ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى أعلام وشخصيات (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=106)
-   -   صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان . (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=312216)

ابوالوليد المسلم 01-03-2025 10:39 AM

صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 
https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام أحمد بن حنبل (1/2)
شريف عبدالعزيز
(1)

https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...x7MNIXGrbFFw&s
حياته وآراؤه ومذهبه ومحنته
التَّعريف به

هو الإمام حقَّاً, وشيخ الإسلام صدقاً, إمام أهل السنة, الفقيه المحدث, العلم الجبل, ركن الدين, وإمام المسلمين, وصاحب رابع المذاهب الفقهية المتبوعة: الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني, يلتقي في نسبه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نزار, وُلد سنة 164 هـ بمرو من أعمال خراسان, وكان أبوه محمد والياً على مدينة سرخس, وقدمت به أمُّه إلى بغداد, فنشأ بها وترعرع.
أما عن صفته الخُلقيَّة فقد كان طويلاً أسمر شديد السمرة, حسن الوجه, نحيفاً, يخضب بالحنَّاء, يتعاهد ثيابه وشاربه وشعر رأسه وبدنه كلَّه.

رحلته العلمية
نشأ الإمام يتيما ً، فقد مات أبوه وهو في الثلاثين من عمره, فبدأ فى طلب العلم وهو فى سن المراهقة, وكانت لوائح النَّجابة تظهر منه زمن الصِّبا, وقد كان شديد الحرص على طلب العلم وسماع الحديث, حتى إنَّه كان يخرج فى الغلَس لحضور الدرس, فتأخذ أمه بثيابه خوفاً عليه, وتقول: حتى يؤذِّن الناس –أي الصلاة– وكان وقتها ابن خمس عشرة سنة أي في نفس العام الذي مات فيه الإمام مالك وحماد بن زيد.
خرج الإمام فى أول رحلة علمية له إلى واسط لسماع الحديث من هشيم, وطلب مجلس ابن المبارك فلم يدركه, ثم واصل بعدها رحلته العلميَّة فسافر أسفاراً كثيرة إلى غالب الأمصار الإسلامية، فدخل الكوفة والبصرة والحجاز ومكة والمدينة, واليمن والشَّام والثغور, والسواحل والمغرب, وفارس وخراسان والأطراف, وبالجملة لم يسمع بثقة من الثقات أو صاحب حديث إلا شدَّ إليه الرِّحال وسمع منه, وبعد رحلة طويلة استغرقت عدة سنوات عاد من رحلته العلمية إلى بغداد, ومن شدة اهتمامه وتفرُّغه لطلب العلم لم يتزوج حتى بلغ الأربعين.
كان الإمام أحمد صبوراً فى طلب العلم، يطلبه من مظانِّه ومن كل سبيل, لا يبالي بالمشاقِّ والصعاب التي تلاقيه فى طلبه, حتى إنه كان يرهن حذاءه ليتقوَّتَ بثمنه عدة ليال, وأكرى نفسه باليمن مع الجمَّالين لما نفدت نفقته, وكان يمشي من الكوفة إلى البصرة على قدميه لسماع الحديث، حتى بلغ عدد شيوخه الذين روى عنهم في مسنده مائتين وثمانين ونيِّفاً.
عاد الإمام من رحلته العلمية، وقد حاز فنوناً كثيرة وعلوماً واسعة، حتى صار أحفظ أهل زمانه, فقد قال أبوزُرعة الحافظ لعبد الله بن الإمام أحمد: "أبوك يحفظ ألف ألف حديث, فقال له: وما يُدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب, وقد سئل أبو زُرعة: أأنت أحفظ أم أحمد؟ قال: بل أحمد, فقيل له: كيف عرفت؟ قال: وجدت كتبه ليس فى أوائل الأجزاء أسماء الذين حدثوه, فكان يحفظ كل جزء ممَّن سمعه, وأنا لا أقوى على هذا".
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ومن شدة حفظ الإمام أحمد صار مرجعاً معتمداً فى قبول الروايات والأحاديث, إليه كلمة الفصل فى هذا الفن, فقد قال إبراهيم بن شماس: "سألنا وكيعاً عن خارجة بن مصعب فقال: نهاني أحمد أن أحدِّث عنه", وقال عليُّ بن المديني: "أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحَدِّث إلا من كتاب", وقال شيخه الإمام الشافعي: "حضرت مجلساً في بغداد كلما تكلم فيه شابٌّ قال الناس كلهم: صدق, فقلت: من هو؟ قالوا: أحمد بن حنبل", وقد قال الحافظ الدَّارميُّ: "ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أعلم بفقهه, ومعانيه من أبي عبدالله أحمد بن حنبل".
وكان من قوة حفظه يُلحق المتون بالأسانيد و العكس من ذاكرته, فقد قال لابنه عبد الله: "خذ أيَّ كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف, فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد, وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك بالكلام".
وقد قال له الشافعي: "يا أبا عبدالله, إذا صحَّ عندكم الحديث, فأخبروني حتى نرجعَ إليه، أنت أعلم بالأخبار الصِّحاح منا, فإذا كان خبرٌ صحيح, فأعلمني حتى أذهب إليه".
أخلاقه وعبادته
الإمام أحمد كان فى الذُّروة السامقة فى الفضائل والشمائل, وكان عصره زاخراً بالعلماء والأئمة وكبار المحدثين، إلا أنه كان متفرداً من بينهم بمنتهى الكمال فى العلم والعمل, وكان الناس يتعلَّمون من أدبه وسمته وهديه وأخلاقه تماماً مثلما يتعلَّمون من علمه وفقه.
فقد كان زاهداً فى أسمى درجات الزُّهد, يأتي عليه اليوم والاثنان والثلاثة، لا يجد ما يأكله, ومع ذلك يرد الأموال الجزيلة ولا يقبلها من أحد مطلقاً, عامَّة طعامه الخلُّ والخبز الجاف, قال عنه العليميُّ: "أتته الدنيا فأبَّدها, والرياسة فنفاها, وعُرضت عليه الأموال, وفُوِّضت إليه الأحوال, وهو يردُّ ذلك بتعفُّفٍ, وتعلُّل, وتقلُّل", ويقول: قليل الدنيا يُجزي, وكثيرها لا يُجزي, ويقول: أنا أفرح, إذا لم يكن عندي شيء, ويقول: إنما هو طعام دون طعام ولِباسٌ دون لباس, وأيامٌ قلائل".
وقد حجَّ الإمام خمس مراتٍ منها ثلاثٌ راجلاً, وأنفق في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهماً, وكانت تنفد منه نفقتُه وهو فى رحلاته العلمية فلا يَقبل أيَّ مال يعرضه عليه شيوخه أو أقرانه, وقد سُرقت ثيابه وهو باليمن فجلس فى البيت ولم يخرج لسماع الحديث, ومع ذلك رفض أن يأخذ المال من زملائه واكتفى بدينار واحد أخذه كأجر نسخِ بعض الكتب, وكانت مجالسه كلها عامرةً بذكر الآخرة، لا يُذكر فيها شيءٌ من أمر الدُّنيا, وللإمام أحمد كتاب حافل عظيم، لم يُسبق الى مثله فى الزُّهد, قال عنه أهل العلم: إنَّ غالب الظن أنَّ الإمام أحمد كان يُطبِّق على نفسه ما ورد فى هذا الكتاب.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
قال إبراهيم الحربيُّ: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن أحببتَ أن يدوم الله لك على ما تُحبُّ, قدِّم له ما يحب, والصبر على الفقر مرتبةٌ لا ينالها إلا الأكابر, والفقر أشرف من الغنى, فإنَّ للصبر عليه مرارةً, وكان الإمام أحمد مُستجابَ الدعوة له الكثير من المواقف المشهودة في ذلك, وكان مُحبًّا للوحدة يصبر عليها ما لا يطيقه أحد من الناس فى زمانه, وعُرض عليه القضاء عدَّة مرات فرفض بشدة".

أمَّا عن عبادته فقد كانت فى الغاية, فقد كان يُصلِّي فى كل يوم وليلة ثلاثَ مائة ركعةٍ، فلمَّا مرض من أثر التَّعذيب والضرب بالسياط فى المحنة، كان يُصلِّي كلَّ يوم وليلةٍ مائة وخمسين ركعة, ويقرأ كلَّ يومٍ سُبعاً من القرآن, وينام نومة خفيفة بعد العشاء, ثم يقوم إلى الصباح يُصلِّي ويدعو, وكان إذا ذكر الموت, خنقته العبرة, وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب, وإذا ذكرتُ الموتَ, هان عليَّ كلُّ أمر الدنيا, وكان يخاف من الشُّهرة ويكرهها بشدة, وكان يقول:" أُريد أن أكون فى شعب بمكة حتى لا أُعرف, قد بُليتُ بالشُّهرة ", وكان يسرد الصيام, ومن عجيب أمره أنَّ ذروة تعرضه للتعذيب والضرب في المحنة كان فى شهر رمضان, بل في العشر الأواخر منه، ومع ذلك لم يفطر يوماً رغم قيام عذره فى ذلك, وكان مدمناً لصيام الإثنين والخميس والأيام البيض لا يتركها أبداً, وقد آلى على نفسه ألا يُحَدِّث بحديث إلا ويعمل به, وكان فى غاية الورع إذا اشتبه عليه شيءٌ تركه كله, وقد قاطع ولده صالحاً وسدَّ الباب الذي كان بين بيته وبيت صالح، لأنَّ صالحاً قد أخذ جائزة الخليفة المتوكِّل العبَّاسيِّ, وكان من شدَّة خوفه من الله -عزَّ وجلَّ- يبول دماً عبيطاً, وقال إبراهيم بن هانىء النيسابوري -وكان الإمام أحمد متخفِّياً عنده من الخليفة الواثق-: "كنتُ لا أقوى معه على العبادة، وقد رأيتُ منه أمراً عجباً فى الاجتهاد بالعبادة".
ثناء الناس عليه

وهذا باب مثل البحر الذي لا يدرك قعره, ولا تحصى درره, ولو أحببنا أن نستقصيَ ما ورد من كلام أهل العلم فى الثَّناء عليه لاحتجنا الى عدة مجلدات, فقد كان إماماً فى كل شيء, كمُل حالُه واستقام أمره فى العلم والعمل, فسارت بأخلاقه وفضائله وعلومه الركبان, وخضع له علماء الزمان، وأقرُّوا له بالإمامة والتقدم, وهذه طائفة منتقاة من أقوالهم:
قال البخاريُّ: "لما ضُرب أحمد بن حنبل كنَّا بالبصرة، فسمعت أبا الوليد الطيالسيَّ يقول: "لو كان أحمد فى بني إسرائيل لكان أحدوثة", وقال إسماعيل بن الخليل: "لو كان أحمد فى بني إسرائيل لكان نبيًّا".
قال الشافعيُّ شيخه: "خرجت من العراق، فما تركت رجلاً أفضلَ ولا أعلم ولا أورعَ ولا أتقى من أحمد بن حنبل".
قال يحيى القطَّان شيخه: "ما قدم على بغدادَ أحبُّ إليَّ من أحمد بن حنبل".
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وقال قتيبة: "مات سفيان الثوري ومات الورع, ومات الشافعيُّ وماتت السُّنن, ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع, فإنَّ أحمد بن حنبل قام فى الأمَّة مقام النبوة".
قال أبو عمير بن النحاس – وذُكِر أحمد يوماً – فقال: "رحمه الله؛ فى الدين ما كان أبصره, وعن الدنيا ما كان أصبره, وفى الزهد ما كان أخبره, وبالصالحين ما كان ألحقه, وبالماضين ما كان أشبهه, عُرضت عليه الدنيا فأباها, والبدع فنفاها".
وقال بشرُ الحافي بعدما ضُرب أحمد بن حنبل: "أُدخِلَ أحمد الكيرَ فخرج ذهباً أحمر، أحمدُ قام في الأمة مقام الأنبياء في أقوامهم".
قال المُزَنيُّ: "أحمد بن حنبل يوم المحنة, وأبو بكر يوم الردة, وعمر يوم السقيفة, وعثمان يوم الدار, وعليٌّ يوم الجمل وصفين".
قال عليُّ بن المديني: "إذا ابتُليت بشيء فأفتاني أحمد بن حنبل؛لم أُبالِ إذا لقيتُ ربِّي كيف كان, فإني اتخذت أحمد حجَّةً فيما بيني وبين الله –عزَّ وجلَّ-, وما قام أحدٌ فى الإسلام ما قام أحمد بن حنبل".
قال يحيى بن معين: "كان فى أحمد بن حنبل خصالٌ ما رأيتها فى عالم قط, كان محدِّثاً, وكان حافظاً, وكان عالماً, وكان ورعاً, وكان زاهداً, وكان عاقلاً, وقد أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل, والله ما نقوى أن نكون مثله ولا نطيق سلوك طريقه" – يقصد الثبات فى المحنة -.
قال أبو بكر أبي داود: "أحمد بن حنبل مقدم على كل من يحمل بيده قلماً ومحبرة في عصره", وقال إسحاق بن راهويه: "اتخذت أحمد حجَّةً بيني وبين الله عزَّ وجلَّ".
وقد أفرط النَّاس فى الثَّناء على الإمام أحمد، حتى خرج الأمر إلى طور الغلو الذي لا يجوز ونشبت بسبب ذلك مشاحنات ومناظرات بين الحنابلة وأتباع المذاهب الأخرى.
فصول محنته الكبرى
السِّرُّ وراء ضخامة المحنة؟
وعلى الرغم من وجود العديد من المحن الشديدة والتي تعرض لها كبار علماء الأمة، إلا أن هذه المحنة تفرَّدت من بينهم بأمور جعلتها من أكبر المحن التي تعرضت لها الأمة الإسلامية وعلماؤها، وذلك لعدة أسباب:
1ـ أنَّ هذه المحنة كانت في باب العقيدة أي في صميم قلب الأمة، وفي أصل قوتها ومصدر عزتها، وكان أهل الاعتزال هم من وراء هذه المحنة والفتنة.
2ـ أن الدولة بكافة أجهزتها ورجالها وقوتها كانت تدعم هذه المحنة، حيث استطاع بعض أهل الاعتزال مثل بشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد وغيرهما خداعَ ثلاثة خلفاء عباسيِّين متتاليين وهم: المأمون ثم المعتصم ثم الواثق، وإقناعهم بتبنِّي عقيدة الاعتزال الضالة والمليئة بالبدع الغليظة، وليس فقط مجرد التبني والاعتناق، لكن وإجبار الناس على ذلك الضلال، ولو بالقوة وحدِّ السلطة التي لا تطيق عادة أن تُخالف أو يَتحدَّى سلطانها أيُّ أحد مهما كانت مكانته وعلمه.
3ـ أن هذه المحنة العاتية لم تكن خاصة بالإمام أحمد وحده، وإن كان قد تحمل عبئها الأكبر وحده، بل كانت محنة عامة وفتنة شاملة، طالت الكبير والصغير، العالم والعاميَّ، الأحرار والعبيد، حتى الأسرى عند الأعداء كانوا يمتحنون على القول بخلق القرآن، فإن أجابوا وإلا ترُكوا رهن الأسر عند العدوِّ ولم تفُكَّ أسرهم الدولة.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
4ـ أنَّ هذه المحنة عندما وقعت لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد بن حنبل، أما باقي العلماء فأغلبهم قد أجاب فيها كرهًا، وبعضهم قد مات تحت وطأة التعذيب في سجن المبتدعة مثل البويطي ومحمد بن نوح ونعيم بن حماد، وكان صمود الإمام أحمد أعظم فصول هذه المحنة، وسبب تقدمه وشهرته ورفع ذكره، حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد فيقال: قال الإمام أحمد وهذا مذهب الإمام أحمد، ولو قدر الله عز وجل ولم يصمد الإمام أحمد في هذه المحنة لضل خلق كثير وربما الأمة كلها والله أعلم، لذلك قال المزني رحمه الله: "عصم الله الأمَّة بأبي بكر يوم الرِّدَّة، وبأحمدَ بن حنبل يومَ المحنة".
أصلُ المحنة
كان المسلمون أمة واحدة وعقيدتهم صحيحة وصافية من معين النبوة، حتى وقعت الفتنة الكبرى وقُتل عثمان -رضي الله عنه- مظلومًا شهيدًا، فتفرقت الكلمة وظهرت الشرور وتمت وقعة الجمل ثم صفين وبدأت البدع في الظهور، وحدث أول انحراف في تاريخ العقيدة الإسلامية بظهور فرقة الخوارج التي كفرت الصحابة خير الناس، ثم أخذت زاوية الانحراف في الانفراج فظهرت فرقة الروافض، وكلما ظهرت فرقة مبتدعة ظهرت في المقابل لها وعلى النقيض منها فرقة أخرى، الأولى تغالي والأخرى تعادي، فكما ظهرت الخوارج ظهرت فرقة المرجئة التي أخرت العمل وقالت إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط، فجعلت إيمان أفجر الخلق كإيمان أتقاهم، وكما ظهرت الروافض ظهرت النواصب، وكما ظهرت فرقة القدرية نفاة القدر ظهرت فرقة الجبرية التي تنفي أي اختيار وإرادة للإنسان، وكما ظهرت فرقة المعتزلة والجهمية نفاة الصفات ظهرت فرقة المجسمة الذين يشبهون صفات الخالق بالمخلوق، ولكن كل هذه الفرق الضالة كانت مقهورة بسيف الشرع وقوة السنة وسلطان الدولة الأموية ثم العباسية، وكثير من رءوس البدعة قد قتل بسيف الحق مثل الجعد بن درهم رائد التعطيل والجهم بن صفوان رائد القدرية والمغيرة بن سعيد وغيرهم، وقد ظل المبتدعون في جحر ضب مختفين بضلالهم، لا يرفع أحد منهم رأسًا ببدعة أو بضلالة حتى ولي المأمون العباسي وكان محبًا للعلوم العقلية وكلام الفلاسفة الأوائل، فبنى دارًا لترجمة كتب فلاسفة اليونان وأسماها بيت الحكمة، فأخذت أفاعي البدع تخرج من جحورها وأخذت في التسلل بنعومة إلى بلاط المأمون ثم التفت حول عقله ولعبت به ونفثت سموم الاعتزال في رأسه، ونفق عليه رجال من عينة بشر المريسي الذي كان هاربًا أيام أبيه الرشيد الذي كان يطلبه ليقتله ببدعته، وأحمد بن أبي دؤاد رأس الفتنة ومسعرها، وأبي الهذيل العلاف وثمامة بن أشرس وغيرهم، حتى مال المأمون لقولهم واعتنق مذهب الاعتزال والذي يقوم على عدة أصول وهي:
1ـ نفي الصِّفات وتعطيلها، وأبرز معالم نفي الصفات: القول بأن القرآن مخلوق.

2 ـ نفي القدر، والقول بأنَّ العباد هم خالقو أفعالهم.
3 ـ القول بالمنزلة بين المنزلتين بالنسبة لمرتكب الكبيرة.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
4ـ الوعد والوعيد، ومعناه تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وإيجاب دخول المؤمن الجنة على الله.
5ـ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ومعناه الخروج على ولاة الأمور بالسلاح.
ظلَّ المأمون معتنقًا لهذه العقيدة الضالة ولا يجبر أحدًا على اعتناقها ويتردد ويراقب الشيوخ والعلماء والمحدثين وهو يخشى مكانتهم وتأثيرهم على جماهير المسلمين، وفي نفس الوقت يحاول استمالة من يقدر على استمالته منهم، فلما رأى إعراض العلماء عن القول ببدعته زين له أحمد بن أبي دؤاد وبشر المريسي أن يجبر العلماء وذلك بقوة الدولة وحد التهديد والوعيد، وبالفعل سنة 218هـ أمر المأمون العباسي قائد شرطة بغداد العاصمة إسحاق بن إبراهيم بأن يجمع كبار الفقهاء والعلماء والمحدثين ويمتحنهم في القول بخلق القرآن، وقرأ عليهم كتاب المأمون الذي يفيض بالتهديد والوعيد وقطع الأرزاق والعزل من المناصب لمن يرفض القول بخلق القرآن، ومن يومها بدأت فصول المحنة العظمى التي تحمل الإمام أحمد بن حنبل وحده عبأها والوقوف في وجه أربابها ودعاتها.
الإمام أحمد والخلفاء الثلاثة
الإمام والخليفة المأمون العباسي

حُمل الإمام أحمد ومن معه من العلماء إلى دار السلطان، وأخذ إسحاق بن إبراهيم قائد الشرطة في امتحانهم، ومع جدية التهديد أخذ العلماء الواحد تلو الآخر يجيب بالقول بخلق القرآن، فلما رأى أحمد بن حنبل الناس يجيبون وكان من قبل رجلاً لينًا، انتفخت أوداجه واحمرَّت عيناه وذهب ذلك اللين وغضب لله -عزَّ وجلَّ- وجهر بالحق، وبعد أول يوم لامتحان العلماء عاد الإمام أحمد بن حنبل إلى مسجده وقعد للدرس والتحديث، فالتف حوله الناس وسألوه عما جرى وألحوا في معرفة من أجاب من العلماء في هذه المحنة، فرفض بشدة وكره الإجابة على هذا السؤال، ولكن الأمر قد انتشر بسرعة بين الناس وعُرف من أجاب ممن رفض.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وصلت أخبار الامتحان للخليفة المأمون وكان وقتها مقيمًا بطرسوس على الحدود مع الدولة البيزنطية، فتغيظ بشدة ممن رفض القول بخلق القرآن وطلب من قائد الشرطة إسحاق بن إبراهيم أن يجمع العلماء مرة أخرى ويمتحنهم ويشتد في التهديد والوعيد، وبالفعل اشتد إسحاق في التهديد حتى أجاب كل العلماء ما عدا أربعة: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريري، وسجَّادة، فقام إسحاق بحبسهم وتهديدهم بالضرب والحبس، فأجاب سجَّادة والقواريري فخرجا من السجن وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأرسل بخبرهما إسحاق إلى الخليفة المأمون الذي استشاط غضبًا وأمر بحملهما مقيدين زميلين إلى طرسوس، وقد أقسم ليقتلهما بيده إذا لم يجيبا في هذه الفتنة، بل أشهر سيفًا ووضعه بجانبه استعدادًا لقتلهما إذا أصرا على الرفض.
حُمل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح من بغداد إلى طرسوس، وفي الطريق وقعت عدة حوادث كان لها أثر كبير في تثبيت الإمام أحمد ورفيقه، ودللت أيضًا على أن الناس كانت كلها وراء الإمام وتؤيده وإن كانت لا تملك له شيئًا، فقد قابله بالرحبة -موضع على شاطئ الفرات على بعد مائة فرسخ من بغداد- رجل من عامة المسلمين يعمل في غزل الصوف والشعر، قد جاء لمقابلته خصيصًا من بادية العراق ليقول له: "يا أحمد إن يقتلكَ الحقُّ مِتَّ شهيدًا، وإن عشتَ عشتَ حميدًا، وما عليك أن تُقتل هاهنا وتدخل الجنة"، فقوي قلب الإمام أحمد بهذه الكلمات، ثم بعد فترة استراح الركب في خان بالطريق للمسافرين، وفي الخان قابل الإمام أحمد أحد أصدقائه القدامى واسمه أبو جعفر الأنباري، والذي عبر الفرات للقاء الإمام أحمد قبل سفره إلى طرسوس، فلما رآه الإمام أحمد قال له: يا أبا جعفر تعنَّيْتَ، -أي كلَّفتَ نفسك مشقة السفر وعبور الفرات- فقال له أبو جعفر: "يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فو الله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليُجيبنّ خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعنَّ خلق من الناس كثير، ومع هذا فإنَّ الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب". فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعد عليَّ، فأعاد عليه، وأحمد يبكي ويقول: ما شاء الله".
وفي طريق السَّفر كان الإمام أحمد يتهجد ويصلي في جوف الليل، ويدعو الله عز وجل أن لا يرى المأمون وألا يجتمع معه أبدًا، ويلحَّ في الدُّعاء، وفي رجب سنة 218هـ وقبل أن يصل الإمام أحمد ورفيقه محمد بن نوح إلى طرسوس هلك المأمون فجأة بلا مرض ولا تعب، فراح ضحيَّة سهم من سهام الليل من قوس مظلوم بوتر مكلوم هو دعاء الإمام أحمد عليه.
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif




ابوالوليد المسلم 02-03-2025 09:17 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام أحمد بن حنبل (2/2)
شريف عبدالعزيز
(2)

https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...x7MNIXGrbFFw&s

الإمام أحمد والخليفة المعتصم العباسيُّ
هذا الفصل هو الأشدُّ والأروع في فصول هذه المحنة العظمى، وتجلى فيه صمود الإمام أحمد حيث أصبح وحده في الميدان بعد أن مات محمد بن نوح تحت وطأة الحبس والتنكيل، ورغم أن الخليفة المعتصم لم يكن من أهل الفكرة ولا يعتقدها في الأساس، ولكنه خاض في الفتنة وانغمر فيها لأن أخاه المأمون قد أوصاه بذلك، فحمله حبه لأخيه المأمون لأن يعمل بوصيته، بل يزيد عليها، فكان أول قرار أخذه المعتصم هو رد الإمام أحمد إلى بغداد وسجنه هناك في سجن ضيق مظلم والقيود في يديه ورجليه حتى إنه أصيب بمرض شديد في شهر رمضان، فنقلوه إلى سجن أوسع مع عموم الناس، ومكث في هذا السجن ثلاثين شهرًا.
وفي السجن أخذ رجال الاعتزال ورءوس الفتنة يأتونه واحدًا تلو الآخر ليناظروه في خلق القرآن، وهو يناظرهم وتعلو حجته حججهم، وكلما غلبهم في المناظرة اشتدوا عليه وضيقوا عليه وزادوا في قيوده، وبعد عدة أيام وكانوا في شهر رمضان سنة 219هجرية، بدأت فصول المناظرة العلنية بحضور الخليفة المعتصم نفسه.
ولنا أن نتخيل هذا المشهد المهول الذي حضره الإمام أحمد وحده وكان في مجلس الخليفة المعتصم وفيه كل رجال البدعة والوزراء والقادة والحجَّاب والسيافون والجلادون، وكان الذي بدأ معه الكلام هو المعتصم نفسه وقد حاول استمالته وترغيبه في أول الأمر، ثم أمر علماء البدعة بمناظرته، فهزمهم الإمام كلهم، وهو يحتج عليهم بالآيات والأحاديث والآثار وهم يحتجون بكلام الفلاسفة مثل العرض والجوهر والشيء والوجود والقدم، لذلك فقد علت حجته حجتهم والإمام يقول: "أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله"، وكان قائد الشرطة عبد الرحمن بن إسحاق ممن يدافع عن الإمام أحمد ويقول للخليفة المعتصم: "يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة، وإنه ليرى طاعتك والجهاد معك، وإنه لعالم وإنه لفقيه"، ولكن في المقابل كان أحمد بن دؤاد أشد الناس عليه ويحرض المعتصم عليه بشدة ليقتله ويقسم له أنه ضال وكافر ومبتدع.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
استمرت هذه المناظرة العلنية ثلاثة أيام وكانوا في شهر رمضان، والإمام ثابت لا يتزعزع وخصومه من حوله تتساقط شبههم وبدعهم، حتى كان اليوم الرابع وكان المعتصم قد ضجر من طول المناظرة وأغراه قاضي المحنة أحمد بن دؤاد، حتى وصل التهديد إلى الضرب والجلد، وأحضرت الخشبة والسياط وشد أحمد على العقابين -وهما خشبتان يُشدُّ الرجل بينهما للجلد- فخلعت يداه وهو صامد، وعندها أخذت المعتصم شفقة على الإمام وأعجب بثباته وصلابته، ولكن أحمد بن أبي دؤاد أغراه وقال له: "يا أمير المؤمنين تتركه فيقال غلب خليفتين؟" فحميَ المعتصم لكلمته الشريرة وأمر بضرب الإمام فأخذ الجلادون في ضربه بالسياط، يتناوبون على ضربه؛ هذا يضربه سوطين والآخر ثلاثة وهكذا، حتى إذا بلغ سبعة عشر سوطًا قام إليه المعتصم وقال له: "يا أحمد علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق"، وجعل "عجيف" أحد قادة الأتراك العسكريين في جيش المعتصم ينخس الإمام بقائمة سيفه ويقول: "أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟" وجعل بعضهم يقول: "ويلك إمامك الخليفة على رأسك قائم"، وقال بعضهم: "يا أمير المؤمنين دمه في عنقي، اقتله، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم وأنت في الشمس قائم، والمعتصم يقول: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فيجيب الإمام بكل صمود وثبات: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به، فيأمر المعتصم بمواصلة الضرب، ثم قال له المعتصم مرة أخرى: أجبني إلى شيء فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ومع ذلك الإمام صامد، فأخذوا في ضربه حتى أغمي عليه من شدة الضرب وقد تمزق ظهره من لهيب السياط.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
بعد هذا الثبات العجيب الذي تعجز عن مثله الجبال الراسيات، أمر المعتصم بإطلاق سراحه، ولكن بعد أن فعل شيئًا في منتهى العجب والغرابة، وهو قيامه بإحضار أقارب الإمام أحمد وأهله وجيرانه وأشهدهم على أنه سليم البدن، وذلك خوفًا من ثورة الناس عليه إن حصل للإمام مكروه، هذا على الرغم من قوة المعتصم وشجاعته وسلطته، ولكن قوة الحق وسلطة الصمود وشجاعة الثبات الذي عليه الإمام أحمد كانت أكبر من ذلك كله، وخرج الإمام أحمد وعاد إلى بيته بعد 28 شهرًا من الحبس والضرب من سنة 218هـ حتى سنة 221هـ.
والمعتصم وإن كان هو الذي أقدم على ضرب الإمام أحمد إلا أنه لم يكن مثل المأمون مقتنعًا أو معتنقًا لهذه البدعة، وكان يودُّ لو أطلق سراح أحمد بلا ضرب، ولكن رءوس الضلالة أوغروا صدره وأشعلوا غضبه حتى أقدم على جناية ضرب الإمام، لذلك فلقد جعله الإمام أحمد في حلٍّ من هذه الجناية وذلك يوم أن جاءه خبر فتح عمورية سنة 223هـ.
الإمام أحمد والخليفة الواثق العباسي
ظل أحمد بعد خروجه من سجن المعتصم يعالج في بيته فترة طويلة من آثار الضرب والتعذيب حتى تماثل للشفاء، وأخذ يحضر الجمعة والجماعة ويحدث الناس ويفتي حتى مات المعتصم، وولي مكانه ابنه الواثق، وكان قد تربى في حجر قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد فشربه البدعة منذ صغره، فكان الواثق من أشد وأخبث الناس في القول بالبدعة، حيث أظهرها بقوة وأجبر الناس عليها وأطلق يد أحمد بن أبي دؤاد فيها، فكان يفرق بين الرجل الذي لا يقول ببدعته وبين امرأته، ويأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب هذه البدعة الخبيثة، وبلغ الأمرُ ذروته عندما كان أحمد بن أبي دؤاد يمتحن أسرى المسلمين عند الروم، فمن قال ببدعة خلق القرآن افتداه، ومن امتنع يتركه أسيرًا بيد الروم حتى ضجَّ الناس وضاقت نفوسهم.
بلغ الأمر بالناس ذروته من فجاجة نشر البدعة وتسلط المعتزلة على الناس، حتى أقدمت مجموعة من أهل بغداد بقيادة أحمد بن نصر الخزاعي، على التحضير للخروج على حكم الخليفة الواثق العباسيّ وخلعه من الخلافة، وذهب نفرٌ منهم للإمام أحمد، لاستفتائه في الخروج وعدَّدوا له مساوئ الواثق وجرائمه وبدعه، فلم يوافق الإمام أحمد على ذلك ومنعهم وناظرهم في القضية، وأمرهم بالصبر، وذلك من فقه وورع ودين الإمام أحمد، على الرغم من الأذى والاضطهاد والعذاب الشديد الذي ناله الإمام على يد هذه الحكومة الجائرة المبتدعة، والتي لو خرج عليها الإمام أحمد ما لامه أحد، إلا إنه قد أدرك أن المفاسد المترتبة على الخروج أعظم وأكبر من المصالح المتوقعة من وراء إسقاطها، والذي توقعه الإمام قد وقع بالفعل، فلقد فشلت حركة الخزاعيِّ وراح فيها الكثيرون.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وعلى الرَّغم من الدور الذي لعبه الإمام أحمد في إقناع الكثيرين بعدم الخروج على الواثق، إلا أنَّ الواثق قد قابل ذلك بفعلٍ شرير بالغ السوء، حيث أمر بنفيه من بغداد، وأرسل إليه يقول: "لا يجتمعنَّ إليك أحد، ولا تساكنِّي بأرض ولا مدينة أنا فيها"، فخرج الإمام من بيته واختبأ بدار أحد تلاميذه عدة أيام، ثم انتقل إلى موضعٍ آخر، فمكث فيه عدَّة شهور حتى هدأ الطلب عليه، ثم تحوَّل إلى مكانٍ آخر، وظلَّ هكذا لا يستطيع أن يخرج إلى صلاةٍ ولا إلى مجلس علم وتحديث، حتى هلك الواثق العباسي سنة 231هـ، فخرج الإمام للناس وجلس للتحدث، وذلك أنَّ المتوكل الذي ولي بعد الواثق كان على مذهب أهل السنة وقد أمر برفع البدعة وإظهار السنة، وأيضًا لم يسلم الإمام من الفتنة أيام المتوكل، ولكنها كانت فتنة بالسراء ليس بالضراء، ذلك أن المتوكل قد أفاض عليه الأموال والعطايا الجزيلة، وحاول استمالته ليسكن مدينة سامراء ويترك بغداد، وأن يتولى تعليم وتأديب ولده «المعتز»، ولكنَّ الإمام رفض ذلك بشدة، وعانى بسبب هذا الرفض معاناة شديدة.
خلاصة المحنة
إنَّ هذه المحنة التي وقعت عامة بأرض الإسلام، لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد، وقد تداوله ثلاثةُ خلفاء يتسلَّطون عليه من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء والمتكلمين والقضاة والوزراء والأمراء والولاة والقادة العسكريين، فبعضهم تسلَّط عليه بالحبس وبعضهم بالتهديد والوعيد بالقتل، وبعضهم جلده وعذبه وألقاه في غياهب السجون، وبعضهم بالنفي والتشريد والمطاردة، ثم كانت فتنة السراء أيام المتوكل، وقد خذله في ذلك أهلُ الأرض حتى أصحابُه العلماء والصالحون، وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه، وما رجع عمَّا جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآثاره ما قمع به البدعة، ورفض كلَّ المحاولات التي بذلها معه قرناؤه العلماء في إقناعه بقبول التقيَّة، ورأى أن التقية لا تجوز إلا للمستضعفين الذين يخشون ألا يثبتوا على الحق والذين هم ليسوا بموضع القدوة للناس، أما أولو العزم من الأئمة الهداة فإنهم يأخذون بالعزيمة ويحتملون الأذى ويثبتون، والإمام أحمد كان يرى نفسه ولم يبق أحدٌ سواه أمام البدعة مسئولاً عن إخمادها والصمود أمامها مهما تكن العواقب، ولو أخذ بالتقيَّة والرُّخصة لاستساغ الناس الرخصة، ولضلُّوا من ورائها، ولذلك كان الإمام أحمد هو إمام أهل السنة وهو جبل الحق والسنة، يوم أن حكمت البدعة، وثباته بإذن الله -عز وجل- كان ثباتًا للدين والسنة، وإنما تنال الإمامة بالصبر واليقين، كما قال ربنا رب العالمين: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
جنازة الإمام وأروع مشاهد الحياة
https://i.imgur.com/BxH7koz.gifا
لإمام أحمد كثيراً ما كان يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز، ذلك أن أهل البدعة قد استقوَوْا بسلطان الدولة، وحازوا المناصب الهامة والولايات العامة، وسيطروا لفترة طويلة من الوقت على السَّاحة العلميَّة والاجتماعيَّة للدولة الإسلامية، وكان الناس يخافون من سطوتهم، فيتملقونهم ويسايرونهم ويسكتون على بدعهم وضلالهم، فظلَّ هؤلاء الحمقى المبتدعة، أنَّ لهم مكانة وفضلاً ومنزلةً عند الناس، وصدَّقوا هذه الكذبة الكبيرة، فقال لهم الإمام هذه المقولة الشهيرة التي تُرجمت واقعيًّا، على جنازته رحمه الله، والتي لم يشهد التاريخ مثلها إلا قليلاً.
ـ مرض الإمام أحمد بن حنبل في بيته ببغداد، وسمع الناس بمرضه فأتَوا من كل صوب وحدب يعودونه، وتزاحموا، ولزموا بابه، يبيتون في الشوارع حتى تعطَّلت الأسواق، وعجز الناس عن البيع والشراء، وكانوا يدخلون عليه أفواجًا يُسلِّمون عليه ويخرجون، ونقلت الأخبار للخليفة المتوكل، فأرسل قواته، فسدت الطرقات، وحظرت الدخول إلى الزقاق حيث يقع بيت الإمام أحمد.
ـ وفاضت روحه إلي خالقها، يوم الجمعة الموافق 12 ربيع الآخر سنة 241 هجرية، وحضر غسله مائةٌ من بني هاشم، وخرج بنعشه ثمانمائة ألف من الرجال، وستون ألفًا من النساء، أي قرابة مليون مسلم ومسلمة يُشيِّعونه إلى مثواه الأخير بعد أن صلّوا عليه، فأمر "ابن طاهر" نائب الخليفة المتوكل العباسيِّ في بغدادَ بعضَ رجاله أن يمسحوا -أي يقيسوا- الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلَّوا علي الإمام أحمد، فبلغ مقاسُه ألفي ألف وخمسمائة ألف -أي مليونين وخمسمائة ألف من البشر-. قال عبد الوهاب الوراق: "ما بلغنا أنَّ جمعًا في الجاهلية، ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثرَ من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل".
ـ قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "توفِّي أبى رحمه الله يوم الجمعة ضحىً، و دفناه بعد العصر لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة إحدى و أربعين و مائتين، و صلَّى عليه محمد بن عبد الله بن طاهر، غلبنا على الصلاة عليه، و قد كنَّا صلينا عليه نحن و الهاشميون داخل الدار، و كان له ثمانٍ و سبعون سنة".
قال عبد الله: "وخضب أبي رأسه و لحيته بالحناء، و هو ابن ثلاثٍ و ستين سنة".
و هكذا قال نصر بن القاسم الفرائضي، و أبو الحسن أحمد بن عمران الشيباني، أنه مات في ربيع الآخر.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ـ وقال أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي، عن بنان بن أحمد بن أبى خالد القصبانيّ: "حضرت الصلاة على جنازة أحمد بن حنبل يوم الجمعة سنة إحدى و أربعين ومائتين، و كان الإمام عليه محمدَ بن عبد الله بن طاهر، فأُخرجت جنازة أحمد بن حنبل، فوُضعت في صحراء أبي قيراط، و كان الناس خلفه إلى عمارة سوق الرقيق، فلما انقضت الصلاة، قال محمد بن عبد الله بن طاهر: انظروا كم صلَّى عليه ورأى، قال: فنظروا فكانوا ثمان مئة ألف رجل، و ستين ألف امرأة، و نظروا من صلى في مسجد الرصافة العصر فكانوا نيِّفاً و عشرين ألفِ رجلٍ".
ـ و قال جعفر بن محمد بن الحسين المعروف بالترك، عن فتح بن الحجاج: "سمعت في دار الأمير أبي محمد عبد الله بن طاهر أنَّ الأمير بعث عشرين رجلاً، فحزروا كم صلَّى على أحمد بن حنبل، قال: فحزروا، فبلغ ألفَ ألفٍ و ثمانينَ ألفاً".
و قال غيره: "وثلاث مئة ألفٍ سوى من كان في السُّفن في الماء".
ـ و قال الإمام أبو عثمان الصَّابونيُّ: "سمعت أبا عبد الرحمن السُّلَميَّ يقول: حضرت جنازة أبى الفتح القواس الزاهد مع الشيخ أبى الحسن الدارقطنيِّ، فلما بلغ إلى ذلك الجمع الكبير، أقبل علينا، و قال: سمعت أبا سهل بن زياد القطان يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا و بينكم يوم الجنائز".
ـ و قال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازيُّ: "حدثني أبو بكر محمد بن عبَّاس المكِّي، قال: سمعت الوركانيَّ جار أحمد بن حنبل قال: أسلم يومَ مات أحمد بن حنبل عشرون ألفاً من اليهود و النَّصارى و المجوس".
قال: و سمعت الوركانيَّ يقول يوم مات أحمد بن حنبل: "وقع المأتم و النوح في أربعة أصناف من الناس: المسلمين، و اليهود، و النَّصارى، و المجوس".
وهكذا رحل الإمام العظيم بعد حياة كبيرة وحافلة بالعلم والعمل والجهاد والصبر والثبات والدفاع عن عقيدة المسلمين، وقد عصم الله -عز وجل- الأمة به من مزالق البدع والضَّلالات، وصار مثلاً وآية وقدوةً للسابقين واللاحقين على مر العصور.
=========================================
أهم المصادر والمراجع
سير أعلام النبلاء.
تذكرة الحفاظ.
المقصد الأرشد.
مناقب الإمام أحمد بن حنبل.
طبقات الحنابلة.
طبقات الحفاظ.
تاريخ الطبري.
الكامل في التاريخ.
البداية والنهاية.
صفة الصفوة.
وفيات الأعيان.
شذرات الذهب.
حلية الأولياء.
تاريخ بغداد.
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 03-03-2025 10:14 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة شيخ الإسلام ابن تيمية (1/2)
شريف عبدالعزيز
(3)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

تعتبر المحنة التي تعرض إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله محنة من طراز خاص، حيث لا نظير لها في تاريخ محن علماء الأمة؛ ذلك أن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية بطولها من أولها لآخرها كانت عبارة عن محنة مستمرة، فقد ظل طوال حياته ينتقل من محنة لأخرى ومن ابتلاء لآخر ومن سجن لمعتقل، ومن الشام لمصر، ومن سلطان جائر لفقيه متعصب، ومن حاسد لحاقد، وذلك كله لأن الشيخ رحمه الله قد أنار الله قلبه وعقله، فخلع عباءة التقليد وكسر أصنام الجمود، وفتح باب التجديد، وثار على كل أشكال التعصب المذهبي والجمود الفقهي.
محنة ابن تيمية أنه كان مجددًا مجتهدًا مطلقًا، فقيهًا كاملاً، محنته أنه كان مصلحًا يريد النهوض بالأمة من كبوتها التي أسقطت الخلافة وسلطت العدو عليها، ومحنته أنه قد جمع بين العلم والعمل والتجديد والإصلاح والاجتهاد والجهاد، وذلك كله في زمان الجمود والتحجر والتعصب والتمذهب والتقليد المقيت، هذه بصفة عامة أسباب محنة شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي قضى معظم حياته يتنقل في سجون الظلم والبهتان بسبب آرائه وفتاويه، وكما قيل قديمًا: ويل لمن سبق عقله زمانه.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
شيخ الإسلام ابن تيمية ومكانته العلمية:
ولد شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني ثم الدمشقي تقي الدين أبو العباس سنة 661هـ في مدينة حرَّان بالشام، في أسرة علمية حنبلية المذهب راسخة الدعائم قوية الأركان في الفقه والحديث، فوالده الشيخ عبد الحليم كان عالمًا محدثًا، وجده مجد الدين أبو البركات صاحب متن «منتقى الأخبار» والذي يعتبر كتاب نيل الأوطار للشوكاني أحد شروحه وأشهرها، وهذه البيئة العلمية ساهمت في نبوغ ابن تيمية؛ حيث أقبل منذ نعومة أظافره على العلم، فحفظ المتون وحاز الفنون وحصل الأجزاء، وتفقه وتمهر وتقدم وتميز ودرس وأفتى وصنف، وفاق الأقران وصار أعجوبة الزمان في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول، والتبحر في مذاهب السلف والخلف، وصار علمًا مقدمًا وإمامًا فردًا في علوم شتى خاصة علم التفسير والعقائد والأصول، حتى أنه جلس للتدريس بدار الحديث في دمشق سنة 683هـ أي وهو في الثانية والعشرين، وكان يحضر درسه قاضي القضاة وشيوخ المذاهب على رأسهم الشيخ تاج الدين الفزاري شيخ الشافعية، ولبراعة إلقاء ابن تيمية للدرس، جعلوه يجلس في الجامع الأموي أكبر مساجد دمشق والشام وأشهرها لشرح التفسير وذلك في نفس السنة 683هـ.
ورغم كثرة مخالفيه من علماء وفقهاء عصره الذين غلب عليهم الجمود والتعصب المذهبي إلا إنهم كانوا معترفين بفضله مقرين بإمامته، خاضعين لتفوقه وبراعته العلمية الفذة، أما تلاميذه ومحبوه وحتى أهل الإنصاف فيعظمون الشيخ رحمه الله بما يليق بمكانته العلمية، وهذه طائفة من ثناء الناس عليه من الطائفتين جميعًا على حد السواء.
قال تلميذه الذهبي: (وما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات الدالة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، أما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره، وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، له باع طويلة في معرفة أقوال السلف وقل أن تذكر مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد احتج على طريقة السلف بأدلة وأمور لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحجم عنها غيره، حتى قام عليه خلق من العلماء المصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق إذا أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته، فجرى بينهم حملات حربية ووقائع شامية ومصرية، ورموه عن قوس واحدة، ثم نجاه الله تعالى وكان دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، قوي التوكل، رابط الجأش له أوراد وأذكار يدمنها).
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
قال تلميذه الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل: (هو الشيخ الإمام، العالم الرباني، والحبر البحر، القطب النوراني، إمام الأئمة وبركة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، شيخ الإسلام، حجة الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتعلمين، قامع المبتدعين، سيف المناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن، أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، مفتي الفرق وناصر الحق، وعلامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون البديعة أبو العباس ابن تيمية).
قال عنه جمال الدين السرمري: (ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب مطالعة مرة واحدة فينتفش في ذهنه وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه).
وقال عنه نجم الدين الطوفي وهو من أشد معارضيه: (كان ابن تيمية يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس، كأن هذه العلوم بين عينيه).
وقال عنه ابن الزملكاني وهو من مخالفيه: (اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين).
وقال عنه تلميذه ابن كثير: (هو الشيخ الإمام، العالم العلم العلامة، الفقيه الحافظ الزاهد العابد المجاهد القدوة شيخ الإسلام، كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، عالمًا باختلاف العلماء، عالمًا في الأصول والفروع، والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس ولا تكلم فيه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه).
قال الإمام الحافظ المزي: (ما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه، وكل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث).
قال ابن الجزري المؤرخ المعاصر له وقد شهد جنازته: (الإمام العالم، العامل العلامة، الزاهد، العابد، الورع، الخاشع الناسك، القدوة العارف المحقق، شيخ الإسلام ومفتي الأنام، حافظ وقته، محدث زمانه، له اليد العالية في العلوم، صالحًا زاهدًا ورعًا، متقشفًا متقيًا، قائمًا بالحق وأمارًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، صاحب الفتاوى الشهيرة والتصانيف المذكورة، لم يكن في وقته أحفظ منه ولا للنقل في التفسير وأقوال العلماء فيه، ولا في الحديث واختلاف الصحابة منه).
ونختم ثناء الناس عليه وعلى علمه وخدمته للإسلام والمسلمين بهذه الكلمة الرائعة للإمام الحافظ الذهبي، والذي قال: (هو أكبر من أن يُنبَّه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله).
صفاته:
لقد خلّف شيخ الإسلام ابن تيمية من الآثار والمؤلفات والفتاوى والآراء ما يزيد على أربعة آلاف كراسة، غطت مختلف ميادين الفنون ـ من الأصول إلى الفقه إلى التفسير إلى الحديث إلى السياسة الشرعية إلى الفلسفة والمنطق، هذا كله بجانب الثروة الهائلة من الفتاوى الجريئة والمعاصرة والتي جمعت في سبعة وثلاثين مجلدًا ضخمًا، والتي عكست مدى فهمه العميق وفقهه الدين لقضايا المسلمين عامة وعصره خاصة، ومدى سعة أفقه، ووعيه بمكمن الداء للأمة ومدى المخاطر المحدقة بها، وهي الفتاوى التي جلبت عليه الكثير من المحن والابتلاءات من سدنة الجمود وأساطين التعصب، ومن أهم مصنفات هذا الجبل العلامة:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
1ـ الإيمان.
2ـ منهاج السنة النبوية.
3ـ درء تعارض صريح المعقول مع صحيح المنقول.
4ـ الرد على المنطقيين.
5ـ نقض المنطق.
6ـ الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان.
7ـ اقتضاء الصراط المستقيم.
8ـ الصارم المسلول.
9ـ رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
10ـ نظرية العقد.
11ـ السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية.
12ـ التوسل والوسيلة.

هذا غير عشرات الرسائل التي رد فيها على المخالفين من المسلمين وغير المسلمين، وهذه الثروة العلمية التي خلفها ابن تيمية كانت وما زالت مصدر إلهام لكثير من الحركات الإسلامية وقادة الصحوة، وأكبر باعث للتجديد على مر العصور، ونلمس هذا في تلاميذ الشيخ ومريديه ومن تأثر به، فبعضهم من المشرق وبعضهم من المغرب، وبعضهم من العرب، وبعضهم من العجم، بل من البربر أيضًا، وذلك عبر عصور متتالية، وكثير من تلاميذه ومن تأثر بفكره، صاروا أئمة وأعلامًا وقادة للصحوة الإسلامية، فمن تلاميذه: ابن القيم والمزي وابن كثير والذهبي والكتبي وابن عبد الهادي والبزار، وكلهم أئمة أعلام. وممن تأثر به ابن حجر العسقلاني والواسطي والعيني والبلقيني وابن فضل العمري والشوكاني...، أما من قادة الدعوات ومجددي الإسلام فلقد أثر ابن تيمية وفكره في العديد، منهم:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
الشيخ البشير الإبراهيمي، وعبد الحميد بن باديس قادة جمعية العلماء المسلمين الجزائرية والتي قاومت الاحتلال الفرنسي وحافظت على الهوية العربية والإسلامية من الضياع والطمس، وكلا الرجلين قد تأثر بابن تيمية بشدة، فيقول الشيخ الإبراهيمي: "وما زلنا نلمح وراء كل داجية في تاريخ الإسلام نجمًا يشرق ونسمع بعد كل خفته فيه صوتًا يخرق، من عالم يعيش شاهدًا ويموت شهيدًا ويترك بعده ما تتركه الشمس من شفق يهدي السارين المدلجين إلى حين، وما علمنا فيمن قرأنا أخبارهم، وتقفينا آثارهم من علماء الإسلام، ولا علمنا فيه مثالاً في شجاعة الرأي العام أكمل من الإمام ابن تيمية، فقد شنها حربًا شعواء على البدع والضلالات أقوى ما كانت رسوخًا وشموخًا، وأكثر أتباعًا وشيوخًا، يظاهرها الولاة القاسطون ويؤازرها العلماء المستأهلون والمتأولون.
الشيخ طاهر الجزائري من مجددي الدعوة بالجزائر، وقد ولع في صباه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان جمهرة الفقهاء في عصره تكفّر ابن تيمية تعصبًا وتقليدًا لمشايخهم، فلم ير الشيخ طاهر لتحبيبهم في ابن تيمية إلا نشر كتبه بينهم من حيث لا يدرون، وبذلك وصل إلى غرضه من نشر آراء شيخ الإسلام التي هي لباب الشريعة.
وفي بلاد الهند البعيدة تأثر العلامة ولي الله الدهلوي بفكر ابن تيمية فراح ينشره في أرجاء الهند ولاقى معارضة شديدة وعنتًا من فقهاء الهند المتعصبين بشدة للمذهب الحنفي، ومن بعده قام الشهيد أحمد السرهندي بثورة كبيرة على الاحتلال الإنجليزي والبدع والخرافات المنتشرة جدًا في بلاد الهند، من بعدهما جاء الشيخ أبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية وتأثر بمنهج وفكر ابن تيمية الإصلاحي، واستمد من مشروعه التجديدي النظرية التي أقام عليها منهج الجماعة الحركي.
وفي مصر تأثر الشيخ محمد عبده بابن تيمية وقد كان يقول عنه: ابن تيمية أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة على الدين، وكذلك تأثر الشيخ رشيد رضا بابن تيمية ونشر فكره في مجلة "المنار" وحارب البدع والخرافات والغزو الفكري والثقافي.
خصاله:
سبق وأن ذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد فاق معاصريه بكثير من المزايا والخصال التي لم تجتمع في أحد من علماء الزمان، هذه الخصال والصفات الحميدة كانت أيضًا سبب النقمة والحسد عليه من جانب كثير من معارضيه ومخالفيه، فالرجل كان نسيجًا وحده، وقد جمع الله عز وجل فيه بين العلم والعمل والفقه والعقل والجهاد وقوة النفس وجراءة القلب وثبات الجنان، والفهم العميق لقضايا الأمة وإدراك آفاتها وأسباب وهنها، فلقد كان ابن تيمية بحق من أصدق رجال الأمة تصويرًا للعقلية الإسلامية، ومن أهم خصال الشيخ رحمه الله والتي جعلته قرة عيون الناس في عصره وأيضًا جلبت عليه متاعب كثيرة ومحنًا متتالية مع معاصريه ما يلي:
أولاً: أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هذه الميزة كانت من أهم مزايا الشيخ رحمه الله، وأيضًا من أهم أسباب نقمة الكثيرين عليه، فلقد كان جريء القلب، ثابت الجنان، قوي اللسان، واضح البرهان، لا يبالي على من ينكر أو لمن يأمر، سلطانًا كان أو أميرًا، كبيرًا كان أو صغيرًا، لا يطيق أن يرى منكرًا ولا يصبر حتى يحيي شعيرة الأمر والنهي، وله في ذلك أمثلة سائرة ومواقف مشهودة، منها:
ـ ما حدث سنة 693هـ عندما سب أحد النصارى الكفرة من أهل السويداء وهي قرية من قرى الشام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قام ابن تيمية بقيادة جمع غفير من الناس للقصاص من هذا الكافر المجرم وجرت خطوب كثيرة بسبب حماية أحد الأمراء الأتراك لهذا الكافر وآل الأمر إلى ضرب ابن تيمية وحبسه، وقد صنف ابن تيمية في هذه الواقعة كتابه الشهير [الصارم المسلول على ساب الرسول].
ـ وفي شوال سنة 699هـ خرج ابن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة وأهل حوران لقتال أهل جبل الجرد وكسروان وهم من النصيرية الكفرة بسبب تعاونهم مع التتار وكفرهم وضلالهم وخروجهم على الطاعة.
ـ وفي سنة 699هـ دار ابن تيمية وأصحابه على الحانات والخمارات التي فتحت في دمشق بعد دخول التتار إليها فأراقوا الخمور وعزروا أصحاب الحانات ومنعوهم من العودة لمثل هذه الفواحش.
ـ وفي سنة 701هـ ثار جماعة من الحسدة على الشيخ ابن تيمية، وشكوا منه أن يقيم الحدود ويعزر ويحلق رءوس الصبيان، ولكن الشيخ أصر على مواصلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ـ وفي سنة 704هـ أمر ابن تيمية بعض جهلة المتصوفة بترك ما هم عليه، مثل الشيخ إبراهيم القطان وكان يتشبه بالحيوانات في هيئته، ومحمد الخباز البلاسي وكان يتعاطى المحرمات، وفي نفس السنة راح ابن تيمية إلى مسجد التاريخ بدمشق وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كان الناس ينذرون إليها ويزورونها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك الذي يقع عندها.
وقد بلغ الحسد بخصومه لأن يزوروا عليه جوابًا ليتهموه بأنه يصانع التتار وأنه جاسوس لهم بدمشق، وذلك سنة 702هـ، وكانت هذه التهمة كفيلة بإعدام ابن تيمية لو وجدت من يصدقها، وكان الساعي فيها رجلين من أهل الشر والحسد وهما: أحمد الغناري واليعفوري، فبان كذبهما وانكشفت مؤامرتهما، فأمر الوالي بقتلهما.
ثانيًا: جهاده:
يعتبر ابن تيمية واحدًا من أبرز المجددين في عصره وما تلى ذلك من أعصر، إذ جمع على الاجتهاد والريادة العلمية والمكانة السامقة في أهل العلم، الجهاد ضد الغزاة بنفسه وبسيفه، فجمع بين جهاد الفكر والسيف، فلم يكن ابن تيمية ذلك العالم الفقيه الذي يجلس في زاوية منعزلاً عن أحوال أمته، حبيس أوراقه وأقلامه، بل كان من كبار المجاهدين تمامًا مثلما كان من كبار العلماء، بل كان في هذا الميدان شديد الوعي بفقه الأولويات، حتى أنه قد حمل السلاح وجاهد تحت راية وقيادة السلطة التي مات مظلومًا في سجونها، فضرب لنا مثلاً في الوعي الحضاري بفقه الأولويات، نحن الآن في أمس الحاجة لفهمه في واقعنا المعاصر، وهذه طائفة من أخباره الجهادية التي كانت تملأ السمع والبصر وجعلت الناس تجمع على إمامته.
* جهاده في معركة قازان سنة 699هـ، عندما هجم التتار بقيادة محمود قازان على بلاد الشام وهزموا جيوش المماليك بقيادة الناصر محمد بن قلاوون، وعاثوا في الأرض فسادًا، فاجتمع ابن تيمية مع أعيان دمشق من القادة والعلماء واتفقوا على السير إلى قازان وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، وبالفعل اجتمعوا مع قازان وكلمه ابن تيمية كلامًا قويًا شديدًا فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين، ثم عاد ابن تيمية إلى دمشق وحض أمير القلعة وهو الأمير أرجواش على ألا يسلم القلعة للتتار مهما كانت الظروف، وبالفعل عمل أرجواش بالنصيحة وحاول التتار فتحها لعدة شهور ولكنهم فشلوا، وبصمود القلعة صمدت دمشق أمام الهجوم التتاري.
* ثم عاود ابن تيمية الكرة وذهب إلى مخيم التتار وقابل زعيمهم وأقنعه بإطلاق سراح أسرى المسلمين، بل إن ابن تيمية رحمه الله قد ضرب أروع الأمثلة على سماحة الإسلام والمسلمين ومدى حماية الدولة المسلمة لأهل ذمتها؛ إذ أصر ابن تيمية على إطلاق سراح النصارى الذين أسرهم التتار من بيت المقدس، بل ربط إطلاق أسرى المسلمين بإطلاق أهل الذمة، وهذا الإصرار جعل قطلوشاه أمير جيش التتار يوافق على إطلاق سراح الجميع.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
* وأثناء هجوم التتار على دمشق كان ابن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس والمدافعين على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط، ويشد أزر المدافعين عن القلعة، وكان له أعظم الأثر في رفع معنويات الناس، فصمدوا في القتال بشدة.
* وفي سنة 700هـ عندما تواترت الأخبار بعزم التتار على الهجوم مرة أخرى على الشام وعم الذعر بين أهل دمشق وأخذوا في الرحيل وارتفعت الأسعار بشدة، وهرب معظم الأعيان والقضاة والعلماء من البلد إلى مصر خوفًا من التتار، قام ابن تيمية وخطب بالناس في الجامع الأموي بدمشق وحرضهم على القتال والصبر والمرابطة وأوجب عليهم قتال التتار، فسكن الناس قليلاً وربط جأشهم، ثم انتدب أمير دمشق الشيخ ابن تيمية سفيرًا إلى مصر ليستحث السلطان الناصر محمد على المجيء والدفاع عن البلد، وقد كلم ابن تيمية السلطان بمنتهى الجراءة والشدة حتى أنه قال له: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه، وفي ذلك تهديد شديد للسلطان بالعزل إذا لم يقم بواجباته تجاه الأمة، ثم قال له: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم.
* جهاده في معركة شقحب سنة 702هـ، وذلك عندما هجم التتار مرة أخرى على الشام من أجل احتلال دمشق وإسقاط دولة المماليك، ثم الهجوم على مصر بعد ذلك، وفر الناس من دمشق وعادت نفس فصول الاضطراب الذي وقع أيام المعركة الأولى، وفي هذه المعركة قام ابن تيمية بدور أروع من المرة الفائتة؛ إذ قام بدوره المعنوي في تحفيز همم المقاتلين وتسكين روع الخائفين واستنهاض عزائم الأمراء والسلاطين وكان يدور على مخيمات الجند وهو يحلف لهم بالله العظيم أنهم منصورون، فيقول الناس له: قل إن شاء الله، فيرد بعزم المؤمن القوي الواثق بربه المطمئن بنصره وتأييده قائلاً: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا.
ثم رد ابن تيمية على شبهة قوية كادت أن تذهب بجهود المدافعين عن المدينة؛ إذ قال بعض الناس: كيف نقاتل التتار وهم مسلمون وليسوا بغاة على الإمام، إذ لم يدخلوا أصلاً في طاعته حتى يخرجوا عليه، فأجاب ابن تيمية على هذه الشبهة بأوضح بيان؛ إذ قال عن التتار إنهم من جنس الخوارج الذين خرجوا على الصحابة، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهم وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الأمر من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم فيه من المعاصي والظلم وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك واستوثقوا على القتال والدفاع عن مدينتهم.
وقد اشترك ابن تيمية بنفسه في القتال ضد التتار في معركة شقحب، وقد انتدب هو ومجموعة من أصحابه للقتال في أشد مناطق القتال خطورة ـ في المقدمة ـ وأبدى شجاعة وبطولة نادرة، حتى أن السلطان قد طلب منه أن يقف تحت رايته في القتال، وكانت المعركة في 2 رمضان سنة 702هـ، فأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضًا، وكان يدور على الجنود والقادة وفي يده خبز يأكل منه، وكان قتاله يوم شقحب من أعظم أعماله الجهادية رحمه الله.
ثالثًا: إخلاصه وتواضعه:
لقد كان ابن تيمية مخلصًا شديد الإخلاص لدينه وأمته وحضارته، كرس كل حياته وجميع طاقاته لهذه الغاية العظمى، لا يرى لنفسه همًا ولا هدفًا غير ذلك حتى غدا علمًا من كبار علماء المسلمين وبلغ على درب الإخلاص درجة التجديد، فلقد كان مجددًا لفكر الأمة وحياتها وقد جمع بين الجهاد والاجتهاد، حتى أنه من شدة سعيه وإخلاصه لنهضة الأمة لم يتزوج طوال حياته، قال عنه عماد الدين الواسطي: (إن الله عز وجل قد رحم هذه الأمة بإقامة رجل قوي الهمة، ضعيف التركيب ـ يقصد البنية ـ، قد فرق نفسه وهمه في مصالح العالم وإصلاح فسادهم والقيام بحوائجهم ضمن ما هو قائم بصد البدع والضلالات، وتحصيل مواد العلم النبوي الذي يصلح به فساد العالم ويردهم إلى الدين الأول العتيق جهد إمكانه).
وكان مع مكانته العظيمة وقدره الشريف وكثرة أتباعه وخضوع السلاطين له وتعاطف العامة له، كان في غاية التواضع والبساطة مع عوام الناس، لا يرى لنفسه فضلاً على أحد ممن يجالسهم كأنه أدناهم، حتى لما كان في سجنه أيام محنته ما كان يتأفف من مجالسة المذنبين والمجرمين لنصحهم وإرشادهم وتعليمهم أمور دينهم، وكان لين الجانب حسن الأخلاق مع طلبته وتلاميذه، بل كان يخدمهم هو بنفسه وييسر عليهم طريق التعلم.
رابعًا: زهده وعبادته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
كان ابن تيمية على طراز علماء سلف الأمة، من الجمع بين العلم والعمل، فلقد كان رباني العمل والعلم، قريب القلب، سريع الدمعة، له مصابرة عجيبة على العبادة، لا يعرف من أمر الدنيا شيئًا، إنما حياته كلها علم وعبادة وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، حتى أنه لم يتزوج قط، له أوراد وأذكار وأدعية من السنة يدمنها، محافظًا على قيام الليل، والمكث في المسجد حتى الغداة، يرى أن هذا المكث هو غذاؤه الذي يتقوى به، له هيبة وجلال في القلوب، تكاد تنخلع القلوب عندما يكبر تكبيرة الإحرام وما كان ابن تيمية محبًا للشهرة، ولا راغبًا في التميز عن غيره، ولا زاحم في طلب الرئاسات ولا جهد ساعيًا في تحصيل المباحات، مع أن الأمراء والأعيان كانوا طوع أمره، خاضعين لقوله وفعله، ولم يعلم عنه أنه قد تولى منصبًا ولا طلب ولاية، ولا حتى طلب التدريس في مدارس الأوقاف، وهذا العزوف عن الدنيا والزهد في المناصب، قد جلب عليه عداوة خصومه، ذلك أن مقصودهم الأكبر طلب الجاه والرياسة وإقبال الناس عليهم، وهم يبذلون غاية وسعهم من أجل ذلك، في حين أن ابن تيمية قد رقاه الله عز وجل إلى ذروة سنام المحبة في قلوب العامة والخاصة، وهم رغم كل ما يفعلونه لم ينالوا عشر معشار ما وصل إليه ابن تيمية، فامتلأت قلوبهم بالحسد عليه.
خامسًا: جراءته في الحق:
هذه الميزة ربما يربطها البعض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكننا آثرنا أن نفردها بالحديث لأنها كانت أحد أهم أسباب المحن التي تعرض لها الشيخ ابن تيمية رحمه الله، بل هي بعينها التي جلبت عليه عداوة الكثيرين من خصومه، فلقد كان ابن تيمية لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يأخذ بالتقية خيفة من الناس على نفسه، وكان يقول رحمه الله: (ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه)، وكان يصدع بالحق الذي آمن به، ولا يتزعزع ولا يداهن أحدًا، ولو اجتمع الناس كلهم لحربه.
قال عنه المؤرخ ابن فضل العمري: (وكان ابن تيمية لا تأخذه في الحق لومة لائم، وليس عنده مداهنة، وكان مادحه وذامه في الحق عنده سواء)، ومما زاد غيظ خصومه عليه، ما كانوا يقترفونه من مداهنة السلاطين على حساب الحق، فيجاملونهم على حساب دينهم، ويعاونونهم على ظلم الناس تقربًا وتوددًا إليهم، وفي المقابل كان ابن تيمية صادحًا بالحق، ناطقًا بالصدق له في ذلك مواقف مشهودة، منها:
* موقفه مع ملك التتار قازان يوم أن اجتمع به سنة 699هـ.
* موقفه مع السلطان الناصر محمد يوم أن ترك الشام ورجع إلى مصر والذي ذكرناه في الكلام عن جهاد الشيخ رحمه الله.
* موقفه مع السلطان الناصر محمد يوم أن فكر في إعفاء أهل الذمة من الشروط العمرية، وذلك سنة 709هـ، وكان كافة القضاة والفقهاء والعلماء شاهدين للمجلس، ولم يجرؤ أحد منهم على الكلام مع السلطان أو معارضته سوى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي جثا على ركبتيه وتكلم بشدة وجهر بالحق وصدع بالصدق، حتى أنه من شدة كلامه كان السلطان الناصر محمد يتلافاه ويسكته بترفق وتوقير، حتى أقنع السلطان برفض فكرة الإعفاء هذه تمامًا.
سادسًا: عفوه وصفحه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
فلقد امتحن الشيخ ابن تيمية وأوذي كثيرًا، وخاض خصومه في حقه وآذوه في كل موطن وهو صابر محتسب، يعفو عن خصومه، ويصفح عن كل من آذاه، لا يزيده جهل الجاهلين عليه إلا حلمًا وصبرًا وصفحًا، يقول رحمه الله عن نفسه في ذلك: (وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه). وقال أيضًا: (فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه عليّ أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي).
ولقد ترجم ابن تيمية كلماته تلك في عدة مواقف مشهودة، أبرزها عفوه عن علماء مصر الذين سعوا في قتله وسجنه، وكفّروه وآذوه وتلاميذه بشدة وذلك سنة 706هـ وتسببوا في حبسه بقلعة الجبل بالقاهرة، وذلك أيام سلطة بيبرس الجاشنكير الذي اغتصب الأمر من السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وكان الجاشنكير من أعداء ابن تيمية، وقد استغل بعض فقهاء مصر من الأشاعرة والصوفية تلك العداوة وتسببوا في محنة الشيخ، فلما زالت أيام الجاشنكير وعاد الناصر محمد للحكم أخرج ابن تيمية من السجن واستشاره في الانتقام من خصومه وقتل بعض الفقهاء والقضاة، فما كان من ابن تيمية إلا أن أعلن عفوه وصفحه عن خصومه، بل دافع عنهم بشدة وقال للسلطان الناصر محمد: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له السلطان: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارًا، فقال ابن تيمية: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي.
وهذه الخصلة العظيمة شهد بها ألد خصوم الشيخ وأكثرهم أذية وعداوة له وهو ابن مخلوف شيخ المالكية في مصر إذ قال: (ما رأينا مثل ابن تيمية؛ حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا).
وشهد عليها أيضًا واحد من أشد أعداء ابن تيمية وهو الشيخ الصوفي الضال علي بن يعقوب البكري المصري، وكان من أشد الساعين في ابن تيمية بالقول والفعل، فقد كفر ابن تيمية وأحل دمه، وقاد مجموعة من الصوفية الجهلة سنة 711هـ واعتدوا على ابن تيمية حتى كادوا أن يقتلوه، وقد تجمع عدد كبير من الناس منهم الجند والفرسان إثر هذه الحادثة لينتقموا من البكري، ولكن ابن تيمية عفا عنه وحجز الناس عن الفتك به، ولما انقلب الحال وصار الشيخ البكري مطلوبًا عند السلطان، فر في كل مكان حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت وذهب لابن تيمية وطلب منه الاختباء في بيته، فخبأه ابن تيمية في بيته فترة من الزمان، حتى شفع فيه عند السلطان وعفا عنه، فانظر إلى شهادة الخصوم مع هذا الرجل العظيم صاحب القلب الكبير.


