرجها بعد ذلك، تخرُجْ شديدةَ البياض متلألئةً مضيئةً من غير مَرَض ولا بَرَص، واضْمُمْ يَدَكَ اليُسرى إلى جانب صَدْركَ الأيسر، حيث قلبك، فيذهب ما نالك من أثر الخوف، فهاتان المُعجِزَتان الخارقتان العجيبتان: قلب العصا حيّةً مخيفةً، وقلب اليد السَّمراءِ بيضاء تبرُق كالبرق، حُجَّتان بيِّنَتَّان من ربِّك إلى فرعونَ وأشرافِ قومه ووزرائه ومسْتشاريه، وحاشية قصره؛ إنَّهم كانوا زمناً طويلاً عاصين، وما زالوا قوماً خارجين عن طاعة الله، تاركين لأوامره. وقال تعالى: [وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ]{ النمل} وأدْخل يَدَكَ اليمنى في فتحةِ قميصك من جهة الرأس، وضعها تحت عَضُدك الأيسر، وأخرجها تخرج بيضاء تبرق مثل شعاع الشمس من غير بَرَص، خذ هاتين الآيتين: آية العصا التي تنقلب ثعباناً، وآية اليد التي تخرج بيضاء من غير سوء، في جملة تسع معجزات، قدَّرت منحك إيَّاها، دليلاً على أنك رسولي، وأنك صادق فيما تبلِّغ عني، أنت مُرسَلٌ بهنَّ إلى فرعون وقومه؛ إنَّهم كانوا قوماً خارجينَ عن الطاعة |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
12-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي بعد أن زوَّد الله تعالى موسى عليه السلام بما يحتاجه من مفاهيم العقيدة الأساسيَّة لرسالته، ومن المؤيِّدات الماديَّة لها، أعلمه بأنه سيكون رسولاً إلى فرعون، وإلى بني إسرائيل. أما فرعون فهو طاغية الطغاة، وجبار الملوك، قال تعالى: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ] {القصص:4} أي: إنَّ فرعون تجبَّر وتكبَّر في أرض «مصر»، وجاوَزَ الحدَّ في العدوان حتى ادَّعى الربوبيَّة، وجعل أهلها فِرَقاً مُتَخَالفةً مُتعاديةً، وأحزاباً متصارعةً متنافسةً فيما بينها، يستضعف طائفةً من بني إسرائيل، يأمر بتذبيح مواليدهم الذكور وهم في سنِّ الرضاع في بعض السنوات دون بعض؛ لئلا يكثُر رجال الإسرائيليين، ويترك المواليد الإناث أحياء؛ للانتفاع منهنّ بالخدمة والتسخير، إنَّه كان من المفسدين بالقتل والتجبُّر والطغيان في الأرض. وقال تعالى: [وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ(10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلَادِ(11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ(12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ(14)]. {الفجر} وألم تر كيف فَعَل ربُّك بفرعون ملك «مصر» ذي الجنود الكثيرة، والمباني العظيمة التي تشبه الجبال؟ هؤلاء الذين تَجَاوزوا الحدَّ في الظلم والتجبُّر في بلاد الله، فأكثروا فيها الفساد بظلمهم وعدوانهم وسيئات أعمالهم. فأنزل عليهم ـ ربُّك ـ باندفاع وسرعة عذاباً مُتَتَابعاً شديداً تمَّ به إهلاكهم، كضربات السياط المتواليات، بتتابع متلاحق دون فاصل زمنيٍّ بينها، حتى كأنها سَوْط واحد ذو أجزاء متتابعة، كلما أدى جزء منه وظيفته اختفى، وجاء الجزء الذي وراءه؛ إنَّ ربَّك ـ يا رسول الله ـ لبالمرصاد يراقب مراقبةً تامَّة كلَّ من يفعل مثل فعل هؤلاء المُهْلَكين، وسينزل عذابه على المجرمين اللاحقين. وموسى يعلم من هو فرعون حقَّ العلم، فلقد عاش في قصره، وتربى فيه فترة من عمره، وهو يعلم ظلمه وطغيانه وإفساده. وأما بنو إسرائيل: فليس الأمر معهم أخف وطأة ممَّا هو مع فرعون، فهم قوم قد استمرؤوا الذلَّ حتى أصبحوا لا يعرفون للحياة معنى بدونه، وهو مُرسَلٌ إلى قوم لهم عقيدة قديمة منحرفة فاسدة، ومعالجة مثل هذه النفوس شاقّ وعسير... إنَّه مرسل لإعادة بناء أمة، ولإنشائها من جديد على أساس الإيمان. دعاء ومناجاة: كل هذا جعل موسى عليه السلام يقف أمام هذا الأمر العظيم موقف التضرع واللجوء إلى الله، فوقف داعياً ربه ومناجياً إيَّاه بطلب المعونة والتأييد، وقد انصبَّ دعاؤه على أمرين: الأول: يتعلق به شخصياً ـ داخلي ـ، والثاني : خارجي عنه. الأمر الداخلي: كان في موسى عليه السلام صفات حسب أنها ستكون عائقاً في سبيل هذه الدعوة، فإنَّ في لسانه حبسة تمنعه من الإفصاح البليغ عن دعوته، وإن في صدره ضيقاً لا يتحمَّل الكذب على الله تعالى: [قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي، وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي ] {الشعراء:13} قال موسى عليه السلام: يا ربي إني أخشى أن يُنكروا رسالتي ويجحدوها، ويضيق صدري عن الاحتمال والصبر بتكذيبهم إيَّاي، ويحتبس لساني ويتلجلج فلا يفصح بالمقصود ولا ينطلق بالدعوة. خشي موسى أن تقع له هذه الحالة وهو في موقف المواجهة بالرسالة لظالم جبار كفرعون. ولموسى عليه السلام تصرفات ماضية مع قوم فرعون حسب أنها ستكون عائقاً في طريق الدعوة:[وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ] {الشعراء:14}.أي: للأقباط عقوبة ذنب وتبعته. والذنب الذي قصده:[قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ] {القصص:33}. قال موسى عليه السلام: ربِّ إني قتلتُ من قوم فرعون نفساً، بقتل القِبْطي الذي وكزْتُه انتصاراً للإسرائيلي قبل خروجي من مصر فارّاً إلى «مدين»، فأخاف أن يقتلوني به عقاباً على قتلي له. الأمر الخارجي: وطلب معيناً له وردءاً يُصدِّقه، وهو أخوه هارون، لأنه أفصح لساناً، وأوسع صدراً، وأهدأ انفعالاً. قال الله تعالى:[وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ] {القصص:34}. أي: وأخي هارون هو أفصَحُ مني بياناً، فأرسله معي عَوْناً وناصراً يلخِّص الدلائل، ويجيبُ عن الشُّبهات، ويُجادل الكفار، إنِّي أخاف أن يُكذِّبني فرعون وقومه. هذا ما يطلبه لتمام التبليغ وبلوغ الدعوة . وسأل الله تعالى : [ فأرسل إلى هارون] {الشعراء:13}أي: فابعث جبريل إلى أخي بالوحي إلى هارون، فاجْعله نبياً ورسولاً معي؛ ليُؤَازِرَني ويُعينني على تبليغ الرسالة. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
13-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي قال تعالى: [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي(25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي(26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي(27) يَفْقَهُوا قَوْلِي(28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29) هَارُونَ أَخِي(30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا(33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا(34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا(35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى(36)]. {طه: 24-36}. ومعنى الآيات: اذْهَب ـ يا موسى ـ إلى فرعون ملك مصر إنَّه جاوز الحدَّ في العصيان والتَّمرُّد على ربِّه حتى ادَّعى الإلهيَّة. قال موسى: يا ربي وَسِّع لي صَدري؛ ليكون قادراً على تحمُّل المزعجات والمكاره، بصبر وحِلْم، دون اندفاع بغضب سريع. وشرح الصدر نورٌ في القلب، وقوة معنويَّة يَستعين بها نبي الله موسى على أداء تلك المهمَّة الكبرى، فإنَّه مدْعاة للصبر واحتمال المشاق والإقبال على الدعوة؛ حتى لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا لا بالرغبة ولا بالرهبة. ثم طلب تيسير الأمر فيما كلفه به في تبليغ الرسالة إلى فرعون ، فإنَّ كل شيء في هذا الكون إذا لم يصاحبه تيسير الله وعونه لا يمكن أن يسير، ومَنْ ذا يملك تيسيره من بعد!. ثم طلب حلَّ عقدةِ لسانه، وهو ما كان في كلامه من حبسة كالتمتمة والتردُّد في النطق، أو أن يعجل بكلامه فلا يكاد يفهم (الفتح 6/425). والمعنى: وأزل وارفع عقدةً تحبس من نطقي، فإذا أزلتَها بقُدرتك وحِكمتك، صرتُ قادراً على إفهام الذين أبلِّغهم رسالاتك دقائق المعاني التي أقيم بها عليهم البراهين والحُجَج. وصيِّر لي مُعيناً من أهلي وأسرتي الأقربين، هارونَ أخي، قوِّ به ظهري، واجْعله شريكي في أمر النبوَّة وتبليغ الرسالة التي كلَّفتني بها. طلب موسى ثلاثة أمور خارجية: أن يكون له وزيراً، وأن يكون من أهله، واختصَّ أخاه هارون ليساعده في البيان والإفصاح، لما يعلمه من صفات أخيه فهو أفصح لساناً وأوسع صدراً وليس عليه ذنب عند القبط، مما يجعله قادراً على محاورة فرعون وقومه ـ لاسيما وأنَّه عايشهم أثناء تلك السنوات التي قَضَاها موسى في مَدْين. والهدف من الأدعية السابقة كلِّها: [كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا] {طه:33}أي: من أجل أن نَتَساعد ونتساند على تنـزيهك عمَّا لا يليق بجلالك وعظيم صفاتك، تنزيهاً كثيراً، ونذكرك ونُثني عليك ونستحضر عظمتك وعونك بما أَوْلَيْتَنَا من جميل نعمك، ذكراً كثيراً، إنَّك كنت وما زلت ولن تزال بنا بصيراً. والذكر والتَّسبيح يحيي القلوب، ويوثِّق الصلة بالله، والداعية إلى الله تعالى لابد أن يكثر من الدعاء إلى الله تعالى، بأن يُيسِّر أمره، ويشرح صدره، للقيام بالدعوة على أكمل وجه. استجابة الدعاء: لقد استجاب الله دعاءه عليه السلام كله حين قال له:[قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى] {طه:36}أي: قد أُعطيتَ جميعَ ما سألته ـ يا موسى . فكانت الإجابة شاملة من شرح للصدر، وتيسير للأمر، وحلٍّ لعقدة اللسان، بحيث يفهم عنه المخاطبون مُراده أوضح الفهم. أما عن الشق الثاني من الدعاء: فاستجاب الله تعالى له، فقال سبحانه: [وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا] {مريم:53} وأجَبْنا دعوته، وَوَهبنا لموسى من رحمتنا أخاه هارون نبياً، يُؤيِّده ويُؤَازره. وقال تعالى:[قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بآياتنا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ] {القصص:35}. قال الله تعالى لموسى عليه السلام: سَنُقَوِّيك بأخيك هارون ونُعينُك به، ونَجْعَل لكُما حُجَّةً وبُرهاناً، وقوة غيبيَّةً معنويَّةً تحجُزُ فرعونَ وجنوده عن أن يصلوا إليكما بما فيه ضرٌّ أو أذىً لكما، فلا يَصِلون إليكما وصولاً بشيءٍ يضرُّكُما أو يُؤذيكما؛ بسبب ما نعطيكما من المعجزات وما نريهم من الآيات التي تُخيفهم بها، فيحذرون أن يهلكوا إذا كادوكُما كَيْداً يُؤْذي أحداً منكما. أنتما ـ يا موسى وهارون ـ وَمَن اتَّبعكما واهتدى بكما واستجاب لدعوتكما الغالبون المُنْتَصرون على فرعون وقومه. وقد حقَّق الله عزَّ وجلّ هذا الوعد في نهاية مسيرتهما الدعويَّة، فأغرق فرعون وملأه وجنودهم في البحر، وكانوا عبرةً لمن يعتبر. إنَّها المنّة العظمى أن يتحقق المراد كله في لحظات النداء مُباركةً، ووحياً، ونبوة، وإجابة دعاء، ثم تتويج لهذا الأمر كله بقوله: [أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ] {القصص:35}. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
