ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=41)
-   -   موسى عليه السلام (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=311590)

ابوالوليد المسلم 08-02-2025 12:57 PM

موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (1)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد

نتحدَّثُ إليكم عن كبير أنبياء بني إسرائيل، أحد أُولي العزم من المرسلين، كليم الله موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وعمران والد موسى عليه السلام من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وليس هو عمران المذكور في سورة آل عمران المسمَّاة باسمه؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33]، فإن عمران هذا والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقد بيَّن الله عز وجل ذلك في قوله بعد هذه الآية مباشرة: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 34 - 36].

وبين عمران والد موسى وعمران والد مريم قريبٌ من ألفي سنة.

وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى الحالة التي كانت سائدةً بمصر عند ميلاد موسى عليه السلام؛ إذ كان ظلم فرعون وبَغيه على بني إسرائيل وفساده في الأرض قد بلغ أقصى حدود الطغيان، فجعل أهلها شيعًا، يقرِّب بعضهم، ويستضعف طائفةً منهم وهم بنو إسرائيل، يَذبح أبناءهم ويَستحيي نساءهم ويستعمل معهم صنوفَ الذلَّة، وأنواع الهوان والعذاب، وأراد الله عز وجل أن يَمُنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض من بني إسرائيل، وكانوا يومها محصورين في مصر، وأن يبدِّل خوفَهم أمنًا، وأن يمكِّنَ لهم في الأرض، وأن يجعلَ منهم أئمَّةَ هدى، ويجعلهم الوارثين، وقد كان الحقد والبُغض لبني إسرائيل قد اشتعل في قلب فرعون وهامان وجنودهما بسبب ما ألقي في روعهم أن زوال ملكهم وتدميرهم سيكون على يد رجل من بني إسرائيل، ولكن الحذرَ لا ينجي من القدَر، فأراد الله عز وجل أن يُري ﴿ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: 6].

فوُلد موسى عليه السلام في هذا الجوِّ الخانق، وخافت أمه أن يذبحه فرعون؛ لأن ميلاد موسى عليه السلام صادفَ إحدى النوبات التي يقوم بها فرعون بتذبيح أطفال بني إسرائيل الذكور، فأوحى الله تعالى إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خشيتِ عليه من فرعون أن يذبحه فاصنعي له صندوقًا محكمًا كأنه سفينة، وضعيه في الصندوق وألقيه في نهر النيل، وأبعدي الخوف عن نفسك فلا تخافي ولا تحزني، فإن الله عز وجل سيحفظه لك، ويردُّه إليك، وسيكون ولدك هذا من المرسَلين، قال بعض أهل العلم: المراد بالوحي هنا وحي إلهام أو منام، قلت: لا مانع من أن يكون الله تبارك وتعالى أرسل لها ملكًا بهذا الوحي فآمنت به وصدقت بوعده، ولا يلزم من مجيء الملَك لها بهذه النصيحة أن تكون نبيَّة؛ فقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكًا؛ فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لونٌ حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه قذره، وأُعطي لونًا حسنًا، قال: فأي المال أحبُّ إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر - شكَّ الراوي - فأُعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها، فأتى الأقرعَ فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني الذي قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرةً حاملًا، قال له: بارك الله لك فيها، فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يُردَّ الله إليَّ بصري فأبصر الناس؛ فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحبُّ إليك؟ قال: الغنم، فأُعطي شاة والدًا، فأنتج هذان وولد هذا؛ فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة، فقال: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا فأعطاك الله؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيَّرك الله إلى ما كنتَ، وأتى الأقرعَ في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردَّ عليه مثل ما رد هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيَّرك الله إلى ما كنتَ، وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنتُ أعمى فردَّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئتَ ودع ما شئتَ، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذتَه لله عز وجل، فقال: أمسك مالَك فإنما ابتُليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك)).

فهذا الحديث الصحيح المتفق عليه يثبت أنَّ الله قد يبعث ملكًا لأحد من عباده وليس بنبيٍّ ولا برسولٍ، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى فأرصد الله تعالى على مدرجته ملَكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا، غيرَ أنني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)).

فهذا يثبت أن الله تعالى قد يرسل ملَكًا إلى بعض الناس ويخاطبهم وليسوا بأنبياء.

وقد أرسل الله تعالى الملائكةَ لمريم حيث يقول: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42، 43]، ثم يقول تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 45، 46]، ولم تكن مريم نبيَّةً وإنما كانت امرأة صالحة صدِّيقة من القانتين.

وفي ميلادِ موسى عليه السلام وبيان الجوِّ الذي وُلد فيه وما كان من طغيان فرعون وإذلاله لبني إسرائيل والإيحاء إلى أمِّ موسى بإلقائه في اليم مع الوعد بردِّه إليها، يقول الله عز وجل: ﴿ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 3 - 7].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ابوالوليد المسلم 08-02-2025 12:58 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (2)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



ذكرتُ في ختام الفصل السابق ما قصَّه الله عز وجل عن ميلاد موسى عليه السلام وإيحاء الله تعالى لأمه أن ﴿ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7].

وقد اشتمل هذا الوحي على أمرين ونهيين وخبرين، وقد أجمل الله تبارك وتعالى ذلك في سورة طه؛ حيث يقول ممتنًّا على موسى عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴾ [طه: 37، 38]، ثم فصَّل ذلك الوحي المجمل فقال: ﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39].

وقد قامت أمُّ موسى عليه السلام بما أمرها الله تعالى به، فألقت ولدها في اليَم بعد أن وضعته في التابوت، أي: الصندوق، وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن اليم ألقى بالصندوق وفيه موسى عليه السلام إلى الساحل، أي: شاطئ النهر أمام بيت آل فرعون ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ [القصص: 8]، وفرحوا به لما ألقى الله عز وجل على موسى من المحبة في قلب مَن يراه، غير أن فرعون خشي أن يكون مِن بني إسرائيل، وفكَّر في قتله، فقالت زوجته آسيا رضي الله عنها: ﴿ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9]، أنَّهم التقطوا مَن يزول ملكهم على يديه، وأنه سيكون لهم عدوًّا وحَزَنًا، فقيَّض الله له عليه السلام أعدى أعدائه أن يُربُّوه، وأن ينشأ في بيتهم؛ على حد قول الشاعر:
وإذا العِنَايةُ لاحظتْكَ عيونُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَمْ فالمخاوفُ كلُّهنَّ أمانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وهيَّأ الله تعالى له المرأة الصالحة آسيا زوجة فرعون عدو الله ورسله لتشرف على تربيته، غير أن الله عز وجل منعه من الْتِقَامِ أيِّ ثَدْيٍ غير ثدي أمه، فكلما قدموه لمرضعةٍ رفض الامتصاصَ من ثديها، وقد بلغ الحال بأم موسى مع شدة كظم ما بها من الخوف عليه أن أصبح فؤادها كالهواء، كأنها كادت أن تُجنَّ لولا أن ربط الله على قلبها لتكون من المؤمنين، وقالت لأخته: تتبَّعي أثرَه، وانظري ماذا يفعل به ملتقِطوه، وإيَّاكِ أن يعرفوا أنك أخته أو أنك تحاولين معرفة شيء عنه، فانظري عن بُعْد وبطريقة جانبية لا يُعْرفُ منها أنك مشغولة به، فقامت أختُه بتنفيذ وصية أمها، ومرُّوا بها يبحثون عن مرضعة له، فقالت: أنا أدلكم على مرضعة لعلَّه يقبل منها، فجاؤوا به إلى أمه فالتقم ثديَها ففرحوا فرحًا عظيمًا، وجعلوا يتردَّدون به عليها، وقد قرَّت عينها به وخلَّصها الله تعالى من الحزن عليه، وعَلِمت أن وعد الله حق، وأن الله على كل شيء قدير، وأنه إذا أراد أمرًا هيَّأ له الأسباب وأزال الموانعَ، وقد استمرَّ موسى عليه السلام في بيت فرعون كأنه ولد لهم، يحوطونه بمحبتهم حتى بلغ أشُدَّه واستوى، وملأ الله قلبه حكمة وفقهًا وعلمًا.

وفي هذا تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأن الله تعالى ينصر أولياءه، ويخلِّصُهم من المحن وينجِّيهم من السوء.

وفي ذلك كله يقول الله تبارك وتعالى في سورة القصص: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [القصص: 8 - 14].

ويقول تعالى في سورة طه: ﴿ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾ [طه: 40]، وفي قوله تعالى: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ اللام في قوله: ﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ لام العاقبة؛ أي: ما دروا أنهم بالتقاطه ستكون العاقبة أن يكون لهم ﴿ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾، وكم من عملٍ يعمله الإنسان لأمر، فتكون عاقبتُه على عكس ما أراد من عمله؛ لأن الأمر كله لله وحده.

والإنسان مهما ادَّعى القدرة والمعرفة فإنه يجهل عاقبة أمره.

وهامان هو وزير فرعون لعنهما الله، وفي تنشئة موسى في بيت فرعون يقول الله تعالى في سورة الشعراء: ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾ [الشعراء: 18]، وبعد أن بلغ موسى عليه السلام أشدَّه وتم نضجه وشبابه وتكامل عقله وأفاء الله تعالى عليه من الحكمة والفقه والعلم، وأراد الله عز وجل أن يقيم على يديه سببًا يدعوه للخروج من مصر، والهروب من آل فرعون والبُعد عن تقاليدهم وعاداتهم قدَّر الله له أن يدخل وسط المدينة في وقت غفلة أهلها؛ إما في وقت نومهم وإما في وقت اشتغالهم بلعبهم ولهوهم؛ حيث تكون الطرقات شبه خالية من المارَّة، فوجد فيها رجلين يتصارعان يريد كلٌّ منها الفتْكَ بصاحبه، وموسى عليه السلام قد عرف أن أحدَهما إسرائيليٌّ وأن الآخرَ قبطيٌّ، وكأنه رأى أن القبطيَّ أشد بأسًا من الإسرائيلي؛ ولذلك استغاثه وطلب منه العون، فأراد موسى عليه السلام أن يدفع القبطيَّ عن الإسرائيلي، فوكزه بيده ودفعه بِجمع كَفِّه ليدفعه عنه، ولم يكن موسى عليه السلام يدري أن هذه الوكزةَ ستقضي عليه وتقتله؛ ولذلك أحسَّ بندم شديد وأسند هذا الشر للشيطان فقال: ﴿ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [القصص: 15، 16]، وعزم على أنه لن يعود لمثلها، وقال: ﴿ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 17]؛ أي: نصيرًا لأحد من الكافرين المجرمين.