https://i.imgur.com/njtgfA9.gif




ابوالوليد المسلم 04-03-2025 10:03 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة شيخ الإسلام ابن تيمية (2/2)
شريف عبدالعزيز
(4)
https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

محنته:
لقد تجلت في شيخ الإسلام ابن تيمية آيات النبوغ العلمي منذ صغره، فكان آية في المناظرة والاستدلال والتفسير والإفتاء والتدريس، ولقد كان قلمه ولسانه فرسي رهان في التعبير عن إبداعات عقله الكبير، وقد جعل جل همه في التفكير في النهوض بأمته وكيفية الخروج من حالة التردي التي أصابتها، حتى وضع يده على مواطن الداء وأسباب الخلل، فراح بكل ما أوتي من حجة وبيان يدك معاقل الخرافة وحصون الباطل وقلاع التعصب والجمود، وأخذ في صياغة مشروعه التجديدي العظيم لنهضة الأمة وإعادة البريق والصفاء لتميز الوسطية الإسلامية الجامعة، وعمل على عدة جبهات، وحارب في مختلف الساحات، من أجل لحمة الأمة مرة أخرى على منهاج النبوة الصافية، وطرد ونفي كل دخيل تسرب لحياة المسلمين من أفكار الفلسفة اليونانية والمطالب العلية، وما اشتمل عليه من خصال عظيمة سخرها ابن تيمية لتحقيق حلمه الكبير، تعرض ابن تيمية لمحن متتالية مع سدنة القبور وحراس الخرافة وأهل التقليد وأتباع التعصب المذهبي، فكفَّره أهل الجهل وبغى عليه الحسدة والظلمة وهو صابر لا يتزعزع ولا يهادن ولا يداهن، وذلك لشدة اقتناعه بما يعتقد ويعمل له، فابن تيمية كان من أعظم أئمة السلفية، لا يقول في شيء بهواه أو بالتشهي، ولكن يعمل بما دل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح، فلقد كان ابن تيمية وقافًا عند كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك قال عنه الحافظ ابن حجر: (المسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي).
وقال الحافظ البزار: (ابن تيمية ليس له مصنف ولا نص في مسألة ولا فتوى إلا وقد اختار فيه ما رجَّحه الدليل النقلي والعقلي على غيره، وتحرى قول الحق المحض، فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة، وتراه في جميع مؤلفاته إذا صحَّ الحديث عنده يأخذ به ويعمل بمقتضاه، ويقدمه على قول كل قائل من عالم ومجتهد...).
ولقد تعاقبت المحن على شيخ الإسلام ابن تيمية من خصم لآخر ومن مصر إلى الشام ومن جب إلى سجن وهكذا، وهذه بعض محطات المحن التي تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والتي كثيرًا ما كان يتحالف عليه فيها خصومه من المبتدعة والمتعصبة والجهلة.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
محنته مع الصوفية:
عندما تفتحت آفاق ومدارك شيخ الإسلام ابن تيمية على أوضاع الأمة الإسلامية، وجد أن مكمن الداء الحقيقي يرجع لتكدر معين النبوة الصافي وحقائق الدين الناصعة بالكثير من البدع والخرافات، التي تسربت للحياة اليومية للمسلمين عبر الطرق الصوفية البدعية والتي ما زالت زاوية الانحراف تنفرج في سلوكياتها حتى تحولت إلى شركيات ظاهرة عليها من الله فيها ألف برهان، وأصبح التصوف مرادفًا لمعنى التدين، بل أصبحت الصوفية دولة كاملة وراسخة في عقول المسلمين وحياتهم، فأعلنها ابن تيمية مدوية وصريحة: كل ما ليس عليه أمر الله ورسوله فبدعة وضلالة، وسن حربًا شعواء بلا هوادة على معاقل التصوف وحراس الخرافة، وتعرض من أجل ذلك للعديد من المحن، منها:
* في سنة 705هـ اشتكت الصوفية الرفاعية إلى أمير دمشق "الأفرم" من شيخ الإسلام ابن تيمية لكثرة إنكاره عليهم، وقد أحضر الشيخ لقصر الأمير، وطلب ذلك منه، ولكنه رفض بشدة وقال بكل عزة العالم: (هذا ما يمكن، ولابد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة قولاً وعملاً، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه)، فأرادت الرفاعية استخدام حيلهم المعروفة من اللعب بالحيات ودخول النيران من أجل إقناع الوالي والحاضرين بصحة أفعالهم، فأبطل شيخ الإسلام هذه الحيل، وخرج من هذه المناظرة منصورًا مظفرًا، وقد ألزمت الصوفية الأحمدية الرفاعية بترك أحوالهم البدعية وكتب محضر بذلك.
* وفي سنة 708هـ تولى سلطنة المماليك بيبر الجاشنكير وكان صوفيًا غاليًا فشدد على ابن تيمية الذي كان وقتها مسجونًا في سجن القلعة بمصر بسبب العقائد، ونقله من القاهرة إلى الإسكندرية حتى يتجرأ عليه أحد الصوفية هناك فيقتله، فلم يتفق لهم مرادهم لحفظ الله عز وجل لابن تيمية، وجاء نفي الشيخ للإسكندرية خيرًا عظيمًا له وللمسلمين؛ إذ وجد الإسكندرية قد باض فيها إبليس وأفرخ وأضل عامة أهلها، فصاروا من أتباع الطرق الصوفية الضالة مثل السبعينة والعربية، فأخذ الشيخ ابن تيمية في نشر العلم والسنة ومقاومة البدعة حتى أخمدها وشتت شمل أهلها، ودحض الباطل والخرافة، وذلك كله وهو سجين يعاني ويلات السجون والمعتقلات.
* وفي سنة 726هـ تعرض ابن تيمية للاعتقال مرة أخرى بسبب فتواه بحرمة شد الرحال لزيارة قبور الصالحين والأنبياء، مع التنبيه على أمر قد تعمد الصوفية على مر العصور ترويجه بالكذب على ابن تيمية رحمه الله، ذلك أن ابن تيمية قد أفتى بمنع شد الرحال للزيارة أي السفر لها خصيصًا من بلد لآخر، ولم يفت بحرمة الزيارة، بل قال إنها مستحبة للآثار التي صحت في ذلك، وشتان الفارق بين شد الرحال للزيارة والزيارة نفسها، وقد استعدت الصوفية السلطان والأمراء والقضاة والفقهاء على ابن تيمية بسبب هذه الفتوى، حتى أن بعضهم قد أفتى بتكفير ابن تيمية وقتله، ثم انتهى الأمر باعتقاله هو وأصحابه وتشهير بالعديد من تلاميذه الكبار مثل ابن القيم وابن كثير والكتبي وغيرهم في دمشق، ثم خرجوا بعد فترة وبقي ابن تيمية ومعه ابن القيم فقط في المعتقل.
الجدير بالذكر أن ابن تيمية ظل في معتقله هذه المرة حتى مات رحمه الله فيه بعد ذلك بأكثر من عامين، وقد ضيقوا عليه بشدة وآذوه خلال هذه الفترة إيذاءً شديدًا وهو صابر محتسب، وسنذكر ذلك بشيء من التفصيل عند وفاته رحمه الله.
محنته مع الأشاعرة:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
في معرض كلامنا عن المحنة التي تعرض لها الحافظ عبد الغني المقدسي، ذكرنا أن عقيدة السلف الصالح قد أصبحت ممثلة في أتباع المذهب الحنبلي، في حين سيطرت العقيدة الأشعرية على أتباع المذاهب الأخرى خاصة المذهب الشافعي، حتى أصبحت كلمة الأشعري مترادفة مع الشافعي، والسلفي مع الحنبلي، ولما كان ابن تيمية مجودًا مصلحًا داعيًا للعودة على منابع الدين الأولى وإلى مصدريه المعصومين ـ الكتاب والسنة ـ فقد كان من الطبيعي جدًا أن ينتقل الأشاعرة وعقيدتهم المحدثة بعد القرون الثلاثة الفاضلة خاصة وأن العقيدة الأشعرية تأثرت بشدة بالعلوم المنطقية اليونانية وأرباب الكلام من أتباع المذاهب الضالة مثل المعتزلة والفلاسفة وغيرهم، فانبرى ابن تيمية كواحد من أعظم الناقدين والنافضين للفكر الفلسفي والمنطقي اليوناني الذي تسرب إلى كثير من مناحي الفكر الإسلامي وأثر على عقيدة الأمة، وألف في ذلك الرد والنقد الكثير من المؤلفات العظيمة النافعة، ولقد كان قلمه ولسانه فرسي الرهان في التعبير عن إبداعات عقله الكبير، ولم يقو الأشاعرة على منازلته في ميدان الحجة والبرهان، فلجئوا إلى حد السلطان واستعداء الدولة عليه، كما هو الحال مع حجة العاجز والمفلس؛ يبحث عمن ينصره من القوة والسلطة.
* في سنة 698هـ ثار الأشاعرة على ابن تيمية بسبب تأليفه لرسالته الشهيرة بالحموية ويتكلم فيها عن عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات، وحاولوا استعداء أمير دمشق عليه، ولكن الأمير لم يسمع لهم وهدأت الفتنة.
* وفي سنة 705هـ اجتمع علماء الأشاعرة وفقهاؤهم وقضاتهم عن بكرة أبيهم عند أمير دمشق وطلبوا من ابن تيمية الحضور لمناظرته في كتابه العقيدة الواسطية، وعقدوا له ثلاثة مجالس للمناظرة، استطاع خلالها ابن تيمية أن يظهر عليهم بالحجة والبرهان حتى ألزمهم بتقرير صحة ما جاء في الواسطية، وقد أدى ذلك لتشويش كبير في دمشق، واستشاط الأشاعرة غيظًا وغضبًا وأخذوا في الاعتداء على تلاميذ ابن تيمية ومنعوا الحافظ جمال الدين المزي من التحديث بالجامع وحبسوه.
* وفي نفس السنة وهي 705هـ تكاتب أشاعرة الشام مع أشاعرة مصر للضغط على السلطان من أجل نفي ابن تيمية من الشام إلى مصر، ومحاكمته هناك، وبالفعل حمل ابن تيمية إلى مصر في رمضان وعقدت له مناظرة مع العلماء والفقهاء بها ولم يمكنوه من الدفاع عن نفسه أو الكلام أصلاً، وكان زعيمهم ابن مخلوف قاضي المالكية وكان من أشد خصوم ابن تيمية، ويحسده لقلة علمه وكثرة خطئه في الفتوى، وأيضًا الشيخ الصوفي الضال الحلولي الاتحادي نصر المنبجي وكان صاحب حظوة ووجاهة عند أمير مصر بيبرس الجاشنكير، وقد انتهى الأمر لسجن ابن تيمية في القلعة بالقاهرة، ثم وضع بالجب هو وأخوه عبد الله وأخوه الثالث عبد الرحمن، وكتب كتاب بالحط على الشيخ ابن تيمية وعلى عقيدته، وقرئ هذا الكتاب في الشام ومصر، وأجبروا الحنابلة على مخالفته، وحصلت لهم إهانة كبيرة ومحنة عظيمة في سائر البلاد، وعادت البدع للظهور بدمشق أثناء سجن الشيخ بمصر، فصليت الرغائب في النصف من شعبان سنة 706هـ وأوقدت النيران كالعادة، وكان ابن تيمية قد أبطل ذلك كله منذ عدة سنوات، وقد حاول بعض العلماء إخراج ابن تيمية من السجن مقابل أن يرجع عن بعض نقاط في العقيدة، ولكن ابن تيمية رفض وآثر السجن على التنازل عما يعتقد، وقد ظل الشيخ في سجنه قرابة العامين، ثم خرج بشفاعة الأمير حسام الدين مهنا ملك العرب، وظل مقيمًا بالقاهرة.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
* ولما اغتصب بيبرس الجاشنكير السلطنة من الأمير محمد بن قلاوون، عمل على إيذاء ابن تيمية قدر استطاعته، وذلك بإشارة من شيخه الضال نصر المنبجي الصوفي، فأمر بيبرس بحبس ابن تيمية مرة أخرى ثم التضييق عليه في حبسه، ثم نفاه من القاهرة إلى الإسكندرية سنة 709هـ، وهناك حبس أيضًا، وذلك كله بسبب تأليب الأشاعرة ومعهم الصوفية الجهلة، وجملة ما ظل فيه ابن تيمية بالسجن بسبب الأشاعرة أربع سنوات من سنة 705هـ حتى أواخر سنة 709هـ، وقد زادته المحنة رفعة ومكانة عند الناس عامتهم وخاصتهم.
محنته مع المتعصبة والمقلدة:
* رغم أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان ينتمي للمذهب الحنبلي في الفقه، إلا إنه كان مجتهدًا مطلقًا يفتي بما يؤدي به اجتهاده دون أن يتقيد بمذهب معين، ولأن العصر الذي كان فيه ابن تيمية كانت الأمة الإسلامية تعاني من تراجعات على كافة المستويات، ومنها المستوى العلمي، فإن التقليد والجمود قد سيطر على العقول وقتها، وعكف العلماء على دراسة آراء وأقوال مذهبهم وأئمتهم السابقين، وأغلق باب الاجتهاد ووضعت عليه أقفال كبيرة، حتى جاء ابن تيمية ففتح باب الاجتهاد من جديد وحطم أقفاله وأغلاله، ولأن التعصب هو الابن الشرعي للجمود والتحجر، والناتج الطبيعي لعهود التقليد وقلة الإبداع، فإن المتعصبة من المقلدين والجامدين والمتفقهة من أتباع المذاهب قد ناصبوا ابن تيمية العداء، وحاربوه بمنتهى العنف، لا لشيء إلا لأنه قد خالف أئمتهم وشيوخهم، ولأن المقلد والجامد بضاعته في العلم مزجاة، وأدلته وبراهينه وحججه إنما هي أقوال شيخه وإمامه، لم يستطع المتعصبة والمقلدة الصمود أمام ابن تيمية في ميدان الإبداع والإقناع، وعوضًا عن ذلك استعانوا بالسلطان والدولة والغوغاء والعامة والدهماء وتلاميذ الزوايا وطلاب المدارس للنيل من الشيخ ابن تيمية، ولكن هيهات هيهات أن ينالوا من علم علامة مثل ابن تيمية، إنما غاية ما ينالوا منه السجن والامتحان.
فعندما أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الطلاق البدعي لا يقع أصلاً، وأن الطلاق بالثلاثة إنما يقع واحدة، وأن الحلف بالطلاق يقع يمينًا إذا لم ينو به الطلاق، ثارت عليه ثورة عنيفة من علماء المذاهب وناقشوه فألزمهم الحجة، فاستعانوا بالدولة التي أصدرت فرمانًا بمنعه من الفتوى بهذه المسألة وذلك سنة 719هـ، ولكنه لم يلتزم بذلك وظل يفتي بما أدى إليه اجتهاده وهو مأجور عليه في كل حال، فحبسوه في القلعة بدمشق لمدة حوالي ستة أشهر حتى خرج منها في المحرم سنة 721هـ.
والعجيب أن الفقهاء وأتباع المذاهب ظلوا يشنعون على ابن تيمية في اجتهاداته وفتاويه لقرون عديدة في كتبهم وإلى تلاميذهم، جيلاً وراء جيل، وخصوصًا في مسألة الطلاق، حتى رأينا أحدهم الشيخ زاهد الكوثري أحد أشهر فقهاء الأحناف في أوائل القرن العشرين وهو أيضًا من رءوس البدعة المعاصرين يؤلف كتابًا في أحكام الطلاق يملؤه سبًا وشتمًا في ابن تيمية بسبب فتواه في الطلاق، والجدير بالذكر أن العالم الإسلامي بأسره الآن يعمل بفتاوى ابن تيمية في الطلاق ويجعلها مقررًا في كل المحاكم الشرعية المهتمة بالأحوال الشخصية.
وفاته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
* قضى شيخ الإسلام ابن تيمية معظم حياته في محن وابتلاءات متتالية، يدخل المعتقل ثم يخرج منه، في الشام وفي مصر، دخول وخروج، حتى جاءت اللحظة التي دخل فيها بجسده ثم خرج بروحه الطيبة، وذلك عندما اعتقلوه ولآخر مرة سنة 726هـ بسجن القلعة بدمشق، بسبب تأليب الصوفية عليه لفتواه الشهيرة بحرمة شد الرحال لزيارة القبور، حتى ظل في المعتقل هذه المرة لأكثر من عامين، وقد ضيقوا عليه بشدة، ولكنه رحمه الله لم يكف عن إعمال عقله وفكره وتدوين علمه، وقد حوّل سجنه من محنة لحريته وجسده إلى منحة لسياحاته الفكرية وإبداعاته العقلية والعلمية لخدمة مشروعه الإصلاحي الكبير لنهضة الأمة.
ولما رأى خصومه فيوضات عقله النير تخرج من خلف الجدران والأسوار ممثلة في رسائله ومؤلفاته الفائقة، أرادوا أن يسكتوا صوت الحق، ويطفئوا نور العلم، فصادروا أقلامه وأوراقه لمنعه من الكتابة، حتى أنه اضطر لأن يكتب الرسائل لأهله وتلاميذه خارج السجن بالفحم على الرسائل التي أرسلوها إليه أولاً بعد أن غسلها بالماء وجففها، فما كان من أعدائه إلا إنهم قد بالغوا في أذيته، ونقلوه إلى زنزانة مظلمة فأضرت ببصره فلم يستطع أن يكتب بالفحم، وذلك قبل وفاته بخمسة شهور.
ظن خصوم ابن تيمية أن بجرائمهم تلك قد نالوا من معنوياته وروحه الطيبة العالية ولكن هيهات هيهات، أنَّا بالريح العاتية أن تنال من الجبال الراسية، فلقد انتهز ابن تيمية الأمر وأقبل على كتاب الله عز وجل قراءة وتدبرًا ودعاءً وتبتلاً وصلاة ومناجاة، وهو في أسعد عيش وأطيب قلب، ويقول هذه الكلمات النيرات: (أنا ماذا يفعل أعدائي بي، أنا جنتي في صدري، أنى رحت فهي معي، أنا حبسي خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة). وقد ختم الشيخ ابن تيمية خلال الشهور الأخيرة من حياته القرآن أكثر من ثمانين مرة.
وفي 20 من ذي القعدة سنة 728هـ آن للروح الطيبة أن تصعد لبارئها وآن للراكب أن يترجل، وللمسافر أن يستقر، وللمبتلى والممتحن أن يستريح، وكان نبأ وفاته شديد الوقع على الناس، وكانت آخر كلماته قبل الرحيل مخبرة عن حالته ونهايته رحمه الله، حيث قرأ قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55]، وقد تنادى المؤذنون على منارات الجوامع بنبأ وفاته، فأقبل الناس بعشرات الآلاف، لشهود الجنازة في تحد صريح لسلطة الدولة التي حبسته ظلمًا وعدوانًا، حتى أن أهل دمشق كلهم رجالاً ونساءً تقريبًا قد شهدوا الجنازة، وقد أخرجت صباحًا، ولم يوضع الجسد في اللحد إلا في المغرب، وقد تأسف الناس كلهم محبوه وخصومه على رحيله.
وما زالت المحنة مستمرة:
ليست هناك شخصية عظيمة في تاريخنا الإسلامي المتأخر ظلمت في عصرها ـ وبعده ـ مثل شخصية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ففي عصره عانى من المحن والابتلاءات المتتالية وضرب وسجن ونُفي وعُذب ومنع من الإفتاء والتدريس وشُهر به في كل مكان، حتى رحل عن عالمنا وهو في السجن مظلومًا مضطهدًا، ورغم أن الرجل قد رحل عن دنيانا إلا أن خصومه قد ظلوا على عداوتهم له وتشهيرهم به والطعن فيه وفي آرائه وفتاويه ومؤلفاته التي لا يحسن أحدهم أن يفهمها، فضلاً على أن يأتي بمعشارها، وظل اسم ابن تيمية يردد في البلاد بالذم والقدح بفعل ميراث العداوة والكراهية الذي حرص خصوم ابن تيمية على توريثه ونقله للأجيال المتعاقبة، حتى بلغت أثر هذه الوشايات والأكاذيب بأحد من ينسب إلى العلم واسمه "العلاء البخاري" لأن يفتي بأن ابن تيمية كافر، وأن من يقول عنه شيخ الإسلام كافر مثله، وهذا يمثل قمة الغلو والشطط في الخصومة.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
والأعجب من ذلك أن الكثير من العلماء كانوا ينقلون كلام ابن تيمية بنصه وحرفه في كتبهم دون الإشارة من قريب أو بعيد لابن تيمية، خوفًا من تعرضهم للاضطهاد والتشهير مثله ورغبة منهم أن تسير آراؤه وأقواله بين الناس، من حيث لا يعلم خصومه، ومن يقرأ في شرح العقيد الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، يجد فيه مقاطع كاملة من كلام ابن تيمية بنصه وحرفه دون الإشارة إليه.
وما زالت المحنة مستمرة، وما زالت عداوة شيخ الإسلام قائمة عند كثير ممن ينتسب للعلم، وما زال الأشاعرة والصوفية عبر العصور يعادون الرجل ويبغضونه ويلهجون بذمه بل وتكفيره، حتى تجرأ أحدهم أخيرًا وهو المدعو حسن السقاف تلميذ الغماري الصوفي على شاشة إحدى الفضائيات ـ وهي قناة المستقلة ـ وقال [أي السقاف]: (إن ابن تيمية كافر ولا يستحق دخول الجنة مطلقًا)، وقائمة خصوم الشيخ طويلة وممتدة من لدن عصره رحمه الله لوقتنا الحاضر.
والعاقبة
للمتقين، وهذه سنة ربانية ماضية، لا تبديل لها ولا تغيير، فعلى الرغم من الحملة الشرسة التي شنها خصوم ابن تيمية عليه وعلى سيرته وتراثه، وما زالوا يشنونها، إلا أن الله عز وجل قد أعلى ذكره بين العالمين، وهذه هي كلماته وآراؤه وفتاويه ومصنفاته تملأ العالم كله، وهذه كتبه وتراثه الفكري والعلمي تطبع وتوزع في كل مكان، وما من داعية ولا عالم ولا مصلح إلا وقد تأثر بأفكار وأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية، في حين سقط ذكر خصومه وأعدائه من ذاكرة التاريخ، فلم يبق لهم أثر ولا ذكر إلا مقرونًا بجرائمهم وإساءاتهم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فمن ذا الذي يعرف الآن ابن مخلوف المالكي أو صفي الدين الهندي أو نصر المنبجي أو البكري الصوفي أو الإخنائي وغيرهم من أعداء الشيخ.
وفي هذا المقام يحضرني كلمات قالها أحد المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية يبشر فيها بظهور أفكار وآراء ابن تيمية ولو بعد حين، وهو الإمام أحمد بن مري الحنبلي الذي كتب رسالة إلى تلاميذ شيخ الإسلام بعد وفاته يوصيهم بكتب الشيخ، ويحثهم على نشر علمه، ويطيب خواطرهم بأن العاقبة للمتقين فيقول: (والله إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام، ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم، وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده).
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 05-03-2025 09:09 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام ابن جرير الطَّبريُّ (1/2)
شريف عبدالعزيز
(5)
https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

إمام المفسِّرين ورائد المدرسة التَّقليديَّة في التَّاريخ
حياته وعطاؤه العلميُّ ومنهجه وآراؤه ومحنته
التَّعريف به:
هو الإمام العلم العلامة, المجتهد المطلق, شيخ الإسلام, إمام المفسرين, ورائد المؤرِّخين, كبير المصنِّفين, البحر الزخَّار, الموسوعيُّ الكبير, جامع العلوم, والحائز على الفنون, الإمام أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن غالب بن كثير بن غالب الطَّبريُّ.
وُلد الإمام الطبريُّ سنة 224هـ على الأرجح، ببلدة أمل عاصمة إقليم طبرستان في شمالِ غربِ خُراسانَ، وهي مدينة كبيرة واسعةٌ عامرةٌ بالسُّكان, وكان الطَّبريُّ أسمرَ اللون، واسع العينين, نحيفَ الجسد, مديد القامة, فصيح اللسان, أسودَ الشعر وبقي السَّواد في شعر رأسه ولحيته إلى حين وفاته على الرغم من تجاوزه الثمانين.
طلبه للعلم:
كعادة طلاب العلم في ذلك الزمان، بدأ الطبريُّ في طلب العلم صغيرا , فأتمَّ حفظ القرآن وهو في سنِّ السَّابعة, حتى إنَّه كان يؤُمُّ بالناس وهو في سنِّ الثامنة، من جودة حفظه وجمال صوته، بدأ في سماع الحديث وكتابته وهو في سنِّ التاسعة, وكان أبوه صالحا , فلمَّا رأى نبوغَ ولده محمد, نذره للعلم والدرس, ودفعه إلى حِلَقِ العلم, وكان أبوه قد رأى في النوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير ومحمد ولده بين يديه، يحمل مِخْلاةً مملوءة حجارة يرمي بين يديه, فسأل أحدَ المعبِّرين فقال: إنْ كبُرَ هذا الولد نصح في دينه وذبَّ عن شريعته.
عندما بلغ الطبريُّ سنَّ المراهقة بدأ في رحلته العلميَّة, فخرج من طَبَرستان ودخل المراكز العلمية في خراسان مثل بخارَىْ ومَرْوَ ونَيْسَابورَ, ثم دخل بغداد والناس يُصلُّون الجنازة على الإمام أحمد, فلم يتسنَّ له أن يسمعَ منه, فجلسَ إلى علماءِ بغدادَ وشيوخِها ثم انتقل إلى الحجازِ ثمَّ اليمنِ ثمَّ الحجازِ مرَّةً أخرى ومنه إلى الشامِ ثم مصر، ولم يترك إقليما ولا بلداً معروفاٌ بالعلم والعلماء إلا دخله وجلس إلى شيوخه وعلمائه.
ملكاتُه العلمية:
يُعتبر الإمام الطبريُّ من أكثر علماء الإسلام تصنيفاً وتأليفاً, ولا يُنازعُه في هذه الدرجة سوى بحرِ العلوم الإمامِ ابن حزمٍ الظاهريِّ, وهذه المنزلة لم يكن للطبريِّ أن يتبوِّأها لولا مِنَّةُ الرحمن عليه بخصالٍ ومواهبَ ومَلَكَاتٍ علمية فذة وفريدة, وكانت أدواتِ نبوغه وأسبابِ تقدُّمه وتفرده, من أهمِّ الملكات:
• همَّة قويَّة وعزيمة حديديَّة:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هذه الملكة كانت أهمَّ ما يميز الإمامَ الطبري, فلقد كان ذا عزيمة تُناطحُ قمم الجبال، وهمَّةٍ تُحَلِّقُ في السَّحَاب, فلقد مكث أربعين سنة, يكتب في كلِّ يومٍ أربعينَ ورقةً, وقد أراد أن يكتب تفسير القرآنِ في ثلاثينَ ألفَ ورقةٍ, فأبى عليه تلاميذُه والكتبةُ فاختصره في ثلاثةِ آلافِ ورقة, وكذلك فعل مع التاريخ، وقال لتلاميذه: إنا لله, ماتت الهممُ!
هذه الهمَّة الفريدة جعلت الطَّبريَّ متفرغاً لطلب العلم, مُنكبَّاً علي تحصيله, ورحل في سبيله, وقضى معظم شبابه في السفر والترحال من بلد إلى آخر, ولم يستقر في بلد, ثم في بغداد إلا بعد الكهولة, ومن شدَّة انشغاله في طلب العلم والتفرغ له, لم يتزوج قط, واستعاض بمتعة العلم ولذة البحث والتأليف عن متع الدنيا والزواج, وأنس بالمعارف والعلوم, وصاحب الكتب والمجلدات والمخططات, من أجل ذلك كثر إنتاجه وازداد عطاؤه, وغزُر علمه, حتى صار من أكثر علماء الأمة تصنيفا وتأليفا , قال عنه تلميذُه مسلمة بن قاسم: "كان أبو جعفر الطبري حَصوراً, لا يَعرف النِّساء, شغله طلبُ العلم, وهو ابنُ عشرة سنينَ, ولم يزل طالباً للعلم, مولعاً به إلى أن مات".
• حافظةٌ عجيبةٌ وذكاءٌ فريد:
- كان الطَّبريُّ موهوبَ الغرائز, فقد حباه الله تعالى بذكاءٍ خارق, وعقل متَّقد, وذِهنٍ حادٍّ, وحافظة نادرة, وهذا ما لاحظه فيه أبوه, فحرص على دفعه إلى طريق العلم, وهو صبيٌّ صغير, وخصَّص له موارد أرضه؛ ليُنفقها على دراسته ورحلاته العلمية, ومن قوَّة حفظه وشدة ذكائه أنَّه تعلَّم علم العَروض وهو من علوم اللغة العزيزة، حتى إنَّ إماماً كبيراً مثل الدارَقطنيِّ قد تعسَّر عليه هذا العلمُ واعترف بذلك لأقرانه، هذا الفنُّ قد تعلَّمه الطبريُّ في ليلة واحدة, وكان يحفظ الأحاديث حفظا فريدا من نوعه, ليس بمتونها وأسانيدها فحسب, ولكن باليومِ والوقت والمكان والرُّفقاء الَّذين حضروا مجلس التحديث.
- قال عنه تلميذه أبو محمد عبد العزيز الطبري: كان أبو جعفر من العقل والعلم والذكَّاء والحفظ ما لا يجهلُه أحد عرفه, لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحدٍ من هذه الأمة, ولا ظهر من كتب المصنفين, وانتشر من كتب المؤلِّفين, ما انتشر له.
اتِّباعه للسُّنة وشدَّته في الحق:
الإمام الطَّبريُّ كان سلفيّاً أثريَّاً ينتمي لمدرسة السَّلف الصَّالح, ومن يقرأ كلامه في كتابه النَّفيس "التَّبصيرُ في معالم الدين" في الصِّفات وتفسير الآيات الخاصَّة بها, يعلم مكانة الإمام وأثره, خاصَّةً وأنَّ تلك الفترة قد بدأت فيها الأفكار المخالفة للسنة تنتشر في الأوساط العلميَّة, مثلُ أفكار الأشعريِّ –قبل تراجعه عنها– وأفكارِ ابن كُلَّاب, ناهيكَ عن أفكار الاعتزالِ والتَّشيُّع التى كانت موجودةً من قبلُ.
ففي تفسير آيات الصفات قال ابنُ جرير: القولُ فيما أُدركَ علمُهُ من الصِّفاتِ خبرا , ذلك نحوُ إخباره تعالى أنه سميع بصير, وأنّ له يدين بقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة: من الآية64], وأنَّ له وجهاً, بقوله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن:27], وأنه يضحكُ بقوله في الحديث: "لقيَ اللهَ وهو يضحكُ إليه"، وأنَّه ينزلُ إلى السَّماء الدنيا, لخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك, إلى أن قال: فإنَّ هذه المعاني التي وصفتُ, ونظائرَها مما وصف اللهُ نفسَه ورسولُه, ما لا يثبت حقيقةُ علمهِ بالفكر والرَّوِيَّة.
كان الطبريّ ممن لا تأخذه في الله -عزَّ وجلَّ- لومةُ لائم, من عظيمِ ما يلحقه من الأذى والشَّناعاتِ من جاهلٍ وحاسدٍ وحاقدٍ, فقد كان شديدَ التَّمسُّك بالسنة وأصولها, فقد سئل يوماً عمَّن يقول: إنَّ أبا بكر وعمر ليسا بإمامَي هُدى؟ فبادر أحدُ الحاضرين فقال: "مبتدعٌ!"، فاحتدَّ الطبريُّ وأنكر بشدَّة عليه وقال: "مبتدع, مبتدع! هذا يُقتل!".
أخلاقه وعبادته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
كان الطَّبريُّ على جانب كبير رفيع من مكارم الأخلاق, ظريفاً في ظاهره, نظيفاً في باطنه, حَسَنَ العُشرة لجلسائه, متفقِّداً لأحوال أصحابه, مهذباً في جميع أحواله, جميلَ الأدب في أمور حياته كلِّها، ومن أهمِّ خصاله وأخلاقه الجميلة:
• الكرم والسَّماحة:
كان الطبريُّ سمحاً جواداً شديدَ الكرم, كثيرَ النفقة على إخوانه وأهله, كان إذا أُهديَ إليه هدية مما يمكنه المكافأةُ عليها, قبلها, وكافأ صاحبها, وإن كانت مما لا يُمكنه المكافأةُ عليها ردَّها واعتذر إلى صاحبها, وقد وجَّه إليه أبو الهيجاء بن حمدان ثلاثةَ آلافِ دينار, فلمَّا نظر إليها عَجِبَ منها, ثمَّ قال: لا أقبلُ ما لا أقدرُ على المكافأة عنه, ومن أين لي ما أُكافئُ عن هذا؟
وكان يختلفُ إليه أبو الفرج بن أبي العبَّاس الأصبهانيُّ, يقرأ عليه كتبه, فالتمس أبو جعفر حصيراً لبيته, فدخل أبو الفرج الأصبهانيُّ, وقدَّر مساحة البيت, واشترى الحصير, يقصد إهداءَهُ إلى الطبريِّ, فأصرَّ الطبريُّ على دفع ثمنها, فلمَّا رفض الأصبهانيُّ أهداه الطبريُّ أربعةَ دنانير, وقد أهدى إليه أبو المحسن المحرر جارُه فرخينِ, فأهدى إليه ثوباً.
• الزُّهدُ والورعُ:
لقد كان ابنُ جريرٍ شديدَ الزُّهد والورع, يرفضُ بشكل تامٍّ, وفي كل موطن أن يتكسَّب بعلمه, أو يسترزقَ بما فتح الله له من العلوم والفضائل, وظلَّ طَوَالَ حياتِهِ يَتقوَّتُ بما يُرسلُه له أبوه من قريته بطَبَرِستانَ, حتى إنَّه لما تأخرت عليه النفقةُ ذات مرةٍ باع بعض ملابسه, وعرض عليه الوزيرُ الخاقانيُّ أموالاً كثيرة, ولكنه رفض أخذها بشدَّة, ورضيَ أن يعملَ بالأجر في تأديب الصِّبيان, وذاتَ مرَّة أراد المكتفي العباسيُّ أن يحبس وقفاً تجتمع عليه أقاويلُ العلماء, فأُحضِرَ له ابنُ جرير, فأملى عليه كتاباً لذلك, فأُخرجت له جائزةٌ كبيرة, فامتنع عن قَبولها, فقيل له: تصدَّقْ بها, فلم يفعل, وقال لهم: أنتُم أولى بأموالكم, وأعرفُ بمن تتصدَّقون عليه, وقد طلبوه لولايةِ القضاء عدة مرات ولكنه رفض بشدةٍ, ولما عاتبه أصحابه وقالوا له: لك في هذا ثوابٌ, وتُحيي سُنَّةً درست, فانتهرهم وقال: فقد كنت أظنُّ أنِّي لو رغبتُ في ذلك, لنهيتموني عنه.
وصفه ابنُ كثير فقال: "وكان من العبادة والزِّهادة والورع, والقيام في الحقِّ بمكانٍ لا يخفى على أحدٍ من الناس"، وقال تلميذُه أبو محمد الطَّبريُّ: "وكان فيه من الزُّهد والورع, والخشوع, والأمانة, وتصفية الأعمال وصدق النية, وحقائق الأفعال, ما دلَّ عليه كتابه في آداب النفوس, وكان عازفاً عن الدنيا, تاركاً لها ولأهلها, يدفع نفسه عن التماسها".
وكان ابنُ جرير لا يسأل شيئاً لنفسه قطُّ, إنَّما سؤالاته لإخوانه وحوائج المسلمين العامة, استدعاه الخليفة المقتدر بالله العباسي يوماً ليستفتيَهُ في أمرٍ ما, فأجابه, فقال له الخليفة: سل حاجتك. فقال: لا حاجةَ لي. فقال: لا بدَّ أن تسألني حاجةً أو شيئاً, فقال: أسألُ أميرَ المؤمنين, أن يتقدم أمره إلى الشرطة؛ حتى يمنعوا السُّؤَّالَ -أي الشحَّاذين- يوم الجمعة من أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع, فأمر الخليفة بذلك, وأرسل الوزيرُ العباس بن الحسن إلى ابن جرير: "قد أحببتُ أن أنظرَ في الفقه"، وسأله أن يعمل له مختصراً, فعمل له كتاب "الخفيف", وأنفذه, فوجَّهَ إليه ألف دينار فلم يقبلها, فقيل له: تصدَّقْ بها, فلم يفعل.
• التَّواضُعُ والدُّعابة:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
كان الطبريُّ شديدَ التواضع جمَّ الأدب, كامل الهيئة, ضابطاً لأحواله, منبسطاً مع إخوانه, حتى ربما داعبهم أحسنَ مداعبةٍ, وكان إذا جلس لا يكاد يُسمع له تنخُّمٌ, ولا تبصُّق, ولا يُدرَى له نُخامة, وإذا أراد أن يمسح ريقه, أخذ ذؤابةَ منديله, قال تلميذه أبو بكر بن كامل: "ولقد حرصتُ مراراً أن يستويَ لي مثلُ ما يفعله, فيتعذَّر عليَّ اعتياده", قال: "وما سمعته قطُّ لاحناً, ولا حالفاً بالله -عزَّ وجلَّ-".
وكان من تواضعه لا يُحبُّ أن يَذكر مآثره العلميَّة خاصَّةً في باب المناظرات الذي كان الطبريُّ مشهوراً فيه بقهر خصومه, فلقد هزم داود الظاهريَّ شيخ الظاهرية, وأبا بكرٍ المزَنىَّ شيخَ الشافعية في المناظرة, وأقام عليهما الحجة حتى أفحمهما، ومع ذلك كان دائم الثَّناء عليهما، على الرَّغم من كراهيَّة تلاميذ الإمامين له، وخوضِهِما في حقه بسبب ذلك.
ثناءُ أهل العلم عليه:

يُعتبر ابن جرير الطبريُّ من كبار أئمَّة الإسلام, وعلماً من أعلام الدِّين, يُحكم بقوله, ويُرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله, وكان قد جمع من العلوم ما لم يُشارِك فيه أحدٌ من معاصريه, فقد كان حافظاً لكتاب الله, عارفاً بالقراءات, بصيراً بالمعاني فقيهاً في أحكام القرآن, عالماً بالسنن وطرقها, صحيحِها وسقيمِها, وناسخِها ومنسوخِها, عارفاً بأقوال السلف من الصَّحابة والتابعين, بصيراً بأيام الناس وأخبارهم, وهذه طائفةٌ من ثناء العلماء عليه:
قال رفيقُه وقرينه ابنُ خزيمةَ الملقب بإمام الأئمَّة: "ما أعلمُ تحت أديم السماء أعلمَ من محمد بن جرير".
قال ابن سُرَيج الملقب بالشافعيِّ الصغير: "محمَّد بن جرير الطبريُّ فقيهُ العالم".
قال ابنُ خِلَّكان: "صاحب التفسير الكبير, والتاريخ الشهير, كان إماماً في فنون كثيرة, وله مُصَنَّفات مليحة في فنون عديدة, تَدُلُّ على سَعَة علمه, وغزارةِ فضله, وكان من الأئمَّة المجتهدين".
قال القِفطيُّ: "العالم الكامل, الفقيهُ المقرئ, النَّحويُّ اللُّغوي, الحافظُ الإخباري, جامع العلوم, لم يُرَ في فنِّه مثلُه, وصنَّف التصانيف الكبار".
قال ابن كثير: "كان أحد أئمَّةِ العلماء علماً وعملاً بكتاب الله وسنَّة رسوله -صلَّى الله عليه وسلم –".
قال ابنُ تغري بردي: "وهو أحد أئمَّة العلم, يُحكم بقوله, ويُرجع إلى رأيه, وكان متفنِّناً في علوم كثيرة, وكان واحد عصره".
قال الذَّهبيُّ: "إمامُ العلم المجتهد, عالمُ العصر أبو جعفرٍ الطَّبريُّ, صاحبُ التَّصانيف البديعة, كان من أفراد الدَّهر, عِلما , وذكاءً, وكثرةَ تصانيف, قلَّ أن ترى العيون مثله, رأسٌ في التفسير, إمامٌ في الفقه والإجماع والاختلاف, علَّامة في التاريخ وأيَّام الناس".
قال السُّبكيٌّ: "الإمام الجليل, والمجتهد المطلق, أحد أئمَّة الدنيا علماً وديناً".
مُصنَّفاتُه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
لم تقتصر علومُ الإمام الطَّبريّ وآثارُه على علمٍ واحد، بل ولج -رحمه الله- ميدان مختلف العلوم الشَّرعيَّة واللُّغويَّة، وكان في كلٍّ منها إماماً ومقدَّماً. لقد كان الطبريُّ إمامًا في السُّنة وعلوم الحديث، وعدَّه الإمام النَّوويُّ –رحمه الله– في طبقة التِّرمذيِّ والنَّسائي وكان أيضاً إمامًا في القراءات، وصنَّف في القراءات.
ودرس التَّفسير بتعمُّق، وصنَّف أعظمَ كتبه على الإطلاق في التَّفسير، كتاب "جامع البيان في تأويل آي القرآن"، الذي ضمَّ فيه علوم القرآن المختلفة، حتى اعتُبِر "إمام المفسرين" أو "شيخ المفسرين".
كما كان –رحمه الله– إماماً: في الفقه، وعلمِ الخلاف، والفقهِ المقارن، واختلافِ العلماء؛ وكان من الأئمَّة المجتهدين، وصاحبَ مذهبٍ مستقلٍّ، ولقد تبعه بعضُ الناس على مذهبه رَدْحاً من الزَّمن، وصنَّف الكتب الجيِّدة: في الفقه العام، والفقه المقارن، والفقه المذهبيّ.
ومن أعظم إنجازاته – رحمه الله– إلى جانب تفسيره العظيم، كتابُه في التاريخ الذي يُعتبر مرجعًا هامًّا وأساسيًّا، لدى كثيرٍ من الباحثين والمؤرِّخين، وهو فيما قدّم يُعتبر شيخَ المؤرِّخين بلا منازعٍ ولا مدافع، واسمُ الكتاب: "تاريخ الرُّسل والملوك".
هذا إلى جانب كتابه الأخير: "تاريخ الرِّجال من الصَّحابة والتَّابعين"، إلى شيوخه هو؛ المعروف بـ " ذيل المذبل ".

وكان أيضا –رحمه الله– من أئمَّة العربيَّة، في المعاني واللُّغة والصَّرف والعَروض والبيان، بالإضافة إلى علمه بالفلسفة والمنطق والجَدَل.
وكان عنده شيءٌ من علم الطَّبِّ والجبر والرِّياضيَّات.
وكان –رحمه الله– أيضا عالماً بأصول الدِّين والتَّوحيد، وعلم الكلام، وله كتبٌ فيها.
وكان عالماً بالحديث، وبلغ مرتبة الحافظ المحدِّث، ولقد صنَّف في علم الحديث ومصطلحه، كما التزم بمنهج المحدّثين في معظم كتبه.
وكان عالماً بأصول الفقه وقواعد الاجتهاد والاستنباط، مما أهَّله أن يكون مجتهدًا صاحبَ رأيٍ مستقل ومذهب.
وكان عالماً بآداب النَّفس وعلم الأخلاق والتَّربية، وصنَّف فيها كذلك.
قال الخراسانيُّ: "وله مصنَّفات مليحة في فنون عديدة، تدلُّ على سعة علمه، وغزارة فضله، وكان من الأئمَّة المجتهدين"، ووصفه الخطيب البغداديُّ فقال: "وكان أحد أئمَّة العلماء، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يُشاركه فيها أحدٌ من أهل عصره؛ وكان حافظًا لكتاب الله تعالى، عارفًا بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسُّنن وطرقها، صحِيحِها وسقيمِها، ناسخِها ومنسوخِها، عارفًا بأقوال الصَّحابة والتَّابعين، ومَن بعدهم من المخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في "تاريخ الأمم والملوك" وكتابٌ في التفسير لم يصنِّفْ أحدٌ مثله، وكتابٌ سمَّاه "تهذيب الآثار" لم أرَ سواه في معناه، إلا أنَّه لم يُتِمَّه؛ وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرُّد بمسائل حُفِظت عنه". ويقول ياقوت الحمويُّ في معجم الأدباء: "كان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدّث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنَّحويِّ الذي لا يعرف إلا النَّحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب، وكان عالماً بالعبادات جامعًا للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره، وجدت لكتبه فضلًا على غيرها".
أمَّا عن أشهر وأهمِّ مصنفاته فهي:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
- جامعُ البيان عن تأويل آي القرآن، المعروف بـتفسير الطبري، وقد طبع مرات عديدة.
- وتاريخ الأمم والملوك، المعروف بـتاريخ الطبري.
- واختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام.
- والخفيف في أحكام شرائع الإسلام في الفقه، وهو مختصر كتاب:
- لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، المعروف بـاختلاف الفقهاء في علم الخلاف، وهو كتابٌ واسع اختصره في كتاب الخفيف، فإذاً: اللطيف والخفيف هما كتابان للطَّبريِّ في الفقه.
- وكتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار، هذا كتاب في الحديث طبع منه أربعة مجلدات، وبقي منه بقايا، وهو من الكتب العظيمة.
- كذلك ألف كتاب: آداب القضاة، وآداب النفوس، والقراءات وتنزيل القرآن، والبصير في معالم الدين، وفضائل عليٍّ، وفضائل أبي بكر، وفضائل عمر، وفضائل العبَّاس، وكتابٌ في تعبير عبارة رؤية في الحديث، ومختصر مناسك الحج، ومختصر الفرائض، والموجز في الأصول، والرَّميُ بالنُّشَّاب حتَّى الرَّمي بالقوس وطريقة الرمي يقال: إنَّه للطبريِّ - رحمه الله -، والرسالة في أصول الفقه، والمسترشد وكتاب اختيار من أقاويل الفقهاء، هذه بعض الكتب التي ألفها صاحب القلم السَّيَّال والنَّفَس الطويل ابن جرير رحمه الله تعالى.
يقول الخطيب البغدادي راوياً: إنَّ محمد بن جرير مكث أربعين سنةً يكتب في كل يوم أربعين ورقة، وإذا ضربت أربعين سنة في إنتاج كل يومٍ أربعين ورقة يكون الناتج ستمائة ألف ورقة؛ لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - أمدَّ في عُمره ستًّا وثمانين سنة، اطرح منها الطفولةَ والجُمَعَ والتِّرحال والرَّحَلات إلى أن استقرَّ بـبغدادَ أربعين سنةً، هذه فترة تدريس وتصنيف، كلَّ يوم يؤلف أربعين ورقةً، هذه ستمائة ألف ورقة.

يقول ياقوت الحموي: "وحدَّث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بكتاب الصِّلة، وهو كتابٌ وصل به تاريخ ابن جرير -أي كمّل مما انتهى إليه ابن جرير في التاريخ-: أنَّ قوماً من تلاميذ ابن جرير حصّلوا أيام حياته، منذ بلغ الحلم إلى أن تُوفِّي وهو ابنُ ستٍّ وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنَّفاته، فصار منها على كلِّ يومٍ أربعَ عشرةَ ورقةً، وهذا شيءٌ لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق"، تصنيف الطبري ليس كما يقولون كلام حشو، هذا لا يأتي إلا بعد جمع غزير.
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 06-03-2025 10:38 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام ابن جرير الطَّبريُّ (2/2)
شريف عبدالعزيز
(6)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

إمام المفسِّرين ورائد المدرسة التَّقليديَّة في التَّاريخ
حياته وعطاؤه العلميُّ ومنهجه وآراؤه ومحنته
منهج الطبري في التفسير
أملى ابن جرير كتابه "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" على تلاميذه من سنة ( 283 ) إلى سنة ( 290 )، ثمَّ قُرئ عليه سنة (306)، وقد أطبق العلماءُ على الثَّناء على كتابه.
وقد قدَّمَ الطبريُّ لتفسيرِه بمقدِّمة علميَّةٍ حشدَ فيها جملةً من مسائل علوم القرآن، منها: اللغةُ التي نزل بها القرآن والأحرفُ السبعة، والمعرَّبُ، وطرق التفسيرِ، وقد عنون لها بقوله: "القول في الوجوه التي من قِبَلِها يُوصَلُ إلى معرفةِ تأويلِ القرآنِ، وتأويل القرآنِ بالرأي، وذكر من تُرضى روايتهم ومن لا تُرضى في التَّفسيرِ".
ثمَّ ذكر القولَ في تأويلِ أسماء القرآنِ وسورِه وآيه، ثمَّ القول في تأويلِ أسماء فاتحة الكتابِ، ثمَّ القول في الاستعاذةِ، ثُمَّ القول في البسملةِ.
ثمَّ ابتدأ التفسيرَ بسورة الفاتحة، حتى ختم تفسيرَه بسورةِ النَّاسِ.
كان يُجزِّئ الآيةَ التي يُريدُ تفسيرَها إلى أجزاء، فيفسرها جملة، جملة، ويبدأ في تفسير هذه الجملة، فيذكر المعنى الجملي لها بعدها، أو يذكره أثناء ترجيحه إن كان هناك خلاف في تفسيرها.
إذا لم يكن هناك خلاف بين أهل التأويل فسَّر تفسيرًا جُمْلِيًّا، ثم قال: "وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل".
ـ وإذا كان بين أهل التأويل خلاف، فقد يذكر التفسير الجُمليَّ، ثم ينص على وجود الخلاف، ويقول: "واختلفَ أهلُ التَّأويلِ في تأويلِ ذلكَ، فقال بعضهـــم فيه نحوَ الذي قلنا فيه".
ـ وقد يذكر اختلاف أهل التأويل بعد المقطع المفسَّرِ مباشرةً، ثمَّ يذكر التفسير الجمليَّ أثناء ترجيحه.
ـ ومن عادته أن يُترجمُ لكل قولٍ بقوله: "فقال بعضهم" ….، ثمَّ يقول: "ذكرُ من قال ذلك"، ثمَّ يذكر أقوالهم مسندًا إليهم بما وصله عنهم من أسانيد، ثمَّ يقول: "وقال غيرهم"، "وقال آخرون" …، ثمَّ يذكر أقوالهم، فإذا انتهى من عرضِ أقوالِهم، رجَّحَ ما يراه صوابًا، وغالبًا ما تكون عبارته: "قال أبو جعفر: والقول الذي هو عندي أولى بالصَّواب قول من قال"، أو يذكر عبارة مقاربةً لها، ثمَّ يذكر ترجيحَه، ومستندَه في الترجيحِ، وغالبًا ما يكون مستندُه قاعدةً علميَّة ترجيحيَّةً، وهو مما تميَّزَ به في تفسيرِه.
ـ اعتمدَ أقوال ثلاثِ طبقاتٍ من طبقات مفسِّري السَّلف، وهم الصَّحابة والتابعون وأتباع التابعين، ولم يكن له ترتيبٌ معيَّن يسير عليه في ذكر أقوالهم، وإن كان يغلب عليه تأخيرُ الرِّواية عن ابن زيد ( ت: 182).
ـ ويحرص على ذكر ما أورده عنهم بالإسناد إليهم، ولو تعدَّدت الأسانيد في القول الواحد.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ـ وقد يورد قول الواحد منهم ويعتمده إذا لم يكن عنده غيره.
ـ ولم يخرُج في ترجيحاته عن قول هذه الطَّبقات الثَّلاث إلا نادرًا، وكان شرطه في كتابه أن لا يخرج المفسِّرُ عن أقوال هذه الطَّبقات الثَّلاث .
ـ ولهذا ردَّ أقوالَ أهل العربيَّة المخالفة لأقوال السَّلف أدنى مخالفةٍ، ولم يعتمد عليها إلا إذا لم يَرد عن السلف في مقطعٍ من مقاطع الآية شيءٌ .
وإذا ذَكر علماءَ العربية فإنه لا يذكر أسماءهم إلا نادرًا، وإنما ينسبهم إلى علمهم الذي برزوا فيه، وإلى مدينتهم التي ينتمون إليها، كقوله: قال بعض نحويي البصرة.
وغالبُ ما يروي عنهم مما يتعلق بالإعراب.
ـ اعتمد الطبريُّ النظر إلى صحَّة المعنى المفسَّرِ به، وإلى تلاؤمه مع السياق، وقد كان هذا هو المنهجَ العامَّ في تفسيره، وكان يعتمد على صحة المعنى في الترجيح بين الأقوال.
ـ وكان لا يبين درجة إسناد الآثار إلا نادرًا، ولم يكن من منهجه نقدُ أسانيد التفسير، كما أنه لم يعمد إلى ما يُقال من طريقة: من أسندك فقد أحالك.
ـ وكان -في الغالب- لا يفرق بين طبقات السَّلف في الترجيح، وقد يقدم قول أتباع التَّابعين أو التَّابعين على قول الصَّحابيِّ.
ـ وإن كان في بعض المواطن يُقدِّم قول الصحابة، خصوصًا فيما يتعلق بالنُّزول.
ـ يقدم قول الجمهور على قول غيرهم، وقد يعدُّه إجماعًا، ويَعُدُّ القول المخالف لهم شاذًّا.
ـ يَعُدُّ عدم قول السلف بقولٍ دلالة على إجماعهم على تركه، ويرجح بهذه الحجة عنده.
ـ لم يلتزم بالأخذ بقول الصحابيِّ في الغيبيَّات.
ـ لم يُعْرِضْ عن مرويَّات بني إسرائيلَ لأنه تلقَّاها بالآثار التي يروي بها عن السَّلف، وقد يبني المعنى على مجمل ما فيها من المعنى المبيِّن للآية.
ـ يؤخِّر أقوال أهل العربية، ويجعلها بعد أقوال السَّلف، وأحيانًا بعد ترجيحه بين أقوال السَّلف.
ـ لا يقبل أقوال اللُّغويِّين المخالفة لأقوال السَّلف، ولو كان لها وجهٌ صحيح في المعنى لذلك كلِّه عدَّه أهلُ العلم رائدَ مدرسة التفسير بالأثر، وأعظمَ مفسِّري القرآن في الأمة الإسلامية.
منهج الطبري في التاريخ
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
بدأ الإمام الطبريُّ حياته العلميَّة بدراسة الحديث، فكان حريَّاً أن يتأثر بمنهج المحدِّثين في جمع الرِّواية التَّاريخيَّة والاهتمام بسندها، فكان يجمعُ مأثور الرِّوايات ويدوِّنها مع إسنادها إلى مصدرها مثل: شيخ تتلمذ عليه، أو عدل شارك في الحادثة، أو كان له علمٌ بها، أو كتاب تدارسه بالسَّند المتَّصل قراءةً وسماعاً وإجازة. فكان في الغالب يلتزم وجهة المحدِّثين في الاهتمام الذي ينصبُّ على الإسناد حيث يُثبته في معظم الأحيان في الروايات، يقول في هذا الشأن في مقدمة تاريخه: "وليعلم النَّاظرُ في كتابنا هذا أنَّ اعتمادي في كلِّ ما أحضرت ذكره فيه، إنما هو على ما رويتُ من الأخبار التي أنا ذاكرُها فيه، والآثار التي أنا مُسندُها إلى رواتها فيه، دون ما أُدرك بحجج العقول واستُنبط بفكر النفوس.. إلا القليل اليسير منه".
وهكذا أكد الإمامُ الطبريُّ حرصه على إسناد كل خبرٍ إلى قائله، وأنه سوف لن يسمح لحجج العقول وفكر النفوس أن تتدخَّل في التَّفسير والاستنباط، في الكتابة والتَّدوين أثناء جمع المادة، وما ذاك إلا حرصاً منه على جمع ما قيل كلُّه أو جلُّه من وجهات نظر متعددة إن كانت، وبعد ذلك يكون محصل الموازنة والمقارنة، والاستنباط والقبول والرد لمن يريد.
ولما كان تاريخ صدر الإسلام -خصوصاً فترة الفتنة- أكثر حساسيَّةً من غيره، إذ فيه رواياتٌ أملتها عاطفة الرواة أو الاتجاهات السياسية أو اختلاف وجهات النظر والفهم، ونظراً لأن الروايات تتأثر بعوامل مختلفة كالنسيان والميول والنَّزَعات فيصعب الجزم بدقتها وسلامتها، فإن هذا مما يجعل إبداءَ الرأي فيها أو إصدارَ حكم بشأنها يبدو معقَّداً للغاية.
ولهذا قام الإمام الطبري -رحمه الله- وهو يعرض وجهات النظر المختلفة لرواته ومصادره باتِّباع طريقة جمع الأصول وتدوينها على صورة روايات، المسئولُ عنها رجالُ السَّند أي الرواة الإخباريُّون. وقد برهن على ذلك في قوله: "فما يكُن في كتابي هذا من خبرٍ ذكرناهُ عن بعض الماضين مما ينكره قارؤه أو يستقبحُه سامعه، من أجل أنَّه لم يعرف له وجهاً في الصِّحَّة ولا معنىً في الحقيقة، فليعلمْ أنَّه لم يؤتَ في ذلك من قبلنا، وإنما أُتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنَّا إنَّما أدَّينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا".
ومن منهجه أيضاً الحياد، فهو يعرض مختلف وجهات النَّظر دون تحزُّب أو تعصُّبٍ، وإن كان له رأيٌ خاص فيظهر أحياناً في اختياره للروايات وإيراد بعضها وترك البعض الآخر، مُتجنِّباً إعطاءَ حكمٍ قاطعٍ في القضايا التي يتعرَّض لها، حتى إنه لا يفضل روايةً على أخرى إلا نادراً.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وقد أدَّى به التزامُ هذا المنهج إلى الحرص على إيراد الرِّوايات المختلفة للحادث أو الخبر الواحد، وعند المقابلة بين الرِّوايات يَستعمل تعبير: "واختُلف في كذا" ثم يُعقِبه باستعراض الروايات المختلفة لرواته، إلا أنَّ النقد والمقابلة يظهرُ جلياً في عدد من الأخبار التي ترد في نهاية الحوليات كالوفيات والغزوات الصيفيَّة، وتعيين ولاة الأقاليم وأمراء الحج، وهكذا إذا كان للحادث رواياتٌ مختلفة اعتقد الإمام الطبري بوجوب ذكرها لتكتمل الرؤية عنه. لكن مع اجتهاده في تدوين كل ما يمكن تدوينه من الروايات والأقوال من الخبر الواحد، فإذا وصل إلى موضوع مطوَّل مختلَفٍ فيه قَطَعَهُ؛ ليذكر مواضع الاختلاف مشيراً إليها.
فإذا ما انتهى منها عاد إلى المتن -أي إلى الموضع الذي وقف عنده- فيُمهد للكلام بإشارة تدلُّ على استئنافه، وهذه الطريقة قد تربك القارئ، فتُنسيَه الحادث الأصلي، إذ تُشكل عقبةً أماميَّةً أمام الوحدة الموضوعية للحادثة التاريخية، وربما كان الأفضلُ عرضَ كل رواية عرضاً متكاملاً من أولها إلى آخرها، الواحدة تلو الأخرى، وبهذا العرض الكامل تتكون لدى القارئ فكرة واضحة عن الموضوع وعن الأوجه المختلفة فيه، فيستطيع أن يوازن بين جميع الآراء، ويُرجعَ بعضها على بعض، فتتكون بذلك لديه نظرة إيجابية عن الموضوع، والجدير بالذكر أنَّ الإمام ابن الأثير قد استدرك هذا الأمر تحديداً على أستاذه الطبري، وراعي تلافيه عند كتابته لتاريخه الشهير بالكامل، لذلك جاء كتابُ الكامل في التاريخ أجود وأقوى بحثيَّاً وتاريخيَّاً من تاريخ الإمام الطبري.
و قد راعى الطبري التسلسل الزمنيَّ عند ذكره للأحداث والوقائع، ووقف بكتابه عند سنة 302 هجرية، أي قبل وفاته بعدة سنوات، فيذكر أهم الأحداث والوقائع في كلِّ عام على حدة، وبالنسبة للأخبار التي لا ترتبط بزمن معين كالسِّيَر مثلاً، فقد كان يختم بها الحديث عن كل خليفة عند وفاته، فبعد أن يذكر الأحداث في عهده مرتبة على السِّنين يختمها باستعراض سيرته دون التقيد بعامل الزمن.
وما يذكر أن الإمام الطبري لم يتقيد بطريقة الحوليَّات في كل كتابه، وإنما اتَّبعها في الحوادث الخاصة بتاريخ الإسلام، أما في القسم الرابع - أي منذ الخليقة إلى الهجرة - فقد اتبع منهجاً آخرَ في عرض الحوادث، فلم يرتبها على حسب وقوعها عاماً بعد عام، إذ كان ذلك متعذِّراً، ولكن سار على النَّهج الذي سلكه أكثر المؤرخين القدماء بالبدء بالخليقة ثم بالأنبياء ثم التعرض للحوادث التي وقعت في أيامهم، وذكر الملوك الذين كانوا يعاصرونهم وأخبارهم، وكذلك الأمم المعاصرة لهم والتي جاءت بعدهم، إلى ظهور الإسلام وبعثة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
ويُكثر الإمام الطبري في تاريخه من تسجيل النصوص التاريخية من رسائلَ وخطبٍ ومحاوراتٍ ولا سيَّما الشعر؛ رغبة في توثيق الحوادث أو التشويق إليها. كما أنه حاول ضبط النصوص التي يرويها دون تبديل أو تغيير إلى درجة أنَّه كثيراً ما تَبقى الكلمات والألفاظ غيرُ العربية كما هي.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
أما منهجه في إثبات المصادر، فإنه إذا ما نقل من كتابٍ ما فإنه قلَّما يذكر عنوانه، وإنما يذكر اسم مؤلفه كقوله مثلاً: "قال الواقدي" أو "قال أبو مخنف" وإذا سمع من أحدٍ مشافهةً قال: "حدَّثني فلان".. فإذا اشترك مع راوٍ محدِّثُه في السَّماع آخر أو آخرون قال: "حدَّثني فلان قال.. حدَّثنا فلان وفلان".. ثم سلسل السند إلى مصدره الأصلي، وكان يعتمد أحياناً على المراسلات، وقد حرص في الغالب على السَّند المتصل إلا في بعض المواقع. وكان يضع العناوين لأحداثه وخاصَّة المهمة منها في بداية كلامه عن بدء كل سنة تحت عنوانٍ عامٍّ مثل قوله: "ثم دخلت سنةٌ خمسٍ وثلاثين، ذكر الخبر عمَّا كان فيها من الأحداث المشهورة" أما الأحداث الصغيرة التي لا تتجاوز بضعة أسطر، فإنه يذكرها متعاقبة تحت عنوان: "ثم دخلت سنة كذا، وذكر الأحداث التي كانت فيها".
أما فيما يتعلق بعدالة الرُّواة، فإذا كان الإمام الطبري لا يتقيَّد بالقيود التي تمسَّك بها أهل الحديث بالنسبة إلى الرواة الضُّعفاء، فأدخل في تاريخه أقوال الكلبيِّ وابنه هشام والواقدي وسيف بن عمر وأبي مخنف وغيرهم من الضُّعفاء المتَّهمين بالكذب والوضع في الحديث، فإنَّ ذلك يرجع إلى اتِّباعه منهجاً معلوماً عند علماء الحديث وغيرهم، حيث يذكرون ما يبلغهم ويسوقون سنده، فالصحيح يؤخذ وغير الصحيح يُعرف ويُردُّ وفق ضوابط الشريعة وقواعد الرواية..وهكذا ،لم يكن الإمام الطبري بذلك العمل مغفلاً أو جاهلاً عندما يورد مئات الروايات عن الضُّعفاء والمتروكين، لكنه يتبع منهجاً مرسوماً عند علماء الجرح والتعديل: لا يَلزم من إيراد أخبار المتروكين والضُّعفاء وتدوينها في كتاب من الكتب للاحتجاج بها كقولهم: "يُروى حديثُه ولا يُحتج به" و"يُذكر حديثُه للاعتبار"، "يُكتب حديثه للمعرفة"، "ولا يجوز الرِّواية عنه إلا للخواصِّ عند الاعتبار"، ولكون الإمام الطبريِّ من علماء الحديث فقد سار على هذا النَّهج في تاريخه، فهو ليس صاحبَ الأخبار التي يوردُها بل لها أصحابٌ آخرون أبرأ هو ذمَّته بتسميتهم، وهؤلاء متفاوتون في الأقدار، وأخبارهم ليست سواءً في قيمتها العلميَّة، ففيها الصَّحيح والضَّعيف الموضوع، تبعاً لصدق الرُّواة أو كذبهم ومنزلتهم من الأمانة والعدالة والتثبت، ولذلك ينبغي دراسة أسانيد ومتون الروايات وفق المقاييس المعتبرة عند العلماء للوقوف على مدى صحتها من عدمه.
وبناءً على ذلك: لا يكفي في المنهج العلميِّ السليم الإحالةُ على تاريخ الإمام الطبري أو غيره من الكتب المسندة دون دراسة سند الرواية ومتنها، لأنَّ من أسند فقد برئ من العُهدة.
ومما يُلاحظ أيضاً أن الطبري لم يُرد الاقتصار على المصادر الموثوق بها، بل أراد أن يُطْلعَ قارئهُ على مختلف وجهات النظر، فأخذ من مصادرَ أخرى قد لا يثق هو بأكثرها، إلا أنها تُفيد عند معارضتها بالأخبار القوية؛ فقد تكمَّل بعضُ ما فيها من نقص، أو تقوَّى الخبر باشتراكها مع المصادر الصَّحيحة في أصل الحادثة.
فهذا كان منهجَ الإمام الطَّبريِّ في كتابة التاريخ، وأمَّا الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم أو لجهلهم بمنهج الإمام الطَّبريِّ ولا يتعرَّفون إلى رواتها ويكتفون بالإشارة في الحاشية إلى أنَّ الطبريَّ روى في صفحة كذا من جزء كذا.. ويظُنُّون أنَّ مهمتهم انتهت بذلك، فهؤلاء قد يَظلمون الإمام الطبريَّ بذلك ويُسيئون إليه، وهو لا ذنبَ له بعد أن بَيَّنَ لقرائه مصادرَهُ، وعليهم معرفةُ نَزَعات وأحوال أصحاب هذه المصادر؛ ليعرفوا للأخبار أقدارها بوقوفهم على أقدار أصحابها. وهذا المنهج لا يمكن استعماله إلا عن طريق الإلمام بعلم الجرح والتعديل الذي يهتمُّ بفحص أحوال الرُّواة ويُبيِّن شروط الانتفاع بأخبارهم، كما ينبغي أيضاً مراعاة المقاييس التي وضعها العلماء في نقد متون الأخبار، وخصوصاً وضع الملامح العامة للمجتمع الإسلامي وطبيعته في الحسبان، ويُعتبر ذلك كلُّه من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي.
محنتُه ووفاتُه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
كان ابن جرير الطَّبريُّ من أكبر علماء الوقت، محبوبًا من الجميع، مُجمعًا على إمامته بين الناس، من رجالات الكمال، وكلُّها صفاتٌ حميدة وعظيمة تحتاج إليها الأمة، ولكنَّها عادة ما تجلب لصاحبها الكثيرَ من المتاعب مع الأقران والمتنافسين، والذين تسللت الغَيرة إلى قلوبهم تجاه أمثال هؤلاء الأعلام المحبوبين، وهذا هو عينُ ما وقع للإمام ابن جرير الطبري.
كان المذهب الحنبليُّ هو المذهب السائد بأرض العراق خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين، وذلك بفضل صمود الإمام أحمد -رحمه الله- في محنة خلق القرآن، وهذا الصمود أعلى من شأن الحنابلة ورفع قدرهم في أعين الناس والعامة، وأقبلوا على تعلُّم العلم وفقًا للمذهب الحنبليِّ، حتى أصبح الحنابلةُ أغلبيَّةً بأرض العراق، وكان رأسُ الحنابلة بالعراق الإمامَ أبا بكر محمد بن الحافظ أبي داود صاحب السُّنن، وكانت بينه وبين الإمام ابن جرير الطبري مشاحناتٌ وخلافات، وكلاهما لا يُنصف الآخر، ووقع بينهما ما يقع بين الأقران في كلِّ عصر ومكان، ولو وقف الخلافُ بين الرجلين عند هذا الحدِّ لكان الأمر هيِّنًا يسيرًا، لتوافر أمثال هذه الخلافات في كل عصر، ولكن هذا الخلاف قد أخذ منحنىً جديدًا حتى تحوَّل إلى محنةٍ كبيرة للإمام ابن جرير الطَّبريِّ.
ذلك أنَّ الحنابلة حزبَ أبي بكر بن أبي داود قد دفعهم التعصبُ المذهبيُّ المقيت لأن يُشنِّعوا على ابن جرير ويُشيعوا عليه الأكاذيب والأباطيل التي هو منها براء، بل هو مِن أبعد الناس عمَّا اتهموه به؛ ذلك أن الحنابلة قد أشاعوا على الإمام الطَّبري أنَّه من الروافض، ورمَوه بالتَّشيُّع والإماميَّة، وشغبوا عليه بشدة، وصدَّقهم كثيرٌ ممَّن لا عقول لهم إلا في آذانهم، وكان سببُ هذا الرَّواج وانتشارُ هذه الشَّناعات عدةُ أمور منها:
1ـ جَمْعُ ابن جرير الطبري لطرق حديث "غدير خم"، وذلك في أربعةِ أجزاءٍ باهرة تدل على سعة علمه ومرويَّاته، وهو الحديث الشهير: "من كنتُ مولاه، فعليٌّ مولاهُ" وهو الحديث العُمدة عند جميعِ طوائف الشِّيعة، الَّذين يستدلون به على أحقِّيَّة عليِّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وبنيه في الخلافة، وهو حديث صحيح لا شكَّ فيه، ولكن لا دلالةَ فيه على أحقِّيَّة عليٍّ -رضي الله عنه- في الخلافة، وتأويله يختلف بالكلية عما ذهب إليه الروافض الجهلة، وكان السبب وراء جمع ابن جرير لطرق هذا الحديث؛ هو قيامُ أبي بكر بن أبي داود وغيره من علماء الحنابلة بتضعيف هذا الحديث، ومن باب الأمانة العلميَّة وليس من باب الميل للتَّشيُّع أو التأثر به قام الإمام الطبري بجمع طرق الحديث، وقد أقرَّ أبو بكر بن أبي داود بعد ذلك بصحَّة حديث الغدير.
2ـ الأمرُ الثاني، والذي كان سببًا لتصديق كثيرٍ من البسطاء والعامة لفرية تشيُّع الطبري، يرجع إلى وجود عالم من علماء الشِّيعة الإمامية يحمل نفس الاسم ونفس الكُنية، وهو أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري، وكان من كبار الروافض، وقد صنَّف كتبًا كثيرة في ضلالات التَّشيُّع مثل كتاب "المسترشد في الإمامة" و"الرُّواة عن أهل البيت"، وقد أدى هذا التشابه العجيب لخلط الناس بين الرَّجلين، وشتَّان ما بينهما، ولقد أحسن الإمامُ الذهبي -رحمه الله- صنعًا عندما أورد ترجمة الطبريِّ الرَّافضيِّ مباشرةً خلف ترجمة جبل السنة ابن جرير الطبري، حتى لا يختلط الأمر على الناس، وللتَّمييز بين الرجلين.
3ـ الأمر الثَّالث هو قيام الإمام ابن جرير الطبري بتأليف كتابٍ ضخم في اختلاف العلماء، ولم يذكر فيه الإمام أحمد بن حنبل، على أساس أنه من كبار المحدِّثين، فظنَّ الحنابلة أنَّ الطبريَّ قد تعمَّد ذلك للتقليل من شأن فقه الحنابلة، فشغبوا عليه، وأطلقوا بحقِّه العظائم والفظائع، ولعلَّ ذلك هو السبب الرئيس في محنة الطَّبريِّ واضطهاد الحنابلة له.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هذه الأمور وغيرُها جعلت فصول المحنة تشتد، وتضيق حلقاتها على الإمام الطبري؛ فبعد هجمة شرسة من الشائعات الشنيعة والأباطيل والأكاذيب بحقِّ هذا العالم الجليل، قام الحنابلة بالتشويش على الطبريِّ في مجالسه، وتنفير الطلبة من مجالسه، ومع ذلك ظلَّ الإمام صابرًا محتسبًا مواظبًا على الدرس لا ينقطع عنه، حتى قام الحنابلة ذات يوم بسبه وشتمه أثناء الدرس، وأقاموه بالقوة من حلقة الدرس ومنعوه من الجلوس للتدريس، وألزموه القعود في بيته.
نقل الطبري دروسه إلى بيته فكان يجتمع مع طلبة العلم في بيته، فأغاظ ذلك الأمر الحنابلة بشدة، فدفعهم التعصب المذهبي المذموم لأبعد دركات الغلوِّ والظلم، حيث قاموا بمحاصرة بيت الطبري ومنعوه من الخروج من بيته، ومنعوا طلاب العلم من الدخول عليه، حتى إنَّ كلَّ طلاب العلم والحديث الذين دخلوا بغداد سنة 309هـ لم يجتمعوا به ولم يروُوا عنه شيئًا بسبب طغيان جهلة الحنابلة، ومنهم الإمام حسنيك بن عليٍّ دخل بغداد ولم يكتب شيئًا عن الطَّبريِّ، وعندما علم أستاذُه ابن خزيمة ذلك قال لتلميذه حسنيك: "ليتك لم تكتب عن كلِّ من كتبت عنهم، وسمعت من أبي جعفر، وبئس ما فعلتِ الحنابلة بحقه".
ظلَّ الطبري حبيسًا في بيته يُعاني من الاضطهاد الشَّديد، ولا يدخل عليه أحد إلا القليل من خاصَّته، وكان قد جاوز الخامسة والثَّمانين وأنهكته السنون، ورحلاتُ طلب العلم في شتَّى بقاع الأرض، وزادت المحنة من آلامه وأوجاعه، والجهلة والمتعصبون لا يردُّهم شيء، لا مكانةٌ علميَّةٌ ولا كِبَرُ سنٍّ، ولا مؤلفات ومصنفات عظيمة في التفسير والتاريخ وغيرهما، وظل الجهلة محاصِرين لبيت الطبريِّ حتى حان وقتُ الرَّحيل في شوال سنة 309هـ، وقد ظلَّ الطبري يردد الشهادة قبل موته عدة مرات، ثم مسح يده على وجهه وغمض بصره بيده، وبسطها وقد فارقت روحه الحياة.
وبلغت المحنةُ أوجها ووصل التعصب إلى ذروته، وظلَّ الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحابَ الطبريِّ لأن يدفنوه في صحن داره برحبة يعقوب ببغداد، ولم يخرج الطبري من حصاره حتى بعد موته، ولكن هذا الحصار والتعصب المقيت لم يمنع الناس أن يأتوا إلى بيته للصَّلاة عليه حتى إنَّ الناس ظلوا عدة شهور يصلون على قبره ليلاً ونهارًا.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
رحل الطبريُّ عن دنيانا الفانية محاصرًا مظلومًا مضطهدًا من الجهلة والمتعصبين، وراح ضحية محنةٍ مقيتة، وإن كان خصومه قد نالوا من دنياه، فإنه ولا شك قد نال من آخرتهم، وقد رفع الله عز وجل ذكره بين الناس وقام له سوق الثناء والفضل والدعاء ولم ينفضَّ، في حين باء الجهلة والمتعصبون بالخسران والنكران في الدنيا والآخرة.
المراجع والمصادر
سير أعلام النُّبلاء،
البداية والنِّهاية،
الكامل في التَّاريخ،
المنتظم، تذكرة الحفَّاظ،
طبقات الشَّافعيَّة، وَفَيَات الأعيان،
شذرات الذَّهب، النُّجوم الزاهرة،
الإمام ابن جرير شيخ المفسرين للزحيلي،
أخبار ابن جرير للقفطي ،
التَّفسير والمفسرون للذَّهبيّ،
منهجُ الطَّبريِّ في التَّاريخ أمحزون.
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 07-03-2025 11:04 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة الإمام أبي حنيفة
شريف عبدالعزيز الزهيري
(7)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