14-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي مشهد المحاورة: جُهِّز موسى عليه السلام بكلِّ ما يلزمه لمواجهة فرعون، فأُجيب إلى طلبه، ودُرِّب على استعمال المعجزة الماديَّة الداعمة له، ثم شرح الله له ماذا يقول لفرعون وكيف يقول؟ ولا بد لمواجهة فرعون من زاد وفير من الذكر والصلة الدائمة بالله : يقول الله تعالى: [اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي] {طه:42} اذهب أنت ـ يا موسى ـ وأخوكَ هارون مَصْحُوبَيْن بآياتي البيانيَّة والإعجازيَّة والجزائيَّة، الدالَّة على ربوبيَّتي وإلهيَّتي، وكمال قدرتي، ولا تضْعُفَا، ولا تُقصِّرا في الدعوة إلى الإيمان بي، ولاَ تَفْتُرا أيضاً في ذكري في أنفسكما وقلوبكما وألسنتكما، وفي عبادتكما لي؛ لتكونا على صلةٍ دائمة بي. ولا بد له من اتباع أسلوب القول اللين مقرونا بالأمل والرجاء في تحقيق المقصد : قال تعالى:[اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] {طه:44}أي: اذهبا معاً إلى فرعون؛ إنه جاوز الحدَّ في الكفر والظلم والفساد، فَدَارِيَاهُ وارفُقا به، ولا تُعنِّفاه في قولكما؛ حالة كونكما راجيَيْن وطامِعَيْن أنْ يتأثّر بدعوَتِكما، أو أنْ يخاف من عقاب الله وعذابه؛ إذ لو ذهبتما إليه وأنتما يائسان من استجابته، لم تندفع أنفسكما للقيام بمهمَّة رسالتكما على الوجْه الأمثل المطلوب منكم. فالله سبحانه أمر موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون غير يائسين من هدايته، راجيين أن يتذكر أو يخشى." فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته، لا يبلغها بحرارة، ولا يثبت عليها في وجه الجحود والإنكار" (الظلال 4/2336). وقال الله سبحانه مخاطبا موسى عليه السلام: [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى(18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(19)]. {النَّازعات}أي: اذهب إلى فرعون؛ إنه علا وتكبَّر وتجاوز الحدَّ في كفره وفساده وظلمه وعدوانه، فقل لفرعون بغاية الرفق والتكريم : هل يطيب لك أن أدعُوَك إلى أن تَتَطهَّر من الشِّرك والكفر، وأُعرِّفك بصفاتِ ربِّك الجليلة، وأسمائه الحُسْنى، فإذا عرفت صفاته الجليلة، خشيتَ عقابه وانتقامه، فآمنت به رباً لا شريك له، وعبدته وحده، وأطعته طامعاً بثوابه الجزيل يوم الدين؟ إنَّ الأمر بالقول اللين، لفرعون الذي أُمر به موسى وهارون حتى لا يثيرا فيه حميَّة الطغيان بادئ ذي بدء، فيستكبر ويصدهما عن السبيل، وهذا القول اللين لا يعني المداهنة ولا النفاق... كما لا يعني الكذب أو المخادعة... ولكنه أسلوب العرض لهذه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، إضافة إلى اللفظ الجميل والعبارة الواضحة. مثله كمثل الماء، فإنه على لطفه وليونته، إلا أنه متماسك عذب المشرب، يتغلغل في شعاب الأرض، كما يتغلغل في شعاب النفس، فيُحييها بعد موتها. وهو نفسه طوفان مُدمِّر لا يعرف المحاباة ولا التَّسيُّب أبداً، فيفتّت الصَّخر، ولا يتفتت، لأنه يستمد من الحق قوته وثباته و تماسكه، ولذا قال موسى عليه السلام: [حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ] {الأعراف:105}إنه الصدع بالحق مع لين الأسلوب؛ لأنَّ أداء الحق لا يعني خشونة اللفظ وقسوة الأداء. ومعنى الآية: إني رسولٌ من الله، مُلزمٌ إلزاماً لا خيار لي فيه، على أن لا أقول على الله إلا الحقَّ في وصفه وتنزيهه، إذ أني معصوم بعصمة الله من أن أفتريَ عليه. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
15-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي طمْأن الله موسى عليه السلام بأنهم لن يقتلوه، وأجاب دعاءه في أخيه هارون، وجعلَه رسولاً معه، وأمرهما أن يذهبا مَصْحُوبَيْن بالمعجزات الدالَّة على صِدْقهما، وهو سبحانه معهما بالعلم والحفظ والنُّصرة، وأن يبلغاه هذه الحقائق ، ويطلبا منه هذه المطالب: [فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ(16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ] {الشعراء:16-17}. أي: فأْتِيَا فرعون، فقولا له: إنا رسولان، ولكننا بمثابة رسول واحد؛ لأننا متعاضدان، فما يقوله أحدنا يُعبّر عن قولنا مُجتمعَيْن، وإنَّ ربَّك هو ربُّ كلِّ موجود سواه تبارك وتعالى، فهو الذي خلق كلَّ الموجودات الكونيَّة، وأمدَّها بعطاءات ربوبيَّته؛ أنْ اترك بني إسرائيل، وأْذن لهم بالخروج معنا من مصر إلى أرض فلسطين، ولا تستعبدهم. وقال تعالى:[قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى(47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(48)]. {طه:42-48}. [قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45)] قال موسى وهارون: ربَّنا إنَّنا نتوقع ونخشى أن يَعْجَلَ علينا بطردنا وعقوبتنا، ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة، أو أن يُجاوز الحدَّ في الإساءة والظلم حتى القتل. [قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46)] قال الله تعالى لموسى وهارون مُطمئناً لهما: لا تخشيا ما توهمتما من عقوبته وطغيانه وكُونا مطمئنَّين؛ إنَّني مَعَكما بعوني أسمعُ دعاءَكُما، وأرى ما يُراد بكما، لست بغافلٍ عنكما، وسأحميكما وأحفظكما إنْ أراد فرعون بكما سوءاً. [ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى(47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(48)]{ طه }. فاذهبا إلى فرعون وصيرا إليه واحضرا مجلسه، وقولا له ستَّ مقولات: المقولة الأولى: إنَّا أرسلنا إليك ربُّك بالدعوة إلى توحيده والعمل بشريعته، وأنت مربوبٌ مملوك له. المقولة الثانية: فأرسل معنا بني إسرائيل وأطلق سراحهم من التحكُّم والقهر، ودعهم يذهبون ولا تمنعهم من الخروج إلى بيت المقدس. المقولة الثالثة: وخلِّ عنهم وأطلقهم من أعمالك الشَّاقَّة، وارفع عنهم عذابَ التَّسخير والإذلال والاستعباد. المقولة الرابعة: قد أتيناك بمعجزةٍ وبُرهانٍ من ربِّك يدلُّ على صدقنا في دعوتنا. المقولة الخامسة: والأمنُ والسَّلامةُ من عذاب الله تعالى لِمَنْ أسلم واتَّبع هُداه؛ إذ يُسلِّمه الله في الدنيا من عذابه، ويُسلِّمه في الآخرة بدخوله جنته دار السلام. المقولة السادسة: إنا قد أعلمنا الله وأمرنا بالتبليغ أنَّ التعذيب عقوبة ونكالاً في الدنيا والآخرة مُنْصَبٌّ على مَنْ أنكر وجحد ما جئنا به، وأدار ظهره، ولم يتَّبع هدى الله. أما مضمون الرسالة إلى فرعون فهي: 1 ـ الإيمان بالله تعالى. 2 ـ والإيمان بأن موسى وهارون نبيان مرسلان من الله تعالى. 3 ـ إرسال بني إسرائيل معهما ورفع العذاب عنهم. فكَّر فرعون في مضمون الرسالة وتدبَّره ملياً، وكأني به يقول: إذا كان هذا هو مضمون الرسالة فهي جد خطيرة؛ لأنها تعني التبعية لموسى عليه السلام لكونه رسولاً أرسل من الله، وهي تعني ذهاب إلهيتي، وضياع حكمي وسلطاني الذي بذلت في سبيله الجهد الجهيد... وهي تعني تجريدي من مصدر الخدمة الرخيص للدولة وهم بنو إسرائيل مع موسى... وتثور ثائرته على هذه الدعوة، ويبدأ الهجوم على موسى هجوماً يدل على خبث الطغاة، ومعرفتهم لأبعاد الدعوة... ولكن الكبرياء والهوى هو الذي صرفهم عن الاتباع... |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
16-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي حوار فرعون قبل الإتيان بالمعجزة -16- فكَّر فرعون في مضمون الرسالة وتدبَّره ملياً، وعلم أنها تعني ذهاب إلهيَّته، وضياع حكمه وسلطانه الذي بذل في سبيله الجهد الجهيد... وهي تعني أيضا تجريده من مصدر الخدمة الرخيص للدولة، وهم بنو إسرائيل مع موسى...وتثور ثائرته على هذه الدعوة، ويبدأ الهجوم على موسى هجوماً يدل على خبث الطغاة، ومعرفتهم لأبعاد الدعوة... ولكنَّ الكبرياء والهوى هو الذي صرفهم عن الاتباع...فبدأ بالطعن في أهليَّة موسى وأخلاقه، ثم طعن في مضمون رسالته ، وحاول استدراجه إلى معارك جانبيَّة، واتهمه بالجنون ، وهدده بالسجن. وكل ذلك وقع قبل إتيان موسى بالمعجزة . 1 ـ الطعن في أهليَّته وأخلاقه: قال تعالى حكاية عن فرعون: [قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الكَافِرِينَ(19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ(20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ(21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)]. {الشعراء} قال فرعون لموسى: ألم نُرَبِّك ضمْن أسرتنا الملكيَّة كأحد أولادنا، منذ كنت وليداً حتى صرت رجلاً مكتملاً، أو لم تُقِمْ في رعايتنا سنين من عُمرك؟ أو لم ترتكب جريمة قتل المصريِّ انتصاراً لرجلٍ من قومك الإسرائيليين، وأنتَ من الجاحدينَ لنعمتي وحقِّ تربيتي؟! وفررت هارباً؟!، فكيف بمن لا يعرف الجميل لأهله ويقتل الناس أن يكون رسولاً أو صاحب رسالة. قال موسى عليه السلام رداً على اتهام فرعون له بقتل القبطي: أولاً: وَكَزْتُ القبْطي حينئذ، وأنا من الجاهلين بأنَّ ذلك يؤدِّي إلى قتله، لأنَّ فعل الوكزة كان على وَجْه التأديب لا على وجه القتل. فَهَرَبتُ منكم إلى «مَدْيَن» حين خِفْت أن تقتلوني بما فعلت من غير عَمْد، فأنا أعلم أنكم لا تحقون حقاً، ولا تقيمون عدلاً، وإلا فما بالكم ثارت ثائرتكم لقتلي فرداً واحد وكان قتله خطأ، وأنتم قد قتلتم المئات، بل كدتم أن تبيدوا شعباً كاملاً ذبحاً واستعباداً، ومع ذلك لم تتحرَّك فيكم عاطفة، ولم يتحرَّك فيكم عاقل أو شفيع يشفع لهم ويطالب بمعاقبة الجناة. ثانياً: إن صاحب الأمر والمحاسب هو الله تعالى، ولست أنت يا فرعون، وقد استغفرته، ودعوته فاستجاب لي، وقبل توبتي، فَوَهَب لي ربي العلم والفهم، وجعلني نبياً من المرسلين. فإرسال الرسل أمر خاص بالله تعالى، يهبه لمن يشاء من عباده، وقد وهبني ذلك وجعلني من المرسلين، فالرسالة ليست مسألة اكتسابيَّة، ولكنها هبة من الله سبحانه يجعلها فيمن يشاء من عباده. ورداً على تربيتهم له صغيراً، وعلى استغرابهم على أن يكون رسولا ًوهو الذي عاش بينهم حتى بلغ أشدَّه قال: [وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)] أي: وتلك التربية في بيتك نعمةٌ تفضَّلت بها عليَّ، أنْ اتَّخذتَ بني إسرائيل لك عبيداً، فجعلتَ تقتل الأبناء من المواليد، وتسْتحيي البنات فلا تقتلهنَّ لتُسخِّرهُنَّ في الخدمة متى صِرْن نساءً قادرات على الخدمة، ولولا رغبة أهلك في أن أنفعهم أو أن يتَّخذوني ولداً لهم لذبحتموني مع سائر مَنْ ذبحتم من مواليد بني إسرائيل، أفهذه تصلح لأن تكون نعمةً تمُنُّها عليَّ؟!. فتربيتي عندك في الصغر لا تطعن في رسالتي، وليس هذا كفراناً لنعمتك عليَّ، فأنت ما أحسنت تربيتي بقدر ما أسأت إلى بني إسرائيل، أحسنت إلى رجل واحد، واستعبدت أمة كاملة. دُهش فرعون لفصاحة موسى عليه السلام، وحُسن بيانه، وقوَّة حجَّته في الردِّ على شبهاته، وأحسَّ أنه لن ينتصر على موسى... وبهذا تهاوى السلاح الأول الذي شهره فرعون في وجه موسى وهو سلاح تشويه السمعة. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