وقد أصبح ﴿ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ [القصص: 18]، ماذا سيؤدي إليه قتلُ هذا القبطي؟ وهل سيعرفون أنه موسى فيأخذونه به؟ وبينما هو كذلك في طريق قريب من موضع قتل القبطي، وإذا بالإسرائيلي الذي ساعده بالأمس (يستصرخه) ويستغيث به على قبطي آخر، فأجابه موسى عليه السلام بأنك شديد الغواية بيِّن الأذى، ولما أشار موسى عليه السلام بيده إلى الإسرائيلي إشارة غضب مؤدبًا له على سوء سلوكه، ﴿ قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [القصص: 19]، فعلم موسى عليه السلام أن الخبر لا بد من أن يصل إلى فرعون من هذا القبطي، وأنهم - لا بد - قاتلوه، وفعلًا أَعْلَمَ القبطيُّ آلَ فرعون بأن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، فتآمروا على قتل موسى عليه السلام.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ابوالوليد المسلم 08-02-2025 12:59 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (3)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



ذكرتُ في ختام الفصل السابق أن القبطيَّ أخبرَ آل فرعون أن موسى عليه السلام هو الذي قتل القبطيَّ، وأنهم تآمروا عليه، وقد أحسَّ موسى عليه السلام بغمٍّ شديدٍ، وامتحان عسير وفتنة شديدة، وقد سخَّر الله تعالى لموسى عليه السلام رجلًا قريبَ المنزل من آل فرعون يسكن معهم في أقصى المدينة كالعادة في القديم والحديث أن الأشرافَ يسكنون الأطرافَ، ويعرف أخبارهم، ويُكنُّ لموسى عليه السلام محبة قوية، فسارع يبحث عن موسى عليه السلام حتى وجدَه في داخل المدينة، وأخبره أن آل فرعون يأتمرون بموسى ليقتلوه، وأمره أن يسارع بالفرار من مصر ليَسْلَمَ من شرِّهم، وينجو من مكرهم، وبيَّن له أن الحامل له على ذلك هو حُبُّه ونصحه له، فخرج موسى عليه السلام مسرعًا متجهًا إلى سيناء وهو يدعو ربَّه أن ينجِّيه من القوم الظالمين الذين يقررون قتل من لا يستحق القتل، وقد عزم عليه السلام أن يتجه تلقاء مدين، غير أنه غيرُ خَبيرٍ بالطريق إليها، فتضرَّع إلى الله تعالى أن يهديه إلى طريقها، وأن يوفِّقه إلى سلوك طريق قصد، وأن يرشده إلى سواء السبيل.

واستمرَّ في سيره عليه السلام حتى ﴿ وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ﴾ ووجد عليه جماعة من الناس يسقون مواشيهم، ووجد أمامه قبل هؤلاء الجماعة الذي يسقون مواشيهم امرأتين تدفعان غنمهما حتى لا تردَ الماء مع رؤية موسى عليه السلام للغنم في حاجة إلى الماء، فقال موسى عليه السلام للمرأتين: ما شأنكما؟ لماذا تدفعان غنمكما عن الماء وهي في حاجة إليه؟ قالتا: نحن لا نحب أن نختلط مع الرجال الرعاء، ولنا أب شيخ كبير لا يستطيع أن يتولَّى سقي أغنامنا، فتقدَّم موسى عليه السلام وسقى لهما دون أن يطلب منهما أجرًا على ذلك، ولما سقى لهما أغنامهما تولَّى إلى ظلِّ شجرة قريبة وجلس تحتها وناجى ربه قال: ﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]، فجاءته إحدى المرأتين والحياء بادٍ على محياها ومشيتها ﴿ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ [القصص: 25]، ويكافئك على هذا الإحسان بالإحسان، فلما وصل موسى عليه السلام إلى الشيخ الكبير وقصَّ عليه قصته مع آل فرعون قال له الشيخ الكبير: ﴿ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25]، فطلبت إحدى المرأتين من أبيها أن يستأجر موسى عليه السلام ليرعى الغنم، وأشعرت أباها أنه خير من يُستأجر؛ لأنه قويٌّ أمين، يجمع أهمَّ وأحسن وأوفى صفات الأجير، وكأنها عرفت ذلك من مراقبتها له، وهو يسقي الغنم مع غضِّ بصره وحسن سمته عليه السلام، فقال الشيخ الكبير: إني أحب أن أزوجك إحدى ابنتيَّ هاتين، على أن تشتغل عندي أجيرًا ثماني سنوات، فإن أتممتَ في الخدمة عشر سنوات فهذا من عندك، ولا أشقُّ عليك ولا أجهدك، فوافق موسى عليه السلام على أن يتزوج إحدى المرأتين بمهرٍ هو خدمة ثمانية أعوام، وإن شاء أتمَّها عشرًا، ولا شك في أنه مهر مرتفع، لكن حكمة الله واصطناعه لموسى عليه السلام، حتى يكون هذا الأجل هو الباقي لموسى عليه السلام حتى يبعثه الله رسولًا، ويتم عليه نعمته ويجيء إلى الطور على قَدَر.

وإلى ذلك كله يشير الله عز وجل؛ حيث يقول في سورة طه مبينًا ما أصاب موسى من الهمِّ والغمِّ بعد مقتل القبطي واستصراخ الإسرائيلي به في اليوم الثاني وهروبه إلى أرض مَدْين ومكثه بها ما شاء الله أن يمكث فيقول: ﴿ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ [طه: 40، 41].

ويقول الله عز وجل في سورة القصص: ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 15 - 28].

وقد ذكرت في قصة شعيب عليه السلام أنَّه لم يكن صِهْر موسى عليه السلام، وأن الشيخ الكبير الذي زوَّج موسى عليه السلام ابنته في مَدْين هو رجل صالح من بقايا من آمَن بشعيب عليه السلام، وذكرت ما يدلُّ على ذلك من كتاب الله تبارك وتعالى في هذا المقام.

هذا، وأما ما اشتهر عند الناس من حديث الفتون الذي ذكره النسائي في كتاب التفسير من سننه المتضمِّن قصة موسى مبسوطة مِن أولها إلى آخرها الذي رواه النسائي، فقال: حدثنا عبدالله بن محمد، حدَّثنا يزيد بن هارون، حدثنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبي أيوب، أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبدالله بن عباس عن قول الله تعالى لموسى: ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ﴾ فسألته عن الفتون: ما هي؟ فقال: استأنِف النَّهار يا ابن جبير فإن لها حديثًا طويلًا، فلما أصبحتُ غدوتُ إلى ابن عباس لأتنجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فساق الحديث، قال ابن كثير في تاريخه بعد أن ساقه: هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائي وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث يزيد بن هارون، والأشبه والله أعلم أنه موقوف، وكونه مرفوعًا فيه نظر، وغالبه متلقًى من الإسرائيليات، ثم قال: وفي بعض ما فيه نظر ونكارة، والأغلب أنه من كلام كعب الأحبار، وقد سمعتُ شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك، والله أعلم.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


ابوالوليد المسلم 08-02-2025 01:01 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (4)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





بعد أن قضى موسى الأجلَ الذي التزم به وأدَّاه على أكمل وجه، ألهمه الله عز وجل أن يتَّجه بأهله نحو مصر، وهو لا يعلم أن مراسيم السعادة تنتظره في الطريق، وأن الله عز وجل سيناديه ويكلِّمه ويناجيه بالوادي المقدس طوى، فسار بأهله ومعه قطيع من الغنم متجهًا إلى أرض مصر، وفي أثناء سيره مرَّت به ريح باردة في ليلة مظلمة، لم يتمكَّن معها من مواصلة السير؛ إذ اشتد بهم البرد، ولم يعرف اتجاه الطريق، وفجأة لاحتْ له نار أبصر عندها شجرة، فدخل عليه لذلك أُنسٌ ومسرَّةٌ، وقال لأهله: ﴿ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ﴾ [طه: 10] سأذهب إليها، لعلِّي أجد عندها من يرشدنا إلى الطريق السوي والصراط المستقيم، أو آتيكم منها بقطعةٍ من النار؛ لعلكم تستدفئون بها، والظاهر أن زوجته عليه السلام لم تُبصر هذه النار، وأن النار إنما تجلَّت لموسى وحده، كما يظهر أن موسى عليه السلام لم يعرف اسم المكان الذي رأى النار فيه، ولم يدرك أنه الوادي الْمُقدس طوى، وأنه سيجد عنده أعظم الهدى، وما إن اقترب موسى عليه السلام من النار وبيده عصا حتى ﴿ نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ ﴾ [القصص: 30]، أي: من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب ﴿ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ [القصص: 30] ﴿ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 8] ﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾ [طه: 12] ﴿ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النمل: 9] ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ [طه: 14 - 16].

وبعد أن توَّج الله عز وجل موسى عليه السلام بمراسيمِ السعادة سأله وهو العليم الخبير عمَّا بيده، ليدخل عليه الأنسَ وليثبت قلبه، وليُظهر له معجزة تبين له أن الله تعالى سيؤيِّده وينصره ويجعل العاقبة الحميدة له ولمن آمن به، فقال عز وجل: ﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ ﴾ [طه: 17، 18]، ولم يقف موسى في الجواب إلى هذا الحدِّ، فأخذ يبيِّن بعض منافع عصاه زيادة في طول لذَّةِ المناجاة، فقال: ﴿ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ﴾ [طه: 18]، ثم قال: ﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ﴾ [طه: 18]؛ لعله يسأله عن هذه المآرب والمقاصد، فيزداد لذَّةً، وتطولُ لذَّةُ المناجاة؛ فالحبيب يودُّ ألا ينقطع عنه صوت حبيبه على حد قول الشاعر:
ولا حُسْنَ إلا من سَمَاعِ حديثِكُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مشافهةً يُمْلَى عَليَّ فَأَنْقلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وعلى حد قول الشاعر الآخر:
وكنتُ إذا ما جئتُ سعدى أزورها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أرى الأرضَ تطْوَى لي، ويَدْنُو بعيدُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
من الخفراتِ البيضِ ودَّ جليسها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا ما انقضَتْ أحدوثةٌ لو تعيدُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ولله المثلُ الأعلى، فأمره الله عز وجل بإلقاء العصا على الأرض، فألقاها فإذا هي حيَّة تسير على بطنها في غاية السرعة كأنها جانٌّ، فلما رآها موسى عليه السلام وهي تهتزُّ وتتحرَّك مسرعة ولَّى مدبرًا، ولم ينتظر من شدة الخوف، فناداه الله عز وجل: ﴿ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 10]، وقال له: ﴿ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ﴾ [طه: 21]، فأخذها، فعادت في يده عصا كما كانت أوَّل مرة.