بين يدي المحنة:
من أهم الصفات والشمائل التي يجب أن يتحلى بها العلماء الربانيون في هذه الأمة هي صفة الإخلاص في طلب العلم وتعليمه ونشره بين الناس، وهي الصفة التي تجعل العالم لا يطلب بعلمه شيئًا من أمور الدنيا، ويبتغي وجه الله عز وجل في كل كبيرة وصغيرة من علمه وأقواله، وبالمقابل فإن من أبرز صفات علماء السوء: طلبهم الدنيا بالدين، ففي ظل غياب الإخلاص عن قلب العالم نجد البعض - ممن ينتسب إلى العلم - منغمسًا في الدنيا وشهواتها وملذاتها، ونجده يسترزق بعلمه، ويطلب به المناصب والضياع والأموال، ويتحصل من الدنيا بعلمه على أكبر نصيب، بل هو لم يسلك طريق العلم أصلا إلا لينال به من متاع الدنيا، وهذا في شأنه قال خير البرية عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَي بِهِ وَجْهَ الله، لا يَتَعَلَّمُهُ إلا ليُصِيبَ بهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ)) [صحيح الجامع 6159] .
وصاحبنا الذي نتحدث عنه من الصنف الأول، من العلماء الربانيين الذي كانوا من أزهد الناس، وأتقاهم وأورعهم، من العلماء العاملين، الذين فروا من زخارف الدنيا، وفروا من المناصب، وكانت الدنيا تتزين لهم فيرفضوها، وتتعرض لهم فيطردوها، وتلاحقهم فيفروا منها كما يفر الواحد من الأسد، صاحبنا هذه المرة رفض الدنيا ومناصبها، وأبى أن يضع نفسه موضع الفتن والشبهات، وأبت عليه نفسه أن يكون مطية للسلاطين والحكام، وأصر على ذلك، حتى راح ضحية ثباته وإصراره على رفض المناصب والزخارف، فصار إمامًا من أعظم أئمة الإسلام: صاحبنا هو الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، ورحمه الله.
التعريف به:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هو الإمام المقدم، وفقيه الإسلام، وعالم العراق، وأستاذ مدرسة الرأي، والعَلَمُ العلاَّمة، والبحر الفهامة أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي الكوفي، ولم يكن أصلا من العرب، بل من أبناء الفرس، ومن موالي بني تيم الله بن ثعلبة.
ولد أبو حنيفة سنة 80هـ بالكوفة: أي في حياة صغار الصحابة، ولكن لم يثبت له أيه رواية، ولو حرفًا واحدًا عن أحد منهم، طلب العلم صغيرًا، ولزم حلقة حماد بن أبي سليمان ثماني عشرة سنة، وقد آلى على نفسه ألا يفارق حمادًا حتى يموت، أو يستوفي منه كل علمه، ومع شدة ملازمته لحماد بن أبي سليمان، جلس لغيره من أئمة الزمان الأعلام: مثل عطاء بن أبي رباح عالم مكة وفقيهها، والشعبي عالم العراق، وعبد الرحمن بن هرمز عالم المدينة، ونافع مولى ابن عمر، وعلقمة والزهري محدث الزمان، ومحمد بن المنكدر، وهشام بن عروة، وغيرهم كثير، ولم يكن يأنف أن يروى، أو يطلب العلم من أحد، حتى ولو كان أصغر منه، حتى إنه قد روى عن شيبان النحوي وهو أصغر منه، وعن مالك بن أنس وهو كذلك أصغر منه، وهكذا شأن كل من طلب المعالي، وسلك سبيل الربانيين.
ولما مات حماد بن أبي سليمان سنة 120هـ جلس أبو حنيفة مكانه في حلقة الدرس بجامع الكوفة، وكان وقتها في الأربعين من عمره، وقد بلغ حد الكمال العلمي والذهني، فتصدر وهو كهل، وكان تاجرًا يعمل في بيع الخز، فإذا قضى حاجته من التجارة جلس للعلم والتدريس والإفتاء، حتى فاق أهل زمانه جميعًا، وصار علمًا مقدمًا في الفقه وغيره، وقد أرسى دعائم مدرسته الرأي في الفقه الإسلامي، وصار أستاذ القياس الأول بلا منازع.
خصاله:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
لم يكن الإخلاص وحده، أو الإعراض عن الدنيا ومناصبها وزخارفها هو أهم ما يميز الإمام أبو حنيفة، بل كان من رجالات الكمال في العلم والعمل، موصوفًا بكل فضل؛ فلقد كان عالـمًا عاملا، جمع بين العلم والعبادة، فكان يصلي العشاء والصبح بوضوء واحد أغلب حياته، يطيل الصلاة جدًا مع الخشوع والسكينة، حتى لقب بالوتد لطول صلاته، وكان ممن قرأ القرآن كله في ركعة كما فعل ذلك من قبل ذو النورين عثمان رضي الله عنه، وكان يحيي ليله كله تضرعًا ودعاءً، وقد تواتر هذا الأمر عند أهل زمانه جميعًا، أما عن مجالسه فلقد كان حليمًا وقورًا، هيوبًا، لا يتكلم إلا جوابًا، ولا يخوض رحمه الله فيما لا يعنيه، كافًا لسانه عن النيل من خصومه الذين كانوا يطيلون الكلام فيه بسبب الرأي، معرضًا عن زلات الآخرين، لا يجاري أحدًا فيما لا ينفع ولا يغني، وقد جعل على نفسه إن حلف بالله صادقًا أن يتصدق بدينار، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها، يكثر من الإنفاق على إخوانه وتلاميذه، بل وأهالي تلاميذه.
وكان أبو حنيفة ورعًا تقيًا، متحرزًا من مواطن الشبهة والمظنة، ولعل هذا الورع الذي أورثه محنته التي قضى فيها رحمه الله، ولقد قال له رجل يومًا: اتق الله، فانتفض واصفَّر وأطرق، وقال: جزاك الله خيرًا، ما أحوج الناس في كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا.
ثناء الناس عليه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
يعتبر أبو حنيفة الإمام الأول في ترتيب الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتبوعة، والتي ظلت قائمة حتى وقتنا الحاضر، وإلى أن يشاء الله عز وجل؛ لذلك لقبوه بالإمام الأكبر والأعظم، ورغم وجود علماء فحول في زمانه وقبله، ربما يفوقونه علمًا ورواية إلا أنه قد استطاع أن يرسى دعائم مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي، ويكون مذهبًا معروفًا، له أصول وضوابطه وأحكامه وتلاميذه، وإن كان الفضل في انتشار مذهبه يرجع إلى مجهودات تلميذه الأول القاضي أبي يوسف، أما عن ثناء الناس عليه فكثير، يخرج عن حد الحصر، وهذه طائفة من كلامهم:
• قال ابن المبارك: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس، وما رأيت رجلا أوقر في مجلسه، ولا أحسن صمتًا وحلمًا من أبي حنيفة.
• قال الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة.
• قال الإمام مالك: رأيت رجلا - يعني أبا حنيفة - لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته.
• قيل للقاسم بن معن: ترضى أن تكون من غلمان أبي حنيفة؟ قال: ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مجالسة أبي حنيفة.
• قال تلميذه أبو يوسف: كان أبو حنيفة ربعة، من أحسن الناس صورة، وأبلغهم نطقًا، وأعذبهم نغمة، وأبينهم عما في نفسه.
• قال شريك: كان أبو حنيفة طويل الصمت، كثير العقل.
• قال يزيد بن هارون: ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة.
• قال أبو معاوية الضرير: حب أبي حنيفة من السنة.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• قال الذهبي: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام (يعني أبا حنيفة).
• قال يحيى بن سعيد القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأى أبي حنيفة، وقد أخذنا أكثر أقواله.
• قال علي بن عاصم: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم.
• قال حفص بن غياث: كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر، ولا يعيبه إلا جاهل.
• سئل ابن المبارك يومًا: مالك أفقه أو أبو حنيفة؟ قال: أبو حنيفة أفقه الناس.
• وسئل الأعمش عن مسألة فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت الخزاز، وأظنه بورك له في علمه.
• والآثار الواردة في فضله ومكانته العلمية وثناء الناس عليه كثيرة جدًّا، لا يتسع المقام هنا لسردها، واكتفينا بما ذكرناه للتدليل على مكانة الإمام.
محنته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• الإمام أبو حنيفة عاصر عهدين مختلفين ومتتابعين في حياة الأمة الإسلامية: العهد الأول عهد الدولة الأموية المجاهدة، وفيه وُلد الإمام، ونشأ وترعرع، وتعلم ودرس، وطاف البلاد، وجالس العلماء الكبار، وفيه أيضًا بلغ حد الإمامة والتصدر، وصار له تلاميذ وأتباع، وأصبح من جملة علماء الأمة الكبار والمعروفين، والذين يرجع إلى رأيهم، ويفزع إلى علمهم وقت النوازل والمحن.
أما العهد الثاني فهو عهد الدولة العباسية، التي قامت على أشلاء الدولة الأموية، والتي سفكت الكثير والكثير من الدماء من أجل إزاحة الأمويين، وكشأن أية دولة تقوم قسرًا على أنقاض سابقتها، شهدت الدولة العباسية في بداية عهدها العديد من الثورات الكبيرة ضدها من أولياء الدولة السابقة، أو من الناقمين على أسلوب وطريقة قيام وحكم الدولة الجديدة.
• وفي هذا الجو المتوتر، والمليء بالفتن والاضطرابات تجد الشائعات البيئة الخصبة للرواج والانتشار، ويجد الوشاة والحاقدون والحاسدون الآذان المصغية لأكاذيبهم وافتراءاتهم، ومن هنا كانت محنة الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
• فعندما اندلعت ثورة النفس الزكية سنة 145هـ بقيادة أخوين من آل البيت: هما محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن، استطاعت هذه الحركة أن تسيطر على المدينة والبصرة والكوفة، وأجزاء من الدولة العباسية، وكانت هذه الثورة من أشد و أقوى الثورات التي قامت على الدولة العباسية أيام الخليفة أبي جعفر المنصور، والذي بذل مجهودات ضخمة من أجل القضاء عليها، وخلال هذه الثورة راج بين الناس أن الإمام أبا حنيفة بالعراق والإمام مالك بالمدينة يؤيدان هذه الثورة، وكان الإمامان من أكبر علماء العصر وقتها، فلما انتهت الثورة انتهز الوشاة والحاقدون الأمر، وأخذوا في تأليب الخليفة المنصور على العالمين الجليلين، وقد مر بنا أثناء الكلام على محنة الإمام مالك تفاصيل ما جرى له، أما ما جرى مع الإمام أبي حنيفة أشد وأقسى جرمًا.
• فلقد كان الإمام أبو حنيفة - كما ذكرنا من قبل- عازفًا عن المناصب الدنيوية، وخاصة المناصب التي يكون صاحبها قريبًا من السلطة الحاكمة، وخاضعًا لتأثيراتها وضغوطها، لما يعلمه من حجم المخالفات التي سيقع فيها صاحب المنصب من أجل إرضاء السلطة الحاكمة: إما رهبة، وإما رغبة، لذلك لما عرض ابن هبيرة والي العراق في أيام الخليفة الأموي يزيد بن الوليد - الملقب بالناقص - على الإمام أبي حنيفة منصب القضاء بالكوفة رفض أبو حنيفة بشدة؛ فهدده ابن هبيرة بالضرب والحبس، ومع ذلك أصر أبو حنيفة على الرفض، فما كان من ابن هبيرة إلا أن ضربه وجلده؛ فلم يُزِدْ ذلك الضرب أبا حنيفة إلا إصرارًا على الرفض، وعندما تركه ابن هبيرة، وعين آخر مكانه أدت هذه الحادثة لارتفاع مكانة أبي حنيفة بين الناس، وعلا شأنه بين علماء الزمان.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• ولما انتهى الخليفة أبو جعفر المنصور من ثورة النفس الزكية، وفعل ما فعله مع الإمام مالك في المدينة، التفت لمن حامت عليهم الشائعات، ودارت حولهم الأقاويل في اشتراكهم في ثورة النفس الزكية، أو حتى في تأييدهم لها، وعلى رأس هؤلاء الإمام أبو حنيفة، فطلبه إلى بغداد، فحُمِلَ الإمام إلى هناك، وفي مجلس الخليفة المنصور، دعا المنصور أبا حنيفة إلى منصب القضاء - وهو يعلم علم اليقين أن الإمام سيرفض تمامًا - كما فعل من قبل مع الأمويين وواليهم ابن هبيرة، وإنما أراد المنصور بهذا العرض أن يختبر مدى طاعة وولاء أبي حنيفة للدولة العباسية، وفي مجلس المنصور دار الحوار الفريد بين الخليفة المستبد، والإمام الكبير:
فعن مغيث بن بديل قال: دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع، فقال المنصور: أترغب عما نحن فيه؟ [أي يشكك في طاعة الإمام للدولة].
فقال أبو حنيفة: لا أصلح.
فقال المنصور وقد احتد: كذبت.
فقال أبو حنيفة: فقد حكم أمير المؤمنين على أني لا أصلح!!
ثم استخدم أبو حنيفة مهارته الفائقة في الإقناع والقياس فقال: فإن كنت كاذبًا فلا أصلح [يعني لكذبه]، وإن كنت صادقًا، فقد أخبرتكم أني لا أصلح.
وعندها غضب أبو جعفر المنصور بشدة، وأقسم بأغلظ الأيمان ليلينَّ الإمام منصب القضاء، وكان من الطبيعي أمام هذا الغضب، وهذه الأيمان المغلظة، وسطوة الخلافة أن يرضخ أبو حنيفة لكل هذه الضغوط ويوافق، ولكن أبا حنيفة العالم الرباني، الذي لا يبالي إلا بسخط الله عز وجل وحده وغضبه، والذي يعلم عواقب أمثال هذه المناصب المشروطة يرد على الخليفة المنصور قسمه بقسم أغلظ، ويمين أوكد، ويقسم أبو حنيفة ألا يلي هذا المنصب الخطير، ومع قوة رد الإمام لم يستطع الخليفة المنصور أن يرد، وعندها يتدخل الربيع حاجب الخليفة المنصور في الحوار لعله يستطيع إثناء أبي حنيفة عن رأيه، ويقول للإمام أبي حنيفة مهددًا: ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف؟ فرد أبو حنيفة بهدوئه ووقاره وفطنته المعهودة: أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني، وهو بذلك يؤكد على إصراره، ورفضه لمنصب القضاء، وأنه مهما كانت الضغوط، ومهما كانت شخصية صاحب هذه الضغوط وسطوته فلن يرضخ الإمام.
• عندها قرر الخليفة المنصور أن يُصعد ضغوطه على الإمام؛ فخيره بين قبول القضاء أو السجن، وكأنا بالخليفة المنصور قد تأكدت عنده الشائعات التي راجت حول دعم أبي حنيفة لثورة النفس الزكية، وأراد أن ينكل بالإمام ويؤدبه بشدة كما حدث مع الإمام مالك؛ فأصر أبو حنيفة على الرفض، ولسان حاله يقول: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، فأمر المنصور بضربه أولا، ثم حملوه في القيود إلى سجن بغداد.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• وفي السجن المظلم عانى الإمام أبو حنيفة من التضييق والتشديد، وأيضًا من التهديد بالقتل يومًا بعد يوم، وقد أمر الخليفة المنصور بالتشديد على الإمام، وكان وقتها على مشارف السبعين، وقد وهن جسده، وحطمته دروس العلم، وسؤالات الناس، ومع ذلك لم يتراجع أبو حنيفة عن قراره، ولم تلن عزيمته قيد أنملة، ولكن إن صمد قلبه وروحه وعزيمته وإيمانه أمام كل هذه الضغوط فإن الجسد الواهن لم يصمد كثيرًا؛ فتوفي الإمام أبو حنيفة في سجنه في رجب سنة 150هـ، وصعدت روحه إلى بارئها وهي في قيود السلطان لتخاصمه يوم القيامة أمام المحكمة الإلهية يوم لا ينفع مال ولا بنون، وقد قيل: إن المنصور قد دس على الإمام أبي حنيفة من وضع له السم في السجن، وإن صح الكلام فقد توفى الرجل شهيدًا تقيًا، صابرًا محتسبًا، والله أعلم بما كان، وما سيكون.
• العجيب في هذه المحنة التي تعرض لها الإمام أنها كانت بسبب فرار الإمام من الدنيا ومن المناصب، وإننا لنعجب من حال هذا الإمام الرباني، الذي أقبلت عليه الدنيا بزخارفها، والمناصب تعرض عليه، ويهدد بكل وسيلة من أجل أن يكون من أصحاب المناصب العليا، ولكنه يرفض، ويؤثر الضرب والسجن، ثم الموت على أن يكون من الدنيا وأهلها، ونحن الآن نرى من ينتسب للعلم يتهافت على الدنيا والمناصب، ويلهث وراء الدنيا، ولا يبالي بأي شيء من أجلها، وهؤلاء عادة ما يكونون مطية للسلاطين والحكام، وهم بذلك أسوأ مثال للعلم والعلماء، وهذا هو الفرق بين العلماء الربانيين، والعلماء الدنيويين.
المصادر والمراجع
• سير أعلام النبلاء: (6/ 390).
• تاريخ بغداد: (13/ 323).
• البداية والنهاية: (9/ 115).
• الكامل في التاريخ: (5/ 192).
• وفيات الأعيان: (5/ 415).
• تذكرة الحفاظ: (1/ 227).
• النجوم الزاهرة: (2/ 12).
• تراجم أعلام السلف: (147).

كتاب: ترويض المحن – دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، والصادر عن دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م.




ابوالوليد المسلم 08-03-2025 10:38 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة الإمام مالك بن أنس
شريف عبدالعزيز الزهيري
(8)
https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

بين يدي المحنة:
هذه المحنة - مثلما سنذكر في حديثنا عن محنة الإمام البخاري رحمه الله - محنة قديمة جديدة، حيث ما زالت أمثالها وأضرابها تقع كل يوم، ولا يخلو منها عصر ولا جيل، وقل من يسلم من التلوث بأدرانها، ومحنة الإمام مالك - وإن كانت تختلف في فصولها عن محنة الإمام البخاري، إلا أنها أيضاً محنة قديمة جديدة، وما زالت تقع كل عصر وجيل، ولكن بأسماء ومواقف مختلفة، فمحنة الإمام مالك تتعلق بالدور المنوط لعلماء الأمة في بيان الحق، وتعليم العلم، وإرشاد الناس، خاصة وقت النوازل، والصبر على المكاره، واحتمال المشاق والصعاب من أجل إظهار العلم وعدم كتمانه في ظل تهديدات السلطة الحاكمة، وطلبها الدائم بكتمان هذا العلم
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
الذي قد يمثل إحراجًا وضغطًا على هذه السلطة، كما أن للحسد والحقد دور بارز في أحداث المحنة التي تعرض لها الإمام مالك رحمه الله، وهذه هي أحداث وفصول هذه المحنة الأليمة.
نشأة الإمام مالك ومكانته:
• كان مولد الإمام مالك بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهي مهبط الوحي، ودار الهجرة، ومعدن الرسالة، وفيها ظهر الحق، وقامت الدولة، ورفع منار الدين وانتشر، ومنها فتحت البلاد، وتواصلت الأجداد، وبها مثوى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيها البقيع: حيث رقد معظم أصحابه، والأخيار من المهاجرين الأولين، والأنصار المباركين، وفي المدينة كان الحق ناصعًا، والدين خالصًا، وعلى أنقابها ملائكة تحرسها حتى لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، وفيها الفقهاء السبعة المشهورين، ولم يزل الدين بها قائمًا، والسنة معلومة، والعلماء متوافرون، وفي هذه البيئة الإيمانية
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
والعلمية الخالصة ولد الإمام مالك، ونشأ وشب وترعرع، وبين جنباتها شق طريقه نحو حلق العلم والحديث، وجلس لأساطين العلم وقتها، وكان مالك غلامًا عاقلا، حافظًا ثبتًا، ضابطًا متقنًا برًا تقيًا، وقد جلس لابن هرمز عالم المدينة سبع سنين كاملة تأثر خلالها مالك بأستاذه ابن هرمز كل التأثر، ثم جلس لربيعة الرأي، ونافع مولى ابن عمر، وحمل عنه ثمانين حديثًا، وعرفت روايته عنه - مالك عن نافع عن ابن عمر - بالسلسلة الذهبية، ودار مالك على علماء زمانه، وسمع منهم، وما زال مالك يرتقي في سلم العلم حتى درج إلى عليائه، وصار إمام دار الهجرة، وعلمها المقدم، تضرب إليه أكباد الإبل من أقصى الأرض لسماع علمه، ونقل فتاواه ومسائله وآراءه، وحمل كثير من العلماء الحديث الذي أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الإِبلِ يَطْلُبُونَ العِلْمَ فَلا يَجِدُونَ عَالِمًا أَعْلَمُ مِنْ عَالِمِ المَدِينَةِ )) على الإمام مالك؛ حيث إنه لم يغادر المدينة أبدًا إلا للحج، وهو الذي كانت تأتيه طلاب العلم من كل مكان، وهو في المدينة لا يخرج منها، بل حاول عدة خلفاء من بني العباس: كالمهدي والرشيد إقناعه بالإقامة في بغداد، وهو يأبى عليهم، ولا يرى غير المدينة قصرًا ومقرًا.
وقد أثنى عليه كبار الأئمة: مثل الشافعي الذي كان يصف الإمام مالك بالنجم الثاقب، وقال عنه: لم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم: لحفظه، وإتقانه، وصيانته، وقد جعلت مالكًا حجة بيني وبين الله عز وجل.
وقال عنه أحمد بن حنبل: القلب يسكن إلى حديثه، وإلى فتواه، حقيق أن يسكن إليه، مالك عندنا حجة لأنه شديد الاتباع للآثار التي تصح عنده.
وقال عنه الليث بن سعد - وهو قرينه ونظيره في العلم، ولكنه لم يجد من يحمل عنه علمه - قال عنه: والله ما على وجه الأرض أحب إليَّ مالك، وعلم مالك علم نقي، ومالك أمان لمن أخذ به من الأنام.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وكان للإمام مالك منزلة رهيبة عند الناس تعدل، بل تفوق منزلة الخلفاء والأمراء والولاة، وكان مجلس درسه تحدوه السكينة والوقار والمهابة، لا يجرؤ فيه أحد على لغو أو لغط، وإذا سأل سائل فأجابه لم يسأل عن الدليل، ولا يطالب ببرهان، ولا يملك أحد أن يراجعه في جواب، حتى دخل على مجلسه يومًا أحد طلاب العلم الوافدين لسماع حديثه؛ فوحد مجلسًا عامرًا بالهيبة والسكينة، يعلوه الوقار فأنشد قائلا:



يدع الجواب فلا يراجع هيبة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والسائلون نواكس الأذقانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أدب الوقار وعزُّ سلطان التقى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فهو المطاعُ وليس ذا سلطانِ! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif





محنة الإمام مالك:
ولد مالك سنة 93، ومات سنة 179هـ: أي أنه أدرك بهذا العمر الطويل المبارك الدولتين الإسلاميتين: الأموية والعباسية، والتي كانت كل واحدة منهما تحكم باسم الخلافة، بينما الواقع أن كليهما كان مُلكًا عضوضًا، يتوارثه الأبناء عن الآباء، ويعضون عليه بالنواجذ، وهذه الطريقة في الحكم كان لها كثير من المعارضين والمخالفين، بعضهم بلسانه وقلمه، والآخر بسيفه وترسه، وهذه المعارضة الأخيرة - يعني المسلحة -
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
أخذت تتنامى شيئًا فشيئًا حتى قامت المعارضة العباسية بقلب الدولة الأموية، وإقامة دولتها مكانها؛ وذلك بعد ويلات وأهوال وشدائد ودماء مئات الآلاف التي تخضبت بها أرض خراسان والعراق والشام، وإن بقيت الحجاز بمنأى عن هذه الأحداث الملتهبة؛ فهي مستكينة، وتبع لمن غلب منذ أحداث الحرة الأليمة سنة 61هـ، هذه الأحداث المتلاحقة جعلت العباسيون يشتدون مع معارضيهم، حتى أنسوا الناس معنى العفو والصفح، فأدنى محاولة للخروج، أو التلويح به، أو حتى مجرد التلميح بالقول أو الفعل كان بنو العباس يقمعونها بمنتهى الشدة، ويأخذون البريء بالمذنب، والقاعد بالساعي، والبعيد بالقريب.
وبسبب هذه المضار والمفاسد العظيمة المترتبة على الخروج على الحكام لم ير مالك الخروج عليهم، وإن كانوا ظالمين وجائرين، هو مع ذلك لم يكن مداهنًا لخليفة ولا أمير، أو يكتم العلم من أجلهم، بل يلتزم معهم
الحياد، فهو وإن كان يلزم الجماعة والطاعة، لا يرى أن سياسة السلطان في عصره هي الحق الصراح الذي يتفق مع أحكام الإسلام، وهدى القرآن، بل يرضى بالطاعة لأن فيها إصلاحًا نسبيًا؛ فكانت طريقته في الإصلاح حسب ما ارتآه ألا يناصر أحدًا عند الفتن، ورغم ذلك، ورغم كره الإمام مالك للثورات والتحريض عليها إلا إنه لم يسلم من آذاها.
فبعد أن ارتفعت مكانة ومنزلة الإمام مالك عند الخاصة والعامة، حتى جلس الخلفاء بين يديه، وقرأ الأمراء له، وأخذ الخلفاء بمشورته، وصدع الناس لما أمرهم به حسده على ذلك بعض أهل العلم ممن يؤثرون الدنيا،
ويسعون إليها، ووشوا به عند أمير المدينة جعفر بن سليمان في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور؛ وذلك سنة 147هـ، وكانت التهمة: أن مالكًا لا يرى أيمان البيعة للخلافة هذه بشيء.
ولكن هل قال مالك ذلك حقًّا؟
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
إن الذي أفتى به الإمام مالك رحمه الله أن يمين المكره لا تلزمه، وذلك عملا بالحديث الموقوف على ابن عباس: ليس لمكره، ولا لمضطهد طلاق؛ وهو صحيح عن ابن عباس، ولا يصح رفعه، وقد علقه البخاري في كتاب الطلاق، وفي رواية أخرى عن ابن عباس: ليس على مستكره طلاق، ولم يكن سبب المحنة هو التحديث بهذا الحديث وحده، ولكن التحديث به وقت الفتن، واستخدام الثائرين لذلك الحديث، ولمكانة الإمام مالك العلمية تحريضًا الناس على الخروج على الخليفة؛ فلما بلغ الأمر السلطة الحاكمة أمر أبو جعفر المنصور الإمام مالكًا ألا يحدث الناس بهذا الحديث، وبهذه الفتوى، ونهاه عن ذلك بشدة، فلم يستجب مالك رحمه الله لهذه الضغوط، ولم يسكت؛ فقد كان يرى في السكون عنه كتمانًا للعلم الذي استودعه إياه الله عز وجل، وقد نهى الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن كتمان العلم، وتوعدا فاعلة بالنار.
ولعلم أبي جعفر المنصور أن الإمام مالك لن يسكت عن نشر العلم أمر واليه على المدينة: جعفرًا بن سليمان أن يدس على مالك من يسأله عن هذا الحديث على رءوس الناس، وبالفعل أجاب مالك على المسألة،
وروى حديث ابن عباس، وعندها أرسل جعفر بن سليمان من قبض على الإمام مالك، واحتج عليه بما رفع إليه عنه، فلم ينكر الإمام، ولم يخش في الله عز وجل لومة لائم، فأمر جعفر بتجريده من ملابسه، وضربه بالسياط، وجذبت يده حتى انخلعت من كتفه، وعذبه عذابًا شديدًا، وأهانه، وتعمد إسقاط هيبته ومنزلته بكل هذه الإساءات، ولكن الله عز وجل قد رفع قدر مالك بعد هذه المحنة، وازداد رفعة بين العالمين، وهذه ثمرة المحنة المحمودة؛ فإنها ترفع صاحبها عند المؤمنين.
عندما علم أهل المدينة بما جرى للإمام مالك اشتد سخطهم على الوالي، وتطاولوا عليه، بل وعلى الخليفة نفسه، خاصة وأن مالكًا قد أصيب في هذه المحنة بعجز كبير في ذراعه: بحيث لم يقدر بعدها على رفعها إلا
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
بمساعدة ذراعه الأخرى، وقد جلس في بيته، وشعر الخليفة أبو جعفر المنصور بمرارة ما فعل؛ فأرسل إلى الإمام مالك يعتذر إليه، ويتنصل مما فعله واليه، ولما جاء أبو جعفر إلى الحجاز حاجًا أرسل إلى مالك، واجتمع معه، وبالغ له في الاعتذار؛ وذلك كله لتطييب خاطر العامة أولا، ثم الإمام ثانيًا، وإلا فجميع ما وقع بعلمه وبأمره. والله أعلم.
في هذه المحنة اختلفت النظرة إلى الحديث بين الإمام مالك العالم التقي الرباني، قدوة الناس وفقيههم، ومرشدهم عند النوازل والحاجات، والذي يمثل طبقة العلماء، وبين الحكام الذين يمثلون طبقة أولى الأمر، التي لها حق السمع والطاعة، فرأى مالك في إذاعة الحديث نشرًا للعلم، وتبصيرًا للناس، فلم يكتمه إرضاء للحكام، ولا لأي سبب مهما كان.
ورأى الحكام في إذاعته تحريضًا على الفتنة والثورة؛ لأن فيه بيانًا ببطلان بيعة الخليفة، وصادف ذلك خروج محمد بن عبد الله بن حسن العلوي الملقب بالنفس الزكية على المنصور، ومطالبته بالخلافة لنفسه، وكان في
المدينة، وذلك سنة 146هـ.
ومهما يكن من مبررات الخليفة، والتي ساقها من أجل منع الإمام من التحديث يبقى ثبات الإمام مالك، وجهره بالحق، وصبره على الضرب والتجريد والإهانة علامة فارقة في حياة الإمام؛ إذ ضرب لعلماء الأمة كلهم
مثالا يحتذى به في الصبر والثبات نسج على منواله الأئمة من بعده: مثل الشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ممن ابتلوا في ذات الله، وصبروا على الحق، وجهروا بالعلم، ورفعهم الله عز وجل بذلك لأعلى الدرجات
بين العالمين.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
==============================
المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (8/ 48).
• البداية والنهاية: (10/ 188).
• الكامل في التاريخ: (5/ 306).

• تذكرة الحفاظ: (1/ 207).
• الديباج المذهب: (1/ 55).
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• النجوم الزاهرة: (2/ 97).

• شذرات الذهب: (2/ 12).
• وفيات الأعيان: (4/ 135).
• صفة الصفوة: (1/ 396)
• الإمام مالك بن أنس: إمام دار الهجرة - لعبد الغني الذقر.
• تراجم أعلام السلف: (223).

• الإمام مالك: حياته وآراءه وفقهه - الدكتور/ محمود عبد المتجلي.

راجع كتاب: ترويض المحن - دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، والصادر عن دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م

https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 09-03-2025 12:00 PM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام سعيد بن المسيب وعبد الملك بن مروان
شريف عبدالعزيز الزهيري
(9)
https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

بين يدي المحنة:
العلماء ورثة الأنبياء، قائمون في الأمة مقامهم، مضطلعون بدورهم، والجماهير دائمًا تتطلع إليهم، وعيونهم معلقة بهم، خاصة وقت الأزمات والنوازل، وكلما كان العالم الرباني منظورًا إليه، مقتدى به، كانت التبعة أعظم، والمحنة أشد، فالعالم الرباني هو رجل الأمة ودليل العامة، ودرع الحق والشرع الذي يحمي بيضة الدين، ويذب عن حياضه، وبثباته على الحق يثبت الكثيرون، وبتهاونه يضيع أيضًا الكثيرون، لذلك ما من عالم رباني قام في الأمة إلا تعرض لكثير من المحن والابتلاءات، وهذه محنة واحد من سادتهم وأكابرهم.
التعريف به:
• هو سيد التابعين، وقدوة السلف، فقيه الفقهاء السبعة، جبل العلم، وآية الحفظ، الشيخ الكامل، والعالم العامل، الزاهد العابد، الإمام العلامة أبو محمد سعيد بن المسيب بن حرب بن أبي وهب بن عمرو القرشي المخزومي المدني.
• ولد في أواخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة، ورغم نسبه القرشي في أعرق بطونها إلا أنه نشأ بالمدينة، وترعرع وظل بها طوال حياته لم يفارقها أبدًا إلا لحج، أو عمرة، أو جهاد،
وكانت المدينة وقتها درة الأمصار الإسلامية، بها ثلة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه رضوان الله عليهم، فاستغنى سعيد بن المسيب بالمدينة عن غيرها، وانقطع لمن بها من الصحابة،
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
فجلس إلى أعلامهم، ونهل من علومهم، وأخذ أيضًا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، من شدة اهتمامه بالعلم، وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم أحبه الصحابة جميعًا، وأثنوا عليه، وزوَّجه أبو هريرة رضي الله عنه من ابنته، واصطفاه بالرعاية والعناية، وحمل سعيد بن المسيب حديث أبي هريرة كله، وهو الأكثر رواية من بين الصحابة، كما اختص سعيد بن المسيب حديث بابن عمر رضي الله عنهما، وحمل عنه علم أبيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، خاصة أقضيته الشهيرة، حتى برع فيها، وصار الناس يسألونه عنها في حياة ابن عمر.
• كان سعيد بن المسيب إمامًا من كبار علماء الأمة، وممن جمع بين العلم والعمل، فلقد كان عابدًا ورعًا تقيًا، مشهورًا بالمحافظة على صلاة الجماعة بالصف الأول وتكبيرة الإحرام، حتى قال عن نفسه: ما أذن المؤذن من ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، وما فاتتني الصلاة في الجماعة منذ أربعين سنة، حتى إن الطاغية مسلم بن عقبة المري لما استولى على المدينة سنة 63هـ في موقعة الحرة منع الناس من الصلاة في المسجد النبوي؛ فخاف الجميع منه ما عدا سعيد بن المسيب، الذي رفض أن يخرج من المسجد النبوي؛ أو يترك صلاة الجماعة، وكان أيضًا مشهورًا بسرد الصوم، وقيام الليل، وكثرة الذكر، والزهد الشديد، حتى قال عن نفسه: ما أظلني بيت بالمدينة بعد منزلي، إلا أن آتي ابنة لي، فأسلم عليها أحيانًا، وقد زوَّج ابنته تلك بثلاثة دراهم لتلميذه كثير من أبي وداعة وأثره على الخليفة الوليد بن عبد الملك.
ثناء الناس عليه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• الإمام سعيد بن المسيب رضي الله عنه ورحمه الله ليس مشهورا عند جمهور المسلمين، إلا أنه من أئمة المسلمين وسادتهم، ومن أعلامهم الكبار، الذين شهد لهم أهل العلم، وأنزلوه منازلهم، وعرفوا قدرهم، وهذه بعض أقوال أهل العلم في الإمام سعيد بن المسيب:
• قال مكحول الدمشقي: طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أحدًا أعلم من سعيد بن المسيب.
• قال الزهري: جالسته سبع حجج، وأنا لا أظن عند أحد علمًا غيره.
• قال يحيى بن حبان: كان رأس المدينة في دهره: المقدم عليه في الفتوى ويقال: فقيه الفقهاء.
• قال قتادة: ما رأيت أحدًا أعلم بالحلال والحرام من سعيد بن المسيب.
• سئل القاسم بن محمد؛ وهو أحد فقهاء المدينة السبعة عن مسألة فقال للسائل: أسألت أحدًا غيري؟ قال نعم: عروة، وفلانًا، وسعيدًا بن المسيب، فقال: أطع ابن المسيب؛ فإنه سيدنا وعالمنا.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• قال علي بن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، هو عندي أجل التابعين.
• قال أبو زرعة: مدني قرشي ثقة إمام.
• قال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل من سعيد بن المسيب، وهو أثبتهم في أبي هريرة.
• قال أبو علي بن حسين: سعيد بن المسيب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار، وأفقههم في رأيه.
وقد اتفق أهل العلم على قبول مرسلات سعيد بن المسيب، والحكم عليها بالصحة وتقديمها على سائر مرسلات التابعين، ومرسلات سعيد لها حكم الموصول والمرفوع.
محنته:
• لقد كان الإمام سعيد بن المسيب رحمه الله من سادات التابعين، وعلم من أعلام المسلمين، ممن كمل حاله، وجمع الله عز وجل فيه خصال الخير كله من العلم والعمل، فقد كان بحق عالـمًا عاملا، لا يخاف في الله لومة لائم، صادعًا بالحق، أمَّارًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا يهاب خليفة ولا أميرًا، مجافيًا لأبوابهم، معتزًا بعلمه، وصائنًا لعرضه، شديد الانتقاد لأي مظهر من مظاهر
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
الخروج على الشرع والحق، ومن كانت هذه خصاله فحرى به أن يمتحن، ويتعرض لمحن تلو الأخرى، ومع ذلك لا ينال البلاء من عزيمته، ولا تلين المحنة شيئًا من صلابته في الحق، حتى إن الحجاج الثقفي على جبروته وطغيانه كان يهاب الإمام سعيد، لا يجرؤ على تحريكه، أو حتى مخاطبته.
محنة الإمام سعيد مع بني مروان:
• عاصر الإمام سعيد بن المسيب عهد الخلفاء الراشدين عثمان وعلي رضي الله عنهما، ومن بعدهم معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وجالس الصحابة وعاشرهم، ونال من علومهم، ثم رأى بعد ذلك تبدل الأحوال، وتغير الناس، ورأى الاقتتال على الملك؛ فلم يرض عن سياسة بني مروان، فآلى على نفسه ألا يسكت على ظلم يراه، ومنكر يظهر، ورفض أن يأخذ عطاءه من بيت المال، واستغنى عن ذلك كله، وكان يقول: لا حاجة لي فيها، حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان.

• كانت أول محنة مع الظالمين سنة 63هـ عندما وقعت فاجعة الحرة بأهل المدينة، وانتهك جيش يزيد بن معاوية بقيادة مسلم بن عقبة المري حرمة المدينة، وأخذ الطاغية مسلم بن عقبة المري في استعراض الناس على السيف، فقتل منهم المئات، وأحضر الإمام سعيد بن المسيب بين يديه، فقال له: بايع، فقال سعيد: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فغضب الطاغية من ذلك، لأن الطغاة
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
على مر العصور تؤرقهم وتقض مضاجعهم سيرة العمرين، وأخبار العدل والإحسان في عهدهما، فغضب الطاغية، وأمر بضرب عنقه، فقام أحد أعيان المدينة وشهد أن الإمام سعيد مجنون لا يقبل منه، فأعرض عنه الطاغية وتركه.
• ولما استوثق الأمر لابن الزبير سنة 64هـ أرسل جابرًا بن الأسود واليًا من طرفه على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا حتى يجتمع الناس - يقصد في جميع الأمصار - فضربه ستين سوطًا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه ويقول: مالنا ولسعيد.

• وفي سنة 84هـ توفي عبد العزيز بن مروان بمصر، وكان ولي عهد الخليفة، ولما طلب من سعيد المبايعة رفض بشدة لعدم صلاحية الوليد للولاية - بحسب رأي الإمام سعيد - فقام والي المدينة هشام بن المغيرة بجلد الإمام سعيد في محضر عام من الناس، وقام بتشهيره على حمار، وقد ألبسوه ثوبًا من شعر، وطافوا به في المدينة، ثم ردوه إلى السجن، وكان الإمام وقتها قد جاوز الستين سنة، ومع ذلك لم يعط بيعته، وصمم على رأيه، ولو هددوه بالقتل ما تغير موقفه أبدًا.
• وبعد أن ضربوه وشهروه وحبسوه، منعوه من إلقاء الدروس بالمسجد النبوي، ومنعوا أحدًا من الجلوس إليه، فكان الإمام العَلَم الذي يفتقر الناس إلى علمه، أفقه فقهاء المدينة، والمعول عليه عند
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
نوازل الأمور يجلس وحيدًا في المسجد، لا يجرؤ أحد على مجالسته، وكان هو يشفق على الغرباء أن ينالهم أذى إذا طلبوا الحديث معه، فيقول لمن جاءه: إنهم قد جلدوني، ومنعوا الناس أن يجالسوني.
• ولما تولى الخلافة الوليد بن عبد الملك سنة 86هـ بزيارة المدينة، ودخل المسجد النبوي فوجد حلقة علم سعيد بن المسيب، فأرسل يطلبه فرفض الإمام سعيد بعزة العالم، واستعلاء المؤمن الحق أن يفض درس علمه ويذهب للخليفة، فغضب الوليد بشدة وهم بقتله، وكان الوليد يبغض الإمام سعيد بن المسيب بوجه خاص لسببين: أولهما رفض سعيد مبايعته بولاية العهد من قبل، ثانيهما رفض سعيد طلب خطبة الوليد لابنته التي زوجها على ثلاثة دراهم لتلميذه كثير بن أبي وداعة، ولما رأى الناس عزم الوليد على الفتك بالإمام سعيد قالوا له: يا أمير المؤمنين فقيه المدينة، وشيخ
قريش، وصديق أبيك، وأخذوا في تهدئته حتى صرفوه عنه.
• وعلى الرغم من كثرة المحن التي تعرض الإمام سعيد أيام الأمويين إلا إنه كان يرفض الخروج عليهم، أو حتى الدعاء عليهم؛ فلقد قال له رجل من آل عمر بن الخطاب: ادع على بني أمية، قال سعيد: اللهم أعزَّ دينك، وأظهر أولياءك. وأخز أعداءك، في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا يكون علماء الأمة الكبار، كمال في كل حال.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع
• طبقات ابن سعد: (5/ 118).
• سير أعلام النبلاء: (4/ 217).
• حلية الأولياء: (2/ 161).
• الكامل في التاريخ: (4/ 282).
• صفة الصفوة: (1/ 246).
• المنتظم: (6/ 319).

• تراجم أعلام السلف: (21).
• شذرات الذهب: (1/ 102).
• تاريخ الطبري: (4/ 25).

• تاريخ خليفة: (1/ 306).
• وفيات الأعيان: (2/ 375).
• النجوم الزاهرة: (1/ 228).
ترويض المحن – دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م




ابوالوليد المسلم 10-03-2025 10:13 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
سعيد بن جبير والحجاج بن يوسف الثقفي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(10)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

بين يدي المحنة:
المواجهة بين الدعاة والطغاة صورة تكررت كثيرًا عبر تاريخ هذه الأمة، والدور الريادي المنوط بعلماء الأمة ودعاتها يدفعهم دومًا لهذه المواجهة، بالنصح والوعظ والإرشاد، وقيادة الناس وقت الأزمات، والدعاة والعلماء يتحملون في هذه المواجهات الكثير والكثير من المحن والابتلاءات، وهو قدرهم الذي رضوا به، وعاشوا وماتوا من أجله.
التعريف به:
• الإمام العلم العلَّامة، إمام التفسير، تلميذ حبر الأمة، نور العلم، وقدوة التابعين، مستجاب الدعوة، العالم الرباني سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي، الإمام الحافظ المقرئ المفسر الشهيد بإذن الله، أحد أعلام الأمة.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• وُلد بالكوفة سنة 38هـ في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبها ترعرع ونشأ، أحب العلم صغيرًا؛ فجلس إلى الصحابة ينهل من علومهم ويروي عنهم أحاديث النبي صلى
الله عليه وسلم، فروى عن أنس بن مالك، والضحاك بن قيس، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس، وابن عمر، رأي أبا هريرة، وأبى موسى الأشعري، وأم المؤمنين عائشة وغيرهم رضي الله عنهم، فحمل عنهم علمًا جمَّا، وأحاديث كثيرة.
• ثم اصطفى سعيد بن جبير من جملة الصحابة حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وانقطع إليه وأخذ عنه التفسير، وسائر علومه، وصار من أكبر تلاميذه، وأخص رفقائه، وأنجب طلابه، وكان سعيد من شدة أدبه مع شيخه ابن عباس لا يفتي في حضرته، فلما مرض ابن عباس وذهب بصره تصدى سعيد للإفتاء، وكان ابن عباس يحيل الفتاوى عليه، ويوصي به أهل العراق عند سؤالهم.
• كان سعيد بن جبير بجانب علمه الغزير، وفقهه الدقيق، مشهورًا بالورع والزهد والعبادة إلى المنتهى، شديد الخوف من الله، متوكلا عليه في الأمور كلها، يطيل صلاته لدرجة أنه كان يختم القرآن
في صلاة القيام، وروى ذلك عنه من طرق كثيرة صحيحة، محافظًا على الحج والعمرة كل سنة، حتى في سنوات محنته، كان إذا قام للصلاة كأنه وتد، مستجاب الدعوة، له في ذلك مواقف مأثورة،
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
بكى من الليل حتى ضعف بصره، وعمشت عينه.
ثناء الناس عليه:
• سعيد بن جبير علم من أعلام السلف، وإمام من كبار أئمة المسلمين، وأحد ورثة عِلْمِ الصحابة عمومًا، وحبرهم ابن عباس خصوصًا، كان كلمة إجماع في عصره، ولم يؤثر عن أحد من أهل العلم، أو رواة الحديث أنه قد جرحه بأدنى كلمة، فهو مجمع على توثيقه بين الناس، هذه طائفة من ثناء الناس عليه:
• كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا أتاه أهل الكوفة يستفتون يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟! يقصد سعيد بن جبير
• وجاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما ليسأله عن فريضة فقال له: ائت سعيد بن جبير، فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يفرض منها ما أفرض.
• قال إبراهيم النخعي: ما خلَّف سعيد بن جبير بعده مثله.
• قال أشعت بن إسحاق: سعيد بن جبير جهبذ العلماء.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• قال أبو قاسم اللالكائي: هو ثقة، إمام حجة على المسلمين.
• قال على المديني: ليس في أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير، قيل: ولا طاوس؟ قال: ولا طاوس، ولا أحد.
• قال ميمون بن مهران: لقد مات سعيد بن جبير وما ظهر على الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه.
• قال خصيف: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالحلال والحرام طاوس، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير.
محنته:
• محنة الإمام سعيد بن جبير رحمه الله تبدأ مبكرًا، وهو في الخامسة والثلاثين من العمر، وعندما رأى بعينه التحولات الكبرى التي حدثت داخل بناء الأمة الإسلامية، عندما رأى قيام الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي بمحاصرة مكة بلد الله الحرام، وانتهاكه لحرمة الكعبة، وضربه إياها بالمنجنيق، ثم قتله للخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير، تمثيله بجثته، وذلك سنة 73هـ، وأخذه للبيعة من الناس كرهًا - وسعيد منهم - بحد السيف، فتولد في قلب الإمام البغض والكره لهذا الطاغية، وأفعاله الإجرامية، والبغض لكل الظلمة والطغاة الذين استذلوا للناس وأهانوهم، واستحلوا حرماتهم.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• بعد أن أعطى سعيد بن جبير بيعته للحجاج بن يوسف الثقفي بحد السيف في مكة بعد مقتل ابن الزبير رضي الله عنهما، عاد إلى الكوفة، وأخذ في نشر العلم، ورواية الحديث، ولكنه سرعان
ما فوجئ بتعيين الطاغية الحجاج واليًا على العراق، ولما دخل الحجاج العراق حاول استمالة العلماء والقراء؛ لعلمه بسخط الناس وأهل العلم على سياسته، وظلمه وأسلوبه في الحكم؛ فأغدق العطايا على الإمام سعيد، وجعله بمثابة القاضي والمشير، ومن خاصته، ولكن لم تكن تلك اللعاعة من الدنيا لتغري إمامًا مثل سعيد بن جبير، وتغير موقفه ورأيه في الحجاج، وسياسته وجرائمه.
• اتبع الحجاج سياسة ذكية في احتواء ثورات أهل العراق، وطاقاتهم الكبيرة بشغلهم بالجهاد في سبيل الله في بلاد المشرق؛ حيث كفار الترك، فانصرف الناس لنصرة دين الله عز وجل عدة سنوات،
والحجاج مستمر على سياسته وبطشه بالمعارضين، حتى كانت سنة 82هـ وفيها وقعت أعنف ثورة قام بها أهل العراق، وهي فتنة ابن الأشعت، وكان ابن الأشعت أحد قادة الحجاج، وكان الحجاج يبغضه بشدة للتنافس بين الرجلين، وللطموح الذي يجمع بينهما، وكان سبب الثورة هو إصرار الحجاج على أن يواصل جيش ابن الأشعت التوغل في بلاد "الرتبيل" ملك الترك، في حين رفض ابن الأشعت الأوامر لقسوة فصل الشتاء، وكثرة الثلوج، ووعورة الطريق، فترددت الرسائل الخشنة بين الرجلين، ثم انتهت بإعلان ابن الأشعت العصيان والثورة، وخلع الطاعة للحجاج ولعبد الملك بن مروان الخليفة الأموي أيضًا.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• كان في جيش ابن الأشعت العديد من العلماء والفقهاء، وحفظة كتاب الله، ممن خرج للجهاد ونصرة دين الله عز وجل، منهم سعيد بن جبير، وطلحة بن حبيب، ومجاهد بن جبر، والشعبي، وابن أبي ليلى، وعلماء الزمان، وأهم شيوخ العصر عامة، والعراق خاصة؛ فأعلن هؤلاء العلماء والقراء دعمهم لابن الأشعت ضد الطاغية الحجاج، الذي فاقت جرائمه بحق المسلمين كل حدود،
وكان لذلك الدعم المعنوي من جانب العلماء أثر كبير في قوة ثورة ابن الأشعت، فانضم إليها الناس من كل مكان؛ فلقد كان الحجاج مبغوضًا من الجميع.
• وقعت العديد من المعارك الطاحنة بين الفريقين، كان لكتيبة العلماء والقراء دور كبير في تحميس الناس، وتقوية عزائمهم، وكان سعيد بن جبير يقف بين الصفوف، ويشد من أزر المقاتلين، ويقول: قاتلوهم على جورهم، واشتد لأنهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة، وكذلك فعل الشعبي وجبلة بن زحر زعيم القراء، وطبعًا ربما ينطق البعض للكلام على مدى جواز اشتراك العلماء والفقهاء
في مثل تلك الثورة، وهل يعد ذلك خروجًا على السلطة أم لا؟ ولنا في موقفهم عبرة وعظة، وفي إجماعهم على ذلك - وهم أعلام الأمة وأكبر علمائها - دليل على جواز ذلك بشروط مخصوصة كانوا هم أدرى بها، وأعلم بطبيعتها، وهم قد رأوا من الحجاج ما سمعناه نحن فقط، وعاينوا على الطبيعة أفعاله وجرائمه؛ لذلك فهم أحق الناس بالحكم على الأمر.
• ظلت ثورة ابن الأشعت مشتعلة بأرض العراق كلها طيلة سنتين كاملتين، وكادت أن تؤتى أكلها، ولكنها فشلت في النهاية، وأمعن الحجاج في التنكيل بالثوار؛ فقتل منهم عشرات الآلاف،
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وكان يؤتى بالرجل بين يدي الحجاج؛ فيطلب منه أن يشهد على نفسه بالكفر؛ فإن فعل أطلق سراحه، وإلا ضرب عنقه، فاضطر كثير من الناس للفرار من العراق، ومنهم سعيد بن جبير، وطلب بن حبيب، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار، وهم وجوه الناس وعلماؤهم.
• انتقل سعيد بن جبير إلى أصبهان، وعاش هناك في الخفاء، وكان حريصًا على ألا يعرفه أحد، وذلك سنة 83هـ، ومع ذلك لم يترك الحج والعمرة كل سنة؛ فعلم الحجاج بوجوده بأصبهان؛
فأرسل في طلبه، فهرب منها ودخل العراق مستخفيًا، وأخذ في التنقل من مكان لآخر، والحجاج يشتد في طلبه، وذلك طيلة اثنى عشر سنة كاملة، وفي النهاية استقر في مكة ليسهل عليه الحج والعمرة، واستقر معه باقي إخوانه العلماء، وكان والي مكة خالد القسري يغض الطرف عنهم، حتى قام الخليفة الوليد بن عبد الملك بعزل عمر بن عبد العزيز عن ولاية المدينة، وعين مكانه عثمان بن حيان الذي أخذ في القبض على أصحاب ابن الأشعت في المدينة، وإرسالهم للحجاج بالعراق ليقتلهم؛ فاضطر عندها خالد القسري لحذو فعله، فقبض على سعيد بن جبير وأصحابه، وقد عُرض على سعيد الهرب من مكة فقال: والله لقد استحيت من الله من كثرة الفرار، ولا مفر من قدر الله، وكان الحجاج قد أرسل إلى خالد القسري يتهدده من أجل إرسالهم، فلم يجد خالد من بد في ذلك.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• حمل سعيد بن جبير وأصحابه مثقلين بالقيود والحديد في رحلة طويلة من المدينة إلى الكوفة، وفي الطريق الطويل الشاق مات طلق بن حبيب، ولما وصلوا إلى الكوفة أمر الحجاج بسجنهم باستثناء سعيد بن جبير، الذي أمر بإحضاره بين يديه، وقد بسط له النطع، وأحضر السياف والجلاد للتنكيل بالإمام سعيد بن جبير، وكان الإمام عامر الشعبي يرى التقية المباحة، وبها تخلص من سيف الحجاج، أما الإمام سعيد فقد كان لا يراها، فلما أحضر بين يدي الحجاج قال له: اشهد على نفسك بالكفر، فقال الإمام: لا أفعل ذلك أبدًا، فقال الطاغية: اختر أي قتلة أقتلك، قال: اختر أنت، فإن القصاص أمامك، ثم دار حوار بين الطاغية والإمام انتهى بمقتل الإمام، وتقطيع أوصاله بصورة مأساوية بشعة، تدل على مدى حقد الطاغية الحجاج الثقفي على الإمام سعيد بن جبير، ولقد أورد أبو نعيم الكثير من الروايات الضعيفة والموضوعة في كيفية مقتله في كتابه الشهير حلية الأولياء، وفيما صح من الأخبار كفاية وغنية عن الضعف.
• لقد كان سعيد بن جبير مستجاب الدعوة، لا يرد الله عز وجل له دعوة قط، وكان يستطيع أن يدعو على الحجاج فلا ينال منه بسوء، ولكنه استقتل لله، ورحب بالشهادة، وكانت دعوته التي دعا بها قبل موته على الحجاج: ألا يسلطه الله عز وجل على أحد بعده، فاستجاب الله عز وجل له، ومات الحجاج مذمومًا مدحورًا بعد سعيد بن جبير بأربعين ليلة، ولم يقتل أحدًا بعد سعيد،
واشتهر الرجلان في التاريخ أيما شهرة، ولكن شتان بينهما: هذا صار علمًا للدعاة والمجاهدين والعلماء، وذلك صار علمًا للطغاة والظلمة المستكبرين.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع:
• تاريخ الطبري: (4/ 23).
• وفيات الأعيان: (2/ 371).
• النجوم الزاهرة: (1/ 228).
• المنتظم: (6/ 318).
• شذرات الذهب: (1/ 108).

• تاريخ خليفة: (1/ 307).
• طبقات خليفة: (1/ 280).
• طبقات ابن سعد: (6/ 256).

• سير أعلام النبلاء: (4/ 321).
• صفة الصفوة: (2/ 44).
• تراجع أعلام السلف: (47).