17-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي 2 ـ الطعن في المضمون: تهاوى سلاح فرعون الأول الذي شهره في وجه موسى، وهو سلاح تشويه السمعة. فانتقل إلى أسلوب آخر في هجومه على موسى عليه السلام، بعد طعنه في أهليته وأخلاقه ، وهو الطعن في مضمون الرسالة، فيسأله : [قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى(49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50) قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى(51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى(52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى(53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى(54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(55)]. {طه}. وفي الحوار الثاني يسأله: [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ] {الشعراء:23}، ويجيب موسى عليه السلام: [ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ(24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ(25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ(26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27) قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(28)]. {الشعراء}. سأل في المرة الأولى:[قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى] {طه:49}.فالسؤال (بمن) وهو عن الكيفيَّة، وفي سورة الشعراء: [وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ]. فالسؤال (بما) وهو عن الماهيَّة، فلما أقام موسى الدلالة على الوجود، وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه لظهوره وجلائه، عدل إلى المقام الثاني وهو طلب الماهيَّة، لعلمه بغاية ظهوره، ومشروع في المقام الصعب لأن العلم بماهيَّة الله تعالى غير حاصل للبشر. (التفسير الكبير للرازي 22/64)، (روح المعاني للآلوسي 19/71). وهذا أيضاً يدل على أنه كان عالماً بالله لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره، وشرع في المقام الصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر. رد موسى عليه السلام على السؤال الأول: [قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى] قال فرعون لهما: فَمَنْ ربُّكما الذي أرسلكما يا موسى؟ خصَّص النداء لموسى مع أن الخطاب إليهما؛ لأنه الأصل في الرسالة وهارون وزيره. ثم إنَّ موسى عليه السلام حين عرف أبعاد سؤال فرعون وما يحمل في طيَّاته من إنكار لربوبيَّة الله تعالى لسواها، بدأ موسى قائلاً: (ربنا) بالجمع إشارة إلى ربوبيَّته للجميع وفرعون وملئه. [قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] قال له موسى: ربُّنا الذي أعطى كلَّ شيءٍ مُخطَّطَ صفاته الذاتيّة من ماديَّات ومعنويَّات ونفسيَّات، فهي كامنةٌ مُستقرَّة في أعماقه، ثم هدى كلَّ عنصر صغير أو كبير للنماء والتحرُّك على وَفق ما قدَّر الله له في خصائصه . فالرب الذي ربَّى عباده بنعمه هو الذي أعطى كلَّ شيء من الأنواع خلقه بصورته وشكله الذي يطابق كماله الممكن، وأعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه، فالذي خلق الخلق هو الله عزَّ وجل، وليس فرعون، وهو الذي فطر الخلائق، وألهمها ما يصلحها مما لا يقدر عليه فرعون ولا يستطيعه. كانت هذه الإجابة من موسى إجابة عميقة واضحة الدلالة على قدرة الله تعالى مما لا يستطيعه فرعون، ولا يملكه، مما جعل فرعون ينسحب من هذا المجال متَّجهاً إلى مجال آخر. الاستدراج إلى معارك جانبيَّة: فأراد أن يشغل موسى بشيء لا علاقة له برسالته، وأن يصرفه إلى لا شيء لايعنيه. [قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى] {طه:51}. قال فرعون: فما حال القرون الماضية والأمم الخالية، التي ماتت وتفتَّتت ذرَّات أجسادها في تراب الأرض؟ كأنَّ فرعون يقول له: فما شأن القرون الماضية لم تقر بما تدعو إليه من التوحيد والعبادة... يريد أن يستدرج موسى بعيداً عن هدفه الرئيسي الذي جاء من أجله. الرد: ولكن أنَّى لنبيٍّ أن يُستدرج وهو المؤيَّد بالوحي يُسدِّد خطاه ويحفظه!! [قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى] {طه:52} قال موسى لفرعون: إنَّ علم القرون الأولى من البشر، وما يتعلَّق بإنشائها الأول، وما يتعلَّق بذواتها وصفاتها، وما قدَّمت من أعمال، مُسَجَّل مُدَوَّن عند ربّي في كتابٍ لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً، أحاط علمه بكلِّ ذلك، لا يتعرَّض علمه للضلال عن الواقع والبُعد عنه، ولا يتعرَّض لنسيان المعلومات كما تتعرَّض الخلائق لذلك، وهو محيطٌ بكلِّ شيءٍ علماً. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
18-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي كانت إجابة موسى تنمُّ عن حكمة وذكاء، وأمانة وصدق؛ لأن الخوض في القرون الأولى خوض فيما لا ينتهي أمره، وخوض في متاهة لا يعلمها إلا الله. وبهذا البيان أجاب موسى عليه السلام على السؤال، وبقي في حدود دعوته، وضيَّع الفرصة على فرعون. ويزيد موسى الأمر وضوحاً بما قال: [الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى] {طه:53}. وربُّكم هو الذي جَعَل لكم الأرض بمثابة السرير المُمَهَّد المبسوط، صالحةً لتجدوا عليها راحتكم إقامةً، وجلوساً، واضطجاعاً، ومناماً، وجعل لكم في الأرض طرقاً صالحةً لأن تسلكوها في تنقُّلاتكم وأسفاركم، وبهذه السُّبل تُحقِّقون منافع كثيرةً لكم، وأنزل من السحاب ماءً، فأخرجنا بذلك الماء الذي أنزلناه من السحاب، أصنافاً كثيرةً من نباتٍ مختلف الألوان والطعوم والمنافع. كُلوا ـ يا أيها الناس ـ ممَّا أخرجنا لكم من الأرض، ممَّا هو صالحٌ لأنْ يُؤكل، واجْعَلوا أنعامَكم التي خلقناها لكم ترعى من نبات الأرض، إنَّ في ذلك الذي ذكر لآيات جليلات لذوي العقول الواعية الدرَّاكة، يدركون أنَّ ذلك الخلق العظيم والنظام البديع لا يكون إلا من ربٍّ قادر حكيم. هذه هي نعم ربي، فكيف تكفرونها؟ وتستكبرون عن طاعته؟ وهل نسيتم؟! إنكم مخلوقون من تراب فلم الشموخ؟ وأنتم إليها ستعودون ثم منها ستخرجون. [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] {طه:55}. من تراب الأرض ومائها خلقنا أجسادكم ـ أيُّها الناس ـ، وفيها نُعيدكم عند الموت والدَّفن، ومنها نُخرجكم مرةً أخرى يوم القيامة للبعث والحساب، وفصل القضاء، وتحقيق الجزاء. هذا هو ربي يا فرعون فهلا آمنت؟ لكن طبيعة فرعون العاتية ما زالت تؤمِّل في الانتصار على موسى أو أن تجد لها مخرجاً من هذا المأزق فتحافظ على مكاسبها وملكها. ولشدَّة خبث فرعون وذكائه، و لما رأى أنه لا يستطيع مجادلة موسى في باب الاستدلال على الخالق انتقل إلى السؤال عن ماهية الخالق التي يصعب الاستدلال عليها. [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ] {الشعراء:23}. كأني بفرعون يقول إذا كان من سبق وصفه هو ربكما فما حقيقة ذات ربِّ العالمين الذي تزعم أنه غيري؟ وتزعم أنَّك رسوله؟ أعرض موسى عن إجابة فرعون عن حقيقة ذاته جلَّ جلاله، وسَمَتْ عن الإدراك ذاتُه؛ لأنَّ حقيقة ذاته لا يستطيع البشر إدراكها. [قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ] {الشعراء:24}. قال موسى: ربُّ العالمين هو خالقُ السموات والأرض وما بينهما، وممدُّها بعطاءات ربوبيَّته دواماً، إن كنتم مُسْتعدِّين لأن تفكِّروا بالحقائق التي أعرضها عليكم، فتُوقنوا بربِّ العالمين عن طريق البراهين والأدلة العقليَّة، فإذا كنتم غير مُستعدِّين لأن تفكِّروا فتوقنوا مُستقبلاً، فإنَّ بياني هذا لن يُغيِّر من جُحودكم لربِّكم شيئاً مهما قدَّمت لكم من أدلة. وعندما سمع فرعون هذه الإجابة الواسعة العميقة أدرك أنه لن يستطيع الإفلات، فأراد إشراك المستمعين معه في هذا الحوار، حتى لا يقع وحده: [قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ] {الشعراء:25}؟!! قال فرعون لِمَنْ حَوْلَه من أشراف قومه محرضاً لهم ومثيراً: ألا تستمعون لجوابه، إني أطلب منه الماهيَّة وهو يُجبيني بأفعاله وآثاره؟ إلا أن موسى يستمر في بيانه، شارحاً دعوته، ومبيناً أصول العقيدة: [قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ] {الشعراء:26}. إنَّه خالقكم وخالقُ آبائكم الأوَّلين الذين ماتوا عند انتهاء آجالهم، فكيف تعبدون مَنْ هو مخلوقٌ مثلكم، وله آباء قد فَنَوا كآبائكم؟ هذه هي مكانة فرعون إنه إنسان من البشر وليس إلهاً كما يدَّعي، بل هو مربوب. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