ثم أمره الله عز وجل أن يُدخل يدَه في جيبه، أي: في طوق قميصه فأدخلها، فلما أخرجها إذا هي بيضاء من غير برَص ولا مرض، مع أن موسى عليه السلام كان أسمر اللون آدم، فهذه آية أخرى.

وأمره الله عز وجل بالذهاب إلى فرعون الطاغية الذي يقول لقومه: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، ويطالبه وقومه بإخلاص العبادة لله وحده، وأن يُسلمه بني إسرائيل، ويخلصهم من العذاب المهين، وطلب منه أن يتلطَّفَ في دعوة فرعون إلى الله، وأن يقول: ﴿ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]، فطلب موسى عليه السلام من ربِّه أن يشرح له صدره، وأن يُيسِّر له أمره، وأن يحلل له عقدة من لسانه ليفقهوا قوله، وأن يُرسل معه هارون أخاه ليَشُدَّ به أزرَه ويُشركه في أمره؛ لأنَّ هارون بن عمران عليه السلام مشهور بالفصاحة بين قومه، فأجابه الله عز وجل لذلك كله، وبيَّن له أن منَّة الله عليه عظيمة، وليست هذه أول منة، وذكَّره بمنة أخرى عند ولادته؛ إذ أوحى إلى أمِّه أن تلقيه في اليَم ليلتقطه آلُ فرعون ويُربَّى في حِجر عدوه، الذي يصونه ويرعاه مع أنه لا يفتأ يذبح أبناء بني إسرائيل.

وقد ذكر موسى عليه السلام أنه يخاف من فرعون أن يقتله بالقبطي، فطمأنه الله عز وجل وعرَّفه أنه سيجعل له سلطانًا، فلا يتمكَّن فرعون من قتله، وقال له: ﴿ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 46، 47].

وقد وصف الله تبارك وتعالى مجيء موسى إلى الوادي المقدَّس طُوى، وحدَّد المكان الذي تمَّت فيه المناجاة، وذكر ما ناجى به موسى عليه السلام في مواضع مِن القرآن العظيم ليُثبت بذلك فؤاد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وليكون آية بيِّنة للعرب والعجم أن محمدًا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من قومه يعرف هذه الأخبار الدقيقة الصادقة، وهو الأُمِّيُّ في القوم الأميين، فلم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بجانب الغربي إذ قَضى الله إلى موسى الأمر، وما كان من الشاهدين، وما كان بجانب الطور إذ نادى موسى عليه السلام، ولكنها رحمة من الله للبشير النذير ولمن آمن به إلى يوم القيامة.

وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى في سورة مريم: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ﴾ [مريم: 51 - 53].

ويقول عز وجل في سورة طه: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴾ [طه: 9 - 37].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته




ابوالوليد المسلم 08-02-2025 01:02 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (5)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



نتابعُ في هذا الفصلِ ما ذكره اللهُ عزَّ وجلَّ في سورة طه عن قصة مجيء موسى عليه السلام إلى الوادي المقدَّس طوى، ومناجاةِ الله عز وجل له ومِنَّتِه عليه حيث يقول: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [طه: 37 - 48].

ويقول عز وجل في سورة الشعراء: ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الشعراء: 10 - 17].

ويقول عز وجل في سورة النمل: ﴿ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [النمل: 7 - 12].

وقال تعالى في سورة القصص: ﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ [القصص: 29 - 35].

وقال عز وجل في سورة النازعات: ﴿ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 15 - 19].

وقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 40]، أي: إن توجهك من أرض مَدْين إلى أرض مصر ليناديك ربك ويناجيك بالوادي المقدس كان أمرًا مَقدورًا قضاه الله عز وجل، فحركك ووجهك وألهمك لتجيء البقعة المباركة وفق ما قضاه الله في الأزل وقدَّره قبل خلق السماوات والأرض، فكل شيء عنده بمقدار، وهو ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9]، وقوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النمل: 11] الاستثناء فيه منقطع بمعنى: لكن، والجملة اعتراضية لبيان فضل الله تعالى على خلقه، وأنه يعفو عن السيئات ويغفر ﴿ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82]، فلا يحل لأحد أن ييئس من رحمة الله، ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].

وفي قوله تعالى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [مريم: 52]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 11]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى ﴾ [الشعراء: 10]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النمل: 8، 9]، وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [القصص: 30]، وقوله تعالى: ﴿ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾ [النازعات: 16]، وقوله تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، وقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 253].

في هذه الآيات المباركات دليلٌ قطعيٌّ على إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وأنه يتكلَّم متى شاء وأنَّى شاء، وأن الله عز وجل جعل موسى عليه السلام كليمَه كما جعل إبراهيم ومحمدًا عليه السلام خليلين، وقوله تعالى: ﴿ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ [القصص: 30]؛ أي: إن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة كما تقول: سمعت كلام زيد من البيت، فقولك: من البيت ابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، فكذلك ليست الشجرة هي المتكلمة، بل سمع موسى كلامَ الله من عند الشجرة؛ إذ ليست الشجرة هي القائلة: ﴿ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [القصص: 30]، بل قائل ذلك هو رب العالمين.

وقوله ﴿ إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ﴾ [طه: 145]، معنى ﴿ يَفْرُطَ عَلَيْنَا ﴾؛ أي: أن يعجِّلَ بعقوبتنا قبل سماع قولنا، وقوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ ﴾ [القصص: 29]، أي: أتمَّه وأدَّاه ووفَّاه، فإن "قضى" قد تستعمل بمعنى أدَّى ووفَّى، ومنه قول الشاعر:
قَضَى كُلُّ ذي دينٍ فوفَّى غريمَه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَعزَّة ُ مَمْطُول مُعنَّى غَريِمُهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وقوله تعالى: ﴿ كَأَنَّهَا جَانٌّ ﴾ [القصص: 31]؛ أي: صارت العصا شبيهة بالجان؛ وهي حية بيضاء أكحل العين سريعة الحركة.

وقوله تعالى: ﴿ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ﴾ [القصص: 32]؛ أي: وَضَعْ يدك على صدرك؛ ليزول ما بك من الرُّعب والفزع، والخوف الذي أصابك.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


ابوالوليد المسلم 08-02-2025 01:03 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (6)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



أرشدَ الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام أن يبرز إلى فرعونَ آيةَ العصا وآية اليد، ولما وصل موسى عليه السلام إلى مصر وانضمَّ إليه أخوه هارون بن عمران عليه السلام توجَّها إلى فرعون، وطلبا منه أن يُخلص العبادةَ لله وحده، وأخبراه أنهما رسولا رب العالمين، وقال له موسى عليه السلام: ﴿ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 18، 19] وتسعد في الدنيا والآخرة؟ ﴿ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [الأعراف: 105]، و﴿ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [طه: 47] ومعجزة ظاهرة قاهرة، فآمن بالله، وأرسِل معنا بني إسرائيل، قال فرعون: ﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾ [الشعراء: 18] عديدة، ﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ﴾ [الشعراء: 19]، وأنت جاحد للنعمة التي أسديناها إليك، قال موسى عليه السلام: لقد فعلتها وأنا غير قاصد، فلم أُرِدْ قتلَ القبطي عندما وَكَزْتُه، ولعلمي أنكم لن تحكموا في هذه القضية بالحقِّ فررتُ منكم لأني خفتكم ﴿ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: 21]، ولقد أُوحي إلينا يا فرعون أن العذاب على من كذَّب بآيات الله وأعرض عن دِين الله وكذَّب المرسلين، ولا تتكبَّروا على الله رب العالمين، ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 23]، قال موسى عليه السلام: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ [الشعراء: 24]، إن كان هناك شيءٌ يُوقن به فهو رب السماوات والأرض لظهور برهانه وبلوغ حجَّته، وهو الذي خلق كل شيء، وأعطى كل شيء من خلقه ما يتميز به عن غيره، ثم هداه بما فطره فيه من الجبلَّة إلى مطعمه ومشربه وبقاء نسله وغير ذلك؛ فالدواب والطيور والأسماك تعرف مساربها، وقد أودعها الله عز وجل من آياته وآلائه ما لا يحيط به إلا الله عز وجل، ففي العالم آيات ساطعات وبراهين قاطعات تَشهد أنها من صنع رب العالمين، وقد أقام في كلِّ شيء من الكون آية؛ على حد قول الشاعر:
فيا عَجبًا كيفَ يُعصَى الإل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هُ أمْ كيفَ يجحدُه الجاحدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وفي كلِّ شيءٍ لهُ آيةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تدلُّ على أنه الواحدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ولو بذلنا ما في الأرضِ من محابرَ لنشرحَ آيات الله في الإنسان والسماوات والأرض وما بينهما، وجميع ما وصلت إليه المدارك الإنسانية - لعجزنا عن الوفاء بذلك؛ ولذلك اكتفى موسى عليه السلام بقوله لفرعون: ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50]، قال فرعون لمن حوله وقد انبهر: ألا تستمعون إلى ما يقول موسى في دعواه وجودَ إلهٍ غيري؟ قال موسى عليه السلام: الذي أرسلني وهو الذي خلق السماوات والأرض هو ﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الشعراء: 26]، قال فرعون لمن معه من ملئه مستهزئًا منقطعًا: ﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الشعراء: 27]، فأجابه موسى عليه السلام بأن الله الذي أرسلني هو ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الشعراء: 28] فسارِعوا إلى الإيمان به قبلَ أن ينزل بكم عقوبته، فاشتدَّ انقطاع فرعون عن المحاجَّة، ولجأ إلى التهديد بالسجن لموسى عليه السلام فقال: ﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29]، فلم يزدد موسى عليه السلام أمامَ هذا التهديد إلَّا نُصحًا فقال: أتسجنني، ولو جئتك بآية واضحة، وحُجة قاهرة على أني رسول الله رب العالمين؟! فازداد فرعون سفهًا وعُلوًّا، وقال لوزيره هامان: ﴿ فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا ﴾ [القصص: 38]؛ لأصعد عليه؛ لعلِّي أنظر إلى إله موسى وأكلمه إن كان صادقًا أن في السماء إلهًا، وأراد بذلك أن يموِّه على قومه، وأن يستخفَّهم حتى لا تتسرب إلى قلوبهم أنوار الحق الذي جاء به موسى عليه السلام، وقال له موسى عليه السلام: أتستمرُّ يا فرعون على تكذيبك، وإن ﴿ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 30]؟ قال فرعون: ﴿ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الشعراء: 31] فألقى موسى عصاه فإذا هي حيَّة تجري على بطنها، وتهتزُّ مسرعة كأنها جانٌّ، وصارت تتضخَّم وتكبُر، فكاد قلب فرعون ينخلع، ثم أدخل موسى يده في جيبه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء من غير برص ولا سوء، فقال فرعون وقومه: ﴿ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ﴾ [طه: 63]، وهذا السحر يدل على أنه سحر ساحر عليم.