ترويض المحن - دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif





ابوالوليد المسلم 11-03-2025 09:59 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام سفيان الثوري
شريف عبدالعزيز الزهيري
(11)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

من أهم مهمات العلماء الربانيين في الأمة الإسلامية إرشاد الناس وتعليمهم، وتبصيرهم بالحق، ووعظهم وزجرهم عن الباطل، ولا يزال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم بنود هذه المهمة المقدسة؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قطب الدين الأعظم، عليه يدور الدين، ومن أجله أرسلت الأنبياء والمرسلين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم به الناس بين دعاة ومدعوين، كما لا يزال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم أسباب المحن والابتلاءات التي تعرض لها كثير من علماء الأمة، خاصة في الفترات التي يحكم فيها الطغاة؛ حيث لا تجد الأمة من يتصدى لهؤلاء الطغاة سوى علمائها، وهذه محنة واحد منهم، بل واحد من أعظمهم.
التعريف به:
• هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، أمير المؤمنين في الحديث، المجتهد المطلق، العابد الزاهد، قدوة العصر، الإمام أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
الثوري، وُلد سنة 97هـ بالكوفة، في بيت علم وورع وديانة، فأبوه المحدث الثقة: سعيد الثوري وهو طبقة صغار التابعين، وأمه كانت امرأة صالحة، دفعت ولدها منذ صغره نحو طلب العلم، وقالت له: اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي، وكان أبوه فقيرًا مشغولا بالحديث.
• انطلق الثوري كالشهاب يطلب العلم من مشايخ الوقت، وعلماء العراق، وأكثر من ذلك حتى بلغ عدد شيوخه ستمائة شيخ، وعلا ذكره، وطارت شهرته، وعرفه الناس، وهو شاب دون العشرين؛ وذلك لعلو همته، وكثرة رحلته، وشدة زهده وورعه، وفرط ذكائه، وسعة محفوظاته، وما زال أمره في علو ورفعة، وخبره في ذيوع وشهرة، حتى لقب بأمير المؤمنين في الحديث، وكان أحفظ
أهل زمانه، على الرغم من وجود العديد من الحفاظ الأعلام، والأئمة والأثبات في زمانه، إلا أنه يفوقهم جميعًا.
• جمع الثوري بين العلم والعمل، والزهد والورع والعبادة، والجهر بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجافاة السلاطين والأمراء، والفرار من المناصب، والتحرز من الشبهات، حتى صار درة الدهر، وبركة العصر، وحجة الله على الخلق.
ثناء الناس عليه:
• للثوري منزلة خاصة عند المسلمين عامة، وأهل العلم والحديث خاصة؛ فلقد كان الإمام الثوري كلمة إجماع بين العالمين، لم يختلف عليه اثنان، ولم يؤثر عن أحد من المسلمين مهما كان حاله أنه نال الثوري بكلمة ذم أو انتقاص، فهو من سادات المسلمين، ومن الأئمة الأعلام المتبوعين، ولقد ظل مذهبة واختياراته الفقهية والعلمية معمولا بها حينًا من الدهر، ولو وجد الثوري من التلاميذ والأتباع من يقوم بمذهبه وعلمه لظل مذهبه قائمًا حتى الآن، ومن بين المذاهب المتبوعة المعروفة، ولكنه مثل الليث بن سعد، وأبي ثور والأوزاعي، وغيرهم من الأئمة الذين لم يجدوا من يقوم بهم،
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وينشر علمهم، وهذه طائفة من كلام وثناء الناس على الإمام الثوري:
• قال شعبة بن الحجاج: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، ساد الناس بالورع والعلم.
• قال أبو حنيفة: لو حضر علقمة والأسود من كبار التابعين لاحتاجا إلى سفيان.
• قال سفيان بن عينية: ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري.
• قال الفضيل بن عياض: كان سفيان الثوري - والله - أعلم من أبي حنيفة.
• قال بشر الحافي: كان الثوري عندنا إمام الناس، وسفيان في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما.
• قال شعيب بن حرب: إني لأحسب أنه يجاء غدًا بسفيان حجة من الله على خلقه، يقول لهم: لم تدركوا نبيكم، قد رأيتم سفيان.
• قال يحيى بن معين: ما خالف أحد سفيان في شيء إلا كان القول قول سفيان.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• قال ابن المبارك: ما نعت لي أحد فرأيته إلا وجدته دون نعته إلا سفيان الثوري.
• قال يوسف بن أسباط: كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم.
• قال الأوزاعي: لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلا يقول فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري.
• قال الشافعي: ما رأيت بالكوفة رجلا أتبع للسنة، ولا أود أني في مسلاخه من سفيان الثوري.
• قال يحيى القطان: سفيان الثوري فوق مالك في كل شيء.
• قال أحمد بن حنبل: أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري، لا يتقدمه أحد في قلبي.
• قال الذهبي: قد كان سفيان رأسًا في الزهد والتأله والخوف، رأسًا في الحفظ، رأسًا في معرفة الآثار، رأسًا في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، من أئمة الدين.
محنته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• محنة الإمام سفيان الثوري ترجع في المقام الأول لوجوده في عصرين مختلفين، وشهوده لقيام دولة وانهيار أخرى، ومعاينته للأهوال والملاحم التي وقعت خلال ذلك القيام والانهيار، فآثر ذلك في نفسه بشدة، وكوَّن الإمام رؤيته وحكمه على الدولة الجديدة من خلال الفتن والملاحم التي وقعت، وجعلت الإمام يفر من أية علائق مع تلك الدولة، ويرفض أي منصب تعرضه عليه السلطة الجديدة؛ لاعتراضه بالكامل عليها شكلا وموضوعًا.
• وُلد سفيان الثوري سنة 97هـ بالكوفة كما أسلفنا، ونشأ وترعرع وطلب العلم في عهد الدولة الأموية المجاهدة، وطاف البلاد، ولاقى الشيوخ، ولما صار في سن الكهولة في الخامسة والثلاثين - أي في سنة 132هـ - وقع الزلزال الكبير في الأمة الإسلامية، وقامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية، وذلك بعد سلسلة رهيبة من المعارك الطاحنة، والمجازر المروعة، وكان إعلان قيام الدولة في الكوفة نفسها، ورأى سفيان الثوري ذلك كله، وكان وقتها قد صار من علماء الكوفة وشيوخها المعروفين، إليه يفزع الناس عند النوازل والملمات طلبًا للفتيا والسؤال، وكان سفيان الثوري لا يرى الخروج على الأئمة ولو جاروا؛ من باب درء الفتنة، وارتكاب أخف الضررين من أجل دفع أعظمهما، ومنع المفاسد العظيمة، ولكنه في الوقت نفسه يرى وجوب الإنكار على الملوك والأمراء والسلاطين، والصدع بالحق مهما كان.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• ومن أجل تلك الرؤية والفكرة تعرض الإمام سفيان الثوري للكثير من المحن والفتن، حيث طلبه خلفاء الدولة العباسية الواحد تلو الآخر، وعرضوا عليه منصب القضاء، ولكنه رفض بشدة، وفر منهم؛ فقضى شطر حياته الأخير طريدًا شريدًا، لا يأويه بلد ولا صديق إلا ينتقل منه لآخر، وهكذا.
محنته مع الخليفة أبي جعفر المنصور:
• مر بناء أثناء الحديث عن محنة الإمام أبي حنيفة كيف قام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بالضغط عليه من أجل تولي منصب القضاء؛ فضربه وحبسه وتهدده، والإمام يرفض بكل شدة حتى مات قتيلا في سجون المنصور، وبعد وفاة الإمام أبي حنيفة سأل المنصور عمن يلي الأمر فوصفوا إليه سفيان الثوري، وأخبروه أنه أعلم أهل الأرض، فأرسل في طلبه مرة بعد مرة، وسفيان يرفض
القدوم عليه.
• اشتد أبو جعفر المنصور في طلب سفيان الثوري، والثوري مصر على عدم تولي القضاء، حتى اضطر سفيان للخروج من الكوفة إلى مكة، فأرسل المنصور في الأقاليم بمنادٍ يقول: من جاء بسفيان الثوري فله عشرة آلاف، فاضطر الثوري للخروج من مكة إلى البصرة، وهناك عمل في حراسة أحد البساتين، ولنا أن نتخيل حجم المعاناة النفسية التي تعرض لها إمام العصر، وهو يستخفي من
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
الناس، ويفر من مكان لآخر.
• لم يلبث الثوري في البصرة كثيرًا حتى عرفه الناس، وهموا به؛ فخرج منها إلى بلاد اليمن، وهناك تعرض الإمام لمحنة أشد وأنكى؛ إذ اتهموه بالسرقة، وكان غير معروف في تلك البلاد البعيدة، ورفعوه إلى الوالي، وهو الأمير معن بن زائدة، وكان مشهورًا بالدهاء والمروءة وكرم الأخلاق، فلما تكلم معه قال له: ما اسمك؟ قال سفيان: عبدالله بن الرحمن، فقال معن: نشدتك الله لما انتسبت، قال الثوري: أنا سفيان بن سعيد بن مسروق، قال الأمير معن: الثوري؟ قال: نعم الثوري. قال معن: أنت بغية أمير المؤمنين، قلت: أجل، فأطرق ساعة، ثم قال: ماشئت فأقم، ومتى شئت فارحل؛ فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها.
• طالت غربة الثوري وتشريده في البلاد أيام الخليفة المنصور، وهو يتنقل من مكان لآخر: تارة بالعراق، وأخرى بالحجاز، وثالثة باليمن، ثم قرر الثوري في النهاية أن يذهب إلى مكة حاجًا وعائدًا، وكان المنصور قد عزم على الحج في نفس السنة 158هـ، وقد وصلت إليه الأخبار أن الثوري بمكة؛ فأرسل إلى واليها يطلب منه القبض على الثوري وصلبه، وبالفعل نصبوا الخشب، وأخذوا في البحث عن الثوري لصلبه، فلما علم الثوري قام وتعلق بأستار الكعبة، وأقسم على الله عز وجل ألا يدخل المنصور مكة، وبالغ في الدعاء والقسم، وبالفعل وقعت كرامة باهرة للثوري؛ إذ مرض
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المنصورة بقدرة الله عز وجل، ومات قبل أن يدخل مكة، فعد ذلك من كرامات وبركات الثوري، وهي كرامة ثابتة لا حجة لمن ردها بسبب عدم فهم ألفاظها.
• وكان السر وراء رفض الثوري للمنصب، وإيثاره للفرار، والتشرد في البلاد، أنه كان لا يصبر على أي منكر يراه، وكان يقول عن نفسه: إذا رأيت منكرًا ولم أتكلم بُلْتُ دمًا من شدة الكمد، وهو يعلم أنه سيرى كثيرًا من المنكرات، ولا يستطيع أن يتكلم؛ لذلك فضل الفرار والخوف والتشرد على أن يسكت على المنكر والباطل.
محنته مع الخليفة المهدي:
• ظن الإمام الثوري أن محنته قد انتهت بوفاة الخليفة المنصور، فعاد إلى بلده الكوفة، وبرز للناس، وأخذ في التحديث والتدريس كما هي العادة، ولكنه فوجئ بالخليفة الجديد: وهو محمد المهدي
بن الخليفة المنصور يستدعيه على وجه السرعة، فلما دخل عليه دار هذا الحوار العجيب:
قال الخليفة المهدي: يا أبا عبد الله، هذا خاتمي، فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة.
قال الإمام الثوري: تأذن لي في الكلام يا أمير المؤمنين على أني آمن، قال المهدي: نعم، قال الثوري: لا تبعث إلىَّ حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسالك.
فغضب المهدي، وهمَّ أن يقع به، فقال له كاتبه: أليس قد أمنته؟ قال المهدي: نعم:، ولكن اكتب إليه العهد بالقضاء، فكتبه وأعطاه للثوري رغمًا عنه.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• خرج الثوري من عند الخليفة المهدي ومعه عهد القضاء مختوم بخاتم الخليفة نفسه؛ فلما مر على نهر دجلة رمى العهد في النهر، وكان معه أصحابه فنهوه، ونصحوه بقبول القضاء، والعمل بالكتاب والسنة، فسفه قولهم، واستصغر عقولهم، ثم خرج هاربًا إلى البصرة، واستخفى عند المحدث يحيى بن سعيد القطان، فلما عرف المحدَّثون أخذوا في التوافد إلى بيت يحيى القطان حتى
انكشف أمره، فخرج من البصرة إلى الكوفة، واختبأ في دار عبد الرحمن بن مهدي.
• اشتد الخليفة في طلب الإمام الثوري، ووضع على رأسه جائزة مالية قدرها مائة ألف درهم، خاصة بعد أن عرف أن الثوري قد ألقى كتاب عهده في النهر، وظل الثوري يفر من بلد لآخر، وجنود الخليفة من ورائه، لا يقدرون على الإمساك به، وقضى الإمام العامين الأخيرين من حياته شريدًا طريدًا خائفًا، ومع ذلك لم يفكر للحظة واحدة أن يقبل المنصب، وسبحان الله: الإمام
العلامة، الذي هو أجدر الناس بالمنصب يفر منه، ويحتمل هذه المحن والابتلاءات، وآخرون لا يزن الواحد منهم عند الله عز وجل، ولا عند الناس جناح بعوضة من علم يلهثون وراء أدنى المناصب بكل سبيل.
• ظل الثوري في محنته حتى جاءه الفرج من عند رب السماء، وأنهى الله عز وجل محنته وآلامه وأحزانه، وأكرمه أعظم كرامة بأن توفاه إلى حضرته العلية قبل أن ينال منه من شردوه، وآذوه، والعجيب أن الثوري قد كتب إلى الخليفة المهدي يقول: طردتني وشرَّدتني وخوفتني، والله بيني وبينك، وأرجو أن يخير الله لي قبل مرجوع الكتاب، فرجع الكتاب وقد مات الإمام، وانتهت محنته.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع:
• طبقات ابن سعد: (6/ 371).
• تاريخ خليفة: (319).

• تاريخ الرسل والملوك: (8/ 58).
• حلية الأولياء: (6/ 356).
• تاريخ بغداد: (9/ 151).

• الكامل في التاريخ: (5/ 143).
• البداية والنهاية: (9/ 143).
• سير أعلام النبلاء: (7/ 229).
• تذكرة الحفاظ: (1/ 386).
• وفيات الأعيان: (25/ 386).
• شذرات الذهب: (2/ 250).

• صفة الصفوة: (2/ 85).
راجع كتاب: ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، والصادر عن دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م.






ابوالوليد المسلم 12-03-2025 10:19 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة الإمام وكيع بن الجراح
شريف عبدالعزيز الزهيري
(12)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

بين يدي المحنة:
من الأصول الثابتة عند أهل العلم عامة، وأئمتهم وكبارهم خاصة، أنهم لا يحدِّثون الناس إلا بقدر ما تفهم عقولهم، وتستوعب مداركهم، لأنهم إذا تجاوزوا هذا الأصل، وعمدوا إلى تحديث الناس بقدر أكبر من عقولهم ومداركهم كان ذلك سببًا مفضيًا لضلال بعضهم، فيكون بعض العلم والعلماء سببًا - من حيث لا يشعرون - إلى فتنة الناس، وعمدة هذا الأصل في الشرع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه في حق الله على العباد، وحق العباد على الله، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((حَقُّ العِبَادِ على الله عز وجل ألا يُعَذِّبُهُمْ إذا لَمْ يُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا))، فقال معاذ: ألا أبشر الناس، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا حَتَّى يَتَّكِلُوا)) وهذا من كمال حكمته صلى الله عليه وسلم، وخبرته بالناس أنهم إذا سمعوا هذه البشارة ربما اتكل بعضهم عليها، وترك العمل، ولم يخبر معاذ بهذا الحديث أحدًا قط إلا في مرض موته، إنما قاله خوفًا من إثم كتم العلم، وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟! وقد أخرجه البخاري تحت باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموا، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم، أخرجه مسلم في مقدمة كتابه، والعالم - خاصة إذا كان إمامًا متبوعًا - إذا خالف هذا الأصل ولم يلتزم ربما تسبب في الكثير من الفتن والمحن، ولربما كانت المحن من نصيبه هو، فيكتوي بنارها، ويشنع عليه بسببها، وهو ما جرى بالضبط لصاحبنا.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
التعريف به:
هو الإمام المحدث، بحر العلم، وإمام الحفظ والسرد، العالم الجوال، والعابد المجتهد، راهب العراق، وزاهد المصرين [البصرة - الكوفة]، وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، محدث العراق، وأحد أئمة
الأثر المشهورين، وأستاذ الأئمة: الشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، ولد سنة 129هـ في بيت علم ورياسة واحتشام، وأبوه كان من أعيان الكوفة وزعمائها، وكان ممن يتعانى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فوجه ولده وكيعًا لطلب العلم، وسماع الحديث منذ صباه، فسمع من الأعمش، وهشام بن عروة، والأوزاعي وابن جريج، وغيرهم، ثم انقطع إلى إمام الوقت، وبركة الزمان سفيان الثوري، فحمل عنه علمه، وسمع منه كل مروياته، حتى لقب براوية الثوري، وطاف البلاد، وسمع من الأكابر، فاجتمع عنده من أسانيد الأحاديث ورواياته المختلفة ما لم يكن لأحد من معاصريه، حتى إن أستاذه الثوري كان يدعوه وهو غلام حَدَثٌ؛ فيقول: يا رؤاسى! تعال، أي شيء سمعت؟ فيقول: حدثني فلان بكذا، وسفيان يبتسم، ويتعجب من حفظه، ويقول: لا يموت هذا الرؤاسي حتى يكون له شأن، حتى إن سفيان نفسه - على جلالة قدره، وعظم مكانته في الأمة - قد روى عنه الحديث، وصدقت فراسة سفيان رحمه الله؛ ذلك أنه لما مات سفيان الثوري سنة 166هـ جلس وكيع بن الجراح مكانه مجلس تحديثه.
وكان وكيع بن الجراح آية من آيات الله عز وجل في الحفظ والإتقان، فلقد كان مطبوع الحفظ، لا يسمع شيئًا إلا حفظه، ولا يحفظ شيئًا فينساه، أبهر الناس بقوة حفظه، وكان يستعين على ذلك
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
بترك المعاصي، سأله أحد تلاميذه يومًا وهو على خشرم عن دواء يأخذه حتى يقوى حفظه، فقال له: إن علمتك الدواء استعملته؟ قال: إي والله. قال: ترك المعاصي، ما جربت مثله للحفظ.
وعلى الرغم من شهرة وكيع بن الجراح، وإقبال الطلبة عليه، وتصدره لمجلس تحديث الثوري، إلا أنه كان عابدًا زاهدًا، يديم الصوم في السفر والحضر، لا يتركه أبدًا، يختم القرآن في الأسبوع الواحد
عدة مرات، مدمنًا لقيام الليل، مشتغلا بالأوراد والأذكار لا يضيع لحظة من وقته هدرًا، يقسم يومه على نفع نفسه والناس، فلقد كان يجلس لأصحاب الحديث بكرة إلى ارتفاع النهار، ثم ينصرف فيقيل، ثم يصلي الظهر، ويقصد الطريق إلى المشرعة حيث يتجمع الناس لسقيا دوابهم، فيعلمهم القرآن والفرائض، وسائر ما يحتاجونه من أمور دينهم إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده فيصلي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن، ويذكر الله إلى آخر النهار، ثم يدخل منزله، يتناول إفطاره، وبعد صلاة العشاء يصف قدميه لقيام الليل، ثم ينام ويقوم، وهكذا حتى وقت السحر.
ولقد عرض الرشيد منصب القضاء على وكيع عدة مرات فرفض بشدة، وكان منقبضًا عن السلطان ومجالسه مثل أستاذه الثوري، بل كان مجافيًا حتى لمن يتلبس بشيء من أمور السلطان، فلقد هجر أقرب أصدقائه - وهو حفص بن غياث - لما تولى منصب القضاء، وهكذا شأن العلماء الربانيين في كل زمان ومكان.
ثناء الناس عليه:
يتبوأ الإمام الكبير وكيع بن الجراح مكانة خاصة ومميزة في طبقات حفاظ الأمة، وثبت أعلامها، وعلى الرغم من أن العصر الذي كان يعيش فيه وكيع بن الجراح زاخر بالكثير من الحفاظ والأئمة
الأعلام، إلا أن وكيعًا بن الجراح كان علمهم المقدم، وأوفرهم نصيبًا في الثناء والمدح، وهذه طائفة من أقولهم:
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدًا أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع، وما رأيت مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب، مع خشوع وورع.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هذا على الرغم من أن الإمام أحمد قد شاهد الكبار: مثل هشيم، وابن عيينة، ويحيى القطان، وأمثالهم، ولكن كان أحمد يعظم وكيعًا ويفخمه، وكان أحمد يفضل وكيعًا على ابن مهدي، ويزيد بن
هارون.
قال ابن عمار: ما كان بالكوفة في زمان وكيع أفقه ولا أعلم بالحديث من وكيع، وكان جهبذًا، لا ينظر في كتاب قط، بل يملي من حفظه.
قال عبد الرزاق بن همام: رأيت الثوري وابن عيينة ومعمرًا ومالكًا، ورأيت ورأيت، فما رأيت عيناي قط مثل وكيع.
قال يحيى بن معين: ما رأيت أفضل من وكيع، فقيل له: ولا ابن المبارك؟ قال: قد كان ابن المبارك له فضل، ولكن ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويسرد الصوم.
سئل ابن المبارك: مَنْ رجل الكوفة اليوم؟ فقال: رجل المصرين - يعني الكوفة والبصرة - وكيعًا بن الجراح.
سئل أبو داود: أيهما أحفظ: وكيع أو عبد الرحمن بن مهدي؟ قال: وكيع أحفظ وعبد الرحمن أتقن، والتقيا بعد العشاء في المسجد الحرام، فتواقفا حتى سمعا أذان الصبح.
قال الحسين بن محمد: كان وكيع يكونون في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن انكسر من أمرهم شيئًا انتعل ودخل داره.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
قال سلم بن جنادة: جالست وكيعًا سبع سنين، فما رأيته بزق، ولا مس حصاة، ولا جلس مجلسًا فتحرك، وما رأيته إلا مستقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله.
قال مروان بن محمد: ما رأيت فيمن رأيت أخشع من وكيع، وما وصف لي أحد قط إلا رأيته دون الوصف إلا وكيعًا، رأيته فوق ما وُصِفَ لي.
قال إسحاق بن راهويه: حفظي وحفظ ابن المبارك تكلف، وحفظ وكيع أصلي، قال وكيع فاستند، وحدث بسبعمائة حديث حفظًا.
محنته:
المحنة التي تعرض لها وكيع بن الجراح محنة غريبة، تورط فيها بمخالفته من حيث لا يدري للأصل الذي قررناه في مقدمة الكلام، ألا وهو مخاطبة الناس على قدر عقولهم وفهومهم، وإن كان لم يُرِدْ إلا الخير، وأصل هذه المحنة يرجع إلى السنة التي حج فيها وكيع بن الجراح، فلما علم الناس في مكة بمجيئه، وهو حافظ العراق، اجتمعوا عليه، وعقدوا له مجلسًا في الحديث، فأخذ وكيع في تحديثهم، فلما وصل إلى الحديث الذي رواه عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي عن أبي بكر الصديق أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فأكب عليه، فقبله، وقال: بأبي وأمي، ما أطيب حياتك وميتتك، ثم قال عبد الله البهي: وكان ترك يومًا وليلة حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه، وهذا الحديث قد حكم عليه أهل العلم بأنه منقطع ومنكر، وعلته عبد الله البهي، وهو مصعب بن الزبير، وهو لم يدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
فلما سمعت قريش هذا الحديث هاجت وماجت، وظن أهلها أن الحديث ينتقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع رجالات قريش عند واليها - وهو العثماني - وقرروا طلب وكيع بن
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
الجراح وقتله، وقد حبسوه استعدادًا لذلك، وقيل إن الخليفة هارون الرشيد كان حاجًا هذا العام، فلما علم بالخبر استفتى العلماء في شأنه، فأفتى ابن أبي رواد بقتله، واتهم وكيعًا بالنفاق، والغش للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الإمام سفيان بن عيينة قال: لا قتل عليه، رجل سمع حديثًا فرواه، فتركوا وكيعًا وخلوا سبيله.
خرج وكيع من مكة متجهًا إلى المدينة، وندم العثماني والي مكة على تركه بشدة، وقرر أن يقتل وكيعًا بأي سبيل، فأرسل أهل مكة إلى أهل المدينة بالذي كان من وكيع، وقالوا: إذا قدم عليكم، فلا تتكلوا على الوالي، وارجموه حتى تقتلوه، فلما عرف بعض علماء المدينة مثل سعيد بن منصور هذا الخبر، وعزم أهل المدينة على قتل وكيع - أرسل إليه بريدًا عاجلا أن لا يأتي المدينة - ويغير مساره إلى طريق الربذة، فلما وصل البريد إلى وكيع، وكان على مشارف المدينة، عاد إلى الكوفة.
بعد هذه الحادثة لم يستطع وكيع بن الجراح أن يذهب إلى الحج مرة أخرى، وحيل بينه وبين مكة والمدينة، وخاض بعض الجهال في حقه، واتهموه بالتشيع والرفض، ولكنه تجاسر سنة 197هـ، وحج بيت الله الحرام؛ فقدر الله عز وجل وفاته بعد رجوعه من الحج مباشرة؛ فمات ودفن بفيد على طريق الحج بين مكة والكوفة.

هذه المحنة التي تعرض لها وكيع بن الجراح، وكادت تودي بحياته، وأثرت على سمعته، وأدت لمنعه من إتيان مكة والمدينة سنوات كثيرة، إنما حدثت له بسبب زلة الإمام العالم نفسه، فما كان لوكيع بن الجراح أن يروى هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد، والقائمون عليه معذورون، ولربما كانوا مأجورين، لأنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود انتقاصًا من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
كان وكيع يتأول هذا الخبر قائلا: إن عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - منهم عمر بن الخطاب - قالوا لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد الله أن يريهم آية الموت، ولو على فرض صحة الخبر فليس فيه قدح بمقام النبوة، فعند التأمل فيه نجد أن الحي قد يربو جوفه، وتسترخي مفاصله تحت تأثير الأمراض، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يوعك كرجلين من الناس، وكانت الشقيقة تأخذ رأسه فيمكث اليوم واليومين لا يخرج للناس من شدة الوجع، وكما جاء في الخبر الصحيح: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبيَاءَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَل))، والمحذور والممنوع في حق النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء تغير أجسادهم ورائحتهم، وأكل الأرض لأجسادهم بعد موتهم، بل هم في أطيب ريح من المسك، وهو وسائر إخوانه من الأنبياء أحياء في قبورهم.
وما سقناه من دفاع في الاعتذار عن إمام من أئمة المسلمين، إنما نقلناه بتصرف من دفاع إمام الحجاز سفيان بن عيينة، والحافظ الذهبي في سيره، وهذا لا يغير من حقيقة ثابتة على كل إمام وداعية وعالم أن يراعيها عند احتكاكه مع الناس، وتصديه للدعوة والإرشاد، والإفتاء والتعليم وهي مراعاة عقول الناس عند الخطاب، لذلك كره أهل العلم رواية الأثار والأحاديث التي تؤدي إلى سوء فهم، أو تكريس بدعة عند أصحابها، فكرهوا رواية أحاديث الكبائر وسلب الإيمان عن مرتكبها عند الخوارج؛ لأنهم يفهمون الأحاديث على وجه الخطأ، ولا يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم، فيتخذون تلك الأحاديث ذريعة ودليلا على تكفيرهم للمسلمين، وكذا الأمر مع أحاديث الرجاء والمغفرة، وفضل كلمة التوحيد عند المرجئة، والأمثلة على هذه القاعدة كثيرة، والعالم عندما لا يلتزم بتلك القاعدة فإنه يجر على نفسه، وعلى غيره الكثير من المحن والبلايا.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع:
• طبقات ابن سعد: (6/ 394).
• تاريخ خليفة: (467).
• سير أعلام النبلاء: (9/ 140).
• تاريخ بغداد: (13/ 466).
• البداية والنهاية: (10/ 261).
• حلية الأولياء: (8/ 368).
• تذكرة الحفاظ: (1/ 306).

• صفة الصفوة: (2/ 98).
• النجوم الزاهرة: (2/ 153).

• شذرات الذهب: (1/ 349).
ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م





ابوالوليد المسلم 13-03-2025 10:31 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام البخاريُّ (1/2) حياتُه وأثرُه العلميُّ ومحنتُه
شريف عبدالعزيز
(13)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

التعريف به
كبيرُ الحفَّاظ وإمام الأئمَّة, أمير المؤمنين في الحديث, الحافظ الحفيظ الشَّهير, المميز الناقد البصير, فخر الأمة, الإمام الهمام الذي شهدت بحفظه العلماء الأثبات, واعترف بضبطه المشايخ الثّقات, حجة الإسلام وعلمه المقدم, العالم العامل الكامل أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريِّ.
وُلِدَ الإمام البخاريُّ يومَ الجمعة بعدَ الصلاة لثلاث عشرة ليلةٍ خلت من شوال سنة 194هـ بمدينة بخارى, وكان أسمرَ نحيف الجسد ليس بالطويل ولا بالقصير.
بيئته العلمية وأثرها عليه
البخاريُّ كما قال عنه القسطلانيُّ أحدُ شراح صحيحه: "قد ربا في حجر العلم، حتى ربا, وارتضع ثدي الفضل, فكان على هذا اللبا".
فلا شكَّ أنَّ طيب أصل البخاريِّ وبيئته العلميَّة الخالصة كان له أثرٌ كبير وخطير في توجه البخاري في حياته, فأبوه إسماعيل بن إبراهيم كان من الثِّقات، سمع من مالك وحمَّاد بن زيد وابن المبارك,
وأمُّه كانت من العابدات الصالحات, صاحبةَ كرامات عظيمة, فقد كفَّ بصرُ البخاريِّ وهو طفل صغير، فقامت تدعو وتُصلِّي وتبكي وتبتهل, حتى رد الله -عزَّ وجلَّ- بصر ولدها، وذلك من كمال حكمته -عزَّ وجلَّ- لما كان ينتظر هذا الصبيَّ من مستقبلٍ مبهر في سماء العلوم والمعارف.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وقد مات أبوه وهو في ريعان شبابه, فنشأ البخاريُّ يتيماً في حجر أمه, وكانت أمه عاقلة صالحة فدفعت به إلى طريق العلم والحديث منذ نعومة أظافره, وقد لاحظت أمُّه أنه يمتلك حافظة فريدة, فدفعت به إلي حِلَق السَّماع وهو في سن السابعة, وقيل وهو في سن العاشرة, فكان يجلسُ إلى المعلم في الكُتَّاب حتى العصر، بعدها ينطلقُ إلي مجلس الإمام الداخليِّ من كبار محدثي بخارى، ليسمع منه الحديث ويكتبه.
ظهرت أولى علامات نبوغه ونجابته المبكرة، وهو في سن الحادية عشرة عندما أصلح رواية حديثٍ لشيخه الدَّاخلي, ورجع الداخليُّ لقوله, ولما بلغ السادسة عشر كان قد حفظ كتبَ ابن المبارك
ووكيع.
رحلاته العلمية
الرحلة في اصطلاح المحدِّثين: هي السَّفر الذي يَخرج فيه الطالبُ, لطلب حديث, أو علوِّ إسناد, وكان الصحابةُ هم القدوة في ذلك, فقد سافر جابرُ بن عبد الله -رضى الله عنهما- شهراً لطلب علوِّ إسناد حديث, من عبد الله بن أنيس, وعلى هذا الهدى سار التابعون, قال أبو العالية: "كنَّا نسمع الراوية من البصرة عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما نرضى حتى ركبنا
إلي المدينة, فسمعناها من أفواههم", ومن آداب الرحلة أن يبدأ طالبُ العلم بشيوخ بلده فيكتبَ عنهم, حتى يُحكمَ حديثهم, ثم يرحلَ إلى الأمصار, يُشافه الشيوخ.
البخاريُّ شأنه في طلب العلم شأن أهل عصره, فقد خرج لطلب العلم سنه 210هـ أي في السادسة عشرة, عندما خرج إلى الحجِّ مع أمِّه وأخيه, وعاد أخوه بأمِّه إلي بخارى, وبقي هو لطلب العلم, وظلَّ بمكة قرابة العامين؛ ليسمع الحديث من علماء مكة وشيوخها, ثم توجه إلي المدينة سنة 212هـ وسمع من علمائها, ثم توجه إلى البصرة, وقد تكررت رحلته إلي البصرة أربع مرات,
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وكذلك الكوفة دخلها عدة مرات ثم دخل بغداد ومنها إلى الشام ثم إلى مصر, قال الخطيبُ البغداديُّ: "رحل البخاريُّ إلي محدِّثي الأمصار, وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق كلها، والحجاز والشام ومصر، وورد بغداد دفعاتٍ". حتى وصل عددُ شيوخه الَّذين كتب عنهم زيادةً عن ألف شيخ, قسمهم في كتبه إلى خمس طبقات.
براعته العلميَّة
- تميّز الإمام البخاريُّ بالعديد من المواهب العلمية الفذَّة، التي جعلته أمير المؤمنين في الحديث، وأشهرَ علماء الإسلام فيه بلا منازعة، وصاحبَ الختم في صناعة الحديث كما قال المستشرقون, من
أهمِّ هذه المواهب:
قوةُ حفظه

فلقد رزق الله -عزَّ وجلَّ- البخاريَّ حافظةً فريدة من نوعها ندر أن يُوجد مثلها بين البشر، فلقد كان يحفظ مئات الآلاف من الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة, وذلك وهو في صدر شبابه, فلقد قال عنه أقرانه في السَّماع: "كان البخاريُّ يختلف معنا إلى السماع, وهو غلام لا يكتب, حتى أتى على ذلك أيامٌ, وكنا نقول له فى ذلك, فقال: إنَّكم قد أكثرتم عليَّ, فاعرضوا عليَّ ما كتبتم, فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسةَ عشر ألف حديث, فقرأها كلَّها عن ظهر قلب, حتى جعلنا نُحكم كتبنا من حفظه, ثم قال: أترونَ أنِّي أختلف هدراً, وأضيع أيامي؟".
ومن أوضح الأمثلة على قوة حفظه ما فعله مع خُذّاق المحدِّثين في بغداد، عندما اجتمع عليه عشرةٌ منهم، وقلب كلُّ واحد منهم أسانيد عشرة أحاديث، وأدخلوا المتون والأسانيد في بعضهما البعض, فقام البخاريُّ بإصلاح الأحاديث من حفظه, وردِّ الأسانيد الصحيحة إلى متونها الأصليَّة, والعجبُ لم يكن في أصلاحه للخطأ وردِّه للصواب, ولكن العجب في حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقَوه عليه مرةً واحدة, ثم إصلاحه للخطأ كله جميعاً في مجلس واحد، كأنَّه حاسوب ذو ذاكرة جبارة، وقد تكرر الموقف معه في سمرقند وكانوا هذه المرة أربعمائة محدِّث, وقاموا بإدخال
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
إسناد الشام في إسناد العراق, وإسناد اليمن في إسناد الحجاز, فما تعلَّقوا منه بسقطة.
وكان من قوة حفظه يسمعُ الحديث في البصرة ويكتبه في الشام, ويسمعه في الشام ويكتبه في مصر, وكان يأخذ الكتاب فيطَّلع عليه مرة واحدة فيحفظه عن ظهر قلب، وكان أهل المعرفة في البصرة يَعدون خلفه في طلب الحديث، وهو شابٌّ حتى يغلبوه على نفسه, ويُجلسوه في بعض الطريق, فيجتمعَ عليه ألوف، أكثرُهم ممن يكتب عنه, وكان وقتَها شاباً لم ينبت شعرُ وجهه.

2- براعته في معرفة العلل

العلة اصطلاحاً: هي سببٌ غامضٌ خفيٌّ يقدح في صحة الحديث, مع أنَّ الظاهر السلامة منه, ومعرفة العلل من أشرف وأدقِّ علوم الحديث, ولا يقدر عليها إلا الجهابذة من العلماء, فهذا الإمامُ الكبير عبدُ الرحمن بن مهديّ شيخ الشافعيّ، يقول: "لئن أعرف علَّة حديث, هو عندي أحبُّ إليَّ من أن أكتب عشرين حديث ليس عندي".
وهذا الفنُّ الدقيق من فنون مصطلح الحديث، لم يبرع فيه إلا قلة نادرة من العلماء, رأسُ هؤلاء الجهابذة؛ الإمامُ البخاريُّ الذي لم يُلحق شأوه في هذا المضمار.
قال الإمام الترمذيُّ: "لم أرَ أحداً في العراق ولا بخراسان، في معرفة العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد, أعلم من محمد بن إسماعيل".
وقال أحمد بن حمدون الحافظ: "رأيت البخاريَّ في جنازةٍ، ومحمد بن يحيى الذُّهليُّ, يسأله عن الإسناد والعلل, والبخاريُّ يمرُّ فيه مثل السهم، كأنه يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1]".
وكان الإمام مسلم يقول له: "دعني أُقبِّلْ رجليكَ يا أستاذَ الأستاذين, وسيِّدَ المحدِّثين, وطبيب الحديث في علله".
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
3- احتياطه في نقد الرجال
- نقد الرجال أو جرح الرُّواة من الأمور الصعبة في علم الحديث, إذ به ينقسم الحديث إلى صحيح وضعيف, وهو يحتاجُ إلى أقصى درجات التَّديُّن والتَّقوى والورع والتَّحرُّز والاحتياط والتَّجرُّد من الهوى, وعلم الجرح والتعديل من أهمِّ علوم الحديث وأكثرها شهرةً وإثارةً للجدل بين العلماء من السَّلف والخلف, والناس في غالب العصورلم يفهموا هذا العلم جيّداً, وعدُّوه من قبيل الاغتياب والخوض في الأعراض, قال ابنُ خلاد للإمام يحيى بن سعيد القطَّان: "أما تخشى أن يكونَ هؤلاء الَّذين تركت حديثَهم خصماءك عند الله يومَ القيامة, فقال: لئن يكونوا خصمائي, أحبُّ إلى من
أن يكون خصمي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لي: لِمَ لَمْ تذُبَّ الكذبَ عن حديثي؟!".
- ولقد اتَّبع البخاريُّ منهجاً راقياً فريداً في نقد الرجال، دلَّ على منزلته العليا في الديانة والإخلاص والورع, فلقد كان ينتقي ألفاظ نقده بأدقِّ الكلمات التى تُحقق المراد، ولا تقدحُ في الهيئات, مثلُ أن يقولَ فيمن ترك الراويةَ عنه كلماتٍ من عينة: أنكره الناس, المتروك, السَّاقط, فيه نظرٌ, سكتوا عنه, تركوه، وهكذا. .. ومن النادر جداً أن يثبت عن البخاريِّ أنه قال عن رجلٍ بأنَّه وضَّاع,
أو كذَّاب, ومن أشدِّ كلمات الجرح عند البخاريِّ أن يقول: مُنكر الحديث.
وقد قال له محمد بن أبي حاتم الورَّاق: "إنَّ بعض الناس يَنقمون عليك في كتاب (التاريخ) ويقولون: فيه اغتيابُ الناس", فقال: "إنَّما روينا ذلك روايةً لم نقُله من أنفسنا, ولا يكون لي خصمٌ في الآخرة, فما اغتبتُ أحداً منذ علمي أنَّ الغيبة تضرُّ أهلها".
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
4- فقهه
- الإمام البخاريُّ لم يكن مجرَّد صاحبِ حديثٍ فحسب, بل كان من فقهاء الأمة المعدودين، وتراجمُ كتابه الأشهر (الصحيح) خيرُ دليلٍ على فقهه, حتى اشتهر من قول العلماء: فقه البخاريِّ في تراجمه, والبعضُ ينسبه إلى مدرسة الشَّافعيِّ في الفقه, ولكن الحقَّ الذي لا مِراء فيه أنَّه مجتهدٌ مطلَق قد استكمل أدواته, واختياراتُهُ العلميَّة والفقهيَّة جديرة بأن تكون مذهباً مستقلاً في الفقه, ولكنها أُلحقت بمدرسة فقهاء الأثر وأصحاب الحديث.

- وقد بلغت براعةُ البخاريِّ الفقهية مبلغاً كبيراً، بحيث إنَّه قُرن بالأئمة الكبار مثل مالك وأحمد والشَّافعيِّ وإسحاق, قال بندارُ: "هو أفقهُ خلقِ الله في زماننا", وقد سُئل قتيبة عن طلاق السَّكران, فدخل محمد بن إسماعيل، فقال قُتيبة للسائل: "هذا أحمدُ بن حنبل, وإسحاق بن راهويه, وعليُّ بن المديني, قد ساقهمُ الله إليك", وأشار إلى البخاريِّ, وقال أبو مصعب الزُّهريِّ: "محمد بن إسماعيل أفقهُ عندَنا وأبصرُ, من أحمد بن حنبل", فقيل له: جاوزت الحدَّ, فقال: "لو أدركتَ مالكاً ونظرتَ إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل, لقلت: كلاهما واحدٌ في الفقه والحديث".
وكان أهلُ المعرفة في خراسان ونيسابور يعُدُّون محمد بن إسماعيل أفقه من إسحاق بن راهويه.
أخلاقه وعبادته
من الأمور الثَّابتة في سجل علماء الأمة الربَّانيِّين, أن لن تجد أحداً منهم مسرفاً على نفسه, أو مفرطاً في حق ربِّه, أو سيئ الأخلاق مع الناس, فعلماءُ الأمة الكبار وأئمَّتها الأعلام قد كمُل حالهم علماً وعملاً وخلقاً وديانة, والبخاريُّ على نفس الدرب يسير, فلقد كان زاهداً عابداً كريماً سمحاً متواضعاً شديد الورع.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
قال ابنُ مجاهد: "ما رأيتُ بعينيَّ منذ ستين سنةً أفقهَ, ولا أورعَ ولا أزهدَ في الدنيا من محمد بن إسماعيل", فقد كان البخاريُّ يأتي عليه النهار, فلا يأكل فيه شيئاً سوى لوزتين أو ثلاثة, كان ذات مرةٍ بالبصرة فنفدت أمواله، فمكث في بيته عدة أيام لم يخرج، لأنه لم يجد ما يسترُ به بدنه, ورغم زهده ورقَّة حاله، إلا أنه كان جواداً سمحاً كثير الصَّدقة, واسعَ الصَّدر, عظيم الاحتمال, سهل الجناب, يُقابل الإساءة بالإحسان, يترك كثيراً من الحلال خشية الشُّبهة والوقوع في الحرام, والأمثلة على ذلك كثيرةٌ، ومنها:
أنَّه كان في بيته ذاتَ مرَّة, فجاءت جاريتُه، وأرادت دخولَ المنزل, فعثرت على محبرة بين يديه, فقال لها كيف تمشين؟ قالت: إذا لم يكن طريق, كيف أمشي؟ فبسط يديه, وقال: اذهبي, فقد أعتقتك, فقيل له: يا أبا عبد الله, أغضبتك الجارية؟ فقال: إن كانت أغضبتني, فقد أرضيتُ نفسي بما فعلت.
قال البخاريُّ يوماً لأبي معشر الضَّرير: اجعلني في حِلٍّ يا أبا معشر, فقال: من أيِّ شيءٍ؟ فقال: رويتُ حديثاً, فنظرتُ إليك وقد أعجبتَ به وأنت تُحرِّك رأسك ويديك، فتبسَّمتُ من ذلك, قال: أنتَ في حِلٍّ, يرحمُك اللهُ يا أبا عبد الله.
قام يُصلِّي يوماً فلدغه زنبور سبعةَ عشر مرة, فلم يَقطع صلاته ولمَّا عوتب في ذلك، قال: كنت في سورةٍ, فأحببتُ أن أُتِمَّها, وكان يُصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة, أما في رمضان فكان له نهجُه التعبديُّ الخاص به, فقد كان يجتمع إليه أصحابه, فيُصلي بهم, ويقرأُ في كل ركعة عشرين آية, وكذلك إلى أن يختم القرآن, وكان يقرأ في السَّحر, ما بين النِّصف إلى الثُّلث من القرآن,
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
فيختم عند السَّحر, في كلِّ ثلاث ليال, وكذلك يختمُ بالنَّهار في كل يومٍ ختمة, ويكون ختمُه عند الإفطار كلَّ ليلة، ويقول: عند كلِّ ختمةٍ دعوةٌ مستجابة.
كان البخاريُّ رغم مكانته العلمية السامقة، وانشغاله الدائم بالدرس والعلم والرحلة، إلا أنه كان يشترك في أمور المسلمين العامَّة وشئونهم الهامَّة, فلقد كان يُرابط بالثُّغور وينتظم في حلقات الرِّماية, ويحملُ فوق رأسه الآجُرَّ في بناء الربط.

ثناء العلماء عليه
وكما رزق اللهُ -عزَّ وجلَّ- الإمام البخاريَّ فتوحاً ربَّانيَّة في العلم والحفظ والفهم والفقه والزُّهد والورع والعبادة, فقد رزقه محبَّةً وقَبولاً كبيرين في قلوب العباد, فكان البخاريُّ كلَّما حلَّ ببلد أو مدينة, ازدحم عليه النَّاسُ بصورةٍ تفوق الوصفَ والبيان, وكان يخرجُ إليه عامَّة أهل البلاد, ويَنثرون عليه الورد والدراهم, ولما رجع البخاريُّ إلي بلدته بعد رحلته الدِّراسيَّة, نُصبت له القباب على فرسخ من البلد, وخرجُ إليه أهل البلد جميعاً.
وهذه طائفةٌ من ثناء العلماء على مرِّ العصور على الإمام البخاريِّ:
قال قتيبةُ بن سعيد: "جالست الفقهاء, والزُّهَّاد, والعُبَّاد, فما رأيتُ منذ عقلتُ مثل محمد بن إسماعيل, وهو في زمانه؛ كعمر في الصَّّحابة".
قال أبو حاتم الرازيُّ: "لم تُخرج خراسانُ قط, أحفظَ من محمد بن إسماعيل, ولا قَدِم منها إلى العراقِ أعلمُ منه".
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
قال الإمام الدَّارميُّ: "قد رأيتُ العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق, فما رأيتُ فيهم أجمعَ من محمد بن إسماعيل, فهو أعلمُنا وأفقُهنا وأكثرنا طلباً".
قال ابنُ خزيمة: "ما تحتَ أديم السَّماء أعلمُ بالحديث من محمد بن إسماعيل".
قال أبو عمر الخفاف: "هو أعلمُ بالحديث من أحمد وإسحاق وغيرهما بعشرين درجة, ومن قال فيه شيئاً فعليه منِّي ألفُ لعنة, فإنَّك لو دخلتَ عليه وهو يُحدِّث لملئت منه رعباً، فمحمدٌ هو التَّقيُّ النَّقيُّ".
قال أبو سهل الشّافعي: "دخلتُ البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها, كلَّما جرى ذكرُ محمد بن إسماعيل فضَّلوه على أنفسهم, وقد سمعتُ أكثر من ثلاثين عالماً من علماء مصر يقولون: حاجتُنا من الدُّنيا النظر في تاريخ محمد بن إسماعيل".
قال الإمام مسلم للبخاريِّ يوماً: "دعني أُقبِّل رِجليك يا أستاذَ الأستاذين, وسيدَ المحدِّثين, وطبيبَ الحديث في علله".
قال سليم بن مجاهد: "لو أنَّ وكيعاً وابن عيينة وابن المبارك كانوا في الأحياء، لاحتاجوا إلى محمد بن إسماعيل".
قال الإمامُ التِّرمذيُّ: "لم أرَ بالعراق ولا بخراسانَ في معنى العِلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد، أعلمَ من محمد بن إسماعيل".
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
قال عبدُ الله بن حماد: "وَدِدْتُ أنِّي شعرةٌ في صدر محمد بن إسماعيل".
قال الحافظُ ابن حجر: "ولو فتحتُ باب ثناء الأئمة, ممَّن تأخر عن عصره, لفني القرطاس, ونفدت الأنفاس, فذاك بحرٌ لا ساحل له".
قال العلامة العينيُّ الحنفيُّ: "الحافظ الحفيظُ الشهير, المميز الناقد, البصير, الذي شهدَتْ بحفظه العلماءُ الثقات, واعترف بضبطه المشايخ الأثبات, ولم يُنكر فضله علماء هذا الشأن, ولا تنازَع في صحة تنقيده اثنان, الإمام الهمام, حجةُ الإسلام, أبو عبد الله؛ محمد بن إسماعيل البخاريُّ".
قال الشيخُ نور الحق الدهلويُّ: "ما كان له مثيلٌ في عصره في حفظ الأحاديث، وإتقانها، وفهم معاني الكتاب والسنة, وحِدَّة الذِّهن, وجودة القريحة, ووفور العفَّة, وكمال الزُّهد, وغاية الروع, وكثرة الاطِّلاع على طرق الحديث وعللها, ودقَّة النَّظر, ورقَّة الاجتهاد, واستنباط الفروع من الأصول".
قال النوويُّ في خاتمة ترجمة البخاريِّ: "فهذه أحرفٌ من عيون مناقبه وصفاته, ودرر شمائله وحالاته, أشرتُ إليها إشارات, لكونها من المعروفات الواضحات, ومناقبُه لا تُستقصى؛ لخروجها على أن تُحصى, وهي منقسمةٌ إلى حفظ ودراية, واجتهادٍ في التَّحصيل ورواية, ونُسك وإفادة, وورع وزِهادة, وتحقيقٍ وإتقانٍ وتمكُّن وعرفان, وأحوال وكرامات وغيرها من أنواع الكرامات".
قال ابنُ كثير: "البخاريُّ الحافظ, إمامُ أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه, والمقدم على سائر أترابه وأقرانه, وكتابه الصَّحيح يُستقى بقراءته الغمام –وهو أمرٌ محدث في القرون المتأخرة–
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وأجمع العلماء على قبوله, وصحة ما فيه, وكذلك سائر أهل الإسلام, ولو استقصينا ثناءَ العلماء عليه في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وعبادته, لطال علينا؛ فقد كان في غاية الحياء والشَّجاعة والسَّخاء والورع والزُّهد في الدُّنيا, دار الفناء, والرَّغبة في الآخرة دار البقاء".
قال القسطلانيُّ: "هو الإمام, حافظ الإسلام, خاتمة الجهابذة, النقاد والأعلام, شيخ الحديث, وطبيب علله في القديم والحديث, وإمام الأمة عجماً وعرباً, ذو الفضائل التي سارت السّراة بها شرقاً وغرباً, الحافظ الذي لا تغيب عنه شاردة, والضابط الذي استوى لديه الطارفة والتالدة".
وخلاصة هذه الأقوال ما قال الشيخُ عبد السلام المباركفوريُّ: "إنَّ الاستدلال على تبحُّر إمام المحدثين في العلم وذكائه وقوة اجتهاده وسيلان ذهنه, بأقوال المتأخِّرين, كرفع السِّراج أمام الشمس".
البخاريُّ وكتابه الجامع الصَّحيح
للبخاريّ مؤلفاتٌ كثيرة في الحديث والتاريخ والفقه والعقيدة، وغيرها من فروع العلم، غير أنَّ أشهر كتبه على الإطلاق، بل أشهرُ ما ألفه عالمٌ مسلم، وأصحُّ كتاب على وجه الأرض، بعد القرآن الكريم، هو صحيحُ البخاريِّ الذي أصبح رمزاً للصحة وعنواناً للكمال والدِّقَّة بين المسلمين أجمعين على مرِّ العصور.
ذكر الحافظُ ابن حجر في مقدمة كتابه فتح الباري أسباباً ثلاثة، دعت الإمامَ البخاريَّ رحمه الله إلى تأليف كتابه الجامع الصَّحيح:

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
أحدها: أنه وجد الكتب التي أُلِّفت قبله بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التَّصحيح والتَّحسين، والكثير منها يشمله التَّضعيف فلا يقال لغثِّه سمين, قال: فحرك همته لجمع الحديث الصحيح، الذي لا يرتاب في صحته أمين.
الثاني: قال: وقوّى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أميرِ المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ، المعروف بابن راهوية، وساق بسنده إليه أنه قال: "كنَّا عند إسحاق بن راهوية، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الصَّحيح".
الثالث: قال: ورَوينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس، قال سمعت البخاريَّ يقول: رأيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وكأنِّي واقف بين يديه، وبيدي مروحةٌ أذُبُّ بها عنه, فسألتُ بعض المعبِّرين، فقال لي: "أنتَ تَذُبُّ عنه الكذبَ، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصَّحيح".
ولم يألُ البخاريَّ -رحمه الله- جهداً في العناية بهذا المؤلف العظيم. يتَّضح مدى هذه العناية مما نقله العلماء عنه فنقل الفربري عنه أنه قال: "ما وضعتُ في كتابي الصَّحيح حديثاً إلا اغتسلتُ قبل ذلك وصليتُ ركعتين"، ونقل عمر بن محمد البحيريُّ عنه أنه قال: "ما أدخلتُ فيه -يعني الجامع الصحيح- حديثاً إلا بعد ما استخرتُ الله تعالى وصليتُ ركعتين وتيقَّنت صحته". ونقل عنه عبدُ الرحمن بن رساين البخاريّ، أنه قال: "صنَّفت كتابي الصَّحيح لست عشرة سنة، خرَّجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى".

https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 14-03-2025 11:15 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام البخاريُّ (2/2) محنة البخاريِّ ووفاته
شريف عبدالعزيز
(14)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

الكلام عن محنة البخاري يُثير في القلب شُجونًا وأحزانًا وآلامًا كثيرة؛ ذلك لأنَّ هذه المحنة بالذات ما زالت أصداؤها تتردَّد لوقتنا الحاضر، ولكن بصورة مختلفة وبأوجه جديدة، وما زالت ضروبُ هذه المحنة وأقرانها تقع كلَّ يوم وفي كل عصر وجيل، ولُبُّ هذه المحنة وأساسها الغيرة والحسد بين الأقران، فهي -كما قال البخاريُّ رحمه الله نفسه في وصيته-: "لا يسلم عالمٌ متقدِّم على أقرانه من ثلاثة أمور: طعنُ الجهلاء وملامةُ الأصدقاء وحسدُ العلماء، وهو عينُ ما جرى للبخاريِّ في محنته".
وبدأت فصول محنة البخاريِّ عندما توجه إلى مدينة نيسابور، وهي من المدن الكبيرة في خراسان، فلمَّا وصل إليها خرج إليه أهلُها عن بكرة أبيهم، فلقد استقبله أربعةُ آلاف رجل رُكبانًا على الخيل سوى من ركب بغلاً أو حمارًا، وسوى الرِّجال، وخرج الوُلاة والعلماء كافة لاستقباله قبل أن يدخل المدينة بمرحلتين أو ثلاثة [قرابة المائة كيلو متر مربع] وبالغوا في إكرامه بصورةٍ لم تكن لأحد قبله ولا حتى بعده.

ومن روعة الاستقبال وعظيم التقدير والاحترام الَّذي وجده البخاريُّ بنيسابور، قرَّر المقام فيها لفترةٍ طويلة واتَّخذ فيها دارًا، وأخذ علماءُ نيسابور في حضِّ طلبة العلم على السَّماع من البخاريِّ،
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وكان رأسُ علماء نيسابور وقتها الإمامُ محمد بن يحيى الذهلي، وكان رأسًا متبوعًا مطاعًا ليس في نيسابور وحدها بل في خراسان كلِّها، الناسُ يطيعونه أكثر من طاعتهم للخليفة والوالي، وكان الذُّهليُ ممن حض الناس على الجلوس للبخاريِّ وحضور مجالسه ودروسه، والذُّهليُّ نفسه كان ممن استفاد كثيرًا من البخاريِّ، حتى إنه كان يمشي خلف البخاريِّ في الجنائز، يسأله عن الأسامي والكُنى والعِلل، والبخاريُّ يمرُّ فيه مثل السَّهم.
ومع استقرار البخاريِّ في نيسابور، أخذت مجالسُ التحديث تخلو شيئًا فشيئًا من طلاب الحديث لصالح مجلس البخاريِّ حتى ظهر الخلل في مجلس كبير علماء نيسابور محمد بن يحيى الذُّهلي نفسه، عندها تحرَّكت النوازعُ البشرية المركوزة في قلوب الأقران، فدبَّ الحسد في قلب الذُّهليِّ وتسلَّلت الغيرةُ المذمومة إلى نفسه شيئًا فشيئًا، حتى وصل الأمر به لأن يخوضَ في حقِّ البخاري ويتكلمَ
فيه ويرميه بتُهمةٍ البخاريُّ بريءٌ منها، فما هذه التُّهمة يا تُرى والتي كانت سبب محنة البخاريِّ؟
هذه التهمةُ هي تهمة اللفظية، وهي تعني قول القائل: أنَّ لفظي بالقرآن مخلوق، فقد قال لأصحاب الحديث إنَّ البخاريَّ يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه في المجلس، فلما حضر الناسُ مجلس البخاريِّ، قام إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله ما تقولُ في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرضَ عنه البخاريُّ ولم يُجبه، فأعاد الرجل السؤال ثلاث مرات، فالتفت إليه البخاريُّ،
وقال: "القرآنُ كلام الله غيرُ مخلوق، وأفعال العباد مخلوقةٌ، والامتحان بدعة"، أي: إنَّ البخاريَّ قد أدرك مغزى السؤال، وعلم أنه من جنس السؤالات التي لا يُراد بها وجه الله -عزَّ وجلَّ-، وإنَّما يُراد بها امتحانُ العلماء وإثارة الفتن والفرقة بين الناس، فشغب الرجل السائل على مجلس البخاريِّ، فقام الإمام منه.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
بعد هذه الحادثة أخذ الذُّهليُّ في التشنيع على البخاريِّ، واتهمه بالتجهم، وقال: قد أظهر البخاريُّ قول اللَّفظيَّة واللفظيَّة عندي شرٌّ من الجهميَّة، ومَن ذهب بعد إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه، ثم تمادى الذُّهليُّ في التشنيع والهجوم على البخاريِّ، ونادى عليه في الناس ومنع طلبة الحديث من الجلوس إليه، ثم ألزم كلَّ من يحضر مجلسه ألا يجلس للبخاريِّ، فقال يومًا: ألا من قال باللفظ فلا يحلُّ له أن يحضر مجلسنا، وكان في المجلس وقتَها الإمامُ الكبيرُ مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة، فقام الاثنان من مجلس الذُّهليِّ، وهذا الأمر جعل الذُّهليَّ يزداد في هجومه على البخاري، ويصل لأعلى درجات الغلوِّ والغيرة المذمومة، إذ قال بعد حادثة خروج الإمام مسلم من مجلسه: "لا يُساكنني هذا الرجلُ [يعني البخاري] في البلد" وأخذ الجهالُ والسفهاءُ يتعرَّضون للبخاريِّ في الطريق يؤذونه بالقول والفعل، مما أُجبر معه البخاريُّ في النِّهاية لأن يخرج من البلد.
وبالنظر لما قام به الذُّهليُّ بحق البخاريِّ، نجد أن الذهليَّ قد تدرج في التشنيع والهجوم على الإمام البخاريّ، للوصول لغاية محددة منذ البداية، ألا وهي إخراج البخاريِّ من نيسابور حسدًا منه على مكانة البخاريِّ العلميَّة، وحتى لا ينسحبَ بساط الرياسة العلمية منه لصالح البخاري، وهذا ما فهمه البخاريُّ منذ البداية، وقاله لتلامذته ومن سأله عن هذه النازلة، فهذا تلميذه محمد بن شاذل،
يقول: "دخلتُ على البخاري لمَّا وقع فيه محمد بن يحيى، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الحيلةُ لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى، كلُّ من يختلف إليك يُطرد؟ فقال البخاريُّ: كم يعتري محمد بن يحيى من الحسد في العلم، والعلمُ رزق الله يُعطيه من يشاء"، وقال أحمد بن سلمة: "دخلتُ على البخاريِّ فقلت: يا أبا عبد الله هذا رجلٌ مقبول بخراسان خصوصًا في هذه المدينة، وقد لجَّ في هذا
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يُكلمه فيه فما ترى؟ فقبض البخاريُّ على لحيته ثم قرأ: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 44]، اللهمَّ إنك تعلم أنِّي لم أُرد المقام بنيسابورَ أشرًا ولا بطرًا ولا طلبًا للرياسة، وقد قصدني هذا الرجل [يقصد الذُّهليّ] حسدًا لما آتاني الله لا غير، ثم قال لي: يا أحمدُ إني خارجٌ غدًا لتتخلَّصوا من حديثه لأجلي، فقال أحمد بن سلمة: فأخبرت جماعة من أصحابنا بخروج الإمام، فوالله ما شيَّعه غيري، وكنت معه حين خرج من البلد.
وبالفعل خرج البخاريُّ من نيسابور، واتجه إلى مرو من أعمال خراسان؛ ليواصل رحلته العلميَّة، فإذا بالذُّهليِّ يواصل هجومه الشَّرس على البخاريِّ، حتى بعد خروجه من نيسابور، حيثُ أخذ في
الكتابة لسائر بلاد ومدن خراسانَ يحذِّرهم من البخاريِّ، وأنه يتبنَّى قول اللفظيَّة، وقد آتت هذه الحملة أُكُلها السّيّء، فكلما توجه البخاريُّ إلى بلد في خراسان وجد الناس ثائرين عليه، وكُتب الذُّهليُّ في حقه تنهال على علماء المدن وأمرائها فتُوغر الصدور وتُحرِّك الشكوك وتُسيء الظنون، حتى وصلت حدَّة الحملات التشويهية ضد البخاري، لأن يقدم رجلان من أكبر علماء الرجال في الحديث، وهما أبو حاتم وأبو زُرعة لأن يقولا: "إنَّ البخاريَّ متروكٌ"، ولا يكتبانِ حديثه بسبب مسألة اللَّفظ، وسبحانَ الله! لا أدري كيف أقدم أبو حاتم وأبو زُرعة على مثل هذه المقولة؟ وكيف تجاسرا عليه؟ والبخاريُّ حامل لواء الصناعة، ومقدم أهل السنة والجماعة، والبخاريُّ أعلى منهما كعبًا في كل باب في الحديث والفقه والحفظ، قال الذَّهبيُّ في السير: "كلامُ الأقران بعضهم في
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
بعض لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنَّه لعداوةٍ أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين".
وكان البخاريُّ يؤكد في كلِّ مكان أنه لم يقل إنَّ لفظه بالقرآن مخلوق، فعندما سأله الحافظُ أبو عمرو الخفاف عن هذه المسألة، فقال له: "يا أبا عمرٍو، احفظ ما أقولُ لك: مَن زعم مِن أهل
نَيسابورَ وقوس والرِّي وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة، أنِّي قلت: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو كذَّاب، فإني لم أقله، إلا أنِّي قلت: أفعال العباد مخلوقة"، ومعنى هذا التصريح أنَّ الذُّهليَّ الذي خاض في حقِّ البخاريِّ وشوَّه سيرته ومكانته، قد بنى حملته على البخاريّ على لازم قول البخاريِّ أنَّ الأفعال مخلوقة، فقال الذهبيُّ: إنَّ البخاري يقول: إنَّ ألفاظنا من أفعالنا وأفعالنا مخلوقة، إذًا هو يقول إن لفظي بالقرآن مخلوق، ولازمُ القول ليس بلازم، كما هو مذهب جمهور المحققين من العلماء، إلا إذا التزمه صاحب القول، أما إذا نفاه وتبرأ منه فلا يلزمه ولا يشنع عليه بسببه، قال الذَّهبيُّ: ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نُكفِّر مسلمًا موحدًا بلازم قوله وهو يفر من ذلك اللازم ويُنَزِّه ويعظم الرب، لذلك كان البخاريُّ ينفي في كلِّ موطن هذه التهمة عن نفسه ويبرأ منها.
وفاته
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ظل البخاريُّ ينتقل من بلد لآخر، وكلَّما حلَّ ببلد طاردته الشائعاتُ، وكتب الذُّهليُّ تلاحقه في كلِّ مكان نزل به، حتى اضطرَّ في النهاية للنزول عند أحد أقاربه ببلدة خرتنك، الواقعة بين بخارى
وسمرقند، لتنالَ هذه البلدة شرفاً عظيماً بأن قضى بها الإمامُ آخر أيام حياته، وقد ضاقت عليه الدنيا بما لاقاه من أهلها، وخاصة من رفقاء الدرب وأصحاب الحديث الَّذين حسدوه، وكان في شهر رمضانَ من سنة 256 هجريَّة، فقضى ليالي رمضانَ الأخيرة في القيام والدُّعاء والمناجاة والشَّكوى لربِّ الأرض والسَّموات، وكان غالبُ دعائه في تلك الليالي: "اللَّهمَّ إنَّ الأرض قد ضاقت عليَّ، فاقبضني إليك يا ربَّ العالمين".
وفي ليلة الفطر من سنة 256 هجرية، صعدت الروح الطاهرة إلى بارئها بعد صلاة العشاء، فدُفن من صبيحة الفطر، وقد فاحت رائحةٌ رائعة لم يَشَمَّ الناس مثلها من قبل من قبره، ظَلَّت تفوحُ لفترة طويلة، كما ما زال علمه يفوح ويروح في كل مكان في العالم، فأين حسَّادُهُ؟ وأين الوشاة والساعون فيه؟ طواهم النسيان، وقتلتهم أحقادهم، وبقي ذكر البخاري إلي اليوم، وحتى تقوم الساعة، فهنيئاً له على ما قدَّم للأمة الإسلامية، وسلامٌ عليه إلي يوم الدين.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المراجع والمصادر
سير أعلام النبلاء.
طبقات الحفاظ.
تذكرة الحفاظ.

صفة الصفوة.
البداية والنهاية.
مقدمة الفتح.

نخبة الفكر.
وفيات الأعيان.
تاريخ بغداد.
تهذيب الأسماء واللغات.
تاريخ بغداد.

شذرات الذهب.
النجوم الزاهرة.

https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 15-03-2025 10:05 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
سيرة العز بن عبد السلام
شريف عبدالعزيز الزهيري
(15)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

صلاح الدنيا بصلاح الرؤساء والأمراء، وصلاح الرؤساء والأمراء بصلاح العلماء؛ لذلك العلاقة بين الصنفين علاقة خاصة ومتشابكة، لا يستغني أحدهما عن الآخر، ومتى أصبحت هذه العلاقة متضادة أو مختلفة أدى ذلك لكثير من المحن والابتلاءات، وتفسد الدنيا، وتضطرب الأحوال، ومتى كان العلماء صادعين بالحق، ثابتين على الشرع صلحت الدنيا والآخرة، ونهضت الأمة، وصمدت أمام أعدائها، ومتى نسي العلماء دورهم الريادي في إرشاد الأمراء والحكام، ونصحهم وتوجهيهم ضاعت الأمة، وصارت في مهب الريح، لا تعرف الحلال من الحرام، ولا العدو من الصديق.
التعريف به:
• سلطان العلماء، وبائع الملوك والأمراء، العالم الفذ، والشيخ العلامة، والمجتهد المطلق، شيخ الإسلام، وأحد الأئمة الأعلام، صاحب التصانيف النافعة، والمواقف السائرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كبير الشافعية، المفتي الكبير، الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي، المشهور بالعز بن عبد السلام.

• وُلد سنة 577هـ بمدينة دمشق حاضرة الشام، وكانت وقتها قلب الإسلام النابض، وعاصمة الجهاد ضد الصليبين تحت حكم الناصر صلاح الدين الأيوبي، وكانت دمشق وقتها زاخرة بالعلماء والشيوخ والمجاهدين، وفي ذلك الجو العلمي والإيماني والجهادي نشأ الإمام العز بن عبد السلام، وبدأ في طلب العلم متأخرًا على خلاف عادة العلماء الكبار؛ فجلس إلى علماء الوقت بدمشق: مثل فخر الدين بن عساكر، وسيف الدين الآمدي، وابن الحافظ، وجعل يجتهد ويتبحر في العلوم، خاصة في الفقه الشافعي، حتى صار شيخ الشافعية في دمشق، وقد اشتهر بجودة ذهنه، وسلامة
بحثه، ودقة فتواه.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• جمع الإمام العز بن عبد السلام بين العلم والعمل، فلقد كان مشهورًا بالزهد والورع وشدة التحري، ومحاربة البدع والمخالفات الشرعية، محترزًا عن مواطن الشبهات، آية من آيات الله في الصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يهاب أحدًا في الله عز وجل، له كثير من المواقف المشهورة التي جلبت عليه كثيرًا من المتاعب والمحن، التي جعلته رأس العلماء وإمامهم في زمانه.
ثناء الناس عليه:
رغم أن العصر الذي نشأ فيه العز بن عبد السلام كان زاخرًا بالعلماء والشيوخ والأعلام إلا أن العز بن عبد السلام كان شامتهم ورأسهم، ومقدمهم في كل فن، واعترف معاصروه ومن جاء بعده بإمامته وفضله وعلمه، وهذه طائفة من أقوالهم:
• قال عنه تاج الدين السبكي: شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها، ولم ير مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله علمًا وورعًا وقيامًا في الحق، وشجاعة، وقوة جنان، وسلاطة لسان.
• قال عنه تلميذه أبو شامة: كان أحق الناس بالخطابة والإمامة، وأزال كثيرًا من البدع التي كان الخطباء يفعلونها: من دق السيف على المنبر، وأبطل صلاتي الرغائب، ونصف شعبان.
• قال عز الدين الحسيني: كان علم عصره في العلم، جامعًا لفنون متعددة، مضافًا إلى ما جبل عليه من ترك التكليف، مع الصلابة في الدين.
• قال الذهبي: بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رياسة المذهب، مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلابة في الدين.
• قال ابن كثير: العز بن عبد السلام شيخ المذهب، ومفيد أهله، وله مصنفات حسان، وبرع في المذهب، وجمع علومًا كثيرة، وأفاد الطلبة، ودرَّس بعده مدارس، وانتهت إليه رياسة الشافعية، وقُصِدَ بالفتاوى من الآفاق.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• قال جلال الدين السيوطي: الشيخ عز الدين أبو محمد، شيخ الإسلام، سلطان العلماء، أخذ الأصول، وسمع الحديث، وبرع في الفقه والأصول والعربية، وقدم مصر فأقام بها أكثر من عشرين عامًا ناشرًا للعلم، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يغلظ على الملوك فمن دونهم، وله من المصنفات والكرامات الكثير، ثم كان في آخر عمره لا يتقيد بالمذهب - يقصد الشافعي - بل اتسع نطاقه، وأفتى بما أدى إليه اجتهاده.
• قال عنه ابن شاكر الكتبي: شيخ الإسلام، بقية الأعلام، الشيخ عز الدين، سمع وتفقه ودرس وأفتى، وبرع في المذهب، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من البلاد، وتخرج به أئمة، وله الفتاوى السديدة، وكان ناسكًا ورعًا، أمَّارًا بالمعروف، نهَّاءً عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم.
• قال عنه العلَّامة اليافعي: سلطان العلماء، وفحل النجباء، المقدم في عصره على سائر الأقران، بحر العلوم والمعارف، والمعظم في البلدان، ذو التحقيق والإتقان والعرفان والإيقان، وهو من الذين قيل فيهم: علمهم أكثر من تصانيفهم، لا من الذين عبارتهم دون درايتهم، ومرتبته في العلوم الظاهرة مع السابقين في الرعيل الأول.
• قال العلَّامة الإسنوي: الشيخ عز الدين كان رحمه الله شيخ الإسلام علمًا وعملا وورعًا، وتصانيف وتلاميذ، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يهين الملوك فمن دونهم، ويغلظ القول، وكان فيه مع ذلك حسن محاضرة بالنوادر والأشعار.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• قال الداودي: كان كل أحد يضرب به - يقصد العز بن عبد السلام - في الزهد والعلم.
مصنفاته:
لم يكن للشيخ العز بن عبد السلام مصنفات كثيرة تناسب حجمه العلمي، ومكانته في علماء الأمة، ولكنه ترك مصنفات نافعة عظيمة، مازال الناس ينتفعون بها، ومن أمثلة مصنفات الشيخ رحمه الله ما يلي:

1- القواعد الكبرى المعروف، بقواعد الأحكام، وهو من أشهر كتبه، وأكثرها نفعًا وتداولا بين الناس حتى وقتنا الحاضر.
2- شجرة المعارف.
3- الدلائل المتعلقة.