19-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي حوار فرعون قبل الإتيان بالمعجزة اتهامه بالجنون: فبدأ الغيظ يفلت منه زمام تفكيره وهدوئه المصطنع، فالتفت إلى من حوله يؤلبهم ويحرضهم على موسى، قال: [قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ] {الشعراء:27}. قال فرعون: إنَّ رسولكُم الذي يَدَّعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال، فَضْلاً عن أن يجيب عنه، ويتكلَّم بكلام لا نقبله ولا نعرف صحَّته. وهو تحريض بكبرياء لأنه نسب الرسول إليهم [رسولكم الذي أرسل إليكم] نفياً منه أن يكون رسولاً إليه. ويستمرُّ موسى عليه السلام في تبيين المعتقد الإيماني: [قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] {الشعراء:28} قال موسى: الربُّ الذي أدعوكم إليه هو المُدبِّر بصفات ربوبيَّته لمكان شروق الشمس وغروبها، ولزمان الشروق والغروب، وهو ربُّ كلِّ ما بين المشرق والمغرب من ظلمة وضياء، وأحياء وبشر، ورياح وسُحُب، وغير ذلك؛ إنْ كنتم تدركون حقيقة ربوبيَّته للمشرق والمغرب وما بينهما، وحسبكم أن تدلكم الظواهر على صفاته. وما لكم وللبحث عن ذاته؟. حرَّض موسى عليه السلام من حول فرعون باستعمال عقله وبصيرته، فإنَّ من تدبَّر هذه الأمور سيصل إلى الإيمان لا محالة. ويحسُّ فرعون بهذا التحريض وهو يعلم ماذا يعني لو استجاب له الناس، إنه يعني اليقظة وصحوة القلوب التي طالما عمل على طمسها والتعمية عليها. والطغيان لا يخشى شيئاً كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب، ولا يكره أحداً كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة، ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية، ومن ثَمَّ ترى فرعون يهيج على موسى ويثور عندما يمس بقولته هذه أوتار القلوب، فينهي الحوار معه بالتهديد الغليظ، وبالبطش الصريح الذي يَعتمد عليه الطغاة عندما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين ـ (في ظلال القرآن 5/2593). [قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ] {الشعراء:29}قال فرعون حين لزمته الحجَّة، وانقطع عنه الجواب: أقسم لئن اتخذت – يا موسى – معبودا تعبده غيري لأجعلنَّك ممن عرفت أحوالهم في سجوني، حيث كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا، عاد بهذه الكلمات إلى طبيعته التي أخفاها، لأنه لم يستطع أن يقابل موسى بالحُجَّة والبرهان، فلجأ إلى البطش والطغيان، والسجن أول درجاته لعله يرجع أو يتراجع، ولكن موسى لا يتراجع أبداً، بل يعرض عليه أن يريه المعجزة التي معه. بعد استعمال المعجزة: أحسَّ فرعون أنه قد خاب وفشل في الطعن في أهليَّة موسى وعقله، كما فشل في استدراجه إلى معارك جانبيَّة، فانتقل إلى التَّهديد بالسجن، وانتهاج طريق الطغيان والتعذيب. وكذلك أحسَّ موسى عليه السلام بأنَّ كل هذه البراهين الواضحة، والحجج الدامغة لم تُجْدِ مع فرعون فتيلاً، فقابل موسى عليه السلام تهديده ووعيده بسجنه: [قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ] {الشعراء:30}. أي: أتأمر بسجني، ولو جئتك – يا فرعون – بآية بيِّنة يتبيَّن فيها صدقي فيما دعوتك إليه؟!! [ قالَ: فأتِ به إن كنتَ من الصَّادقين ]{ الشعراء: 31}. قال فرعون: فَائْت بالذي يُبيِّن صدقك ، فإنا لن نسجنك حينئذ؛ إن كنت من الصادقين في أن لك بيِّنة. وقال الله تعالى في سورة الأعراف:[قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(106)] قال فرعون لموسى: إن كنت جئت من عند من أرسلك بمعجزة خارقة للعادة تدلُّ على صدقك، فائتني بها وأحضرها عندي؛ لتصحَّ دعواك ويثبت صدقك. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
20-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي حوار فرعون بعد الإتيان بالمعجزة -20- وخاب فرعون وفشل في الطعن في أهليَّة موسى وعقله، كما فشل في استدراجه إلى معارك جانبيَّة، فانتقل إلى التَّهديد بالسجن، وانتهاج طريق الطغيان والتعذيب. وكذلك أحسَّ موسى عليه السلام بأنَّ كل هذه البراهين الواضحة، والحجج الدامغة لم تُجْدِ مع فرعون فتيلاً، فقابل موسى عليه السلام تهديد فرعون ووعيده بسجنه: [قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ] {الشعراء:30} قال فرعون:[فأتِ به إن كنتَ من الصَّادقين ]{ الشعراء: 31}. وقال أيضا: [قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(106)]{ سورة الأعراف}. معجزة العصا واليد: [ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(108)]. {الأعراف}. فأسرع موسى فألقى عصاهُ على الأرض، فإذا هي حيَّةٌ عظيمة ضخمة في الجثّة، ظاهر أمرها لا يُشكُّ فيها، تتميَّز عما عملته السَّحَرة من التمْويه والتخييل. وأسرع فأدخل يدَه السَّمْراء في جَيْب قميصه، فنزعها بشدَّة، فإذا هي قد فاجأتهم بأن تحوَّلت بيضاء بياضاً عجيباً خارقاً للعادة؛ إذ كان لها شعاعٌ يغلبُ ضوء الشمس، وكان موسى عليه السلام آدم اللون، فإذا ردَّها عادت إلى لونها الأول، كسائر بدنه. حين ألقى موسى عليه السلام عصاه فتحوَّلت إلى ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي تشع بنور المعجزة بيضاء للناظرين، أذهل فرعون والملأ من حوله، وجعلهم يدركون أن أمر موسى عليه السلام جدٌّ لا هزل معه، وصدق لا كذب فيه، وحق لا يقوون على رده. وكأني بفرعون اللحظة، وقد تسارعت أنفاسه خوفاً من الثعبان المبين، وعميت بصيرته بعد أن رأى نور الحق يشع في يد موسى عليه السلام، وقد خرجت بيضاءَ من غير سوء، وبدلاً من الإيمان بالله واتباع رسوله لجأ إلى الاتهام بالسحر. الاتهام بالسحر: إن أحسن ما يقال ضد موسى عليه السلام بعدما تحولت عصاه ثعباناً، وخرجت يده تشع نوراً في نظر فرعون: إنه سحر وليس بمعجزة، تصدِّق نبوته، وهذا الاتهام بالسحر كان مادة الكذب الأوليَّة التي تسلَّح بها فرعون في هذه المرحلة. لقد ناظر موسى فرعون وناقشه، وأبطل حجته، ودحض مقولته، وأظهر له الآيات، وقذفه بالمعجزات، وأقام البراهين التي تقطع بصدقه، ولكن فرعون حين أسقط في يده، وظهرت معجزة موسى عليه السلام، وبان صدقه؛ أراد الخلوص من هذا الموقف فاتهم موسى بالسحر :﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الشعراء:34] وذلك لينفي عنه ما أتى به من المعجزات؛ لأن السحرة أشرار، وهم محل ذم وتنقص عند الناس.. ثم أتبع فرعون اتهامه باتهام آخر: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الشعراء:35]. وردَّد الكبراء المستشارون من قوم فرعون الحاضرون في مجلسه حين أظهر موسى آيتَيه مقولة فرعون: [قَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(110)] {الأعراف } قالوا: إنَّ موسى كثير العلم بالسحر، يأخذ بأعين الناس، ويُري الشيء بخلاف ما هو عليه. يريد موسى أن يخرجكم – أيها القبط- من أرض مصر. قال فرعون : فأي شيء تشيرون أن نفعل به تجاه هذا الساحر العليم؟ أثر البطانة الفاسدة : وفي قصة موسى عليه السلام تجلى ما تفعله البطانة الفاسدة من تزيين سوء العمل لصاحبه؛ فإن موسى عليه السلام لما أتاهم بالبينات والبراهين عدُّوها سحرا، وذكر الله تعالى أن ملأ فرعون قالوا ذلك ﴿قَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف:109] وفي موضع آخر ذكر الله تعالى أن قائل ذلك هو فرعون: ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الشعراء:34] ومعنى ذلك أن الملأ من قوم فرعون علموا مراده، فلما استشارهم استبقوا إلى ما يريد ولم ينصحوا له، وهذه عادة الوصوليين والانتهازيين عند الكبراء المتنفذين، ولا سيما إذا كانوا طغاة ظالمين كما هو حال فرعون وأمثاله من الحكام الظلمة المجرمين. وهذا يدل على أن البطانة الفاسدة لا تمحض النصح لصاحبها، وإنما تجتهد في البحث عما في نفسه لتسبقه إليه، ويكون قربها من الطاغية بحسب القدرة على فهم مراده، واستجلاء ما في نفسه، وهذه هي العبودية التي تعطل العقول والمدارك، وتجعل الأعوان نسخاً مكرورة من الطاغية ذاته، وقطعاناً تستبق إلى التبعيَّة، وتمتهن الوصولية، وتتخلق بالانتهازية، فيسود الظلم، ويتلاشى العدل، وتفسد الأخلاق، ويتوقف العمران.. ولذا جاء في الحديث أن "المستشار مؤتمن"، وإذا كان المشير يبحث عما في نفس المستشير؛ لنيل حظوة عنده؛ كان ذلك من الخيانة في المشورة، وأخطر من ذلك وأعظم جرما أن يتخلق بهذا الفعل الدنيء من ينتسب للعلم فيطوِّع النصوص والأقوال؛ لمراد من استشاره دون مراد الله تعالى؛ فيكون سببا في ضلاله وإضلال غيره، ونشر الضلال في الناس، كما هو حال من يشترون بدين الله تعالى عرضا من الدنيا، وهم متوعدون بأشدِّ العذاب ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران:77]. من مقال للأستاذ إراهيم الحقيل موقع الألوكة |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