وطلب ملأ فرعون مِن فرعون أن يبعث في المدائن رسلًا يجمعون السحرة من سائر أنحاء بلاد مصر؛ ليجيؤوا ويجتمعوا عند فرعون لمغالبة موسى عليه السلام، وقال فرعون وملؤه لموسى عليه السلام: ﴿ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ ﴾ [طه: 57، 58] في مكان متَّفَق عليه بيننا وبينك، قال موسى عليه السلام: ﴿ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ﴾ [طه: 59]؛ وهو يوم عيدهم الذي يتزيَّنون ويجتمعون فيه، وأن يكون الاجتماع بيننا وبينكم وقت الضحى.

وفي مجيء موسى عليه السلام وأخيه هارون عليه السلام إلى فرعون وتبليغهما له رسالة الله وما كان من فرعون وملئه مع موسى عليه السلام يتحدَّث القرآن العظيم في مواضع شتَّى فيقول الله عز وجل في سورة الأعراف وهو أصدق القائلين، وما يقصُّه هو أحسن القصص:
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ [الأعراف: 103 - 112].

ويقول عز وجل في سورة يونس: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ [يونس: 75 - 79].

وقال تعالى في سورة هود: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ [هود: 96، 97].

وقال تعالى في سورة طه عن موسى وهارون أنَّهما قالا لفرعون لما جاءا إليه: ﴿ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 47 - 54].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


ابوالوليد المسلم 08-02-2025 01:05 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (7)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد



نُتابِعُ في هذا الفصل إيرادَ ما ذكره الله عز وجل في سورة "طه" عمَّا دار بين موسى وفرعون، عند قيام موسى بدعوة فرعون إلى الله حيث يقول عز وجل في سياق ما استدلَّ به موسى عليه السلام على أن الله وحدَه هو رب كل شيء وسيده ومليكه، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى * وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [طه: 55 - 59].

وقال عز وجل في سورة الشعراء: ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 18 - 37].

ويقول تعالى في سورة النمل: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 13، 14].

ويقول عز وجل في سورة القصص: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 36 - 39].

وقال تعالى في سورة غافر: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 23 - 27].

وعندما أَظْهَر موسى هذا الالتجاءَ العظيم إلى الله وحده، سخَّر الله عز وجل له رجلًا مؤمنًا من آل فرعون يكتُم إيمانه، فبدأ في الدفاع عن موسى عليه السلام، وأخذ ينصح فرعون وملأه بضرورة المسارعة إلى طاعة موسى عليه السلام والدخول في دينه قبل أن يسلِّطَ اللهُ على المكذِّبين عقوبته التي ينزلها بالمكذبين، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 28 - 38].

وعندما وصل فرعون إلى هذه الدرجة من البغي والطغيان صرَّح الرجل وأعلنَ إيمانه: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 38 - 45].

وقال تعالى في سورة الزخرف: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ﴾ [الزخرف: 47].

وقال تعالى في سورة الدخان: ﴿ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ﴾ [الدخان: 18 - 21].

وقال تعالى في سورة الذاريات: ﴿ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 38، 39].

وقال تعالى في سورة النازعات: ﴿ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 20 - 24].





ابوالوليد المسلم 08-02-2025 01:06 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (8)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد







جَمَع فرعونُ مهرةَ السحرة من جميع مدائن مصر، وقد كان السِّحْر يومَها هو أهم أهداف التعليم في بلادهم، وقد كانوا بلغوا فيه مبلغًا لم يصِلْه أحدٌ من قبلهم، ولم يُعرف أنه وصل إليه أحدٌ من بعدهم، وقد جرَت السُّنَّة الإلهية في أن يبعث الله كلَّ نبيٍّ بمعجزة تفوق أعلى درجات العلم الذي برع فيه قومه؛ ليكون أظهر للحق، ويعرفوا أنه من عند الله، وأنه لا يقدر على مثله البشر؛ ولذلك أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وجعله معجزته الكبرى؛ لأنَّ قوم محمد صلى الله عليه وسلم قد برعوا في الفصاحة والبيان والبلاغة حتى أقاموا للخطباء والشعراء منابرَ في أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز.

وكما أرسل عيسى عليه السلام بإبراءِ الأكمَه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله؛ لأن قومه قد بلغوا في الطبِّ شأوًا لم يسبقوا إليه، وقد وصف الله تبارك وتعالى ما كان من موسى والسحرة ومن فرعون وملئه، وكيف سارع السحرةُ إلى الإيمان بموسى عليه السلام عندما ألقوا حبالهم وعصيَّهم، وخُيِّل إلى موسى عليه السلام أنها تَسعى، وأنه أوجس وأحسَّ في نفسه بالخوف، فطمأنَه الله عز وجل وأمره أن يُلقي عصاه، فانقلبت حيَّةً هائلة، وابتلعت جميع ما صنعوا، فأيقن السحرة أنَّ هذا لا يقدر عليه إلا الذي خلق القُوى والقدرة، فخرُّوا لله ساجدين معلِنين إيمانهم بالله ورسله، صابرين على كل بلاء يصيبهم في مرضاة الله عز وجل، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف:
﴿ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف: 113 - 126].

وقال تعالى في سورة يونس: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 80 - 82].

ويقول تعالى في سورة طه: ﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 60 - 73].

وقال تعالى في سورة الشعراء: ﴿ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 38 - 51].

وفي قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ﴾ [الأعراف: 115]، وقوله تعالى في سورة طه: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ﴾ [طه: 65]، إشعارٌ بأن الله إذا أراد إظهار حجته هيَّأ أسباب هذا الإظهار، ووفق موسى عليه السلام إلى أن يطلب منهم أن يكونوا هم البادئين بالإلقاء، حتى جاؤوا بهذا السِّحر العظيم الذي خوَّف الناس حتى موسى عليه السلام، ثم ألقى موسى عصاه وهي واحدة فانقلبت حيَّة هائلة تبتلع وتلقف جميعَ حبالهم وعصيهم التي انقلبت حيات تجري هنا وهناك، ليكون ذلك أتمَّ في باب إظهار هذه المعجزة القاضية على إفكهم وسحرهم وباطلهم.

وفي قوله تعالى: ﴿ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 119] إشعارٌ بما لَحِق فرعون وقومه من المهانة والذِّلَّة والصَّغَار عند ظهور هذه المعجزة.

وفي قوله تعالى: ﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾ [الشعراء: 46] إشعار بأنَّ هؤلاء السَّحرة قد سارعت إلى قلوبهم أنوارُ الحق، فلم يتردَّدوا في الانقياد لله، والإذعان لدينه والإيمان برسله، وقد خالطت بشاشةُ الحق شغافَ قلوبهم؛ لأنهم أعرف القوم بأن ما جاء به موسى ليس سحرًا.

وفي قوله تعالى: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾ [الأعراف: 123] إشعار بأنَّ فرعون أيقن أن ما جاء به موسى هو الحق من عند الله، غير أن شقوته جعلته يحاول الإبقاءَ على بعض سلطانه حتى في إيمان من يشرح الله صدره للإسلام.

وفي قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ﴾ [الأعراف: 123]، وفي قوله: ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ﴾ [طه: 71] إشعار بتخبُّط فرعون في إلصاقِ التُّهم بهؤلاء المؤمنين لتضليل قومه ومحاولة صرفهم عن هذا الحقِّ الأبلج، وما كيد فرعون إلَّا في ضلال.

ابوالوليد المسلم 08-02-2025 01:08 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (9)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى أن فرعونَ عندما رأى عصا موسى انقلبت حية وابتلعت ما قدمه السَّحَرة من السحر العظيم، وآمن السحرة بربِّ العالمين رب موسى وهارون ولم تؤثِّرْ فيهم تهديدات فرعون بقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ، وصَلْبِهم في جذوع النخل، وثباتهم على الحق وسؤالهم الله عز وجل أن يفرغ عليهم صبرًا؛ ليتحملوا كلَّ ألوان العذاب من فرعون في سبيل إيمانهم بالله - أيقن فرعون أن ما جاء به موسى عليه السلام حقٌّ لا مرية فيه، واستيقن هو وملؤه أن موسى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثر ذلك في نفس فرعون خوفًا من أن يصيب موسى بأذى، واكتفى بتهديد موسى ووعيده، ويظهر ذلك جليًّا في قوله: ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26]، فهل كان مربوطًا بحبل لا يتمكَّن بسببه من قتل موسى؟ لكنه التهديد الأجوف الدالُّ على أنه يحس أن موسى رسول الله، غير أنه وقومه أصروا على تشديد العذاب على بني إسرائيل، وازدادوا في تقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم، وصان الله موسى عليه السلام من أن تناله يدُ فرعون، كما صان محمدًا صلى الله عليه وسلم من أبي جهل ومَن معه من أن تنال أيديهم رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقد أوحى الله عز وجل إلى موسى وهارون أن يتبوَّأا لقومهما بمصر بيوتًا، وأن يجعلوا بيوتَهم قبلة، وأن يقيموا الصلاة، وأن يستمرَّ موسى عليه السلام في بشارة المؤمنين بنصر الله وتأييده، ولما أخذ فرعون يعلن عن تشديد العذاب المهين على بني إسرائيل وأنه لا بد من قهرهم، ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]، وقال قوم موسى له: أوذينا من قبل مجيئك بالرسالة ومن بعد مجيئك بها، قال لهم: ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 129].