4- تفسير مختصر للقرآن.
5- مختصر صحيح مسلم.
6- الغاية في اختصار النهاية.
7- بداية السول في تفضيل الرسول.
8- الفتاوى الموصلية والمصرية.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
9- بيان أحوال الناس يوم القيامة.
فوائد البلوى والمحن، وفيه يذكر من الآيات والأحاديث ما يصبر به أهل المحن والبلاء ويسليهم به، وقد كتبه بعد سلسلة المحن التي تعرض لها في الشام، وأجبرته على الرحيل إلى مصر.
محنته:
• محنة الإمام العز بن عبد السلام ترجع في الأساس لإدراكه لمهمة العلماء الربانيين، ودورهم في صيانة المجتمعات المسلمة، خاصة وقت الأزمات والنوازل، محنة العز بن عبد السلام التي تعرض لها في كل مكان حط فيه، ورحل إليه، ترجع في الأساس لشعوره الدائم والحي بأن العلماء هم أولو الأمر الحقيقيون للأمة، ولا بد من أخذ رأيهم، والعمل بمشورتهم لضمان مشروعية العمل، وسلامته
من المخالفات والبدع، فلقد أراد العز أن يجعل من العلم والعلماء أئمة يسير ورائهم الناس، ويقتفون آثارهم، ويعملون بأقوالهم؛ لذلك أطلق عليه أهل العلم ومعاصروه لقب سلطان العلماء.
محنته في الشام:
• وُلد العز بن عبد السلام بدمشق أيام حكم الناصر صلاح الدين، ونشأ وترعرع في أيام العزة والكرامة والنصر، واسترجاع بيت المقدس، وشهد العز انحسار الوجود الصليبي بالشام، وشهد أيضًا الحملة الصليبية الخامسة والسادسة على العالم الإسلامي، والبطولات العظيمة التي أبداها المسلمون في صد تلك الحملات البربرية، ثم شهد الإمام التراجعات التي حصلت على مستوى القيادة في العالم الإسلامي، والصراع الشرس الذي حدث بين أمراء الأسرة الأيوبية على أماكن النفوذ في مصر والشام، الذي هوى ببعضهم - وهو الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق - لأحد دركات الأخلاق والدين؛ حيث تحالف مع الصليبين ضد ابن أخيه الملك نجم الدين أيوب صاحب مصر، وذلك من أجل الاستيلاء على حكم مصر.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• ففي سنة 639هـ تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين ضد ابن أخيه نجم الدين أيوب، وأعطاهم نظير ذلك مدينة صيدا الساحلية، وقلعة الشقيف، وأباح لهم دخول دمشق؛ وذلك لأول مرة
منذ اشتعال الحملات الصليبية، وأباح لهم شراء السلاح والمؤن، وكان العز بن عبد السلام وقتها خطيب الجامع الأموي، ومفتي الشافعية، ورأس علماء دمشق، فصعد الشيخ العز على منبر الجامع يوم الجمعة، وألقى خطبة نادرة من العيار الثقيل: أفتى فيها بحرمة البيع والشراء مع الصليبين، وشدد على التحريم، وأنكر على الصالح إسماعيل فعلته، وفي آخر الخطبة ترك الدعاء للصالح إسماعيل كما هي العادة، وقال بدلاً من ذلك قولته الشهيرة التي صارت مثلاً سائرًا، ودعاءً متداولاً: اللهم أبرم لهذه الأمَّة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
• كان قطع الدعاء في الخطبة للصالح إسماعيل بمثابة إعلان خلعٍ وعزلٍ من قبل العز بن عبد السلام، فاستشاط الصالح إسماعيل غضبًا، وقامت قيامته، وعزل الشيخ العز عن الخطابة والإفتاء، وأمر باعتقاله، فأخذ الغضب يسري في أوساط الشعب الدمشقي الذي كره الصالح إسماعيل وجرائمه، وكان للصالح إسماعيل وزير سوء يزين له كل جرائمه - وهو غزال المسلماني - فنصحه باستمالة الشيخ العز بن عبد السلام، وإغرائه بإرجاعه لكافة مناصبه الدينية من خطابة وإفتاء، مع امتيازات أخرى، وذلك نظير خضوع العز بن عبد السلام للصالح إسماعيل، وتقبيله ليده في محضر عام من الناس.
• فلما جاء الرسول للشيخ العز بن عبد السلام برسالة الصالح إسماعيل جاءت إجابته غرة على جبين العلم والعلماء، ومفخرة لكل عالم رباني عبر العصور تتناقلها الأجيال، حيث قال للرسول: يا
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
مسكين، ما أرضاه أن يُقَبلَ يدِي فضلاً أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به. وعندها أمر الصالح إسماعيل باعتقاله مرة أخرى، والتشديد عليه.
• استعد الصالح إسماعيل للخروج من دمشق بصحبة الصليبين للهجوم على مصر، وأخذها من ابن أخيه نجم الدين أيوب، ولكنه خاف من وجود الشيخ العز في دمشق، وتخوف من قيام الناس بإخراجه من السجن، وثورتهم عليه، فاصطحب الشيخ العز معه في معسكره مع الصليبين، وفي الطريق وقعت عدة كرامات للشيخ، وأثنى عليه الصليبيون كثيرًا، حتى قال كبيرهم للصالح إسماعيل:
لو كان هذا الشيخ قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها.
• وبعد أن أعيت الصالح إسماعيل السبل، وفشلت كل ضغوطه على الشيخ العز بن عبد السلام، قرر أن ينفيه عن بلاد الشام كلها، فخرج الشيخ العز بن عبد السلام، ومعه أبو عمرو الحاجب شيخ المالكية، وكان مثله في العلم والصدع بالحق، وتوجه الإمامان إلى بلاد مصر ليبدآ فصلا جديدًا من العزة، وأيضًا المحنة.
محنته في مصر:
• خرج الشيخ العز بن عبد السلام من دمشق باتجاه مصر، فلما مر بمدينة الكرك تلقاه صاحبها "الناصر داود"، وطلب منه الإقامة عنده فقال له الشيخ العز: بلدك صغير على علمي، وهكذا يبرهن الشيخ العز على مدى اعتزازه بعلمه، وبمنزلة العلماء وقدرهم؛ فهو كما قلنا كان يؤكد في كل مرة، وفي كل موطن على مكانة العلم والعلماء، وقيادتهم للأمة.
• توجه الشيخ إلى القاهرة، وهناك تلقاه السلطان نجم الدين أيوب، وأحسن استقباله وقدَّر مواقفه التي أبداها بالشام، وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص وقضاء الوجه القبلي، وانبسط الشيخ،
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وأخذ في التدريس والإفتاء، وكان أول من تصدى لعمل التفسير في الجامع على شكل دروس يومية، والتف حوله الناس وطلبة العلم والعلماء، والشيخ مستمر على حاله: من الصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب على السلطان نفسه فما دونه، حتى هابه الجميع.
• شيئًا فشيئًا ثَقلت وطأة الشيخ العز على الأمراء والأعيان، ورجال الدولة الذين لم يعجبهم وجود مثل ذلك الشيخ، الذي أحيا شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس؛ ووصلت قوة
الشيخ وجرأته في الحق إلى أن يسقط عدالة وشهادة نائب السلطان: الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، بسبب قيامه ببناء طبلخانة - دار للطبول التي تدق أوقات الصلوات، وخروج السلطان - على ظهر جامع بالقاهرة، وقد ظل الأمير فخر الدين ساقط الشهادة حتى مات، حتى إن الخليفة العباسي المستعصم ببغداد رفض رسالة جاءته من السلطان نجم الدين أيوب بسبب أن مؤدي الرسالة هو الأمير فخر الدين، وبعد تلك الحادثة عزل الشيخ نفسه عن القضاء.
• ثم وقعت حادثة أخرى، وهي الأشهر في تاريخ الشيخ، والتي تدل على مدى عزته ومكانته، وهي حادثة بيعه للأمراء المماليك، فقد ثبت عنده أن معظم هؤلاء الأمراء ما زالوا رقيقًا لا يصح لهم أي تعامل من أي نوع، فاستشاط الأمراء غضبًا، وأوغروا صدر السلطان على الشيخ العز؛ فاستدعاه، وأغلظ له القول، فما كان من الشيخ العز إلا أن حمل متاعه على حمار، وأركب عائلته على حمار آخر، وخرج من مصر؛ فمشى خلفه رجال ونساء، وخرج معه العلماء والصالحون والتجار، فبلغ الخبر السلطان، وقيل له: متى خرج الشيخ العز ذهب ملكك، فركب السلطان بنفسه
واسترضاه وطيب قلبه، وترجاه من أجل العودة.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• عاد الشيخ للقاهرة بشرط أن يتم بيع الأمراء والأرقاء، فوافق السلطان، فلما علم كبير الأمراء بذلك حاول استمالة الشيخ ليرجع عن رأيه، ولكن الشيخ صمم، فانزعج كبير الأمراء بشدة، وقرر قتل الشيخ بنفسه، وذهب إلى دار الشيخ في جماعة من فرسانه، وأحاطوا بالدار، وسيوفهم مشهرة، فلما رآهم عبد اللطيف ابن الشيخ العز ارتعد فزعًا، ودخل على أبيه يخبره، فما اكترث لذلك، ولا تغير، وقال كلمته الشهيرة: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل عليهم؛ فحين وقع بصره على الأمير يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وارتعدت مفاصله وبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له، ووافق على أن يباع هو وزملاؤه الأمراء، وتم ما أراد الشيخ، ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا، وغالى في ثمنهم، وقبضه، وصرفه في وجوه الخير.
• ولما تولى سيف الدين قطز السلطنة، والتتار على أبواب الشام ومصر، وجمع قطز العلماء والفقهاء واستشارهم في جمع الأموال من الناس لتمويل الجيش ضد التتار؛ فما تكلم أحد من الحاضرين مهابة من السلطان غير الشيخ العز الذي قال: لا يجوز ذلك إلا بعد أن ينفق السلطان والأمراء وقادة الجند ما في قصورهم من كنوز وأموال حتى يستووا مع سائر الناس في المأكل والملبس والسلاح، عندها يجوز للسلطان أن يأخذ من أموال الشعب للتمويل الحربي.
• بالجملة كانت حياة الشيخ العز بن عبد السلام عبارة عن سلسلة متواصلة من الصدع بالحق، والثبات على الدين، والتصدي للباطل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما جعل حياة الشيخ
مقترنة بالمحن والابتلاءات والتهديدات الدائمة، ومع ذلك لم يهادن ولم يداهن، ولم يتراجع، بل ثبات حتى الممات، لذلك استحق لقب سلطان العلماء.
المصادر والمراجع:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• طبقات الشافعية: (8/ 214).
• البداية والنهاية: (13/ 264).

• العبر للذهبي: (5/ 260).
• شذرات الذهب: (5/ 302).
• حسن المحاضرة: (1/ 343).
• طبقات المفسرين: (1/ 312).
• العز بن عبد السلام/ للدكتور الزحيلي.

• تراجم أعلام السلف: (621).
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م





ابوالوليد المسلم 16-03-2025 10:00 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة الإمام ابن القيم
شريف عبدالعزيز الزهيري
(16)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

بين يدي المحنة:
الإسلام هو دين الفطرة الذي اختاره الله عز وجل للبشرية كلها، فيه سعادتها وراحتها، فيه الإجابة على كل سؤالات البشر، وفيه مواءمة طلباتهم الكثيرة والمتغيرة، لذلك كان الاجتهاد من أهم آليات وأدوات هذه الموائمة، وجعل الله عز وجل للمجتهد الأجر والثواب على كل حال، أصاب أم أخطأ، ولا يزال للاجتهاد والمجتهدين على مر العصور الأعداء والعقبات التي تعيق حركة هذا الدين ومرونته، ويعتبر التقليد والتعصب المذهبي من أشد أعداء الاجتهاد - وباسمه على يد أتباعه وحراسه وسدنته - نال المجتهدون على مر العصور الكثير من المحن والابتلاءات، وهذه محنة واحدة منهم.
التعريف به:
هو الإمام الفذ، والعلم المتبحر، والمفسر المحدث، طبيب القلوب وعللِها، وخبير النفوس وآفاتها، صاحب التصانيف الرائعة، والمصنفات النافعة، الإمام أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر أيوب بن سعد بن حريز بن مكي الزرعي الدمشقي الحنبلي، المشهور بابن قيم الجوزية، أو ابن القيم، نسبة إلى أبيه الذي كان قَيمًا - ناظرًا - على المدرسة الجوزية (إحدى مدارس الفقه الحنبلي بدمشق).

ولد سنة 691هـ بدمشق - على الراجح من كلام المؤرخين - في أسرة علمية خالصة؛ إذ كان أبوه الشيخ أبو بكر قَيمًا على المدرسة الجوزية، فانتظم ابن القيم في الدرس، وطلب العلم وهو في السابعة، فدرس على يدي مدرسي الجوزية وغيرهم، وظهرت منه مثابرة عظيمة في طلب العلم، ورغبة صادقة في النبوغ والألمعية، حتى إنه قد أتقن علومًا عدة وهو دون العشرين من العمر، ولم يكتف بطلب العلم من مشايخ الحنابلة الذين ينتمي إلى مذهبهم، ولكن طلبه من سائر الشيوخ، وأرباب المذاهب؛ فلقد درس على يد العلامة ابن الزملكاني الشافعي، والحافظ المزي الشافعي،
ومجد الدين التونسي المالكي، والصفي الهندي الحنفي، وهكذا طاف على شيوخ المذاهب، وحتى من بساتين علومهم، حتى صار من العلماء المتبحرين الموسوعيين في تلك الفترة الزاخرة بالعلماء والأعلام.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
كان ابن القيم كعادة العلماء الربانيين في الأمة يجمع بين العلم والعمل، فهو ليس كمن بليت بهم الأمة - أمة الإسلام - ممن ينتسب إلى العلم زورًا، فيقول ولا يعمل، وينصح ولا يرتدع، ويعظ ولا يتعظ، فلقد كان ابن القيم رحمه الله ذا عبادة وزهادة، وتهجد واجتهاد، سائرًا في مدارج الربانيين، دائم الذكر، طويل الفكر، يطيل الصلاة بصورة لم يقو على مثلها أشد أهل زمانه عبادة، حتى إن الناس كانوا يلومونه على طولها، ويقعون فيه بسبب ذلك، وهو لا يرجع عن طريقته تلك، التي هي من طراز السابقين الأولين.
وبجانب عبادته واجتهاده - الذي لم يلحق شأوه فيها أحد - كان ابن القيم سمح الأخلاق، كبير الاحتمال، سريع العفو، كثير التودد، وأوذي كثيرًا، فلم تسمع منه كلمة واحدة في حق من آذاه،
عفا عمن ظلمه، وجعل أجره على الله عز وجل، على الرغم من كثرة الوشايات والسعايات في عصره، إلا أنه لم يتلوث بشيء منها قط؛ لذلك طوى الزمان ذكر خصومه وأعدائه، على الرغم من كون بعضهم من العلماء الكبار، فلم يعد يعرفهم أحد، ورفع ذكره فصار أستاذا، وقدوة للسالكين حتى وقتنا الحاضر.
ثناء الناس عليه:
ثناء الناس وأهل العلم على ابن القيم رحمه لله - خاصة من معاصريه، ومن جاء بعده - أصدق شهادة على مكانة هذا الإمام الفذ، الذي اجتهد خصومه من أرباب التصوف الكاذب، والمقلدة
والمتعصبة والحسدة في طمس حسناته ومكانته وتشويه سيرته، ولكن كما قيل: كفا بالحاسد والحاقد عقوبة من نفسه، وثناء الناس وأهل العلم على ابن القيم من جملة عقوبة الله عز وجل لهؤلاء الحسدة والمتعصبة، وهذا طرفٌ من ثناء الناس على هذا الإمام الفذ:
قال عنه ابن رجب الحنبلي - وهو من أخص تلاميذه -:
تفقه في المذهب، وبرع وأفتى، ولازم الشيخ تقي الدين بن تيمية، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفًا في التفسير، لا يجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيه المنتهي، والحديث، ومعانيه، وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية، وله فيها اليد الطولي، وعلم الكلام والنحو، وغير ذلك، وكان عالما بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولي.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
قال ابن ناصر الدمشقي: وكان ذا فنون من العلوم، وخاصة التفسير والأصول من المنطق والمفهوم.
وقال عنه ابن كثير: سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين، ولما عاد شيخ الإسلام من الديار المصرية سنة 712هـ لازمه حتى مات الشيخ، فأخذ عنه علمًا جمًا جمع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريدًا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلا ونهارًا، وقال لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه.
قال عنه القاضي الزرعي: ما تحت أديم السماء أوسع علمًا منه.
قال عنه الشوكاني: برع في شتى العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف.
قال الحافظ ابن ناصر الدين الشافعي: الشيخ الإمام العلامة شمس الدين، أحد المحققين، عَلَمُ المصنفين، نادرة المفسرين، له التصانيف الأنيقة، والتآليف التي فيها علوم الشريعة والحقيقة.
قال عنه ابن رجب في موضع آخر: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والانكسار له، ولم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علمًا، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله.
قال عنه الحافظ السيوطي: وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث والفروع والأصلين والعربية.
وقال عنه القاضي عبد الرحمن التفهني الحنفي في معرض سياقه لترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية: وتلميذه ابن قيم الجوزية الذي سارت تصانيفه في الآفاق، ولو لم يكن له - أي ابن تيمية - من آثار إلا ما اتصف به تلميذه ابن القيم من العلم لكفى.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
مصنفاته:
أهم ما يميز هذا الإمام الفذ ابن القيم هو تراثه العلمي والفكري الذي تركه للأمة، وأثرى به المكتبة الإسلامية؛ فلقد رزقه الله عز وجل ذهنا سيالا، وقلما دفاقًا، وبركة في أوقاته التي كانت عامرة
كلها بالنافع والصالح لنفسه، وللأمة كلها، ورغم تبحره في علوم كثيرة، وتأليفه في شتى أبواب العلم، خاصة في الأصول والعقائد والحديث إلا أن أكثر ما يميزه كتاباته ومؤلفاته في علم السلوك والرقائق، وأدواء النفوس، ومقامات الإيمان، وله في ذلك المصنفات الرائعة الفائقة، والتي أربى فيها على المتقدمين، ولم يلحقه أحد من المتأخرين، والتي صارت بمثابة العلامات المضيئة في تاريخ التصنيف والتأليف في باب الرقائق، والتي جعلت الإمام ابن القيم يتبوأ مكانة ساحقة كواحد من أفضل من كتب في أحوال القلوب والنفوس، ومن أهم مصنفات الإمام ابن القيم، وكلها بفضل الله عز وجل مطبوعة ومتداولة - ما يلي:
أولا: مصنفاته في العقائد:
1- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية.
2- الرسالة التبوكية.

3- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
4- هداية الحياري في أجوبة اليهود والنصارى.
5- الكافية الشافية (النونية).

ثانيا: مصنفاته في الأصول والفقه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
1- إعلام الموقعين عن رب العالمين.
2- أحكام أهل الذمة.
3- إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان.
4- تحفة المودود في أحكام المولود.
5- حكم تارك الصلاة.
1- الطرق الحكمية في السياسية الشرعية.

ثالثا: مصنفاته في السلوك والرقائق وأحوال القلوب - وهي الأشهر-:
1- مدارج السالكين، وهو أشهر كتبه، وأكثرها تأثيرًا.
2- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان.
3- بدائع الفوائد.

4- حادى الأرواح.
5- الداء والدواء.
6- روضة المحبين.
رابعا: مصنفاته في الحديث والسيرة وغير ذلك:

1- تهذيب مختصر سنن أبي داود.
2- زاد المعاد في هدي خير العباد.
3- التبيان في أقسام القرآن.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
4- جلاء الأفهام.
5- الطب النبوي.
6- عدة الصابرين.

7- الفروسية الشرعية.
8- الكلم الطيب والعمل الصالح، المشهور باسم الوابل الصيب.
9- مفتاح دار السعادة.
10- المنار المنيف في الصحيح والضعيف.
محنته:
من لطف الله عز وجل وتقديره لابن القيم أنه التقى بشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فلقد كان مع ابن القيم في بداياته صوفيًّا، مشغولا بما هم عليه من عوايد وطرق، حتى التقى مع ابن تيمية سنة 712هـ عند عودته من مصر مظفرًا مرفوع الرأس؛ بعد أن نصره الله عز وجل على خصومه الصوفية هناك بعد محن طويلة، وفصول عريضة، وكان لقاؤه مع ابن تيمية نقطة فاصلة في حياته؛ إذ
انتقل من التصوف إلى الحق والسنة، وطريقة السلف الصالح في العقائد والأصول، وقد أخذ ابن تيمية بمجامع قلب ابن القيم، وأصبح مرشده العلمي والدعوي، وأصبح ابن القيم من أخص وأنجب تلاميذ ابن تيمية، وأصبح كلاهما يعبر عن الآخر، وكذلك أصبح ابن القيم امتداد لابن تيمية، وقد لزم أقواله وآراءه وأفكاره، ولم يخرج عنها، وبالتالي تعرض ابن القيم لنفس المحن التي تعرض لها ابن
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
تيمية، وكان شريكه وقرينه فيها.
محنته مع شيخ الإسلام ابن تيمية:
قلنا من قبل أن حياة ابن تيمية كانت مسلسلا متواصلا من المحن والابتلاءات، وكانت بداية العلاقة بين ابن القيم وابن تيمية سنة 712هـ بعد عودته من مصر منتصرًا على خصومه من الصوفية، وقد شهدت هذه الفترة من سنة 712هـ إلى سنة 720هـ هدنة من المحن في حياة ابن تيمية مكنته من نشر أفكاره وفتاواه وعلمه، وتهيئته لمجموعة من التلاميذ الذين سيحملون المنهج السلفي، وينشرونه بين الناس، ومن هؤلاء - بل وعلى رأسهم - الإمام ابن القيم.
في سنة 725هـ خرج ابن القيم حاجًّا، وأثناء عودته عقد درسًا للوعظ والتفسير بالمسجد الأقصى، تكلم فيه عن مسألة الزيارة، وشد الرحال لزيارة قبر الخليل بفلسطين وأنكرها؛ فهاج عليه الناس وثاروا، ورفعوه إلى قاضي القضاة؛ فحكم بردته وقتله.
وانظر كيف وصل الحال بالتعصب والجهل، يهدر دم امرئ مسلم، بل عالم رباني على فتوى صحيحة، واستطال الأمر، وعظمت المحنة، وانتهز خصوم ابن تيمية من الصوفية والأشاعرة، وغيرهم
الفرصة، وألبوا الفقهاء والعلماء والسلطة على ابن تيمية، وكل من ينتمي إلى مدرسته، فقبضوا على ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، والكتبي، والبرزالي، وغيرهم، وآذوهم بشدة، وشهروهم في دمشق، وكان لابن القيم النصيب الأوفر؛ إذ ضرب بين يدي القاضي والأمير، وأهين بشدة، ثم حمل على حمار مقلوبًا، وطيف به في أنحاء دمشق كما يفعل مع السراق والمفسدين، ثم ألقوا به في
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
السجن مع شيخه ابن تيمية، ولكن بصورة انفرادية، وظل رهين حبسه حتى مات شيخه ابن تيمية سنة 728هـ، وخلال تلك الفترة الطويلة انشغل ابن القيم بالذكر والمناجاة والدعاء، وقراءة القرآن؛ ففتح الله عز وجل له أبوابًا كثيرة من العلم والتدبر والفهم، والمواجد الصحيحة، وقد بان أثر ذلك في كتاباته بعدها؛ فجاءت من قلم مجرب، وقلب متبتل، ومعايشة محنة، وبعد وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية أفرجوا عن ابن القيم.
محنته مع قاضي القضاة السبكي:
بعد خروج الإمام ابن القيم من سجنه ومحنته أخذ على عاتقه نشر أفكار شيخ الإسلام ابن تيمية، والمحافظة على منهجه ومدرسته التي أرسى دعائمها بكثير من الجهد والنصب والمحن، حتى مات من أجلها في سجون الظالمين، وقد أصبح ابن القيم هو رائد المدرسة التجديدية بعد رحيل ابن تيمية، لذلك كان من الطبيعي أن يتعرض ابن القيم لنفس الحملات التشويهية والتعريضية التي سبق وأن تعرض لها شيخه.
اجتهد الإمام ابن القيم كثيرًا لرد أهل عصره لهدي القرون الأولى، والتصدي للبدع التي تسربت لحياة المسلمين، والتي ليست من الدين في شيء، وكان الأشاعرة وقتها من أشد خصوم ابن تيمية
ومنهجه السلفي، وكل من ينتمي إلى السلفية، وكانت الدولة للأشاعرة؛ فاستخدموا نفوذهم، ومساندة السلطة لهم في قمع أتباع المنهج السلفي، وكان قاضي القضاة في بلاد الشام تقي الدين السبكي: وهو واحد من أسرة عريقة في العلم وفي القضاء، وأيضًا من أشهر الأسر تمسكا بالمذهب الأشعري، وكان للسبكية صولات وجولات مع أتباع المنهج السلفي، وبالأخص تقي الدين
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
السبكي كان أشدهم قسوة ونقدًا وتحاملا على ابن تيمية وتلاميذه.
تولى تقي الدين السبكي منصب قاضي القضاة بالشام سنة 739هـ، وابن القيم وقتها يعتبر علم المدرسة السلفية، فتحامل عليه بشدة، وصار يتتبعه في فتاواه وآرائه، وينتقده، ويؤلب عليه السلطة، حتى إن السبكي قد عقد له مجلسًا بسبب فتواه بجواز المسابقة بغير محلل، وأجبره على التراجع عنها، ثم سعى في سجنه بسبب تصديه لمسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وهي الفتوى التي سبق وأن أفتاها ابن تيمية، وأوذي بسببها، وبالفعل تسبب السبكي في سجن ابن القيم فترة من الوقت، ومن شدة تضييق تقي الدين السبكي على الإمام ابن القيم اضطره للرحيل إلى مكة؛ حيث جاور هناك فترة طويلة من الزمن، استغلها في العبادة والإقبال على الله عز وجل، والتأليف والتصنيف، فألف في تلك الفترة أروع كتبه مثل: بدائع الفوائد، ومدارج السالكين، وزاد المعاد، ومفتاح دار السعادة.
ورغم كثرة المحن والابتلاءات التي تعرض لها الإمام ابن القيم، والإهانة والضرب والجبس الذي تعرض له: صغيرًا وكبيرًا، تلميذًا وإمامًا، إلا أنه لم يغير موقفه وآراءه، ومنهجه ودعوته، وظل على
طريقه ودربه سائرًا، ينفع الناس، ويحارب البدع والخرافات والأفكار المخالفة للإسلام، وقد جعل هدفه في الحياة العودة بالناس لمنابع الدين الصافية النقية؛ لذلك لما رحل عن دنيانا في رجب 751هـ خرجت دمشق عن بكرة أبيها لتودع هذا الإمام الفذ العلامة، وقد تأسف الجميع لرحيله، حتى خصومه؛ لما كان عليه من العلم والفضل، والأخلاق الحسنة، ولم تنل المحنة منه، ولم تؤثر على مكانته ودرجته، وظل لوقتنا الحاضر يتبوأ منزلة ساحقة في تاريخ علماء الأمة وأعلامها.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع
• الدرر الكامنة: (4/ 21).
• البدر الطالع: (2/ 113).
• المختار المصون: (184).
• البداية والنهاية: (14/ 252).
• تراجم أعلام السلف: (695).
• ذيل طبقات الحنابلة: (20/ 448).

• شذرات الذهب: (3/ 168).
• النجوم الزاهرة: (10/ 249).
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م











ابوالوليد المسلم 17-03-2025 10:40 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام أبو الفرج ابن الجوزي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(17)
https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

طريق العلماء الربانيين مليء بالابتلاءات والمحن، وهم يعرفون ذلك جيدًا، ولكن بعض البلايا والمحن تكون أشد وقعًا وأثرًا من غيرها، فمثلاً إذا كانت المحنة من أقارب العالم وأهله فهي أشد وقعًا من غيرها، وإذا كانت المحنة عند تقدم السن، واشتعال الرأس فهي أشد وقعًا من غيرها، وإذا كانت المحنة ستشرد صاحبها وتنفيه وحيدًا عن أهله وبلده فهي أشد وقعًا من غيرها، وإذا كانت المحنة ستنقل صاحبها من المكانة والشهرة والإمامة إلى الهجر والنسيان والإهانة فهي أشد وقعًا من غيرها، وأما إذا اجتمعت كل هذه الشروط والعناصر في المحنة والبلية، ثم يروضها صاحبها، ويستفيد منها، ويحولها إلى منحة عظيمة؛ فهذا أمر جدير بالكتابة، والاستفادة منه.
التعريف به:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هو الشيخ الإمام العلامة، الحافظ المفسر، شيخ صناعة الوعظ، درة المجالس، وجامع الفنون، وصاحب التصانيف الكثيرة، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن الجوزي، ينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين، وخليفة رسول صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ولد ابن الجوزي سنة 510هـ ببغداد، ومات أبوه وله ثلاثة أعوام، فتولت عمته تربيته لزواج أمه، فنشأ ابن الجوزي يتيمًا: يتنقل بين أقاربه الذين كانوا يعملون في تجارة معدن النحاس، فلما أنست
منه عمته عزوفًا عن اللهو والتجارة دفعت به إلى طريق العلم، فلزم مسجد محمد بن ناصر الحافظ، وجلس لسماع الدروس والحديث، ثم لزم حلقة الشيخ ابن الزغواني شيخ حنابلة العراق، فظهر نجمه، وتقدم على أقرانه، وكان وهو صبي دينًا مجموعًا على نفسه لا يخالط أحدًا، ولا يجاري أترابه في لهوهم ولعبهم.
كان ابن الجوزي طموحًا، فيه بهاء وترفع في نفسه، دفعه لأن يطلب الجلوس مكان شيخه الزاغوني بعد وفاته، وكان وقتها شابًا دون العشرين، فأنكروا عليه ذلك؛ فاشتغل بالوعظ، وكان فنًّا رائجًا،
وبضاعة نافقة في تلك الأيام، وبغداد زاخرة بالوعاظ: الكبار منهم والصغار؛ فبذ الجميع، وتفرد بفن الوعظ، الذي لم يُسْبَقْ إليه، ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته، وجمال عباراته، ورائع تشبيهاته، وغوصه في المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بأيسر وأوجز عبارة، حتى صار إمام صناعة الوعظ والتذكير، ومفخرة بغداد بلا نظير، وتهافت الناس على حضور مجالسه، وحضرها الخلفاء والوزراء، والكبراء والأمراء، والعلماء، والأغنياء والفقراء، كل على حد السواء، حتى عد عشرات الألوف من الناس في المجلس الواحد من مجالسه، وله العبارات المأثورة، والكلمات المؤثرة المشهورة.
ورغم تفرده وإمامته لفن الوعظ إلا أن له مشاركات كثيرة في فنون شتى، وله اليد الطولى في فن التفسير والتاريخ والفقه، ودون ذلك في الحديث والحساب والفلك والطب، وله في كل فن عدة مصنفات، حتى صار رأس علماء العراق في زمانه، وهذا التقدم والرياسة والاحتشام والسؤدد، جلب عليه كثيرًا من عداوة الخصوم والأقران، وأتباع المذاهب الأخرى، وكان له دور ظاهر في تأجيج
تلك العداوات بحدة لسانه، وهجومه اللاذع على الصوفية والفقراء، وبعض معاصريه.
ثناء الناس عليه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
لم يكن ابن الجوزي مثل غيره من كبار علماء الأمة، الذين كانوا كلمة إجماع بين الناس، ولم يخض في حقهم أحد، ذلك أن لابن الجوزي عداوات كثيرة، وخصومات عديدة أزكاها بحدة لسانه، وقوة نقده، وجهره بآرائه، واعترازه الشديد بنفسه، ولكن لا يقلل ذلك كله من تقدير الناس لعلمه وإمامته، وتبحره في فنون شتى، وهذه طائفة من أقوال الناس عنه، وثنائهم عليه:
قال الإمام الذهبي: كان رأسًا في التذكير بلا مدافعة، يقول النظم الرائق، والنثر الفائق بديهًا، ويسهب، ويعجب، ويطرب، ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثله؛ فهو حامل لواء الوعظ، والقيِّم بفنونه، مع الشكل الحسن، والصوت الطيب، والوقع في النفوس، وحسن السيرة، وكان بحرًا في التفسير، علامة في السير والتاريخ، موصوفًا بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، فقيهًا، عليمًا بالإجماع والاختلاف، جيد المشاركة في الطب، ذا تفنن وفهم وذكاء، وحفظ واستحضار....
قال أبو عبد الله الدبيثي في تاريخه: شيخنا جمال الدين صاحب التصانيف في فنون العلوم: من التفسير والفقه والحديث والتواريخ وغير ذلك، وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه من سقيمه، وكان من أحسن الناس كلامًا، وأتمهم نظامًا، وأعذبهم لسانًا، وأجودهم بيانًا، وبورك له في عمره وعمله.
قال الموفق عبد اللطيف المقدسي: كان ابن الجوزي لطيف الصورة، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة، يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون، لا يضيع من زمانه شيئًا، يكتب في اليوم أربع كراريس، وله في كل علم مشاركة، لكنه كان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفاظ، وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كاف، وأما السجع الوعظي فله فيه ملكة قوية.
قال الإمام ابن قدامة المقدسي: ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون، كان يصنف في الفقه، ويدرس وكان حافظًا للحديث، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة، ذلك أن ابن الجوزي قد خالف الحنابلة في الكثير من مسائل الاعتقاد، حتى جلب على نفسه كثيرًا من المشاكل.
مصنفاته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
يعتبر الإمام ابن الجوزي من العلماء الموسوعيين الكبار في أمة الإسلام؛ فلقد كان متبحرًا في فنون كثيرة، له فيها مشاركات ومصنفات فائقة، ومؤلفات رائقة زادت على الثلاثمائة مصنف، كثير منها في فن الوعظ والتذكير، والأخلاق والرقائق، وله في كل فن عدة كتب، ومن أشهر مصنفاته كتاب زاد المسير في التفسير، وهو مطبوع متداول، وكتاب المنتظم في التاريخ، وهو من كتب التاريخ المشهورة والشاملة، أكمل كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري، وله كتاب الموضوعات في الحديث؛ وهو أول من أفرد الأحاديث الموضوعة بمصنف، وعلى منواله نسج من جاء بعده، وكتاب صفة الصفوة في أخبار الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم من طبقات القرون الثلاث الفاضلة، وكتاب تلبيس إبليس في كشف فضائح الصوفية، وصيد الخاطر في اللطائف والإشارات، ومنهاج القاصدين؛ وهو مختصر لطيف لكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وله سلسلة المناقب والفضائل للنبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والصالحين والأئمة والعلماء، وكثير من كتبه قد ضاعت في محنته؛ إذ تسلط عليها ابنه العاق أبو القاسم عليٌّ فباعها بالأحمال بيع العبيد لمن يزيد، ولكن معظم إنتاجه العلمي مطبوع متداول بفضل الله عز وجل، ومازال الناس ينتفعون به ويدرسونه، وما من خطيب ولا واعظ إلا ولابن الجوزي عليه فضل الاقتباس من كلامه، وكتبه الفائقة.
محنته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
رغم أن المحنة التي تعرض لها الإمام ابن الجوزي كانت في آخر عمره، إلا إن أسباب تلك المحنة كانت قديمة، وبعيدة الجذور، وذلك لأمرين: أولهما متعلق بالأجواء السائدة في بغداد خلال القرن
السادس الهجري، وثانيهما متعلق بطبيعة شخصية ابن الجوزي، والتي أورثته خصومة وعداوة الكثيرين.
فبغداد، ومنذ سيطرة الدولة السلجوقية على مقدرات الخلافة العباسية، وظهور شخصية الوزير الشهير نظام الملك، أخذ أتباع المذهب الشافعي، والعقيدة الأشعرية في الظهور والتحكم في الساحة العلمية لبغداد عاصمة الخلافة، والسيطرة على حلق العلم والمدارس الفقهية، ومحاريب الجوامع، وكانت تلك المكانة من قبل بيد أتباع المذهب الحنبلي، والعقيدة السلفية، فلما ظهر الشافعية استطالوا بشدة على الحنابلة، وضيقوا عليهم في المجالس والمدارس، ودخلوا معهم في مهاترات حامية بسبب العقائد، وشنعوا عليهم، وظل الأمر على ما هو عليه فترة طويلة، حتى ظهرت شخصية الإمام ابن الجوزي، الذي استطاع أن يستقطب الناس إلى مجالس وعظه، ويبهرهم بفريد عباراته، وفائق تذكيراته، فحضر مجالسه عشرات الآلاف من الكبار والصغار، والرجال والنساء، وحضرها الخليفة العباسي نفسه، والسلطان السلجوقي، والوزراء والأمراء والكبراء، والأغنياء والفقراء، حتى كان يحضرها الشيعة الذين بهرهم رائع بيانه، خاصة وابن الجوزي كان من يداري ويهادن، ولا يخوض في الخلافيات، بالجملة أصبح ابن الجوزي حديث الناس، وأشهر علماء بغداد والعراق، وقد أدى ذلك لارتفاع مكانة الحنابلة، وإقبال الناس على شيوخ المذهب، وذلك الأمر أغاظ أتباع باقي المذاهب عامة، والشافعية خاصة.
وفي سنة 550هـ استوزر الخليفة العباسي المقتفي بالله الوزير عون الدين بن هبيرة، وكان من خيار الوزراء، وأفاضل العلماء، وكان حنبليًّا سلفيًّا، وقد اجتهد ذلك الوزير الصالح في إقامة الدولة
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
العباسية، واستعادة هيبة الخلافة، وحسم مادة ملوك السلاجقة، وكان ذلك الوزير مصاحبًا لابن الجوزي قبل ذلك، فلما صار في الوزارة قرب ابن الجوزي واصطفاه لمجالسه ومشورته، وارتفعت مكانة ابن الجوزي أكثر مما قبل، وكذلك الحنابلة، وقد استمر ذلك الوزير في منصبه خلافة المقتفي، ثم ولده المستنجد، وكان له كثير من الخصوم لصلاحه، وكفاءته في الإدارة، والإخلاص للدولة العباسية، ومن كان خصمًا لابن هبيرة كان خصمًا لابن الجوزي معه للصداقة التي بينهما، وقد قتل ذلك الوزير الصالح بالسم سنة 560هـ، ولم يعلم قاتله، وبموته أخذ أعداء ابن الجوزي في التربص به، والكيد له.
هذا الشق كان فيما يتعلق بالأمر الأول، والمتعلق بأحوال الخلافة والأجواء السائدة في بغداد، أما فيما يتعلق بالأمر الثاني؛ وهو طبيعية شخصية ابن الجوزي نفسه، فإن ابن الجوزي كان مفخرة العراق في وقته، ودرة بغداد في زمانه، شهرته طغت على علماء الوقت، فحسدوه، وغاروا من إقبال الناس عليه، وقابل ذلك هو بمزيد من الاعتداد بالنفس، والاعتزاز بالقدر حتى داخله نوع من
العجب والغرور، كما أنه كان شديدًا في نقده، حادًا في ملاحظاته، لاذعًا في تعليقاته، خاصة على الوعاظ والعلماء من الشافعية والأحناف، لا يبالي بمكانة وقدر من ينتقد ويجرح، حتى خرج بنقده إلى نوع من التحامل والتعصب، وهي أمور كلها قد أورثته عداوة وخصومة الكثيرين، حتى من أصحابه الحنابلة، الذين غضبوا من انتقاده للشيخ الرباني عبد القادر الجيلاني، وكان رأس الوعاظ في العراق قبل ظهور ابن الجوزي، وفي نفس الوقت شيخ الحنابلة بالعراق.
محنة آخر العمر:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ظل ابن الجوزي على مكانته ومنزلته حتى تولى الخلافة الناصر لدين الله العباسي سنة 575هـ، وكان يخالف سيرة أبائه وأجداده، فقد كان أول وآخر خليفة عباسي يتشيع، ويتظاهر بذلك، ويجهر به، وقد عمل على تقريب الشيعة، فاستخدمهم في أعماله وشئونه، وبالطبع أخذت الأضواء تنحسر عن رجال أهل السنة وعلمائهم، ومنهم ابن الجوزي؛ فاستغل خصوم الرجل ذلك الأمر، وخططوا للإيقاع به.
كان ألد أعداء الشيخ ابن الجوزي رجل اسمه الركن عبد السلام بن عبد الوهاب، وهو حفيد الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكان أبناء الشيخ عبد القادر وأحفاده يبغضون ابن الجوزي بشدة بسبب رأيه في الشيخ عبد القادر، وانتقاده الدائم له، وكان الركن عبد السلام ذلك أشدهم كراهية لابن الجوزي، ولكن لسبب آخر؛ وهو أنه كان رجلا رديء المعتقد على مذهب الفلاسفة، شروًبا للخمر، فأفتي ابن الجوزي بحرق كتبه؛ فأحرقت ومنعت، ثم أخذت منه مدرسة جدهم الشيخ عبد القادر الجيلاني، وأعطيت لابن الجوزي، فاغتم الركن لذلك، وقرر الإيقاع بالشيخ ابن الجوزي.

العجيب أن الذي تآمر مع الركن عبد السلام في مؤامرته ضد ابن الجوزي هو أقرب الناس لابن الجوزي، ولده الكبير أبو القاسم على، وكان ماجنًا فاسقًا نديم الركن في مجالس الخمر والفجور، وكان عاقًا لأبيه، وقد هجره أبوه وإخوته لسوء أخلاقه وأفعاله؛ فتآمر أبو القاسم عليّ مع الركن عبد السلام للنيل من الشيخ ابن الجوزي.
تولى الوزارة في تلك الفترة رجل شيعي اسمه ابن القصاب، وكان صديقًا للركن عبد السلام للموافقة في الاعتقاد، فسعى عنده للإيقاع بالشيخ عند الخليفة الناصر العباسي، فقال الوزير الرافضي
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
للخليفة العباسي: أين أنت من ابن الجوزي الناصبي؟ وهو أيضًا من أولاد أبي بكر الصديق، ثم ما زال بالخليفة حتى غير قلبه على ابن الجوزي، وفوض الأمر إليه في التصرف معه، وذلك سنة 590هـ، وكان ابن الجوزي وقتها في الثمانين من العمر؛ ففوض الوزير ابن القصاب الركن عبد السلام في التصرف مع الشيخ ابن الجوزي؛ فذهب إلى داره بنفسه، ومعه الكثير من الحراس، وأبناء الشيخ عبد القادر؛ فشتموه وأهانوه، وجذبوه بشدة من بين عياله، وكان عليه ملابس خفيفة بلا سراويل، وختموا على داره، ووضعوه في سفينة صغيرة، ونفوه إلى مدينة واسط، وهناك حبسوه في بيت ضيق بلا أحد يخدمه، وكان شيخًا مسنًا قد جاوز الثمانين، فبقي وحده يطبخ لنفسه، ويغسل ثيابه لنفسه، ممنوع عليه الاجتماع مع الناس، أو الجلوس للوعظ كما هي عادته، ولاقى ضروبًا من المحن والهم والتعب طيلة خمس سنوات في النفي.
لم يكتف الركن عبد السلام بما فعله مع الشيخ ابن الجوزي من الإهانة والنفي والتشريد، والسجن الانفرادي، بل حاول التوصل إلى والي مدينة واسط، وكان شيعيًا أيضًا ليقتل ابن الجوزي، فقال
الوالي للركن: يا زنديق، أفعل هذا بمجرد قولك؟ هات خط أمير المؤمنين، والله لو كان على مذهبي لبذلت روحي في خدمته، فخاب سعي الركن، وفشلت خطته، ولكن لم يمنع ذلك من التضييق على ابن الجوزي وحبسه.
تلك المحنة الكبيرة التي نزلت بالشيخ ابن الجوزي وهو في أواخر عمره، وبعد أن جاوز الثمانين قد زاد من ألمها جناية ولده أبي القاسم عليٌّ على تراث أبيه العلمي، ونتاجه الـتأليفي، إذ تسلط ذلك
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
الولد العاق الفاسق على كتب أبيه، وكانت مئات المجلدات في شتي الفنون، وباعها بالأحمال، وشرب بثمنها الخمر، وتجاهر بذلك الفحش والخسة، والأب يعاني في غربته ووحدته مرارة ذلك الجحود والنكران.
ظل الشيخ ابن الجوزي في محنته بين النفي والسجن والإهمال والإهانة خمس سنوات كاملة كانت كفيلة بتحطيم عزيمة أي رجل قوي، وليس شيخًا طاعنًا في السن، ولكن الشيخ العلامة ابن الجوزي، الذي طالما وعظ الناس، وذكرهم وصبرهم، ورغبهم ورهبهم، حول محنته إلى محنة عظيمة، وروض تلك المحنة الأليمة، فاستغل تلك السنوات الخمس في قراءة كتب الحديث، والتلاوة بالعشر قراءات للقرآن على يد الشيح ابن الباقلاني، وأبدى همة عالية في ذلك، حتى أتم حفظ القراءات العشر وهو في الرابعة والثمانين من العمر.
وفي سنة 595هـ أذن له الله عز وجل في رفع المحنة، وفك الكربة، وذلك بشفاعة أم الخليفة الناصر العباسي، وعاد ابن الجوزي من منفاه في واسط إلى بغداد، وأذن له في الوعظ كما كان، وعاد
إلى مكانته وعزه وسؤدده، وحضر الخليفة العباسي بنفسه أول مجالس وعظه، وكانت كلمات ابن الجوزي مؤثرة، ملهبة، وقد خرجت من قلب احترق بالمحن، حتى خرج نقيًا من كل شائبة، وبعد ذلك بقليل مرض ابن الجوزي، ثم مات في منتصف شهر رمضان سنة 597هـ فرحمة الله عليه، وتجاوز عنه، وغفر له ما خاض فيه من تأويل، وغير ذلك.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (21/ 365).

• البداية والنهاية: (13/ 35).
• الكامل في التاريخ: (10/ 276).
• وفيات الأعيان: (3/ 140)
• تذكرة الحفاظ: (4/ 1342).
• ذيل طبقات الحنابلة: (1/ 399).
• تراجم أعلام السلف: (597).

• شذرات الذهب: (2/ 329).
• النجوم الزاهرة: (6/ 174).
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 18-03-2025 10:44 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام جمال الدين القاسمي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(18)
https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

كلما بعدت الأمة عن منهج النبوة، وكلما تقادم عهد منابع الدين النقية الصافية وقعت في هوة سحيقة من الجمود والتخلف والضعف، وهذه الأدواء كلها تطيح بالأمة عن مقدمة الركب إلى ذيلة، وهذا ظاهر في فترات ضعف الأمة؛ حيث ترى العديد من السمات والظواهر لتلك الفترات: فترى انتشارًا للخرافات والبدع، وترى جمودًا عمليًا، وتقليدًا أعمي، وركودًا فكريًا، وتعصبًا مذمومًا، وترى أو السنة قد أصبحت بدعة، والبدعة أصحبت سنة، ويصبح الاجتهاد والتجديد تهمة خطيرة يستحق صاحبها النفي والقتل والتنكيل حتى يكون عبرة لغيره ممن تسول له نفسه أن
يجتهد، أو يجدد، أو يصلح من أمور المسلمين.
التعريف به:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هو الإمام الكبير، العالم المفسر المحدث، علامة الشام، المجدد المجتهد، صاحب التصانيف الكثيرة الباهرة، العلامة الشيخ أبو الفرج محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكر المعروف بالقاسمي نسبة إلى جده قاسم الملقب بالحلاق.

ولد القاسمي في جمادي الأولى سنة 1283هـ - 1866م بدمشق حاضرة الديار الشامية، في بيت دين وورع، وخلق كريم، وعلم وأدب، فأبوه كان من الفقهاء الأدباء، له كتاب طريف في باب اسمه (قاموس الصناعات الشامية)، وفي ذلك الجو العابق بجلال الدين والعلم، ورقة الأدب وتهذيبه نشأ الإمام القاسمي نشأة حسنة صالحة، وأقبل على طلب العلم منذ صباه ونعومة أظافره، وقد حرص أبوه على أن يعهد به إلى الأئمة والأعلام في كل فن، فحفظ القرآن وجوده على يد شيخ قراء الشام الشيخ الحلواني، ثم انتقل إلى مكتب المدرسة الظاهرية؛ فتعلم التوحيد وعلوم اللغة والفقه
والحديث والأصول،؛ فنال إجازات عالية في كل هذه الفنون ولما يبلغ الثامنة عشرة، ولم يترك إمامًا بارزًا، أو شيخًا معروفًا إلا جلس إليه، وأخذ عنه إجازة بعلومه.
كان الإمام القاسمي صاحب عزيمة جبارة، ومثابرة عجيبة في طلب العلم، ومطالعة الكتب، والمدارسة والتحصيل والتحقيق، وكان شديد الحرص على أوقاته، وأضن بلحظات حياته من الدينار والدرهم، لا يضيع شيئًا منها سدى، وتلك المحافظة قد مكنته من مطالعة ما لا يحصى من الكتب الكبار والصغار، ينجز الدواوين الكبيرة مطالعة وبحثًا في أيام معدودات، وتلك الهمة العالية
دفعت به لمصاف كبار العلماء وهو شاب في شرخ الشباب، وكان دائمًا يقول: (المكسال شيخ في شبابه؛ لأن دقيقة البطالة أطول من ساعة العمل).
ولقد اتصف القاسمي رحمه الله بصفات العلماء الربانيين، فقد كان سليم القلب، عفيف النفس واللسان، واسع الحلم، جم التواضع، سخيًا على ضيق حاله، حلو المعاشرة والمجالسة، وأوقاته عامرة كلها بالنفع العام والخاص، عازفًا عن المناصب، مجانبًا للسلطة وأربابها، ولقد عرض عليه منصب قاضي العسكر براتب مغر فأعرض لعلمه بتبعات المناصب وضريبتها.

ولقد ظل الإمام القاسمي محافظًا على نفسه وأوقاته طوال حياته، لم يضع منها ساعة في لهو أو بطالة؛ لذلك بارك الله عز وجل في عمره القصير، وأنجز فيه ما لا يفعله إلا مثله من أفذاذ العلماء من سلف هذه الأمة، فلقد كان رحمه الله إمامًا وخطيبًا في دمشق، ومدرسًا يلقي عدة دروس في اليوم الواحد للعامة وطلاب العلم، له مشاركات فعالة في الحياة الاجتماعية بدمشق، ويتصدى للبدع والخرافات، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهكذا ديدن حياته، حتى صار علامة الشام المقدم بلا منازع.

مصنفاته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
عاش الإمام القاسمي حياة قصيرة من حيث عدد سنواتها، 49 عامًا، ولكنها كانت عريضة طويلة، وغنية بالعلم والعمل النافع والصالح، فلقد كان الإمام حريضًا على وقته أيما حرص، واجتمع عنده من أدوات التصنيف ما أهل لإخراج تلك الحصيلة الرائعة والنافعة من المؤلفات والمصنفات التي أثرت المكتبة الإسلامية في شتى الفنون، وقد بدأ التصنيف وهو في سن المراهقة، وقد ساعدته همته العالية، وحرصه على وقته بكل سبيل، على التأليف والتحقيق والترجيح والمناقشة للأقوال في مؤلفاته؛ فجاءت كاملة في معناها، شاملة في بابها، وكان اهتمامه بالتأليف والتصنيف كبيرًا جدًا؛
لعلمه بأهمية الكتاب في نقل الأفكار، ونشر العلوم، وكان دائمًا يقول: (كتاب يطبع خير من ألف داعية وخطيب، لأن الكتاب يقرؤه الموافق والمخالف)، ولقد ترك ثروة علمية كبيرة، زيادة عن مائة مؤلف ومصنف: بين كبير، ومتوسط، وصغير من أهمها:
1- تفسيره الشهير للقرآن الكريم المسمى (محاسن التأويل) وهو من أجل مصنفاته، وهو من أفضل التفاسير المعاصرة وأنفعها، خاصة في باب الرد على أهل البدع، والفرق والضالة.

2- كتاب دلائل التوحيد، وكان القاسمي سلفيًا في عقيدته كما هو ظاهر من كتبه.
3- إصلاح المساجد من البدع والعوائد.
4- قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث.

5- تعطير المشام في مآثر دمشق الشام.
6- شمس الجمال على منتخب كنز العمال.
وله أيضًا شذرة من السيرة النبوية، ورسالة الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس، ميزان الجرح والتعديل، جوامع الآداب في أخلاق الإنجاب، حياة البخاري، وغيرها من الكتب: منها المطبوع، ومنها
المخطوط الذي يحتاج لجهد المحققين لإخراجه إلى النور حتى ينتفع به الناس.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ثناء الناس عليه:
ظهر القاسمي في فترة مضطربة من حياة الأمة الإسلامية، كانت تعاني فيها من تسلط خارجي، وضعف داخلي، وقد وقعت معظم بلاد الإسلام - ومنها الشام - فريسة للاحتلال الصليبي؛ فكان من الطبيعي أن يضعف الاهتمام بالعلم والعلماء لانشغال الناس بما وقع ونزل ببلادهم، لذلك كان الثناء على علماء الزمان قليلا ونادرًا، ولكن لا يمنع ذلك من ثناء الناس على الإمام القاسمي،
ومن ذلك:
قال عنه أمير البيان شكيب أرسلان: وإني لأوصي جميع الناشئة الإسلامية التي تريد أن تفهم الشرع فهمًا ترتاح إليه ضمائرها، وتنعقد عليه خناصرها، ألاَّ تقدم شيئًا على قراءة تصانيف المرحوم الشيخ جمال القاسمي.
قال عنه الشيخ محمد رشيد رضا: هو علامة الشام، ونادرة الأيام، والمجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعلم والعمل، والتعليم والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، والارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن.
محنته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
دائمًا ما يكون للعصر الذي يحيا فيه الإمام الذي نروى محنته دور كبير في تلك المحنة؛ فلقد ولد القاسمي ونشأ وترعرع في فترة بالغة الاضطراب، في أواخر الحكم العثماني الذي أوشكت شمسه على
الغروب، وكانت الأوضاع السياسية شديدة الاضطراب، والأعداء يحيطون بالدولة من كل اتجاه، والاستبداد الداخلي قد كمم الأفواه ووأد الطموحات، والأمة تشهد تراجعًا وتدهورًا كبيرًا في شتى المجالات، ومنها المجال الديني الذي شهد جمودًا، وانشغالا بالقشور والمتون والحواشي، والتفريعات النظرية، والافتراضات الوهمية، وغرق أهل العلم وقتها في أتون التعصب والتقليد والمذهبية المقيتة، حتى صار العلم مرادفًا للتحجر والتجمد والغيبوبة، وبالتالي أثر ذلك على الناس بشدة، فلم تستضئ حياتهم بنور العلم الساطع، والفهم الصحيح المثمر للدين، وصار كل من يحاول كسر ذلك الجمود العلمي، ويحرك ركود الحياة العلمية آنذاك مارقًا مبتدعًا، تجب محاكمته وردعه.
كان العلامة القاسمي معنيًا بأحوال الأمة الإسلامية، يسوءُه ما يراه من تدهورها وتراجعها أمام أعدائها، وبالأخص كانت تسوءه الحالة المزرية التي وصلت إليها الأوضاع الدينية والعلمية ببلاد الإسلام، وذلك الجمود والتحجر الذي أصابها، ومهد السبيل معه لدخول البدع والخرافات والتعصب والتفرق، فبدأ دعوته الشهيرة لنبذ التعصب والتقليد، وتنقية العقيدة من الدخن الذي أصابها،
ودعا الناس للعودة إلى منابع الدين الأولى بصفائها ونقائها، كما دعا إلى فتح باب الاجتهاد من جديد بعد أن أغلقه المتفقهة والمتعصبة، وسدنة المذاهب بأقفال كبيرة منذ سنوات بعيدة، ووقفوا على باب التقليد مدافعين ومنافحين بكل ما أوتوا من قوة.
كان القاسمي صاحب عقل نير، وفكر وفهم ناضج، استفاد من قراءته التاريخية لسير المجددين والمجتهدين؛ فعمل على تكوين جبهة متحدة ممن هو على شاكلته من أهل العلم الغيورين المصلحين،
فأنشأ جمعية المجتهدين مع زملائه: عبدالرازق البيطار، وسعيد الفرا، ومصطفى الحلاق، وغيرهم، وعقدت الجمعية حلقات بحث دورية لقراءة ومناقشة أهم الكتب، والتباحث في أحوال المسلمين، وسبل النهوض بهم.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
أثار تكوين مثل تلك الجمعيات، وما يجري فيها من مناقشة أوضاع المسلمين: كل من السلطة الدينية، والدنيوية: فلقد اعتبر مفتي الشام وقتها أن أمثال تلك الجمعيات والدعوات لفتح باب
الاجتهاد من قبيل الابتداع في الدين، والهرطقة والخروج عن الجماعة والمألوف، في حين اعتبر والي الشام عثمان نوري باشا تلك الجمعية ورجالها من المحرضين والساعين لتقويض الدولة العثمانية، ولنا أن نتفهم طبيعية الدوافع الحقيقية للرجلين: فالأول يخاف على منصبه ونفوذه الديني، ومكتسباته التي ينالها باسم الدين، والثاني شأنه شأن كل الطغاة والظلمة الحريصين على تخلف شعوبهم، وركودهم وسباتهم، حتى لا يُطالِبُوا بحق أو عدل، أو يتكلموا عن حلال وحرام، وهكذا.
وفي سنة 1313هـ - 1895م تم تقديم الشيخ القاسمي ورفاقه للمحاكمة بأعجب وأغرب تهمة على مر العصور، ألا وهي تهمة الاجتهاد وابتداع مذهب جديد في الدين أسموه المذهب الجمالي - نسبة لجمال القاسمي - وشكلوا له هيئة قضاء من شيوخ المذاهب من أرباب التقليد، وسدنة الجمود، تحت قيادة مثير المحنة مفتي الشام وقتها - وكان عمر الشيخ القاسمي وقتها ثلاثين سنة - فقام القاسمي للدفاع عن نفسه وإخوانه، وألقى محاضرة رائعة في بيان منهجه ودعوته وآرائه، دحض بها افتراءات المقلدين والمتحجرين، ومن روعة بيانه، وقوة حجته لم يجد: لا الوالي، ولا المفتي، ولا
أي أحد ممن تصدي لمحنته سبيلا للنيل منه، وتم الإفراج عنه وعن إخوانه بعد إن كانت أبواب السجن مفتحة لهم، وسياط الجلاد مشرعة لإلهاب ظهورهم، وقد نظم شعرًا رائعًا في تلك المحنة نختار منه بعض الأبيات:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
زعم الناس بأني مذهبي يدعى الجمالي

وإليه حينما أفتى الورى أعزو مقالي
لا وعمر الحق إني سلفي الإنتحالِ
مذهبي ما في كتاب الله ربي المتعالِ
ثم ما صح من الأخبار لا قيل وقالِ
أقتفي الحق ولا أرضى بآراء الرجالِ
ولقد أدت تلك المحنة، والتي كادت أن تؤدي بحياة ذلك الإمام العلامة: لرفع قدره ومنزلته بين الناس، وإقبالهم على كتبه ومصنفاته، وحلق دروسه وفتاواه حتى إنه لما زار مصر بعد ذلك بعدة سنوات أطلق عليه الشيخ رشيد رضا لقب علامة الشام، وكان وقتها في السابعة والثلاثين فقط من العمر، فسبحان من بارك في أعمار هؤلاء الأعلام فصاروا مثل نجوم السماء وهم في شرخ الشباب، وكم من محنة جلبت منحة، وكم من بلاء قاد إلى علاء.
المصادر والمراجع:
جل الترجمة مأخوذة من مقدمة كتابه الشهير:

• محاسن التأويل.
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 19-03-2025 10:45 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة الإمام الشافعي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(19)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

بين يدي المحنة:
العلم والفهم من أعظم نعم الله عز وجل على عبده، وكلما ازداد العبد علمًا وفهمًا ترقي في سلم الإمامة حتى يصل إلى العلا؛ حيث محبة الخالق، ومحبة المخلوقين، والعلم والفهم رزق يسوقه الله عز وجل لمن يشاء من عباده، فلربما يكون عند ذلك العالم ما ليس عند غيره من
العلماء في العلم والفهم، والناس على مر العصور يتنافسون في الرزق، ويتحاسدون عليه، ومما تحاسد الناس عليه سلفًا وخلفًا المكانة والمنزلة التي ينالها بعض العلماء عند الأمة، ولو فتشت عن كثير من المحن والابتلاءات التي تعرض لها كبار علماء الأمة لوجدت الحسد والغيرة تقف خلفها، فهي سنة ماضية، وأمر مقدور، لا يخلو منه عصر من العصور.
التعريف به:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
فقيه الأمة، وعلمها المقدم، الإمام الفذ العبقري، ناصر الحديث، أستاذ الفنون، الأصولي اللغوي البديع، الشريف النسيب، العالم الكبير أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن
عثمان بن شافع بن السائب الهاشمي المطلبي القرشي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• ولد في غزة بفلسطين سنة 150هـ، ويقال: إنه ولد في نفس اليوم الذي مات فيه الإمام أبو
حنيفة، وقد مات أبوه إدريس شابًا، والإمام مازال في المهد، فانتقلت أمه إلى اليمن؛ لأنها كانت من الأزد، وهم من أكبر بطون اليمن، وظلت باليمن عدة سنوات؛ فخافت عليه ضيعة نسبه الشريف، فتحولت به إلى مكة، فنشأ بها وترعرع، وأقبل على الرمي حتى صار من أمهر الرماة، ثم أقبل على العربية والشعر، ثم ألقى الله عز وجل في قلبه حب العلم والفقه، وذلك من تقادير الله عز وجل له، وإرادة الخير به وبالأمة، فأقبل على العلوم ينهل منها بكل فروعها.
• جلس الشافعي إلى علماء مكة، وتفقه عليهم حتى صار أهلاً للفتوى، وأذن له شيوخه: مثل
مسلم بن خالد الزنجي بذلك، والشافعي وقتها في سن المراهقة، وقد قرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، وتنقل في البادية لفترة طويلة حتى أتقن لهجات العرب وأشعارها؛ فلما جاوز العشرين رحل إلى المدينة، وجلس للإمام مالك رحمه الله، وقرأ عليه كتابه الموطأ من حفظه، فانبهر الإمام مالك بقوة حفظه وفهمه، وتفرس فيه النجابة والعلم؛ فأوصاه بوصايا نافعة يحتاجها أي عالم يريد أن يسلك سبيل الربانية.
• يعتبر الإمام الشافعي ناشر مذهبه؛ فلقد طاف البلاد والأقاليم، فقد دخل العراق مرتين
واليمن ومصر عدة مرات، وقد استقر بها في النهاية، واختص به أهل مصر دون غيرهم، ولقد صنف التصانيف، ودون العلم، ورد على الأئمة متبعًا الأثر، وبعد صيته، وتكاثر عليه الطلبة، فلم يُعلم أحد من الأئمة له تلاميذ وطلبة نجباء مثل الإمام الشافعي؛ فتلاميذه ملأ السمع والبصر، كفي أن نذكر منهم الإمام أحمد بن حنبل والبويطي وأبو ثور، وغيرهم كثير.
• أما عن منهجه ومذهبه الذي اتبعه الإمام الشافعي في تقرير قواعد مذهبه، فلقد كان أثريًا سلفيًا يعتمد على الوحيين: القرآن والسنة، ثم القياس والإجماع، وكان يقول: كل متكلم على
الكتاب والسنة هو الجد، وما سواه هو الهذيان، ويقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط، أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم أقل به؟
• وهذا الاتباع للحديث، والعمل بالأثر جعل الإمام الشافعي يرجع عن كثير من أقواله بعد أن دخل مصر، وسمع ما عند المصريين من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار في
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المذهب قولان: القديم وهو في العراق حتى سنة 198هـ، الجديد وهو في مصر حتى وفاته سنة 204هـ، وهذا الرجوع للحديث والأثر والعمل به لا يقدم عليه إلا العلماء العاملون المخلصون الربانيون، وكم من فقيه ومتعالم يتبع رأي إمامه، ولا يخالفه أبدًا، ولو إلى الحق والثابت من الحديث والآثار؛ فيكون بذلك قد قدم رأي إمامه على قول الله ورسوله، وهذه المشاركة تحديدًا كانت من أسباب المحنة التي تعرض لها الإمام الشافعي رحمه الله.
• أما عن عقيدة الشافعي رحمه الله، فلقد كان الإمام من كبار علماء أهل السنة والجماعة،
رأسًا من رءوسهم الأعلام، انتدب للرد على المبتدعة والزنادقة خاصة المعتزلة والجهمية، وكان رحمه الله من أشد الناس فيهم؛ لذلك لم يجرؤ أحد من هؤلاء الضلال على أن يرفع رأسه أيام الإمام مالك ثم الشافعي، وكان ينهي أصحابه عن الخوض في كلام المبتدعة، وينهي عن الصلاة خلف الرافضي والمرجئي والقدري المعتزلي، وأفتي بكفر من يقول بخلق القرآن.
• أما عن عبادته وأخلاقه؛ فعلى الرغم من انشغاله الكبير بالعلم الشرعي والدرس والبحث، وعلى الرغم من أنه كان يقول: قراءة الحديث خير من صلاة التطوع، وقوله: طلب العلم أفضل
من صلاة النافلة، إلا إنه كان عابدًا ربانيًا زاهدًا، مقبلا على شأنه وآخرته، ليس للدنيا عليه سبيل، قال عنه راويته الربيع بن سليمان: كان الشافعي قد جزأ الليل: فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام. وكانت تمر عليه آية العذاب، أو حديث الترهيب فيخر مغشيًا عليه من رقة قلبه، وكان مشهورًا بتلاوة القرآن، تواتر عن أصحابه أنه كان يختم في كل ليلة ختمة في شهر رمضان يختم ستين ختمة، وهذا أظنه من المبالغات التي لا تصح، ولا يسمح الوقت بوقوعها، وعادة ما تكون التراجم والطبقات مليئة بالأخبار المبالغ فيها في شأن هؤلاء الأئمة الأعلام، وهذه الأخبار والآثار تحتاج لجهد مجموعة من العلماء والمتخصصين لتمحيصها، وتنقية كتب التراجم والسير منها، أما عن أخلاقه رحمه الله فلقد كان الشافعي شريف النفس والنسب، كريمًا سخيًا، شديد البذل والعطاء على ضيق ذات يده، لا يرد سائلا قط، تاركًا للمراء والجدل، مخلصًا ناصحًا للأمة، ويود لكافه المسلمين الخير، وكان يقول عن نفسه: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم - يعني كتبه - على أن لا ينسب إلى منه شيء، فأين هؤلاء الذي يضنون بعلمهم، ويتاجرون به بيعًا وشراءً من هذا الإمام الفذ العظيم.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
مصنفاته:
• لم يكن عصر الإمام الشافعي عصر التدوين والتصنيف، فلقد كان العلم مازال وقتها ينتقل ويتعلم بالتلقي والدروس المباشرة، وأضف إلى ذلك انشغال الشافعي نفسه بنشر مذهبه والتنقل في البلاد من أجل لقاء العلماء والمشايخ، ولكن لم تصنع هذه المهام كلها الشافعي
عن التدوين والتأليف، وإن كان علمه أكبر بكثير من كتبه ومؤلفاته.
• يعتبر الشافعي واضع علم أصول الفقه، وذلك في كتابه الشهير: (الرسالة) الذي كتبه عملا بنصيحة شيخه عبد الرحمن بن مهدي، ويعتبر كتاب الرسالة اللبنة الأولى في علم الأصول،
وقد ألفه الشافعي وهو شاب في الثلاثينيات، ووضع فيه حجة الإجماع، ومعاني القرآن، والناسخ والمنسوخ، وقبول الأخبار.
• وللشافعي أيضًا كتاب: (الأم) الذي جمع فيه مسائله وأقواله وفتاواه، وله كتب أخرى، كتبها
الشافعي بلغة سهلة يفهمها الجميع، على الرغم من بلاغته الفائقة، وفصاحته في المناظرة، والتي لم يقم له فيها أحد من أهل زمانه، وقد عد بعض أهل العلم للشافعي أكثر من مائة كتاب في علوم القرآن والسنن والمسانيد، وشتى فروع العلم، تسابق على حفظها وجمعها واقتنائها العلماء والأئمة، حتى إن إسحاق بن راهويه تزوج امرأة بمرو لم يتزوجها إلا لأنها أرملة رجل كانت عنده كتب الشافعي، وقال الجاحظ الأديب: نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم، فلم أر أحسن تآليفًا من المطلبي - يقصد الشافعي - لأن لسانه ينظم الدرر.
ثناء الناس عليه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• يعتبر الإمام الشافعي من أكثر علماء الإسلام الذين نالوا التقدير والثناء الوافر من الناس عالمهم وعاميهم، فلقد كان الإمام - وعلى مر العصور - كلمة إجماع بين الناس، وهو أكثر علماء الأمة الذين كتب في مناقبهم وفضائلهم كتب ومؤلفات، من أشهر مناقب الشافعي
للبيهقي، ومناقبه للخطيب البغدادي، وتوالي التأسيس لابن حجر.
وهذه طائفة من ثناء معاصريه عليه:
• قال عنه الإمام أحمد:
كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، وإني لأدعو له في كل سحر، وما أحد مس محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه منة، ولقد كان أفصح الناس، وما عرفنا العموم من الخصوص، وناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي، وصاحب الحديث لا يشبع من كتب الشافعي.
قال عنه عبد الرحمن مهدي وهو شيخه: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها.
قال يونس بن عبد الأعلى: كانت ألفاظ الشافعي مثل السكر؛ فلقد أوتي عذوبة منطق، وحسن بلاغة، وفرط ذكاء، وسيلان ذهني، وكمال فصاحة، وحضور حجة.
وقال ابن عبد الحكم: ما رأيت الشافعي يناظر أحدًا إلا رحمته، ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك، وهو الذي علم الناس الحجج.
قال عن أبي ثور الكلبي: كان الشافعي من معادن الفقه، ونقاد المعاني، وجهابذة الألفاظ.
قال عنه المبرد: كان الشافعي من أشهر الناس، وآدب الناس، وأعرفهم بالقراءات.
قال عنه يحيى القطان: ما رأيت أعقل ولا أفقه من الشافعي.
وورد عن جمع أهل العلم أنهم كانوا يخصون الشافعي بالدعاء في صلواتهم: منهم على سبيل المثال أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن مهدي، ويحيى بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور،
وغيرهم.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
قال عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: الإمام الكامل، العالم العامل، ذو الشرف المنيف، والخلق الظريف، له السخاء والكرم، وهو الضياء في الظلم، أوضح المشكلات، وأفصح عن المعضلات.
أما الحديث الذي رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وفيه: ((لا تَسبُّوا قُرَيْشًا؛ فإن عَالِمَهَا يَمْلأ الأَرْضَ عِلْمًا))، والذي حمله كثير من أهل العلم على الإمام الشافعي؛ فهو حديث ضعيف آفته
النضر بن حميد فهو متروك، ويرويه عن أبي الجارود، وهو مجهول.
محنته:
أصدق وصف، وأدق تعبير لأصل المحنة التي تعرض لها الإمام الشافعي ما قاله تلميذه الأنجب الإمام أحمد بن حنبل عندما سأله بعض الناس عن سبب هجوم بعض أهل العلم على
الإمام، إذ قال: لقد من الله علينا به، لقد كنا تعلمنا كلام القوم، وكتبا كتبهم، حتى قدم علينا؛ فلما سمعنا كلامه، علمنا أنه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيام والليالي، فما رأينا منه إلا كل خير، واعلموا حكم الله تعالى أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئًا من العلم، وحُرِمَهُ قرناؤه وأشكاله، حسدوه فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة في أهل العلم.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وحقًا كان الإمام الشافعي رحمه الله كما وصفه الإمام أحمد، فلقد رزقه الله عز وجل علمًا وفهمًا ومواهب لدنية كثيرة لم تكن عند غالبية أقرانه، بل لا نكون مجازفين إذا قلنا: إنه لم يكن في عصر الشافعي من هو مثله في العلم والفهم، وجودة الذهن، وحدة الذكاء، وذلك كله في إطار كبير من الأخلاق النبيلة والفضائل الكثيرة، أضف لذلك شرف النسب، وكرامة المحتد، مع جميل الصورة، وبهاء الطلعة؛ لذلك تعرض الإمام لمحن متتالية مردها وأساسها الحسد والغيرة.
نشأ الشافعي يتيمًا فقيرًا، كثير التنقل، ولم يكن عند أمه من النفقة ما تعطيه للمعلم، فكان الشافعي يقوم ببعض الأعمال المساعدة لمعلمه: مثل قيامه على صبيان الحلقة حال غيابه
نظير تعليمه مجانًا، وكان الشافعي لا يجد ما يكتب فيه؛ فكان يكتب في الأكتاف والظهور، ويذهب إلى ديوان البلد يستوهب منهم الأوراق المستعملة ليكتب على ظهرها.
بسبب ذلك الفقر اضطر الشافعي لأن يطلب العمل في القضاء، لينفق على نفسه وأمه
ورحلته في طلب العلم، وكان وقتها قد تأهل للفتيا، وجالس الأكابر، وسمع من الأعلام: مثل مالك وابن عيينة، وغيرهم، وبالفعل استطاع أحد أقاربه؛ وهو (مصعب بن عبد الله) أن يلحقه بالعمل قاضيًا باليمن.
استلم الشافعي عمله بالقضاء في بلاد اليمن، فكان شعلة نشاط وذكاء، يتوقد ذهنه بالعلم والفهم؛ فأحبه الناس ورضوا به، وكان الشافعي بجانب عمله في القضاء، يعمل على نشر العلم والفقه، فجالس العلماء والمحدثين، وعلا قدره، وظهر أمره، وتكلم عن فضله وشأنه في أهل اليمن كلهم، وذلك كله وهو في أوائل الثلاثينيات، عندها تحركت نوازع النفس البشرية، وبدأت علامات الحسد والغيرة تظهر عند أقرانه.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
كانت بلاد اليمن في تلك الفترة البقاع التي يكثر فيها المنتسبون لفرقة الشيعة الضالة، ذلك لوجود الكثير من آل أبي طالب بها منذ أيام الحسين بن علي رضي الله عنهما، كما لا ننسي مؤسس فكر التشيع الأول هو اليمني الضال ابن سبأ الصنعاني الملقب بابن السوداء؛ لذلك كانت بلاد اليمن من المناطق التي توليها الدولة العباسية عناية خاصة، خوفًا من عبث الشيعة والروافض بأهلها؛ وذلك منذ أيام حركة النفس الزكية سنة 145هـ، وكان بنو العباس شديدي التوجس والحذر من بني عمومتهم الطالبيين، لعلمهم بأنهم يرون أنفسهم أحق بالخلافة منهم؛ لذلك كان بنو العباس يشتدون في مقابلة أدني تهمة بهذا الخصوص.
استغل خصوم الشافعي وحساده تلك السياسة العباسية في معاملة خصومهم السياسيين؛ فأسرع أحدهم واسمه (مطرف بن مازن). وكتب إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 184هـ: إن أردت اليمن لا يفسد عليك، ولا يخرج من يدك، فأخرج عنه محمد بن إدريس الشافعي، وذكر أقوامًا من الطالبيين، حتى تكون المكيدة محكمة، والوشاية ليست بالشافعي وحده، وتخرج في إطار خطة ومؤامرة يدبرها الشيعة بقيادة الشافعي.
كانت تهمة قيادة تنظيم شيعي لقلب نظام الحكم في تلك الفترة، وفي غيرها من الفترات،
من أشد التهم خطورة، وأوخمها عاقبة؛ لذلك أسرع الخليفة العباسي هارون الرشيد بإرسال والٍ جديد لبلاد اليمن وهو (حماد البربري)، الذي ألقى القبض على الإمام الشافعي، وكل من ورد اسمه في وشاية الحاسد (مطرف بن مازن)، وأوثقهم في الحديد، وحملوهم بهذه الصورة المؤلمة من بلاد اليمن إلى (الرقة) في شمال بلاد العراق؛ حيث مقر إقامة الخليفة العباسي: (هارون الرشيد).
ولنا أن نتخيل حجم المعاناة والألم البدني والنفسي الشديد الذي وقع على الإمام الشافعي،
عالم قاضٍ، ومن نسب شريف، وبريء لا ذنب له، ورحلة طويلة وشاقة من أقصى البلاد جنوبا لأقصاها شمالا، وهو مكبول في الحديد، وفرية كاذبة، ليست تقدح في مهنته كقاضي، ولكن في سمعته كإمام ومحدث وفقيه.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ولكن رجل كامل مثل الإمام الشافعي لم تكن تلك المحنة لتنال من همته وإرادته ومكانته، فلقد استعد لمواجهة كافة التهم الموجهة إليه، وانتضى سيف بلاغته، وركب فرس حجته، وما أن أدخل على الخليفة هارون الرشيد، وسأله الرشيد عما نسب إليه من تشيع وتآمر، حتى رد
الإمام الشافعي ردًا بلغيًا مقنعًا، دحض به أباطيل التهم الكاذبة، ثم ختم دفاعه البليغ بجملة خلبت لب الخليفة الرشيد؛ إذ قال له: [أأدع من يقول أنه ابن عمي: (يقصد هارون الرشيد)، وأتولى من يقول أنه خالقي ورازقي: (يقصد إمام الشيعة الروافض، الذي يسبغون على أئمتهم صفات وخصائص لا تكون إلا لله عز وجل وحده: مثل علم الغيب، وتقدر المقادير، وغير ذلك)].
انشرح صدر الخليفة الرشيد؛ فلقد كان يحب العافية، ويكره أن يزج بطالبي آخر في السجون،
وقد مات في العام الماضي 183هـ الإمام موسى الملقب بالكاظم - وهو من أبناء عمه- في السجن بسبب الوشايات والسعايات، وكان حاضرًا لمجلس الشافعي مع الرشيد الإمام محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة، فأحب الرشيد أن يتعرف على مكانة الشافعي العلمية، فطرح مسألة للمناظرة بين الإمامين: الشافعي ومحمد بن الحسن، فأبان الشافعي عن قوة علمية باهرة أذهلت الحاضرين، فازداد سرور هارون الرشيد، وعرف قدر الإمام؛ فأمر له بجائزة خمسة ألاف دينار، كانت بمثابة رد اعتبار لذلك الإمام، وتبرئة لساحته أمام الناس.
كانت تلك المحنة فاتحة خير للإمام الشافعي؛ فلقد مكث بالعراق، ولم يعد إلى بلاد اليمن بعدها إلا لجلب أهله وحاجاته وكتبه، بعدها مكث بالعراق عدة سنين، يفتي ويناظر ويعلم الناس، فانتشر ذكره بين الناس، فأقبلوا عليه، وتكونت مدرسته الفقهية في العراق، واعتني
بالحديث والأثر، واتبعهما كمنهج في الرد على المخالفين؛ لذلك أطلقوا عليه في بغداد لقب ناصر الحديث، وصنف التصانيف، ودون العلم، ورد على الأئمة متبعًا الأثر، وتكاثر عليه الطلبة، فأين حاسده ومبغضه الذي أراد إسكات صوته، وخنق علمه وفقهه في بلاد اليمن؟ فأعلى الله عز وجل ذكره في الأرض كلها، ونشر علمه في المشرق والمغرب، وكبت خصومه وحساده كما كبت كل حاسد وحاقد لأهل العلم الربانيين على مر العصور.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
اجتمع عنده علم أهل الرأي أخذه من محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وعلم أهل الأثر أخذه من الإمام مالك بن أنس في المدينة، فمزج بين المدرستين، حتى أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن لعلمه وفضله الموافق والمخالف، وانتقل إلى مصر سنة 198هـ، فلما استوطنها أتاه جلة أصحاب الإمام مالك، وأقبلوا عليه، فلما أن رأوه يخالف مالكًا، وينقض عليه كثيرًا من مسائله، أعرضوا عنه، وتنكروا له، حتى إنهم كانوا يدعون عليه في صلواتهم بالموت! حتى لا تندثر مدرسة الإمام مالك، وذلك من جملة المحن التي عاني منها الإمام الشافعي، فكم أعمي الحسد والتعصب من بصيرة؟ وكم طمس من فضل وعلم ورجال كبار؟
بجانب ما كان يعانيه الإمام الشافعي من محن بسبب الحسد والغيرة، وآثار التهمة القديمة بالتشيع والرفض؛ كان الشافعي يعاني من محنة من طراز آخر، محنة قدرية لا اختيار فيها، ولا سبيل لدفعها، بل هي علامة من علامات مرضاة الله عز وجل، كان الشافعي مريضًا بالبواسير
مرضًا مزمنًا، عاني منه أشد المعاناة، حتى إنه كان ينزف معظم الوقت، ولا يركب ولا يجلس إلى على لبد حتى يشرب الدم الذي ينزف بواسيره، حتى إنه كان يحدث ويعلم ويؤلف ويقرأ القرآن وتحته طست من شدة النزف، بل إنه ذلك المرض الشديد حرمه من لذة الجماع، ولم يولد له ولد إلا في أواخر حياته، بسبب عدم قدرته على الجماع من شدة البواسير.
وظل مرضه وسقمه يتعالى عليه حتى إنه لم يكد يقوى على الوقوف أو الجلوس، وكان يدخل عليه تلميذه يونس بن عبد الأعلى - وكان حسن الصوت - فيأمره الشافعي أن يقرأ عليه آيات
الصبر على البلاء، ليتقوى بها، ويقول له: يا يونس لا تغفل عني بقراءتك فإني مكروب؛ وذلك من شدة آلامه وأوجاعه، حتى مات صابرًا محتسبًا وهو في الرابعة والخمسين من عمره، فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة، وأجزل له المثوبة.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (10/ 5).
• حلية الأولياء: (9/ 63).
• تاريخ بغداد: (2/ 56).
• البداية والنهاية: (10/ 274).
• الكامل في التاريخ: (5/ 453).
• وفيات الأعيان: (4/ 163).

• تذكرة الحفاظ: (4/ 361).
• طبقات للشافعية ص1 كله.
• شذرات الذهب: (2/ 9)

• صفة الصفوة: (1/ 433).
• النجوم الزاهرة: (2/ 176).
• طبقات الحفاظ: (152).
• تراجم أعلام السلف: (305).
ترويض المحن: دراسة تحليلية لأهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة
دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م

https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 20-03-2025 10:20 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة الإمام النسائي: عدوان الجهل والتعصب
شريف عبدالعزيز
(20)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

لا يزال الجهل والتعصب أعدى أعداء العلم والعلماء؛ فهما نقيضان متضادان، كلاهما حرب على الآخر، كلاهما في حالة صراع قائمة ومستمرة عبر التاريخ، فالعلم نور وحق وبيان والعلماء أهله وحراسه ومناصروه، والجهل ظلم وظلام وباطل وبهتان والجهلاء أهله وحراسه ومناصروه، الجهل داء والعلم دواء، الجهل سقام القلوب والنفوس والعقول والعلم شفاؤها، لذلك فإن الله -عز وجل- قد أعلى من شأن العلم والعلماء وجعلهم ورثة الأنبياء، وجعل فضل العالم على العابد كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أدنى المسلمين، وعلى مر التاريخ عانى علماء الأمة الربانيون من سفاهة الجهلاء وحماقة المتعصبين الكثير من الويلات والمحن، بل إن بعضهم قد راح ضحية الجهل والتعصب، ففقدت الأمة العديد من كبار الأئمة والعلماء بسبب ذلك، وعلى رأس هؤلاء العلماء الذين راحوا ضحية الجهل والجهلاء الإمام (النسائي) صاحب السنن -رحمه الله.
ترجمة الإمام النسائي:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هو الإمام الحافظ الحجة الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث، وبحر العلوم، وواحد من كبار علماء الأمة، وصاحب السنن المشهورة، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر النسائي، ولد سنة 215هـ بمدينة نسا من أعمال خراسان - بين إيران وأفغانستان الآن - طلب العلم صغيرًا وقد ملك حب الحديث وطلبه والرحلة إليه مجامع فؤاده، فارتحل لطلب الحديث سنة 230هـ أي وهو في الخامسة عشر، فرحل أولاً إلى
المحدث الشهير (قتيبة بن سعيد) ومكث عنده عامًا كاملاً، سمع خلاله مروياته كلها، ثم انطلق بعدها يجول في طلب العلم والحديث في خراسان والحجاز ومصر والعراق والجزيرة والشام والثغور، ثم استوطن مصر، وصارت الرحلة إليه، وإليه ضربت أكباد الإبل، وارتحل إليه الحفاظ، ولم يبق له نظير في هذا الشأن.
أما عن شيوخه وتلاميذه، فقد سمع من: إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، ومحمد بن النضر بن مساور، وسويد بن نصر، وعيسى بن حماد زغبة، وأحمد بن عبدة الضبي، وأبي الطاهر بن السرح، وأحمد بن منيع،
وإسحاق بن شاهين، وبشر بن معاذ العقدي، وبشر بن هلال الصواف، وتميم بن المنتصر، والحارث بن مسكين، والحسن بن صباح البزار، وحميد بن مسعدة، وزياد بن أيوب، وزياد بن يحيى الحساني، وغيرهم كثير، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: "سمع من خلائق لا يحصون".
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وحدث عنه: أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري، وحمزة بن محمد الكناني، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النحوي، وأبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد الشافعي، وعبد الكريم بن أبي عبد الرحمن النسائي، وأبو بكر أحمد بن محمد بن السني، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ومحمد بن معاوية بن الأحمر الأندلسي، والحسن بن رشيق، ومحمد بن عبد الله بن حويه النيسابوري، ومحمد بن موسى المأموني، وأبيض بن محمد بن أبيض، وخلق كثير.
أما عن صفاته الخلقية، فقد قال الذهبي: كان شيخنا مهيباً، مليح الوجه، ظاهر الدم، حسن الشيبة، وكان نضر الوجه مع كبر السن، كأن في وجهه قنديل، يؤثر لباس البرود النوبية والخضر، ويكثر الاستمتاع، له أربع
زوجات، فكان يقسم لهن، ومع ذلك فكان يصوم صوم داود ويتهجد ويكثر من تلاوة القرآن مع عذوبة معلومة في صوته شهد لها الجميع.
أما عن عقيدته (وهي مربط الفرس في محنته والسبب الرئيسي لمصرعه): قال قاضي مصر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أبي العوام السعدي: حدثنا أحمد بن شعيب النسائي، أخبرنا إسحاق بن راهويه، حدثنا محمد بن أعين قال: قلت لابن المبارك: إن فلانا يقول: من زعم أن قوله تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه: 14] مخلوق، فهو كافر. فقال ابن المبارك: صدق، قال النسائي: بهذا أقول.

وأما ما رمي به من التشيع والانحراف عن المتعصبين جهلاً لمعاوية ضد علي -رضي الله عنهما-، فبسبب تأليفه لكتاب خصائص علي -رضي الله عنه-، فمن أحسن ما يعتذر له به ما قاله هو لما سُئل عن ذلك: قال الوزير ابن حنزابة: سمعت محمد بن موسى المأموني صاحب النسائي قال: سمعت قوما ينكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب: (الخصائص) لعلي -رضي الله عنه-، وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك، فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت كتاب: (الخصائص)، رجوت أن يهديهم الله –تعالى-. وبالنسبة لمذهبه الفقهي فقد قال ابن الأثير في أول (جامع الأصول): كان شافعياً، له مناسك على مذهب الشافعي، وكان ورعاً متحرياً.
مكانته العلمية وثناؤهم عليه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
يحتل النسائي مكانة سامقة في ثبت علماء الأمة، فهو يقف في مصاف كبار علماء الأمة، وإمامًا من أكبر أئمة الحديث، حتى إن السيوطي -رحمه الله- قد قال عنه: (النسائي مجدد المائة الثالثة). وثناء الناس عليه وإقرارهم بإمامته وريادته مذكور في كل كتب التراجم التي ترجمت كحياة هذا الإمام الكبير وهذه طائفة منتقاة من أقوالهم:

قال الحافظ أبو علي النيسابوري: "أبو عبد الرحمن النسائي الإمام في الحديث بلا مدافعة"، وقال الإمام الدار قطني: "أبو عبد الرحمن النسائي مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره"، وقال محمد بن المظفر الحافظ: "سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار، وأنه خرج إلى الفداء مع أمير مصر، فوصف من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين، واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه"، وقال أبو بكر بن الحداد الفقيه: "رضيت بالنسائي حجة بيني وبين الله –تعالى-"، وقال أبو سعيد بن يونس: "كان أبو عبد الرحمن النسائي إمامًا حافظًا ثبتًا"، وقال الإمام الذهبي: "كان من بحور العلم، مع الفهم، والإتقان، والبصر، ونقد الرجال، وحسن التأليف، جال في طلب العلم في خراسان، والحجاز، ومصر، والعراق، والجزيرة، والشام، والثغور، ثم استوطن مصر، ورحل الحفاظ إليه، ولم يبق له نظير في هذا الشأن"، وقال أيضاً: "ولم يكن أحد في رأس الثلاث مائة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة"، وقال الإمام الطحاوي: "أبو عبد الرحمن النسائي إمام من أئمة المسلمين"، وقال مأمون المصري المحدث: "خرجنا إلى طرسوس مع النسائي، فاجتمع جماعة من الأئمة: عبد الله بن أحمد بن حنبل، ومحمد بن إبراهيم، وأبو الآذان، وأبو بكر الأنماطي، فتشاوروا: من ينتقي لهم على الشيوخ؟ فأجمعوا على أبي عبد الرحمن النسائي، وكتبوا كلهم بانتخابه"، وقال ابن الأثير في مقدمة كتابه (جامع الأصول): "النسائي من أئمة الحديث والفقه الشافعي، له مناسك على مذهبه، وكان ورعًا متحريًا، شديد التحري والضبط لرواياته حتى إنه قد أتى أحد رواة الحديث المشهورين وهو (الحارث بن مسكين) وكان الحارث خائفًا من أمور تتعلق بالسلطان، فخاف من النسائي أن يكون عينًا عليه، فمنعه من دخول بيته، فكان النسائي يجيء فيقعد خلف الباب ويسمع، وكان بعدها إذا روى الحديث عن الحارث لا يقول: حدثنا حارث، إنما يقال: قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، من شدة تحريه وصدقه وضبطه لألفاظ الرواية".
نقل الذهبي عن الحافظ بن طاهر أنه سأل سعد بن الزنجاني عن رجل فوثقه، فلما ذكر له أن النسائي قد ضعفه قال: "يا بنيّ إن لأبي عبد الرحمن شروطاً في الرجال، أشد من شروط البخاري ومسلم".
ويصادق الذهبي على كلام ابن طاهر فيقول:" قلت: صدق، فإنه قد ليَّنَ (أي ضعّف) جماعة من رجال صحيحي البخاري ومسلم". لقد كان هذا الإمام علماً في الحديث، حتى لم يكن أحد في زمانه.
محنة الإمام النسائي:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
الإمام النسائي من كبار علماء الحديث في الإسلام، ومن دأب علماء الحديث الارتحال من بلد لآخر من أجل سماع الحديث وإسماعه، ونشر العلم بين المسلمين، وهذا هو حال العلماء الصالحين المصلحين الذين يحرصون على نشر العلم وبذر بذوره الطيبة في كل مكان؛ ليستفيد أكبر قدر من المسلمين.
طاف النسائي معظم أقاليم الإسلام، واستقر في مصر فترة طويلة، ارتفع بها شأنه وعلا ذكره، وأقبل عليه طلبة العلم والمحدثون وعموم الناس لسماع مجالسه، وهذا الأمر مجلبة للحسد والغيرة عند ذوي النفوس المريضة. بدأت محنة النسائي عندما بلغ أعلى المكانات العلمية في عصره وصارت الرحلة إليه وعيَّنه أمير مصر قاضيًا على عموم البلاد، وخرج معه للجهاد والفداء، وعندها حسده الأقران، وظهر ذلك منهم في قسمات وجوههم وفلتات ألسنتهم، وهذا الحسد أزعج النسائي وضاقت به نفسه حتى عزم على الخروج من البلد كلها، قال الإمام الدارقطني: "كان النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح من السقيم من الآثار، وأعرفهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ، حسدوه، فخرج إلى الرملة بفلسطين وذلك في أواخر سنة 302هـ.
خرج النسائي إلى الشام وفي نيته نشر العلم النافع، ورد ما غالى من أهلها على أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، فلما وصل إلى الرملة بفلسطين، عقد مجلسًا للتحديث بجامعها الكبير، وأخذ في رواية الأحاديث في فضل علي -رضي الله عنه- وآل البيت وفي باقي الصحابة، وكانت بلاد الشام معقل الأسرة الأموية وقاعدة ملك بني أمية ودمشق ظلت عاصمة الخلافة الأموية وعاصمة الدولة الإسلامية، طوال حكم الأمويين، فلما أخذ النسائي في رواية أحاديث فضل الصحابة، طلبوا منه أن يروي حديثًا في فضل معاوية -رضي الله عنه-، فامتنع النسائي من ذلك؛ لأنه وبمنتهى البساطة لم يخرّج حديثًا في فضل معاوية، ومروياته كلها ليس فيها
حديث واحد في ذلك، فألحوا عليه، فرفض بشدة وكان كما قلنا ضابطًا متقنًا شديد التحري لألفاظه ورواياته للأحاديث، فألحوا عليه أكثر وشتموه، فرد عليهم بكلام شديد أحفظهم، إذ قال لهم:" أي شيء أخرج؟ حديث اللهم: لا تشبع بطنه"، وهو حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وكذلك أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، ولكن ليس للنسائي سند في مروياته ليخرجه به ويحدثه للناس.
ولأن الجهل والتعصب يعمي البصائر، ويسوّد النفوس، فقد اعتبر الجهلة والمتعصبة لبني أمية أن النسائي شيعياً رافضياً، فسبوه وشتموه، وقاموا بجره من رجليه لخارج المسجد، وكان شيخاً كبيراً جاوز الثمانين، فلم يحتمل مثل هذه الإهانة الجسدية والنفسية، ومما زاد الطين بلة، ما ورد عن قيام بعض الجهلة والمتعصبة بضربه في خصيته ضربة مميتة، فحُمل الإمام النسائي مريضاً مدنفاً، فلما أفاق قال لمن معه: "احملوني إلى مكة كي أموت بها، ولكن القدر كان أسرع من مراده وبغيته، فمات في 13 صفر سنة 303هـ، فرزقه الله -عز وجل- حياة هنية وميتة سوية، وختم حياته بصيانة علمه وأحاديثه، وعده كثير من أهل العلم من الشهداء، ونعم الشهيد هو الذي يموت على يد الجهال والدهماء والأغبياء المتعصبة الذين لا يعرفون الحق من الباطل والعالم من الظالم.
هل كان الإمام النسائي شيعياً؟
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
من خلال البحث والدراسة لحياة المحدث النسائي وتراثه العلمي ومؤلفاته ومشايخه، لا يستطيع الباحث أن يقف عن أي دليل يقود إلى شبهة اتهام الإمام العظيم بالتشيع.
فمشايخه الذين تلقى عنهم العلم والحديث، أو الذين اتصل بهم من غير أساتذته من زملائه وأقرانه ليس فيهم من عرف بالتشيع أو كان شيعياً، حتى يظهر أثره في نفس النسائي بوضوح، كما أنه شافعي المذهب كما جاءت به النصوص التاريخية، وذكره تاج الدين السبكي في الطبقة الثالثة من طبقات الشافعية الكبرى وسبقه إلى هذا غيره من المؤرخين دون استثناء.

علماء الشيعة لهم موقف معروف من مرويات الصحابة -رضوان الله عليهم-، فهم يرفضونها جملةً وتفصيلاً، ولا يعتدون إلا بمرويات آل البيت من وجهة نظرهم فلا يوجد عالم حديث شيعي بالمعنى الاصطلاحي عند أهل السنّة. وكتب النسائي ومؤلفاته كلها مروية عن الصحابة جميعاً دون استثناء بمن فيهم معاوية -رضي الله عنه-، فكيف يقبل القول فيه بالتشيع حتى يتهم به، بل ويقتل بها.
موقف الإمام النسائي من معاوية -رضي الله عنه- غير ما هو ما يعتقده كثير من الجهلة والمتعصبة، فهو يحترم الصحابة جميعاً بمن فيهم معاوية، ففي "تاريخ ابن عساكر" لما سئل عن معاوية، قال: "الإسلام كدار لها باب فباب الإسلام الصحابة فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد الدخول، قال: فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة".
لماذا وصف بعض مؤرخي الإسلام النسائي بالتشيع؟
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ورد وصف النسائي بالتشيع اليسير في عدد من كتب التاريخ والسير والتراجم منها:
قال ابن كثير: قيل عنه: "إنه كان ينسب إليه شيء من التشيع"، وقال الذهبي: "إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه"، وقال ابن خلكان: "إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس، حتى يفضل وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنك. وكان يتشيع"، وقال ابن تيمية: "وتشيع بعض أهل العلم بالحديث، كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ إلى تفضيل علي على أبي بكر وعمر، ولا يعرف في أهل الحديث من يقدمه عليهما".
مناقشة هذه الدعوى:
قول ابن كثير عنه:" إنه كان ينسب إليه شئ من التشيع"، عبارة تشير الى تضعيف التهمة أو عدم ثبوتها لأن كلمة (قيل) من كلمات التضعيف أو عدم ثبوت الخبر وعبارة (شيء من التشيع) عبارة تفيد التقليل وليس المذهب أو الالتزام بمذهب الشيعة. وربما كان الشيء اليسير من التشيع هو موقف سياسي في تلك الفترة التي سيطر فيها أنصار معاوية -رضي الله عنه- على مقاليد السلطة فكانت التهمة بالتشيع تطلق لتصنيف المعارضين حتى ولو لم يلتزم بمنهج الشيعة.
قول الإمام الذهبي: "إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه". الإمام الذهبي في تراجمه يذكر عبارة (فيه قليل تشيع) كثيراً عندما يترجم لكثير من العلماء في تلك الفترة والتي كانت قمة الصراع بين الطائفتين، وهي عبارة لا تضفي على من أطلقت عليه، قصة التشيع بمعناها المذهبي وإليك بعضاً من كبار العلماء السنة الذين أطلق عليهم الذهبي هذه العبارة:
ترجم للحاكم أبي عبد الله النيسابوري وجاء في ترجمته (وكان فيه تشيُّع وحطّ على معاوية. وهو ثقة حجة. توفي في صفر". وترجم لطاووس ابن كيسان فقال في ترجمته: "قلت: إن كان فيه تشيع، فهو يسير لا يضر إن شاء الله "، وترجم منصور بن المعتمر من ثقات التابعين فقال: "تشيع قليل وكان قد عمش من البكاء. قلت: تشيعه حب وولاء فقط."، وترجم لشيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين سفيان الثوري فقال:
"من أئمة الدين، واغتفر له غير مسألة اجتهد فيها، وفيه تشيع يسير".
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وغيرهم الكثير من كبار العلماء الذين أطلق الذهبي عليهم هذه العبارة، ومع أخذنا بالاعتبار إنصاف وعدل الذهبي في ترجمته نأخذ العبارة على (الحب والولاء فقط) وليس للمذهب الشيعي. ومما يؤكد ما ذهبت إليه عبارة ابن تيمية المذكورة أعلاه حيث قال:" وتشيع بعض أهل العلم بالحديث، كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ الى تفضيل علي على أبي بكر وعمر، ولا يعرف في أهل الحديث من يقدمه عليهما". وعبارة ابن تيمية مستند براءة لنفي التشيع بمعناه المذهبي عن النسائي.
الفرق بين التشيع والرفض:
التشيع بمعناه المعروف عند سلف الأمة ليس مرادفاً للرفض، فالتشيع وجد عند بعض علماء السلف وأئمتهم، والتشيع عندهم كان على معنيين: الأول: غض الطرف عن ذكر معاوية -رضي الله عنه- بالكلية لا سلباً ولا إيجاباً، ومنهم النسائي وابن عبد البر والحاكم وغيرهم. والثاني: تقديم علي على عثمان -رضي الله عنهما-، مثل الثوري ووكيع وعبد الرازق وكثير من علماء الكوفة واليمن، وليس أحد منهم قاطبة يفضل علياً على أبي بكر وعمر -رضي الله عن الجميع-.
أما الرفض فكله ذم وشر وبدع وزندقة وانحلال وخروج عن الإسلام، بل يكاد أن يكون ديناً مستقلاً تماماً، ولا يوجد أحد من علماء الإسلام ينسب إلى الرفض.

https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 21-03-2025 09:29 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة الإمام ابن حِبَّان
شريف عبدالعزيز الزهيري
(21)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

خلال دراستنا التاريخية لأحداث وفعاليات المحن والابتلاءات التي تعرض لها علماء الأمة وجدنا أن غالبية هذه المحن كانت بسبب الحسد والتعصب المذهبي، أو بسبب فتوى أو قول أو رأي قال به العالم المبتلى، أو بسبب الثبات على الحق والجهر به، والتصدي للظلم والظلمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا، ولكن أن يبتلي العالم ويمتحن امتحانًا شديدًا، ويكفر ويهدر دمه بسبب كلمة قالها، لم يرد بها إلا الخير والحق؛ فهذه حقًا تعتبر من أعجب المحن؛ وهو عين ما جرى للإمام ابن حبان البستي.
التعريف به:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هو الإمام العالم العلاَّمة، الحافظ المجود، شيخ خراسان، أحد أوعية العلم الكبار، ورجل من كبار رجالات الحديث: أبو حاتم محمد بن حِبَّان البستي، صاحب الكتب الشهيرة، والمصنفات الفائقة، ولد في مدينة بُست من أعمال سجستان في خراسان [مدينة الآن في إيران] سنة 273هـ، فأخذ في طلب الحديث منذ بواكيره، وخرج على عادة طلاب الحديث لرحلة علمية كبيرة وواسعة لسماع الحديث من شيوخه وأعلامه في شتى أرجاء الدولة الإسلامية؛ فطاف أولاً أقاليم خراسان كلها، ثم العراق، ودخل مصر والشام، والسواحل والحجاز واليمن، حتى إنه قد حمل العلم والحديث
عن أكثر من ألفي شيخ، فيا لها من همة عالية رفعته لمصاف علماء الأمة الكبار، وحفاظها المعروفين.
مصنفاته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
لابن حبان مصنفات كثيرة وشهيرة لم يبق منها للأسف الشديد سوى النذر اليسير، أشهرها على الإطلاق كتاب الأنواع والتقاسيم، الذي أطلق عليه أهل العلم اسم: (المسند الصحيح)؛ وهو كتاب لا يقدر على الكشف منه إلا من حفظه تمامًا وقد التزم ابن حبان فيه بنظام دقيق، قال هو عنه في مقدمته: (شرطنا في نقله ما أودعناه في كتابنا ألا نحتج إلا بأن يكون في كل شيخ فيه
خمسة أشياء: الأول: العدالة في الدين بالستر الجميل، الثاني: الصدق في الحديث بالشهرة فيه، الثالث: العقل بما يحدَّث من الحديث، الرابع: العلم بما يحيل المعنى من معاني ما روى، الخامس: تعري خبره من التدليس).
كما أن له كتبًا أخرى مشهورة: مثل التاريخ، والضعفاء، العلل، مناقب الشافعي، موقوف ما رُفِعَ، الهداية، وكتبًا كثيرة ضاعت بسبب فساد الأحوال؛ ذلك لأنه قد أوقف كتبه كلها لطلبة العلم في دار، فلما انتشرت الفتن والاضطرابات، وضعف أمر الخلافة والسلطان، استولى المفسدون على داره، وضاعت كتبه العلمية.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ثناء الناس عليه:
لابن حبان مكانة كبيرة، ومنزلة عالية في سماء علم الحديث، بحيث إنه كان ممن يشد إليه الرحال لسماع كتبه وأسانيده، وقد اعترف له معاصروه، ومن جاء بعده بالعلم والفضل والتقدم؛ فهذا تلميذه أبو عبدالله الحاكم، وهو من كبار علماء الحديث، وصاحب كتاب المستدرك، يقول عنه: (كان ابن حبان من أوعية العلم في الفقه واللغة، والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال، وقد أقام عندنا في نيسابور، وبنى الخانقاه (مثل المدرسة)، وقرئ عليه جملة من مصنفاته، ثم خرج إلى وطنه سجستان عام 340هـ، وكانت الرحلة إليه لسماع كتبه).

وق
ال عنه الحافظ أبو سعد الإدريسي: (كان ابن حبان من فقهاء الدين، وحفاظ الآثار، عالما بالطب وبالنجوم [يقصد الفلك] وفتون العلم، وقد صنف المسند الصحيح، وقد تولى قضاء سمرقند زمانًا؛ فنشر الفقه والعلم هناك بين الناس).
وقال عنه الخطيب البغدادي: كان ابن حبان ثقة نبيلا فهمًا.
ولو أن ابن حبان ما أقدم على توثيق المجاهيل في مسنده لارتفع شأن هذا المسند إلى مصاف الكتب الستة، وأيضًا لزادت مكانته ودرجته في مصاف العلم والعلماء.
محنته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
تعتبر المحنة التي تعرض لها الإمام ابن حبان، وكادت تودي بحياته، وتقضي على تراثه وعلمه من أعجب المحن والفتن التي يتعرض لها أحد من أهل العلم، وتدل على مدى خطورة الجهل بمعاني الألفاظ ومدلولاتها، وأيضًا تدل على مدى خطورة تحميل الألفاظ والأقوال من أوجه الكلام ما لا تحتمله، ولا يتفق مع دين وعقيدة ومكانة قائلها، ويحضرنا عند الحديث عن محنة ابن حبان العجيبة مقولة الإمام مالك الشهيرة: إذا قال الرجل قولا يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا، والإيمان من وجه واحد حملناها على الإيمان، لأنها تكاد تنطبق على هذه المحنة الغريبة.
ومفاد الحادثة أن الإمام ابن حبان أثناء إلقائه لأحد الدروس في نيسابور سئل عن النبوة فقال: النبوة ((العلم والعمل))، وكان يحضر مجلسه بعض الوعاظ؛ فقام إليه واتهمه بالزندقة، والقول بأن النبوة مكتسبة، وارتفعت الأصوات في المجلس، وهاج الناس بين مؤيد للتهمة، ونافٍ لها، وخاضوا في هذا الخبر على كل وجه، حتى كتب خصوم ابن حبان محضرًا بالواقعة، وحكموا عليه بالزندقة،
ومنعوا الناس من الجلوس إليه، وهُجر الرجل بشدة، وبالغوا في أذية ابن حبان، وتمادوا في ذلك حتى كتبوا في أمر قتله وهدر دمه إلى الخليفة العباسي وقتها، فكتب بالتحري عن الأمر، وقتله إن ثبت عليه التهمة، وبعد أخد ورد اتضحت براءة ابن حبان، ولكنهم أجبروه على الخروج من نيسابور إلى سجستان، وهناك وجد أن الشائعات تطارده، والتهمة ما زالت تلاحقه، وتصدى له أحد الوعاظ هناك، واسمه يحيى بن عمار، وظل يؤلب عليه حتى خرج من سجستان، وعاد إلى بلده ((بست))، وظل بها حتى مات رحمه لله مهمومًا محزونًا من الأباطيل، وتهم الزندقة والإلحاد.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ولكن هل مجرد كلمة واحدة تجلب على هذا العلم الفذ كل هذه المتاعب؟ ونحن نقول: إن هذه الكلمة وأمثالها قد تفعل مثل ذلك وزيادة إذا ألقيت على أسماع من لا يفهم اللغة ومدلولاتها، وأيضًا إذا ألقيت على أسماع الحاسدين والموتورين، الذين يتربصون بأمثال هذا العالم العلامة الدوائر، وينتظرون أية مناسبة وفرصة، ولو بشطر كلمة للنيل منه.
فإن كلمة: النبوة العلم والعمل يقولها المسلم، ويقولها الزنديق، يقولها المسلم ويقصد بها مهمة النبوة، إذ من أكمل صفات النبي العلم والعمل، فما من نبي قط إلا وهو على أكمل حال من العلم والعمل، وليس كل من برز فيهما نبيًا، لأن النبوة محض اصطفاء من الله عز وجل، لا حيلة للعبد في نيلها، ولا اكتسابها، وابن حبان لم يرد حصر المبتدأ في الخبر، وذلك نظير قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحَجُّ عَرَفَةُ))، ومعلوم أن عرفة هو ركن الحج الأعظم، ولكن لا يكفي وحده حتى يصير العبد حاجًّا، بل هناك أركان وفروض أخرى لشعيرة الحج، ولكن عرفة ركن الحج الأعظم، كما أن العلم والعمل مهم للنبوة، وهذا ما قصده وأراده ابن حبان، وهذا ما يجب أن يحمل كلامه عليه، وهذا اللائق؛ بمكانته وعلمه، وأيضًا اللائق بخلق المسلم الصادق الذي يحسن الظن بإخوانه المسلمين، وأيضًا هذه الكلمة يقولها الفيلسوف الزنديق وهو يقصد بها أن النبوة مكتسبة، ينتجها العلم والعمل، وكثرة الرياضات والمجاهدات، وهذا كفر مخالف للقرآن وللسنة، وإجماع المسلمين، وهذا ما لا يريده ابن حبان ولا يقصده أبدًا، وحاشاه، فهو من كبار علماء الأمة وأئمتها، ولكن الجهل والحقد والحسد أعمى قلوب معارضيه حتى خاضوا فيه، وأجبروه على الرحيل من مكان لآخر حتى استقر في بلده وبها مات، وما أشبه هذه الحادثة بما جرى للبخاري؛ فرحم الله الرجلين، وأجزل لهما المثوبة، وجعل من أبناء الأمة من يذبون عن أعراضهم، ويدفعون عنهم الأباطيل والأكاذيب، ويكشفون بطلان تهم خصومهم، ويعرفون أبناء المسلمين حقيقة علماء هذا الدين.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع:
• سير إعلام النبلاء: (16/ 92).
• البداية والنهاية: (11/ 276).
• الكامل: (7/ 291).
• تذكرة الحفاظ: (3/ 920).
• العبر: (2/ 300).

• طبقات الشافعية: (3/ 130).
• شذرات الذهب: (3/ 16).

• النجوم الزاهرة: (3/ 342).
ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م

https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 22-03-2025 12:12 PM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(22)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

تاريخ الأمة المحمدية زاخر بالمواقف والمشاهد التي تكررت عبر عصور هذه الأمة، والتي تحكي وتكشف لنا عن حقيقة العلماء الربانيين، والأئمة الكبار، الذين يعلمون يقينًا الدور المنوط بهم، وتبعات هذا الدور الشريف؛ لذلك فإننا نعجب كثيرًا إذا ما رأينا أن رد فعل العلماء والأئمة الكبار واحد أمام المحن والفتن والابتلاءات، فردهم وجوابهم واحد، وشعارهم واحد، فديدن حياتهم الثبات حتى الممات، والأخذ بالعزمات، والإعراض عن الرخص، لا لشيء إلا لأنهم قدوات متبوعون، وبترخصهم يترخص الكثيرون، وبسقوطهم يسقطون، وهذه محنة واحد من هؤلاء الأئمة
الأعلام.
التعريف به:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هو الإمام العلامة، سيد الفقهاء، وكبير الشافعية، جبل العلم، أبو يعقوب يوسف بن يحيى القرشي البويطي، أخص تلاميذ الإمام الشافعي، وأنجبهم، وأقربهم لقلبه، وأعلمهم، وخليفته في حلقته بعد وفاته.

لا يُعلم على وجه التحديد متى ولد، ولكنه يرجع لأرومة قرشية أصيلة، أما نسبه البويطي فيرجع إلى قرية بويط بصعيد مصر؛ حيث استقرت أسرته منذ أيام الفتح الإسلامي للبلاد.
تلقى العلم في بداية حياته في قريته بويط، ثم انتقل إلى الفسطاط مع أبيه، وجلس لعبد الله ابن وهب شيخ المالكية في مصر، وحمل عنه علمًا كثيرًا؛ فلما دخل الشافعي رحمه لله إلى مصر سنة 198هـ لنشر علمه جلس إليه البويطي، فانبهر بعلمه؛ فلازم مجلسه ولم يفارقه، وتخرج به، وكان ذا حظ وافر من الفهم والذكاء؛ فصار أكبر أصحاب الإمام الشافعي، وأكثرهم فهمًا لدقائق مذهبه
ومسائله، حتى إنه لما مات الإمام الشافعي سنة 204هـ جلس البويطي مكانه في الحلقة، وتصدر وأفتى، وناظر وألف؛ وذلك كله وهو في شرخ الشباب.
ثناء الناس عليه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
لقد كان الإمام البويطي من الأئمة الأعلام، المقتدى بهم في العلم والعمل؛ فلقد كان إمامًا في العلم، قدوة في العمل، زاهدًا ربانيًا، متهجدًا، دائم الذكر والعمل، ولنسمع
ثناء أستاذه وإمامه الشافعي، وكلامه فيه لنعلم مدى مكانة هذا الإمام؛ فقد قال عنه الإمام الشافعي: ليس في أصحابي أحد أعلم من البويطي، وكانت المسائل تأتي الشافعي فيحيلها على البويطي ليجيب عليها، وقال مرة للمعترض على ذلك: البويطي لساني الذي أتكلم به، حتى إنه كان يرسله مع رجال الوالي من الحرس والشرط لردع العصاة، والاحتساب على الماجنين والفاسقين، ولما أوشك الإمام الشافعي على الموت سألوه عمن يرث مجلسه، فقال: ليس أحدًا أحق بمجلسي من يوسف، يقصد: البويطي.
وقال عنه قرينه ونظيره في حلقة الشافعي،
الإمام الربيع بن سليمان: كان البويطي أبدًا يحرك شفتيه بذكر الله، وما أبصرت أحدًا أنزع بحجة من كتاب الله من البويطي، وكان يسرد الصوم، ويختمفي الأسبوع الواحد عدة مرات، وكان من رجال العامة: يقوم مع الناس في حاجاتهم، وله صنائع المعروف مع الناس أجمعين.
قال عنه الإمام الذهبي: كان إمامًا في العلم، وقدوة في العمل، زاهدًا، ربانيًا، متهجدًا دائم الذكر والعكوف على الفقه.
قال عنه جاره ابن أبي الجارود: كان البويطي جاري، فما كنت أنتبه ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي.
قال ابن خلكان: البويطي صاحب الشافعي رضي الله عنه كان واسطة عقد جماعته، وأظهرهم نجابة، وكان صالحًا متنسكًا، عابدًا زاهدًا.
محنته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
يعتبر الحسد هو المحرك الرئيسي للمحنة التي وقعت للإمام البويطي، والتي أدت في النهاية إلى مصرعه رحمه الله بطريقة مأساوية، وإن كان هو نفسه رحمه الله قد جعل من محنته تلك مثلا من أروع أمثلة الثبات على الحق، والصبر واليقين.

فلقد مر بنا أن البويطي كان من أكبر وأعلم تلاميذ الإمام الشافعي رحمه الله، وقد فاق أقرانه في حلقة الشافعي؛ لدرجة أن المسائل كانت ترد إلى الشافعي فيطلب من البويطي الإجابة عليها، وأقرانه شاهدون لذلك، وكان يقول لمن يلومه في تقديم البويطي: إنه أعلم أصحابي، ولساني الذي أتكلم به، وكلها أمور كانت تحرك مكنونات الصدور، والحسد بين الأقران أمر مشهور، معروف عبر الدهور.

فلما اشتد المرض على الإمام الشافعي ولم يقدر على الجلوس للعلم تنازع تلاميذ الإمام في من حلقته بالمسجد، وكانت أكبر وأعظم حلقة وقتها، وكان تنازع فيها ثلاثة: البويطي، ومحمد بن عبد الحكم، والمزني، والثلاثة هم أكبر تلاميذ الإمام، وكان البويطي أحقهم: لعلمه وفقهه، ووصلت أخبار هذه المنازعة للإمام وهو على فراش المرض، فقال لأحد تلاميذه - واسمه الحميدي، وكان من أئمة الحديث والأثر، وأصله من الحجاز - قال له الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف، ليس أحد في أصحابي أعلم منه؛ فانطلق الحميدي إلى الثلاثة، وأخبرهم بقول الإمام، فانظر
كيف كان رد فعل ابن عبد الحكم، وكان من أشد الثلاثة حرصًا على المنصب!!
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
عندما سمع ابن عبد الحكم ذلك الكلام انكسر له بشدة وغضب، وقال للحميدي: كذبت، فرد عليه الحميدي، وكان أكبر منه سنًا وقدرًا: بل كذبت أنت، وتنازعا الكلام حتى انتهى لأن جلس البويطي مكان شيخه وإمامه الشافعي، وأكلت الغيرة والحسد قلب محمد بن عبد الحكم حتى فارق مجلسهم، بل فارق مذهب الشافعي بالكلية، وعاد إلى مذهبه القديم - المالكي - ونال فيه
مراده، وصار شيخ المالكية في زمانه، وصار شديدًا على الإمام الشافعي، حتى صنف كتابًا في الرد على الشافعي، على الرغم من أن الإمام الشافعي كان يحبه كثيرًا، حتى إنه قد كان يتمنى أن يولد له ولد مثل ابن عبد الحكم هذا، ولكنها الغيرة، ومنافسة الأقران، التي أدت لذلك كله.
توفي الشافعي رحمه الله سنة 204هـ، وجلس البويطي وتصدر وقد حان أوانه؛ فصار كبير الشافعية، وإليه المنتهى في فقه الإمام، وأقبل هو على العلم والعبادة، وإرشاد الناس ونصحهم، والناس تبع
له، يحبونه ويجلونه، حتى قدر أتباع الشافعية في أيامه بعشرات الآلاف من أهل مصر.
في تلك الفترة أخذت بدعة القول بخلق القرآن في الظهور شيئًا فشيئًا على يد دعاة الاعتزال، حتى استطاعوا العبث بعقل الخليفة العباسي المأمون، وأقنعوه بتلك البدعة الشنيعة، وحملوه على امتحان الناس، وإجبار العلماء على ذلك، وذلك كما مر بنا الحديث أثناء محنة الإمام أحمد بن حنبل، فلما تولى الخلافة الواثق بن المعتصم العباسي سنه 227هـ كان من أشد الناس قولا بتلك
البدعة، وقد استحوذ قاضي المحن كلها أحمد ابن أبي دؤاد على عقله وقلبه، فلم يقطع الواثق قولا، ولا يصدر رأيًا إلا بمشورة هذا الضال الهالك أحمد بن أبي دؤاد.
استغل أحمد بن أبي دؤاد طاعة الواثق العمياء له؛ فوضع خطة واسعة لنشر تلك البدعة الخبيثة في كل البلاد الإسلامية، وبالفعل شرع في تنفيذها، وأقنع الواثق بعزل كل القضاة والأئمة والولاة الذين لا يقولون بتلك البدعة، وجعل مكانهم قضاة وولاة وأئمة من المعتزلين، القائلين بخلق القرآن، وأصدر أوامره لمعلمي الصبيان في الكتاتيب والمدارس لأن يلقنوا الصبيان الصغار عقيدة
الاعتزال، ووصل الأمر ذروته حتى امتحنوا أسرى المسلمين عند الروم: فمن قال بخلق القرآن افتدوه، ومن لم يقل تركوه في الأسر عند الكفار، وبالجملة غلت البلاد بتلك البدعة الخبيثة، وفارت بها أقاليم الخلافة كلها.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
في ذلك الجو الخانق والمشحون بالبدع والضلالات ينشط الوشاة، وأصحاب النفوس المريضة من الحاسدين والحاقدين، وانتهز البعض الفرصة لتصفية الحسابات، والقضاء على الكفاءات، وكان
قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد يتتبع الأئمة والعلماء وكبار المشايخ، ويعمل جاهدًا على إسكاتهم بأية صورة كانت، وبالترغيب أو بالترهيب، كلٌ حسب صموده وصبره، فانتهز ذلك الأمر بعض الحاسدين للإمام البويطي: وهم أبو بكر الأصم قاضي مصر، وكان معتزليًا، ورجل آخر، وهو بكل أسف وحزن عبد الله بن الإمام الشافعي نفسه، وكان مخالفًا لسيرة أبيه تمامًا، وقام الرجلان بالكتابة إلى قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد في شأن البويطي وعقيدته السلفية، ومعارضته للقول بالبدعة الشنيعة، وعظَّما جدًا من خطورة البويطي على البدعة وأهلها.
كتب ابن أبي دؤاد إلى والي مصر يأمره بامتحان الإمام البويطي، وكان الوالي حسن الرأي فيه، ويحبه لعلمه وورعه؛ فقال له: قل فيما ببني وبينك، أي طلب منه التظاهر بالموافقة فقط ليأمن غائلة الطاغية ابن أبي داود، فإذا بالإمام البويطي يضرب أروع الأمثلة في فهم مكانة الإمام، وطبيعة الدور الذي يؤديه في قيادة الأمة وقت النوازل، وأبى أن يترخص في الأمر، وعمل بالعزيمة كما فعل أخوه الإمام أحمد بن حنبل، وقال للوالي المشفق عليه: إنه يقتدي بن مائة ألف، لا يدرون أني أتظاهر فقط بالموافقة، وإن أجبت أجابوا هم أيضًا؛ فلما علما الطاغية ابن أبي دؤاد أمر بالقبض
عليه، وحمله مقيدًا في الحديد الثقيل من الفسطاط إلى بغداد، وذلك سنة 230هـ.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ولنا أن نتخيل حجم المعاناة الشديدة، والمحنة الكبيرة التي كان فيها البويطي طوال الرحلة من الفسطاط إلى بغداد، وهو مقيد بسلسلة حديدية وزنها أربعون رطلا كما حكى لنا زميله وقرينه الربيع بن سليمان، في مشهد هو الأروع في تاريخ المحن، وصبر العلماء عليها.
قال الربيع: لقد رأيت الإمام البويطي على بغل في عنقه غل، وفي رجله قيد، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لبنة وزنها أربعون رطلا، وهو يقول - أي البويطي -: إنما خلق الله الخلق بـ (كن)؛ فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقًا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه - يعني الخليفة الواثق - لأَصْدُقَنَّهُ: أي أقول الصدق، ولا أخاف منه، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.
ما أروع تلك الكلمات، والله إنها لتستحق أن تكتب بماء من ذهب، وحروف من نور في تاريخ علماء الأمة، ليتعلم منه العلماء والدعاة في كل زمان ومكان والصبر والثبات واليقين، والفداء والتضحية من اجل هذا الدين؛ فالبويطي رغم الإهانة العظيمة، والمحنة الشديدة أرسى العديد من المعالم الهامة، والعظات البالغة لعلماء الأمة أثناء المحن والنوازل منها:
1- جهره بالحق، وصدعه به رغم الآلام النفسية والبدنية الشديدة.

2- تعليمه للناس العقيدة الصحيحة، ودحض الباطل، حتى وهو في قمة المحنة في القيود والأغلال.
3- شجاعته وجرأته في الشدائد، وتمسكه بالصدع من القول حتى ولو كان أمام الخليفة الحاكم نفسه.
4- بذل نفسه وروحه لله عز وجل، والاستقبال لله عز وجل، وإصراره على الحق والثبات على الدين حتى الموت، ولو في السجون والأغلال.

5- حرصه على تعليم أجيال العلماء الآتية الفداء والتضحية من أجل الدين، حتى يعلموا كيف يواجهوا الشدائد والمحن.
فيالها من دروس وعظات كثيرة ضربها لنا ذلك الإمام الفذ.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وفاته:
حمل البويطي في القيود والأغلال من الفسطاط إلى بغداد، وكان طوال الرحلة الطويلة الشاقة يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ويدحض البدع؛ مما جعل غيظ الطاغية ابن أبي داود يشتد عليه؛ فما
كاد الإمام أن يصل إلى بغداد حتى أمر ابن أبي داود بإلقائه في غياهب السجون، والتشديد عليه، ولم يمتحنه كما فعل مع غيره من العلماء، ولم يدخله على الخليفة كما هي العادة مع كبار العلماء خوفًا من أن يقنع الواثق بالحق، ويرده عن البدعة.
ظل البويطي في ظلمات السجون عدة شهور كان فيها مثالا للعالم الرباني، سائرًا على درب يوسف عليه السلام، يعلّم المساجين أمور دينهم، ويناظر المبتدعة، وكان في كل يوم جمعة يتطهر ويأتي
باب زنزانته ويطلب الخروج لأداء الجمعة، والسجان يردده فيقول: والله إنك تعلم أن المنع ليس مني، وظل دأبه هكذا فترة.
حاول ابن أبي دؤاد الضغط على الإمام البويطي حتى يكسر جموده وصبره، وحاول إرسال بعض المعتزلة لإقناعه فلم ينجح، وظل البويطي جبلا شامخًا، وطورًا عظيمًا أمام المحنة، عندها أمر الطاغية بتشديد الأغلال والقيود عليه حتى أنهم قد لفوه بالحديد من أعلاه إلى أدناه، واشتد الأمر على البويطي فلم يعد قادرا على الحركة إلا ببطء شديد، ومعاناة كبيرة، وأثر ذلك على نفسية الإمام،
ذلك أنه لم يعد قادرًا على التطهر والوضوء والصلاة إلا بشق الأنفس، وعرف أعداؤه كيف ينالون منه، في أعز ما يملك: طاعته وعبادته لله عز وجل، وها هو الإمام البويطي يصف لنا حاله برسالة
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
بعث بها للإمام الذهلي، وهو من كبار علماء الحديث في خراسان قال فيها: يا أبا يحيى قل لإخواني أصحاب الحديث، وطلبة العلم أن يدعو الله عز وجل أن يفك كربتي، فلقد كبلوني بالحديد حتى إني لم أعد أتطهر وأصلي كما ينبغي، عسى الله أن يفرج عني ما أنا فيه بدعائهم.
فلما قرأ الإمام الذهلي الرسالة على طلبة الحديث في حلقته بكى وبكوا جميعًا، وضجوا في الدعاء له.
سرعان ما استجاب الله عز وجل لهم، كأنا بأسباب السماء كانت مفتوحة وقتها، وخرجت دعوة المظلوم المكلوم لربها الذي سبق منه القول واليقين بإجابتها ولو بعد حين، نعم جاء الفرج للإمام البويطي من رب السماء، وأخرجه ربه عز وجل من السجن الكبير، أخرجه من سجن الدنيا التي لاقى من أهلها العنت والحسد والوشاية، أخرجه إلى الأفق الرحب، والسعادة السرمدية والراحة
الأبدية، أخرجه إلى جنات تجري من تحتها الأنهار، فيما نحتسبه عند الله عز وجل، مات الإمام البويطي في سجنه وقيوده وحديده، وخرجت روحه الطاهرة إلى ربها تشتكي ظلم الطغاة والوشاة؛ وذلك سنة 231هـ، وقد انتصر على خصومه فما نالوا إلا من دنياه، أما من آخرته فما نالوا إلا ما سيلاقونه غدًا من حسرة وندامة بين يدي الله عز وجل عندما يسألهم بأي ذنب سجنتموه وقتلتموه، والله عز وجل أعلم بالعواقب والخواتيم.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع:
1- سير أعلام النبلاء: (12/ 58).
2- تاريخ بغداد: (14/ 299).
3- وفيات الأعيان: (7/ 61).

4- البداية والنهاية: (10/ 333).
5- الكامل في التاريخ: (6/ 89).
6- العبر: (1/ 411).

7- طبقات الشافعية: (2/ 162).
8- النجوم الزاهرة: (2/ 260).
9- شذرات الذهب: (2/ 71).

10- المنتظم: (11/ 174).
ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif





ابوالوليد المسلم 23-03-2025 10:20 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة الإمام ابن حزم الظاهري
شريف عبدالعزيز الزهيري
(23)
https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

ما من عالم عامل إلا وله أدوات وآداب يتعاطى بها العلم طلبًا ودرسًا، وتصنيفًا وتأليفًا، وإلقاءً وتنظيرًا، هذه الآداب والأدوات بمثابة الزاد والمئونة للعالم، يسير بها على طريق العلم، من غير أن يتعرض للأزمات والنوازل، وقد ألفت العديد من الكتب في هذا الباب، منها آداب السامع والمتعلم لابن جماعة قديمًا، وحلية طالب العلم لبكر أبو زيد حديثًا، ويوم أن يتخلى العالم عن بعض أدواته، وينسى بعض آداب طلب العلم؛ فإنه يواجه الكثير من المحن والفتن، التي كان هو في غنى عنها وعن أمثالها، وهذه واحدة من تلك الفتن والمحن التي أدت لقمع واحد من أكبر علماء الإسلام، وأكثرهم تصنيفًا.
التعريف به:
• هو الإمام الكبير، والمجتهد المطلق، بحر العلوم، وجامع الفنون، إمام المذهب الظاهري ومجدده، الفقيه الحافظ، الأديب الوزير، المؤرخ الناقد، صاحب التصانيف الباهرة، الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، الشهير بابن حزم الظاهري.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• وُلد في شهر رمضان سنة 384هـ بمدينة الزهراء إحدى ضواحي قرطبة، عاصمة الأندلس، في بيت عز وثراء ووزارة، فأبوه أحمد بن حزم كان أحد وزراء المنصور بن أبي عامر حاكم الأندلس القوي، فنشأ ابن حزم في تنعم ورفاهية، يلبس الحرير، ويتسور الذهب، يطالع الكتب على قناديل الذهب والفضة المضاءة بشموع العنبر والمسك، وقد كان أبوه يعده ليسير على درب الوزارة والرياسة مثله، وكان ابن حزم قد رزق ذكاءً مفرطًا، وذهنًا سيالا، فعكف على دراسة الآداب والأشعار والأخبار، وعلوم المنطق والفلسفة، وهو ما سيؤثر عليه في المستقبل، وليته لم يخض في ذلك الباب.
• وقعت حادثة لابن حزم وهو في أواسط العشرينات من عمره دفعت به إلى طريق العلم الشرعي، حيث تعرض لموقف حرج بان فيه قلة علمه وفقهه، فقرر سلوك طريق العلم والبحث، وترك طريق الوزارة والرياسة، فتفقهه أولا على مذهب الشافعي، ولم يكن مذهبًا رائجًا بالأندلس، فالسوق بها كان للمالكية، ومع تبحره في العلوم الشرعية، ونهمه الشديد في الأخذ من الأصول المباشرة، وصل إلى مرحلة الاجتهاد، وقد أدَّاه اجتهاده إلى نفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النصوص والعموميات الكلية، والقول بالبراءة الأصلية، واستصحاب الحال، وبالجملة جدد القول بالظاهر، وهو المذهب الذي وضعه الإمام داود بن علي بالعراق في القرن الثالث الهجري.
• كان ابن حزم ينهض بعلوم جمة، وفنون كثيرة، مع إجادة تامة للنقل والعرض والتصنيف، وفوق ذلك كله كان شاعرًا مطبوعًا، وأديبًا بليغًا، ومؤرخًا ناقدًا، عاصر فترة عصيبة في الأندلس، طارت شهرته في الأندلس كلها حتى تعدت البحر، ووصلت إلى بلاد المغرب والمشرق، وصار رأسًا من رءوس الإسلام، عديم النظير.
ثناء الناس عليه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
على الرغم من أن المحنة التي نالت ابن حزم كانت تدور على النيل منه، ومن مكانته العلمية، ومصنفاته الباهرة، إلا أن الناس خاضعون لعلومه، وسعة محفوظاته، مُقِرُّونَ بفضله، وهذه طائفة من أقوالهم في الثناء عليه:
• قال الإمام أبو القاسم صاعد بن محمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، والمعرفة بالسير والأخبار.
• قال الإمام الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتابًا ألفه أبو محمد بن حزم الأندلسي يدل على عظم حفظه، وسيلان ذهنه.
• قال أبو عبد الله الحميدي: كان ابن حزم حافظًا للحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفننًا في علوم جمة، عاملا بعلمه، ما رأينا فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين، وكان له في الأدب والشعر نَفَسٌ واسع، وباع طويل.
• قال اليسع الغافقي: أما محفوظة فبحر عجاج، وماء ثجَّاج، يخرج من بحره مرجان الحكم، وينبت بثجاجه ألفاف النعم في رياض الهمم، لقد حفظ علوم المسلمين، وأربى على كل أهل دين.
• قال أبو مروان بن حيان: كان ابن حزم رحمه الله حامل فنونه من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة.
• قال الحافظ الذهبي: بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد، وشهد له بذلك عدة أئمة، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة.
مصنفاته:
• هناك اتفاق بين أهل العلم أن أكثر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا الإمام ابن جرير الطبري، يليه الإمام ابن حزم الأندلسي، فلقد ترك ابن حزم ثروة علمية ضخمة وشاملة في شتى أنواع الفنون، لا يعلم مثلها إلا من قلة نادرة من فطاحل أهل العلم، وله مصنفات بديعة، ومؤلفات باهرة في الفقه والحديث وأصول الدين، والمذاهب والفرق والتاريخ والأدب والطب، ويأتي على رأس مصنفاته كتاب (المحلي بالآثار) الذي قال عنه العز بن عبد السلام سلطان العلماء: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل ((المحلى)) لابن حزم، وكتاب ((المغني)) لابن قدامة، ولابن حزم كتب أخرى بلغت كما قال عن ذلك ولده أبو رافع الثمانين ألف ورقة، ومن أهم كتبه: ((الإيصال في فهم الخصال)) وهو في خمسة عشر ألف ورقة، وكتاب ((الجامع في صحيح الحديث))،

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
و ((اختلاف الفقهاء))، ((مراتب الإجماع))، ((الإملاء في قواعد الفقه))، ((الفرائض))، ((الفصل في الملل والنحل)) وهو من كتب الفرق الشهيرة، ((مختصر في علل الحديث))، ((طوق الحمامة)) وهو من الكتب المثيرة للجدل، والتي جلبت على ابن حزم كثيرًا من اللوم، ((نقط العروس)) وهو من الكتب الرائعة في التاريخ، وجلب عليه كثيرًا من المحن مع ملوك عصره، ((الرسائل الخمس، أو جوامع السيرة))، ((رسالة في الطب النبوي))، ((الإحكام في أصول الأحكام)) وهو من كتبه الفريدة في بابها، وعلى منوالها نسج من جاء بعده: مثل الآمدي والرازي وابن الحاجب وغيرهم، ((الآثار التي ظاهرها التعارض، ونفي التناقض عنها))، وهو في عشرة آلاف ورقة، وهو من أروع ما كتبه هذا الإمام الفذ العلَّامة، وله مصنفات أخرى كثيرة يضيق المقام بذكرها تدل على سعة علمه، وسيلان ذهنه، وذكائه المفرط، وبصيرته النافذة لأحوال عصره.
محنته:
• ذهب معظم المؤرخين الذين أرخوا لحياة الإمام ابن حزم الظاهري أن السبب الرئيس للمحن المتتالية التي أصابته هو حدة لسانه وقلمه، وأنه لم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، وكان إذا عارضه أحد في مسألة صار كالبحر المغرق، والجحيم المحرق، فنفرت منه النفوس، واستحكمت عداوته في القلوب، فألبوا عليه الناس، ومنعوا طلبة العلم من الجلوس إليه، وطورد وشرد عن دياره، وأحرقت كتبه في مَحْضَرٍ عَامٍ بإشبيلية وقرطبة، وعاش منفيًا قرابة العشرين سنة حتى مات رحمه الله.
• ولكن عند التحقيق التاريخي، والتوثيق البحثي للمحن التي تعرض لها الإمام ابن حزم الظاهري نكتشف أن أسباب محنته أكبر وأبعد من شدته النقدية، وحدته وسلاطة لسانه، بل نستطيع أن نقول بكل اقتناع أن حدة لسانه وقلمه ما هي إلا عارض للأسباب الرئيسية التي كانت وراء المحن التي تعرض لها في حياته، وهذه الأسباب الثلاث هي:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
1- نشأة ابن حزم وتربيته:
فلقد ولد ابن حزم في بيئه مترفة، وحياة ناعمة، في بيت وزارة ورياسة، وجاه وغنى، ومنذ نعومة أظفاره وأبو يعده ويهيئه للوزارة والزعامة، والمراتب العليا، وقد غرس ذلك في قلبه الصغير، فتربى ابن حزم على الزعامة والقيادة والسيادة، تربى على أن يقود ولا يقاد، يأمر ولا يؤمر، وقد تولى بالفعل الوزارة لعبد الرحمن بن هشام الملقب بالمستظهر الأموي، وهو في أوائل العشرينيات، قد مر ابن حزم بكل تلك المراحل قبل أن يسلك سبيل العلم والبحث والدراسة، فأثرت تلك التنشئة والتربية عليه، وجعلته يفتقد لسياسة العلم التي هي بعض الأحيان أهم أدوات العالم الرباني في نشر علمه، واجتماع الناس عليه، فكان ابن حزم إذا ناظر أحدًا من العلماء لا يبالي إلا بالنصوص الشرعية القطعية، فهو كما أسلفنا من أكبر أئمة الظاهرية، إن لم يكن أكبرهم، وكان يرد قول أي عالم مهما كانت درجته ومنزلته، ويسفه رأيه، ويقذع في نقده، طالما لم يستصحب لرأيه دليلا من القرآن والسنة، وكان لا يعرف تعريضًا ولا تورية، بل يلقى قوله ورأيه كالحجر الثقيل، بلا تزيين ولا تهذيب، وتلك الصراحة الفجة إنما تولدت في نفس ابن حزم بسبب تربيته الأولى، ونشأته القيادية في البداية.
2- مذهبية أهل الأندلس:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
فلقد كان أهل الأندلس كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وعاميهم متمذهبًا بالمالكية، وكان هو المذهب السائد بالأندلس منذ أيام الدولة الأموية التي أسسها عبد الرحمن الداخل، أو صقر قريش، وكانوا لا يعرفون إلا مُوَطَّأ مالك، وما عداه من مذاهب وكتب ومصنفات للحديث أو غيره كانت مهجورة أو مجهولة، ولقد عانى الإمام بقي بن مخلد رحمه الله والمتوفى سنة 276هـ من قبل من جمود علماء الأندلس، وانغلاقهم على مذهب المالكية فقط، وكان الإمام بقي بن مخلد قد أدخل حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك البلاد، ويفتي بالأثر، وعلماء الأندلس لا يخرجون عن قول مالك وتفريعاته، فقاموا عليه ويدعوه، ورموه بالزندقة، وأغروا به السلطان، وجرت له محن كثيرة، وخطوب كبيرة نصره الله فيها، وأعلى ذكره وأمره.
ولما بدأ ابن حزم في طلب العلم اختار المذهب الشافعي، وبرع فيه، وناظر عليه، وفي تلك الفترة تعرض ابن حزم لنقد شديد من مالكية الأندلس، وضيقوا عليه كثيرًا، فلما
تحول ابن حزم للمذهب الظاهري، وترقى في سلم العلوم، وتوَّسع وتبحر، وصار من المجتهدين الذين لا يتقيدون بمذهب، زادت حدة النقد حتى وصلت لحملات حربية، ووقائع ومشاهد، استخدم فيها المالكية شتى الأساليب لتنفير الناس عن ابن حزم، وتبغيضه لديهم، وساعدهم ابن حزم نفسه على ذلك بحدة لسانه، وسطوة قلمه، وفجاجة عباراته، وتمامًا مثلما حدث مع الإمام بقي بن مخلد استعدى المالكية السلطان على ابن

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
حزم، فآذوه كثيرًا، وضيقوا عليه، وفضوا الناس من حوله، وأجبروه على الخروج من دياره يهيم في الأرض، كلما حط رحاله في بلد تنادى المالكية بها لطرده وزجره، ومنعه من الدرس والعلم، وهكذا ظل الإمام العشرين سنة الأخيرة من حياته شريدًا طريدًا منقطعًا عن التدريس، ضحية من ضحايا العصبية المذهبية، والجمود الفقهي، ضحية لعلماء يظنون أنهم يحسنون صنعًا، ويحمون مذهبًا، ويدافعون عن الدين والحق، وهم بلا شك مدانون حتى النخاع، متورطون في محنة هذا الإمام العظيم.
3- الظروف السياسة المحيطة:
من بين الأسباب الرئيسة والمهمة لمحنة الإمام ابن حزم الظاهري، الظروف والأوضاع
السياسية المحيطة بدولة الإسلام في الأندلس، فقد وُلد ابن حزم أيام الحاجب المنصور، والذي كان يحكم بمسمى الدولة الأموية - أحفاد عبد الرحمن الداخل - ولما شب ابن حزم وقعت أحداث الفتنة بقرطبة، والأهوال التي عانتها دولة الإسلام لفترة طويلة هناك، ورأى ابن حزم ذلك رأى العين، فتجول حينًا في ألمرية وبلنسية في كنف الفتيان العامريين - وهم موالي الحاجب المنصور - وكان مثلهم من أتباع الخلافة الأموية، ثم قامت دولة ملوك الطوائف، وانقسمت دولة الخلافة الأموية إلى أكثر من عشرين مملكة،

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
على رأس كل واحدة منها متغلب، ومستقو بعشيرة أو بعصبية أو بنفوذ وجاه، وأغلبهم لا دين له ولا أخلاق، وفي خضم تلك الأحداث المضطربة عاش ابن حزم، ورأى انحلال خلافة وقيام طوائف، وشهد الكثير من أحوال ذلك العصر وتقلباته، ورأى أيضًا تصرفات ملوك الطوائف ومثالبهم، وبغيهم ومجونهم وانحلالهم؛ فهزت هذه التقلبات مشاعر ابن حزم إلى الأعماق، فأطلق لحكمه العنان يؤرخ لتلك الفترة العصيبة من حياة دولة الإسلام في الأندلس، وحمل على ملوك الطوائف بعنف، وبعباراته اللاذعة على استهتارهم بالدين والعقيدة، حتى قال عنهم في كتابه الشهير ((نقط العروس)): والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستعدون النصارى، فيمكنونهم من حُرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا فأخلوها من الإسلام، وعمروها بالنواقيس.
لذلك كره ملوك الطوائف ابن حزم، وحرصوا على إبعاده عن أراضيهم، ونفيه من مكان لآخر، فقد كانوا يخافون من آرائه النقدية، وحملاته الفكرية على فضائحهم وجرائمهم،
ولربما أحرقوا كتبه بمحضر عام من الناس، كما فعل ذلك طاغية إشبيلية المعتضد بن عباد، وحرضوا العوام عليه، ومنعوا الطلبة من الجلوس إليه، فقضى الإمام آخر عشرين عامًا في حياته منفيًا في مسقط رأس أسرته في قرية منت ليشم من أعمال لبلة في غرب الأندلس، ولكنه استفاد من تلك المحنة، وتفرغ بالكلية في التأليف والتصنيف؛ فأخرج دررًا وكنوزًا رائعة في شتى الفنون، وحول الإمام محنته ومنفاه إلى قلعة علمية للكتابة والتأليف، ليخرج بعد ذلك علمه للعالم بأسره ينتفع به الناس على مر العصور حتى الآن، وإلى أن يشاء الله عز وجل.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (18/ 184).
• البداية والنهاية: (12/ 99).
• جذوة المقتبس: (308).
• الصلة: (2/ 415).
• المغرب في حلى المغرب: (1/ 354).
• الإحاطة: (4/ 111).
• نفح الطيب: (2/ 77).
• وفيات الأعيان: (3/ 325).
• تذكرة الحفاظ: (3/ 1146).
• شذرات الذهب: (3/ 299).
• ابن حزم الأندلس - للدكتور/ عبد الحليم عويس.
• ابن حزم - للشيخ أبو زهرة.
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م.

https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 24-03-2025 11:12 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام أبو بكر الطرطوشي
شريف عبدالعزيز الزهيري
(24)
https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480


الفارق بين العلماء الربانيين وغيرهم من سائر أهل العلم أن العلماء الربانيين يدركون واقع الأمة الإسلامية أكثر من غيرهم، ويشاركون الجماهير في مشاكلهم ونوازلهم، فالعالم الرباني هو عالم عامة المسلمين، وليس خاصتهم، هو العالم الذي ينصح ويرشد
ويوجه ويشارك، ويكون له في كل ما يستجد بالأمة من نوازل ومستحدثات قول ورأي وعمل، العالم الرباني ليس هذا العالم الذي يقبع خلف كتبه وأوراقه، بين جدران داره أو مدرسته، يعيش في نظريات جدلية، وفرضيات وهمية، وتفريعات جزئية، بل هو العالم الذي يتابع أحوال المسلمين، ويرى مواطن الخلل عندهم، ويكون له سعي حثيث، وجهد كبير من أجل نصح الأمة، والدفاع عن حياضها، وهذه المحنة التي تعرض لها صاحبنا هذه المرة كانت بسبب تصديه لمصالح المسلمين، ورغبته في إحياء معالم الدين التي اندرست تحت حكم الظالمين والضالين.
التعريف به:

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هو الإمام العلامة، القدوة الزاهد، العالم العابد، فخر الأندلس، وشيخ المالكية أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الأندلسي الطرطوشي، فقيه الإسكندرية وعالمها، وناشر السنة، وقامع البدعة في مصر أيام الفاطميين الأشرار، ولد في عام 451هـ بمدينة طرطوشة الأندلسية، وتقع في أقصى الشرق إلى الشمال على سفح جبل، بينها وبين البحر المتوسط عشرون ميلاً، وعلى جبالها ينبت شجر الصنوبر الضخم، والمشهور بمتانة جذوعه وضخامته، مما دفع ولاة الأندلس لبناء دار لصناعة السفن بها، وكانت طرطوشة دائمًا في دائرة الطموحات الأسبانية، وتعرضت للهجوم عليها عدة مرات.
وفي ظلال الطبيعة الساحرة التي أبدعها الخالق سبحانه وتعالى نشأ الإمام أبو بكر الطرطوشي، وفي جامع المدينة الكبير تلقى علومه الأولى، ولما بلغ العشرين رحل إلى مدن الأندلس الكبيرة الأخرى ليستزيد من العلم، فذهب أولا إلى سرقطسة، واتصل بكبير
علمائها في ذلك الوقت: القاضي أبي الوليد الباجي، فحمل عنه المذهب، وظل عنده أربع سنوات كاملة، وكان الباجي من أكبر علماء الأندلس بعد رحيل منافسه الشهير ابن حزم.
بعد وفاة الباجي سنة 474هـ، قرر الطرطوشي أن ينهج نهج أستاذه الباجي؛ فخرج في رحلة علمية إلى المشرق، لم يكن الطرطوشي يعلم أنه لن يعود إلى بلاده أبدًا من تلك الرحلة، وإن كان أستاذه الباجي قد مكث في رحلته العلمية ثلاثة عشر عامًا، فإن أبا بكر
الطرطوشي قد مكث في رحلته عمره كله.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وفي سنة 476هـ غادر الطرطوشي وطنه - وهو غض الشباب - ليبدأ رحلته إلى المشرق، فدخل مكة أولا، وحج الفريضة، ثم مكث بها قليلا، وتشرف بإلقاء بعض الدروس بها في مذهب المالكية، ثم دخل بعد مكة بغداد، والتي تعد وقتها محط رحال العلماء، وأكبر المراكز العلمية على مستوى العالم الإسلامي، في ظل اهتمام وزير السلاجقة ببناء المدارس العلمية، فدخلها الطرطوشي، وسمع من علمائها ومشايخها، وطاف على علماء كل المذاهب؛ فتفقه على أبي بكر الشاشي كبير شافعية العراق وفتها، وكذلك سمع من أبي محمد التميمي شيخ الحنابلة، ثم دخل البصرة فسمع بها الحديث من أبي على التستري، وحصل على إجازة في العديد من كتب السنن.
وفي سنة 480هـ دخل الطرطوشي بلاد الشام، وفي نيته نشر المذهب المالكي بها، وكانت بلاد الشام شبه خالية من المالكية، وكان الطرطوشي عابدًا زاهدًا متقشفًا، منقبضًا عن الناس، يغلب عليه الورع في سائر أحواله، وقد نذر نفسه للعلم ونشره، فأحبه
الناس، وأقبلوا عليه، وانتفعوا به، فعلا اسمه، وبعد صيته، ولم يستقر الطرطوشي في بلد بعينه في الشام، بل كان دائم الانتقال من بلد لآخر؛ فدخل أولا بيت المقدس، ثم دمشق، ثم حلب، ثم أنطاكية، وبعد عشر سنوات كاملة خرج الطرطوشي من الشام إلى مصر، وذلك سنة 490هـ، واستقر به المقام في الإسكندرية، وظل بها حتى وفاته سنة 520هـ، بعد رحلة علمية طويلة وشاقة مليئة المحن والابتلاءات، وأيضًا بالعطاء العلمي والتربوي الرائع.
ثناء الناس عليه:

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
للطرطوشي طريقة خاصة به بين علماء الأمة، فلقد كان عالما زاهدًا، بل بالأحرى زاهد عالم، فلقد كان زهده فوق علمه، ينتفع به الناس: بسمته ودله وسلوكه قبل أن ينتفعوا بعلمه، فلقد كان مربٍ من كبار المربين، لذلك كان ثناء الناس عليه كثير، وإن كان مؤرخي المشرق لا يعرفون عنه الكثير، وهذه طائفة من أقوالهم:
قال ابن بشكوال: كان الطرطوشي إمامًا عالما، زاهدًا ورعًا، دينا متواضعًا، متقشفا متقللا من الدنيا، راضيًا باليسير.
قال الإمام أبو بكر بن العربي: كان الطرطوشي عالما، فاضلا زاهدًا، مقبلا على ما يعينه، قال لي مرة ونحن في بيت المقدس: يا أبا بكر إذا عرض لك أمر دنيا وأمر آخرة، فبادر بأمر الآخرة، يحصل لك أمر الدنيا والآخرة.
قال إبراهيم بن مهدي: كان شيخنا أبو بكر زهده وعبادته أكثر من علمه.
قال ابن فرحون المالكي: الذي عليه علماؤنا أن الذي عند الطرطوشي من العلم هو الذي عند الناس، والذي عنده مما ليس مثله عند غيره دينه وورعه وزهده.
مصنفاته:

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
نظرا لأن الطرطوشي قد قضي عمره كله تقريبًا يرتحل من مكان لأخر، فإنه لم يشرع في التأليف والتصنيف إلا بعد أن جاوز الأربعين، واستقر في الإسكندرية، ومع ذلك ترك الإمام حصيلة علمية وافرة من المصنفات، ومن أهم تلك المصنفات:
1- كتاب سراج الملوك، وهو من أهم كتبه على الإطلاق، وهو أيضًا من أمتع الكتب وأجودها في بابها، وكفى به دليلا على فضله ومكانته العلمية، وهو كتاب فريد في بابه، قد كتبه الطرطوشي بعد المحنة التي تعرض لها، والكتاب يعتبر من أوائل - إن لم يكن
أول كتاب - يضع الأطر الشرعية الكاملة للنظم السياسية في الحكم والولاية، وقد قسم الطرطوشي كتابه ذلك إلي أربعة وستين فصلا تتعلق بسياسة الملك، وفي الحكم وتدبير أمور الرعية، وعلى منواله نسج العلامة ابن خلدون كتابه الأشهر (المقدمة)، وقد اعترف ابن خلدون بفضل أسبقية الطرطوشي في ذلك المضمار.
2- مختصر لتفسير الثعالبي المشهور بعرائس المجالس.
3- الكتاب الكبير في مسائل الخلاف في الفقه المعروفة باسم التعليقة في الخلافيات،
وهو كتاب في الفقه المقارن.
4- شرح رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي.
5- كتاب الأسرار .

6- كتاب الفتن.
7- كتاب بر الوالدين.
8- كتاب الأسرار.

9- رسالة في نقد كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وكان علماء المغرب والأندلس ينكرون على الغزالي بقوة ذلك الكتاب، وحجتهم في ذلك تلك الرسالة القوية والشديدة التي ألفها الطرطوشي في الرد على الغزالي، وشبه كتابه بإمانة علوم الدين، وقد أفتى
الطرطوشي بإحراق الكتاب لما فيه من سموم قاتلة، وأفكار باطنية، ورموز فلسفية، وتقلد علماء المغرب تلك الفتوى وأحرقوا الكتاب، وعاقبوا عليه أشد العقاب، وتلك الفتوى مما شغب به بعض الناس على الطرطوشي، ورموه بالتعصب، ومحاربة الفكر بسببها.
10- رسالة في تحريم الغناء والمعازف.
11- الرد على اليهود .

12- رسالة في البدع والحوادث؛ وهي من أفضل ما كتب في ذلك الباب على صغرها.
محنته:

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
انتقل الطرطوشي من الأندلس إلى المغرب، ثم إلى الحجاز، ثم إلى العراق، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر، وذلك كله طلبًا للعلم والرواية، ونشرًا للعلم والتدريس، فلقد كانت قضية نشر العلم والسنة هي الشغل الشاغل لحياة الإمام الطرطوشي، فلما وصل إلى مصر شاقت نفسه للإقامة في الإسكندرية، لموافقة طبيعتها لطبيعة مسقط رأس الإمام بالأندلس، فلما وصلها لم يكن في نيته المقام بها إلا قدر الحاجة، وحاجته كانت نشر العلم، ونفع الناس، ولكنه لما وصل الإسكندرية وجدها قفرًا من العلم والعلماء، ومن أية مظاهر دينية، والمساجد خالية، والمدارس مغلقة بسبب ملاحقة الفاطميين الزنادقة لعلماء أهل السنة، وتشريدهم وقتلهم وإيذائهم، فقرر الطرطوشي استيطان الإسكندرية، ونشر العلم والسنة بها، وكان الطرطوشي يقول في ذلك: إن سألني الله تعالى عن المقام بالإسكندرية - لما كانت عليه في أيام العبيدية: من ترك إقامة الجمعة، ومن غير ذلك من المناكر التي كانت في أيامهم - أقول له: وجدت قومًا ضلالا؛ فكنت سبب هدايتهم.
وبالفعل لم يلبث الطرطوشي في الإسكندرية إلا قليلا حتى عرف واشتهر، وأقبل عليه طلبة العلم الذين وجدوا فيه ضالتهم، وكأنهم قد وقعوا على كنز، فازدحموا على دروسه، وكان الطرطوشي قد تزوج من سيدة موسرة صالحة من نساء الإسكندرية، فأطلقت يده في أموالها، ووهبته دارًا من أملاكها، فقرر الطرطوشي أن يجعل تلك الدار مدرسة علمية على طراز المدارس النظامية التي رآها في بغداد أثناء رحلته، والتحق بتلك المدرسة الكثير من طلبة العلم، وكان الطرطوشي ينفق على تلاميذه، ويضيف الغرباء منهم فيها.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
اصطنع الطرطوشي طريقة جديدة في التعليم هي أقرب ما تكون للتربية والتعليم بالنظم الحديثة؛ حيث لم تقتصر علاقته مع طلبته وتلاميذه مع حلقة الدرس فقط، ثم ينفضون من حوله، بل كان يصطحبهم، ويخرج معهم في رحلات خلوية إلى البساتين والمنتزهات خارج المدينة، وهناك يقضون عدة أيام على غرار المعسكرات الكشفية، يلقى دروسه في الهواء الطلق على تلاميذه، ويذاكرهم ما حفظوه ودرسوه، وقد شاقت هذه الطريقة تلاميذه فأقبلوا عليه، وكثر عددهم، حتى كان يخرج معه في رحلاته تلك أربعمائة طالب، وبذلك يكون الطرطوشي قد سبق الأوروبيين وغيرهم من أصحاب النظريات الحديثة في التربية.
كانت الدولة العبيدية الرافضية الخبيثة وقتها تحت سيطرة الوزير الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي، وكان طاغية جبارًا، غشومًا ظلومًا، في ظل حكمه الجائر احتل الصليبيون بيت المقدس وسواحل الشام، فلما سمع الطرطوشي عن جبروته وقوته
وسلطانه قرر الذهاب إلى القاهرة لنصحه ووعظه كما يليق بالعلماء المخلصين الربانيين، يطلب منه الرفق بالرعية، وإشاعة العدل بينهم.
وصل الطرطوشي إلى قصر الوزير الطاغية، ودخل عليه مجلسه، فوجده زاخرًا بمتع الدنيا وزخارفها، وفيه من علامات الأبهة والتكبر ما لا يوصف، فدخل الطرطوشي على الطاغية في قصره، ثم شرع في وعظه ونصحه بعبارات تفيض بالترهيب والترغيب، بأسلوب بلاغي رائع، جعل الطاغية الجبار يهتز ويبكي، وكان يجلس بجوار الوزير أحد النصارى؛ فأنشد الطرطوشي:
يا ذا الذى طاعته قربة
وحقه مفترض واجب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إن الذى شرفت من أجله
يزعم هذا أنه كاذب
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وأشار إلى ذلك النصراني، فأقام الوزير النصراني من موضعه، وأخرجه من مجلسه.
عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية، بعدما أدى النصح لولاة الأمور، وبرهن على واجبات العلماء الربانيين، وتفرغ بعدها الطرطوشي للعلم والتعليم، وقد زادت شهرته بين الناس، وازداد معه عدد الطلبة والتلاميذ، ولكن هذا الإقبال جر على الطرطوشي الوبال
والمحن؛ فقد ضاق به قاضي الإسكندرية [ابن حديد] ضيقًا شديدًا، خاصة وأن الطرطوشي قد أحدث نهضة علمية كبيرة بالبلد، واهتم الناس بالقرآن والسنة، وكان للطرطوشي فتاوى كثيرة يعارض فيها النظم والقواعد التي يسير عليها ولاة الدولة، وكان الطرطوشي دائم الانتقاد لسياسة بني حديد، وقد ألف رسالة مهمة في نقد أوضاع وعادات المجتمع وقتها، سماها (بدع الأمور ومحدثاتها)، ثم أفتى بحرمة الجبن الذي يستورد من الروم، وكانت تجارته رائجة، وتدر دخلا كبيرًا على خزانة بني حديد.
جمع القاضي الفاسد ابن حديد هذه الأنشطة كلها، ورفعها إلى الوزير الأفضل، وشفعها ببيان خطورة الطرطوشي على البلد، وأنه يهدد السلام الاجتماعي بكثرة انتقاده لأوضاع ونظم الدولة، ولربما يؤدي لثورة الناس، وضعف الإيرادات بسبب فتاواه بالتحريم
وغيرها، ولم يكن الوزير الطاغية بحاجة لمزيد من الشحن والتحريض ضد الإمام الطرطوشي، فأرسل إلى ابن حديد يأمره بإرسال الطرطوشي إليه، فلما جاءه الرسول الذي سيحمله إلى القاهرة قال له: يسر حوائجك؛ فإنك تمشي يوم كذا؛ فقال الطرطوشي: وأي حوائج معي؟ ريش الكتابة، وطعامي في حوصلتي، مما يدل على زهده، ورقة حاله، واستعداده الدائم لتقبل النوازل والمحن.
وصل الطرطوشي إلى القاهرة، وهناك أمره الوزير الأفضل بالبقاء في الفسطاط، وحدد
إقامته في مسجد الرصد جنوبي الفسطاط (القاهرة القديمة)، وضيق عليه بشدة، ومنع الناس من الاتصال به والأخذ عنه، وجعل رزقه الشهري بضعة دنانير يأخذها من متحصل جزية اليهود، إمعانًا في التضييق عليه، وذلك سنة 514هـ.
ظل الطرطوشي رهن الإقامة الجبرية في مسجد الرصد شهورًا طويلة، لا يجرأ أحد على زيارته، أو الاجتماع معه، وقد تحول المسجد إلي معتقل كبير للإمام، حتى إن الناس قد هجروا الصلاة في المسجد، خوفًا من أن يتهموا بالاتصال بالشيخ، وتطاولت الأيام على الطرطوشي وهو وحده في المسجد، وليس معه إلا خادمه، وكان أشد شيء على الإمام منعه من التدريس والتعليم والاجتماع مع تلاميذه وطلبته، وضاقت نفسه بشدة من هذه المحنة.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ولما طال الحبس والمنع بالطرطوشي قرر الإمام الصالح أن يخرج من هذا السجن الطويل، وذلك بمساعدة رب السموات والأرض، فترك الأكل من الطعام الذي يأتيه من رزق الوزير الطاغية، وأمر خادمه بجمع المباح من الأرض، وتقوت به، وظل صائمًا قائمًا، ويفطر على ما يأتيه من المباح من الأرض، وفي يوم من أيام شهر رمضان سنة 515هـ، وتحديدًا يوم 28 رمضان، وساعة الغروب قال الطرطوشي لخادمه: (لقد رميته الساعة)؛ فلما كان من الغد ركب الوزير الطاغية في موكبه، فهجم عليه مجموعة من الفرسان فقتلوه، فعد ذلك الأمر كرامة هائلة للإمام الطرطوشي تدل على قدره ومكانته.
تولى الوزارة بعد الأفضل المأمون البطائحي، وكان يجل الشيخ الطرطوشي، ويعرف
المحنة التي وقعت له مع الأفضل؛ فأخرجه من الحبس وأكرمه، فطلب الطرطوشي من الوزير الجديد أن يأذن له بالعودة إلى الإسكندرية؛ فأذن له، فلما عاد جعل الطرطوشي شغله الشاغل في تأليف كتاب في فن السياسة والحكم، وأصول العدل والرفق بالرعية، حتى يقدمه كدليل ومرشد للوزير الجديد، حتى لا تأخذه عزة الحكم، وأبهة السلطان؛ فيسير على نهج سلفه المقتول، وكان هذا الكتاب هو أمتع كتبه وأجودها - كتاب سراج الملوك - وإنما جاء من قلم إمام وعالم سبكته المحن، وامتحنته البلايا والفتن، ولكنه خرج منها إمامًا كبيرًا، ومربيًا رائدًا، وعالما ربانيًا، يندر وجوده في أيامنا هذه.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (19/ 490).
• وفيات الأعيان: (4/ 262).

• الديباج المذهب: (2/ 244).
• نفح الطيب: (2/ 85).
• شذرات الذهب: (4/ 62).

• الصلة: (2/ 575).
• المغرب في حلى المغرب: (2/ 242).
• النجوم الزاهرة: (5/ 231).

ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif




ابوالوليد المسلم 25-03-2025 11:14 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة
شريف عبدالعزيز الزهيري
(25)
https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

يعتبر الحسد هو السبب الرئيسي لمعظم المحن والابتلاءات التي تعرض لها علماء الأمة، وعادة ما يكون الحسد بسبب مكانة العالم ومنزلته بين الناس، ومحبة العالمين له، أو بسبب جرأته في الحق، والصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي صفات غالبًا ما تكون في العلماء الربانيين، ولكن أن يحسد العالم بسبب نجابة تلاميذه، والتفوق العلمي لهم؛ فهذا هو العجيب حقًا، ومما يؤرخ له في مقامنا هذا.
التعريف به:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هو الإمام الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإسلام، إمام الأئمة، أحد أركان السنة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري الشافعي، صاحب التصانيف الهامة، وُلد سنة 223هـ، وأخذ في طلب العلم في حداثته؛ فاعتنى بسماع الحديث والفقه، وتضلع فيهما، حتى صار يضرب به المثل في سعة العلم والإتقان، وقد شرب ماء زمزم في حجه بنية العلم النافع، فكأن الله عز وجل قد فتح على قلبه وفهمه ينابيع العلم والحكمة، فكان من أفراد العالم ذكاءً وفهمًا، مع زهد وعزوف عن الدنيا وزينتها، لا يدخر شيئًا، كل ما يملكه ينفقه على أهل العلم، حتى إنه لم يكن يميز بين العشرة والعشرين، ربما دفع العشرة على أنها خمسة.
ثناء الناس عليه:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
كان ابن خزيمة درة زمانه في العلم والفقه والزهد والورع؛ لذلك كان كلمة إجماع، لم يختلف عليه أحد، بل الجميع: القاصي والداني مقر بفضله، معترف بمكانته وقدره، وهذه طائفة من ثناءات الناس عليه:
• قال الحافظ أبو علي النيسابوري: لم أر أحدًا مثل ابن خزيمة، وهو يقول مثل هذا، وقد رأى الإمام النسائي صاحب السنن.
• قال ابن حبان البستي: ما رأيت على وجه الأرض من يحفظ صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها، حتى كأن السنن كلها بين عينيه إلا ابن خزيمة فقط.
• قال الدارقطني: كان ابن خزيمة إمامًا ثبتًا معدوم النظير.
• قال الإمام ابن سريج: ابن خزيمة يستخرج النكت من حديث رسول الله بالمنقاش.
• قال أبو عثمان الحيري: إن الله ليدفع البلاء عن أهل هذه المدينة: (يقصد نيسابور) لمكان أبي بكر بن خزيمة.
• سئل إمام الجرح والتعديل ابن أبي حاتم عن ابن خزيمة فقال لمن سألوه: ويحكم! هو يسأل عنا، ولا نسأل عنه، هو إمام يقتدي به.
مصنفاته:
لابن خزيمة مصنفات تزيد على مائة وأربعين كتابًا، سوى المسائل الفقهية؛ وهي تزيد وحدها على مائة جزء، ويعتبر ابن خزيمة واحدًا من أهم منظري العقيدة الصحيحة:
عقيدة السلف الصالح، وله كتاب التوحيد من أشهر كتب العقيدة السلفية في القرن الثالث الهجري، أطلق فيه عبارات قوية وحاسمة فيما يتعلق بالمذاهب المخالفة لعقيدة السلف، منها قوله السائر: من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئًا، وقال: القرآن كلام الله تعالى، ومن قال إنه مخلوق فهو كافر يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
محنته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
كان لابن خزيمة عظمة في النفوس، وجلالة في القلوب لعلمه ودينه، واتباعه السنة، وبلغ الإمام رتبة الاجتهاد، وتفرد على أهل زمانه، وتقدمهم في السن والعلم، وكان له أصحاب وتلاميذ صاروا في حياته نجوم عصرهم، وأئمة كبارًا يشد إلى حلقهم الرحال، ولعل ذلك سبب تسمية ابن خزيمة بإمام الأئمة، ومن هؤلاء الأصحاب الأئمة: أبو علي الثقفي، وهو أول من حمل علوم الشافعي، ودقائق ابن سريج إلى خراسان، وأبو بكر الصبغي خليفة ابن خزيمة في الفتوى، وأحسن الجماعة تصنيفًا، وأحسنهم سياسة في مجالس السلاطين، وأبو بكر بن أبي عثمان وهو آدبهم، وأكثرهم جمعًا للعلوم، ورحلة لها، وهو شيخ المجاهدين، وأبي محمد يحيى بن منصور، وكان من أصلح الناس للقضاء.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وتبدأ فصول محنة ابن خزيمة عندما ورد إلى نيسابور رجل معتزلي فاسد العقيدة والطريقة أيضًا اسمه منصور الطوسي، وأخذ هذا الرجل في حضور مجالس ابن خزيمة لسماع آرائه وأقواله في العقيدة، فلما عاين ما عاينه من الأربعة الذين سميناهم داخله الحسد، وأكل قلبه الغل، وأخذ يخطط من أجل إيقاع الفُرْقَةِ بين الإمام وأصحابه، واجتمع مع رجل على شاكلته هو أبو عبد الرحمن الواعظ القدري المعتزلي، واتفقا على تفاصيل المؤامرة، وعلى بث الوشايات الكاذبة عند الإمام ابن خزيمة بحق أصحابه، واتهامهم بالخوض في باب العقائد، وأنهم على مذهب الكلابية [منسوبة لابن سعيد بن كلاب]، وبالفعل أخذ الرجلان في الكلام بحق هؤلاء الأئمة عند أستاذهم ابن خزيمة.
وحدث ذات مرة أن تكلم أبو علي الثقفي عن مسألة كلام الله بعد أن ثار خلاف بشأنها في إحدى حلق العلم، وكان ابن خزيمة ينهى أصحابه عن هذه المسألة تحديدًا، وعن الخوض في الكلام عمومًا، فانتهز منصور الطوسي الفرصة، وأسرع إلى الشيخ ابن خزيمة، وقال له: ألم أقل للشيخ: إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية؟ فجمع ابن خزيمة أصحابه، وقال لهم: ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام؟ ولم يزدهم على هذا ذلك اليوم.
لم يزل الطوسي يروح ويجول بفريته على مسامع الشيخ ابن خزيمة، حتى جرَّأه على أصحابه، واستحكمت الوحشة بين الشيخ وتلاميذه، وزادت الأمور سوءًا بتدخل بعض الأطراف الخارجية، حتى وصل الحال بابن خزيمة - وكان قد جاوز الثمانين من العمر، وضجر وضاق صدره - وصل به الحال أن أعلن في محضر من طلاب العلم بأن أصحابه الأربعة كذبة، وأنه محرم على كل طالب علم أن يقبل منهم شيئًا يروونه عن ابن خزيمة، وما هم بكذبة، بل أئمة اثبات، ولكنه فعل الطوسي المنحرف، الذي سعى بالنميمة والأكاذيب، حتى انحرف الشيخ عن أقرب وأخص أصحابه.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
اغتنم الطوسي وأبو عبد الرحمن القدري الفتنة في نشر مذهبهما في الاعتزال، ووجدوا من بعض الحسدة: مثل البردعي وأبو بكر بن علي من يساعدهما على تأجيج الفتنة، فانتصب الحافظ أبو عمرو الحيري للصلح بين الجماعة، وشرح لابن خزيمة غرض المعتزلة في فساد الحال، حتى استطاع أن يجمع بين الشيخ وأصحابه في مجلس، وأصلح بينهما، وكتب الأصحاب عقيدتهم في محضر ووقع ابن خزيمة عليه بالصحة والسلامة، وأودع المحضر عند الحافظ الحيري حتى لا يبقى لمتقول كلام.
لم يكد ينقضي يوم واحد على الصلح، وكتابة المحضر حتى أسرع الطوسي ومن على شاكلته من المعتزلة إلى الشيخ ابن خزيمة، وقالوا له: إنهم قد غدروا بك، وغيروا من
كلام المحضر ليوافق عقيدتهم عقيدة ابن كلاب؛ فغضب ابن خزيمة بشدة، وكما قلنا أنه كان شيخًا كبيرًا جاوز الثمانين، فأرسل إلى أبي عمرو الحيري يطلب المحضر للتأكد من صحة الخبر، فرفض الحيري، فقوى ظن ابن خزيمة بأنهم قد غدروا به، وغيروا كلامه في المحضر، فظل ساخطًا مقاطعًا لأصحابه وتلاميذه الأئمة حتى مات بعد ذلك بقليل.
وهكذا نرى كيف أن أصحاب العقائد الباطلة، والمذاهب الفاسدة كانوا، وما زالوا يلعبون دورًا خطيرًا في فساد ذات البين، وفي محن العلماء الربانيين، وأية محنة أشد على العالم من أن يقاطع تلاميذه، ويعادي أخص أصحابه، الذين كانوا مصدر فخره، وأحد أسباب شهرته، والله أعلم بالعاقبة.
المصادر والمراجع:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
• سير أعلام النبلاء: (14/ 365).
• البداية والنهاية: (11/ 159).
• المنتظم: (6/ 184).
• تذكرة الحفاظ: (2/ 720).
• النجوم الزاهرة: (3/ 209).
• شذرات الذهب: (2/ 262).
• طبقات الشافعية: (3/ 109).
• تراجم أعلام السلف: (521).
• العبر للذهبي (2/ 150).
ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م


https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 26-03-2025 01:16 PM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
قصة مقتل القاضي عياض
شريف عبدالعزيز الزهيري
(26)
https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

الثبات حتى الممات هو شعار علماء الأمة الربانيين، الذين لا يتنازلون عن الحق، ولا يحيدون عنه قيد أنملة، مهما تقلبت بهم الأحوال، وعظمت عليه الخطوب؛ فهم حماة الدين، وحراس الشريعة، وجند الحق، يعلمون أن أعظم المهام المنوطة بهم هي الحفاظ على معالم الدين، والتصدي للمبتدعين، ومواجهة كل دخيل ومدعٍ بريد أن يحرّف مفاهيم القرآن والسنة؛ فكم من عالم رباني قضى نحبه تحت سياط الباطل، وفي سجون الطغاة، من أجل ثباته على الدين، ومحافظته على الحق، وكم من عالم طورد وشرد هو وأهله من أجل أنه لا يداهن ولا يجاري، وكم من عالم، وطمس تاريخه، وشوهت سيرته بين الناس، لأنه آثر مرضاة الله عز وجل على مرضاة المضللين والمحرفين، وهؤلاء العلماء كلهم شعارهم في الحياة قوله عز وجل: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23]، وصاحبنا هذه المرة واحد من علماء الأمة الربانيين الذي كانت حياتهم وخاتمتهم مثلا حيًا وواضحًا، وترجمة حقيقية لمعنى هذه الآية الكريمة.
التعريف به:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هو الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الأندلس والمغرب، وفريد عصره، شيخ الإسلام، القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي الأندلسي ثم السبتي المالكي، وُلد 476هـ بمدينة سبتة المغربية (وهي ما زالت واقعة حتى الآن تحت الاحتلال الإسباني)، وكان جده عمرو قد هاجر من الأندلس إلى المغرب أيام ملوك الطوائف، وسكن مدينة سبتة، وبها وُلد القاضي عياض.
لم يحمل القاضي عياض العلم في الحداثة كعادة كبار العلماء، بل طلبه بعد أن جاوز
العشرين، وكان أول سماعه وطلبه للعلم إجازة مجردة من الحافظ أبي عليَّ الغسَّاني، ثم رحل إلى الأندلس سنة 503هـ، وسمع من شيوخها وعلمائها، وانقطع لطلب العلم، فاستبحر من شتى العلوم: الحديث والفقه، وعلوم اللغة، وتمر فيها حتى فاق معاصريه وشيوخه، وبذ الأقران، وجمع وألف، وناظر وأفتى، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق، وتولى منصب القضاء في بلده سبتة مدة طويلة، حُمِدَتْ فيها سيرته، ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة، ومن شدة أهليته للمنصب ارتبط واقترن اسمه بقلب القاضي؛ على الرغم من صغر سنه، فلقد تولى القضاء وله خمس وثلاثون سنة فقط.
ثناء الناس عليه:
كان القاضي عياض من محاسن الدهر، وبركة العصر، وكلمة إجماع عند أهل العلم،
رزقه الله عز وجل القبول عند الناس، فأنزلوه مكانه اللائق به في مصاف كبار علماء الأمة، وأثنوا عليه بما هو أهله، وهذه طائفة من أقوالهم:
قال ابن بشكوال تلميذه: هو من أهل العلم والتفنن، والذكاء والفهم، استقضى بسبتة مدة طويلة، حمدت سيرته فيها، ثم نقل إلى غرناطة، فلم يطول بها، ثم قدم علينا قرطبة فأخذنا عنه، واستفدنا منه كثيرًا.
قال الفقيه محمد بن حمادة السبتي: جلس القاضي للمناظرة وله نحو من ثمان وعشرين سنة، وولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة، كان هينًا من غير ضعف، صليبًا في الحق، وقد حاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحد قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلا تواضعًا وخشية لله تعالى.
قال ابن خلكان في وفياته: هو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو، واللغة، وكلام العرب، وأيامهم، وأنسابهم.
قال المؤرخ الشهير محمد بن عبد الله: وكان القاضي عياض من أكابر الحفاظ، ومن أعظم أئمة عصره في الحديث، وفي فهم غريبه ومشكله ومختلفه، بارعًا في علم الأصول والكلام، حافظًا للمختصر والمدونة، متمكنًا من الشروط والأحكام، أبرع أهل زمانه في الفتيا، متقنًا للنحو واللغة، أديبًا كبيرًا، وشاعرًا مجيدًا، حسن التصرف في النظم، كاتبًا بليغًا، وخطيبًا مفوهًا، عالما بالسير والأخبار، ولا سيما أخبار العرب و أيامها وحروبها، وكان حسن المجلس، ممتع المحاضرة، فصيح اللسان، حلو المداعبة، بسامًا مشرقًا، جم التواضع، يمقت الإطراء والملق، معتزًا بنفسه ومكانته، محبًا لأهل العلم، معاونًا لهم على طلبه، جوادًا، سمحًا، من أكرم أهل زمانه، كثير الصدقة والمواساة.
مصنفاته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
يعتبر القاضي عياض من أكثر علماء المغرب تصنيفًا وترتيبًا، وله ثبت حافل بالمؤلفات النفسية والفائقة، كلها بفضل الله عز وجل موجود ومطبوع، وهو من الأعلام القلائل الذين لم يفقد مؤلفاتهم شيء، على الرغم من المحنة الهائلة التي تعرض لها عندما اضطهدته السلطة، وهذا الحفظ الذي حفظه الله عز وجل لمؤلفات القاضي عياض دليل على عظم هذا الإمام ومكانته، وتأييد الله عز وجل له، وإعلاء ذكره وعلمه بين العالمين، أما عن أهم كتبه ومصنفاته فمنها:
• كتاب (الشفا في شرف المصطفى) وهو أجَّل كتبه وأنفعها وأشهرها، وقد أتى في الكتاب بالعجائب والفرائد والتأويلات البديعة، والمعاني الخفية اللطيفة، فجاء هذا الكتاب فريدًا بين كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شغف العلماء بهذا الكتاب، فوضعوا له الشروح والحواشي، وخرجوا أحاديثه، وحرروا ألفاظه، ولذلك الكتاب عدة طبعات بعدة شروح مختلفة، وبتحقيق أسماء مختلفة من أهل العلم، والكتاب لا يستغني عنه أي طالب علم، فضلا عن المتخصصين في السير والتاريخ.
• كتاب ((ترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك)).
• كتاب ((العقيدة)) في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد شرح فيه عقيدته السلفية الصحيحة.
• كتاب شرح حديث أم زرع، واسمه (بغية الرائد فيما في حديث أم زرع من الفوائد)، وقد ذكر فيه طرق الحديث، وما يتعلق بها، ثم ذكر على طريق الإجمال فيه من العربية والفقه والغريب، وما اشتمل عليه من ضروب الفصاحة، وفنون البلاغة والبديع، ويعد هذا الشرح من أعظم كتب البلاغة التطبيقية في الكتب العربية، وقد أثنى عليه الحافظ ابن حجر كثيرًا في الفتح.
• كتاب ((مشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار)) وهو في تفسير غريب الحديث، وضبط ألفاظه رتب فيه الكلمات على ترتيب حروف المعجم المعروف ببلاد المغرب بحسب حرفها الأول، ثم الثاني وهكذا، وهو من الكتب العظيمة النافعة.
• كتاب ((جامع التاريخ)) الذي أربى على جميع المؤلفات، جمع فيه أخبار ملوك الأندلس والمغرب، واستوعب فيه أخبار سبتة وعلمائها.
• كتاب ((الإكمال في شرح صحيح مسلم)) أكمل به كتاب ((المعلم)) للإمام المازري.
• كتاب ((الإلمام إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع)).
• كتاب ((التنبيهات))، كتاب ((الإعلام بحدود قواعد الإسلام)).
محنته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وُلد القاضي عياض كما ذكرنا سنة 476 بسبتة، التي كانت وقتها تحت حكم دولة المرابطين العظيمة، وهذه الدولة كانت من أعظم الدول الإسلامية التي ظهرت في بلاد المغرب عبر عصورها جميعًا، فلقد كانت دولة مجاهدة من الطراز الأول، حققت في هذا المضمار الكثير من الفتوحات والإنجازات الخالدة، وكان لها الفضل في نشر الإسلام في غرب ووسط القارة الإفريقية، حتى إن راياتها الميمونة قد وصلت إلى منتهى نهر النيجر، وبلاد الكاميرون، وقلب نيجيريا، كما أنها كانت دولة بدوية ساذجة، غير متلوثة بأسباب الترف المهلك، والأهم من ذلك كله أنها كانت دولة سلفية المنهج والعقيدة، لا تعرف الطرق الكلامية، والمذاهب البدعية إلى أهلها سبيلا، وكان قادة وسلاطين وأمراء تلك الدولة يعظمون العلماء والفقهاء ويجلونهم، وما سقطت هذه الدولة العظيمة إلا عندما تسلل الترف والفساد إلى جنباتها.
في ظل تلك الدولة المجاهدة السلفية، وُلد ونشأ وترعرع القاضي عياض، وفي ظلها أيضًا تعلم وتمهر، وتقدم في شتى العلوم، وفي ظلها أيضًا صار القاضي عياض من
أعلام العلماء، وكبار القضاة، ولأن هذه الدولة لم تعمَّر طويلا فإن القاضي عياض قد شاهد هذه الدولة، وفي عنفوان شبابها، وأوج قوتها، وأقصى اتساعها، ثم رآها وهي تندحر شيئًا فشيئًا، وتظهر فيها علامات السقوط: مثل الفساد والترف، ورآها أيضًا وهي تهزم المرة بعد الأخرى أمام جيوش مدعي المهدية ابن تومرت، والملقبين بالموحدين، مما كان يؤذن بأفول شمس هذه الدولة، وخروجها من ساحة الأحداث إلى ثبت الذكريات.
تولى القاضي عياض منصب القضاء سنة 510هـ في مدينته ((سبتة))، وكان في الخامسة والثلاثين، وكانت أولى علامات الفساد بدأت في الظهور في جنبات الدولة المرابطية، وكانت تلك العلامة هي الوساطة والشفاعة لبعض الناس، والمحسوبية لهم
على حساب الآخرين؛ فتصدى القاضي عياض لتلك الآفة، وسار في ولايته بمنتهى النزاهة والأمانة، وأبدى حزمًا في تطبيق الحدود والأحكام، واشتهر بين الناس بغزير علمه وحفظه، وصدق طريقته، ودقة فتياه، وحياديته الكاملة، حتى طارت شهرته في كل مكان.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هذه الشهرة بكل خير جعلت أمير المسلمين - وهو لقب المرابطين ((عليٍّ ابن يوسف بن تاشفين)) - يوليه قضاء غرناطة بالأندلس، ليصلح من شأنها، نظرًا لانتشار المفاسد بين أهلها، وكثرة القلاقل والاضطرابات بها، فتولى القاضي عياض قضاء غرناطة في سنة 531هـ، فقام به خير قيام، وأعرض عن الشفاعات والمؤثرات، وردع أرباب الولايات وأتباع السلطان عن الباطل، وعزل كل من ثبتت عدم أهليته وكفايته من منصبه، فشرد كثيرًا من حاشية والي الأندلس ((تاشفين بن علي)) عن أعمالهم ومناصبهم، فاستاء منه الأمير تاشفين بن علي، وضاق به ذرعًا، خاصة والقاضي عياض يرفض رفضًا تامًّا أي تدخل في عمله، وأية محسوبية أو وساطة، حتى ولو كانت من الأمير نفسه، فالقاضي عياض عالم ربانيٌّ، يؤثر الحق ومرضاة الخالق على ما سواهما، كائنًا ما كان، فسعى الأمير تاشفين بن علي عند أبيه أمير المسلمين (( علي بن يوسف))، حتى يصرف القاضي عياض عن منصبه، وبالفعل تم مراده، وعُزل القاضي عياض عن منصبه في رمضان سنة 532هـ.
لم يَفُتُّ هذا العزل في عضد القاضي عياض، ولم ينل من مكانته ولا قدره، فعاد إلى مدينته سبتة، وعكف فيها على التدريس والفتيا ونشر العلم، ثم طلب منه أمير المرابطين
((تاشفين بن علي)) سنة 539هـ أن يلي منصب القضاء في سبتة، وكانت أحوال دوله المرابطين قد تدهورت بشدة، واكتسحت جيوش الموحدين معظم ولاياتها في المغرب؛ فأراد ((تاشفين بن علي)) رجالاً صالحين وأشداء في تلك المناصب الحساسة لوقف تدهور الدولة المرابطية أكثر من ذلك، وسبحان الله: كم لله عز وجل في خلقه من شئون؛ فتاشفين بن علي هو الذي اجتهد أول مرة لعزل القاضي عياض عن منصبه، وهو نفسه الذي اجتهد لإعادته لنفس المنصب، وذلك عندما احتاج لعلمه وزهده ونزاهته.
بلغ الكتاب أجله، وسقطت الدولة المرابطية العظيمة المجاهدة، لما تخلت عن أسباب قوتها وبقائها، وأخلدت إلى الأرض والترف والشهوات، وحلت محلها دولة الموحدين، وتلك الدولة كانت على النقيض من دولة المرابطين، فمؤسسها رجل ادعى المهدية اسمه ((محمد بن تومرت))، وقد ابتدع لهم عقيدة خاصة بأتباعه أسماها ((المرشدة)): هي عبارة عن خليط من آراء المعتزلة والأشاعرة والجهمية، وقرر لهم الكثير من البدع والخرافات وقد سلك ذلك الرجل الدجال وأتباعه مسلك القسوة المفرطة، والوحشية القصوى في التعامل مع المرابطين، وسفكوا دماء مئات الآلاف من المرابطين، واستحيوا نساءهم، وأبادوا مدنًا بأكملها من على وجه الأرض، حتى إن الموحدين قد قتلوا قرابة المليون مسلم من أجل إقامة دولتهم.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
عندما رأى القاضي عياض تلك القسوة والوحشية الدموية المفرطة في تعامل الموحدين مع خصومهم، خاف على أهل سبتة من أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل مدينة ((سلا)) المغربية، الذين ذبحهم الموحدين عن بكرة أبيهم عندما حاولوا مقاومتهم، ورأى أن من المصلحة أن يدخل هو وأهل سبتة في طاعة الموحدين، حتى تستقر الأمور، ويرى بهدوء وروِيَّةٍ ما يمكن عمله بعد ذلك، وبالفعل دخل القاضي عياض وأهل سبتة في طاعة الموحدين في سنة 540هـ، وأقره الموحدون على منصب القضاء.
أخذ القاضي عياض في تسيير شئون سبتة حسب مقتضيات الشرع والعدل، وهو في نفس الأمر يفكر في كيفية التصرف مع هؤلاء الخوارج المبتدعين الضالين أتباع الدجال
(ابن تومرت)، ثم وقت مذبحة ((مراكش)) المهولة، التي لم تعرف بلاد المغرب والإسلام قبلها من نظير؛ وذلك عندما قام الموحدون باقتحام مدينة ((مراكش)) عاصمة المرابطين، وآخر حصونهم، وذبحوا أهلها جميعًا، وكانوا بمئات الآلوف، واسترقوا النساء والأطفال، ثم قاموا بعد ذلك بهدم المدينة بالكلية؛ بدعوى أنها مدينة نجسة، وأهلها مشركون: (كان الموحدون يصفون المرابطين بالمجسمة والمشبهة، كما هي عادة أهل الزيع والضلال في العقيدة مع أهل السنة والجماعة، أتباع عقيدة السلف الصالح).
فهدموا كل شيء، حتى الجوامع والزوايا والمدارس، وجعلوا المدينة قاعًا صفصفًا؛ فأثرت هذه المذبحة البشعة في نفسية القاضي عياض بشدة، أيقن أنه لا سبيل للتعامل مع هؤلاء الضُلال المبتدعة، وأن مصير ((سبتة)) سيكون كمصير ((مراكش)) و((سلا)) و((وهران))، وغيرهم من البلاد والمدن التي رفضت عقيدة ابن تومرت الضالة.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
قرر القاضي الاتصال بزعيم المرابطين (يحيى بن غانية)، وكان هو الوحيد الذي بقى من كبار قادة المرابطين، وقد استطاع أن يسيطر على جزر الأندلس الشرقية [ميورقة وأخواتها]؛ فاتصل به القاضي عياض، ونسق معه من أجل القدوم إلى مدينة ((سبتة))، وتسلميها إليه، على أن يعمل يحيى بن غانية على مجاهدة الموحدين، وتحرير مدن المغرب من نيرهم وضلالهم، وبالفعل وافق يحيى بن غانية على ذلك؛ فأعلن أهل سبتة خلع طاعة الموحدين؛ وذلك سنة 543هـ.
سارت الأمور على غير مراد القاضي عياض؛ إذ تخاذل يحيى بن غانية عن القدوم إلى
سبتة، في حين أسرع الموحدون إلى حصار المدينة بجيوش كثيفة؛ فخاف القاضي عياض على أهل المدينة من القتل والسبي، فخرج إلى الموحدين بنفسه، وقرر لهم أنه المسئول عما جرى، فحملوه إلى أمير الموحدين عبد المؤمن بن علي وكان وقتها في مراكش، فعفا عنه عبد المؤمن، وصفح عما جرى، ولكنه طلب منه أن يقر بعصمة ابن تومرت ومهديته، ويكتب بذلك كتابًا للآفاق كلها، فعلم القاضي عياض أن الموحدين قد طلبوا منه ذلك الكتاب ليكون حجة لهم، ودليلا على باطلهم، وصك شرعية من أكبر علماء المغرب والأندلس وقتها، وعلم القاضي عياض أن حياته على المحك، وأنه إذا رفض سيقتل ولا بد، وعلم أيضًا أنه لو أذعن وأعطاهم ما يطلبون لضل كثير من الناس، واتبعوا الموحدين في ضلالهم وعقيدتهم المبتدعة، بل وأهدر بكتابه ذلك دماء مئات الألوف من الأبرياء الذين قتلوا ظلمًا وعدوانًا بسيوف الموحدين.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
تراءت كل هذه المعطيات والنتائج في عقل القاضي عياض، فقرر التضحية بنفسه، وإيثار مرضاة الله عز وجل وحده، وإيثار الحق والعلم الذي قضى عمره كله يدعو إليه، ويقضي به، وينشره بين الناس، وأعلنها مدوية أمام الموحدين المبتدعين؛ أنه لا عصمة لابن تومرت، ولا مهدية له، وأنه دجال ضال في باب العقائد والأقوال والأفعال، وأن دماء الأبرياء في رقبته، وهو مسؤول عنها يوم القيامة، وذلك يوم 9 جمادى الآخر سنة 544هـ؛ فقام الموحدون بقتله بالرماح حتى قطعوه إربًا، ثم قاموا بجمع أشلائه ودفنوها في مكان مجهول بمراكش، بلا صلاة ولا غسل، كأنه واحد من غير المسلمين، بل وقاموا بعد ذلك بما هو أنكى من ذلك؛ فأقطعوا تلك المنطقة للنصارى؛ فبنوا بجوار قبره كنيسة وبعض الدور.
ولأن الله عز وجل ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فقد عثر على قبر القاضي عياض سنة 712هـ في عهد الدولة المرينية السنية، والتي أسقطت دولة
الموحدين الخبيثة، وفرح الناس والعلماء بذلك الأمر بشدة، وأمر القاضي أبو إسحاق بن الصباغ بتسوية ما حول القبر، وإشهاره وإظهاره، واجتمع الناس عنده، وصلوا عليه مرات كثيرة، وختموا القرآن عنده مرات كثيرة، [وهذا الأمر بخلاف السنة]، والخلاصة أن القاضي عياض أعظم حفاظ المغرب والأندلس وعلمائها في عصره، وسر عظمته ليس فقط علمه الغزير، وفضائله الجمة، ولكن ثباته على الحق، ورغبته في إصلاح الأمة، والتصدي للباطل والطغيان، حتى ولو كان ثمن ذلك الثبات هو روحه فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة، وأجزل له المثوبة يوم الدين.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع:
• سير أعلام النبلاء: (20/ 212).
• البداية والنهاية: (12/ 344).
• الصلة: (2/ 453).
• وفيات الأعيان: (3/ 483).
• الإحاطة: (4/ 222).
• الديباج المذهب: (2/ 46).
• نفح الطيب: (7/ 333).
• شذرات الذهب: (4/ 138).
• النجوم الزاهرة: (5/ 285).
• طبقات الحفاظ: (481).
• تذكرة الحفاظ: (4 /1304).
• دولة الإسلام في الأندلس: (4/ 461).
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م


https://i.imgur.com/njtgfA9.gif



ابوالوليد المسلم 27-03-2025 01:07 PM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام شهاب الدين الكوراني
شريف عبدالعزيز الزهيري
(27)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480


العلاقة بين أئمة الدنيا وأئمة الدين دائمًا ما تكون علاقة حساسة، يشوبها الكثير من المخاطر، ذلك أن إمام الدنيا عادة ما يطلب من إمام الدين الغطاء الشرعي لأفعاله وأقواله وقراراته، بغض النظر عن مدى قربها أو بعدها من أحكام الشريعة، وإمام الدين
عادة ما يطلب من إمام الدنيا أن يستجيب لنصحه وإرشاده، ويعمل بتوجيهاته، وعندما تصطدم الرغبات، ويختلف الإمامان، تقع المحن، وتنزل البلايا، وتبرز المخاطر، والتي عادة يكون لإمام الدين الجانب والحظ الأوفر من تلك المحن، وهذه محنة واحد من هؤلاء الأئمة الأعلام الذين كانوا بمثابة الحكام، ثم قام بهم سوق المحن، فتشردوا في البلاد، ولكن ظلوا على الثبات حتى الممات.
التعريف به:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
هو الشيخ العلامة، مفتى الدولة العثمانية، مربى الملوك والسلاطين، الإمام شهاب الدين أحمد بن إسماعيل بن عثمان الشهرزوري الهمداني التبريزي الكوراني ثم القاهري، عالم بلاد الروم (الدولة العثمانية).
ولد سنة 813هـ بكوران من أعمال تبريز (الآن في إيران)، وبها تلقى علومه الأولى،
وتضلع كما هي عادة أهل تلك البلاد في علم أصول الفقه والمنطق والكلام واللغة وعلومهما، وتوسع في العقليات، وبرع في المناظرات، وشارك في الفقه، حتى ضاقت بلدته الصغيرة على محصوله العلمي الغزير، فقرر الخروج إلى رحلة علمية كما هي عادة طلاب العلم فرحل إلى دمشق وهو دون العشرين، فاشتغل على علمائها، حتى نال مراده، وقطع مأربه منها، ثم توجه إلى القاهرة، وهي وقتها حاضرة العالم الإسلامي، وعاصمة دولة المماليك، وبها أساطين العلماء، وكبار الأئمة، وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر العسقلاني.
وفي القاهرة أكب الكوراني على تحصيل العلم، وانقطع عن الاشتغال، ولازم حضور مجالس العلماء، ومازال صيته يعلو ويعلو، حتى طارت شهرته للسلطان المملوكي
الظاهر جقمق، فاصطفاه لمجلسه، وقربه من بساطه، فصار من خواصه، وكان الكوراني ظريفًا مطبوعًا، طلق اللسان، بارعًا في البيان، عنده حدة، وشدة في المناظرة، لا ينافق سلطانًا ولا أميرًا، وهي خصال أحبها السلطان جقمق المملوكي، وإن كانت بعدذلك ستورثه سلسلة المحن المتعاقبة في حياته.
ولم يكن للكوراني مؤلفات كثيرة، بل كانت جل أعماله العظيمة في مجال الدعوة والإرشاد والقضاء، وله شرح لصحيح البخاري، وتفسير للقرآن الكريم أكثر فيه من
التعقب على جلال الدين المحلي في تفسيره (الجلالين)، وله قصيدة في علم العروض نحو ستمائة بيت، وقد أنشأ في إستنبول جامعًا كبيرًا ومدرسة، سماها دار الحديث.
محنته في القاهرة:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ارتفع شأن الكوراني في القاهرة، وصار من جلساء السلطان نفسه، وذلك في فترة وجيزة من الزمان، مما أوغر صدور بعض المشايخ، ومن ينتسب إلى العلم، وممن كان يحظى بعلمه عند السلطان، وقد وجدوا من الكوراني منافسًا لهم في مجالس السلطان، ويشاركهم في اهتمامات السلطان، فتحركت الأحقاد والحسد والغيرة المذمومة في صدورهم، وبدأوا في التحريض على الكوراني، والخوض في حقه، مستغلين حدته المشهورة.
وجد خصوم الكوراني وحساده فرصة سانحة لا تفوت في الحادثة التي وقعت للكوراني
مع أحد شيوخ الحنفية، وهو حميد الدين النعماني، وكان ذلك الرجل يدعي انتسابه للإمام أبي حنيفة النعمان، وقد تباحثا في مسألة فقهية، وطالت بينهما المناظرة، وعلت حجة الكوراني على حجة النعماني، فما كان رد فعل النعماني إلا أن شتم الكوراني وسب آبائه، فرد عليه الكوراني السباب والشتم، فذهب خصوم الكوراني وحساده إلى قاضي القضاة والسلطان المملوكي، واشتكوا أن الكوراني قد سب الإمام أبا حنيفة، وحرضوا على محاكمته وتأديبه، فعقد قاضي القضاة له مجلس تأديب، وحكموا عليه بالجلد ثمانين جلدة، وذلك بمحضر من السلطان نفسه، ثم أمر بنفيه خارج البلاد، على الرغم من أن الكوراني مظلوم، لا ذنب له، وإنما رد على من شتمه، كما أن نسب الشيخ حميد الدين مشكول فيه، ولم يقصد الكوراني أبدًا أن يسب أبا حنيفة، فالكوراني من أتباع المذهب الحنفي؛ فكيف يشتم إمامه وشيخه.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المنح بعد المحن:
خرج الكوراني من بلاد مصر مثقلاً بالهموم والأحزان جراء المحنة التي تعرض لها فلقد شُتِمَ وأهين وضرب، وفرقوا كرامته وعرضه، ثم نفوه خارج البلاد، مثل
المجرمين، فقرر التوجه إلى الدولة العثمانية، لأنه سمع عن عدل سلطانها المجاهد مراد الثاني، والذي كان له اهتمام أيضًا بالعلم والعلماء والأدباء والشعراء، وكان كما وصفه يوسف أصاف صاحب كتاب تاريخ سلاطين آل عثمان: تقيًا صالحًا، وبطلا صنديدًا، محبًا للخير، ميالا للرأفة والإحسان.
استقر الشيخ الكوراني في أدرنة عاصمة الدولة العثمانية، وذلك عام 840هـ، وأخذ في الاشتغال بالتعليم والتدريس، ونشر علوم اللغة العربية، فأخذ صيته ينتشر بين أهل أدرنة
شيئًا فشيئًا؛ فتهافتوا على حضور دروسه ومجالسه، وتسابق الأغنياء على طلبه لتأديب وتربية أبنائهم، وقد لقبوه بالمولى الكوراني بسبب مهارته في تربية الأولاد، وقدرته الفائقة على تعديل سلوكياتهم، ورفع مستوياتهم العقلية والإيمانية.
وصلت أخبار شهرة الكوراني إلى السلطان العثماني (مراد الثاني)؛ فطلبه لتربية ولده

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وولي عهده من بعده (محمد خان) الملقب بالفاتح، وكان صبيًا في العاشرة، أو الثانية عشرة من العمر، وكان السلطان مراد الثاني يهيئُ ولده محمدًا لمعالى الأمور وعظائمها، فعينه أميرًا على ولاية (مغنيسيا)، وانتدب له العديد من المعلمين والمربين لإعداده وتعليمه، ولكن الأمير محمدًا كان صبيًا مثل باقي الصبيان؛ مشغولا باللعب واللهو كعادة من هو في سنه، فلم يمتثل لأوامرهم، وهم بدورهم لم يضغطوا ويشتدوا عليه، خوفًا من هيبة أبيه، فلما رأى السلطان (مراد الثاني)، ولده الذي جعله ولي عهده وخليفته من بعده لم يتعلم شيئًا، ولم يقرأ أو يحفظ شيئًا، اشتد غضبه وسأل عن أفضل معلمي دولته؛ فقيل له رجل غريب من أهل تبريز اسمه (المولى الكوراني)؛ فأحضره مراد الثاني، ووضح له صورة الأمر، وطلب منه أن يشتد في تربية ولده محمد، وذلك سنة 844هـ.
وصل الكوراني إلى مغنيسيا، ودخل على الأمير محمد، فوجده واقفًا أمام المرآة يرجل
شعره، فقال له الكوراني - وكان في يده عصا غليظة -: أرسلني والدك للتعليم، والضرب إذا خالفت أمرى، فضحك الأمير محمد، وسخر منه، واستمر في ترجيل شعره، فما كان من الكوراني إلا أن ضربه ضربًا شديدًا، حتى خاف منه الأمير محمد بشدة، وأخذ في مذاكرة دروسه، وختم القرآن في مدة يسيرة، ولقد تأثر الأمير محمد بشيخه الكوراني بشدة، وأثر بالأخص في توجيهاته وأفكاره، ولقد أثمرت تلك التربية القوية على محمد خان، فصار بعد ذلك محمد فاتح القسطنطينية، أعظم سلاطين الدولة العثمانية.
ظل خبر الكوراني في علو وارتفاع حتى تولى السلطان محمد الثاني قيادة الدولة

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
العثمانية؛ فاختاره مع جلة من العلماء لتولي أهم مناصب الدولة؛ إذ عين الكوراني في منصب قاضي العسكر، وهو أعلى المناصب الدينية وأهمها في الدولة العثمانية، وقد اشترك مع السلطان محمد الثاني في فتح القسطنطينية سنة 857هـ، وكان الكوراني شديدًا في الحق، لا يهاب فيه أحدًا من الناس، مهما كانت درجته أو منصبه، حتى إنه كان يخاطب السلطان العثماني (محمد الثاني) باسمه مجردًا، ويصافحه ولا يقبل يده، بل بعزة العالم، وأستاذية المربي المعلم، يقبل السلطان هو يده، ولعل تلك المكانة العظيمة التي وصل إليها الكوراني قد جلبت عليه نفس المحن التي تعرض لها مع السلطان المملوكي جقمق. محنة الكوراني مع الفاتح:
كان للكوراني منزلة عظيمة عند السلطان محمد الفاتح، وقد تبوأ الإمام أكبر المناصب الدينية في الدولة العثمانية: قضاء العسكر، ثم منصب الإفتاء، ومن شدة حب الفاتح
للإمام الكوراني عرض عليه منصب الوزارة، أو الصدر الأعظم، وفوض إليه شؤون دولته كلها، ولكن الكوراني رفض واقتصر على منصب الإفتاء، والمرجعية الدينية لشؤون الدولة، بالإضافة لمنصب قضاء العسكر.
كان الكوراني شديدًا، جريئًا، باذلا للنصيحة، غير مستتر بها، وكان شدته على السلطان، وذلك بسطوة المعلم على تلميذه، والوالد على ولده، فكان الفاتح إذا أصدر مرسومًا فيه مخالفة للشرع كان الكوراني يمزقه، ويشتد على الفاتح ويقول له: مطعمك حرام،
وملبسك حرام، فعليك بالاحتياط، وكانت تلك الشدة تعمل في نفس الفاتح فعل السحر،
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ولكن مع تكرارها، وتصاعد وتيرتها، بدأ الفاتح يستثقل تلك الشدة والنصيحة، حتى حدث ذات يوم أن بعث الفاتح مرسومًا للكوراني كيما يصدق عليه، فوجد فيه الكوراني مخالفة للشرع، فمزقه وضرب الخادم الذي جاء به، فشق ذلك على السلطان محمد الفاتح، وغضب من فعل الكوراني، وأمره بعزله من منصب قضاء العسكر.
وقعت الجفوة والنفور بين الكوراني والفاتح، وهجر الكوراني مجالس الفاتح، ولم يحضر
عنده، وقابل الفاتح ذلك بالإعراض والتجاهل التام، وكما قيل: كثرة المساس تُفقد الإحساس، ولم يحتمل الكوراني تلك المحنة، بعد أن صار مهجورًا خامل الذكر؛ فقرر الرحيل إلى القاهرة حيث سلطانها المملوكي قايتباي، وكان محبًا للإمام الكوراني؛ فاستقبله خير استقبال، وأكرمه غاية الإكرام، وكان بين محمد الثاني وقايتباي نوع من المنافسة والحسد، باعتبار كليهما من أكبر زعماء العالم الإسلامي وقتها، فقابل قايتباي الكوراني تلك المقابلة العظيمة للنكاية من طرف خفي في السلطان محمد الفاتح، واستعمله في أكبر المناصب، وجعله من خاصة رجاله، وأقرب مستشاريه.
الاختيار الصعب:
ظل الشيخ الكوراني مقيمًا في كنف السلطان المملوكي الأشرف قايتباي، على أفضل حال، وأكرم منزلة، ولكنه في نفس الوقت كان حزينًا لفراق الدولة العثمانية، ومجافاة
السلطان الفاتح له، وكان للكوراني منزلة عظيمة جدًا عنده، فلما وقعت المحنة، واضطر الكوراني للرحيل كان ذلك شديد الوقع على قلبه ونفسه لذلك؛ فعلى الرغم من الإكرام الزائد، والإحسان الكبير الذي وجده الكوراني عند قايتباي، إلا إن ذلك لم يعوضه عما كان عليه عند الفتح.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
مضت الشهور على الشيخ الكوراني وهو في صحبة فايتباي وبلاطه، وهدأت نفسيته، وخفت أحزانه من جراء محنته، ومضى في دروسه ومجالسه العلمية، واشتغل عليه الطلبة، ولم يكن يعلم أن تلك الفترة الماضية لم تكن شديدة عليه وحده، بل كانت أشد أثرًا وإيلامًا على قلب السلطان الفاتح نفسه، حيث ندم على فعلته مع الشيخ الكوراني، وشعر بفقدان المربي والموجه، والناصح الأمين الذي كان بمثابة الوالد؛ لذلك قرر الفاتح أن يصحح غلطته، ويكفر عن فعلته مع الكوراني؛ فأرسل إليه بخطاب يفيض بالاعتذار والأسف، ويطلب منه على وجه الاستعطاف لا الاستعلاء أن يرجع إلى الدولة العثمانية.
وصل الخطاب للشيخ الكوراني فقرأه وتدبر معانيه، ثم عرضه على السلطان المملوكي
قايتباي ليأخذ رأيه، ويعرف مراده، وذلك من باب رعاية حق الإحسان الذي قام به قايتباي معه؛ إذ لا يصح أن يقطع الكوراني في ذلك الأمر وحده، ويتجاهل من آواه وأكرمه وأحسن إليه، فليس هذا من مروءة المسلمين؛ فما بالك بالعلماء العاملين، وعندما عرض الكوراني - وكان حريصًا على بقائه والانتفاع بعلمه وعمله - فقال له: لا تذهب إليه؛ فإني أكرمك فوق ما يكرمك هو.
عندها أصبح الشيخ الكوراني بين خيارين صعبين: وماذا يفعل؟ فهواه ورغبته في
العودة إلى الدولة العثمانية، التي كانت وقتها من أقوى وأفضل الدول الإسلامية، وفي نفس الوقت سلطان الدولة المملوكية حريص على بقائه، مؤثر لصحبته، وقد ذكره بالإكرام الذي لاقاه بعد المحنة، والعلاقات سيئة بين الفاتح وقايتباي، ومثل هذه القصة ستزيدها سوءًا، لذلك كان الاختيار صعبًا، والقرار مرًا.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وبذكاء العلماء، وفطنة المربين والمعلمين الأذكياء، قال الكوراني لقايتباي عندما قال له: أنا أكرمك فوق ما يفعل هو، قال له: (نعم هو كذلك) ليستل ثورة الغضب من قلب قايتباي، ويشعره بقيمة إكرامه وإحسانه، فترضى نفسه، ويهدأ قلبه، ثم قال له شارحًا أسباب اختياره الرحيل إلى الدولة العثمانية: إن بيني وبين الفاتح محبة عظيمة كما بين الوالد والولد، وهذا الذي جرى بيننا شيء آخر، وهو يعرف ذلك مني، ويعرف أني أميل إليه بالطبع؛ فإذا لم أذهب إليه ظن وفهم أن المنع من جانبك؛ فتزداد العداوة بينكما وتستحكم؛ فاستحسن السلطان قايتباي هذا الكلام، وأذن له في الرحيل، وأعطاه مالاً جزيلاً يستعين به على رحلته الطويلة.
عاد الكوراني إلى الدولة العثمانية؛ فاستقبله الفاتح بنفسه، وأظهر من مظاهر تعظيمه واحترامه ما لم يقع مثله مع الملوك والعظماء، وأعاده إلى مناصبه كلها - قضاء العسكر والإفتاء - فشغلهما قليلاً، ثم نزل عنهما رغبة منه في التفرغ للعلم، وفي تلك الفترة ألف الكوراني العديد من الشروح، فشرح جمع الجوامع، وعمل تفسيرًا للقرآن كثر تعقبه فيه لجلال الدين المحلي المفسر (صاحب تفسير الجلالين)، وشرح صحيح البخاري، وعمل قصيدة في عروض اللغة نحو ستمائة بيت، وانشأ بإستانبول جامعًا كبيرًا، ومدرسة علمية سماها دار الحديث، وأقبلت عليه الطلبة، وانتشر علمه وطريقته في التعليم والتربية بين الناس وتقلدوها، وظل في سعادة وأتم حال حتى مات على مكانته وجلالته سنة 893هـ، وصلى عليه السلطان بايزيد الثاني نفسه، ومعه رجال الدولة، وكبار الناس وعامتهم، وترحموا عليه وعلى علمه.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المصادر والمراجع
• الضوء اللامع: (1/ 241).
• البدر الطالع: (1/ 39).

• المختار المصون: (1/ 339).
• الشقائق النعمانية: (50).
• تاريخ الدولة العثمانية: (43).

• الدولة العثمانية - عوامل نهوض وسقوط: (112، 115).
ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif




ابوالوليد المسلم 28-03-2025 09:10 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 


https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
الإمام ابن أبي العز الحنفي
شريف عبدالعزيز
(28)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

من أكثر الشخصيات العلمية إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي؛ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -ذاك العالم الموسوعي الكبير الذي ترك أثراً بالغاً في الحياة العلمية والسياسية بآرائه وفتاويه ومواقفه العلمية والعملية في القرن الثامن الهجري، وجهاده في شتى الميادين، وجهوده التربوية والسلوكية والأخلاقية والاجتماعية والتي تبلورت في شكل مدرسة متميزة وخاصة جداً في التراث الإسلامي عُرفت باسم مدرسة " ابن تيمية " والتي صار لها أتباع وتلاميذ وأنصار في شتى بقاع العالم، تخرجوا على تقريراته العلمية وتحقيقاته التراثية واختياراته العقدية ومنهجه التربوي والسلوكي في إصلاح المجتمع والحفاظ على هويته وانسجامه، وكانوا في المحصلة النهائية ترجمة حية لفكر ابن تيمية وعلومه أبقت مدرسته ومنهجه حياً حاضراً متفاعلاً مع وسطه وبيئته ومؤثراً فيها حتى اليوم.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وكما كانت حياة شيخ الإسلام ابن تيمية عبارة عن سلسلة متتالية من المحن والابتلاءات لأنه جعل من دعوته شعاراً جامعاً ودواءً شافياً لعلل الأمة بالعودة إلى ما كان عليه سلف الأمة من عقائد ونظم وسلوكيات ومجتمعات، وهذا بطبيعة الحال قاد ابن تيمية لصراع مرير مع سدنة التقليد والجمود وحرّاس الخرافة وأرباب الكلام والنظر والفلسفة، فإن تلاميذه من بعده ومن تأثر بمنهجه وسار على دربه العلمي والعملي تعرض لنفس ما تعرض له الشيخ من محن وابتلاءات ومواجهات قوية وعنيفة وصلت لحد التنكيل والعزل من الوظائف والمنع من التدريس انتهاءً بالحبس والاعتقال حتى الموت.
وهذه قصة واحد من أهم تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ممن كان له الفضل -بإذن الله- في الحفاظ على تراث الشيخ ونشره بين الناس على الرغم من كل التضيق والحصار المفروض على مؤلفات الشيخ وإنتاجه العلمي. قال الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله-: "لما حُبس (ابن تيمية) تفرّق أتباعه، وتفرّقت كتبه، وخوّفوا أصحابه من أن يظهروا كتبه، وذهب كل أحد بما عنده وأخفاه، ولم يظهروا كتبه، فبقي هذا يهرب بما عنده، وهذا يبيعه، أو يهبه، وهذا يخفيه ويودعه، حتى إن منهم من تسرق كتبه، فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تخليصها".
هذه قصة الإمام ابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية الشهيرة ونشأته العلمية وحياته ومنهجه ومؤلفاته ومحنته التي جاءت استمراراً لحالة الاضطهاد التي مارسها أصحاب الطرق الصوفية والفرق الكلامية ضد أتباع المنهج السلفي عبر العصور إلى وقتنا الحاضر.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
مولده والتعريف به:
هو الإمام الكبير صدر الإسلام أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن شمس الدين أبي عبد الله محمد بن شرف الدين أبي البركات محمد بن عز الدين أبي العز صالح بن أبي العز بن وهيب بن عطاء الأذرعي أصلاً الدمشقي موطناً المعروف بن أبي العز؛ الحنفي مذهباً، السلفي الأثري عقيدة وعملاً.
ولد في الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة من الهجرة بدمشق العامرة فترة حكم المماليك البحرية، وبعد ثلاثة سنوات فقط من وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
وُلد في أسرة علمية عريقة في العلم والتدريس والافتاء والقضاء، أسرة تولت زعامة المذهب الحنفي وصار أبناؤها مشايخ المذهب وأئمته، فأبوه وجده وأبو جده كلهم تولوا منصب القضاء والإمامة والخطابة والحكم والنيابة عن الولاة، وعلى رجال هذه الأسرة العلمية دارت الفتوى وأُسندت خلاصة المذهب الحنفي.
لذلك كان من الطبيعي أن يكون الإمام ابن أبي العز الحنفي على درب أسلافه ونهج أسرته في طلب العلم والبراعة فيه، ناهيك عما أودعه الله-تعالى-فيه من استعداد فطري لافت للغوص في بحر العلم، وذكاء متوقد وحافظة قوية، ملكات التميز من حسن التصور والبناء والاستنباط، حتى ملك الآلة وبرع فيها، فجلس للإفتاء والتدريس، وقعد للتأليف والتصنيف، وتبوء المناصب من القضاء والنيابة، وقد أقر له علماء المذهب الحنفي بالرئاسة وزعامة المذهب حتى صار مفزعهم عند ملمات الفتوى وجسام النوازل، فلا يخرجون عن رأيه.
تأثره بمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
على الرغم من انتماء ابن أبي العز للمذهب الحنفي الذي يميل معظم أتباعه إلى مدرسة أبي منصور الماتريدي في العقيدة، والتقليد التام للإمام أبي حنيفة -رحمه الله-إلا إن ابن أبي العز كان سلفي المعتقد على نهج القرون الفاضلة ومتأثراً بمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية التي غيرت شكل الحياة العلمية في بلاد الإسلام بعد سنوات طويلة من هيمنة المدراس الكلامية والطرق الصوفية على الساحة العلمية ومنابرها ومدراسها.
وكان السبب في تأثر ابن أبي العز الحنفي بالاتجاه التيمي هو تتلمذه على يد الحافظ الكبير عماد الدين ابن كثير الدمشقي الشافعي صاحب البداية والنهاية والتفسير الشهير، وكان من خواص شيخ الإسلام ابن تيمية وممن امتحن بسببه وأوذي معه.
فقد غرس ابن كثير -رحمه الله- في عقل تلميذه ابن أبي العز مبدأ الاتباع والتخلص من ربقة التقليد المذموم، وهو ما ظهر جلياً بعد ذلك في مصنفات ومؤلفات ابن أبي العز، مما جلب عليه عداوة سدنة التقليد وشيوخ المذاهب، على الرغم من كونه رأس الحنفية في زمانه.
أهم مؤلفاته:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
1- شرح العقيدة الطحاوية، وهو أهم ما كتب، وبه طارت شهرة ابن أبي العز ونال القسط الأوفر من القبول والاشتهار عبر العصور إلى وقتنا الحاضر، وأيضا هو الكتاب الذي بث فيه تراث شيخ الإسلام ابن تيمية ووضعه في ثنايا شرحه على عقيدة الطحاوي، وهو أيضا الكتاب الذي جلب عليه التشنيع من مبتدعة الفرق الكلامية فاتهموه التجسيم والحشو والتشبيه إلى آخر لائحة الاتهامات التي وُجهت من قبل لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
2- الـتـنـبـيـه على مـشـكـلات الـهـدايـة، وهو الكتاب الذي اعتبره سدنة التقليد جرحاً وليس شرحاً لكتاب الهداية للإمام المرغيناني وهو من أمهات كتب المذهب، وقد بان في هذا الكتاب نفس ابن أبي العز الفقهي واستقلاله بنصرة الدليل قبل أقوال المذهب.
3 - رسالة تتضمن الإجابة على مسائل فقهية منها: صحة الاقتداء بالمخالف، حكم الأربع بعد أداء الجمعة.
4- النور اللامع فيما يعمل به في الجامع-يقصد الأموي-من بدع ومخالفات.
5- الاتـبـاع، وهو من كتبه الهامة التي أظهرت اتجاهه السلفي في الاستدلال، وهو رد على الرسالة التي ألفها معاصره أكمل الدين محمد بن محمود بن أحمد البابرتي الحنفي المتوفى سنة 786 هـ، وكان رأس الحنفية في زمانه وذو حظوة كبيرة جداً عند سلطان الوقت؛ الظاهر برقوق، ورجح فيها وجوب تقليد مذهب أبي حنيفة، وحض على ذلك، وقد وجد فيها ابن أبي العز مواضع مشكلة، فأحب أن ينبه عليها خوفا من التفرق المنهي عنه، واتباع الهوى الردي، وقد كان موفقا كل التوفيق في هذا الرد.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وقد قال في مقدمة رسالته: "أما بعد : فإني وقفت على رسالة لبعض الحنفية رجح فيها تقليد مذهب أبي حنيفة وحض على ذلك ووجدت فيها مواضع مشكلة فأحببت أن أُنَبِّه عليها خوفا من التفريق المنهي عنه واتباع الهوى المردي امتثالا لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيئا) وقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) وقوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون) زُبُراً : أي كتبا . وقوله تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم).
وقوله تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) ولقوله-صلى الله عليه وسلم-في حديث العرباض بن سارية-رضي الله عنه-: "فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وأمثال ذلك في الكتاب والسنة كثيرة في النهي عن التفرق واتباع الهوى".
ويتضح من هذه المقدمة سلفية ابن أبي العز واستقلاله الفقهي وميله لتقديم الدليل على أقوال المذاهب، وهو ما أوقعه في محنته الشهيرة التالي ذكرها.
بداية المحنة
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
قبل أن نشرع في الحديث عن محنة الإمام ابن أبي العز الحنفي يجب أن نعرف أنهالم تكن أول ولا آخر محنة تعرض لها أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ممن انتهج منهج السلف الصالح في العقائد والفقه من أنصار الاستقلال الفقهي وفقه الدليل. فهذه المحنة كانت فصلاً من فصول كثيرة ممتدة إلى وقتنا الحاضر، ومناكفات خرجت إلى طور استباحة الأذى والقتل والسجن من جانب الصوفية والأشعرية-ألد خصوم مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية-بحق تلاميذه والمتأثرين بمنهجه من أتباع هذه المدرسة. فالمحنة لم تكن خلافاً علمياً عقائدياً كان أم فقهياً، بل كانت تصفية حسابات ومحض انتقام ورغبة عارمة في الوأد والقضاء على هذا المنهج النقي.
والسرد التاريخي لرواية فصول المحنة يكشف لنا عن حقيقة أبعادها ودلالاتها.
قال الحافظ ابن حجر في حوادث سنة (784هـ) في كتابه (إنباء الغمر): "وفيها كائنة الشيخ صدر الدين على ابن العز الحنفي بدمشق، وأولها أن الأديب علي بن أيبك الصفدي عمل قصيدة لامية على وزن بانت سعاد وعرضها على الأدباء والعلماء فقرظوها ومنهم صدر الدين علي بن علاء الدين بن العز الحنفي، ثم انتقد فيها أشياء فوقف عليها علي ابن أيبك المذكور فساءه ذلك ودار بالورقة على بعض العلماء فأنكر غالب من وقف عليها ذلك وشاع الأمر فالتمس ابن أيبك من ابن العز أن يعطيه شيئا ويعيد إليه الورقة فامتنع، فدار على المخالفين وألبهم عليه، وشاع الأمر إلى أن انتهى إلى مصر، فقام فيه بعض المتعصبين إلى أن انتهت القضية
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
للسلطان فكتب مرسوماً طويلاً، منه: بلغنا أن علي بن أيبك مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة وأن علي بن العز اعترض عليه وأنكر أموراً منها التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والقدح في عصمته وغير ذلك وأن العلماء بالديار المصرية خصوصاً أهل مذهبه من الحنفية أنكروا ذلك، فتقدم بطلبه وطلب القضاة والعلماء من أهل المذاهب ونعمل معه ما يقتضيه الشرع من تعزير وغيره. وفي المرسوم أيضاً: بلغنا أن جماعة بدمشق ينتحلون مذهب ابن حزم وداود ويدعون إليه، منهم القرشي وابن الجائي والحسباني والياسوفي، فتقدم بطلبهم فإن ثبت عليهم منه شيء عمل بمقتضاه من ضرب ونفي وقطع معلوم، ويقرر في وظائفهم غيرهم من أهل السنة والجماعة. وفيه: وبلغنا أن جماعة من الشافعية والحنابلة والمالكية يظهرون البدع ومذهب ابن تيمية فذكر نحو ما تقدم في الظاهرية، فطلب النائب القضاة وغيرهم فحضر أول مرة القضاة ونوابهم وبعض المفتين فقرأ عليه المرسوم، وأحضر خط ابن العز فوجد فيه قوله: حسبي الله، هذا لا يقال إلا لله، وقوله: اشفع لي، قال: لا يطلب منه الشفاعة، ومنها: توسلت بك، قال: لا يتوسل به، وقوله: المعصوم من الزلل، قال: إلا من زلة العتاب، وقوله: يا خير خلق الله، الراجح تفضيل الملائكة، إلى غير ذلك، فسئل فاعترف، ثم قال: رجعت عن ذلك وأنا الآن أعتقد غير ما قلت أولاً، فكُتب ما قال وانفصل المجلس، ثم طلب بقية العلماء فحضروا المجلس الثاني وحضر القضاة أيضاً، وممن حضر: القاضي شمس الدين الصرخدي، والقاضي شرف الدين الشريشي، والقاضي شهاب الدين الزهري، وجمع كثير، فأعيد الكلام فقال بعضهم: يعزر، وقال بعضهم: ما وقع معه من الكلام أولاً كاف في تعزير مثله، وقال القاضي الحنبلي: هذا كاف عندي في تعزير مثله، وانفصلوا ثم طلبوا ثالثاً وطلب من تأخر وكتب أسماؤهم في ورقة، فحضر القاضي الشافعي، وحضر ممن لم يحضر أولاً: أمين الدين الأتقى، وبرهان الدين ابن الصنهاجي، وشمس الدين ابن عبيد الحنبلي وجماعة، ودار الكلام أيضاً بينهم، ثم انفصلوا ثم طلبوا، وشدد الأمر على من تأخر فحضروا أيضاً وممن حضر: سعد الدين النووي، وجمال الدين الكردي، وشرف الدين الغزي، وزين الدين ابن رجب، وتقي الدين ابن مفلح، وأخوه، وشهاب الدين ابن حجي، فتواردوا على الإنكار على ابن العز في أكثر ما قاله ثم سئلوا عن قضية الذين نسبوا إلى الظاهر وإلى ابن تيمية فأجابوا كلهم أنهم لا يعلمون في
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
المسمين من جهة الاعتقاد إلا خيراً، وتوقف ابن مفلح في بعضهم، ثم حضروا خامس مرة واتفق رأيهم على أنه لا بد من تعزير ابن العز إلا الحنبلي، فسئل ابن العز عما أراد بما كتب؟ فقال: ما أردت إلا تعظيم جناب النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره أن لا يعطى فوق حقه، فأفتى القاضي شهاب الدين الزهري بأن ذلك كاف في قبول قوله وإن أساء في التعبير، وكتب خطه بذلك، وأفتى ابن الشريشي وغيره بتعزيره، فحكم القاضي الشافعي بحبسه فحبس بالعذراوية، ثم نقل إلى القلعة، ثم حكم برفع ما سوى الحبس من التعزيرات، ونفذه بقية القضاة، ثم كتبت نسخة بصورة ما وقع وأخذ فيها خطوط القضاة والعلماء وأرسلت مع البريد إلى مصر، فجاء المرسوم في ذي الحجة بإخراج وظائف ابن العز، فأخذ تدريس العزية البرانية شرف الدين الهروي، والجوهرية على القليب الأكبر: واستمر ابن العز في الاعتقال إلى شهر ربيع الأول من السنة المقبلة. وأحدث من يومئذ عقب صلاة الصبح التوسل بجاهالنبي صلى الله عليه وسلم، أمر القاضي الشافعي بذلك المؤذنين ففعلوه".
ومن خلال هذا النص التاريخي لمحنة الإمام ابن أبي العز يتضح لنا عدة أمور:

1- أن المحنة بدأت بتأليب وتحريض أديب لم يقبل أن ينتقد أحد قصيدته على الرغم من أنه نفسه قد طلب من الإمام تقييمها وإبداء الرأي فيها، فكتب فيها ابن أبي العز كتابة حسنة من ناحية البلاغة والأدب والشعر وهو ما كان يفترض أن يُفرح الشاعر، ولكنه لما وجد انتقادات أخرى من ناحية العقيدة لم يعجبه الأمر، وشعر أن هذه الانتقادات سوف تتسبب في بوار قصيدته وكسادها في سوق الشعر، فدار بها على المخالفين لابن أبي العز من الصوفية والأشاعرة، ثم حاول مساومة الإمام وطلب منه
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
مالاً نظير أن يعيد له الورقة التي كتب فيها الاعتراضات العقدية على القصيدة وهو ما رفضه الإمام بشدة، مما جعل الشاعر يعمل على تأليب الناس على الإمام وإشاعة الخبر في كل مكان حتى أدى لاستفحال الأمر ووصوله من دمشق إلى القاهرة!!

فالمحنة بدأت لغرض دنيوي ونفسي محض، بدأت برفض النقد ثم محاولة المتاجرة واستغلالها في تحقيق منافع دنيوية محضة.
2- أن المحنة لم تكن قاصرة على ابن أبي العز الحنفي وحده، بل كانت محاكمة تفتيش لاتجاه ومنهج بأكمله، وهذا ظاهر من استدعاء آخرين للتحقيق معهم في القضية لا علاقة لهم بها سوى أنهم من تلاميذ وأتباع مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية!! من شتى المذاهب الفقهية ما ذكر ابن حجر في تاريخه. ولبيان الإصرار على المحاكمة تم عقد خمس مجالس متتالية استدعي فيها كل من حامت عليه شبهة الانتماء لابن تيمية ولو من بعيد، وتم تهديد الجميع بالعزل من الوظائف وقطع الأرزاق والحبس وربما القتل باسم التعزيز، حتى أنهم قد أجبروهم على كتابة خطوط بأسمائهم وبانتمائهم للعقيدة الأشعرية!!
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
3- أن العلماء والقضاة من المذهب الشافعي كانت لهم صولة وحظوة عند سلاطين المماليك، وجلّ الشافعية في ذلك الوقت كانوا أشاعرة يكرهون مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية ويسعون للقضاء عليهم قضاءً مبرماً، وقد ظهر ذلك من قيام اثنين من أكبر علماء الشافعية في هذا الوقت وهما سراج الدين البلقيني الملقب بشيخ الإسلام، والحافظ العراقي، وكلاهما من كبار علماء الإسلام ولهما جهود وسعي محمود في العلم والتصنيف، ومع ذلك سعى كلاهما في استغلال المحنة للنيل من أنصار العقيدة السلفية والقضاء تماماً على الاتجاه التيمي في العلم والفهم، حتى أن سراج الدين البلقيني قد أطلق عبارات الكفر واللعن بحق ابن أبي العز في هذه المحنة في رد طويل كتبه وانتشر هذا الرد في كل مكان.
4- على فرض خطأ ابن أبي العز في بعض مآخذه على القصيدة، فإن اعتراضاته كانت علمية محضة وليس فيها بمبتدع، بل سبقه علماء تكلموا في ذات المسائل واعترضوا عليها، وما تعرضوا لمثل ما تعرض له ابن أبي العز من التنكيل والعزل والحبس، مما يبين وجود نية مبيتة للثأر وتصفية الحسابات مع ابن أبي العز، وهو ما توضحه عبارات بعض المؤرخين كتغري بردي الذي وصف بعض من تحزب ضد ابن أبي العز بأن له غرض في التنكيل به وعزله من وظائفه ليثبوا عليه، وعلى الرغم من تراجع ابن أبي العز عن انتقاداته للقصيدة واعترافه-مضطراً ومكرهاً- أمام المجلس بهذا الخطأ، إلا إنهم اصروا على التنكيل به وعزله من وظائفه وتجريده من مناصبه وحبسه مع المجرمين في المطبق، بل وصل الأمر لئن يقوم أحد خصومه بتأليب أهل زوجته عليه حتى ألزموه طلاقها، ثم تزوجها هذا الخصم العدو بعد ذلك مما أصاب الإمام بحزن وغم كبير وأثر على نفسيته بشدة، مما يؤكد على أنها لم تكن محاكمة علمية فقط، بل ثأر وانتقام وتنكيل لا مبرر له.
5- ما قام به القاضي الشافعي في مصر بعد انتهاء هذه المحنة يؤكد على طبيعتها وغرضها الأصلي؛ فقط النكاية والسعاية في وأد الفكر السلفي واقتلاعه من بلاد الإسلام ولو بنشر البدع المنكرة. حيث أمر المؤذنين في صلاة الفجر بالتوسل بجاه النبي-صلى الله عليه وسلم-عقب الآذان في بدعة شنيعة في دلالة على انتصار التيار الصوفي الأشعري في هذه المحنة، وهي البدعة التي اقتلعت بفضل الله-عز وجل-من بلاد الإسلام فلم يعد لها ذكر ولا وجود.
نهاية المحنة:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ظل الإمام ابن أبي العز في مسجوناً عدة شهور وقد ضاقت عليه الدنيا، ففقد وظائفه، وتشوهت سمعته، وانصرف عنه الطلبة، وفارقته زوجته لتكون تحت ألد خصومه، ولكن فرج الله-تعالى-قريب، فقد خرج من محبسه بعد أربعة شهور، فانقطع في بيته عدة سنوات يعاني من مرارة المحنة حتى أذن الله-تعالى-في ردّ اعتباره سنة 791 هجرية على يد الأمير سيف الدين يَـلـبُـغـا بن عبد الله الناصري الأتابكى أحد كبار الأمراء فعاد إلى وظائفه، فخطب بجامع الأفرم على عادة أهل بيته أبيه وجده، ودرس بالمدرسة الجوهرية المخصصة للحنفية، ويشاء السميع العليم أن تأتيه الوفاة بعد ذلك بقليل في ذي القعدة من سنة 79هجرية ليموت معززاً مكرماً بعد أن تأذى كثيراً من محنة ظالمة جائرة أُريد بها محاكمة مدرسة واتجاه بأكمله وليس شخصاً بعينه.
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif




ابوالوليد المسلم 29-03-2025 09:51 AM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة الإمام برهان الدين البقاعي
شريف عبدالعزيز
(29)

https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480

لقد أثمرت دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مدرسة كان روادها من تلاميذه الأوائل وسارت تلك المدرسة على نهج زعيمها من تحمل المصاعب في سبيل المبدأ والاستمرار في إصلاح المجتمعات والتصدي للمنكرات ومحاربة الصوفية والفرق الكلامية والجمود والتعصب المذهبي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان لهم أثر في الحياة العلمية والعامة في العالم الإسلامي، وذلك على مر العصور، تعرضوا لمثل تعرض له شيخهم من الابتلاء والأذى، منهم ابن القيم والحافظ المزي وابن كثير والإمام الذهبي وابن مري البعلبكي وابن سعد الشافعي وأبو بكر الهاشمي وابن أبي العز الحنفي صاحب الشرح الأشهر للعقيدة الطحاوية.
ومن أشهر تلاميذ ابن تيمية في القرن التاسع؛ الإمام برهان الدين البقاعي صاحب التفسير والتصانيف الماتعة النافعة والذي تصدى للصوفية الاتحادية والحلولية في أواخر القرن التاسع، وكان قوي الحجة، ثابت الجنان، بارع البيان، أعاد للأذهان سيرة شيخه ابن تيمية؛ فكان من الطبيعي أن يمتحن ويتعرض لصنوف البلاء التي تعرض لها شيخه قدس الله سره؛ فمن هو برهان الدين البقاعي ؟ وما هي قيمته العلمية وجهوده الإصلاحية ؟ وما هي محنته التي تعرض لها ؟
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
مولده ونشأته.
ولد إبراهيم بن عمر بن حسن بن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي، في سنة 809 هـ، بقرية من قرى سهل البقاع في لبنان، ونشأ وترعرع بها، وطلب العلم منذ الصغر بحفظ القرآن وتلقى دروسه الأولى في علوم العربية والفقه والأصول والحديث والتفسير، وارتحل إلى دمشق طلبا للعلم والعلماء وسماع الحديث وعلوم الشريعة ودراسة الفقه من شيوخه وأعلامه، ودخل بيت المقدس وأخذ عن علمائها الثقات، وسافر الى القاهرة وقرأ على التاج بن بهادر في الفقه والنحو، وعلى الإمام الجزري في القراءات، وأخذ عن التقي الحصني، والتاج الغرابيلي، والعماد بن شرف، والسبكي الحفيد، والعلاء القلقشندي، والقاياني، وأبي الفضل المغربي، ولازم الإمام الكبير ابن حجر العسقلاني وتعلم على يديه، ولنبوغه نال إعجاب شيخه ابن حجر ورقاه وهو طالب وجعله قارئا للبخاري في حضور السلطان المملوكي جقمق.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
نبوغه وتقدمه العلمي
برع الإمام البقاعي في جميع العلوم وفاق الأقران، وبلغ مكانة كبيرة ومنزلة عالية في علوم القرآن والتفسير وعلم الحديث والجرح والتعديل، وكان ممن يشد إليه الرحال لسماع كتبه وأسانيده، وقد اعترف له معاصروه ومن جاء بعده بالعلم والفضل والتقدم، قال الشوكاني -رحمه الله-: "إنه من الأئمة المتقين المتبحرين في جميع المعارف، وبرع في جميع العلوم وفاق الأقران وتصانيفه شاهدة"، ووصفه السيوطي-رغم خلافه العلمي معه- بأنه: "العلامة المحدث الحافظ، مهر وبرع في الفنون ودأب في الحديث ورحل، وله تصانيف حسنة"، وقال فيه داود الأنطاكي: "وحيد زمانه ورئيس أقرانه وواحد عصره ونادرة دهره"، وقال عنه ابن العماد الحنبلي: "المحدث المفسر الإمام العلامة المؤرخ، برع وتميز وناظر، وصنف تصانيف عديدة من أجلها المناسبات القرآنية، وبالجملة فقد كان من أعاجيب الدهر وحسناته".
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
مؤلفاته العلمية
خلَّف الإمام البقاعي مصنفات كثيرة في شتى العلوم يغلب عليها التصنيف في التفسير والتاريخ والحديث والقراءات والأدب، منها إظهار العصر لأسرار أهل المصر، و عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأعيان، ومختصر سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وثلاثة من الخلفاء الراشدين، والنكت الوفية بما في شرح الألفية، ومصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، وضوابط الإشارة إلى أجزاء علم القراءة، والقول المفيد في أصول التجويد لكتاب ربنا المجيد، والإعلام بسن الهجرة إلى الشام، وتنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي وهو الكتاب الذي سيجلب عليه محنته الكبرى، وتحذير العباد من أهل العناد.
أما أشهر كتب الإمام البقاعي؛ فهو نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ويعرف بمناسبات البقاعي أو تفسير البقاعي، واعتبره العلماء من أعظم ما كتب، حيث أنشأ علما جديدا يتحدث عن المناسبة بين الآية القرآنية وما قبلها وبعدها، والمناسبة بين السورة وما قبلها وما بعدها، وهو علم يعتمد على فهم كامل للنسق القرآني وتدبر عميق للآيات وسور القرآن الكريم، اذ سبق فيه علماء عصره، الذين انصرف جهدهم الى تفسير القرآن نحويا ولغويا وإيراد الأقاويل ونقل الروايات حتى المتعارض منها واجترار ما قاله السابقون.
أحوال العالم الإسلامي في القرن التاسع الهجري
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
مثل القرن التاسع الهجري ذروة التدهور السياسي في حكم دولة المماليك؛ فبعد قادتها الكبار سيف الدين قطز والظاهر بيبرس والناصر قلاوون آل الأمر إلى سلاطين ضعاف يتنافسون على الحكم، وانشغلوا بصراعاتهم الجانبية عن مصالح الأمة، فعمّ التدهور في شتى مناحي الحياة، وهذا هو شأن التدهور السياسي إذا وقع لابد أن يصاحبه تدهور في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، وهذا هو حال عصر الإمام البقاعي بالضبط.
فقد انتشرت المظالم والمكوس، وظهرت الفواحش والمنكرات، وسيطر الجهل والخرافة على عقائد العامة، وشاع الإرهاب الفكري بسبب الجمود الفقهي والتمسك المقيت بالمذهبية، وسيطرت الفرق الصوفية المنحرفة بالأخص الاتحادية أتباع ابن عربي وابن الفارض على الحياة الدينية في الشام ومصر؛ فمال الناس على السلبية والاتكالية، وأصبح التجديد ومحاولة الاجتهاد والخروج بآراء فقهية وعلمية جديدة تهمة شنيعة يستحق صاحبها التشنيع والتنكيل والتبديع، وربما القتل.
وهذه الأجواء المظلمة والقامعة للإبداع كانت السبب الرئيسي للمحن المتتالية التي تعرض لها الإمام برهان الدين البقاعي:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
أولاً: محنته مع المتعصبة والمقلدة.
الناس أعداء لما يجهلون، لذلك تجدهم ينظرون بعين الشك والارتياب من كل جديد، ويسارعون باتخاذ مواقف سلبية وربما عدائية من كل شخص يطرح أفكاراً جديدة، ولقد عانى المجددون عبر العصور من هذه النزعة العقلية المتأصلة عند الكثيرين، فالتقليد ورفض الجديد صنوان الحياة العلمية في عصور الجمود والتخلف.
عندما كتب الإمام البقاعي كتابه الشهير نظم الدرر، وبث فيه علماً جديداً هو علم المناسبة لم يستسغ متفقهة العصر وسدنة التقليد مثل هذه العلوم الجديدة، ورأوا أن هذا العلم من موروثات أهل الكتاب؛ فاتهموا البقاعي بالنقل من التوراة والإنجيل في التفسير، على الرغم من وجود الكثير من أهل العلم سابقاً مما استدل بنصوص من التوراة والإنجيل في تعضيد التفسير القرآني والتناسب مع آيات القرآن، ولكنه الحقد الذي ملأ القلوب والنفوس من كل مجدد وعبقري.
أغرى المتعصبة والمقلدة الرؤساء بالإمام البقاعي فتعرض للاضطهاد، ويقول ابن الصيرفي: "وصنف كتابا في مناسبات القرآن فقاموا عليه وأرادوا إحراق الكتاب وتعصب عليه جماعة وأغروا به الأمير تمربغا"، ورموه بالكفر وأقاموا عليه دعوى عند القاضي المالكي، فعكف البقاعي على كتابة رسالة يجيب فيها على أباطيل خصومه، ويفند ادعاءاتهم ويثبت جواز النقل من الكتابين، فاقتنع بها القاضي الزيني بن مزهر، فعذره وحكم بإسلامه فرفعت عنه محنة التكفير.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ثانياً: محنته مع الصوفية كائنة البقاعي
كما قلنا من قبل عصر دولة المماليك شهد سطوة التصوف وهيمنته على الحياة العلمية والدينية، حتى أنه قد بلغ مثابة الدين الرسمي المعتمد عند سلاطين الدولة والهيئة العلمية في هذا الزمان، بحيث كل من يفكر أن يقترب أو ينال جاه وهيبة التصوف فكراً ومنهجاً وطريقة وشيوخاً يكون بمثابة المارق الذي خرج عن ربقة الإسلام.
وعلى الرغم من أن الفارق الزمني بين البقاعي وابن تيمية أكثر من 150 سنة إلا إن البقاعي كان سائراً على درب شيخه ملتزماً طريقته ومنهجه العلمي والإصلاحي أيضاً، لذلك تعرض لنفس المحن والابتلاءات التي تعرض لها شيخه ابن تيمية -رحمه الله- مع متصوفة عصره.
لم تكد تنتهي محنته مع المتعصبة والمقلدة بسبب كتاب نظم الدرر تنتهي حتى تعرض لمنحة أشد قوة بسبب تأليفه كتابين هاجم فيهما أكبر رمزين صوفيين في القرون الوسطى والأشهر على الإطلاق حتى كتابة هذه السطور، وهما ابن عربي شيح الحلولية، وابن الفارض شيخ الاتحادية، وأنكر أقوالهما في عقيدة الاتحاد الصوفية بالقول واللسان، في السر والعلن.
فقد أعلن البقاعي دعوته لتكفير ابن عربي وابن الفارض في جامع الظاهر بيبرس الذي كان يلقي فيه دروسه، ولم يقبل أتباعهما من الصوفية والفقهاء الذين كان لهم سطوة ونفوذ لدى الحكام المماليك هجوم الامام البقاعي، فحدث ما يعرف بـ كائنة البقاعي سنة 874 هـ.
فقد كتب الامام البقاعي رسالة علمية طويلة ومحكمة فند فيها أقوال عمر بن الفارض وتتضمن الحكم بفسقه وتكفيره بسبب ما قاله في قصيدة التائية الكبرى وسلمها الى كاتب سر السلطان قايتباي؛ كما أرسل منها نسخا لبعض علماء الزمان، ولما علم الصوفية بما

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
حدث، احتالوا للاطلاع عليها وفشلوا، وعندما علم البقاعي بحيلتهم أذن لهم بنسخ الرسالة بشرط أن يردوا عليها ردا علمياً، فعجزوا عن الرد ولجأوا للمكر والتآمر، وألبوا عليه العوام والحكام ومعظم الفقهاء والطلبة بالجامع الأزهر، وتزعم الحرب ضده الشيخ عبد الرحيم الفارضي شيخ الطريقة الفارضية المنسوبة لعمر بن الفارض، واشتعل الجو بالغضب على البقاعي وتزايدت الشائعات والمؤامرات وكادت تخرج مظاهرات العوام لتحاصر بيته وينبهوه، ولم تفلح محاولات الامام البقاعي في الاتصال بالداودار الكبير يشبك بن مهدي، أو حتى بالداودار الثاني تنبك قرأ ليبين موقفه، ولم يقبل خصومه المجادلة واستمروا في تخويف الناس المتأثرين بالتصوف وتقديس أوليائه وتهديد العلماء لعدم نصرته، حتى استفتوا قاضي الحنابلة المعز بن نصر الله الكناني فكتب لهم بتكفير ابن الفارض وكل من تمذهب بمذهبه وأيده عدد من الفقهاء منهم البرهان بن العبري، وقاضي الحنفية ابن الشحنة وغيرهم.
وبسبب ثبات البقاعي بدأت المشاعر تتجه نحوه وتميل عن الصوفية، وذلك هو الشأن في دعوات الحق التي تواجه العقائد الضالة، فتلك العقائد الضالة تستند إلى خرافات اكتسبت قدسية لمجرد أن القرون مرت عليها دون أن تجد من يتصدى لتنفيذها، فإذا وجدت عالماً شجاعاً يفعل ذلك ثار عليه المدافعون عن تلك الخرافات والأشياخ الذين يستفيدون منها وحاولوا إخافته بما ترسب في وجدانهم من خوف من الاعتراض على تلك الخرافات؛ فإذا ثبت صاحبنا على مبدئه ورأوا أنه لم تحدث له كارثة بسبب اعتراضه يبدأ الموقف يتغير لصالح، وذلك بالضبط ما حدث في كائنة البقاعي وما يمكن أن يحدث في أي حالة مماثلة.
العوام في بداية الأمر كانوا ضد البقاعي حتى لقد كانوا يؤذون أتباعه في الطرقات، وحتى لقد فكر خصمه شيخ الفارضية عبد الرحيم أن يقودهم في مظاهرة لتقوم بقتل البقاعي وتنهب بيته، ثم بعد أن ظل البقاعي متماسكاً صامداً يقرر رأيه في المسجد جاءوا إليه يستمعون، وضجوا يؤمنون على دعواه على خصومه.
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
ثم فكروا في حيلة أخرى فأشاعوا أن البقاعي قد أفتى بتكفير من يسكت عن تأييده، وبذلك جعلوا الشيوخ المحايدين ينقلبون على البقاعي، وكان منهم الشيخ زين الدين الاقصرائي، ونجحوا أيضا في إثارة طلبة الجامع الأزهر ضده حتى كان البقاعي يخشى أن ينفذوا تهديدهم ويحرقوا بيته.
أحدثت حركة الإمام البقاعي هزة في حياة المسلمين الدينية والعلمية، وتكسر على يديه تابوه الصوفية الذي ظل صامداً منذ رحيل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وبدأت تظهر مجموعات من العامة وطلبة العلم والعلماء تنحاز لجانب البقاعي في حربه ضد الصوفية، غير أن هذه الحركة المباركة قد تم إجهاضها بسبب جهود واحد من أكبر فقهاء العصر وهو شيخ مشايخ الشافعية؛ الشيخ زكريا الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام، وكان من أوعية العلم الكبار، ولكنه كان ضائعاً في العقائد، تابعاً للصوفية وعلى معتقدهم، بل كان ذيلاً لهم وليس برأس فيهم، يسمع لهم ويطيع في وقت لم يتمتع فيه السلطان عنده بهذه الحظوة. زكريا الأنصاري يعتقد في ولاية شيخ صوفي مجهول اسمه محمد الإسطنبولي، ولما وقعت محنة البقاعي في إنكاره على ابن الفارض أرسل السلطان إلى العلماء فكتبوا له بحسب ما ظهر لهم، وامتنع الشيخ زكريا الأنصاري في إبداء رأيه أولاً ثم اجتمع بالشيخ محمد

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
الاسطنبولي فقال له: "أكتب وأنصر القوم، أي: الصوفية وبين في الجواب أنه لا يجوز لمن لا يعرف مصطلح القوم أن يتكلم في حقهم بشر، لأن دائرة الولاية تبتدئ من وراء طور العقل لبنائها على الكشف"، وقد بلغت المهزلة منتهاها عند تناسى زكريا ألأنصاري مكانته العلمية وروايته للحديث النبوي وافترى مناماً زعم فيه أنه قد رأي ابن الفارض على هيئة ملائكية في الجنة لتبرئة من تهمة الكفر والإلحاد التي وجهها أهل العلم له ومنهم البقاعي. وهذه أسطورة حيكت لتجعل ابن الفارض يخرج من قبره ليدعو على من أنكر عليه، ومن شأنها أن تخيف أولئك الذين يقدسون الأولياء ويعتقدون في نفعهم وضررهم، وبعض من يقرؤها في عصرنا قد يتأثر بها، فكيف بهم في عصر قايتباى.
وبعد فترة من حرب الأعصاب والتهديد الذي وصل لدرجة التهديد بالقتل وحرق الدار، سكنت حركة البقاعي، وسكن خصومه عنه، وكان وقتها شيخاً كبيراً طاعناً في السن، ولكنه كان ذا عزم وافر وإقدام كامل وهمة عالية، لم ينقطع عن الدرس والإفتاء وبيان كفر الصوفية الاتحادية والحلولية، مما أدى في النهاية لعودة ظهور مصطلح أهل السنة للتميز عن الصوفية، وبمدرسة أهل السنة استطاع البقاعي أن يوقف الكثير من البدع، على رأسها وقف مولد البدوي في طنطا، وكان بمثابة أكبر أعياد الصوفية في وقتها.
https://i.imgur.com/njtgfA9.gif




ابوالوليد المسلم 30-03-2025 01:02 PM

رد: صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان .
 

https://i.imgur.com/naw9rHf.gif
محنة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي: شهيد الدفاع عن القرآن
شريف عبدالعزيز
(30)
https://cdn.mafrservices.com/pim-con...?im=Resize=480


الثبات حتى الممات، والصدع بالحق، واحتمال الأذى في سبيل الله، وإدراك مكانة الأئمة وأهل العلم، ومعرفة حجم المسئولية الملقاة على عاتقهم، وإيثار مرضاة الله -عز وجل- على غيرها، والنصح وبيان أحكام الشرع، كلها صفات وخلال الربانيين من علماء هذه الأمة المباركة، فكم من عالم أُوذي في الله كثيراً، فضُرب وسُجن وحُوصر ونُفي وطُورد وخُوف وعُذب وهُدد ونُكل به حتى يرجع عن الحق وبيانه أو يسكت عن الباطل ويؤيده، ورغم ذلك كله ثبت على طريقه، وباع نفسه لله -عز وجل-، وجاد بأعز ما يملك أي إنسان؛ روحه ومهجته، في سبيل الله، ولم يبال بتهديد سلطان، ولا قهر طغيان، ولا تسلط جهلة ودهماء، حتى أتاه اليقين ونال أعز مطلوب، وأشرف موهوب؛ الشهادة في سبيل الله، فصارت أخباره وتضحيته مثلاً للعالمين وآية في الغابرين، ونوراً للسالكين.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif


التعريف بالإمام ومكانه العلمية:
هو الإمام العَلَم الكبير أبو عبد الله أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي، من أهل بغداد، كان من أهل العلم والدِّيانة والعمل الصَّالح والاجتهاد فِي الخير، وكان من أئمَّة السُّنَّة الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر، قويَّ النفس، ثابت الجنان، شجاعًا، يقول كلمة الحق دون وجل ولا تردد، لا يخاف في الله لومة لائم، ينتهي نسبه إلى قبيلة خزاعة الكبيرة صاحبة التاريخ الكبير خاصة فيما يتعلق بالحرم المكي وأحداثه الكبرى.

نشأ في بيت فضل وعلم ورئاسة وعلائق مذكورة بالبيت العباسي والدولة العباسية، فقد كان جده مالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس في ابتداء الدولة العباسية، وكان له الأثر المذكور في قيام الدولة، وأبوه هو نصر بن مالك من وجهاء الدولة ومن رجالاتها، وهو أيضاً من أهل الحديث وسماعه، وكان له رحبة (مكان متسع يشبه الأسواق) يسمى سويقة نصر بن مالك في بغداد، وفي هذا الجو المحتشم من الرئاسة والع
لم والفضل نشأ صاحبنا الإمام أحمد بن نصر.
أما عن علمه فقد تلقى العلم من كبار العلماء وسمع منهم الحديث وحمله عن كبارهم، فسمع من آدم بن أبي إياس، إسماعيل بن أبي أويس، إسماعيل ابن علية، سفيان بن عيينة، سليمان بن صالح المروزي، عبد الله بن المبارك، عبد الرزاق بن همام، على بن الحسن بن شقيق، على بن الحسين بن واقد، على ابن المديني، وكيع بن الجراح، يزيد بن هارون.
وقد أثنى عليه علماء الزمان ومشاهير الأعيان، وشهدوا له بالفضل والخيرية وحسن الخاتمة، ذكره الإمام أحمد بن حنبل يوماً فقال: -رحمه الله- ما كان أسخاه بنفسه لله لقد جاد بنفسه له. قال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، قال: سمعت يحيى بن معين، و ذكر أحمد بن نصر بن مالك فترحم عليه و قال: قد ختم الله له بالشهادة،
قلت ليحيى: "كتبت عنه شيئاً؟ قال: نعم، نظرت له في مشايخ الجنديين، وأحاديث عبد الصمد بن معقل، و عبد الله بن عمرو بن مسلم الجندي، قلت ليحيى: "من يحدث عن عبد الله بن عمرو بن مسلم؟ قال: عبد الرزاق قلت: ثقة هو؟ قال: ثقة، ليس به بأس، قلت: فأبوه عمرو بن مسلم الذى يحدث عن طاووس كيف هو؟ قال: وأبوه لا بأس به، ثم قال يحيى:

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
كان عند أحمد بن نصر مصنفات هشيم كلها، و عن مالك أحاديث كبار، ثم قال يحيى: كان أحمد يقول: ما دخل عليه أحد يصدقه يعني (الخليفة) غيره ثم قال يحيى: ما كان يحدث، كان يقول لست موضع ذاك يعنى "أحمد بن نصر بن مالك -رحمه الله-"، و أحسن يحيى الثناء عليه .قال النسائي: ثقة .
عقيدته وأثره في أهل بغداد:
كان أحمد بن نصر الخزاعي من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.كما لم يكن الإمام أحمد من العلماء المنعزلين عن الواقع، المحجوبين من عامة الناس في أبراجهم العاجية وعلومهم النظرية ومسائلهم الافتراضية، بل كان رجل عامة، وكهف يأوي إليه الناس وقت النوازل لمعرفة الحق من الباطل، والخير من الشر.
وقد ورث الإمام أحمد هذه الوجاهة الاجتماعية والمكانة الشعبية عن أبيه نصر بن مالك الذي بايعه أهل بغداد بيعة خاصة سنة 201 هـ عندما اضطربت الأمور في الخلافة العباسية بسبب وإجراءات الخليفة المأمون العباسي الثورية التي قام بها وزلزلت البيت العباسي عندما اختار أحد أئمة أهل البيت (علي الرضا)؛ ليكون ولي عهده، وخلع السواد شعار الدولة واتخذ اللون الأخضر بدلاً منه، وواكب هذه الإجراءات خروجه إلى خراسان، فاضطربت الأوضاع الأمنية في بغداد وانتشر العيارون والسراق وقاطعي السبيل، وعمت الفوضى، فلم يجد العامة أفضل من نصر بن مالك، ورجل آخر اسمه (سها بن سلامة) لمبايعتهما على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضبطا العاصمة ومنعا اللصوص والمفسدين وقطاع الطرق حتى عاد الخليفة المأمون سنة 202هـ من خراسان، وألغى قراراته السابقة.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif


كانت عقيدة الإمام أحمد هي عقيدة أهل الحديث، يثبتون الصفات الواردة في الكتاب والسنة من غير تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تشبيه، وكان يدعوا لذلك ليل نهار، فلما وقعت فتنة القول بخلق القرآن في أواخر عهد المأمون ثبت في الحق ولم يخضع للسلطة كما حدث من بعض أهل العلم وقتها، ولم يتحجج بالإكراه، وعصمة وجاهته الاجتماعية ومنزلة أسرته وأثرها في الدولة وأهل بغداد من أذى المعتزلة الذي أصاب غيره من أهل العلم مثل الإمام أحمد ومحمد بن نوح وسجادة وغيرهم ممن ابتلوا ابتلاء شديداً في عهد المعتصم العباسي خليفة المأمون.
الواثق العباسي وفتنة المعتزلة:
انشغل الناس في عهد المعتصم بالأحداث الكبرى التي وقعت في الدولة الإسلامية مثل ثورة بابك الخرمي، واعتداء الدولة البيزنطية على حدود الدولة الإسلامية في الشمال، وبناء المدن الجديدة، وبالتالي لم ينشغل المعتصم بفتنة القول بخلق القرآن التي أثارها المعتزلة في أواخر عهد أخيه المأمون إلا في بداية عهده بسبب وصية المأمون له بذلك، فلما وقعت الأحداث الجسام انشغل عنها بالجهاد ضد أعداء الإسلام، لذلك عفا الإمام أحمد بن حنبل عن المعتصم وتجاوز عن ضربه وسجنه إياه كما هو معروف تاريخياً.
فلما جاء الواثق بالله بن المعتصم بالله ورث ملكاً ثابتاً واستقراراً عن أبيه جعله يلتفت إلى كلام المعتزلة بوجوب حمل الناس على القول بخلق القرآن، فكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، اعتماداً على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان ولا حجة ولا بيان ولا سنة ولا قرآن. وبلغ درجة عظيمة من الغلو في هذا الباب تمثلت في عدة إجراءات قام بها
من أبرزها:

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
تعيين كل قضاة الدولة من المعتزلة وخلع أي قاضٍ يقول بأن القرآن كلام الله.
إلزام المدرسين والمعلمين في الكتاتيب بتلقين الطلبة والأطفال عقيدة المعتزلة.
اختيار الولاة وموظفي الدولة من محتسبين وأئمة ومؤذنين للتأكد من قولهم بخلق القرآن.
قطع الأرزاق والتضييق على كل العلماء الرافضين للقول بخلق القرآن ومنعهم من التدريس والتحديث، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل قد اضطر للاختفاء في عهده المشئوم.
وصل الغلو لدرجة لا تصدق باختبار أسرى المسلمين لدى الروم، فمن قال منهم بخلق القرآن فكوا أسره ودفعوا ديته، ومن رفض تركوه أسيراً لد
ى الروم.
موقف الإمام أحمد بن نصر من انحراف الواثق العباسي:
ولما بلغ الواثق هذا الشطط من القول بخلق القرآن وأصبح المسلمون على شفا هلكة وضياع في أعز ما يملكون؛ عقيدتهم ودينهم، انتصب الإمام أحمد لمواجهته، فصدع بالحق، وأعلن رفضه لإجراءات الواثق وشططه وعتوه، فوجد الناس فيه ضالتهم، واجتمعوا عليه بأعداد كبيرة يصغون إلى كلامه ويأتمرون بأوامره.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وهنا تكرر نفس المشهد الذي حدث مع أبيه نصر بن مالك عندما بايعه أهل بغداد سنة 201 هـ بعد خلو بغداد من حاكم وانتشار المفسدين والمجرمين. فقد اجتمع أهل بغداد على الإمام أحمد بن نصر وبايعوه على الأمر بن المعروف والنهي عن المنكر. وكان من رؤساء أصحابه رجلان؛ أبو هارون السراج في الجانب الشرقي من المدينة، وطالب في الجانب الغربي من المدينة، وكانا من أنشط وأخلص أتباع الإمام أحمد، فاجتهدا في الدعوة إلى بيعته والانتظام في جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مع الوقت انتظم عدة آلاف من أهل الحديث وأهل بغداد في بيعة الإمام أحمد بن نصر الخاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتصدي لفتنة القول بخلق
القرآن، وكان رؤوس أصحاب الإمام أحمد يجتمعون عنده بانتظام مما لفت الانتباه لدى شرطة بغداد التي دست على مجلس الإمام أحمد من ينقل لها الأخبار، وكان الإمام أحمد شديداً في الحق ولا يخاف من سلطان ولا طغيان، فكان يشتد في انتقاد الخليفة الواثق ويصفه بعبارات شديدة، فتم رفع الأمر إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس شرطة بغداد الذي أسرع بإبلاغ الواثق، فأمر بالقبض على الإمام أحمد ورؤوس أصحابه.
ثبات الإمام أحمد ومقتله:
تم إحضار الإمام أحمد مقيداً بأرطال الحديد إلى مجلس الواثق الذي عقده في مدينة سامرا خشية تفارط الحال وثورة أهل بغداد لو علموا بمآل الإمام أحمد، وكان كما قلنا قد بايعه ألوف منهم، وقد استدعي الواثق رؤوس المعتزلة وأئمتهم؛ لاستفتائهم فيما يفعله مع الإمام.
فلما أُحضر الإمام أحمد أمام الواثق، لم يتوجه إليه بسؤال عن سبب إحضاره ولا قصة البيعة الخاصة، ولكن دار بينهما هذا الحوار العجيب:

وقال الواثق‏: ‏ ما تقول في القرآن‏؟ ‏
فقال‏ الإمام: ‏ هو كلام الله‏. ‏
قال‏ الواثق: ‏ أمخلوق هو؟ ‏
قال‏ الإمام: ‏ هو كلام الله‏. ‏
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
وكان الإمام أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له‏: ‏ فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة‏؟ ‏
فقال‏: ‏ "يا أمير المؤمنين‏! ‏ قد جاء القرآن والأخبار بذلك، قال الله –تعالى-: ‏(‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏"‏إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته‏ ".‏ فنحن على الخبر‏.
‏زاد الخطيب البغدادي في تاريخه: قال الواثق‏:‏ "ويحك!‏ أيرى كما يرى المحدود المتجسم‏؟‏ ويحويه مكان ويحصره الناظر‏؟‏ أنا أكفر برب هذه
صفته"‏.‏
قلت‏ - أي ابن كثير -:‏ وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح، والله أعلم‏.‏ ثم قال أحمد بن نصر للواثق‏:‏ وحدثني سفيان بحديث يرفعه‏:‏ "‏إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء‏".‏
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك‏".
فقال له إسحاق بن إبراهيم‏:‏ ويحك ‏!‏ انظر ما تقول‏.‏
فقال‏:‏ أنت أمرتني بذلك‏.‏
فأشفق إسحاق من ذلك وقال‏: ‏ أنا أمرتك‏؟ ‏
قال‏: ‏ نعم ‏! ‏ أنت أمرتني أن أنصح له‏. ‏

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق – وكان قاضياً على الجانب الغربيّ -وكان حاضراً وكان أحمد بن نصر ودّاً له من قبل: يا أمير المؤمنين؛ هو حلال الدّم، وقال أبو عبد اللّه الأرمّني صاحب رأس المحنة أحمد بن أبي دؤاد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد، وقال أحمد بن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين كافر يستتاب؛ لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل – متظاهراً بكراهية قتله – فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومنّ أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه. ودعا بالصمصامة – سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي – فأخذ الواثق الصمصامة فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه وحز رأسه.
وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه، فحمل معترضاً حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فصلب في الجانب الشرقي أياماً وفي الجانب الغربي أياماً، ثم حول إلى الشرق؛ وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر؛ وكتب في أذنه رقعة: هذا رأس الكافر المشرك الضال؛ وهو أحمد بن نصر ب
ن مالك؛ ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن وفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق؛ فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه. وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك؛ فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
كرامات الإمام الشهيد:
بعد مقتل الإمام أحمد على يد الواثق ومن معه بهذه الصورة الانتقامية وقعت له عدة كرامات بلغت من شهرتها حد التواتر بين المؤرخين والمعاصرين. فقد قال جعفر بن محمد الصائغ‏: ‏ بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه‏: ‏ لا إله إلا الله‏.
‏عن أحمد بن كامل القاضي قال: حمل أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي من بغداد إلى سر من رأى، ونصب رأسه ببغداد، على رأس الجسر، وأخبرني أبي أنه رآه، وكان شيخاً أبيض الرأس واللحية، وأخبرني أنه وكل برأسه من يحفظه بعد أن نصب برأس الجسر، وأن الموكل به ذكر أنه يراه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه، فيقرأ سورة يس، بلسان طلق، وأنه لما أخبر بذلك طلب، فخاف على نفسه فهرب.
وعن إبراهيم بن إسماعيل بن خلف قال: كان أحمد بن نصر خالي، فلما قتل في المحنة، وصلب رأسه، أخبرت أن الرأس يقرأ القرآن، فمضيت، فبت بقرب من الرأس مشرفاً عليه، وكان عنده رجالة وفرسان يحفظونه، فلما هدأت العيون، س
معت الرأس يقرأ: (الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت:2]، فاقشعر جلدي، ثم رأيته بعد ذلك في المنام وعليه السندس والإستبرق، وعلى رأسه تاج، فقلت: ما فعل الله -عز وجل-بك يا أخي؟ قال: غفر لي، وأدخلني الجنة. إلا أني كنت مغموماً ثلاثة أيام. قلت: ولم؟ قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه و سلم-مر بي، فلما بلغ خشبتي، حول وجهه عني. فقلت له بعد ذلك: يا رسول الله، قتلت على الحق أو على الباطل؟
فقال: أنت على الحق، ولكن قتلك رجل من أهل بيتي، فإذا بلغت إليك، أستحيى منك.
ولم يزل رأسه منصوباً من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان سنة 231هـ إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة 237هـ، فجمع بين رأسه وجثته بأمر من الخليفة المتوكل على الله، ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة
المعروفة بالمالكية في جنازة مهيبة حضرها معظم أهل بغداد.
أعظم كرامات الإمام:
https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
أما أعظم كرامة أظهرها الله -عز وجل- في محنة الإمام أحمد بن نصر هو ما جرى مع خصومه والمحرضين عليه، ممن زينوا للواثق قتله، واستباحوا دمه، فقد صدق فيهم قول الله -عز وجل-: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْح) [الأنفال:19].
فقد روى أصحاب التاريخ ومنهم ابن كثير والخطيب وغيرهما أن الإمام عبد العزيز الكناني صاحب كتاب (الحيدة) دخل على الخليفة العباسي المتوكل - وكان حسن العقيدة – فجرى ذكر الإمام أحمد بن نصر في ثنايا الكلام، فقال للمتوكل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما رأيت أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن‏.
‏فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل‏: ‏ "في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر"‏.
‏فقال‏:"‏ يا أمير المؤمنين ‏أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً‏". ‏
ودخل عليه هرثمة بن أشرس (من رؤوس المعتزلة) فقال له في ذلك فقال‏: ‏ "قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً"‏. ‏
ودخل عليه قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد فقال له مثل ذلك فقال‏: ‏ "ضربن
ي الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً"‏.
فكيف كانت مصارعهم؟
قال المتوكل‏:‏ فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار‏.‏ وذكر ابن الأثير نهاية ابن الزيات بالتفصيل فقال: "لما ولي الخلافة المتوكل أمهل حتى كان صفرًا، فأمر إيتاخ التركي بأخذ ابن الزيات وتعذيبه، فاستحضره فركب يظن أن الخليفة يستدعيه، فلما حاذى منزل إيتاخ عدلا به إليه، فخاف فأدخله حجرة، ووكل عليه وأرسل إلى منازله من أصحابه من هجم عليها، وأخذ كل ما فيها واستصفى أمواله، وأملاكه في جميع البلاد، وكان شديد الجزع كثير البكاء والفكر، ثم سوهر وكان ينخس بمسلة لئلا ينام، ثم ترك فنام يومًا وليلة، ثم جعل في تنور عمله هو وعذب به ابن أسماط المصري وأخذ ماله، فكان من خشب فيه مسامير من حديد أطرافها إلى داخل التنور وتمنع من يكون فيه من الحركة، وكان ضيقًا بحيث إن الإنسان كان يمد يديه إلى فوق رأسه ليقدر على دخوله لضيقه ولا يقدر من يكون فيه يجلس، فبقي أيامًا فمات، وكان حبسه لسبع خلون من صفر وموته لإحدى عشرة بقيت من ربيع الأول. واختلف في سبب موته فقيل كما ذكرناه، وقيل: "بل ضرب فمات وهو يضرب، وقيل: "مات بغير ضرب وهو أصح، فلما مات حضره ابناه سليمان وعبيد الله، وكانا محبوسين وطرح على الباب في قميصه الذي حبس فيه، فقالا: الحمد لله الذي أراحنا من هذا الفاسق. وغسلاه على الباب ودفناه، فقيل: إن الكلاب نبشته وأكلت لحمه، قال: وسمع قبل موته يقول لنفسه: يا محمد؛ ألم تقنعك النعمة، والدواب، والدار النظيفة، والكسوة وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة؛ ذُق ما عملت بنفسك، ثم سكت عن ذلك.
وأما هرثمة فإنه هرب من مصير ابن الزيات، بعد أن رفع المتوكل المحنة وأمر بتتبع رؤوس المعتزلة ومحاسبتهم، فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال‏: ‏ "يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه، فقطعوه إرباً إرباً، ثم أخرجوا جثته وألقوها في الخرابة فنهشتها الكلاب.

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
‏وأما قاضي المحنة ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده – يعني‏:‏ بالفالج –-ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جداً".
أما الواثق نفسه فقد مات في شرخ شبابه بلا علة ظاهرة، فما كان من أهله إلا أن تركوا جثته بلا تحضير وانشغلوا بأمور البيعة لأخيه المتوكل، فدخل جرذ كبير ف
نهش لحم خده واستل عينه ومضى بها، فلما دخلوا عليه لتجهيزه وجدوه بهذه الصورة المشوهة.
هل خرج الإمام أحمد على الخليفة الواثق؟
من الأمور التي أثارت جدلاً وفهمها الكثيرون بصورة خاطئة: هل خرج الإمام أحمد بن نصر على الحاكم الشرعي وقتها؛ الواثق العباسي؟!
الخلاف إنما جاء من الاقتصار على رواية تاريخية دون غيرها، فجمع الروايات التاريخية في نفس الحدث تكشف القصة من جميع جوانبها، ومن اختصر في رواية، بُسط في الأخرى، وما أُبهم في راوية، بُيّن في أخرى، وهكذا.
وخبر الخزاعي ورد بطرق ضعيفة مثل التي رواها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن الصولي، وسندها لا يحتجُ به: فإن محمد بن يحيى الصولي لم يدرك زمن هذه الواقعة، وليس له رواية عن أحمد بن نصر الخزاعي، وقد قُتِلَ أحمد بن نصر الخزاعي سنة 231هـ، فَبَيْنَ قَتْل أحمد بن نصر ووفاة الصولي خمس سنوات ومائة سنة، فمن المؤكد أنه لم يسمع منه، ولم يدرك هذه القصة، والصولي من جملة مشايخه أبو داود، وأبو داود نفسه لم يسمع من الخزاعي، إنما روى عنه بواسطة فما ظنك بتلميذه.
ورواية الطبري هي أصح الروايات في خبر الإمام الخزاعي، فقد كان الطبري معاصراً للحدث على صغر سنه وقتها إلا إنه سمع ممن شاهدها ورآها رأي العين، و
هذه الرواية كشفت عن حقيقة هامة: أن الإمام أحمد لم يخطط للخروج على الخليفة الواثق، إنما ذلك من صنع بعض أتباعه الذين أخذتهم الحمية والحماسة ممن بايعه على المر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد استوثقت النفوس وامتلأت غيظاً وكراهية من غلو الواثق وعتوه، لذلك فهموا بيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أنها بيعة عامة، وأعدوا العدة للخروج فعلاً على الواثق دون علم الإمام أحمد، وهو ما أوضحته وبينته رواية الطبري ، لذلك فالواثق لم يلتفت إلى اتهام الإمام بالخروج عليه، ولم يسأله عنه من الأساس.
قال الطبري -رحمه الله- بعد أن أورد خبر الإمام أحمد وبيعة الناس له: "وأنّ الذي كان يسعى به في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهم وإن أبا هارون السّراج وطالباً فرّقا في قوم مالاً، فأعطيا كلّ رجل منهم ديناراً ديناراً، وواعدهم ليلةً يضربون فيها الطّبل للاجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان؛ فكان طالب بالجانب الغربيّ من مدينة السّلام فيمن عاقده على ذلك، وأبو هارون بالجانب الشرقيّ فيمن عاقده عليه؛ وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرّقانها في جيرانهم، فانتبذ بعضهم نبيذاً، واجتمع عدّة منهم على شربه، فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة؛ وكان الموعد لذلك ليلة الخميس في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، لثلاث تخلو منه، وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل، فلم يجبهم أحد.
وكان إسحاق بن إبراهيم غائباً عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم غلاماً له يقال له رحش فأتاهم فسألهم عن قصّتهم، فلم يظهر له أحد ممن ذكر بضرب الطّبل، فدلّ على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه، يقال له عيسى الأعور، فهدّده بالضرب، فأقرّ على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر بن مالك وعلى آخرين سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم؛ فأخذ بعضهم، وأخذ طالباً ومنزله في الرّبض من الجانب الغربي، وأخذ أبا هارون السّراج ومنزله في الجانب الشرقيّ، وتتبّع من سمّاه عيسى الأعور في أيام وليال، فصيّروا في الحبس في الجانب الشرقيّ والغربيّ، كلّ قوم في ناحيتهم التي أخذوا فيها، وقيّد أبو هارون وطالب بسبعين رطلاً من الحديد كلّ واحد منهما، وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر، فتولّى إخراجهما رجلٌ من أعوان محمد بن عياش – وهو عامل الجانب الغربيّ، وعامل الجانب الشرقيّ العباس بن محمد بن جبريل القائد الخرساني – ثم أخذ خصىّ لأحمد ابن نصر فتهدّد، فأقرّ بما أقرّ به عيسى الأعور، فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمّام، فقال لأعوان السلطان: هذا منزلي؛ فإن أصبتم فيه علماً أو عدّة أو سلاحاً لفتنة فأنتم في حلّ منه ومن دمي؛ ففتش فلم يوجد فيه شيء، فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيّين وابنين له ورجلاً ممن كان يغشاه يقال له اسماعيل بن محمد بن معاوية بن بكر الباهليّ، ومنزله بالجانب الشرقيّ، فحمل هؤلاء

https://i.imgur.com/BxH7koz.gif
الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرّا على بغال بأكفٍ ليس تحتهم وطاء، فقيّد أحمد بن نصر بزوج قيود، وأخرجوا من بغداد يوم الخميس لليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان الواثق قد أعلم بمكانهم، وأحضر ابن أبي دؤاد وأصحابه، وجلس لهم مجلساً عاماًّ ليمتحنوا امتحاناً مكشوفاً، فحضر القوم واجتمعوا عنده ".
فالرواية تشهد أن الإمام أحمد لم يكن على علم بالقصة، ولم يكن عنده
سلاح ولا أعلام ولم يعثروا عنده على أي استعدادات توحي بالخروج، لذلك لم يسأله الواثق عن تهمة الخروج والتي كانت تكفي وحدها للتنكيل به وقتله.
أيضاً معاصرو الإمام أحمد بن نصر من أهل العلم والأئمة وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل لم يروا جواز الخروج على الخلفاء رغم ظلمهم وفسادهم لأسباب كثيرة، وحوار أحمد بن نصر مع الواثق ومخاطبته بإمرة المؤمنين دليل آخر على أنه لم يخرج على الخليفة.
أما مناقشة أحمد بن نصر للواثق لا تُعدّ خروجًا، وإنما مخالفة في الرأي مع الواثق، وكان من الممكن لأحمد بن نصر أن يجاري الواثق وأن يوهمه بأنه مقتنع بكلامه في مسألة خلق القرآن، فيخلي سبيله، ولكنه لم يفعلْ، فجاد بنفسه عن أن يقول: إن القرآن مخلوق، وهذا هو معنى كلام الإمام أحمد الذي استدل من خلاله البعض على الخروج، فهو قد ضحَّى بنفسه وجاد بها كي لا يقول ما يُغضِب الله، وكان من الممكن أنْ يَعُدّ نفسَه مُكرَهًا على الاعتراف بخلق القرآن، ولكنه جاد بنفسه في سبيل الله.

https://i.imgur.com/njtgfA9.gif





الساعة الآن : 07:47 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 530.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 529.68 كيلو بايت... تم توفير 1.31 كيلو بايت...بمعدل (0.25%)]