21-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي المباراة بين موسى والسحرة -21- استشارة فرعون كبراء قومه: لقد جدَّ الجد، وحاق الخطر بفرعون وممارساته، ووجد من يقف في وجهه يريد تقويض كبريائه؛ ولذا لجأ فرعون للاستشارة؛ لأنه محتاج إليها، فالأمر أخطر من أن يستبدَّ به وحده، فأشاروا عليه بأن يؤجِّل مناقشة موسى وجداله إلى وقت إحضار من يستطيع مقارعته وهم السحرة؛ لأنهم ظنوا أن ما جاء به موسى عليه السلام من قبيل السحر، ولا سيما أن السحر كان منتشرا في ممالكهم آنذاك ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ [الأعراف:111-112]. أي: اجعل لموسى وأخيه هارون أجلاً نقيم فيه مباراة بين موسى وبين سحَرة مصر، تشهدها الجماهير في مكان جامع، وأرسل في المدائن المصريَّة، يجمعون ويسوقون إليك من فيها من السَّحرة، يأتوك من أقاصي البلاد بكل ساحر ماهر بصناعة السحر. وهذا يدل على أنهم أهل سياسة ونظر، كما يدل على أن دعوة موسى قد ظهرت في الناس، وأن الإشارة بقتله أو سجنه بعد ظهور حجته ستضعف عبوديَّة الناس لفرعون، فلا بد من كسر الحجة قبل معاقبة صاحبها بالقتل أو السجن، وقد كانوا يظنون أن السَّحَرة لكثرتهم وبراعتهم واستباقهم للتقرب من فرعون قادرون على كسر حجة موسى عليه السلام، وإلا لما غامروا في هذا الشأن العظيم. وأخذ فرعون بمشورة ملئه، وقال فرعون لموسى مُهدِّداً ومتوعداً: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى﴾ [طه:57-58].أي :حدِّد بوعد منك مكان المباراة التي سنجريها بينك وبين سحَرتنا، وحدِّد زمانها، لا تجاوزه نحن ولا أنت، واختر مكانا عدلا في وسط المدينة، بحيث يستطيع جميع سكانها الحضور؛ ليعاينوا عن قرب نتائج هذا التحدي، ويكون فيه فريقا المباراة متعادليْن في كل شيء. زمان إجراء المباراة: وكان من إلهام الله تعالى لموسى عليه السلام أن واعدهم في يوم عيدهم حيث اجتماع الناس وكثرتهم؛ لتظهر حجته فيكون ذلك أدعى لإيمان الناس بربهم سبحانه وتعالى، ولا شك أن في هذا مخاطرة عظيمة من موسى عليه السلام سواء غلب هو السحرة أم غلبوه، فإن هم غلبوه حقت عليه العقوبة أمام هذا الجمع الكبير، والعقوبة أمام الناس أشد من ألم العقوبة ذاتها، وإن غلب هو السحرة فلا يأمن غضب فرعون وفتكه به، وهو الذي ألَّه نفسه، ولم يجد من يعارضه في كبريائه فضلا عن أن يهزمه ويدحض حجته أمام جموع كثيرة من الناس، ولكن الأنبياء عليهم السلام يضحون بكل غال ونفيس في ذات الله تعالى، ويحرصون على هداية الناس ولو كان في ذلك قتلهم، فسلام الله تعالى على موسى وسائر النبيين، وجزاهم عن عباده المؤمنين خير الجزاء :﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ [طه:59]. وافق موسى على اقتراح فرعون، واتفق الطرفان على أن يكون موعد إجراء المباراة بينهما يوم العيد، الذي يخرجون فيه من مساكنهم متزيِّنين، ويلتقون في مكان واسع جامع حيث يكون الناس في فراغ من العمل، ويكون حضورهم أوفى وأيسر. وأن يجمع الناس في ذلك المكان وقت الضحوة نهارا جهارا. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
22-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي المباراة بين موسى والسحرة ويا لله العظيم كم لله تعالى من تدابير تقع على خلاف توقع الناس ومرادهم، وكم من طاغية يحفر قبره بظفره، ويسعى إلى حتفه بظلفه، فسبحان مدبِّر الأمر، ومُسيِّر الخلق ﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ جمع جنود فرعون السحرةَ لإجراء المباراة في الموعد المحدَّد زماناً ومكاناً، في وقت الضحى من يوم الزينة الذي يتفرَّغون فيه من أشغالهم، ويجتمعون ويتزيَّنون، ﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾ قيل لجماهير المصريين على سبيل العرض لا الإلزام: هل أنتم مجتمعون لتنظروا ماذا يفعل الفريقان، ولمن تكون الغلبة ؟ ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ﴾ [الشعراء:38-40]. ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ : أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ﴾ أقبل السَّحَرة على وجه السرعة -وهذا شأن الأتباع ومنتهزي الفرص- علىفرعون، فقالوا له بلغة المحترف والمستوثق، الذي مقصده الأول والأخير مما يعمله الأجر والعطاء: هل ستكافئنا بالأجر العظيم، والعطاء الوفير إذا غلبناموسى؟ وهنا يجيبهمفرعونقائلاً لهم: ﴿ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ [الشعراء:41-42]. نعم، لكم أجر ماديٌّ جزيلٌ إذا انتصرتم عليه، وفوق ذلك، فأنتم تكونون بهذا الانتصار من الظافرين بقربي، والمحاطين برعايتي. سألوا فرعون الأجر فوعدهم الأجر الجزيل، والعطاء الجميل، والمنزلة الرفيعة، وحُسن الرعاية والعناية والقرب منه ، وهذا يدل على ما كان يعتمل في قلب فرعون من إرادة الفوز الساحق؛ ليقضيَ على موسى ودعوته، ويحافظ على كبريائه وألوهيته وعبودية الناس له.. اصطفَّ السَّحرة في الميدان للمبارزة؛ فذلك أهيب لهم أمام موسى عليه السلام، وفرعون ورجال دولته يرقبونهم ويشجعونهم، وجموع الناس تحيط بهم تشهد هذا الحدث العظيم، وفرعون يعدهم إن فازوا. ويا للعجب من موسى عليه السلام؛ إذ ما نسيَ الموعظة في موضع المناظرة، ولم يرده عنها ما هو فيه من موقف عصيب، وأعطى السحرة حظهم منها قبل مبارزتهم: ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى الله كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ [طه:61]. قال موسى للسحرة الذين جمعهم فرعون قبل المباراة: عذاباً شديداً لكم؛ بسبب ما تُعدون أنفسكم له، فلا تختلقوا على الله الكذب بأعمال السحر التي تخدعون بها أعين الناس، فيهلككم ويستأصلكم بعذاب عظيم، وقد خسر من ادَّعى مع الله إلها آخر، وكذب على الله . ولكن السَّحرة أجمعوا بعد المشورة على المبارزة، فحالهم حال من يريد الظفر وإرضاء سيده؛ ولذا استعجلوا موسى في بدء المعركة، وقالوا له على سبيل التكبُّر وعدم المبالاة:﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ﴾ [الأعراف:115] يا موسى: اخْتر أحد الأمرين: إمَّا أن تُلْقيَ عَصَاك أولاً، وإمَّا أن نكون نحن المُلْقين أدوات سحرنا أولاً.. ﴿ قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون﴾ قال موسى للسَّحَرة: اطرحوا في ساحة المباراة ما تريدون إلقاءه من السحر، فأنا متحديِّكم وقابل تحدِّيكم،﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ﴾ [الشعراء:44].واعتزوا بفرعون، وكان موسى معتزا بالله عز وجل . والواقع أن السحرة برعوا في سحرهم، وأتوا بالأعاجيب في فنهم، ولم يقصِّروا في أداء واجبهم ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف:116] أي: فلما ألقُوا حبالَهم وعصِيَّهم، صَرَفوا أعين الناس عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل، وخوَّفوهم بما فعلوه من السِّحر تخويفاً شديداً، وجاء السَّحَرةُ بسحرٍ عظيم. ومن براعتهم في سحرهم خشي موسى عليه السلام على عامَّة الناس من الفتنة بهم؛ لعظيم ما جاءوا به من السحر، فيكون سحرهم صداً عن دين الله تعالى، فسلام الله على موسى ما أشدَّ حرصه على هداية الخلق للحق، ولكن الله تعالى أوحى إليه أن سحرهم سيبطل: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ﴾فأضمر موسى في نفسه الخوف وظنَّ أن ثعابينهم تقصده، ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى﴾. قال الله الله تعالى لموسى: لا تخف من أعمالهم السحريَّة إنك أنت الغالب عليهم، وستكون لك الغلبة والظفر. ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ [طه:67-69]. وألق عصاك التي في يمينك تتحول فورا حيَّة عظيمة، تلتقم وتبتلع بسرعة حبالهم وعصيهم، ما صنعوا بأعمالهم إلا كيدا سحريا تخيلياً بإيهامها كذباً على الحقيقة أنها ثعابين حقيقية ، ولا يظفر الساحر في أيِّ مكان يأتيه، ويعمل فيه أعماله السحرية، إذ يجعله الله خائبا خاسرا. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
23-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي إيمان سحرة فرعون وثباتهم أمام تهديده أدرك السَّحرة الحق فآمنوا بالله وخرُّوا على الأرض سَاجدين دون تلكُّؤٍ ولا تريُّثٍ، وقالوا: آمنَّا بربِّ العالمين، ربِّ هارون وموسى، فاتهمهم فرعون بعدم الصدق في إيمانهم، وأن هذا الإيمان جزء من مؤامرة يُستهدف فيها حكمه ومجده. قال الله تعالى في سورة الأعراف:﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(123) ﴾ قال فرعونُ للسَّحرة: أآمنتم بموسى وصدَّقْتموه قبل أنْ آمركم وآذَنَ لكم فيه، كيف تفعلون هذا وتعصُونَني؟! إنَّ هذا لتدبير أمر في خفاء دبَّرتُموه أنتم وموسى في مدينة «مصر» قبل خروجكم إلى هذا المكان المختار للمباراة؛ لتُخرجوا أهل مدينتكم منها إلى الصحراء، وتستولوا عليها أنتم، فسوف تعلمون ـ أيها السَّحرة ـ بعد إمهالكم مُدَّةً، ما أُنزل بكم من عقاب إذا لم ترجعوا إلى ملَّتي وطاعتي. ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(124) ﴾ لأُقطِّعنَّ أيديَكُم وأرجُلَكُم من خلافٍ: بقطع اليد اليُمنى والرِّجْل اليُسرى، أو بقطع اليد اليُسرى والرِّجْل اليُمنى، ثمَّ بعد مدّة أدعكم تتعذّبون فيها، أُقسم لأصلبنَّكم أجمعين على جُذوع النخل؛ لتكونوا عبرةً لكلِّ مَنْ تُحدِّثه نفسُه بمخالفة ديني ونظام حكمي. وقال تعالى في سورة طه: ﴿ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى(71) ﴾. قال فرعون للسَّحَرة متوعِّداً لهم: آمنتم بما دعاكم للإيمان به موسى منقادين له قبل أنْ آذنَ لكم بذلك؟ إنَّ موسى لرئيسكم ومُعلِّمكم صناعةَ السحر، فلذلك تابعتموه، فَلأُقطِّعَنَّ في الحال دون تأجيل أو تسويف أيديَكُم وأرجُلَكُم مُخالفاً بينهما، يداً من جهةٍ، ورِجْلاً من جهةٍ أخرى، وَلأُصَلِّبَنَّكُم بتسمير أطرافكم بمسامير حديديَّة في جذوع النَّخل؛ فتموتون تعذيباً وصبْراً، وتكون مواقعُ تصليبكم أماكن تُعرضون فيها لمشاهدة الناس، تشهيراً بكم، وعبرةً لمن تحدِّثه نفسُه بأن يسْلك طريقتكم من القبط، ولتعلمنَّ في العاجل الحاضر ـ أيُّها السَّحَرة ـ أيُّنا أشدُّ عذاباً في إيلامه، وأبقى في دوامه: أنا، أو ربُّ موسى؟ وقال تعالى في سورة الشعراء: ﴿قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ ﴾ قال فرعون للسَّحَرة مستنكراً: آمنتم بموسى مسلمين له قبل أن آذَنَ لكم بذلك ،كأنما كان عليهم أن يستأذنوه أن تنتفض قلوبهم للحق وقبل أن يستجيبوا لنور الله وهو يملأ القلوب.. إن الطواغيت المتجبِّرين لا يدركون كيف يتسرَّب الإيمان إلى قلوب البشر, فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح وتقليب القلوب فلا تميل ولا ترغب إلا فيما يسمح لها ويرضى. ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ إنَّه موسى لكبيركُم الذي علَّمكم السحر، وقد اتَّفقتم معه على أن تكونوا شركاء في حكم مصر بمؤامرة مُدبَّرة بينكم وبين موسى، فَلَسَوْف تعلمون وَبَالَ ما فعلتم. وتمضي بنا الآيات إلى المشهد الأقوى والأعظم والأكثر رهبة.. تمضي بنا الآيات إلى نهاية القصة.. إنه المشهد الذى تقف فيه الدنيا بأسرها إجلالاً وإكباراً للسَّحَرة وقوة إيمانهم وثبات يقينهم بالله عز وجل.. قال فرعون مهدِّداً ومتوعداً لما رأى إيمان السحرة وتسليمهم لموسى وسجودهم لله عز وجل: ﴿ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(49) ﴾ لأُقَطِّعَنَّ أيديَكم وأرْجُلكم من خِلاف: بقطع اليد اليُمنى والرِّجْل اليُسرى أو عكس ذلك، ولأُصَلِّبنَّكم أجمعين تشهيراً بكم أمام الشعب المصري؛ لتكونوا عبرةً لكلِّ مَنْ تُحدِّثه نفسه بمخالفة ديني ونظام حكمي. وهكذا كل طاغية في كل عصر.. عندما يفلس من الحجج الباطلة ولا يجدي الترغيب شيئاً لا يجد أمامه من سبيل إلا البطش والتعذيب والتنكيل وسفك الدماء وإهدار الحريات والكرامات في سبيل الحفاظ على السلطان والعرش. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