ولقد بدأت بشائرُ نصر الله لموسى ومن معه مَن المؤمنين فسلَّط الله على آل فرعون الجَدْبَ والقحط ونقص الثَّمرات لعلهم يُفيقون من غَيِّهم وضلالهم، لكنهم بدل ذلك صاروا يزعمون أن هذا الذي أصابهم هو بسبب مجيء موسى لهم واطَّيروا به وبمن معه، وأجابهم موسى عليه السلام بأن سبب بلائهم هو كفرهم وتكذيبهم رسل الله، وزعموا مرة أخرى أن هذا الجَدْبَ والقحط من سحر موسى، وأنهم لن يؤمنوا به أبدًا، فسلَّط الله عليهم الطوفانَ، فغرقت مزارعهم وهلكت ثمارهم، ولما انتهى الطوفان وبدأت الأرض تؤتي ثمارها سلَّط عليهم الجراد، فأباد زروعهم وثمارهم، ثمَّ سلَّط عليهم القُمَّل وهو صغار الذر، والدَّبى الذي لا أجنحة له، أو شيء صغير بجناح أحمر، وشيء خبيث الرائحة، فصار هذا القُمَّلُ يخالطهم في جميع أحوالهم لا يلمسون شيئًا إلا وجدوه فيه، ثم سلط الله عليهم الضفادع، فملأت بيوتهم وطعامهم وشرابهم، ثم سلط الله عليهم الدم، فصاروا لا يتناولون شيئًا إلا وجدوه مغيَّرًا بالدم، وقد امتزجت به مياههم ومطاعمهم.

وقد كان من آيات الله عز وجل أن صان بني إسرائيل من كلِّ هذه العقوبات، ولما اشتدَّ هذا البلاء بفرعون وملئه: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الأعراف: 134]، لكنهم كانوا كلما كشف الله عنهم الضرَّ إذا هم ينكثون، ومع يقينهم بأن هذه آيات مفصلات من الله عز وجل جحدوا بها وضحكوا منها.

وقال فرعون لموسى: ﴿ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ﴾ [الإسراء: 101]، فقال له موسى: لقد علمت أن هذه الآيات التسع؛ وهي العصا واليد وما جاء بعدهما من السنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمَّل والضفادع والدم كلها من الله عز وجل لعلكم تهتدون ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 102]؛ أي: هالكًا بسبب كفرك وضلالك، ودعا موسى عليه السلام على فرعون وقومه فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ﴾ [يونس: 88]، فبدل أن يشكروك عليها استعملوها في الصدِّ عن سبيلك، ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ﴾؛ أي: أهلكها، ﴿ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾؛ أي: اطبع عليها ﴿ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88]، وقد بلغ موسى عليه السلام هذه الحال في الوقت الذي رأى فرعون أنه لا بد من إعلان الحرب على موسى، وأرسل فرعون في المدائن حاشرين، يجمعون العُدَّة والسلاح والرجالَ للقضاء على موسى وهارون ومن معهما من بني إسرائيل من المؤمنين باذلًا كلَّ ألوان الإغراء بهم.

وقد أوحى الله عز وجل إلى موسى أن يخرج من مصر ليلًا ببني إسرائيل مسرعين إلى سيناء، وأعلمه أن فرعون وجنوده سيتبعونهم، فسارع موسى عليه السلام إلى امتثال أمر ربه، فسرى ببني إسرائيل، ولما اجتمع جندُ فرعون سارعوا إلى اللحاق بموسى عليه السلام يقودهم فرعون عليه لعنة الله، فأتبعوهم مشرقين، أي: وقت شروق الشمس، وقد كان موسى عليه السلام ومن معه وصلوا إلى مكان عسير؛ فالبحر أمامهم والعدوُّ خلفهم والجبال عن يمينهم وشمالهم، ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ ﴾ جَمْع موسى وجَمْع فرعون ﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، أي: سيكون هلاكنا على يد فرعون وجنده هنا؛ لأنه لا مفرَّ لنا، فأجابهم موسى عليه السلام وقال لهم: كلا لن يدركونا، ولن يصلوا إلينا؛ لأن الله وعدني بذلك، وأراد موسى عليه السلام بذلك وعد الله له حيث أجابه عندما قال موسى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 45، 46]؛ ولذلك لما قال له أصحابه: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61] أجابهم بقوله: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62].

فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر، فضربَ موسى البحر بعصاه فانفلقَ، فكان كلُّ فِرق كالطَّود العظيم، أي: كالجبل العظيم، فجعل الله لهم بذلك طريقًا في البحر يبسًا لا يخاف دركًا ولا يخشى، وصار موسى ومن معه يمشون على أرض صلبة يابسة، على كلِّ جانب من جوانب طريقهم جدار من الماء كأنه صخرٌ منحوت، وعندما خرج موسى ومن معه من البحر أمره الله عز وجل أن يترك البحر ساكنًا حتى يدخل فيه فرعون وجنوده، فلما صار فرعون وجنوده في اليَم غشيهم من اليمِّ ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى، ولما أدركَه الغرق قال: ﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90]، فلم ينفعْه هذا الإيمان، ولم يخلصه من عذاب الله، ورمى البحر بجثته ليراها من بقي من قومه؛ ليعرفوا قدرة الله عليه، وكان ذلك في يوم عاشوراء.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.







ابوالوليد المسلم 08-02-2025 01:09 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (10)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




ذكرتُ في ختام الفصل السابق أن غرق فرعون ونجاة موسى عليه السلام كان في يوم عاشوراء؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟))، فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم))؛ فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه.

وقد ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم موقفَ فرعون وملئه من موسى عليه السلام وقومه بعد إيمان السَّحَرة في مواضع من كتابه الكريم؛ حيث يقول في سورة الأعراف:
﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾ [الأعراف: 127 - 137].

وقال تعالى في سورة يونس: ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 83 - 92].

وقال في سورة هود: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ﴾ [هود: 96 - 99].

وقال تعالى في سورة طه: ﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ﴾ [طه: 77 - 79].

وقال تعالى في سورة الشعراء: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 52 - 68].

وقال تعالى في سورة القصص: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ﴾ [القصص: 38 - 42].

وقال عز وجل في سورة الإسراء: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ﴾ [الإسراء: 101 - 103].

وقال تعالى في سورة الزخرف: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ﴾ [الزخرف: 46 - 56].

وقال تعالى في سورة القمر: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 41، 42]، إلى غير هذا من الآيات.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ابوالوليد المسلم 24-04-2025 04:44 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (11)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





بعدَ أن نجَّى الله تبارك وتعالى موسى وهارون وقومهما من الكَرب العظيم، وأغرق فرعون ومن معه من المُكذِّبين، وجاوز اللهُ ببني إسرائيل البحرَ - انتهت متاعب موسى مِن فرعون وقومه، وبدأت متاعبُ موسى وهارون من بني إسرائيل؛ إذ إنهم بعد أن رأوا آيةَ الله الكبرى في فَلْق البحر لهم وإغراق فرعون وجنوده وتمَّت كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا - لكنهم ما إن رأوا بعد أن جاوزوا البحر قومًا يعبدون أصنامًا لهم قد عكفوا عليها، حتى قال بعضهم لموسى عليه السلام: ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138]، فأجابهم موسى عليه السلام بأن هذا الطلب جهالة منكم، كيف نسيتم نعمة الله في إنجائكم من عدوِّكم وإغراقه، وأنتم حُدثاء عهد بها؟! إنكم لو كنتم تعلمون لازددتم إيمانًا بالله وحدَه وكفرتم بجميع ما سواه من الأصنام والأوثان والأنداد، ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 139]؛ أي: هالك فاسد، ومضمحل زائل لا يعود على أهله إلا بالشر ولا يجلبون منه خيرًا، فكلُّ عبادة لغير الله باطلة، ولا تصحُّ العبادة إلا لله وحدَه، والله أغنى الشركاء عن الشِّرك، فمَن أشرك معه غيره ردَّه وشركه وأحبط عمله، ﴿ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا ﴾ [الأعراف: 140]؟! أي: أأطلب لكم شيئًا تعبدونه غير الله؟! وهذا الاستفهام للإنكار والتعجُّب والتوبيخ، ثم بيَّن لهم موسى عليه السلام أن الله فضَّلهم على عالَمي زمانهم؛ إذ بعث إليهم رسولَه وكليمَه صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، فلا يليقُ ببعضهم أن يطلب معبودًا غير الله عز وجل ليشابه المشركين عَبَدَةَ الأصنام، ولم يكن كلُّ بني إسرائيل قد طلب إلهًا آخر، وإنما هو طلبُ بعض جَهَلَتِهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 138 - 140].

وقد ذكر كثيرٌ من المفسرين وعلماء السيرة النبويَّة خبرًا من طريق مَعْمَر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حُنين، فمررنا بسدرة فقلت: يا نبي الله، اجعل لنا ذاتَ أنواط كما للكفار ذاتُ أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر! هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، وإنكم تركبون سنن من كان قبلكم))، قال ابن كثير في تفسيره: أورده ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعًا؛ اهـ.

قلت: "قال الحافظ ابن حجر في التقريب: كثير بن عبدالله بن عمرو المزني المدني ضعيف من السابعة، منهم من نسبه إلى الكذب"؛ اهـ.

فإن صحَّ هذا الخبرُ حُمل على أنه قول واحد من حُدثاء العهد بالجاهلية كما جاء مصرَّحًا به في رواية عن أبي واقد الليثي، قالوا: وقد كان لكفَّار قريش ومن سواهم من العرب شجرةٌ عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنواط، يأتونها كلَّ سنة، فيُعلِّقون عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يومًا.

قال أبو بكر الطرطوشي المالكي: فانظروا - رحمكم الله - أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويُعظِّمُونها، ويرجون البرءَ والشفاء من قبلها، ويضربون بها المساميرَ والخرقَ فاقطعوها.

هذا، وقد كان موسى عليه السلام عندما بعثه الله إلى فرعون إنما بعثه بأصول الدين من التوحيد وإقامة الصلاة لذكر الله ووجوب الإيمان بالبعث بعد الموت، ولم يكن قد أنزل عليه التوراة، فلما انتهت مهمَّة موسى عليه السلام الخاصة بفرعون وملئه، وأغرق الله فرعونَ وجنده، وخلص موسى إلى سيناء وصار مختصًّا ببني إسرائيل، وهُم في حاجة ماسَّة إلى نظام يشمل حوائجهم في معاشهم ومعادهم، هيَّأ الله عز وجل موسى عليه السلام ليُلقي عليه التوراةَ المشتملة على الأحكام التي تسلك بأهلها صراط الله المستقيم، وحالة موسى عليه السلام هذه تشبه حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته النبويَّة قبلَ الهجرة وبعدها، فإنَّ القرآنَ المكيَّ كان ينزل لتقرير التوحيد والرسالة والإيمان بالبعث بعد الموت، أما القرآنُ المدنيُّ فإنه زيادة على ذلك جاء بتقرير نظام الدولة الإسلامية والمجتمع السعيد، وما يحتاج كلُّ فردٍ لصلاح معاشِه ومعادِه.

ولذلكَ ساقَ القرآنُ العظيم ما أوصى الله به موسى عليه السلام عندما بعثه بالتوحيد والصلاة والإيمان بالبعث بعد الموت؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ [طه: 11 - 16]، وقال عز وجل: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 17 - 19].

ولمَّا أغرق الله فرعونَ ونجَّى بني إسرائيل صار لموسى عليه السلام دولة، فهو في حاجة إلى النظام الشامل، والنور الذي يسلكه؛ ليهتدي به هو والمؤمنون إلى الصراط المستقيم، وقد واعده الله تعالى أربعين ليلة يتهيَّأ فيها لتلقِّي الشريعة، وقد سأله بعضُ قومه من المتعنِّتين المتنطِّعين أن يُريهم اللهَ جهرةً، وأن يسأل ربَّه ذلك، وعندما جاء الميقات قال موسى لأخيه هارون: "أنت خليفتي على بني إسرائيل فأصلح أمورهم، ولْتَكُن سياستُك لهم سياسة رشيدة، واحذر دُعاة الضلالة المفسدين في الأرض"، وما إن انطلق موسى عليه السلام لتلقِّي الشريعة عند الطور حتى أضلَّ السامريُّ بني إسرائيل، فصنع لهم عجلًا من الذَّهب له خُوار؛ أي: صوت يُسمع وصلصلة شبيهة بصوت الثور، وقال لهم: ﴿ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ﴾ [طه: 88]، فعبده جلَّةٌ من بني إسرائيل، وحاول هارون عليه السلام صَرْفَهم عن عبادة العجل، وكان اللينُ يغلب عليه صلى الله عليه وسلم، وخشي إذا شدَّد عليهم أن يتفرَّقوا، وقد بارزه عُبَّادُ العجل العداوةَ، وكادوا يقتلونه عندما كان يُحذِّرهم من عبادة العجل، ولم يكن مأذونًا له في قتالهم، فانتظر مجيء موسى عليه السلام بالشريعة من عند الله.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





ابوالوليد المسلم 01-05-2025 01:37 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (12)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد





عندما جاء موسى لميقاتِ ربِّه، وقد اختار من قومه سبعين رجلًا لهذا الميقات، فلمَّا انتهوا إلى الجبل ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، قال موسى: ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ﴾ [الأعراف: 143]، فإن كان هذا الطور لا ينهدُّ إذا تجلَّى اللهُ له، فإنك تقدر على رؤيتي، وأرادَ الله عز وجل أن يضرب لموسى وغيره مثلًا على أن الله عز وجل قد احتجَبَ بالنُّور عن خلقه؛ لأنهم لم يُهيَّؤوا في هذه الحياة الدنيا لرؤية الله، وإنما يرونه إذا ماتوا على الإيمان في الدار الآخرة، فإن المؤمنين لن يروا ربهم حتى يموتوا، وحجابه النور أو النار، لو كَشَفَهَ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

وقد زعم بعض أهل الأهواء أن قوله تعالى: ﴿ قَالَ لَنْ تَرَانِي ﴾ دليلٌ على استحالة الرؤية؛ بدعوة أن (لن) تفيد تأبيد النَّفي، وجهلوا أن الله عز وجل قال في اليهود: ﴿ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 94]، ثم قال: ﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [البقرة: 95] مع أنهم يتمنون الموت وهم في جهنم؛ إذ ينادون مع نظرائهم من الكفار: ﴿ يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ [الزخرف: 77]، ولمَّا تجلَّى الله تعالى للجبل ﴿ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾؛ أي: مدكوكًا مستويًا بالأرض ﴿ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]، ولمَّا رأى موسى عليه السلام أن السبعين الذين معه لا يزالون في صعقتهم دعا الله عز وجل أن يكشف عنهم، واعتذر إلى الله عز وجل بأنه أرادَ أن يقطع شبهة هؤلاء السفهاء الذين سألوه أن يريهم ربهم جهرةً، وقد أجاب الله تعالى دعوة موسى عليه السلام، وأفاق السبعون من صعقتهم، وقال الحق لموسى عليه السلام: ﴿ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ﴾ [الأعراف: 144]، وأعطاه الألواح، وقد كتب له فيها من كل شيء ﴿ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 145] يحتاجه بنو إسرائيل في معاشهم ومعادهم، وقد كان موسى عليه السلام عندما أقبلَ على مكان المناجاة سارعَ إلى جانب الطور الأيمن، فسبق السبعين الذي كانوا معه، فقال له العليم الخبير: ﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 83، 84].

ومن ثمرات هذا السؤال والجواب تقريرُ أن المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إلى مرضاة الله من الأمور المحبوبة شرعًا، وليس في كل عجلة ندامة، وبعد أن أعطى الله تعالى موسى التوراةَ أخبره أن قومه عبدوا عجلًا صنعه لهم السامريُّ، فرجع موسى بالتوراة إلى قومه غضبانَ حزينًا على ما فعله قومه، وأخذ يؤنِّبهم ويوبِّخهم على عبادة العجل، وقال لهم: ﴿ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ﴾ [الأعراف: 150]، ﴿ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ﴾ [طه: 86]؟! بإنزال التوراة نورًا لكم، أفطالت غيبتي عليكم أم أحببتم أن ينزل بكم غضبٌ من ربكم فأخلفتم وعدكم إياي بالثبات على الإيمان وإخلاص العبادة لله وحدَه، وكأنَّكم استعجلتم عقوبة الله؟! فحاولوا الاعتذارَ بأنهم ما قدروا على ردِّ ضلال السامري، فإنه سوَّل لهم ما سوَّل، وغَلَبَ على عقولهم، وزعم لهم أنه إله موسى، وأن موسى نسيَ أنه ربُّه، فذهب يطلب ربَّه عند الجبل، وكان هارون عليه السلام قد حذَّر قومه من عبادة العجل وكان قد قال لهم: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ [طه: 90 - 93]، بأن تقضي على سبيل المفسدين، وقد بلغ الغضبُ بموسى عليه السلام مبلغًا، فألقى الألواحَ وأخذَ برأس أخيه هارون ولحيته يجرُّه إليه، فقال هارون: ﴿ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 150]، وقال هارون عليه السلام لموسى صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [طه: 94].

وأراد عليه السلام استعطافَ موسى بقوله: يا ابن أم، مع أنه أخوه لأبيه وأمه، وهذا شبيه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيَّ بعدي))؛ إذ الرابطة بينهما الإسلام، وفاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حاول بعضُ أهل الأهواء أن يستدلوا بهذا الحديث على أن عليًّا رضي الله عنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاستدلال باطل من وجوه، منها: أن هارونَ مات قبل موسى، ولم يكن خليفةً من بعده، بل الذي كان خليفة بعد موسى هو يُوشعُ بن نون، ومنها أن هذا الحديث ليس نصًّا في كون عليٍّ رضي الله عنه هو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبب الحديث يوضح مرادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خلَّف عليًّا رضي الله عنه في المدينة المنورة حينما أراد الذهاب إلى تبوك قال بعض المنافقين في المدينة: إنما خلَّف عليًّا لأنه يستثقلُه ولا يحبُّه، فلما علم عليٌّ رضي الله عنه بذلك أخذ سيفَه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف، وأخبره بقول المنافقين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَا تَرْضَى أن تكونَ منِّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيَّ بعدي))، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يُبيِّن لعلي رضي الله عنه أن استخلافه على المدينة كاستخلاف موسى لهارون حينما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه، ولم يكن استخلاف موسى لهارون عن البغض أو الاستثقال له كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما أن الحنان الذي يحسُّ به موسى لهارون فيه معنى يوجدُ شبيهه بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين علي رضي الله عنه؛ إذ إن فاطمةَ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحته، وحنو رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وعلى زوجها وبنيها لا يحتاج إلى دليلٍ.

وبعد أن سكت عن موسى الغضب أخذ الألواحَ وفي نسختها - أَيْ في نصِّها وجُملتها وتعاليمها - هدًى ورحمةً للذين يخافون الله عز وجل، ويهتدون بما أنزل من الكتاب، وفي مواعدة موسى لإعطائه التوراةَ واختيار سبعين رجلًا للذهاب معه، واستخلاف موسى هارونَ على بني إسرائيل مدةَ غيبته هذه، ووصايا موسى لهارون عليه السلام، وعبادة بعض بني إسرائيل للعجل الذي أضلَّهم به السامري، وسؤال موسى عليه السلام ربَّه أن ينظرَ إليه، وجواب الله عز وجل له، وصعقة موسى والسبعين الذين معه، وانْدِكَاك الجبل لما تجلَّى الله للجبل، وإخبار الله عز وجل موسى أن قومه عبدوا العجل من بعده، ورجوعه عليه السلام إلى قومه غضبان أسفًا، وأخذ موسى بلحية أخيه هارون ورأسه يجرُّه إليه، وفي اعتذار هارون واستعطافه، وما عاقب به موسى عليه السلام السامريَّ الذي صنعَ العجل، وما فعل موسى عليه السلام بعجل السامريِّ؛ من تحريقِه ونَسْفِه وتذريتِه في البحر - في هذا كلِّه أَنْزَلَ الله عز وجل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ذِكْرَ ذلك في كتابه الكريم في مواضع من الذكر الحكيم.

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





ابوالوليد المسلم 13-05-2025 03:19 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (13)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد




أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى أن الله تبارك وتعالى ذكر في مواضع من كتابه الكريم قصة مواعدته موسى عليه السلام لإعطائه التوراة واختيار سبعين رجلًا من بني إسرائيل ليذهبوا مع موسى عليه السلام، وما حدث لموسى وللذين معه من الصَّعق، وما كان من عبادة قومه للعجل من بعد ذهابه لتلقِّي التوراة، ورجوعه إلى قومه غضبان أسفًا، وما كان بين موسى وهارون في ذلك، وعقوبة السامري، وتحريق العجل ونسفه في اليم، ففي سورة البقرة يقول الله عز وجل:
﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 51 - 56].

ويقول في نفس السورة: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 92، 93].

ويقول تبارك وتعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ * سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ * وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 142 - 155].

ويقول تعالى في سورة طه: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى * وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 80 - 98].

ويقول عز وجل في سورة القصص: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 43 - 46].

هذا، وقد قصَّ الله تبارك وتعالى كثيرًا مما لَقِيَه موسى عليه السلام من بني إسرائيل من الأذى والتنطُّع والتشدُّد؛ كعدم رضاهم بالمَنِّ والسَلْوى، وطلبهم بدلها بُقولًا وثومًا وقثاءً، وعدسًا وبصلًا، وكقولهم لما رأوا موسى عليه السلام حييًّا ستِّيرًا لا يُرى من جلده شيء استحياءً، فآذاه من آذاه منهم بقولهم فيه: ما يستتر هذا التستر إلا مِنْ عيبٍ بجِلْدِه، إما برص وإما أدرة وإما آفة، ﴿ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ابوالوليد المسلم 13-05-2025 04:09 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (14)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد

أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى بعض ما لقيه موسى عليه السلام وأخوه هارون صلى الله عليه وسلم من تنطُّع بني إسرائيل وأذاهم، حتى قال موسى عليه السلام كما حكى الله عز وجل ذلك: ﴿ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].

وقد روى البخاري ومسلم، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا فقال رجل: إن هذه لَقِسْمةٌ ما أُريد بها وجه الله، فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، فغضب، حتى رأيت الغضبَ في وجهه، ثم قال: ((يرحمُ اللهُ موسى قد أُوذي بأكثر من هذا فَصَبر)).

كما روى البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن موسى كان رجلًا حييًّا ستِّيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه مَن آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا مِن عيب بجلده؛ إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرِّئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحدَه، فوضع ثيابه على الحَجَرِ، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذَها، وإنَّ الحجرَ عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجرَ، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأٍ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون، وقام الحجرُ، فأخذ ثوبَه فلَبِسَه، وطَفِقَ بالحجَرِ ضربًا بعصاه، فوالله إنَّ بالحجر لندبًا من أثر ضربِه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69])).

ومن أمثلة شُحِّ نفوسِهم، أنهم لما استسقى موسى لهم أمره الله عز وجل أن يضربَ بعصاه الحجرَ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا بِعَددِ أسباطهم، ولو كانوا أهل إحسان وتراحم لَكَفَتْهُم عينٌ واحدة، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [البقرة: 60].

وكما قال عز وجل: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 160]، ومن أمثلة تعنُّتِهم أنهم قد امتنَّ الله عليهم بالمَنِّ والسلوى طعامين شهيين بلا كُلفة ولا مشقة، فما رعوها حقَّ رعايتها، والسلوى طير شهي الطعم سمين، والمَنُّ شبيه بعسل النحل، يجدونهما عند رؤوسهما في الصباح والمساء، ومع ذلك قالوا لموسى عليه السلام: لن نصبر على طعام واحدٍ، نريدُ بقلًا وقثاءً وثومًا وعدسًا وبصلًا، فأجابهم عليه السلام: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة: 61].

وقد اغتنم موسى عليه السلام فرصةَ حرصهم على البقول والقثاء والثوم والعدس والبصل، فأمرَهم أن يدخلوا بيت المقدس ليطهِّروه من الكافرين، فقالوا: إنَّ فيها قومًا جبارين، وإنا لن ندخلها ما داموا فيها، وقالوا لموسى: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، وهذا من أبرزِ أمثلة جُبْنِهم وذِلَّتِهم، حتى ورث هذا الجبن مِن بعدهم ذُرِّيَّاتهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحشر: 14].

ولم يزلْ هذا الخُلق الذميم تمتلئ به جوانحهم إلى اليوم، وهم لم ينتصروا على المسلمين ويحتلوا بيت المقدس في عصرنا بشجاعتهم، وإنما بذنوبنا وتفرُّق كلمتنا وحَبْلٍ من الناس، فإنه إذا عصى الله مَن يعرفه سلَّطَ عليه من لا يعرفه، وفي امتناع بني إسرائيل عن دخول الأرض المقدسة وعصيانهم لموسى عليه السلام يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [البقرة: 58، 59].

وقوله تعالى: ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ [البقرة: 59]؛ أي: بدل أن يقولوا: حطَّة، قالوا: حبةٌ في شعرة، وقالوا: حِنْطَة، ودخلوا يزحفون على أستاههم بدل أن يدخلوا الباب ساجدين، وكما قال عز وجل: ﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 161، 162].

وكما قال عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 20 - 25].

وقد عاقبهم اللهُ عز وجل على هذا العصيانِ بالتِّيه في الصحراءِ أربعين سنةً؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 26].

ومن أمثلة تنطُّعهم أنهم لما قَتل واحدٌ منهم نفسًا، وتدافعوا وتخاصموا فيمن قتلها؛ حيث لم يُعرف القاتل، أمرهم موسى عليه السلام بذبح بقرة بأمر من الله عز وجل، فكان أولُ ردٍّ منهم على موسى كليم الله أن يقولوا: أتستهزئ بنا؟ فلمَّا عرفهم أن الاستهزاء بالناس جهلٌ لا يليق بعبدٍ صالحٍ، قالوا: ما سنُّها؟ فأجابهم موسى عليه السلام: ﴿ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 68]، وحضَّهم على المسارعة إلى الامتثال، فتنطَّعوا وقالوا: ما لونها؟ فأجابهم بأنها ﴿ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ [البقرة: 69]، فتنطَّعوا وقالوا: بيِّن لنا ما هي؟ أسائمة أم عاملة؟ إن البقر تشابه علينا، فأجابهم موسى عليه السلام بأنها ﴿ بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ ﴾ [البقرة: 71]، أي: غير مذلَّلة بالعمل، فلا تنفع لحرث الأرض ولا لسقي الزرع، خاليةٌ من العيوب واختلاط الألوان، وهنا انقطعوا وكادوا يعجزون عن الحصول عليها، ولو أنهم عندما أمرهم أول مرة سارعوا فذبحوا أيَّ بقرة لكفتهم.

وفي قصة بقرة بني إسرائيل يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 67 - 73].

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





ابوالوليد المسلم 13-05-2025 04:10 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (15)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد

روى البخاريُّ ومسلمٌ، واللفظ للبخاري، من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل إنما هو موسى آخر، فقال: كذب عدوُّ الله، حدثنا أُبيُّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئل: أيُّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه؛ إذ لم يرد العلم إليه، فقال له: بلى، لي عبدٌ بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: أي رب، ومن لي به؟ قال: تأخذ حوتًا فتجعله في مكتل، حيثما فقدت الحوت فهو ثَمَّ، وأخذ حوتًا فجعله في مكتل، ثم انطلق هو وفتاه يُوشع بن نون حتى أتيا الصخرة، ووضعا رؤوسهما، فرَقَدَ موسى واضطرب الحوت، فخرج فسقط في البحر ﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ﴾ [الكهف: 61] فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق، فانطلقا يمشيان بقيَّة ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد ﴿ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ [الكهف: 62]، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز حيث أمره الله، قال له فتاه: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴾ [الكهف: 63]، فكان للحوت سربًا ولهما عجبًا، قال له موسى: ﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾ [الكهف: 64]، رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجًّى بثوب، فسلَّم موسى فردَّ عليه فقال: وأنى بأرضك السلام؟! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني ﴿ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66]، قال: يا موسى، إني على علم من علم الله، علَّمَنِيه الله لا تعلمُه، وأنت على علم من علم الله علَّمَكَه الله لا أعلمُه، قال: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 66 - 68] إلى قوله: ﴿ أَمْرًا ﴾، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، كلَّموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نولٍ، فلما ركِبا في السفينة جاء عصفورٌ فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، قال له الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر؛ إذ أخذ الفأس فنزع لوحًا، قال: فلم يفجأ موسى إلا وقد قلع لوحًا بالقدوم، فقال له موسى: ما صنعت؟! قومٌ حملونا بغير نولٍ عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ﴿ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾ [الكهف: 71 - 73]، فكانت الأولى من موسى نسيانًا.

فلما خرجا من البحر مرُّوا بغلام يلعبُ مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فقلعه بيده هكذا كأنه يقطف شيئًا، فقال له موسى: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ﴾ [الكهف: 74 - 76] مائلًا، أَوْمَأَ بيدِه هكذا كأنه يمسَحُ شيئًا إلى فوق، قال: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا عمدت إلى حائطهم ﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 77، 78]، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَدِدْنا أنَّ موسى كان صبر، فقصَّ الله علينا من خبرهما))، وفي لفظ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يرحمُ اللهُ موسَى، لو كان صبر يُقصُّ علينا من أمرهما)).

ثم سَاقَ البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما سُمِّي الخضر؛ أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتزُّ من خلفه خضراء)).

وقد سَاقَ الله عز وجل قصةَ موسى مع الخضر عليه السلام في محكم كتابه حيث يقول في سورة الكهف:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 60 - 81].

هذا، وقد فُتِن كثيرٌ من الصوفية، فادَّعوا لأنفسهم علمًا إلهيًّا غير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمُّونه "العلم اللَّدُنِّي"، وهذا برهانٌ قاطع على جهلهم بشريعة الله، واللغة العربية؛ فإن قولهم "العلم اللدني" لا معنى له في اللغة العربية، وهم لجهلهم بها وانحرافهم عن دين الإسلام يحسبون أن قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ يدل على علم غير شرعي، وينحتون له هذا الاسم، وهو فهم عاطل باطل فاسد كاسد، فإن قوله تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ معناه: أعطينَاه علمًا من عندنا، والعلم الذي أعطاه الله تعالى للخضر هو علم شرعيٌّ آتاه الله الخضر عليه السلام واختصَّه به؛ ولذلك قال الخضر لموسى عليه السلام: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾.

ولا تدلُّ هذه القصة على أن الخضر أفضل من موسى؛ إذ لا شك عند أحد ينتمي للعلم في أن موسى هو من أكابر أولي العزم من المرسلين، وإعطاء الخضر علمًا خاصًّا به وهو ليس من أتباع موسى عليه السلام لا يدلُّ على أنه أفضل من موسى؛ فالمزية لا تنافي الأفضلية، كما ذكرت في فصول سابقة.

وقد ذكرَ الله تبارك وتعالى موسى في مقاماتٍ كثيرة يُنوِّه فيها بفضله؛ كقوله تعالى وهو يذكر جملةً من الأنبياء والمرسلين: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 163، 164].

وكقوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 253].

وكقوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144].

وكقوله تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].





ابوالوليد المسلم 13-05-2025 04:12 PM

رد: موسى عليه السلام
 
موسى عليه السلام (16)

الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد

استمرَّ موسى عليه السلام في نَشْرِ النور والهدى الذي أنزله الله تعالى عليه في التوراة، يعاونُه هارون عليه السلام، إلى أن قبض الله عز وجل هارون عليه السلام في حياة أخيه موسى عليه السلام وَهُما في التِّيه مع بني إسرائيل.

وقد حجَّ موسى عليه الصلاة والسلام إلى البيت العتيق في مكة المكرمة؛ فقد روى مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بوادي الأزرق فقال: ((أيُّ وادٍ هذا؟))، قالوا: وادي الأزرق، قال: ((كأنِّي أنظر إلى موسى وهو هابط من الثنية، وله جؤارٌ إلى الله عز وجل بالتلبية))، حتى أتى على ثنية هرشاء فقال: ((أي ثنية هذه؟))، قالوا: هذه ثنية هرشاء، قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء، عليه جُبَّةٌ من صوف خطام ناقته خلبةٌ - يعني ليفًا - وهو يلبِّي)).

وقد ذكرت عند الحديث عن الخليل إبراهيم عليه السلام بعض صفات موسى عليه السلام، وأنه كان آدم، أي: أسمر، جعد الشعر جسيمًا طوالًا كأنه من رجال أزد شنوءة؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت ليلةَ أُسْرِي بي موسى بن عمران رجلًا طوالًا جعدًا، كأنَّه من رجال شنوءة)).

كما روى البخاري في صحيحه، من طريق مجاهد أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما وذكروا له الدَّجَّال، وأنه مكتوب بين عينيه كافر أو (ك ف ر)، فقال: لم أسمعه، ولكنه قال صلى الله عليه وسلم: ((أما إبراهيمُ فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فجعدٌ آدم على جمل أحمر مخطوم بخلبة كأني أنظر إليه انحدر في الوادي)).

وقد حضرت الوفاة موسى عليه السلام قبل أن يدخلَ الأرض المقدسة، غيرَ أنه طلب من الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صَكَّه، فرجع إلى ربه عز وجل فقال: أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، قال: ارجع إليه، فَقُلْ له: يضع يدَه على متنِ ثور، فله بما غطَّت يدُه بكلِّ شعرةٍ سنةٌ، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآنَ، قال: فسأل اللهَ عز وجل أن يُدْنيه من الأرض المقدَّسة رميةً بحجر، قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبرَه إلى جانبِ الطريقِ عند الكثيبِ الأحمرِ)).

ثم قال البخاري رحمه الله قال: وأخبرنا معمر عن همام حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

وروى مسلم في صحيحه من طريق همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَرَ أحاديث منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاء ملكُ الموت إلى موسى عليه السلام، فقال له: أَجِبْ ربَّك، قال: فَلَطَمَ موسى عليه السلام عينَ ملكِ الموت فَفَقَأَهَا، قال: فرجع الملَكُ إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت وقد فَقَأَ عيني، قال: فردَّ اللهُ إليه عينَه، وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياةَ تريدُ؟ فإن كنت تريد الحياة فضعْ يدك على متن ثور، فما توارت يدُك من شَعْرِه فإنك تعيش بها سنةً، قال: ثمَّ مَهْ؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، رب أمِتني من الأرض المقدسة رمية بحجر))، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله، لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)).

وقد استشْكَلَ بعضُ من ينتمي إلى العلم هذا الحديث، وكأنه استغرب كيف يضرب موسى عليه السلام ملكَ الموتِ، وكيف يفقأ عينَه؟ ولا غرابة في ذلك؛ لأن موسى لم يعرف أنه ملَكُ الموت كما لم يعرفْ خليلُ الرحمن أبوه إبراهيم عليه السلام الملائكةَ الذين استضافهم، وقال لهم لمَّا لم يأكلوا طعامه: ﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ﴾ [الحجر: 62]، ولا سيما أن ملك الموت جاء موسى عليه السلام على طريق لم يُقبض على مثلها الأنبياء؛ فإن اللهَ تبارك وتعالى لا يقبضُ روحَ نبيٍّ من أنبيائه إلا بعد تخييره، كما أُثِر أنه ما من نبي قبض إلا خُيِّر؛ ولذلك لمَّا خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار الرفيق الأعلى، أما استغراب فقء عين الملك فهو مبني على تعريف الملائكة بأنهم لا تحكم عليهم الصورة، أي: لو تصوَّر الملك في صورة رجل أو غيره ثم أُريد قتله أو قطعُ عضو منه فإنه لا تتأثَّر صورته بذلك، ولا يتمكن منه، بخلاف الجنِّي؛ فإن الصورة تحكم عليه، فلو تصوَّر الجني في صورة حيوان وقُتل هذا الحيوانُ قُتل الجنِّي، وبالنظر إلى أن هذا التعريف لم يثبت به خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه سلم فإنه لا يحل لمسلم أن يرد به الخبر الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد رأيت كثيرًا من أهل الأهواء المعادين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وللبخاري ومسلم وغيرهما من أئمَّة أهل السنَّة والجماعة يدندنون حول هذا الحديث الصحيح للنَّيْلِ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيوخ أهل الحديث، وقد علمتُ أنه لا شبهة في صحَّة هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين.

هذا، وقد حرَّف اليهود التوراةَ بعد موسى عليه السلام، ومن أبرز الأدلَّة على ذلك أن اليهود يدَّعون أن التوراةَ كتبَها موسى عليه السلام بيده، وهي مكوَّنة عندهم من أسفارٍ خمسة، وهي: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين أو الأحبار، وسفر العدد، وسفر التثنية، وقد جاء في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التثنية في الفقرة الخامسة منه: "فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب"، وفي الفقرة السادسة: ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرفْ إنسانٌ قبرَه إلى هذا اليوم، فتبيَّن بما لا مجال للشك فيه أن هذا السفرَ مكتوبٌ بعد موسى عليه السلام؛ إذ كيف يَكتب موسى بيده أنه مات ودُفن في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم، ومما يؤكِّدُ تحريفهم أنه جاء في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التثنية في الفقرة 24 فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها - 25 - أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلًا: 26 - خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم؛ ليكون هناك شاهدًا عليكم - 27 - لأني عارف تمردكم ورقابكم الصُّلبة، هو ذا وأنا بعد حيٌّ معكم اليوم قد صرتم تقاومون الربَّ، فكم بالحرِيِّ بعد موتي - 28 - اجمعوا إليَّ كلَّ شيوخ أسباطكم وعرفائكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض - 29 - لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون من الطريق الذي أوصيتكم.

هذا، وليست اليهوديَّة هي دين موسى عليه السلام، بل دينُه الإسلام، واليهودية محدثة بعد موسى؛ ولذلك لم يرد في خبر صحيح أن موسى عليه السلام سمَّاهم يهودًا، وقد تكون اليهوديَّة مأخوذةً من الهود، بمعنى: التوبة، على حد قول موسى عليه السلام ﴿ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 156].

ويمكن أن تكون مأخوذةً من التَّهويد؛ وهو الترجيع بالصوت في لينٍ والتطريب، وقد كان أحبار اليهود إذا قرؤوا على العامَّة أتوا بنغماتٍ مع غُنَّةٍ شديدة ومدٍّ بالخياشيم، ويمكنُ أن تكون نسبةً إلى يَهُوذا أحد رؤوس أسباط بني إسرائيل، ويكون إطلاقه على جميع بني إسرائيل على سبيل التغليب، وهو بالدال أو الذال كما جاء في القاموس المحيط، يقال: يهوذا ويهودا، كما يقال: يهوذي ويهودي.

ولم يرِدْ اسم اليهود في كتاب الله تعالى أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل المدح قطُّ، وكلُّ ما ورد عنهم في عهد موسى عليه السلام كان باسم بني إسرائيل، كما أنَّ ما ورد في كتاب الله عنهم كان باسم أهلِ الكتاب وقوم موسى وبني إسرائيل، ولم تُذكر اليهوديَّة إلا في مقام الذمِّ، والعلم عند الله، والسلام على موسى وهارون.






الساعة الآن : 02:57 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 164.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 163.80 كيلو بايت... تم توفير 0.72 كيلو بايت...بمعدل (0.44%)]