24-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي موقف السحرة من تهديد فرعون ووعيده قال السَّحرة لفرعون حين هَدَّدهم بالقتل: ﴿ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ(125) ﴾{الأعراف} أي: إنَّا إلى ربِّنا راجعون، وإليه صائرون في الآخرة، وسيكون لنا النعيم الخالد، وهو يُعوِّضنا من أذاك. ﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ﴾وما تكرهُ منَّا وتعيب علينا ـ يا فرعون ـ إلا أنْ آمنا بآياتِ ربِّنا لمَّا أتتنا. ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ(126) ﴾{الأعراف} ربَّنا املأْ لنا مكيالاً من الصبر بمقدار ما نحتاج لتحمُّل العذاب، واصْبُبْه كلَّه علينا، حتى لا نتراجع عن الإيمان الذي هَدَيْتَنَا إليه، ونسألك أن تتوفَّانا حالةَ كوننا مُسلمين لك، مُسْتسلمين لأوامرك، ومطيعين لك فيها. وقال تعالى في سورة طه: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا(72) ﴾. قال السَّحَرة لفرعون: لَنْ نُؤْثر حُجَجَك الواهية الضعيفة، ونظام حُكمك المُسْتبد الظالم، على ما جاءنا به موسى من البراهين العقليَّة، والآيات الإعجازيَّة الدالة على صدقه، ولن نختارك ونُفضِّلك ـ يا فرعون ـ على الله الذي خلقنا وأبدع إيجادنا على نظام الفطر، من العُمق الباطن الذي يحتوي خريطة وجودنا وصفاتنا، إلى الظاهر المطابق تماماً لما في الخريطة المستقرَّة في العُمْق، فأمْضِ بأمْرك ما أنت قاضيهِ علينا، ما أمرك وسلطانُك إلاَّ في هذه الحياة الدنيا، وسيزول عن قريب. ﴿ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73) ﴾واعلم ـ يا فرعون ـ إننا آمنَّا بربنا وخالقنا ومالكنا ومربينا بنعمه؛ ليغفرَ لنا بإيماننا ما سلف من خطايانا، وليغفر لنا أيضاً ما أكْرَهْتَنَا عليه من تعلُّم السحر وعمله، إذ جَلَبْتنا بالقسْر من مختلف المدائن المصريَّة، وَفَرضْتَ علينا أن نعدَّ وسائلنا السحريَّة لمباراة موسى، وأن نمارس كفريَّات وشركيَّات لاستخدام كفرة الجنِّ ومرَدَتهم لمساعدتنا في أعمالنا السحريَّة، وإذا كنت ـ يا فرعون ـ تُطمعنا بخيراتك إذا عُدنا إلى دينك، وتُهدِّدنا بعذابك الشديد الباقي، إذا أصررنا على موقفنا، فعطاء الله خيرٌ من عطائك وأبقى، وعذابه أشدُّ من عذابك وأبقى. ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا(74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلَا(75) ﴾ {طه} إنَّ الشأن العظيم المُرْهب المُخيف: مَنْ يَأْت ربَّهُ كافراً، فإنَّ له بالاستحقاق المؤكَّد الذي لا مفرَّ منه، نارَ جهنَّم، لا يموتُ فيها فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياةً مريحة ينتفع بها، بل يكون في عذاب دائم مُتجدِّد مهما امتدَّ الزمن. ومن يأتِ ربَّه بعد موته مؤمناً به، صادقاً في إسلامه، قد عمل الصَّالحات، فأولئك الفضلاء رفيعو المنـزلة لهم الدرجات الرفيعة العليَّة. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
25-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي موقف السحرة من تهديد فرعون ووعيده مبارزة موسى السحرة ومبارزة النبي المشركين يوم بدر: يا لها من معركة فاصلة بين الحق والباطل، بين جندي من جنود الرحمن وبين جند الشيطان، يقابل فيها رجل واحد جموعا من السحرة، وطاغوتا عبَّد الناس لنفسه وأرهبهم، وحشوداً من ملئه ووزرائه وجنده ورجال دولته، فتهزم القلة الكثرة، وينتصر الواحد على الجمع؛ لأن الله تعالى معه.. انتصر بإيمانه ويقينه، واعتزازه بالله تعالى، وركونه إليه سبحانه، وتوكله عليه عز وجل . كانت مبارزة موسى عليه السلام للسحرة من أعظم المعارك في التاريخ البشري، وهي في سيرة موسى عليه السلام كغزوة بدر في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلا المعركتين حاسمتان في إحقاق الحق، وكشف الباطل، وقد قال الله تعالى في معركة موسى عليه السلام :﴿فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف:118]، وقال في معركة محمد صلى الله عليه وسلم :﴿وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ﴾ [الأنفال:8]. وفي معركة موسى كُسر فرعون، ودُحضت حجته، وآمن جنوده من السحرة، وهذا أقوى ما يكون نصرا لموسى عليه السلام. وفي معركة محمد صلى الله عليه وسلم كُسر جيش المشركين، وقتل فرعون هذه الأمة أبو جهل في جماعة من صناديد الشرك؛ ولذا كانت المعركتان فرقاناً بين الحق والباطل. وننتقل إلى ختام المشهد في هذه المباراة الذي تعرضه لنا سورة الشعراء ، وهي بعد سورتي الأعراف وطه نزولاً. ماذا أجاب سحرة فرعون بعد أن هدَّدهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، وصلبهم أمام الشعب المصري مُسمَّرين في جذوع النخل؟ الكون كله يرقب الموقف , الجبال والتلال والأشجار والنجوم والكواكب والبحار والأنهار , جميعها تحبس الأنفاس من رهبة الموقف وشدته , الكل ينتظر ويتساءل: ماذا سيفعل السحرة؟؟ وأغلب الظن أنهم سيتراجعون أو على الأقل سيكتمون إيمانهم في قلوبهم. وهنا يأتي رد السحرة:﴿قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ لمُؤْمِنِينَ(51) ﴾ {الشعراء}.قال السَّحَرة لفرعون: لا ضَرَر علينا فيما يلحقنا من عذاب في الدنيا، لأننا ننقلب ونصير إلى ربِّنا في الآخرة مؤمنين مُؤَمِّلين غفرانه. وقالوا لفرعون: إنا نرجو أن يغفر لنا ربُّنا خطايانا من الشِّرك والسِّحر؛ بسبب أنْ كنا أوَّل المؤمنين من القبْط بما جاء به موسى وهارون عن ربِّ العالمين. قال سحَرة فرعون: ﴿ لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ(50) ﴾ لا ضير إن فقدوا الجاه .. لا ضير إن فقدوا المال .. لا ضير إن فقدوا الأولاد .. لا ضير إن فقدوا الحرية .. لا ضير إن فقدوا أرواحهم .. لا ضير على الدنيا بأسرها إن فقدوها ... ردَّ السحرة بكلمة واحدة، ولكنها كلمة تهتز لها الجبال الراسخة ،وترتج لها الأرض الهامدة , كلمة لو وزنت بالكون كله لوزنته: ﴿ لَا ضَيْرَ ﴾ ولم يمض على إيمانهم سوى دقائق معدودات، ورفضوا الخضوع لسلطان غير سلطان الله . ولكن ما الذى دفع السحرة لقول تلك الكلمة:﴿ لَا ضَيْرَ ﴾؟ إنه إيمانهم الراسخ الثابت الذى لا يتزعزع ولا يهتز كما أنه لا يخضع ولا يخنع.. وهكذا دائماً النفس البشرية حين تستعلي فيها حقيقة الإيمان، تستعلي على قوة الأرض وتستهين ببأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم. حينها لا تقف لتسأل: ماذا ستأخذ وماذا ستدع؟ وماذا ستقبض وماذا ستدفع؟ ماذا ستخسر وماذا ستكسب؟ وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وأهوال وتضحيات؟ لأن الأفق المشرق المضيء بنور الإيمان، أمامها فلا تنظر إلى شيء في الطريق ويقف الطغيان عاجزاً أمام الإيمان وأمام الاطمئنان. يقف الطغيان عاجزاً أمام القلوب التي خيل إليه أنها ملك يمينه.. فإذا هي مستعصية عليه. وماذا يملك الطغيان إذا رغبت القلوب في جوار الله؟ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله؟ وماذا يملك السلطان إذا زهدت القلوب فيما يملك السلطان ؟ كيف تغيرت شخصياتهم؟ كيف انقلبت موازينهم؟ كانت هممهم مشدودةً إلى المال: [أئن لنا لأجراً]، وكانت آمالهم منوطة بفرعون:[بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون]. هذا منطقهم قبل أن يؤمنوا … فلما ذاقوا حلاوة الإيمان كان جوابهم على التهديد والوعيد في بساطة ويقين:[لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات]. بعد أن كان همهم الدنيا صار همهم الآخرة:[ليغفر لنا خطايانا]. وبعد أن كانوا يحلفون بعزه فرعون صاروا يقولون:[ والذي فطرنا ]. تغير الاتجاه … تغير المنطق … تغير السلوك … تغيرت الألفاظ … أصبح القوم غير القوم … وما ذلك إلا من صنع الإيمان. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا في أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة. إن هذا الموقف المهيب الذي سطّره هؤلاء الشهداء التائبون بدمائهم.. وسطّره القرآن بأحرفٍ من نور على صفحات الخلود.. يجب أن يكون حافزاً لكل مؤمن على الثبات على الحق حتى الرمق الأخير والصمود في وجه الباطل مهما كلّف الثمن. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" رواه البخاري |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
26-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي تحريض أركان القصر الفرعوني على موسى وقومه آمن سحرة فرعون بموسى وكثر أتباعه من بني إسرائيل ،ولكنَّ الملأ من قوم فرعون سَمَّوا إيمان هؤلاء الفتية فساداً، وشكوا ذلك لفرعون: [وَقَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ] {الأعراف:127}.وقال جماعةٌ من أشراف قوم فرعون لفرعون: أَتَدَعُ موسى وقومَهُ من بني إسرائيل؛ حتى تكون عاقبة أمرهم الإفساد في أرض «مصر» بتأليب الناس عليك، والانقضاض على حكمك، وَلِينْبذَكَ مُوسى مع آلهتك معزولين، فلا تجدون مطيعين عابدين لكم، ولا أنصاراً ينصرونكم. جاء تحريضهم لفرعون بإثارة انتباهه نحو المؤمنين من بني إسرائيل، وتظهر في هذه الآيات حقيقة بطانة السوء في نقلهم للمعلومات المشوّهة، والأوصاف المثيرة للظالم... وهكذا إذا كان يوصف المؤمنون بالفساد في الأرض فيما مضى، فهم اليوم يوصفون بالإرهاب وتخريب المنجزات والقضاء على مكاسب الثورات. وكانت استجابة فرعون لتحريض وزرائه ومجلس المُسْتشارين:[قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ] {الأعراف:127} قال فرعون لما استثير غضبه: سَنُقَتِّل أبناء بني إسرائيل الذكور، لإيقاف القدرات القتاليَّة لديهم، ونترك مواليدهم من البنات اللواتي سيكون مصيرهنَّ نساءً أحياءً للخدمة والاستمتاع، وإنا فوقهم قاهرون بالغَلَبة والقُدرة عليهم . وقال أركان القصر الفرعوني بعدما بدأ بعض قومِهِ الإسرائيليين يؤمنون به، وبما جاء به عن ربه:[قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ] {غافر:25}أي: أعيدوا قتلَ أبناء الذين آمنوا معه، واستبْقُوا المواليد الإناث على قيد الحياة؛ للخدمة إذا صرن نساء كما فعلتم من قبل؛ ليصدُّوهم بذلك عن متابعة موسى عليه السلام ومظاهرته، خوفاً من أن يؤمن به كلُّ الإسرائيليين، ويمتدُّ إلى المصريين، [وما كيْد الكافرينَ إلا في ضلال]أي: وما تدبير فرعون وقومه وكيدهم الذي يكيدونه لحماية باطلهم إلا مغموساً في أوحال ضلال عن الحقِّ والهدى والرشاد، يُذهب الله كَيْدهم في نهاية الأمر، ويحيق بهم ما يريده الله بهم من ضياع وخسران. وفكَّر فرعون في قتل موسى ليمنع هذا المدَّ الإيماني من الانتشار، وقال لوزرائه ومجلس المُسْتشارين في أواخر دعوة موسى عليه السلام في مصر، وبعد أن أجرى الله له الآيات التسع التي آتاه إيَّاها: [وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ] {غافر:26} اتركوني أقْتل موسى، وَلْيَدعُ موسى ربَّه الذي يزعم أنه أرسله إلينا، فيمنعه منا، وينزل نقمته علينا. وما هو السبب الذي حدا بفرعون للتفكير بقتل موسى عليه السلام؟ السبب في ذلك هو ما قاله الله تعالى عنه:[إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ] {غافر:26}أي: إني أخاف أن يُغَيِّر موسى دينكم الذي أنتم عليه، أو أنْ يُظهِرَ بدعوته وخوارقه في أرض مصر الفساد، بتحريض الشعب على التمرُّد على سلطان القصر الفرعوني. أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد في وجه كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادي؟ إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، على توالي الزمان، واختلاف المكان. (في ظلال القرآن 5/3078 ). |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
27-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي أ ـ أما مواقف موسى عليه السلام تجاه المحنة التي تولى كِبْرها فرعون وبطانته، وتجاه قومه المؤمنين، فبعد اجتماع الملأ المحرِّضين لفرعون، قال عليه السلام لقومه: [قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا] {الأعراف:128}. قال موسى لقومه ـ من بني إسرائيل ـ لما شَكَوْا إليه: اطلبوا العَوْن من الله ربِّكم في كلِّ أموركم، فإنَّ الله هو الكافي لكم، واصبروا على ما نالكم من المَكَارِهِ في أنفسكم وأبنائكم؛ لأن الاستعانة بالله تغني المؤمن عن التبعيَّة للبشر، وتصله بالله رب البشر ومدبر الأسباب. واصبروا؛ لأن الصبر هو عدة المؤمنين لاحتمال الشدائد في سبيل الله والاستمساك بحبل الله. [إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] {الأعراف:128}، إنَّ الأرض كُلَّها مُلكٌ لله الذي خلقها، يُورثها مَنْ يشاءُ من عباده، فيهلك فرعون وقومه، ويُملِّك أرضهم وبلادهم بعد إهلاكهم مَنْ يشاء من عباده، والنَّصر والظَّفَر للمتَّقين على عدوِّهم؛ فالأرض ليست ملكاً لفرعون ولا لغيره، بل هي لله تعالى يتصرف بها كيف يشاء، ويورثها لمن يشاء. والعاقبة دائماً وأبداً للمتقين:[الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] {الحج:41}. إلا أن قوم موسى من بني إسرائيل ردوا على موسى عليه السلام قائلين: [قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا] {الأعراف:129} فلا فرق بين الحالين، وقد فاتهم أن الفرق كبير بين الإيذاء في الحالين، الأولى: كانت استعباداً واحتقاراً، والثاني: كان في سبيل الدعوة والدين، وشتان بين من يعذَّب ولا يؤجر، وبين من يكون عذابه زيادة له في الأجر والثواب. قال قوم موسى: آذانا فرعون وقومه من القبط قبل أن تأتينا نبياً رسولاً، وما زالوا مِنْ بعد ما جئتنا بالرسالة يؤذوننا، فزادت الشِّدَّة والمشقَّة علينا، فمتى يكون ما وعدتنا به من زوال ما نحن فيه؟ فردَّ موسى عليه السلام على موقفهم قائلاً: [قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] {الأعراف:129}. أرجو مُتوقِّعاً أن يُهلك ربُّكم فرعونَ وقومَه، وأرجو مُتوقِّعاً أن يستخلفكم الله في الأرض المقدَّسة في فلسطين، فيجعلكم خلفاء ملوكها القائمين، ولكن لا يستخلفكم لمجرَّد تكريمكم بأن يمنحكُم إيَّاها لكونكم من ذُرِّيَّة إبراهيم، إنما يستخلفكم فيها ليبلوَكم في هذا الاستخلاف، فينظر كيف تعملون، فيحاسبكم بحَسَب أعمالكم. قال موسى عليه السلام [عسى] ولم يجزم لئلا يتَّكلوا ويتركوا ما يجب من العمل، أو لئلا يكذبوه لضعف أنفسهم، بما طال عليهم من الذلِّ والاستخذاء لفرعون وقومه، واستعظامهم لملكه وقوته. وهو يرجو أن يهلك الله تعالى عدوهم الذي آذاهم وأن يجعلهم خلفاً، في الأرض التي وعدهم إيَّاها، [فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] فيما استخلفكم هل تشكرون النعمة أم تكفرون؟ وهل تُصلحون في الأرض أم تفسدون ليجازيكم في الدنيا والآخرة بما تعملون؟ ب ـ وأما موقفه عليه السلام من فرعون وهامان وقارون فهو قد اتخذ الأسباب الكاملة لتربية بني إسرائيل، وإعدادهم للخروج، ثم توجَّه إلى ربه تعالى داعياً وعائذاً وملتجأ: [وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ] {غافر:27} وقال موسى لفرعون وملئه لمَّا تهدَّدوه بالقتل: إني لجأت مستعيذاً بربي وربِّكم لحمايتي وحفظي، واعتمدتُ عليه من شرِّ كلِّ مُسْتكبر عن توحيد الله وطاعته، لا يؤمن بيوم القيامة الذي يكون فيه الحساب من قِبَل ربِّ العباد. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
28-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي جـ ـ وأما موقفه عليه السلام من قومه المؤمنين ـ الذريَّة من بني إسرائيل ـفإنه توجَّه إليهم يُربِّيهم على المعاني الإيمانيَّة، ويرفع استعداداتهم النفسيَّة لمواجهة المحنة وتحمل الإيذاء في سبيل الله، وحثهم على التوكل على الله، فالتوكل عليه (عنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القلة الضعيفة فإذا هي أقوى وأثبت). وبهذه التربية العالية استجابت تلك الفئة المؤمنة لموسى عليه السلام حين قال لهم: [وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ] {يونس:84}. وقال موسى للذُّرِّيَّة الذين آمنوا له من بني إسرائيل: يا قومي إنْ كنتم آمنتم بالله إيماناً صحيحاً صادقاً، وأسلمتم له، فعليه وحده تَوَكَّلُوا، ولأمره فسلِّموا، فإنه ناصر أوليائه، ومهلك أعدائه، إنْ كنتم مسلمين، فإنَّ صِدقَ التوكُّل على الله يمدُّكم بالقوة والهمَّة، والصَّبْر والثبات. وساروا على منهجه وتوجيهاته، واستعدوا لتحمل المحنة، وقالوا له: [عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] {يونس:85} قال قوم موسى مُجيبينَ له: على الله وحده اعتمدنا لا على غيره، وإليه سبحانه فوَّضنا أمرنا، ربَّنا لا تُظْهر علينا القومَ الظالمين، ولا تُسلِّطهم علينا، ولا تُمكِّنهم من فتنتنا في ديننا بإغراءاتهم وتضليلاتهم، وتعذيبهم لنا، فإنَّنا إن فُتنَّا في ديننا صِرْنا وسيلة فتنة للآخرين، إذ يتأثَّرون بِفِتْنَتِنَا عن ديننا فيتابعوننا، فنكون نحن بذلك فتنةً لهم. [وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القَوْمِ الكَافِرِينَ] {يونس:86}أي: وَخَلِّصنا برحمتك من أيدي قوم فرعون الكافرين؛ الذين يَسْتعبدوننا ويستعملوننا في الأعمال الشَّاقَّة. طلبوا النجاة برحمة الله وليس بعملهم؛ لأن رحمة الله أوسع من الجزاء على مقدار العمل. وبإيمان هؤلاء الشباب بموسى عليه السلام بيان لأهمية الشباب بالنسبة للدعوات فهم حملتها وأنصارها وعمادها وقوتها وسبب انتشارها. كانت هذه المعاني التي ربَّى موسى عليها قومه المؤمنين للثبات أمام المحن والفتن. إنها تربية الذي يعلم أن المحنة تأتي لصقل وتهذيب المؤمنين وتنقيتهم من الشوائب، إن المحنة والفتنة خطوة لابد منها للبناء، إنها أول عمليات البناء الأساسيَّة وبعدها يستقيم الأمر ويتم. هذا وقد صاحب هذا البناء الروحي والنفسي بناء عمليٌّ حين أمر الله تعالى موسى وهارون أن يتبوءا لقومهما بمصر بيوتاً: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا] {يونس:87} أي:وَأَوْحَيْنا إلى موسى وأخيه هارون: أن اختارا وهيِّئا لكما ولقومِكما بمصر بيوتاً لعبادتي فيها بالصَّلاة والذكر، واجعلوا بُيوتكم هذه ذات قبلة متَّجهة إلى بيت المقدس، أو مساجد، أو يقابل بعضها بعضاً، وأقيموا الصَّلاة بالمواظبة عليها في أوقاتها، وأدائها على الوجه الشرعيِّ المطلوب. والمراد اجتماعهم قريباً من بعضهم، وإقامة الصلاة. وهم بهذا ينفصلون عن المجتمع الظالم ويتسنى لموسى عليه السلام تنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار، وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة التنظيمية، وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات وبخاصة قبل المعارك والمشقات. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وكأن هذا -والله أعلم- لما اشتدَّ بهم بلاء فرعون وقومه وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة، كقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] {البقرة:153}. وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى ـ رواه أحمد وأبو داود ـ. وهكذا نرى أن هذه المرحلة والتي امتدت حتى هلاك فرعون قد حفلت بكثير من المعاني التربوية والإعداد الروحي والعملي. ثم إن موسى عليه السلام بعد أن اتَّخذ كل الخطوات في تربية المؤمنين وفي دعوة فرعون وملئه، وما رأى منهم من نكران وكفر وإصرار واستكبار توجَّه إلى الله بهذا الدعاء: [وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ] {يونس:88} وقال موسى: ربَّنا إنَّك آتيْتَ فرعونَ ووزراءَه ومستشاريه وأعيان مملكته، المناصرين له، والمؤيِّدين لجبروته من زخرف الدنيا ومباهجها وحُليِّها زينةً يتزيَّنون بها، وأموالاً من الذهب والفضة والجواهر يكنزونها في الحياة الدنيا التي تبتلي فيها عبادك، ربَّنا لقد امتحنتهم وأمْهلتهم إمْهالاً طويلاً؛ لتكشف لهم ولغيرهم أنَّ إرادتهم الحرَّة التي منحتهم إيَّاها لاختبارهم لا تعزم إلا على أن يُضلوا عن سبيلك، وصار صلاحهم وإيمانهم أمراً ميْؤوساً منه، ربَّنا اطْمس على أموالهم بالمحو والإزالة، وغيِّرها عن هيئتها، فلا ينتفعوا بها. والطمس محو الآثار حتى لا ترى أو لا تعرف، والمعنى: حتى يعدموا الانتفاع بها، سواء بالمحق بالآفات، أو الإنقاص من المكاسب والثمرات، أو بأي وسيلة تحقق عدم انتفاعهم بها واستعمالها في الضلال والاختلال. {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} بالطبع عليها، وزيادة قسوتها، أو شدَّ على قلوبهم بالمكاره والمؤْلمات المُوجعاتِ؛ لإِلانَتِها للحقِّ، فلن يُؤمنوا إلى أن يَرَوْا بأعينهم مُقدِّمات العذاب الشديد المُؤْلم { فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ }. قال ابن كثير: وهذه الدعوة من موسى عليه السلام غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبيَّن له أنه لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء، كما دعا نوح عليه السلام فقال: [وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا] {نوح:27}. وكأن أن استجاب الله تعالى دعاء موسى وهارون عليهما السلام قال تعالى: [قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا] {يونس:89}. قال الله تعالى لموسى وهارون: قد أُجيبتْ دعوتُكُما في فرعون وأشراف قومه، وأموالهم، فَسَنُعذِّبهم ونُهلكهم مع جنودهم، وإذا أجيبت الدعوة نفذت، وما على النبيين واتباعهما إلا الاستقامة على أمر الله، وعلى ما هم عليه من دعوة فرعون وقومه إلى الحق، ومن إعداد بني إسرائيل للخروج من مصر. أي :فاسْتقيما في سُلوككما وفي قيادتكما لبني إسرائيل على صراط ربِّكما، وامْضِيا لأمري إلى أن يأتيَهم العذاب. [وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {يونس:89} أي: ولا تَسْلُكَا طريقَ الجَهَلة الذين لا يعلمون صراطَ الحقِّ من قومكما بني إسرائيل الذين لا يعلمون سنَّتي في خلقي، وإنجاز وعدي لرسلي، فتستعجلا الأمر قبل أوانه وتستبطئا وقوعه في إبانه. |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
29-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي من فوائد قصة موسى عليه السلام: تضمَّنت قصَّة موسى عليه السلام في القرآن الكريم في أحداثها المختلفة ووقائعها المتعددة جملة من الدروس والعبر والعظات، نذكر بعضها فيما يلي: 1. في جوٍّ مليء بالظلم والاستعباد، يريد الله تعالى إنفاذ أمره وإرادته للمستضعفين، بأن يجعلهم قادةً وأئمة، وأن يورثهم الأرض ويمكِّن لهم فيها. فحريٌّ بنا أن نتأمّل خفيّ لطف الله تعالى بعباده. 2. أمُّ موسى عليه السلام مثال رائع في التوكل على الله تعالى، إذ استوفت كلَّ الأسباب، وفوَّضت الأمرَ لله، واستسلمت لحكمته وإرادته. 3-أن الله سبحانه إذا أراد أمراً هيَّأ أسبابه، ويسَّر له وسائله، وأن رعايته إذا أحاطت بعبد من عباده صانته من كل أعدائه، مهما بلغ مكر هؤلاء الأعداء وبطشهم. فرعاية الله لموسى جعلته يعيش بين قوى الشر والطغيان آمناً مطمئناً. 4. إذا بلغ الفتى قوة البدن والجسم واعتدل العقل، آتاه الله العلم والعزم والإقبال على الخير: [وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا]. 5. من كان في محبة الله وكنفه فمن ذا يملك أن يمسَّه بسوء؟!: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}. 6. الإنسان يجزع عند المصيبة لولا أن يتداركه لطف الله، فيربط على قلبه بالإيمان والصبر: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. 7-قصة موسى عليه السلام -وكذلك قصص غيره من الأنبياء- تدعو كل مسلم في كل زمان ومكان إلى المداومة على ذكر الله تعالى في كل موطن بقوة لا ضعف معها، وبعزيمة لا فتور فيها. 8-أن الأخيار من الناس هم الذين في شتى مراحل حياتهم يقفون إلى جانب المظلوم بالتأييد والعون، ويقفون في وجه الظالم حتى ينتهي عن ظلمه، وينهضون لمساعدة كل محتاج، وهم الذين يقفون إلى جانب الحق والعدل ومكارم الأخلاق في كل المواطن، وأمام جميع الأحداث. 9- شاء الله الحكيم الخبير نقل موسى عليه السلام من حياة القصور وما فيها إلى حياة الرعي، لتستكمل نفس موسى عليه السلام التجارب والأحاسيس لمعرفة مستويات الناس وأحوالهم، وليكون ذلك عوناً له على أداء رسالته. 10- لم يخَيِّب الله رجاء موسى حين قال: {إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}، فلقد وجد الهادي، وعاد بالضياء: نور النبوَّة والرسالة. 11. الرسالة والنبوة منّة كبرى، وهي لا تكون اكتساباً، بل هبة من الله تعالى: [ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى]. 12. خلاصة رسالة موسى عليه السلام: الاعتقاد بالوحدانيَّة، والتوجُّه إلى الله تعالى بالعبادة، والإيمان بالساعة والمعاد: [ إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي]. 13. إن بني إسرائيل حين استمرؤوا الذلَّ والعبوديّة، أصبحوا لا يعرفون معنى للحياة بدونه! لذلك أرسل الله إليهم موسى عليه السلام لإعادة بناء الأمة، ولإنشائها من جديد على أساس الإيمان. 14. القول اللين في الدعوة مطلوب، وهو لا يعني المداهنة ولا النفاق، ولكنه أسلوب العرض لهذه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، إضافة إلى اللفظ الجميل والعبارة الواضحة. 15- أن على الدعاة إلى الله أن يعتمدوا في دعوتهم أسلوب اللين والملاطفة، وأن يتجنَّبوا أسلوب الشدة والغلظة؛ فإن الله سبحانه أمر موسى -وهو من صفوة الله في خلقه- ألا يخاطب فرعون -وهو سيد العتاة والطغاة- إلا بالملاطفة واللين. 16-أن الباطل قد يسحر عيون الناس ببريقه لفترة من الوقت، وقد يسترهب قلوبهم لساعة من الزمان، حتى ليخيَّل إلى الكثيرين الغافلين أنه غالب وجارف، ولكن ما إن يواجهه الحق الهادئ الثابت المستقر بقوته التي لا تُغَالب، حتى يزهق ويزول، وينطفئ كشعلة الهشيم، وإذا بأتباع هذا الباطل يصيبهم الذل والصَّغار، والضعف والهوان، وهم يرون صروحهم تتهاوى، وآمالهم تتداعى، أمام نور الحق المبين. 17-أن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ضحَّى الإنسان في سبيله بكل شيء، وأثر الإيمان عندما تخالط بشاشته القلوب الواعية يصنع المعجزات؛ فقد قال سحرة آل فرعون لفرعون عندما تبيَّن لهم الحق الذي جاء به موسى: [لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض]} طه:72}. قال الزمخشري: "سبحان الله ما أعجب أمرهم! قد ألقوا حبالهم وعصيَّهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!". |
رد: قصَّة موسى في القرآن الكريم
30-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي تضمَّنت قصَّة موسى عليه السلام في القرآن الكريم في أحداثها المختلفة ووقائعها المتعددة جملة من الدروس والعبر والعظات، وكنت ذكرت 17 عبرة من قصة موسى، وأتابع ذكر بعض هذه العبر في هذه الحلقة الأخيرة من قصة موسى التي عشنا نستلهم عبرها ودروسها في هذا الشهر المبارك: 18 - أن موقف الدعاة إلى الحق في كل العهود أنهم لا يلقون بالاً لتهديد الظالمين، ولا يقيمون وزناً لوعيد المعاندين، بل يمضون في الطريق غير هيَّابين ولا وجلين، مستعينين بالله رب العالمين، ومسلِّمين قيادهم لأمره وقدره ومشيئته:[والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون]{يوسف:21}. 19-أن الاعتصام بحبل الله المتين يجعل المستمسك به لا يبالي بوعيد الظالمين، ولا يخشى تهديد المتوعدين، ولا يتراجع أمام التهديد والوعيد عن تبليغ رسالة ربه. 20-أن باب التوبة والمغفرة مفتوح لمن رجع عن غيِّه، وعمل عملاً صالحاً يُرضي ربه، وواظب على طاعة خالقه، وداوم على نهج الاستقامة والرشاد. 21-أن الدعاة إلى الحق يحتاجون في مقاومتهم لأهل الباطل إلى إيمان عميق، واعتماد على الله وثيق، وثبات يُزيل المخاوف، ويطمئن القلوب إلى حسن العاقبة. 22-أن منطق حاشية السوء على مرِّ العصور أنهم يرون الدعوة إلى الله إفساداً في الأرض؛ لأنها ستأتي على بنيانهم من القواعد؛ ولأنها هي الدعوة التي ستحرر الناس من ظلمهم وجبروتهم، وتفتح العيون على النور الذي يخشاه الظالمون، ويتحاشاه الطاغون. 24. الظلم والطغيان لا يخشى شيئاً كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب، ولا يكره أحداً كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة. 25-منطق الطغاة في كل العهود أنهم يلجؤون إلى قوتهم الماديَّة؛ ليحموا عروشهم وشهواتهم وسلطانهم، ففي سبيل هذه الأمور كل شيء عندهم مباح ومستباح. وشأنهم في كل عصر ومصر أنهم عندما يرون الحق قد أخذ يحاصرهم، ويكشف عن ضلالهم وكذبهم، يرمون أهله -زوراً وبهتاناً- بكل نقيصة ووضيعة :[إن هؤلاء لشرذمة قليلون]} الشعراء:54}. 26-أن الطغاة والظلمة في كل زمان ومكان يضربون الحق بكل سلاح من أسلحتهم الباطلة، ثم يزعمون بعد ذلك أمام العامة والبسطاء المغلوبين على أمرهم، أنهم ما فعلوا ذلك إلا من أجل الحرص على مصالحهم! 27-أن الطغاة والجبابرة حين يدفعهم الحق، ويطاردهم الدليل الساطع، تأخذهم العزة بالإثم، فيأبون الرجوع إلى الحق. وأن الطغيان في كل عصر ومصر لا يعجبه منطق الحق والعدل، ولكن يعجبه التكبُّر في الأرض بغير الحق، وإيثار الغي على الرشد. 28- أن من عادة الطغاة أن يستخفوا بأتباعهم، ومن عادة الأتباع أن يطيعوا سادتهم وكبراءهم، ويتابعوهم على باطلهم وما يزينون لهم من الأعمال :[قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد]} غافر:29}، [فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين]} الزخرف:54}. 29-أن مما يعين المؤمنين على النصر والفلاح أن يعتزلوا أهل الكفر والفسوق والعصيان، إذا لم تنفع معه النصيحة، وأن يستعينوا على بلوغ غايتهم بالصبر والصلاة، وأن يقيموا حياتهم فيما بينهم على المحبة الصادقة، وعلى الأخوة الخالصة، وأن يجعلوا توكلهم عليه وحده سبحانه، فإنهسبحانه [نِعْمَ المولى ونعم النصير]. 30- أن من علامات الإيمان الصادق أن يكون الإنسان غيوراً على دين الله، ومن مظاهر هذه الغيرة :أن يتمنى زوال النعمة من أيدي المصرِّين على الكفر بأنعم الله؛ لأن وجود النعم بين أيديهم سبب في إيذاء المؤمنين، وإدخال القلق والحيرة على نفوس بعضهم. |
الساعة الآن : 09:50 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour