ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘ (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=308338)

ابوالوليد المسلم 27-10-2024 10:21 PM

سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘ (1)
التصدر وطلب الرئاسة



شريف عبدالعزيز



تمهيد
الدعاة إلى دين الله -عز وجل- هم أكثر الناس اتصالاً بشرائح المجتمع، وأكثر الناس تفاعلاً وتواصلاً معهم، وأكثر الناس تأثيرًا فيهم وتأثرًا بهم، لذلك فإن طريق الدعوة طريق شاق وطويل ومليء بالآفات والمعوقات التي تعترض طريق الداعية وتعيق سيره إلى الله، ومن أهم هذه الأمراض التي تعترض طريق الدعاة الأمراض القلبية التي تصيب النفوس والأرواح والقلوب والعزائم والإرادات، وهي أشد فتكًا وأعظم خطرًا من الأمراض البدنية، فأمراض البدن تظهر أعراضها ويشعر المريض بآلامها، أما أمراض القلوب فتنمو وتستفحل يومًا بعد يوم وصاحبها لا يشعر بها ولا يعاني من آلامها، أمراض الأبدان لها أطباء وحكماء وخبراء في كل باب، أما أمراض القلوب فأطباؤها قليلون وخبراؤها نادرون، لذلك كان الوقوف على أسباب الأمراض القلبية ومعرفة دواعيها ومظاهرها وتداعياتها وآثارها على الدعوة والداعية والمجتمع بأسره من أولويات العمل الدعوي، ومن ثمّ كانت هذه السلسلة التي تتناول أشهر الآفات النفسية والأمراض القلبية التي تعتري بعض الدعاة أثناء سيرهم على طريق الدعوة.
وأول مرض نبدأ به هذه السلسلة هو "التصدر وطلب الرئاسة".
ولا غرابة في حرص أهل الدنيا على الإمارة والولايات؛ فذلك أمر تعوّده الناس منهم، حتى أفضى الأمر إلى نزاعات وخلافات ومفاسد وفتن كثيرة، وأدى كثير منها إلى سقوط بعض الدول، كسقوط الأندلس وغيرها. لكن المؤلم أن يتسلل هذا الداء إلى داخل التجمعات الدعوية، ويسيطر على بعض النفوس المريضة، شعرت أم لم تشعر، حتى يصـيـر همّ الواحد منهم أن يسود على بضعة أفراد، دون التفكير بتوابع ذلك وخطورته.
وربما يتعجب البعض من البدء بهذا المرض تحديدًا دون غيره، ويرى أمراضًا أخرى أكثر أهمية وأشد خطرًا، ولكن الواقع يشهد أن طلب الرئاسة والبحث عن التصدر أكثر الأمراض شيوعًا بين الدعاة، بل إن طلب الرئاسة هو آخر ما يخرج من قلوب الصالحين كما قال أهل العلم، والتطلع للصدارة وطلب الرئاسة ليس مذمومًا في ذاته إذا كان الأمر متعلقًا بأمور الآخرة؛ إذ إنه البحث عن الأفضل وطلب المعالي، وفيه معاني التقدم والسبق والتنافس في مرضات الله -عز وجل- والريادة في الصالحات، وإنما المذموم منه ما اقترن بالتنافس على مناصب الدنيا والتكالب عليها طمعًا في الوجاهة، وهو ما ورد به النهي والذم في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في كتاب الأحكام ومسلم في كتاب الإمارة من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه". وأيضًا حديث أبي ذر الشهير الذي قال له فيه رسول الله: "يا أبا ذر: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها". أخرجه مسلم في الإمارة.
ولا تعارض في هذا النهي مع طلب يوسف -عليه السلام- المنصب في قوله -عز وجل-: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55]، لأن السؤال هنا ليس لحظ النفس إنما لله -عز وجل-، وسدًّا لفراغ في المنصب شغله يوسف -عليه السلام-، كما أنه سيقوم بالحق ويدافع عنه ويوصل الحقوق إلى أهلها، كما أن الإنسان لو وجد في نفسه استعدادًا وكفاءة وأحقية صادقة واستكمل أسباب الولاية عندها لا يكون ثمة موانع أو مكروهات لتوليه وطلبه، أما لو سعى للرئاسة وهو ليس لها بأهل، ولم يتحصل على أي سبب من أسبابها، وقعد عن واجباتها فعندها يكون سعيه وطلبه للرئاسة مذمومًا بذاته. والمقصود أن الداعية المخلص يكره التصدر والإمارة والشهرة بطبعه؛ لإخلاصه وبعده عن الرياء، ولكنه في نفس الوقت هو صاحب المبادرة الخيرة، وهو فارس الميدان إذا تعيّن عليه التصدر؛ وقد حكى الله من دعاء المؤمنين قولهم: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً) [الفرقـان: 74]، أي: أئمة هـدى يُقتدى بأفعالهم، وهذا لشدة محبتهم لله، وتعظيمهم لأمره، ونصحهم له، ليكون الدين كله لله، وليكون العباد ممتثلين لأمره.
وهناك العديد من المظاهر والأمارات التي تدل على أن الداعية ممن يبحث عن الزعامة والتصدر مهما كانت العواقب، وتكشف مكنونات صدره وتطلعات نفسه، ومن هذه المظاهر:
أولاً: العجب بالنفس، وكثرة مدحها، والحرص على وصفها بالألقاب المفخمة كالشيخ، والأستاذ، والداعية، وطالب العلم، ونحوها، وإظهار محاسنها من علم وخُلُق وغيره.
ثانيًا: بيان عيوب الآخرين -وخاصة الأقران- والغيرة منهم عند مدحهم، ومحاولة التقليل من شأنهم في المحافل وأمام التلاميذ والأتباع.
ثالثًا: الشكوى المستمرة من عدم نيله لمنصب ما، وكثرة سؤاله عن الأسس والمعايير لتقلّد بعض المناصب، وفي نفس الوقت يحرص على تقلّد الأمور التي فيها تصدّر وبروز؛ كالإمامة والخطابة والتدريس، وهي من فروض الكفاية، لا بد لها ممن يقوم بها، مع مراعاة أحوال القلب، والتجرد من حظوظ النفس؛ كما هو حال السلف.
رابعًا: التكاسل في تنفيذ الأوامر والتكاليف، وعدم المشاركة بجدية عندما يكون مرؤوسًا، والتهرب من التكاليف التي لا بروز له فيها.
خامسًا: كثرة النقد بسبب وبغير سبب، ومحاولة التقليل من أهمية المبادرات والآراء والأفكار الصادرة من غيره والعمل على إخفاقها، مع الإصرار على رأيه، وعدم التنازل عنه، وإن ظهرت له أدلة بطلانه.
سادسًا: الجرأة على الفتوى، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها؛ ليشتهر أمره، ويذيع صيته بين الناس بأنه مفتي النوازل الذي عنده من الإجابات ما لا يوجد عند غيره من أهل العلم، وقد كان السلف يتدافعون الفتوى كثيرًا ويتورعون عنها أشد التورع؛ ومن ذلك ما قاله عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما كان منهم محدّث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا".
ولو نظرنا إلى رغبة بعض الدعاة في الصدارة والرئاسة لوجدنا أن معظم الأسباب الداعية لهذا المرض هي أسباب نفسية مرتبطة بالغفلة عن تبعات الرئاسة والصدارة وأثرها البالغ على من طلبها وسعى من أجلها أشد السعي، فالرئيس والصدر والقائد عليه من التبعات والمهمات والواجبات أكبر من غيره، فالقائد يتحمل مسؤولية ضخمة، فهو يسهر حيث ينام الآخرون، ويجوع ويشبع الآخرون، ويتعب ويرتاح الآخرون، ثم هو مسؤول عنهم جميعًا، وفي الحديث: "إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه أحفظ أم ضيّع"، وسيرة الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم-، كبير الدعاة إلى الله، خير دليل على معنى القيادة المسؤولة، فهذا علي -رضي الله عنه- صهره وابن عمه وألصق الناس به يصف الرسول القائد وقت الأزمات فيقول: "كنا إذا احمّر البأس، ولقي القومُ القومَ، اتّقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما يكون منا أحد أدنى من العدو منه". أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير.
ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: "لن تراعوا، لن تراعوا"، وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، وفي عنقه سيفه". أخرجه البخاري في كتاب الأدب.
وكان في الأزمات يربط الناس على بطونهم حجرًا ويربط الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجرين، وعندما يأتي الطعام أو الشراب يكون -بأبي هو أمي صلى الله عليه وسلم- آخر الطاعمين.
وهذه هي مسؤولية القائد وتبعات القيادة والرئاسة التي يغفل عنها بعض الدعاة الذين يلهثون خلفها ولا يبالون بمغبتها وتبعاتها.
وقد تكون هناك بعض العوامل الأخرى التي تدفع بعض الدعاة لطلب الرئاسة والبحث عن التصدر، من عدم الاعتياد على الطاعة وتنفيذ الأوامر، والرغبة في التملص من التكاليف والأعباء الدعوية، ومنها العجب بالنفس والتعاظم في تقدير ملكاتها ومواهبها، والإحساس الزائد عن الحد بالنفس، ومنها الرغبة في تحصيل بعض أعراض الدنيا ومتاعها، ومنها الرغبة في التسلط على الآخرين وإذلالهم بالتكاليف الشاقة والأوامر الصارمة.
وكما أسلفنا في مقدمة الحديث أن هذه الأمراض لا تؤثر على الداعية فحسب، ولكن تؤثر على الدعوة كلها والمجتمع بأسره، ومن آثارها على الداعية نفسه:
أولاً: الحرمان من التوفيق الإلهي: فمن السنن الماضية أن من طلب الإمارة فإن الله -عز وجل- يسلبه التوفيق ويحرمه التأييد، ويكله إلى نفسه وتدبيرها ليرى قدره ويعرف إمكاناته على حقيقتها، ذلك أن التطلع إلى الصدارة يعني الثقة الزائدة في النفس والاعتماد عليها وعلى طاقاته وقدراته، ومن اعتمد على غير الله -عز وجل- وكله الله إلى ما يعتمد عليه، وهذا الأمر ظاهر جليّ في حديث عبد الرحمن بن سمرة الذي رواه البخاري ومسلم، وفيه قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الرحمن: لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها".
ثانيًا: قسوة القلب وكثرة الهموم: فإن مسؤولية القيادة تلقي على القلب ظلالاً من الهم والحزن بسبب عظم المسؤولية وجسامة التبعة، ومكابدة أعباء المناصب القيادية تحتاج إلى طاقة نفسية وإيمانية هائلة تبقي مادة حياة القلوب من إخبات وإنابة وتوكل واستعانة وتواضع، والقيادة فتنة وهموم ومسؤولية جسيمة، فالقائد في موضع اقتداء وتقليد، فإذا لم يكن محترزًا في كل أفعاله وحركاته وقراراته كان مسؤولاً عمن اقتدى به ولو على سبيل الخطأ، لذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة".
ثالثًا: إيغار الصدور وإثارة الضغائن: فمن وصل إلى منصب أو رئاسة، تعرض لملامة الآخرين وسهام الناقدين، واشتعلت عليه نار الحسد والحقد، والحسد بين الأقران شهير وله آثار كثيرة، وكم من عالم وفقيه ومحدث تعرض لحسد الأقران حتى راح ضحية لهذه الأحقاد!! وما جرى للإمام البخاري -رحمه الله- خير دليل على ذلك، فما بالنا لو كان صاحب المنصب ليس له بأهل ويفتقر للكفاءة والمهارة، فعندها تكون الملامة أشد والعداوة أوثق، فيزداد التشاجر والتناحر، وربما وصل الأمر للقتال، والتاريخ حافل بآلاف النماذج التي تطلعت إلى الصدارة وطلب الريادة، ولم تنل مرادها، وانتهى بها الحال مجندلة في التراب بين نفي وتشريد وتقتيل.
رابعًا: المداهنة في دين الله -عز وجل- بالسكوت عما يجب قوله والقيام به من الحق، وربما بقول الباطل من تحليل حرام، أو تحريم حلال، أو قول على الله بلا علم، وذلك باتباع الهوى الذي يدعوه لفعل كل ما يمكن فعله من أجل الحفاظ على منصبه، وقد رأينا من العلماء الرسميين والمفتين الموظفين الكثير من البلايا والرزايا ثمنًا وقربانًا لرضا الحكام والطغاة حتى يبقوهم في مناصبهم ووظائفهم الدينية والدعوية.
أما عن آثار طلب الرئاسة والبحث عن الصدارة على الدعوة نفسها، فيكفي أن نعرف أن هذا الداء كفيل بأن يمنع التمكين للدعوات، ويبطل جهود المخلصين فيها، فالتمكين لا يكون إلا للدعوة الخالصة التي صفت من الأكدار والشوائب التي تعلق بقلوب العاملين فيها ومن أجلها، ولو ازدحم على طريق الدعوة الكثيرون بحثًا عن رئاسة أو زعامة فارغة فمن يبقى للعمل والسعي وخدمة الدعوة، وأنّى للصف أن يستقيم وفيه طالبو الزعامة والباحثين عن الشهرة، وهل يصح أن يكون للدعوة مئات القادة وعشرات الجنود!!
وحتى تعالج هذه الآفة جيدًا وتستأصل شأفتها من قلوب الدعاة فلابد من خطة عمل تبدأ منذ الصغر عن خطورة القيادة وعظم المسؤولية عنها، ودوام التذكير بتبعاتها وعواقبها في الدنيا والآخرة، والنظر في سنته وهديه -صلى الله عليه وسلم- التي تزخر بعشرات الآثار التي تنهى عن سؤال الإمارة والرئاسة والفرار منها، وآثار السلف وسيرتهم العاطرة في التعامل مع المناصب التي كانت تعرض عليهم عرضًا فيفرون منها فرارهم من الأسد، والتربية من الصغر على التواضع وحسن الخلق والإيثار وهضم حقوق النفس وإيثار مصلحة الدعوة الإسلامية على ما سواها، والتربية على قبول التكاليف مهما صغرت كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث أغبر، ومغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفّع". البخاري في كتاب الجهاد.





ابوالوليد المسلم 03-11-2024 01:17 PM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (2) العجلة في الحكم وعدم التثبت



شريف عبدالعزيز



من الأمراض التي قلّ من سلم منها معاشر الدعاة، وخاصة في هذه الأيام التي أصبح تناقل الخبر والمعلومة فيها يتم من أقصى الكرة الأرضية إلى أدناها في طرفة عين؛ مرض "العجلة في الحكم وترك التثبت والتيقن من الأمر"، ونظرًا لخطورة هذا المرض وانتشاره وآثاره الخطيرة على الدعوة والداعية، أفردنا الحديث عنه في موضوع مستقل ولم نضعه ضمن آثار مرض الاستعجال الذي سبق أن تحدثنا عنه في مرة فائتة.
عدم التثبت وترك التبيّن في اللغة يدور على ثلاثة معانٍ:
الأول: طلب ما يكون به الثبات على الأمر، أي لزومه وعدم التحول عنه أو تجاوزه إلى غيره، أي طلب الدليل الموصل إلى الثبات على الأمر.
الثاني: فحص الدليل الموصل إلى الثبات في الأمر، فيقال: أثبت الأمر أي حققه وصححه، فأثبت الكتاب أي سجّله، وأثبت الحق أي أقام حجته، وأثبت الشيء أي عرفه حق المعرفة.
الثالث: التأني والتريث وعدم الاستعجال، والتثبت والتبيّن بمعنى واحد في اللغة، والدليل على ذلك الاستعمال القرآني للفظتين في موضع واحد للدلالة على معنى واحد، في قوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ) [الحجرات: 6]، ففي قراءة متواترة وهي قراءة أهل المدينة (فتثبتوا) بدلاً من (فتبينوا)، قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري معلقًا: "والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، متقاربتا المعنى، فأيهما قرأ القارئ فمصيب".
أما في الاصطلاح فعدم التثبت وترك التبين معناه: السرعة والعجلة في إصدار الأحكام والأوصاف على الناس، وتناقل هذه الأحكام والأوصاف دون فهم أو روية أو ضوابط، ودون اعتبار للواقع، على أنها أحكام نهائية غير قابلة للنقض، وإلى هذا المعنى أشار القرآن الكريم في سورة النور واصفًا لحال من تناقل خبر الإفك، دون تثبت أو تبين، فقال -عز وجل-: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [النور: 15]، والوصف القرآني بالغ الدقة والروعة؛ إذ من المعلوم أن التلقي يكون بالأذن ثم يعرض على العقل والقلب، بعدها يصدر الأمر إلى اللسان بالكلام أو عدمه، فإذا وصف القرآن التلقي بأنه كان بالألسن فمعناه سرعة نقل الخبر والتحدث بما سمع دون تمحيص وتفكير وتقييم، لذلك كان المتحدث بكل ما سمع أحد الكاذبين كما قال -صلى الله عليه وسلم-، ونقل الكلام دون تمحيص هو صورة من صور الإفك، وفيها من الخفة والاستهتار والجراءة على أعظم الأمور وأخطرها، وهي الأعراض والأوصاف.
ولعدم التثبت وترك التيقن العديد من الصور والمظاهر التي تدل على عجلة صاحبها وتسرعه في القرار واتخاذ المواقف السلبية، من هذه الصور:
أولاً: معاداة الأقران من الدعاة والأفراد والهيئات، والتفتيش عن عيوبهم، والاستجابة للحملات المغرضة ضدهم، والاشتراك في تشويه صورتهم أمام العامة، ورفض إقالة عثراتهم، وإشاعة عيوبهم، وذلك كله دون تمحيص وتحقيق للخبر الدائر والأمر الرائج.
ثانيًا: اتخاذ مواقف سريعة بالسلب أو بالإيجاب تأثرًا ببعض الأخبار والإشاعات، دون بحث في مدى دقة هذه الأخبار، ودون دراسة لآثار هذه القرارات المتعجلة.
ثالثًا: المبادرة بالتنفيذ لمجرد صدور التكاليف والأوامر، دون إحاطة تامة بكل ظروفه وملابساته، ودون معرفة دقيقة بمن يحق له التوجيه وإصدار التكاليف.
هذه بعض مظاهر عدم التثبت من الخبر، أما عن أسبابه الدافعة له فكثيرة؛ منها:
أولاً: النشأة الأولى، فقد ينشأ المرء في بيئة يغلب عليها التسرع وعدم التثبت، والعجلة في اتخاذ القرارات والمواقف، والمرء في صغره يتأثر أيما تأثُّر، وينطبع في ذهنه ومخيلته هذا السلوك، ويصبح سمتًا لازمًا له طوال حياته، لذلك قالوا قديمًا: "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر"، والرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الكذب على الصغير عندما رأى الأنصارية تنادي على ولدها لتعطيه؛ لأن ذلك سيؤثر سلبًا على الطفل الصغير، فينشأ معتادًا على الكذب وأجوائه.
ثانيًا: الصحبة الفاسدة؛ فالمرء على دين خليله، والصاحب ساحب، والطباع سرّاقة، وكلما كان المرء ضعيف الشخصية كان إمعة في سلوكه، فيحاكي ويقلد بلا روية ولا بصيرة.
ثالثًا: الاغترار ببريق الألفاظ؛ فقد يقرع أذن المرء طائفة من الألفاظ المعسولة والعبارات الخلابة، وإذا بالمرء يغتر بهذه الألفاظ، فيحسبها ذهبًا وهي تراب، ولفت النبي -صلى الله عليه وسلم- النظر إلى هذا السبب حين قال: "إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها". أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، ومسلم وأبو داود في الأقضية.
رابعًا: الجهل بأساليب التثبت؛ فقد يجهل الداعية أساليب وطرق التثبت، فيعجل ويتسرع في إصدار القرارات أو يحاكي المتعجلين، ذلك أن للتثبت العديد من الوسائل والطرق؛ منها:
1- رد الأمر إلى الله ورسوله وإلى أولي العلم وأهل الذكر كما قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].
2- سؤال صاحب الشأن عن صحة الخبر وبواعثه وأسبابه، ولنا فيما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع حاطب بن أبي بلتعة يوم فتح مكة الأسوة الحسنة في ذلك، حيث لم يبادر بعقوبته رغم جسامة ما اقترافه، إنما أحضره وقرره بما فعل، فأقر حاطب، ثم سأله -صلى الله عليه وسلم- عن دوافعه عن الفعل ومبرراته، ورغم أن المبررات لم تكن مقنعة، إلا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد عذره، ووهب فعلته الرديئة لسالف إحسانه وتاريخه النضالي الكبير في خدمة الإسلام.
3- حسن الإصغاء والاستماع الجيد؛ وذلك بالمراجعة والاستفهام لفحوى الكلام وحقيقة الخبر، فقد يتردد كلام وأخبار لا يراد ظاهرها، ولا تدل على معناها الحقيقي، فعندها يحتاج الكلام للإيضاح، حتى لا ينتج عنه آثار ضارة وربما تكون قاتلة، مثلما حدث في قتال المرتدين عندما أمر خالد بن الوليد -رضي الله عنه- جنوده بتدفئة الأسرى من قوم مالك بن نويرة في ليلة باردة، فقال لهم: "دفئوا أسراكم"، وكان الحرس من بني كنانة، وتدفئة الأسرى في لغة كنانة معناها القتل، فقتلوهم جميعًا، فلما سمع خالد الصراخ خرج من خيمته، ولكن بعد فوات الأمر، فعنف أبو بكر الصديق الخليفة خالدًا بسبب ذلك تعنيفًا شديدًا، ودفع دية من قتل من الأسرى لأنهم قد تابوا وعادوا من الردة بعد الأسر.
4- التجربة والخبرة والمشاهدة والمقارنة، فمعايشة الأحداث، ومعرفة الأشخاص، تعطي الداعية رصيدًا كبيرًا للتجربة من الفهم والبصيرة بمرامي الكلام وطبائع الأشخاص، والمنافسة بين الأقران، وتمكنه من الحكم ببصيرة على الأخبار والآراء بحق الأشخاص والهيئات.
خامسًا: الانبهار والاغترار بشخصية المتكلم، والالتفات لسمته ودله الظاهر، وترك تقييم الكلام وزنته وفحصه، فالناس من طبائعها تصديق ذوي الهيئات التي تدل على الصلاح، والثقة فيما يقولون، وقد لا يدركون أن النفوس محتقنة، والثارات قديمة بين المتكلم والمتكلم فيه، وأيضًا قد يدرون طبيعة كلام الأقران في بعضهم البعض، لذلك قال أهل العلم: إن القاضي لا يحكم بعلمه حتى يسمع الدليل ويفحص القضية، وقالوا أيضًا: إن الكلام في الناس لابد أن يكون بإنصاف وعدل وعلم.
سادسًا: الولاء والبراء للمشايخ والرؤساء والكبراء زعماء الجماعات وقادة التيارات الدعوية، بحيث لا يمكن مراجعة قراراتهم وتصنيفاتهم الدعوية، لهذا الداعية أو هذا الخطيب، فيكون الدليل والحجة عند كثير من شباب اليوم "هذا ما قاله الشيخ فلان" أو "هذا ما ذهب إليه الداعية المشهور علان"، وهذا الأمر تحديدًا من أكثر أسباب شيوع حالة التنافر والتجاذب بين الجماعات والتيارات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية، فكم من داعية أو خطيب قد وأدته الشائعات، وقتلته التصنيفات، وقُضي على علمه وخيره، بسبب الوشايات والشائعات والتسرع في الحكم عليه.
سابعًا: الحماس والعاطفة غير الراشدة، فقد تؤدي الحماسة والغيرة الفطيرة إلى عدم التثبت من الخبر والمسارعة باتخاذ القرارات، والحماسة إذا لم تكن موزونة بميزان الشرع تحولت لوابل على صاحبها؛ لأنها تسلبه الحكمة والإدراك، وتجعله أهوج كثير الخطأ، مثلما حدث يوم الجسر سنة 13هـ في القتال بين المسلمين والفرس عندما قرر القائد أبو عبيد الثقفي أن يعبر النهر إلى الفرس، وبحجة أن لا يكون الفرس أجرأ على الموت من المسلمين، ورفض أن يستمع لصوت العقل من مساعديه الذين قالوا له: إن هذا القرار خاطئ من الناحية التكتيكية الحربية، ويضع المسلمين في مأزق، فأصر القائد المتحمس على قراره، والنتيجة هزيمة قاسية للمسلمين، يقتل فيها ستة آلاف مسلم وهو عدد ضخم لم يقع من المسلمين مثله في معركة واحدة في مقدمتهم القائد أبو عبيدة نفسه، فانظر إلى عاقبة الحماسة والعاطفة الطائشة.
ثامنًا: الحقد والحسد؛ فقد يكون من أهم أسباب عدم التثبت الحقد والمنافسة وتصفية ثارات قديمة، أو الغلو في حب شيء، فإن حب الشيء يعمي ويصم، ويحول بين الإنسان وبين استطلاع الموقف وتبين الحقيقة، كما وقع في حادثة مقتل عامر بن الضبط على يد ملجم بن جثامة والتي أنزل الله -عز وجل- فيها قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [النساء: 94].
وخطورة هذا المرض أنه يؤدي إلى آثار مدمرة على الدعوة والداعية، فهو يؤدي إلى اتهام الأبرياء من الناس زورًا وبهتانًا، مثلما حدث مع أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، في حادثة الإفك التي تعتبر مثالاً سائرًا في عاقبة عدم التثبت والمشاركة في الشائعات وترديد الأكاذيب، وقد يؤدي لسفك الدماء وسلب الأموال، كما حدث من أسامة بن زيد مع الرجل الجهني الذي قتله بعد أن نطق بالشهادة، التعرض للعقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة، كما حدث مع من خاض في حادثة الإفك من الصحابة مثل مسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وحسان بن ثابت، الذين أقيم عليهم الحد، ومنها اضطراب الصف الإسلامي وكثرة الانشقاقات فيه، وتعثر سير الدعوة بسبب هذه الخلافات، وهدر الكثير من الطاقات والإمكانات في معالجة آثار هذه الانشقاقات، ومنها التراخي والفتور في همم الدعاة الذين وجدوا أنفسهم في مرمى نيران اتهامات كثيرة بسبب عدم التثبت من جانب غيرهم من الدعاة والشيوخ، ومنها فتح المجال أمام ذوي النفوس المريضة والدخلاء لارتقاء منابر الدعاة ومناصبهم، ومنها شيوع حالة التدابر والتباغض بين أنصار الشيوخ والدعاة.

وإن تقوية ملكة التقوى والمراقبة لله -عز وجل- هي حجر الزاوية في القضاء على هذا المرض الخطير، والتحلي بأخلاق الإنصاف والتجرد والتروي وضبط اللسان وتقديم حسن الظن، ومطالعة سيرة الرسول الكريم وأصحابه وسلف هذه الأمة، كلها عوامل رئيسة في مقاومة هذا المرض المستشري بين صفوف كثير من دعاة هذا الزمان.


ابوالوليد المسلم 07-11-2024 06:00 PM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (3) اليأس والقنوط



شريف عبدالعزيز



من أخطر الأدواء والآفات والأمراض على طريق الدعوة إلى الله، وأكبر العقبات على سبيل التمكين؛ اليأس والقنوط من رحمة الله، فمع اليأس يرتدي الداعية منظارًا أسود يرى به كل الأمور من حوله قاتمة لا نور فيها، ميتة لا حياة فيها، بائسة لا أمل فيها، مع اليأس يتحول الداعية من شعلة نشاط إلى رماد فاتر، ومن منارة للهدى إلى حطام إنسان، لا يفكّر ولا يعمل ولا يحلم، بل لا يفكر حتى في الحلم، حاله كحال الشاعر عندما قال:
يا قـوم لا تتكلـموا *** إن الكـلام محـرم
ناموا ولا تستـيقظوا *** مـا فـاز إلا النُّوَّمُ
وتأخروا عـن كل ما *** يقضي بأن تتقدموا
ودعوا الـتفهم جانبًا *** فالخير أن لا تفهموا
وتثـبتوا في جهلكم *** فالشـر أن تتعلموا
أما السياسة فاتركوا *** أبـدًا وإلا تـندموا

بالجملة المرء مع اليأس هو والعدم سواء، وحياته وموته سيان، لذلك كان من أهم أولويات الدعاة الحذر من مزالق هذا المرض الخطير وآثاره وتداعياته وظواهره وأسبابه.
اليأس في اللغة العربية يدور على عدة معانٍ؛ منها: انقطاع الأمل من شيء، وانتفاء الطمع منه، ومنه قولنا: يئست المرأة، أي انقطع حيضها، كما في قوله: (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ...) [الطلاق: 4]، ومنها أيضًا الذل والقهر والخضوع، واللين والتصاغر، فنقول: أيس أيسًا بمعنى ذل وخضع، وأيس فلان فلانًا أي قهره وأذله.
أما في الاصطلاح فاليأس هو انقطاع الرجاء من الفرج، وانقطاع الطمع من الخروج من الشدائد، وذلك بسبب غلبة العدو، واستطالة الباطل، وتأخر النصر، وضعف النتائج، أما القنوط فهو أشد اليأس أو قمة اليأس، ومنها قوله -عز وجل-: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) [الشورى: 28].
الإسلام قد وقف من اليأس والقنوط موقفًا حاسمًا قويًا؛ إذ عدّه من الكبائر المهلكة، وذهب بعض أهل العلم لاعتبار اليأس من الكفر المخرج من الملة إذا اقترن معه شك في قدرة الله وحكمته، كما ذهب لذلك صاحب الطحاوية، وقد حرّم الإسلام الوقوع في حبائل هذا المرض الخطير، ومن باب أولى الدعوة إليه، والقرآن أفاض في التحذير من اليأس والقنوط ومظاهره وآثاره، وذلك في آيات كثيرة منها: قوله -عز وجل- (يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف: 87]، وفي آية أخرى بيّن الله -عز وجل- أن اليأس من صفات وأخلاق الكافرين فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [العنكبوت: 23]، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) [الممتحنة: 13]، وبيّن المولى في آيات أخرى أن اليأس هو شعار من يعبد الله على حرف، فإن أصابه الخير استبشر، وإن أصابه الضر يئس وتضجر، فقال: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) [هود: 9]، وقال: (لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) [فصلت: 49]، وبيّن المولى في موضع آخر أن القنوط واليأس هو شعار الضالين الحائدين عن طريق الهداية والرشاد، فقال -عز وجل-: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) [الحجر: 55، 56].
واليأس داء نفسي خطير يصيب كثيرًا من الناس، وله عليهم آثار خطيرة، ولكن آثاره ومظاهره على الدعاة والعاملين في حقل الدعوة أشد خطورة وأعظم ضررًا، وهناك مظاهر كثيرة تدل على اليأس والقنوط في العمل الدعوي؛ من أبرزها:
الأول: الهزيمة النفسية؛ وهي تعتبر من أبرز مظاهر اليأس والقنوط من رحمة الله، فاليأس يفل القلوب ويأسر النفوس ويغتال الأحلام ويقتل الآمال، فيتحول الداعية لمهزوم نفسيًّا، وينعكس ذلك على قراراته وخطواته وتحركاته وخططه ومشروعاته، وتنعكس هذه الهزيمة أيضًا على سلوكه وهديه وسمته ودله، فترى كثيرًا من المنهزمين نفسيًّا أسرى الأوهام والظن، ويتولد عندهم فقدان ثقة وشك في صحة المنهج والطريق والعاقبة.
الثاني: الانبهار بما عند الغير -خاصة الغرب- من قوة وتقدم، والشعور المتنامي بالدونية أمام جبروت الخصوم وقوتهم، والثقة المطلقة بأعداء الأمة أنهم قادرون على إنفاذ مخططاتهم ومؤامراتهم ضد الأمة، وأنهم ممسكون بزمام الأمور في العالم بأسره، ويستتبع ذلك أيضًا تصديق لأعداء الأمة في كل ما يروجونه من أباطيل وأراجيف، لاسيما ما يتعلق بتاريخنا العظيم الذي تعمّد الغرب تشويهه وإهالة التراب على نقاطه المضيئة.
الثالث: القعود عن العمل والدعوة والتربية والبناء، بدعوى أن لا فائدة من هذا العمل ما دام أعداء الأمة ظاهرين وقاهرين لنا، وهذا ينعكس في صور كثيرة من أبرزها التخلي عن السنن والآداب الإسلامية، امتلاء القلوب بالخوف والفزع من قوة الخصوم، الانشغال بأمور الدنيا والانغماس في مباحاتها وشهواتها، تثبت همم الدعاة والمخلصين والعاملين لدين الله، بدعوى أنه لا فائدة من كل هذه الجهود، وأنها ستذهب أدراج الرياح.
وربما يتعجب البعض من هذا المرض الفتاك، كيف له أن يتسلل بين صفوف الدعاة والعاملين لدين الله، على الرغم من التحذير السماوي منه؟! وكيف يصل هذا الداء القتّال إلى القلوب المخلصة والهمم المرابطة، وهي تعيش في أجواء القرآن والسنة والالتزام بهدي الإسلام ومنهجه؟!
والحقيقة أن هناك الكثير والكثير من أسباب وبواعث الوقوع في اليأس خاصة في هذا الحقل المليء بالمتاعب والهموم، ولكن ذلك كله لا يبرر مطلقًا لأحد من الدعاة أن يسمح لنفسه أن يسترسل مع هذه الآفة الخطيرة ويسمح لها بالاستيلاء على قلبه، والاستحواذ على نفسه، ومن هذه الأسباب:
أولاً: عدم معرفة الله -عز وجل- حق المعرفة؛ ذلك أن من عرف ربه بأسمائه وصفاته، وأنه سبحانه منزه عن كل نقص، موصوف بكل كمال، واستقرأ هذه الصفات والمعارف الربانية في كتابه العزيز، علم أن الله ناصر المؤمنين، ومخزي الكافرين، وأن جند الله -عز وجل- هم المفلحون وهم الغالبون، علم أن من توكل على الله -عز وجل- وحده كفاه من شر كل ذي شر، وكيد كل ذي كيد، فالله كافٍ عبده، وناصر جنده، شريطة أن يكونوا أهلاً لهذا النصر، متحلين بالتقوى والقوة واليقين والصبر؛ لأن الطريق طويل، والساقطون على جنباته كثير، لا ينجو إلا المخلصون، ومن تخلّفت عنه هذه المعارف، ساء ظنه بربه -عز وجل-، كما قال الله -عز وجل-: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ...) [آل عمران: 154]، وقوله: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ...) [الفتح: 6]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فمن ظنّ بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده، ويؤيد حزبه ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وبأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته".
ثانيًا: كثرة الإخفاقات والفشل: تكرار الفشل، ودوام التعثر من الأمور التي تصيب الدعاة بالإحباط وتجعل اليأس يتسرب إلى قلوبهم، وما من عمل إلا وهو عرضة للفشل والنجاح، ومن منّا قضى حياته كلها في نجاحات مستمرة؟! وكذلك العكس، فالحياة ما هي إلا حلقات متواصلة من النجاح والفشل، والفوز والإخفاق، وبالنظر إلى أحوال أمتنا الإسلامية عبر العصور يجدها كانت ظاهرة منتصرة قوية في أوائل أمرها، ثم أخذت في التراجع والانحدار شيئًا فشيئًا، ولكنها في كل مرة كانت تتعرض فيها لكبوة أو نازلة، كانت سرعان ما تسرد عافيتها، وتواصل مسيرتها، ولو وقفت يومًا عند مصائبها وهزائمها، ودب اليأس إليها؛ ما ظلت على قيد الحياة لوقتنا الحاضر، وإلى قيام الساعة.
أيضًا الفشل والإخفاق هذا ليس من حظ الأمة الإسلامية وحدها، فأعداء الأمة يألمون ويفشلون ويخفقون، وقمة إخفاقهم أنهم لم يستطيعوا حتى الآن القضاء على الأمة الإسلامية، ولهذا المعنى أشار المولى -جل وعلا- في كتابه الحكيم: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) [النساء: 104]، فأعداء الأمة والمتربصون بالدعاة مهما بلغت قوتهم، فهم أمام قوة الله وقضائه وقدره لا شيء مطلقًا، ومجتمعاتهم الموصوفة بالتقدم والرقي والازدهار، تعج بالجريمة والفساد والانحراف والإلحاد، بل وتعج باليأس والتيه والإحباط، ولعل معدلات الانتحار في هذه المجتمعات الراقية! خير دليل على مدى الفشل الذي عليه هذه المجتمعات.
ثالثًا: الانفراد: فالعمل الجماعي الذي تتكامل فيه الجهود، وتتناسق فيه الخطط والاستراتيجيات، ويشترك فيه أطياف التيار الدعوي الكبير في الأمة، عمل تتزايد فيه فرص النجاح، ما سيحجم فرص ظهور داء اليأس بين الصفوف، وفي المقابل فإن العمل بصورة فردية، وشيوع ثقافة الاعتداد بالنفس، والانفراد بالرأي، والإصرار على العمل بصورة فردية؛ أدى لسلسلة متتابعة من الإخفاقات، دفعت ثمنها الدعوة الإسلامية والعمل الخيري والتطوعي، والنتيجة الطبيعية الشعور بالإحباط واليأس، وإذا دبّت القطيعة بين أبناء الأمة الواحدة، وعلتها الفرقة والاختلاف؛ زال الأمل في الإصلاح، وخفت صوت الرجاء والتفاؤل، وحل اليأس والإحباط.
رابعًا: معايشة اليائسين: فالطباع سرّاقة، وأمراض القلوب معدية، والصاحب ساحب، ومعايشة ذوي الهمم الساقطة والعزائم الخائرة تقود حتمًا إلى الفشل واليأس، وجيش الأرانب الذي يقوده الأسد، ينتصر على جيش الأسود الذي يقوده الأرنب، فضعف الهمم وفتور العزائم ونزول الإرادات كلها مغذيات لليأس والإحباط؛ لأن الدنيا مليئة بالصعاب والعقبات التي تحتاج إلى العزيمة الصادقة والهمة العالية حتى يتجاوزها المرء، وبدونها يبقى خلف الحواجز أبد الدهر أسير ضعفه وخنوعه.
اليأس والإحباط أصبح اليوم ظاهرة كونية عالمية لا يعاني منها بعض الدعاة فقط، بل يعاني منها الكثيرون من أبناء الأمة الإسلامية، لذلك فروشتة علاج هذا الداء الفتاك تبدأ من تقوية العقيدة في قلوب المسلمين، وتربيته على الصلة القوية بربهم -جل في علاه-، فالمعرفة الحقة بأسماء الله وصفاته ونعوته وآلائه وسننه في الكون والخلق والحياة تورث الإنسان يقينًا راسخًا وإيمانًا حيًّا.
أيضًا لابد من مطالعة سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتعرف على أيامه ولياليه وكفاحه وجهاده في سبيل الله، كيف مرت به الشدائد والمحن والابتلاءات وهو راسخ كالطود العظيم، صابرًا محتسبًا متفائلاً موقنًا بأمر ربه، لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلاً، وعلى دربه سار الصحب الكرام، صادفتهم الشدائد والنوازل الكبرى من حركات للردة، وفتن واضطرابات وتكالب للعدو داخل الجزيرة وخارجها، ومع ذلك فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، فالقلوب بربها موصولة، وبوعده واثقة، لذلك بنوا الأمجاد وشيدوا الحضارات وأقاموا الممالك الكبرى.

أيضًا يجب علينا أن ننظر إلى فضل الله وكرمه ولطفه الخفي، وكيف أن الدين ينتصر وينتشر بكل قوة رغم قلة الإمكانات وكثرة المؤامرات، والإحصائيات الحديثة عن أعداد من اعتنق الإسلام في دول الغرب تبعث في قلوب أشد الناس يأسًا أملاً في نصر الله -عز وجل- لهذا الدين.





ابوالوليد المسلم 09-11-2024 04:55 PM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (4)

رد النصيحة ورفض النقد



شريف عبدالعزيز



من الأمراض الشائعة في أوساط العاملين لدين الله، والتي تعد حجر عثرة على طريق الدعوة إلى الله؛ مرض رد النصيحة ورفض النقد، ذلك الداء الخطير الذي تسبب في إصابة جسد الدعوة بالكثير من الأمراض والآفات والعيوب، بسبب إصرار البعض على رفض نصيحة إخوانهم، والتمسك بآرائهم وقراراتهم، واعتبارهم عين الصواب، ما أورث العمل الدعوي الكثير من الويلات والأزمات.
النقد لغة هو نقر الشيء لاختباره أو لتميز جيده من رديئه، تقول: نقد الطائر الفخّ، ونقدت رأسه بإصبعي، ونقد الدراهم والدنانير، ومعناه أيضًا وقوع الفساد في الشيء، فتقول: نَقِدَ الشيء نقدًا أي وقع الفساد فيه، ومنها نقد الضرس أو القرن، أي وقع فيه السوس والفساد، ومنها أيضًا المناقشة في الأمر، فتقول: ناقده الأمر أي ناقشه فيه، أما في الاصطلاح فالنقد إظهار عيب الشيء بغية إصلاحه وتقويمه وبيان جيده من رديئه.
أما النصيحة فلها عدة معانٍ في اللغة؛ منها: تخليص الشيء من شوائبه، ومنها قولهم نصح الثوب أي أصلحه من الخرق، ومنها نصحت العسل أي خلصته من شوائبه، ومنها التوبة النصوح أي الخالية من شوائب العودة إلى المعصية، ومن معاني النصيحة في اللغة أيضًا الآلة التي تخلص الشيء من شوائبه مثل إبرة الحائك، ومصافي النحّال، أما في الاصطلاح فالنصيحة هي كلمة جامعة معناها الإرشاد بالأسلوب المناسب والوسيلة المناسبة إلى تخلي المرء عن كل ما فيه من عيب وفساد، فهي كلمة من وجيز الألفاظ، بل هي أجمع كلمة لخير الدنيا والآخرة في العربية، قال الخطابي: "النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له".
رفض النقد ورد النصيحة على قائلها عبارة عن خليط من أسوأ المركبات النفسية عند البشر، فهو خليط من التعالي والتكبر والمعاندة والعجب والغرور والازدراء، فرافض النصيحة وراد النقد إنسان تضخمت ذاته حتى رأى نفسه أعلى من مستوى من ينصحه، وفوق مستوى النقد لكمال خصاله ورجاحة عقله.
وقد وقف الشارع الحكيم موقف النكير على من يرفض النصيحة ويرد النقد دون مبرر مقبول أو سبب معقول، فقال -عز وجل-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) [الكهف: 57]، قال المفسرون: "لا أحد أظلم ممن هذه صفته؛ أن يعرض عن الآيات بعد الوقوف عليها بالتذكير".
وتوعد الله من أعرض عن آياته ورفضها بالانتقام فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) [السجدة: 22]، وقد ورد في معرض السياق القرآني عن حوار أنبياء الله مع أقوامهم، كيف كان رفض النصيحة من أهم أسباب هلاكهم، فقال في شأن قوم صالح: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 79]، وقال في شأن قوم شعيب: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) [الأعراف: 93]، والله -عز وجل- جعل رفض النصيحة من شيم المنافقين وخصال المجرمين المفسدين، فقال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة: 206]، وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 11، 12]، وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) [المنافقون: 5].
وكان السلف -رضوان الله عليهم- أشد الناس قبولاً للنصيحة والنقد، لا يرون أية غضاضة في الاستماع إليها والعمل بها والوقوف عندها، فهذا عمر -رضي الله عنه- يقول: "رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي"، وقال رجل له: اتق الله يا عمر، وأكثر عليه، فقال له قائل: اسكت فقد أكثرت على أمير المؤمنين، فقال له عمر: "دعه؛ لا خير فيهم إن لم يقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها".
وعن جبير بن مطعم أن نفرًا أثنوا بشدة على عمر -رضي الله عنه-، فقال عوف بن مالك وكان سامعًا: كذبتم والله، لقد رأيت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا من عمر: أبا بكر، فقال عمر: "صدق عوف، وكذبتم، ولقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي". يعني قبل أن يسلم.
وقال رجل لمعاوية: "والله لتستقيمنّ بنا -يا معاوية- أو لنقومنّك، فقال: بماذا؟! فقال: بالخشب، فقال: إذن نستقيم".
وكان الخلفاء والأمراء والملوك يستمعون إلى نصائح الوعاظ والزهاد والصالحين فتحرك أفئدتهم وتهتز لها نفوسهم، وأخبار عمر بن عبد العزيز، وهارون الرشيد، والسلاطين الأتراك وغيرهم كثيرة وجليلة.
فما هي إذًا الأسباب التي تدفع بعض الدعاة إلى رفض النصيحة ورد النقد، والتعامل بخشونة مع الناصحين والناقدين؟!
الحقيقة أن هناك أسبابًا كثيرة لرفض النصيحة؛ بعضها يتعلق بالناصح، وأغلبها يتعلق بالمنصوح، ومن هذه الأسباب:
الأول: افتقاد آداب النصيحة: فللنصيحة آداب وشروط وضوابط تجعلها سهلة على النفس، يسيرة على الآذان، تقبلها القلوب بسرعة وسلاسة؛ منها: اختيار الوقت المناسب، والحالة المزاجية المواتية، وانتقاء أفضل الألفاظ، والبدء بالثناء والمدح، وإبراز المحاسن، والرفق في العرض، ومنها دقة التحري والتأكد من العيب والمشكلة، ومن أهمها مراعاة السرية حتى لا تتحول النصيحة إلى فضيحة، خاصة مع أولي الفضل والخير والوجاهة، ومنها ترك الجدال واللجاجة والخصومة، ومنها الإخلاص وابتغاء وجه الله من الأمر، وإرادة الخير للمنصوح، دون شماتة أو معايرة أو إذلال، وربنا -جل وعلا- يرشدنا إلى هذه الآداب حتى مع رؤوس الكفر أنفسهم، فقال لنبيه موسى -عليه السلام-: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 43، 44]، وفي موضع آخر قال: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) [النازعات: 18، 19].
إذا غابت تلك الآداب والشروط فإن النصيحة تتحول بحق كثير من الناس إلى فضيحة أو عداوة، ولم تؤتِ ثمارها، ورفضها السامع وأعرض عنها.
ثانيًا: العجب والغرور والتكبر: وهو عادةً السبب الأكثر شيوعًا في رفض النصيحة ورد النقد، فالمنصوح أو المنتقد قد يرى نفسه أرفع وأكبر من النقد، وذاته أرقى وأعظم من النصيحة، أو أن الناصح دونه في الفضل والقدر والعلم، وبالتالي لا يقبل من نصح ولا نقد، والله -عز وجل- وصف هذه النوعية من البشر بصفات شديدة فقال: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة: 204- 206]، كما قصّ علينا قصة قارون مع قومه وماذا رد عليهم عندما نصحوه: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78]، ذلك كان الحساب على هذه الآفة الخطيرة بالذرة، فقال خير المرسلين -صلوات ربي وتسليماته عليه-: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". والعجب بالنفس قد يدفع البعض للشعور بدونية ناصحه وقلة شأنه، مع أن الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، وتقبلها من صغير كان أم كبير، الإمام الداخلي شيخ الإمام البخاري قبل نصيحته وعدل إلى رأي البخاري على الرغم من كون البخاري وقتها كان في الحادية عشرة من العمر، والداخلي إمام وقته وزمانه في نيسابور.
ثالثًا: العداوة والخصومة: فقد يكون ثمة عداوة قديمة وخصومة من قبل تمنع المرء من قبول النصيحة أو تفهم النقد، لأنه سيحيل هذه النصيحة والنقد إلى العداوة والخصومة القديمة، وسيظن أن ناصحه يتشفى منه، أو يفتري عليه، وهذا بديهي بالأعداء، لا يقبلون من بعضهم البعض، خاصة إذا كانت العداوة بسبب عقدي أو فكري أو منهجي، والنصيحة في نفس ذات الباب، فالمؤمنون مثلاً لا يقبلون من المشركين دعوتهم بالإلحاد أو الشرك أو الوثنية أو تبادل المعبودات، وكذلك العكس من الكافرين، قال تعالى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) [البقرة: 145].
رابعًا: المراء والجدل واتباع الهوى: فالإنسان المجادل كثير المراء يصعب إقناعه بسهولة، فهو ذو رأس صلد، لا يتنازل عن رأيه إلا نادرًا، وهو يرفض بشدة أن يكون في موضع الضعيف أو المنهزم أو الراضخ لرأي وتوجيه غيره، قال تعالى في حق قوم نوح وما هم عليه من مراء وجدال: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ) [هود: 32]، والرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن تراك المراء وهو على حق". وفي الأثر: "ما ترك قوم العمل ألقي عليهم الجدل".
أما اتباع الهوى فهو معبود الضالين ومتبوع الحائرين وشعار المعاندين، من اتبعه أرداه، وعن سبيل الهداية نحاه، ذمه الله -عز وجل- في آيات كثيرة، فقال -سبحانه وتعالى-: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50]، وقال: (وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26]، وقال: (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان: 43].
خامسًا: البيئة المحيطة: دائمًا ما يكون للبيئة والوسط الذي ينشأ فيه الداعية أثر واضح على سلوكياته وأخلاقياته وقراراته، فقد ينشأ الداعية في وسط أسري أو دعوي يرفض فيه أفراده مبدأ التناصح والتناقد فيما بينهم، كل واحد منهم يعيش منعزلاً في عالمه الخاص، وفي جزيرته وحده، لا يقبل نصحًا ولا نقدًا من غيره، والمحاضن الأولى عادة ما يكون لها أعظم الأثر في مسيرة الإنسان وحياته، لذلك يجب الاهتمام بإصلاح بيئة الدعاة وأوساطهم الحياتية؛ لأن هذا الداء إذا دخل في وسط أفسده، وجعله مليئًا بالآفات والعيوب والأخطاء التي لا تجد من يقومها ويبصرها باعوجاجها.
إن ترك النصح ورفضه، والإعراض عن النقد ورده من الأمور الخطيرة في حياة الدعاة والدعوات؛ لأن الداعية والدعوة وقتها تفتقد أفضل آليات مواجهة الأخطاء الداخلية، والقرآن قصّ علينا مصارع الظالمين الذين رفضوا النصح والإرشاد من أنبيائهم ورسلهم، وسورة الأعراف وهود زاخرة بهذه الأخبار، كما أن رفض النصيحة ورد النقد يجعل الإنسان موضعًا لسخرية الآخرين، موضعًا للإهانة والمهانة من الله -عز وجل- ومن عباده المؤمنين، كما قال تعالى: (وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج: 18]، أيضًا هذا المرض لو تسرّب في وسط فإنه ينتشر بسرعة بين الكبار والصغار، فالناشئة قلوبهم معلقة بالكبار والشيوخ والرموز، فلو وجدوهم متلبسين بهذه الآفة، اقتدوا به دون نظر للعواقب والآثار، كما أن هذا المرض يوقف عجلة الإنتاج والتنمية والعطاء الدعوي، أو يقحم الدعوة والداعية في مواجهات متعجلة أو قرارات خاطئة تطيح بجهد وعرق سنوات، والعجلة آفة ولدت من رحم آفة أشد منها وهي رفض النصيحة ورد الانتقاد.
فلابد من أن يعرف كل داعية حقيقة نفسه، ويضعها في قدرها اللائق بها، فلا هو بأفضل من الصحابة وسلف الأمة -رضي الله عنهم- الذين كانوا يقبلون النصح من كل أحد، وليكن شعاره: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53]، كما عليه أن يضع بين عينيه دائمًا عواقب ومصارع ومصائر من رفض النصيحة ورد النقد من الأمم السابقة، وأن يربي نفسه على التواضع وخفض الجناح واللين والرفق مع إخوانه وأهله وأمته، لتحرر نفسه من أسر الداء الفتاك؛ العجب والكبر والغرور، وتصفية خصوماته أولاً بأول حتى لا يبقى موضع عثرة أمام نصح الآخرين والاستماع لهم، كما عليه أن يربي نفسه وغيره على استحضار مشاهدة الله ومراقبته في كل كبيرة وصغيرة، حتى تكون نفسه تواقة للخير والإصلاح دائمًا، ما سيجعله يفرح بمن ينصحه وينتقده، كفرحه بمن يمدحه ويثني عليه، وبهذه الأمور تحرّر نفسه من آفات وأدواء كثيرة، وتستقيم مسيرته الدعوية ورحلته الدنيوية وجائزته الأخروية.


ابوالوليد المسلم 26-11-2024 05:53 AM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (5)

المراء والجدل



شريف عبدالعزيز

من أبرز الأمراض التي تعيق العمل وتوقف عجلة الإنتاج وتورث الخصومة والعداوة بين الناس عامة والدعاة خاصة ؛ مرض المراء والجدل في كل شيء وكل مسألة تهم الدعوة ، وهو ما سنحاول الوقوف عليه لمعرفة حقيقته وأبعاده ومظاهره وأسبابه وكيفية النجاة منها ومداواة آثاره .

المراء في اللغة له عدة معان ، أهمها : الشك ، فيقال : امترى في الشيء : يعني شك فيه ، ومنه قوله سبحانه في محكم التنزيل ( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) [ البقرة 147] ، ومنها مخالفة الغير والتلوي عليه وعدم الوضوح معه ، فيقال : مارى فلان فلانا : أي خالفه ولم يكن واضحا معه ، ومنها المناظرة ، فيقال مارى فلان فلانا : أي ناظره وجادله ، ومنها قوله سبحانه ( فلا تمري فيهم إلا مراء ظاهرا ) [ الكهف 22] ، ومنها استخراج الشيء من مكمنه ، ومنه امترى الناقة : أي حلبها واستخرج ما فيها من لبن ، ومنها التزين والتجمل ، فيقال : تمّرى بالشيء : أي تزين وتجمل به .

أما الجدل في اللغة فله عدة معان ، أهمها : الصّرع والغلبة ، فيقال : جدل الرجل : أي صرعه وغلبه في الجدل ، ومنها الإتقان والحسن ، فيقال : جدل الحبل جدلا ، أي احكم فتله ، وجارية مجدولة الخلق أي حسنة الخلق ، ومنها شدة الخصومة والمناقشة ، فيقال : جادله مجادلة وجدالا أي ناقشه ومنها قوله سبحانه ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) [ العنكبوت 46] ، ومنها قوله ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ) [ المجادلة 1 ] ، ومنها مقابلة الحجة بالحجة ، فيقال : جادل فلان فلانا : أي قابل حجته بحجة من عنده .

أما في الاصطلاح فالجدل والمراء : " هو كل اعتراض على كلام الآخرين بإظهار الخلل فيه ، أما من حيث الظاهر أو الباطن ، وقصد إفحام الغير ، وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ، ونسبته إلى القصور والجهل فيما يتكلم ، والمراء أعم من الجدل ، إذ جرت العادة على أن المجادلة في الأمور العلمية والدعوية ، والمراء يشمل الأمور كلها "

ومن خلال هذا التعريف يتضح لنا أن مظاهر وصور الجدل والمراء تدور على قاعدة أساسية وهي الانتقاص من الآخرين ، وتقليل مكانتهم وقدرهم وربما احترامهم ، أما في ظاهر كلامهم أو مقصده ومعناه ، ونية المتكلم ، لذلك كان حكم الإسلام في هذه الطريقة من التحاور مع الآخرين واضحا لا لبس فيه ، فهو مذموم مكروه ، وهذا ما دلت عليه نصوص الوحيين من الكتاب والسنة المطهرة :
قال تعالى ( فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) [ الكهف 22] ، وقال ( ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) [ الشورى 18 ] ، وقال ( بأي آلاء ربك تتمارى ) [ النجم 55] ، قال ( قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ) [ الحجر 63] وقال ( وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان نكير ) [ غافر 5 ] وقال ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطن أتاهم كبر مقتا عند الله ) [ غافر 35] وآيات أخرى كثيرة .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ، وببيت في أعلى الجنة لمنم حسن خلقه " وقال " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " وقال " أبغض الرجال الألد الخصم "
ولا يستثنى من هذا الذم كله إلا الجدال بالحسنى مع من يريد أن يعرف طريق الحق والهدى إن كان متلبسا ببدعة أو شبهة أو تأويل فاسد ، قال تعالى ( ولا تجادوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) [ العنكبوت 46] وقال ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل 125] .

والمراء والجدل من الأمور المركوزة في النفس البشرية ، قل من يسلم منها ، لأنها تحتاج إلى مجاهدة ومكابدة للنفس والذات ، فهو يترك على الناس والدعوة آثارا خطيرة ويورث أضرارا عظيمة أبرزها : قسوة القلب ، فالجدل والمراء مبني على الكلام الكثير عديم الفائدة ، ولا طائل من ورائه سوى إفحام الخصم ، والغالبة عليه ولو بالباطل ، وكثرة الكلام الفارغ عديم الفائدة بغير ذكر الله يورث قسوة القلب وفي الحديث " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب ، وإن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي " ، ومنها أيضا القطيعة والشقاق ؛ فإن المراء والجدل يجعل المرء كثير المشاحنات مع غيره ، وكثير الرفض لكلام الآخرين ، ودائم التسفيه والتحقير لرأي غيره ، مما يوجب البغض والقطيعة والتآمر من الآخرين ، وطبيعة البشر أنهم يكرهون ويبغضون من يسفه كلامهم ويحقر منها ، قال الإمام مالك رحمه الله " المراء يقسي القلب ، ويورث الضغائن " ، ومن آثاره الخطيرة أيضا ضياع الهيبة وسقوط المروءة ، لأن الجدل والمراء يدفع لئن يقدم المتجادل لئن يكشف كل الأسرار ويهتك كل الخصوصيات ، من أجل تحقيق الغلبة بأي سبيل ولو كانت غير مشروعة ، وربما أقدم على الكذب والشتم والسب ، فتضيع هيبته وكرامته ومكانته ، ومنها أيضا الفرقة والتمزق في الصف الدعوي بسبب كثرة المخاصمات والمجادلات ، ومنها ترك العمل والانشغال بالجدليات والمناظرات العقيمة ، وقديما قالوا " ما ترك قوم العمل إلا ضربهم الله بالجدل " . وغير ذلك من آثار المراء والجدل .

ومن أهم الأسباب التي تدفع المرء لئن يدخل من مجادلات ومراء ومناقشات عقيمة مع الآخرين :

أولا : عدم الالتزام بآداب النصيحة
فإن من لم يلتزم بآداب النصيحة مع المتكلم ، من الإسرار بها وانتقاء الأسلوب المناسب ومراعاة الإخلاص، فإن ذلك يدفع من يتلقى النصيحة لرفضها والمكابرة فيها ، حيث يتولد في نفس المنصوح نوعا من العزة بالإثم ، يترجم في شكل جدال ومراء لا ينتهي ، حيث يؤكد على أهمية وخطورة مراعاة آداب النصيحة ، وأنها ربما ترقى لدرجات الواجبات لأن تركها وتجاهلها يولد أنواعا مختلفة من الشرور والإحن .

ثانيا : تضخيم الذات
فبعض الدعاة قد لنفسه فضلا وعلما ومنزلة لا يشعر بها كثير من الناس ، قد يري نفسه في منزلة ومكانة لا يليق بها في أوساط الدعاة ، أو أنه جدير أن يرقى لمصاف الكبار ، وهو لم يرش بعد ، فيحاول أن يثبت نفسه ، فيضخم ذاته بمعارضة الآخرين ، والجدل والمراء في كل قضية تظهر على الساحة ، ولا عجب لو رأينا بعض الدعاة دائم التطبيق لقاعدة " خالف تعرف " حتى ولو كان فيما أجمع عليه الناس ورضيه الدعاة والمصلحون ، ليذكر اسمه ويرى مكانه ، في زمن يبحث فيه الإعلام عن أمثال هؤلاء ، وقديما عندما بال الإعرابي في زمزم وتعجب الناس من صنيعه قال " أحببت أن أذكر ولو باللعن " .
وربما يقود تضخيم الذات إلى الوقوع لما هو أعظم من ذلك وهو الغرور والعجب بالنفس والتكبر على خلق الله ، ولو نظرت لكثير ممن يجادلون بغير الحق لوجدت هذا الداء الوبيل في قلوبهم معشعشا ، وإبليس هو أول من جادل ومارى في الحق عندما أمره ربه عز وجل بالسجود لآدم عليه السلام ، فرفض الأمر ، وجادل بقوله ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ ص 76] ، قال تعالى في موضع آخر كاشفا العلاقة بين الجدل والكبر ( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ) [غافر56] .

ثالثا : رفض الهزيمة
النفس البشرية بطبيعتها تحب الانتصار وتكره الهزيمة ، وهذه الطبيعة البشرية إذا تجاوزت حدها المعتاد فإنها تتحول إلى حائط صد مستمر نحو الإقرار بالخطأ والاعتراف بالهزيمة ، وللأسف الشديد هذا هو حال كثير من الناس ، فتجدهم يتخذون الكثير من الوسائل لتبرير مواقفهم وأرائهم ، وعلى رأس هذه الوسائل المراء والجدل ، لذلك كان الإسلام حريصا على تربية أتباعه على قبول الحق والإنصاف ولو من النفس ، قال تعالى ( يا أيها الذين كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين .. ) [ النساء 135] ، وقال ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .. ) [ المائدة 8] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم ، والإنفاق من الإقتار " ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يري الرأي فيراجعه فيه أصحابه وزوجاته ، فيرجع إلى قولهم ، وربما كان رأيه الصواب ورأي من يراجع أقل صوابا ، كما حدث يوم أحد ، ومع ذلك يرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قولهم ليؤدبهم ويعلمهم قبول الرأي الآخر .

رابعا : الاشتغال بعلوم الجدل والمناظرة
البناء العلمي للطلبة والدعاة من الأمور الأساسية في استقامة سير الدعاة والعلماء ، فالعلم هو الأساس المتين الذي ينطلق منه الدعاة ، وقاعدة الانطلاق الصحيح نحو التمكين ، ولو حدث أي خلل في هذه القاعدة فإن تأثيره السلبي سيمتد طوال مسيرة الداعية ، ستجلى في مواقفه وأرائه وقراراته التي سيشوبها دوما هذا الخلل ، ولو نظرت إلى الداعية المصاب بداء الجدل والمراء ، لوجدته في مرحلة الطلب قد أهمل علوم الكتاب والسنة ، وتوسع في علوم الجدل والمناظرة والمنطق والفلسفة وغيرها من علوم الكلام ، وهي علوم لا تقوم إلا على الجدل والشك والمراء وإفناء الأعمار في إثبات وجود الصانع ! ولعل هذا الخلل هو الذي أوجد في الإسلام عشرات الفرق الضالة والمذاهب المخالفة لأهل السنة والجماعة مثل المعتزلة والجبرية والقدرية والصوفية والشيعة بفرقها الكثيرة ، لذلك نهى كثير من أهل العلم عن تعلم هذه العلوم السقيمة التي تقتل الروح وتسلب الإيمان وتورث اللجاج و الخصومة والجدل والشك في كل شيء .


خامسا : غياب التقوى
فالقلب إذا كان فارغا من التقوى ومن معرفة الله عز وجل ، خالطته الأسقام والأحوال الرديئة ، وتاه في زحمة الشهوات ، فالتقوى تحمل النفس على قبول الحق والإذعان له والوقوف عنده ، وترك الجدل والمراء فيما استبان الحق فيه ، لذلك كان من الخطورة بمكان ترك مراقبة القلب وأحواله وتقلباته ، في الوقت الذي فيه عدو متربص ـ الشيطان ـ لا يكف عن التزيين والتضليل والإغواء ، وفي الوقت التي تطالب النفس فيه بحظها ونصيبها من شهوات الدنيا ، ومن ذات المنطلق حض الإسلام على استثمار الفراغ وتنويع العبادات ومحاسبة النفس باستمرار ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله .. ) [ الحشر 18 ] .



ابوالوليد المسلم 28-11-2024 11:58 AM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (6)

هل يتقاعد الداعية؟ (القعود عن الدعوة)



شريف عبدالعزيز



سؤال يتردد في أذهان كثير من الدعاة ، هل ممكن أن يتأتي علىّ اليوم الذي اعتزل فيه العمل لدين الله ، وأقعد عن خدمة هذا الدين ، وأحال فيه إلى التقاعد ؟

فبعض الدعاة بعد أن تقدمت بهم السن ، وثقلت بهم الهموم ، واجتاحتهم شواغل الدنيا ، وكثرت مسئولياتهم الدنيوية ، وأعباؤهم الأسرية ، وتكاثرت عليهم ضغوط العمل الدعوي ، يهتف في آذنه هاتف يقول له : آن لك أن تستريح ، وتلتفت لنفسك وبيتك وأولادك ومصالحك ، فيغالب هذا الوسواس تارة ، ويدافعه تارة أخرى ، ولكن مع كثرة الضغوط يبدأ في الاستسلام ، وعندها يقرر بعض الدعاة أن يحيل نفسه إلى التقاعد ، ويكتفي بما قدمه من خدمات للدين والدعوة ، ويحيي بقية أيامه مجترا لذكريات الدعوة وأيامها الجميلة ، شأنه في ذلك شأن الموظفين الحكوميين الذين يبلغون سن التقاعد ، ويقضون ما بقى من أيامهم على راتبهم التقاعدي الذي نالوه في مقابل عملهم لسنوات في الحكومة .
فما الذي يدفع بعض الدعاة إلى التقاعد عن الدعوة ، والقعود عن خدمة الدين، والبذل والعطاء في سبيل الله؟

القعود في لغة العرب له عدة معان منها :
الجلوس بعد قيام ، ومنها الانقطاع وترك الأمر أو التأخر عنه ، يقال : قعدت المرأة عن الحيض والولد أي انقطعت ، وقعد عن الأمر أي تركة وتأخر عن القيام به ، ومنها الاحتباس عن الشيء ، ومنها عدم الاهتمام بالأمر ، ومنها أيضا الداء الذي يصيب الجسم فيقعده ، ولو نظرنا إلى هذه المعاني كلها لما وجدنا أي تعارض بينها ، فكلها تفيد معنى عام وهو الانقطاع عن الأمر بأي وصورة كان هذا الانقطاع .
أما في الاصطلاح ، فتقاعد الدعاة أو قعودهم: هو مرض يصيب بعض الدعاة لدين الله من داخله يعوقه عن مواصلة السير في الطريق إلى نهايته أو الثبات عليه ، أو على الأقل هو متأخر عن الركب دون اكتراث أو مبالاة.

والقعود مذموم في دين الله عز وجل ، وورد في كتاب الله عز وجل ذكر القعود والقاعدين في عدة مواضع ، ذكرت جميعها بالذم الشديد والنكير الأكيد ، إلا من كان قاعدا بعذر شرعي مقبول من فقر ومرض ، منها قوله عز وجل ( وقيل اقعدوا مع القاعدين ) [ التوبة 46] وفيها قال المفسرون المراد بالقاعدين : الذين من شأنهم القعود والجثوم في البيوت كالنساء والصبيان والزمني والرجال الذين يكون لهم عذر يمنعهم عن الخروج ، والله عز وجل جعل القعود من صفات المنافقين ( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) [ آل عمران 168] قال ابن جرير أنها نزلت في عدو الله رأس النفاق عبد الله بن أبي.
أيضا ورد القعود في ذم بني إسرائيل الرافضين لدعوة موسى عليهم السلام لجهاد الكفار ودخول بيت المقدس ، وقعودهم كان مزيجا من الاستهزاء والاستهانة والجبن والرد لأوامر الله ، قال تعالى ( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ) [ المائدة 24] ، ومنها قوله عز وجل ( وإذا أنزلت سورة أن أمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ) [التوبة 86] وقوله ( وجاء المعذّرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ) [ التوبة 90] والآيات كثيرة وإن كان أكثرها في المنافقين واليهود إلا أنها توحي بذم القعود مطلقا بغير عذر ، سواء انتهى بصاحبه إلى أن يكون منافقا كهؤلاء الذين نزلت في شأنهم هذه الآيات ، أو يكون مسلما عاصيا معصية كبيرة .

ولتقاعد الدعاة عن الدعوة عدة مظاهر وصور وأشكال ، فبعض الدعاة يتقاعد في هدوء وسكينة ، والغالبية منهم يثير قدرا كبيرا من المشاكل ، والإشكاليات في العمل الدعوي ، من أجل تبرير تركه للعمل وقعوده عنه ، حتى يبرئ ساحته من تهمة الكسل والانقطاع . ومن صور القعود عن الدعوة :
أن يتقاعد الداعية عن دعوته في هدوء ودون ضوضاء ، مع بقائه على استقامته في نفسه وولده وهؤلاء قليل ، ومنها أن يتقاعد عن العمل ، ويتفرغ للهجوم على أقرانه العاملين لدين الله ، تارة بانتقاصهم ، وتارة بالطعن في أعمالهم أو ذواتهم ، أو مناهجهم ، وتارة بتأييد من ينتقصهم ، ومنها أن يتقاعد عن العمل ، ويسعى بعد ذلك لإفشال العمل بالكلية ، أما إفشاله منهجيا ، أو إفشاله حركيا ، أو إشاعة بعض أخطاء العاملين وكشف الستر عنها لتنفير الناس منهم ، ومنها ليّ أعناق النصوص ، أو استخدامها في غير موضعها ، لتبرير ما عليه من قعود وانقطاع .
أما عن أسباب هذا المصير الأليم ، وهذا الموت المبكر للدعاة بقعودهم عن الدعوة ، فكثيرة ومتنوعة ، من أهمها:

أولا : المعاصي والذنوب
فالمعصية هي أساس كل خذلان ولب كل نقصان ، والسبب الرئيسي لكل انقطاع وفتور وقعود يصيب الإنسان ، فتلطخ المسلم بالمعاصي كبيرها وصغيرها ، ظاهرها وباطنها ، ثم لم يبادر بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل ، فإن هذه المعصية ستؤدي إلى مرض قلبه وربما موته والعياذ بالله ، ويفقد بعدها القلب سيطرته على الجوارح ، فتتسلط عليه الشياطين والشهوات وزخارف الدنيا ، قال تعالى واصفا سبب جرائم بني إسرائيل ( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) [ البقرة 61] ، قال ابن القيم رحمه الله " أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه ، ويعينهم بها على نفسه ، فيقاتلونه بسلاحه ، ويكون معهم على نفسه ، وهذا غاية الجهل ، فما يبلغ الأعداء من جاهل ، ما يبلغ الجاهل من نفسه "

ثانيا : التوسع في المباحات
الله عز وجل وإن كان قد أباح لنا التمتع بزينة الحياة الدنيا ، ولم يحرّمها علينا رحمة بنا ، إلا إنه قد وضع ضوابط لهذا التمتع والتنعم ، ومن أهم هذه الضوابط التوسط والاعتدال ، فقال سبحانه ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) [ الأعراف 31] ، ويوم أن تغيب هذه الحقيقة عن الداعية فإنه يغب من المباحات غباً ، خاصة إذا كان يعيش في بيئة تميل إلى هذا السلوك غير الانضباطي ، وينشغل بتحصيل لذاته وتلبية رغباته وإشباع شهواته ، ظاناً أن هذا لا يؤثر عليه ما دام مباح ومن حلال ، وبالتالي لا يقوى على مواصلة السير في طريق الدعوة المليء بالفتن والابتلاءات والمكاره ، وقد تنبه السلف رضوان الله عليهم لهذه الحقيقة ، فقالت عائشة رضي الله عنها " إن أول بلاء حدث في الأمة بعد نبيها : الشبع ، فإن القوم إذا شبعت بطونهم ، سمنت أبدانهم ، فضعفت قلوبهم ، وجمحت شهواتهم " ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " إياكم والبطنة في الطعام والشراب ، فإنها مفسدة للجسد ، ومورثة للسقم ، ومكسلة عن الصلاة ، وعليكم بالقصد فيهما ، فإنه أصلح للجسد ، وأبعد عن السرف ، وإن الله ليبغض الحبر السمين ، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه " .

ثالثا : حب الدنيا
الدنيا إذا تمكنت من قلب الداعية ، فإنها تحمله على حبها والركون إليها ، والاطمئنان والرضا بها ، ونسيان الآخرة والغفلة عنها ، ومن ثم ترك الآخرة والعمل لها ، وهذا هو عين القعود ومعناه الحقيقي ، ولقد أوضح الله عز وجل أن حب الدنيا والرضا بها من أهم أسباب القعود عن نصرة الدين ، فقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) [ التوبة 38] ، فهذه الآية نزلت في عتاب من تخلف عن الجهاد يوم تبوك بغير على ، وقد بينت أن السبب الحقيقي للتخلف هو إيثار متاع الدنيا على نعيم الآخرة .

رابعا : غياب النية الصالحة
فتصحيح النية واستحضار أطيبها وأنقاها عند بداية العمل ، يضفي على هذا العمل بركة وقبولا واستمرارية وذاتية تدفع صاحبها لمواصلة العمل والبذل والعطاء ، ومن كانت نيته رضا الله ونفع الدين والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن الله يوفقه ويهديه ويبصره ويثبته ويقويه ويعينه على طول الطريق ومشاقه ، كما قال تعالى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) [ محمد 17] ، ومن كانت نيته للدنيا والمصالح الخاصة ومن كان بلا نية ، كمن يدخل طريق الدعوة مسايرة لرفاقه ، أو تجربة واختبارا لهذا العمل ، أو للتسلي وقضاء أوقات الفراغ ، فإن عمله بائر وسعيه خاسر ، وحتما سيأتي عليه اليوم الذي يقعد فيه ويتوقف عن العمل ، كما قال الله عز وجل في شأن المنافقين ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ) [ التوبة 43] والإرادة هي النية الصالحة والأخذ بالأسباب .

خامسا : الجهل بطبيعة طريق الدعوة
فطريق الدعوة طريق طويل وشاق مليء بالفتن والابتلاءات ، يحتاج لأولي العزم والبصيرة والقوة والثبات ، فالمعوقات كثيرة والشهوات أكثر ، والعقبات متتالية ، بيت وزوجة ، عمل وذات ، منصب وجاه ، صحبة ورفقة ، مال وعيال ، فالدعوة طريق من أوسع طرق الجنة ، وطريق الجنة محفوف بالمكاره والمصاعب ، لا مجال فيه للراحة والدعة والسكون ، ومن بدأ هذا الطريق وهو لا يعلم طبيعته فهو حتما لا يستطيع إكماله .

سادسا : تغيير المناصب
بعض الدعاة ينظر إلى منصب القيادة على أنه تشريف لا تكليف ، ومكافأة وتقديرا لمواهبه وإمكاناته ، غنائم لا تبعات ، وعندما يتحول الداعية صاحب هذه النظرة للقيادة ، من موقع القيادة إلى موقع آخر دونه ، قد ترك العمل بالكلية ، حيث تكبر على نفسه ، ويعتبر تحول المنصب عنه نوعا من المعاقبة والتأديب له ، فيورم أنفه ، ويشرق بريقه ، ويقعد عن العمل لدين الله ، وفي الحديث الطويل " طوبى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعَنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ ، وَإِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ ، طُوبَى لَهُ ، ثُمَّ طُوبَى لَهُ " . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

سابعا : تحميل النفس فوق طاقتها
وذلك في أي عمل من الأعمال تكون له في البداية حلاوة ، وقد يلقى من الداعية إقبالا ، واستفراغا لكل ما في وسعه ، وبذلا لكل طاقته ، وربما يرى من يحيطون به هذه الهمة العالية فيلقون ما في أيديهم من واجبات وتكاليف عليه ، وهو لا يمانع في ذلك ، ويمضي في خدمة الدين ، ولكنه بعد فترة من الزمان يجد نفسه قد أنهكه العمل وأضناه ، يجد نفسه قد أهمل بيته وولده ونفسه ، ولم يعط كل ذي حق حقه ، ويصيب بدنه الوهن والمرض ، فيجد نفسه مضطرا للتقاعد والتوقف عن العمل ، فالتعمق وتحميل النفس فوق ما تطيق قصير العمر ، فالبدن مطية السير ، فإن صبرت على التشدد يوما ، فلن تصبر اليوم التالي وهكذا ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " اكلفوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب العمل إلى الله أدومه ، وإن قل "

ثامنا : الجهل بحقيقة القعود
بالبعض يظن أن في القعود والابتعاد عن العمل الدعوي السلامة والعافية والراحة والبعد عن الفتن ، وذلك من وسواس الشيطان لابن آدم ، وهذا الوسواس يتعاظم دوره في أيام الفتن واستطالة الباطل على الحق ، حيث تكون ضريبة العمل الدعوي عظيمة ، ولا يقوى على تحملها إلا من اصطفاه الله عز وجل ، وهذا الأمر يعد تكذيبا لوعد الله عز وجل من حيث لا يدري ، فقد وعد عباده المؤمنين والسائرين على دربه نبيه بالتمكين والنجاة والفوز والظفر في الدنيا والآخرة ، وربما يدخل عليه الشيطان من مدخل آخر ليبرر له التقاعد عن الدعوة ، فيقول للداعية : أنت كثير الذنوب والخطايا ، وترتكب آثاما عظيمة ستكون سببا في تعويق العمل ونزول البلاء عليه ، وخير لك وللعمل أن تخرج منه ، وأن تبعد عن طريق البررة الأتقياء ، لتحل عليهم السلامة والنجاح ، فإن الشيطان لا يترك سبيلا لإحالة الداعية إلى التقاعد إلا سلكها ولو كانت في ثياب الناصحين .

تقاعد الداعية له آثار في غاية الخطورة على الداعية والدعوة والمجتمع الإسلامي ككل ، فالداعية عندما يتقاعد يستفرد به الشيطان ، فمن عاش وحده بعيدا عن أقرناه ، بعيدا عن الأجواء الإيمانية للدعوة ، يكون عرضة لغارات الشيطان ، وما يلبث حتى يقع صريعا في حبائل الشيطان ، وهذا ظاهر ومشاهد بكثرة في صفوف تاركي العمل الدعوي ، لذلك قال الحبيب صلى الله عليه وسلم " فمن أحب منكم بحبوحة الجنة ، فليزم الجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد " ، ومن آثار التقاعد أيضا إضعاف العمل الدعوي ، وتعرضه للإجهاض خاصة إذا كان المتقاعد ممن يحمل مهام كثيرة في العمل ، أيضا مرض القعود واعتزال الدعوة ، مرض معدي تنتشر آثاره بسرعة في صفوف العاملين ، خاصة إذا كان المتقاعد ممن يقتدى بهم ، فعندها تكون الفتنة أشد وأعظم ، في أحيان كثيرة يتحول المتقاعد عن الدعوة إلى سهم في كنانة أعداء الإسلام ، يصوبونه على صدور العاملين لدين الله ، فليتق الله كل متقاعد عن الدعوة ، وليفكر مئات المرات قبل أن يأخذ هذا القرار الخطير الذي ضرره يعم الجميع ، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين .


ابوالوليد المسلم 30-11-2024 12:14 PM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (7) سوء الظن



شريف عبدالعزيز



من أسوأ الأمراض التي من الممكن أن تكون على طريق الدعوة الإسلامية، هو مرض " سوء الظن "، فهو المرض الذي يعتبر حجر الأساس الذي ينبني عليه كثير من الأمراض والآفات الاجتماعية والدعوية الأخرى، مثل الغيبة والنميمة والتجسس والتحسس والبغضاء والشحناء وفساد ذات البين والشائعات، فهو مرض في غاية الخطورة على المجتمعات المسلمة، فضلا على أن يكون على طريق الدعوة، وبين صفوف العاملين لدين الله عز وجل.

سوء الظن في اللغة العربية مكون من كلمتين، السوء وهي كلمة جامعة لكل قبيح، وكل ما يستقبح، وأيضا السوء هو كل ما يسوء الإنسان ويغمه من أمور الدنيا والآخرة، أما الظن فله عدة معان في اللغة منها:
الشك، فيقال: بئر ظنون: أي لا يدري أفيها ماء أم لا ؟، ومنها قوله عز وجل ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) [ الحج: 45]

ومنها التهمة، فيقال: أظن به الناس يعني اتهموه، ومنها قوله عز وجل ( وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ) [ الأحزاب: 10]، ومنها الحسبان والعلم بغير يقين، فتقول: ظننت الشمس طالعة أي حسبتها طالعة، ومنها قوله تعالى ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ..) [ الأنبياء: 87] وقوله ( وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) [ الحشر: 2]، ومنها اليقين، فيقال: ظنّ فلان الشيء بمعنى تقينه، ومنها قوله ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ) [ البقرة: 46]، وقوله ( إني ظننت أني ملاق حسابيه ) [ الحاقة 20 ]، ولا تعارض بين هذه المعاني كلها، إذ هي تصوير لمراتب الظن من بدايته إلى نهايته، فالظن هو تخمين وتكهن وخاطر يقع في النفس لأمارات تظهر، وقرائن تبدو، فإذا قويت وتأكدت هذه الأمارات والقرائن صارت يقينا جازما، وإذا ضعفت وتلاشت صارت شكا ووهما.

أما سوء الظن في الاصطلاح: هو اتهام الآخرين من الدعاة وغيرهم بأوصاف سيئة من غير بينة ولا دليل ولا برهان، أو التخمين الذي ينتهي بوصف الغير بما يسوءهم ويغمهم من كل قبيح من غير دليل ولا برهان.
ولقد حرّم الإسلام سوء الظن بكل صوره وجعله مذموما بالكلية، وسوء الظن ذكر في القرآن في مواطن كثيرة جاء أغلب سياقها في شأن الكافرين والمنافقين وضعاف الإيمان ومتبعي الأهواء والشبهات، فقد يقود سوء الظن إلى الكفر والعياذ بالله، والتشكيك في البعث والنشور، كما قال الله عز وجل ( ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خير منها منقلبا ) [ الكهف: 35 ـ 36 ]، وقد يقود أيضا إلى التشكيك بقدرة الله وعلمه وإطلاعه وإحاطته بالأمر، قال تعالى ( بل ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ) [ فصلت: 22 ـ 23 ]، وقد يقود لليأس والقنوط من رحمة الله، كما قال تعالى ( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ) [ الفتح: 12]، وقد يقود لترك الجهاد ونصرة الدين، كما قال تعالى ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) [ آل عمران: 154]، وقد يقود للتكذيب بموعود الله ورسوله كما قال الله في شأن المنافقين وضعاف الإيمان يوم الأحزاب ( وتظنون بالله الظنونا ) [ الأحزاب: 10]، وقال رسول صلى الله عليه وسلم " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث " وقال " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى " وفي الحديث القدسي " يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي "

أما سوء الظن بالدعاة والمصلحين فقد أدى للوقوع في العديد من الكبائر والموبقات، فهو أولا يوقع في الغيبة والبهتان والنميمة والقيل والقال، وهذا يقود حتما إلى الشحناء والبغضاء والتدابر وفساد ذات البين، وهذه هي معظم الأمراض والآفات التي توجد في الصف المسلم والدعوي، وسببت له كثيرا من النكبات والتراجعات والهزائم، والله عز وجل قد قرن سوء الظن ببعض من هذه الأمراض لبيان خطره وشره، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن أثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) [ الحجرات: 12] .

كل هذه الآفات المسئول الأول عن ظهورها في الصف الدعوي، هو ذلك الداء العظيم " سوء الظن "، الذي لم يكن له أن يظهر ويسبب كل هذه الآفات، ولو استعمل الدعاة مع إخوانهم على الدرب الأصل الإسلامي في النظرة للآخرين وهو " حسن الظن "، وأسباب الوقوع في هذا الداء الخطير كثيرة من أهمها:

الأول: الذنوب والمعاصي

وهما السبب الأول والأساسي وراء كل الأمراض والآفات التي تعترض طريق الدعوة، فالذنوب والمعاصي كالحصى الصغير الذي إذا ما اجتمع صار جبلا عظيما، وكالحطب الذي إذا أوقد صار نارا مهلكة، فالذنوب تؤثر في قلب صاحبها، وتجعل نظرته للحياة وللدعوة ولمن حوله تختلف بالكلية، أول ما يتغير من نظرته لمن حوله، حسن ظنه بالآخرين، حيث يصبح سوء الظن هو الأصل في نظرته لمن حوله، ويحمل كل تصرفات إخوانه على أسوأ المحامل، وأضيق المسالك.

الثاني: غياب المنهج الصحيح في الحكم على الناس

فالإسلام قد أقام نظاما محكما وفريدا في الحكم على الآخرين وعلى أقوالهم، ومواقفهم، وعامة ما يصدر منهم، ويتمثل هذا المنهج فيما يلي:
1 ـ النظر إلى الظاهر وترك السرائر إلى الله، لأنه سبحانه وحده الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم ما تخفي الصدور، ويعلم ما ظهر وما بطن، وهذا مقتضى أسمائه وصفاته، فهو العليم الخبير، السميع البصير، القريب المجيب، ولا يعلم ما في الصدور ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا الله عز وجل، بل إن الملائكة الكتبة الحفظة، لا تعلم إخلاص العبد من ريائه، فتكتب كل أعماله، والله عز وجل هو الذي يقبلها فضلا منه وتكرما من المخلصين، ويحبطها عدلا منه وجزاءا للمرائين والمنافقين. فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار "، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: " أقال لا إله إلا الله، فقتلته ؟ " قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: " أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا " فما زال يكررها علىّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ "

2 ـ الاعتماد على الدليل والبرهان، فلا يقبل كلام مرسل على عواهنه، بلا خطام ولا زمام، وهذا أصل من أصول الإسلام الثابتة، فالإسلام دين البراهين الساطعة، والأدلة القاطعة، قال تعالى ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) [ البقرة 111]، وقال تعالى ( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ) [ النور 13]. ولا يكفي مجرد سرد الدليل، لكن يجب التأكد من صحته وسلامته، حتى لا تقام التهم وتنصب العداوات وتتخذ القرارات بموجب أباطيل وترهات وأكاذيب وشائعات، والله عز وجل أمر بالتبيين في آيتين من كتابه الحكيم، فقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) [ النساء 94 ]، وقال ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) [ الحجرات 6]. وبعد التأكد من صحة الدليل، يجب التأكد من عدم معارضة الأدلة بعضها بعضا، وهذه هي أهم قاعدة في قواعد الحكم على الآخرين، وبغيابها يظل الحكم ناقصا مبنيا على الظنون والأوهام، يصيب مرة ويخطئ مرات.

ثالثا: اتباع الهوى

وذلك لأن الداعية إذا اتبع هواه، وحكّم مزاجه، صار هذا الهوى هو إمامه وقائده ومعياره الذي يعاير به الناس ويحاكمهم إليه، وإتباع الهوى يدور بين الحب والبغض بلا سبب، والعرب تقول حبك الشيء يعمي ويصم، كما أن البغض يستوجب التماس العثرات، والبحث عن الزلات، وتصيد الأخطاء، لذلك قال تعالى ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) [ النجم: 23]، وقال أيضا ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) [ القصص: 50] وقال ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه .. ) [ الجاثية: 23]

رابعا: الوقوع في الشبهات

من الأسباب التي قد تدفع البعض لسوء الظن في غيره من الدعاة ؛ الوقوع في الشبهات عن قصد، أو غير قصد، وترك التبرير والتوضيح إذا كان الوقوع عن غير قصد، فذلك من الأمور المغرية لئن يلوك سيرته الناس، ويقعون فيه ويسيئون الظن فيه من حيث لا يدري، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم " الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع حول الحمى يوشك أن يواقعه .. "، وقد أعطى صلى الله عليه وسلم الأسوة من نفسه في تجربة عملية يعلمنا فيه كيف يدفع المسلم والداعية عن نفسه ظنون الناس مهما كان قدره وفضله، فقد كان معتكفا في مسجده فأتته أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها تزوره ليلا، فحدثته، ثم قامت راجعة إلى بيتها، فقام معها رسول الله، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " على رسلكما إنها صفية بنت حيي " فقالا: سبحان الله يا رسول الله، يقصدان التعجب حيث لا مجال للشك في رسول الله والظن السيئ به، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف الله في قلوبكما شرا " فخير الخلق وأفضلهم وأكملهم يعلم الدعاة الذين هم يقومون في الأمة مكان نبيها، كيف يحفظون مقامهم ويصونون جانبهم من سوء الظانين والمشككين.

خامسا: غياب آداب التناجي

للتناجي في الإسلام عدة آداب بمراعاتها يتحقق صلاح الإخوة في الله، ويبتعد شبح سوء الظن بين الناس، من هذه الآداب: حرمة الانفراد بين اثنين فما فوقهما دون الآخر، حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، وفي الحديث " إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه "، ومن هذه الآداب أيضا أن تكون النجوى في الطاعة والمعروف والإصلاح بين الناس، لا في المعاصي والمنكرات، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى .. ) [ المجادلة: 9 ]، وبغياب هذه الآداب تصبح المناجاة سببا من أقوى أسباب سوء الظن، والتخرص بحق المتناجين.

سوء الظن له عواقب وخيمة على الدعاة والدعوة والمجتمع الإسلامي كله، فسوء الظن يفتح أبواب الكبائر من عينة الغيبة والنميمة والبهتان والتجسس على مصراعيها، لذلك قرن الله عز وجل بين سوء الظن وبين الغيبة، وقرن الرسول صلى الله عليه وسلم بين سوء الظن والتجسس والتحسس، كما أن سوء الظن يصيب الجميع بحالة من التوتر والقلق النفسي والاكتئاب، فسيء الظن يوجه كل ظنونه إلى ما يعتقد أنه يبيض صفحته أو يدافع عن أهله ودعوته وطريقته ومنهجه، ومن كان موضع الظن السيئ يصيبه الهم والحزن من لوك الناس لسيرته وأخباره، ومن لم يقع في هذا ولا ذاك وقع عليه الهم في التفكير في مدى مصداقية هذه الظنون والأقاويل والشائعات، ومن آثاره الخبيثة أيضا أن الناس يكرهون من أصحاب الظنون السيئة وينفرون منهم، ويتجنبون صحبته، فيعيش منبوذا لا صاحب له، ولا يثق فيه أحد، ومن آثاره أيضا تفريق الصف الدعوي، حيث يتراشق الدعاة بالتهم، ويسحبوا الثقة من بعضهم البعض، وتنتشر البغضاء والشحناء بينهم، وتنتقل هذه الحالة لأتباع كل داعية وشيخ، وتشتعل نيران الفرقة والخلاف والتباغض بين صفوف الدعاة.

ولن ينجو المجتمع والصف الدعوي وطريق الدعوة إلى الله من هذا المرض الخطير إلا ببناء العقيدة الصحيحة في القلوب والتي تحرسنا من الظنون السيئة بالآخرين، كما تلعب التربية المستمرة دورها في تغذية العقيدة بمثبتات الإيمان في القلب والنفس، بترك المعاصي والسيئات، والمواظبة على فعل الطاعات والصالحات، وتنمي في القلب أصول الورع والتقوى الرادعة من سوء الظنون وتوابعها من الغيبة والنميمة والبهتان، أيضا يجب التحرز من مواطن الشبهات والتهم، ودفعها إن وقع فيها الإنسان دون قصد، ولا يتكل الداعية فقط على وجوب إحسان الظن به، فعن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب، فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد، فدعا بهما فجيء بهما ترتعد فرائصهما فقال: " ما منعكما أن تصليا معنا "، قالا: " قد صلينا في رحالنا "، فقال: " لا تفعلوا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام، ولم يصل فليصل معه، فإنها له نافلة ".

ابوالوليد المسلم 01-12-2024 06:42 PM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (8) التنطع والغلو



شريف عبدالعزيز



هناك على طريق الدعوة أدواء تعيق العمل، وتعطل السير، وتسبب في هدر كثير من الطاقات والإمكانات، ولكن هناك أدواء أخرى أشد خطرا وضررها من الأولى، لأنها تهوي بأصحابها في أودية الهلاك، ومهاوي الضلال، على رأس هذه الأدواء؛ التنطع والغلو في الدين. هذا الداء الخطير الذي تسبب في تنفير كثير من الناس من الدعوة والدعاة والالتزام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسهم بقوة في تشويه صورة الدين الصحيح، حيث لا إفراط ولا تفريط، لذلك كان لابد من التعرف على أسبابها ومظاهرها وكيفية علاجها.
التنطع في اللغة مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى في الفم، أو الجلدة الملتزقة بآخر الفك العلوي من الفم، وعندها موقع اللسان في الحنك، واستعمل اللفظ لتعبير عن كل تعمق في القول والفعل، فيقال: تنطع في الكلام وتنطس، إذا تأنق فيه وتشدق وتقعر، وتنطع في العمل إذا تكلف فيه، وأتى بما يشق به على نفسه، وعلى غيره، والنطع أيضا يطلق على الجلدة الغليظة المرتفعة التي يقوم عليها الحدود.
أما الغلو في اللغة: هو الارتفاع، أو الإفراط، ومجاوزة الحد أو القدر في كل شيء، تقول: غلا القدر بالماء، إذا ارتفع فيه الماء وفار، ومنه غلا في الدين، وغلا في الأمر غلوا، أي جاوز حده، قال تعالى ( لا تغلوا في دينكم ) [ النساء: 171] أي لا تفرطوا فيه، ولا تتجاوزا حد الاعتدال، أو حد التوسط.
أما في الاصطلاح فالتنطع والغلو مقارب لمعناه في اللغة، فهو: التعمق والإفراط ومجاوزة الحد في الأقوال والأفعال، وتحميل الأقوال والنصوص فوق ما تحتمله، فإذا كان هذا التنطع والغلو في الدين كان مساويا للتشدد والشطط، وهو مذموم بالكلية، لا خير فيه مطلقا، وعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما هو في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم " بأنه: "مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في مدحه وذمه على ما يستحق "، وقد ذكر ذلك وقريباً منه الشاطبي في كتابه "الاعتصام"، والحافظ ابن حجر في الفتح وصاحب كتاب تيسير العزيز الحميد، وقالوا: إن الغلو " هو الزيادة سواء كانت هذه الزيادة اعتقادية، أو عملية أو حكماً على الآخرين ". وورد ذمه في الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، قال تعالى ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق. .. ) [ النساء: 171]، وقال ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق. ..) [ المائدة: 77]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا، ويعلق راوي الحديث ابن مسعود رضي الله عنه على الحديث بقوله: " والذي لا إله إلا هو، ما رأيت أحدا كان أشد على المتنطعين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت أحدا كان أشد عليهم من أبي بكر، وإني لأرى عمر كان أشد الناس عليهم "، وكان عمر يتتبع الغلاة والمتنطعين ويوجعهم ضربا بدرته الشهيرة، كما فعل مع صبيغ العراقي الذي كان يقول بالمتشابهات.
وكان السلف رضوان الله عليهم يكرهون البحث في المسائل التي لم تقع، ويعتبرونه نوعا من التنطع والغلو، فقد قال مسروق: كنت أمشي يوما مع أبي بن كعب، فقال فتى: ما تقول يا عماه في كذا وكذا، فقال: يا ابن أخي، أكان هذا ؟، قال: لا، قال: فاعفنا حتى يكون. ويقول الصلت بن راشد: سألت طاووسا عن مسألة، فقال لي: كان هذا ؟ قلت: نعم، قال: آلله ؟ قلت: آلله، ثم قال: : إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل، أنه قال: أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فيذهب بكم هنا وهنا، فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد، وإذا قال وفق. وقال حماد بن يزيد المقرئ: حدثني أبي، قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن شيء لا أدري ما هو، فقال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من يسأل عما لم يكن.
ومظاهر الغلو والتنطع كثيرة، أبرزها المبالغة في التطوع المفضي إلى تضييع الواجب أو ترك الأفضل والاشتغال بالمفضول، كمن بات يصلى الليل كله وأضاع صلاة الفجر، أو اشتغل بقراءة القرآن في وقت الآذان، أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل صلاة الجنازة، وأمثلة على ذلك كثيرة، وإنما يؤتى المرء من قلة فهمه للنصوص الشرعية، ومن مظاهر الغلو أيضا كثرة الافتراضات، والسؤال عما لم يقع، وكثرة التفريعات، والتنقيرات، خاصة فيما سكت الله عز وجل عنه تفضلا منه وتكرما، ورحمة بعباده المؤمنين، وكتب الفقه المتأخرة والتي كتب معظمها في عهود التقليد والجمود الفقهي مليئة بأمثال هذه الافتراضات المرهقة والمسائل العجيبة التي ربما لم ولن تقع في تاريخ البشر، ومن جنس ذلك الاشتغال بالمسائل الفرعية على حساب الأصول، أو استفراغ الجهد في المختلف فيه، مع إهمال محل الإجماع، وقد قال الله عز وجل ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور رحيم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) [ المائدة: 105 ـ 106 ]، وكان الرجل يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن النقير والقطمير، والصغير والكبير، والحاضر والغائب، حتى أنهم كانوا يسألونه عن دوابهم إذا ضلت، ومصائرهم ومصائر آبائهم، فقد جاءه رجل يسأله: أين أبي ؟ يقصد في الجنة أم في النار ؟ وجاءه آخر يقول: أين أنا ؟ وثالث يسأله: من أبي ؟ وهكذا حتى أكثروا عليه في الأسئلة واشتد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة أسئلتهم العجيبة والغريبة، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات.
ومن مظاهر الغلو أيضا الإعراض عن الرخص بالكلية والإصرار على الأخذ بالعزائم، كمن يصر على الصيام وهو مريض بمرض يجوز معه الفطر، والصوم يؤخر برءه، فيعرض عن الفطر ويصر على الصيام، وكمن يباح له التيمم لعجز ما عن استعمال الماء، فيصر على استخدام الماء، فيفضي إلى ضرر في بدنه، وقد وصف الرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصر على الصيام ورفض رخصة الفطر في إحدى الغزوات، حتى أصابهم التعب الشديد، وصفهم بالعصاة، والله عز وجل يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
أما أبرز مظاهر الغلو فهو الغلو في التكفير والمسارعة في التفسيق، وتكفير المخالف هو شعار أول طائفة غالية في الإسلام، وهي طائفة الخوارج الذين خرجوا على المسلمين أيام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهؤلاء قد كفروا جمهور المسلمين والصحابة الكبار، ومع الوقت زاد غلوهم وتنطعهم، فكفروا بالمعصية، وكفروا من لم يوافقهم في منهجهم، واستحلوا دماء مخالفيهم وسبوا نساءهم، وجعلوا الأصل في الأشياء الحظر وليس الإباحة، ثم انقلبوا يكفرون بعضهم بعضا. وأصبحت فرق الغلو والتكفير حظا وقسما لهذه الأمة، فما من جيل وعصر إلا ويوجد فيه أمثال هذه الفرق الضالة التي تكفر المسلمين وتستحل حرماتهم، ولعل ذلك كان السر وراء عشرات الأحاديث التي حذرنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الغلاة، والتي أفاض فيها في وصفهم ووصف عبادتهم وأخلاقهم وعلاماتهم وكيف وقعوا في هذا الغلو والتنطع.
ولوقوع بعض الدعاة والمصلحين في الغلو والتنطع أسباب كثيرة، من أبرزها:
1 ـ التكوين النفسي
فبعض الدعاة قد يكون عنده استعدادا نفسيا وفكريا للوقوع في الغلو والتنطع، حيث يميل للعزلة أو يكون سريع الغضب، أو يكون متسرعا في إصدار الأحكام، أو يكون ضيق الأفق، سريع النزق، أو ميالا للأخذ بالشدائد والعزائم من الأمور، أو يكون ذكيا ولكنه لا يعرف كيف يوظف ذكاءه، وكأن يحرم من المربي والمعلم الصالح الذي يضع يديه على مواطن العيوب البشرية، منذ الصغر، فينصحه ويرشده لترك هذه الأمور المفضية للوقوع في التنطع والغلو، أو يكون الداعية ممن يحبون الشهرة والذيوع، أو الثناء والتكريم، أو المغنم والوجاهة، وهذه الصفات المقيتة في بعض الأحيان دافعة للوقوع في الغلو، والغلو والتنطع يحمل كل شاذ وغريب، وكلاهما يكسب الشهرة والذيوع، من باب " خالف تعرف ".
2 ـ البيئة المحيطة
فقد ينشأ الداعية في أجواء يغلب عليها التشدد والغلو في السلوكيات والأخلاقيات والمعاملات والعبادات، وليس مقصود بالبيئة الأسرة فحسب، فالأسرة هي البيئة الداخلية أو القريبة، وأما البيئة الخارجية أو البعيدة فهي أشد تأثيرا مثل الصحبة والرفقة والمدرسة أو الجامعة، وقد يقابل مع أثر البيئة غياب الحصانة العلمية، والمناعة الفكرية، التي تمكنه من رد شبهات الغلو والتنطع، وعندها يبدأ في محاكاة من يعتقد صوابهم، والتأسي بهم في المواقف والمشاهد والطباع، والطباع سرّاقة، ووقتها يقع في هذا الداء الوبيل، ويحمله مع بعد انتقاله إلى مرحلة الدعوة، وهكذا تنتقل الأفكار والأدواء من جيل إلى جيل عبر منظومة المحاكاة والاقتداء
3 ـ غياب المنهجية العلمية
معظم من وقع في الغلو والتنطع أوتي من قبل سوء علمه، وقلة فهمه، وغياب المنهجية الصحيحة في التكوين والبناء العلمي، فالجهل رأس كل بلية في الدنيا والآخرة، وهذا الغياب له صور عديدة منها:
الاعتماد على النفس في التحصيل والتعلم، فقد يعتمد بعض الدعاة على أنفسهم في طلب العلم وتحصيله، وهو لا يمتلك أدوات التحصيل، ولم يخبر دروب التعلم، فيكون كمن أبحر في بحر لجي، في مركب بلا شراع، فيجعل جلّ اهتمامه الكتب كبيرها وصغيرها، فتجنح به الكتب ذات اليمين وذات الشمال، وتقوده لا محالة للغلو والتنطع بسبب غياب الفهم، فتجد الواحد منهم يقرأ الكتب الكبار، ولكنه لا يحسن تخريج الفروع على الأصول، ولا استنباط الأحكام من القواعد، فتجده بسبب قلة الفهم وغياب الفقه يجنح ناحية التشدد والغلو، ويتوسع في التحريم عملا بظاهر الدليل، دون النظر في سياقه ودلالاته.
ومن صور غياب المنهجية العلمية؛ أخذ العلم من الجاهلين والمدعين وضعف العلم، فقد يكون لدى البعض رغبة ملحة في طلب العلم، ولكنه لا يعرف ممن يأخذ العلم والمعرفة، وتدفعه رغبته الملحة ونهمته في طلب العلم وتسرعه للانجرار وراء أي مدعي علم أو متحذلق بمعسول الكلام، فيحسبه ماءً وهو سرابا، والأخذ من الجهال، يورث الخبال، وتقلب الأحوال، والوقوع في التنطع والغلو، ولعل هذا هو عين ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد إليه في قوله: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق علماء، اتخذ الناس رءوسا جهالا، فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا " والجهل المفصود ليس الجهل البسيط أو المطلق، ولكنه الجهل المركب، الذي يجهل فيه صاحبه أنه جاهلا، وهو الذي يقود إلى الغلو والتنطع، وهذا الأمر يعظّم التبعة والمسئولية على العلماء العاملين، إذ عليهم واجب النصح والإرشاد وبيان صحيح الدين، ومحاربة مظاهر التشدد والتنطع، والتميز بين التمسك بشعائر الدين، الالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الغلو والتنطع والتشدد في الدين.
4 ـ الضغوط والإكراه
ففي الدول التي يتسلط فيها أعداء الإسلام والدعوة على رقاب العباد، يضطهد الطغاة والجبارين الدعاة لدين الله عز وجل، ويحاولون منعهم عن أداء وظيفتهم الدعوية في النصح والإرشاد والتربية، وهذا المنع قد يكون بالإيذاء النفسي كالإكراه والتهديد والابتزاز والإغراء، وأما أن يكون بالتنكيل والسجن والاضطهاد، ولقد قامت ثورات الربيع العربي، وسجون الطغاة ملئ بالدعاة والمخلصين والمجاهدين الذين سجنوا لسنوات طويلة، لا لشيء إلا لأنهم يدعون لدين الله وينصرونه، وهذه الضغوط الشديدة قد تدفع ببعض الدعاة للغلو والتطرف وتكفير الحاكم والمحكوم على حد السواء، ولعل ما حدث في ستينيات القرن الماضي في مصر، وظهور جماعات التكفير والهجرة من رحم غياهب وظلمات الزنازين في هذه المعتقلات، أبلغ دليل على أثر هذه الضغوط والاضطهادات على الجنوح ناحية الغلو والتطرف
5 ـ الرغبة في التنسك
كثير من المخلصين أصحاب العاطفة الإسلامية المتقدة والجياشة، يرغبون في تحصيل الحسنات، وتحقيق المزيد من القرب إلى الله عز وجل، وقد يري أن التقرب إلى الله لن يتم كماله إلا إذا شدد على نفسه، وغالي في تنسكه، حتى يخرج به الغلو والتشدد لئن يحرم نفسه من كثير مما أحله الله عز وجل، مثلما وقع مع الثلاثة نفر من الصحابة رضوان الله عليهم الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما عرفوها كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟، قال: أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه سلم إليهم فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب سنتي فليس مني ".
الغلو والتنطع من أحاد الناس مذموم مكروه، فما بالك لو كان من داعية لدين الله عز وجل، يفترض أن يكون عنصر جذب وتحبب في دين الله وشريعته، يفترض أن يكون أسلوبه وطريقته ومنهجه أدواته في نشر الدعوة، فالداعية الغالي والمتنطع معول من معاول هدم الدعوة والدين من حيث لا يدري، فالنفس البشرية لا تحتمل التنطع والغلو، ولا تصبر عليه، لأنه في الأساس يخالف الفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل الناس عليها، وفي حديث ابن مسعود أمارة على خطورة الغلو وأثره في تنفير الناس من الدعاة، فقد قال رضي الله عنه: إن رجلا قال يا رسول الله: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال: " إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضعيف، والكبير وذا الحاجة " ، لذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: " لا تبغضوا الله إلى عباده، فيكون أحدكم إماما، فيطوّل على القوم الصلاّة حتى يبغّض إليهم ما هم فيه "

أيضا لزوم طريق الغلو والتشدد، يورث الفتور والانقطاع لا محالة، فالتشدد عمره قصير، لا يقوى عليه معظم الناس، فالإنسان ملول، وطاقته محدودة، وإن صبر على الغلو يوما فسرعان ما تكل دابته، وتنهار عزيمته، فالبدن مطية الروح، ولو قويت الروح على الغلو والتشدد، فلن يقوى البدن، لأن قدراته وطاقاته محدودة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه، وإن قل " وقال أيضا: " إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى "، ومن كان على طريق الغلو والتنطع سائرا، فقد أضاع كثيرا من عمره بلا فائدة، فقد عبد الله عز وجل ودعا إلى من طريق يخالف طريق النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه، فطريقته غير مرضية، وعمله مردود، وأمره إلى بوار.



ابوالوليد المسلم 03-12-2024 11:21 PM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (9)

متى يموت الداعية؟ (الهزيمة النفسية)



شريف عبدالعزيز



هناك خيط رفيع يفصل بين مكارم الأخلاق ومنكرات الأهواء، بين الخلق القويم، والسلوك الذميم، فالخلق القويم دائما ما يمثل وسطية الإسلام والفطرة السوية، دائما نجده وسطا بين نقيضين، وقواما بين طرفين، حيث لا إفراط ولا تفريط، فالشجاعة مثلا وسط بين تفريط الجبن والنكول، وإفراط التهور والحماقة، والكرم وسط بين تفريط الجبن والشح، وإفراط الإسراف والتبذير، والجدية وسط بين الجفاء والهزل، واتساق المرء بين الإفراط والتفريط في الأقوال والأفعال والمشاعر والمواقف يقوده دائما إلى التقدم والاستقامة والثبات والنجاح.

وأكثر الناس حاجة إلى هذا الاتساق الأخلاقي والسلوكي والنفسي؛ هم الدعاة إلى دين الله عز وجل، فهم أكثر الناس اتصالا بالناس وأكثرهم تأثيرا فيهم، فهم القدوة، والأسوة، والمربين والمعلمين، والمتحدثين باسم الدين أمام العالمين، ومن الأمور التي أصبحت شائعة في صفوف الدعاة هذه الأيام، هذه الحالة المتزايدة من الشعور النفسي والقلبي لدى العديد منهم بالاحتقار للذات والهزيمة النفسية، حيث يرون أنفسهم بلا إنجاز حقيقي رغم مرور سنوات على اشتغالهم بالدعوة، وهذا الداء حقيقة هو من الأدواء القاتلة، فالموت الحقيقي هو موت العزائم والهمم، فالداعية الذي يظل ثابتا على طريق الدعوة، باذلا جهده ووقته، لخدمة الدين والمسلمين والنصح والإرشاد، لا يموت أبدا، ذلك لأنه موته البدني، لا يقطع عمله، ولا يوقف دعوته، فثواب وأجر دعوته يجري عليه، فالأفكار لا تموت، والصدقة الجارية تنفع صاحبها بعد موته، " وعلم ينتفع به " إلى ما شاء الله، أما من قتل الاحتقار همته، واغتالت الهزيمة النفسية عزيمته، فهو حي ميت، لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى !. لذلك كان لابد من الاقتراب من هذه الدائرة الخطيرة، والتعرف على أسبابها الوبيلة، حتى لا نقع في هذا المصير الأليم، بعد تعب وبذل السنين.

الاحتقار لغة: الإذلال، والإهانة، والتصاغر، وفي الحديث " إياكم ومحقرات الذنوب " أي الصغائر، أما الانهزام لغة: الانكسار والتشقق، ومنها: انهزم الجيش أي انكسرت شوكته.

أما في الاصطلاح فالانهزام النفسي أو الاحتقار فمعناه: استصغار النفس الخيرة، واستذلالها، والاستهانة بها أو انكسارها أمام الضغوط والشدائد، سواء كانت الضغوط من عدو صريح من شياطين الإنس والجن، أو من فتن الدنيا وزخارفها، بالدرجة التي تنتهي بالداعية لئن يتوقف عن دعوته أو يحتقر ما يقوم به، أو يرى نفسه أنه ليس أهلا للقيام بها، مما ينتهي به للتوقف بالكلية عن الدعوة لدين الله عز وجل.

ولهذا الاحتقار والانهزام النفسي العديد من المظاهر والعلامات الدالة على قرب توقف الداعية عن دعوته من أبرزها: التهرب من مواطن العمل والجهد والبذل والعطاء، وكثرة الاعتذارات بلا مبرر مقبول، ورفض أي صورة من صور تولي المسئولية، حتى ولو صغرت، والنكول عن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدعوى غلبة الشر واستطالة الباطل، واليأس من القضاء عليه أو مواجهته، ومنها الميل للعزلة، وتجنب مواطن العمل والجد، وقد يتطور الأمر حتى يعتزل المجتمع بأسره، ويتحجج بفساد الزمان ويستحضر نصوصا شرعية يعضد بها موقفه وهروبه من مواجهة الباطل، من عينة قوله صلى الله عليه وسلم " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن "، ومنها أيضا الخوف المرضي من الباطل وأجناده وأتباعه، والوقوع في أسر أوهام قوة العدو القاهرة وسلطته الباطشة، وأنه مهما فعلنا أو قدمنا من جهد، فسيجهضه هذا الباطل وأعوانه، وهو الخوف المقعد والقاتل للهمم والعزائم، وكم قتل هذا الخوف من داعية وصده عن سبيل وطريق الدعوة.

والقرآن الكريم زاخر بالآيات التي تحض على طلب المعالي ورفض الاحتقار والانهزام، لأنه لا يليق بالمسلم فضلا عن الداعية الذي كلّفه الله عز وجل بعمارة الأرض والاستخلاف عليها ونشر الدين بين أهلها، لا يليق به أن يكون مهانا خائرا ضعيفا ذليلا أمام ضغوط الحياة والدنيا، قال تعالى: ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) [ آل عمران: 139]، وقال: ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ) [ النساء: 104]، وقال: ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ) [ محمد: 35 ] وقال: ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني ) [ المائدة: 3]، وقال: ( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا ) [ الأحزاب: 39 ]

ولرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث رائع يقضي على أوهام الخائفين والمنهزمين، ويقول فيه: " لا يحقر أحدكم نفسه " قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال: " يرى أمرا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا، وكذا ؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى " فهل يبقى بمنهزم أو خائف بعد هذا الحديث مقال !.

وانطلاقا من هذه الفرضية الثابتة في الشرع من النهي عن الاحتقار والانهزام، قال أهل العلم بجواز طلب الولاية، إذا كان الطالب قادرا على أداء مهمته، وتحقيق إنجاز فيما وكل إليه، وقالوا أيضا بجواز مدح الشخص لنفسه بالحق إذا جهل أمره " فقد قال الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) [ يوسف: 55 ] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم " أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له،. .." وقال " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " وقال " أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة " وكانت عائشة رضي الله عنها تُسأل عن المسألة فتقول عنها نفسها: " على الخبير وقعت "، وأمير المؤمنين عثمان رضي الله تحدث عن مآثره ومناقبه وخدماته الجليلة في الإسلام، عندما حاصره الموتورون والحاقدون بالمدينة في أحداث الفتنة، حتى يعرفهم قدره وفضله، وأغلبهم كان لا يعلم شيئا عن فضائله رضي الله عنه.

والداعية لا ينهزم نفسيا أو يشعر بالاحتقار فجأة، أو بين ليل وضحاها، فهذا الداء الوبيل، يتسرب إلى القلوب والنفوس ببطء شديد، وبفعل أسباب كثيرة، من أبرزها:

أولا: التربية الخاطئة

فقد يكون إهمال تربية المرء من صغره على تحمل المسئولية، واعتياد توليها وتحمل تبعاتها، من الأسباب القوية في نشوء المرء ضعيفا مهينا خائر العزيمة، سريع النكول والفرار والانهزام، ولا نقصد بتولي المسئولية، تولي القيادة، أو تصدير المرء قبل أوانه، ولكن نقصد إسناد التكاليف ولو صغيرة، والتشجيع على ذلك، لتنمو ملكة العزم والحزم منذ الصغر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان مثالا لهذه النشأة الصالحة، فقد رعي الغنم صبيا، على ما في هذه المهنة من مشقة ومسئولية ومخاطرة أيضا، ولما اشتد عوده اشتغل بالتجارة، فسافر عبر الأفاق بالبضائع والأموال، وتحمّل الأمانات الثقيلة، واشترك في حرب الفجار، وحلف الفضول، وتولى التحكيم يوم الاختلاف على وضع الحجر الأسود عند تجديد الكعبة، وشبيه بذلك في أوقاتنا الحالية ما نراه من ناشئة البادية والقرى حيث يكونون أشد جلدا وأكثر ثقة وأصلب عودا وعزما من قرنائهم من ناشئة المدن والحواضر.

ثانيا: كثرة الانتقاد والتنقيص

فقد يعاني الداعية من كثرة توجيه الانتقاد لشخصه ولفعله من الآخرين، خاصة من إخوانه الدعاة، والتنقيص من قدره والسخرية من آرائه، وهذا الأمر مع الوقت، يجعل الداعية يحتقر نفسه، إذا كان في أول حياته الدعوية، أو ينقلب حربا على إخوانه، إذا كانوا من أقرانه ورفقائه، لذلك نهى الله عز وجل عن تحقير المسلمين لبعضهم البعض، قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم. .. ) [ الحجرات: 11 ]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. . "

ثالثا: تكرر الفشل

دوام الإخفاق، وتكرر الفشل، من أقوى الأسباب الداعية للانهزام والاحتقار، حيث يتولد شعور متنامي لدى الداعية أنه لا يصلح لهذا العمل الجليل، وأن الفشل هو النتيجة الحتمية لأي عمل يشترك فيه، وهو طبعا يجهل أن للنجاح سننا لابد من رعايتها وإتباعها، إن أراد المرء أن يحوز النجاح بفضل الله عز وجل، وعندما يتم تجاهل هذه السنن والطرق سيكون الفشل والإخفاق هو النتيجة الحتمية، والإخفاق وقتها سيكون ليس بسبب الداعية نفسه، ولكن بسبب سوء إدارته للعمل، وعدم انتهاجه سبل النجاح، وهذه النظرة المتشائمة عن مستقبل العمل والدعوة دفعت الكثيرين للتخلي عن هذا الطريق، والله عز وجل أمرنا بإتقان العمل وإحسانه، فقد كتب سبحانه الإحسان على كل شيء، حتى لا نقع في هذه النظرة السوداوية عن أنفسنا.

رابعا: المنافسة الوهمية

فقد تكون المنافسة الخاطئة أو الكاذبة أو الوهمية، أحد أسباب الانهزام والاحتقار، والمنافسة الوهمية هي المنافسة في الأقوال لا الأفعال، والتنافس سمة من السمات الثابتة للدنيا والآخرة، وعندما يكون الطرفان على قدم المساواة في الجد والفعل والعزم، عندها تكون المنافسة قوية وفعالة وشريفة وذات نتائج مبهرة، أما إذا كان أحد الطرفين جادا في منافسته، باذلا لكل ما في وسعه من أجل النجاح، في حين أن الطرف الآخر لاهيا لاعبا ينافس بالكلام والأوهام والأماني الكاذبة، عندها تكون منافسة غير واقعية أو وهمية، وواقع المسلمين اليوم خير دليل على هذه المنافسة الوهمية، فأعداء الإسلام سلكوا كل دروب النجاح، ويكيدون لنا ليل نهار، بكل حزم وجد وعزم، ويستفرغون كل ما في طاقاتهم وجهدهم من أجل محاربة الأمة، في حين أن المسلمين غارقون في الخلافات الصغيرة، والهمم الدنيئة، حتى سبقنا الغرب بآلاف السنوات الضوئية، وصرنا نلهث من أجل إدراكهم، ولا نستطيع مما أورث كثير من المسلمين شعورا بالذلة والدونية والانهزام أمام عدوهم.

وبعض الدعاة يقع في مثل هذا الشرك الأليم للمنافسة الوهمية، بالاشتغال بالسفاسف والتوافه، والمجادلة بالأقوال لا بالأحوال، وبعد فترة يكتشف أن يحيي في سراب ويتقلب في أوهام، وإخوانه ورفاقه من الدعاة، قد حازوا قصب السبق، فيأكل الندم قلبه، وتأسر الهزيمة والانكسار نفسه.

خامسا: حب الدنيا

قد يكون تمكن حب الدنيا من القلوب من بين الأسباب المؤدية إلى الاحتقار والانهزام النفسي، فحب الدنيا أما أن يدفع صاحبه للوقوع في المعاصي والمحرمات والمنكرات، وعندها يسودّ قلبه وتضيق نفسه، ويهتف به شيطانه: كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ وأنت غارق لأذنيك في المحرمات ؟ دع هذا الطريق الذي لا يصلح إلا للأتقياء. وحب الدنيا إذا لم يدفع للوقوع في المحرمات فإنه حتما سيدفع للوقوع في آفة أخرى، وهي التوسع في المباحات، والانغماس في الشهوات من طعام وشراب ونساء وهكذا، والله عز وجل كتب علينا التوسط والاعتدال في كل شيء، والمرء المتوسع في المباحات يتشرب قلبه حبها وكراهية مفارقتها، حتى يأتي الوقت الذي تملئ حياته، وتستولي على قلبه ونفسه، فيصبح غاية سعيه وأهم أهدافه تحصيلها والتنعم بها، عندها يترك طريق الدعوة ويبتعد عنها.

سادسا: ضعف اليقين

قد يكون ضعف الثقة بموعود الله من أسباب الانهزام والاحتقار، فالله عز وجل قد وعد عباده المؤمنين بالنصر والتمكين والرفعة والثناء في الدنيا والآخرة، وأنزل إليه خير الشرائع وأفضل الكتب وأعظم المناهج، وقال وقوله الحق، وقضى وقضاؤه العدل ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * أنهم لهم المنصورون * وأن جندنا لهم الغالبون ) [ الصافات: 171ـ 173]، كما وعد سبحانه بإظهار الدين وأهله: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) [ التوبة: 33]، اليقين والثقة بهذه الوعود الربانية بمثابة الوقود والطاقة لقلب الداعية، بمثابة القوة الدافعة على طريق الدعوة المليء بالعقبات والمكروهات، لذلك يوم أن ينفد رصيد هذه الطاقة في قلب الداعية، ويضعف تصديقه بوعد الله لأي سبب من الأسباب، فإنه خروجه من سجل الدعاة مسألة وقت إلا أن يتداركه الله عز وجل بنعمة منه وفضل.

عندما تجتمع هذه الأسباب بعضها أو كلها، فإن الداعية يموت تدريجيا بانهزام قلبه واحتقار نفسه، حيث تبدأ آثار هذا الانهزام في الظهور عليه وعلى طريقته في الدعوة، متمثلة في البعد التدريجي عن المهام الدعوية والتكاليف والمسئوليات، ثم تغيير الآراء والأفكار، وهو ما نشهده من مراجعات كثير من الدعاة لمناهجهم وأساليبهم، لا من باب التغيير والتجديد ومواكبة التطورات الكبيرة على الساحة، ولكن من باب الانهزام والدونية والذلة، ويلي ذلك مباشرة الارتماء في أحضان الطغاة والظالمين، ومداهنتهم، والسير في ركابهم، وتبرير فسادهم واستبدادهم، من باب الخوف والرجاء من هؤلاء الجبارين الظالمين، ثم تجده بعد ذلك منعما بمتع الدنيا الكثيرة، مستمعا بها لأقصى درجة، فيسكن في القصور الشامخة، يركب السيارات الفارهة، ويلبس الثياب الفاخرة، ويقتني الثروات الطائلة، وعندها يحق عليه القول، وتجري عليه السنن التي لا تعرف محاباة ولا جورا، ويطبق عليه قانون السقوط بكل بنوده، ويعلن نعيه بنفسه، وينادي عليه أصحابه: كبروا علي صاحبك أربعا، فقد تودع منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.






ابوالوليد المسلم 07-12-2024 12:08 PM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (10) إتباع الهوى



شريف عبدالعزيز



حقيقة دين الإسلام هو الانقياد التام لأوامر الله ورسوله، والاستسلام الكامل لما طلبه الشارع، فالإسلام هو إسلام الوجه والقصد لله عز وجل، والتخلص من إسلام الوجه لغير الله من الأنداد والأتباع وكل ما يعبد من دون الله، ومن أشد معيقات تمام الانقياد لله عز وجل، وإسلام الوجه له سبحانه وتعالى؛ الهوى، فمن اتبع هواه، ضل عن طريق الخضوع لمولاه، وصار هواه ندا يعبده من دون الله عز وجل، ولو كان إتباع الهوى مذموما بحق كل مسلم فهو أشد ذما وفتكا عندما يتسرب إلى قلب الدعاة، حيث لا يتصور وجود داعية لدين الله وإتباع أوامر الله والاستسلام لوجه الكريم، ثم يكون هو نفسه متلبسا بهذا المرض العظيم الذي تظهر آثاره وأضراره على الداعية والدعوة بصورة لا تخطر على بال أحد، لذلك كان لابد من الحذر من هذا الداء الخطير، وتطهير الصف الدعوي منه.

إتباع الهوى في اللغة له عدة معان منها: ميل النفس إلى ما تشتهي، وإرادة النفس ما تحب، غلبة ما يحب الإنسان على قلبه، عشق الصور وتمكنها من القلب، وخلاف بين هذه المعاني، إذ أنها تصف إتباع الهوى في درجاته المتفاوتة، منذ بدايته كميل وإعجاب دون تمكن واستقرار، ثم يتطور حتى يصير حبا وغلبة على القلب، ثم يصير بعدها عشقا وهياما يستولى على القلب استيلاء لا فكاك منه إلا برحمة من الله عز وجل. وقال علماء اللغة أن إتباع الهوى إذا أطلق انصرف إلى ما كان مذموما من أمور الدنيا، أما إذا أريد به ما كان خيرا، جاء مقيدا بوصفه.

أما إتباع الهوى في الاصطلاح: فهو السير وراء أهواء النفس وحظوظها وما تشتهيه، والنزول على حكم العاطفة من غير الرجوع إلى شرع أو عقل أو مشورة أو تجربة.

وإتباع الهوى مذموم أشد الذم في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل آية ورد فيه لفظ الهوى، فتنصرف إلى الذم ومخالفة أمر الله عز وجل، والله عز وجل حذر من إتباع الهوى وجعله في مرتبة الإله المعبود والمطاع من دون الله سبحانه وتعالى، فقال عز من قائل في عدة آيات { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]، وقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]، وهذه الآية ترد على من يزعم أن إتباع الهوى إنما يقع فيه الجهال فقط، فهؤلاء الذين اتخذوا الهوى إله من دون الله، كان عندهم علم ولهم جوارح فاعلة، ولكنهم اتبعوا هواهم وتركوا كل هذه الأدوات التي كان يفترض أن تقودهم إلى الهداية.

والله عز وجل قرن بين إتباع الهوى وبين الظلم، فقال: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135]، وقرن بين إتباع الهوى وبين الضلال، فقال: ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) [ ص 32]، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } [القصص: 50]، وقرن بين إتباع الهوى والذلة والهوان في الأرض، فقال {لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ... } [الأعراف: 176] ، وبين الله عز وجل أن عصيان الهوى من علامات الخوف من الله عز وجل، ومن أسباب دخول الجنة، فقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41]

والرسول صلى الله عليه وسلم كان من أشد الناس تحذيرا من إتباع الهوى، وضرب به عدة أمثال ليبين للمسلمين خطورته وأضراره على قلب ونفس المؤمن، فوصفه بأنه إحدى المهلكات، فقال " ثلاث مهلكات؛ شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه"، وقال " بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة. ... " ووصفه في مقام آخر بأنه أحد أسباب سواد القلب وفساد النفس، كما في حديث عرض الفتن على القلوب، الذي جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم " والآخر أسود مربادا، كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما اشرب من هواه " وشبه إتباع الأهواء بوصف بالغ الروعة والدقة، حيث شبهه بلهث الكلاب خلف أصحابها، فمن المعروف أن الكلاب تجري وراء أصحابها حيثما اتجهوا، لا يخرجون عن طاعة أصحابهم قط، فقال صلى الله عليه وسلم " وإنه سيخرج أقوام من أمتي تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه "

أما عن أسباب إتباع الهوى فكثيرة منها ما كان بفعل البيئة الداخلية للداعية، ومنها ما كان من أثر البيئة الخارجية أو المحيطة به، ومن أبرز هذه الأسباب ما يلي:

الأول: التنشئة الخاطئة

فالكثير من الناس لا يدري تلكم الحقيقة البشرية الراسخة؛ أن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، وكثير من الآفات التي تصيب الناس، إنما تنمو معهم منذ الصغر بسبب التنشئة الخاطئة، وإتباع الهوى واحد من العديد من الآفات البشرية التي تأتي من البيت والتربية الأسرية الخاطئة، فالمرء قد يلقى من أبويه في الصغر حبا مفرطا، وتدليلا مفسدا، وحنانا زائدا، فينشئ لا يصبر على أدنى فراق للذته، أو تأخير عن قضاء شهوته، حتى ولو كان فيما يسخط الرحمان، فيكبر المرء وتكبر معه نوازعه الجامحة وأطماعه الجانحة، وحتى ولو كانت مباحة، فإن أقل ما يصيبه من إتباع هواه، أن يسرف فيها، فتتحول إلى داء في جسده يسلبه العافية، وداء في قلبه يسلبه نور الهداية، والضبط مقدرة يتربى عليها الإنسان من صغره، وعادة يتعود عليها، وكلما تعود من صغره، كلما سهل عليه أمرها، وكان أكثر منها تمكنا، فيكون مستعدا عند ملاقاة الأهواء وتلاطم الرغبات، والجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، لا يستقيم لمسلم فضلا عن داعية إلا بضبط نفسه والتحكم في أهوائه ورغباته، حتى وأن كان في دائرة المباح الذي لا إثم فيه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]
فكل ما ذكرته الآية ليس محرما بذاته، ولكنه لما صار عائقا ومانعا من طاعة الله ورسوله، وسببا في القعود عن الجهاد في سبيل الله وخدمة الدين صار إثما عظيما وندا من دون الله.


ثانيا: مجالسة أهل الأهواء

السلف رضوان الله عليهم كانوا أعمق الناس فهما، وأسلمهم صدرا، وأعظمهم فقها، وأدراهم بمرامي الشريعة ومقاصد الشارع، لذلك تجدهم أشد الناس تحذيرا من مجالسة أهل الأهواء والمبتدعين والمنحرفين فكريا وسلوكيا وأخلاقيا، فالعاطفة والميل ينمو بطول المجالسة وكثرة المخالطة، والطبع سرّاق، فمن عاشر الصالحين طفق يأخذ من آدابهم وأخلاقهم، ومن عاشر أهل الاستقامة، سار على دربهم واقتفى أثرهم، ومن جالس وصاحب أهل الفتن والزيع والأهواء، تأثر بهم وانتهج سبيلهم وناله من شرهم وآذاهم، فهو كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ نافخ كير، يحرق ثياب من يجالسه، أو يصيبه من شرر ناره ونتن غباره، وقد وعى السلف رضي الله عنهم هذا المعنى جيدا، فأكثروا من التحذير من مخالطة أصحاب الأهواء والبدع ،والجلوس إليهم والاستماع منهم، بل ومجرد التعامل معهم، فقد قال الحسن البصري وابن سيرين رحمهما الله: " لا تجالسوا أصحاب الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم " وقال أبو قلابة رحمه الله: " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون ".

ثالثا: تقصير المحيطين

فالله عز وجل قد تعبدنا بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلها من أهم وظائف المرسلين، وقطب الدين الأعظم الذي عليه مدار الدعوة، فلبّ الدعوة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يكون السبب في وقوع بعض الدعاة في آفة إتباع الهوى، نابع من تقصير المحيطين بهذا الداعية من رفاقه وإخوانه الدعاة، فقد يرونه في هواه سائرا ويتركونه، وصاحب المرض إذا رأي من حوله لا يحسنون إلا الثناء عليه، ويتحاشون الإنكار عليه، فإنه سوف يستمر على ضلاله من حيث لا يدري، فالثناء مغري، والسكوت مرضي، والعافية منّة من الله سبحانه، وداعية يظل الداعية مصانا من النقد والزجر حتى يأكل المرض قلبه، ويتمكن الهوى من قلبه، ويسيطر على كل جوارحه ومشاعره.

لذلك كان الإسلام حريصا أشد الحرص على مقاومة المنكرات، وعدم السكوت عليها مهما كانت الضغوط، والآيات والأحاديث في هذا الشأن كثيرة جدا، والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب في حياته وسيرته مع أهله وأصحابه المثل الأعلى في زجر من اتبع هواه، فالثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك، لم يكن عندهم عذر، سوى الميل إلى الدنيا، وإيثار الراحة والكسل والسلامة، على الجهاد والبذل والتضحية والتعب، لذلك كانت العقوبة والتأديب شديد، أكثر من خمسين يوما لا يكلمهم أحد من الناس، هجران كامل من أهل المدينة، حتى أن الواحد منهم كان يمشي في السوق والطرقات بين الناس، فلا يأبهون له، كأنه لا وجود له، حتى أنزل الله عز وجل توبتهم من السماء، ويوم أن رفضت زينب بنت جحش رضي الله عنها أن تعطي صفية بنت حيي بعيرا لتركبه بدلا من بعيرها الذي اعتل، وقالت: أنا أعطي تلك اليهودية، غضب الرسول صلى الله عليه وسلم منها، وهجرها أكثر من شهرين.

رابعا: إهمال القلب وترك مراقبته

لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث رائع يجب على كل داعية أن يضعه دائما نصب عينيه، وجاء فيه "وإنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة "، أي أن قلبي يصيبه غشاوة من كثرة مخالطة الناس، ومكابدة أمور دعوتهم، والإجابة على تساؤلاتهم، لذلك فهو يحتاج إلى مداومة الذكر والاستغفار، حتى يعود إلى قلبه عافيته الإيمانية، وقوته الدعوية، والدعاة في أمس الحاجة إلى دوام مراقبة قلوبهم ،ومتابعة أحواله وتقلباته، لأن الدنيا فتانة، والمغريات كثيرة، وحب الدنيا يتسلل إلى القلب والنفس ببطء، لا يشعر به الغافلون والسادرون، وفي الأثر " الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله "

والأخطر من ذلك أن صاحب الهوى قد يغرق في هواه من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه، ومن حيث لا يدري يقسو قلبه، ثم يدخل في طور الاحتضار، ثم الموت، ولا يشعر بهذا الموت إلا عند اللحظة الحاسمة المصيرية، التي يحتاج فيها إلى ثبات وقوة قلبه، عندها يفيق من غفلته الطويلة، فلا يجد قلبه إلا جثة هامدة لا حياة فيها، وعندها لا ينفع الندم.


الداعية طبيب يصف العلاج والدواء للآخرين، ولو كان الطبيب نفسه مريضا، فمن يداويه ؟ ومن ينصحه ويرشده إلى الصواب، فوقوعه في أسر هواه، يجعله يرفض نصيحة الآخرين، ويتكبر عليها، ويعز على نفسه الانقياد للغير، فيتلاشي مخزونه الإيماني، وتتناقص طاعته شيئا فشيئا، حتى يستولي الهوى على قلبه، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فإما أن يطيع ربه، وإما أن يطيع هواه، والله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو سبحانه لا ينظر إلى الأجسام والصور، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، وأخطر ما في إتباع الهوى ؛ الوقوع في البدع، وهو المدخل العظيم الذي ولجت منه البدع إلى حظيرة الدين، فمتبع الهوى أقرب الناس وقوعا في باب الابتداع، إذ أنه يحّكم هواه في كل أمر، فهواه هو السيد المطاع، الآمر الناهي، وبالتالي لو تعارض هذا الهوى مع أمر الله ورسوله، فإنه يبادر بإتباع هواه، والابتداع في الدين ليوجد مبررا ومنهجا يوافق ما أملاه عليه هواه، قال حمّاد بن سلمة: حدثني شيخ من الرافضة تاب: كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئا، جعلناه حديثا "، ولو يمكن في إتباع الداعية لهواه ضرر أكبر من التخبط والتيه والبعد عن الصراط المستقيم، لكفى بهذا المرض والداء إثما، وتذكروا معي قوله سبحانه وتعالى وتأملوا فيه {فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [الجاثية: 23]، فهذا رجل له علم وسلامة حواس، فلم ينفعه علمه عندما أطاع هواه، وضل عن طريق مولاه، فمن ينقذه ويأخذ بيديه إلى طريق الهداية لو تخلى عنه ربه سبحانه وتعالى ؟!

ابوالوليد المسلم 10-12-2024 12:23 PM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (11) العجب بالنفس



شريف عبدالعزيز



طبيعة العمل الدعوي أنه عمل علني، فيه احتكاك بالجماهير، وهذا الاحتكاك والمعاشرة تولد كثيرا من الآفات والأمراض، ففي النشاط الدعوي تظهر الكفاءات والمواهب والقدرات العالية، وعندها يتعرض الدعاة إلى المديح والثناء والإطراء من الآخرين، ويبدأ الداء الفتاك في التسلل إلى القلوب والنفوس، داء العجب، حيث تبدأ النفس في البحث عن ذاتها، والإحساس بقدراتها، وتترقب آراء العاملين والمستمعين باهتمام، فإذا وجدت ما تبحث عنه من مديح وثناء، زادت في غيها، ولجّت في دائها، وإذا لم تجده، تمردت وثارت، وربما حزنت وانهارت، والدعاة إذا لم ينتبهوا لهذا الداء الخطير، محقت بركة أعمالهم، وفنيت في الباطل أعمارهم، لذلك كان من المتعين بيان هذا المرض الفتاك، وأسبابه وعوارضه وآثاره الخطيرة على الدعوة والداعية.

العجب في اللغة له عدة معان منها: السرور والاستحسان، يقال: أعجبه الأمر، إذا سر به، ومنه قوله تعالى: ( وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ. .. ) [ البقرة: 221]، وقوله: ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا. .. ) [ الحديد: 20 ]، ومن معانيه أيضا: الزهو والإعظام والاستكبار، يقال: أعجبه الأمر أي زها به، وعظم عنده وكبر لديه، ورجل معجب: أي مزهو بنفسه ومعظم لها ومكبر لما يكون منه مهما كان حسنا أو قبيحا، قال تعالى (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) [ التوبة: 25 ].

أما في اصطلاح العمل الدعوي فالعجب هو: الإحساس الزائد بالنفس، والفرح بذاتها وبكل ما يصدر منها من أعمال وأقوال، والشعور التمييز والتفوق على الغير، قال ابن المبارك: " العجب أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك "، والعجب يقود إلى الغرور، كما قال بشر الحافي: " أن تستكثر عملك، وتستقل عمل غيرك "، والتمادي فيه يقود إلى التكبر والعياذ بالله، قال القرطبي: " إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال، مع نسيان نعمة الله، فإن احتقر غيره مع ذلك فهو الكبر المذموم ".

والعجب من الأمراض المهلكة والآفات الممحقة للعمل والعمر، لذلك كانت كلمة الشرع فيه شديدة وحاسمة، فهو مذموم أشد الذم، ومسالكه ودروبه كلها مذمومة، حتى أن خير الخلق وسيد الأنبياء والمرسلين، الذي قضي عمره كله في خدمة الدين والجهاد في سبيله، فلم يبل أحد مثلا بلائه، ولا جاهد وصابر مثل جهاده وصبره، ومع ذلك كله، أمره ربه سبحانه وتعالى في بداية طريق الدعوة بقوله: ( وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ) [ المدثر: 6]، فهل يبق لأحد إدعاء ببذل أو عطاء أو منة بعد قول ربنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل قد نهى عن تزكية النفس، والاعتقاد بأفضليتها وخيريتها، فقال سبحانه: ( فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) [ النجم: 32]، كما نهى عن المن بالصدقة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ) [ البقرة: 264]؛ لأن المن بالصدقة من مداخل العجب بالنفس

والعجب بالنفس أحد المهلكات المذكورة في الحديث الشهير " شح مطاع، هوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه "، كما ورد في جزاء العجب بالنفس والتخايل بها قوله صلى الله عليه وسلم " بينما رجل يتبختر، يمشي في برديه، قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: " الهلاك في شيئين: العجب والقنوط "، وقيل لعائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئا ؟، قالت: إذا ظن أنه محسن " وهذا هو عين الصواب والفقه والعقل منها رضي الله عنها، فمتى رضي الإنسان عن حاله، أعجب بنفسه، وشعر أنه قد أدى ما عليه، وأنه يستحق لزما الثناء والمديح.

ومظاهر العجب بالنفس كثيرة، بعضها يخفى لا يعلمه إلا الله، وبعضه يظهر لخواص الناس من المحتكين والقريبين من الداعية، وبعضه يظهر للناس جميعا، يراه ويعرفه كل أحد، من هذه المظاهر :

انتظار الكرامة والمثوبة بالمن على الله، ومطالبته سبحانه بما آتى الصالحين والأولياء المصطفين، انتظار إجابة الدعوة.

ومنها الإكثار من مدح النفس والثناء عليها، وذكر مآثرها، والاستعراض بالقدرات والإمكانات لحاجة ولغير حاجة.

ومنها أيضا وهو مما يخفى على كثيرين؛ ذم النفس في العلن، وهو مدح خفي لها، كأن يخوض في عرض إخوانه من الدعاة وغيرهم، ثم ينهي خوضه وغيبته لهم بقوله: " وما أبرئ نفسي، أو أنا أشر منهم "، قال الحسن البصري: " ذم الرجل نفسه في العلانية، مدح لها في السر، فمن أظهر عيب نفسه فقد زكاها، وقد ورد النهي عن ذم النفس في الشرع في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لقست نفسي " واللقس هو الكسل والخمول، ومعناه يختلف عن الخبث والسوء.

ومنها النفور من النقد ومجافاة النصيحة والناصحين، فترى المعجب ينتفخ صدره عندما يطرق المدح مسامعه، وفي الوقت إذا وجه له أحد نصحا أو نقدا، ينقلب على الفور إلى النقيض، فيضيق صدره، ويغضب ويتوتر، ويبادر بالسوء من القول والفعل.

ومنها البحث عن الوجاهة والمناصب والمراكز الهامة والقيادية، فالمعجب يري لنفسه مواهب وقدرات، لابد أن تستغل وتوظف في المكان اللائق بها، والرغبة في التصدر للأعمال التي فيها مسئولية وظهور، والشعور بالأحقية والأفضلية في ذلك، قال سفيان الثوري رحمه الله: " فإن لم تكن معجبا بنفسك فإياك أن تحب محمدة الناس، ومحمدتهم أن تحب أن يكرموك بعملك، ويروا لك به شرفا ومنزلة في صدورهم ".

ومنها الاستبداد بالرأي والتمسك به، وازدراء آراء الآخرين، وتسفيهها على اعتبار أنها خرجت من غير مؤهلين، ومنها كثرة النقد للآخرين، خاصة الدعاة ورفقاء الدرب، وإظهار عيوبهم، وإذاعتها وإظهار الضجر منها، والمبالغة في تضخيم هذه الأخطاء، وإظهارها بمظهر المتسبب في تعويق أو فشل العمل.

ومنها رفض فكرة العمل الجماعي والمؤسسي، إذا كان دوره في هذا العمل بعيدا عن الرئاسة والقيادة والتوجيه، فالمعجب بنفسه يتولد عنده شعور دائم بالأولوية المطلقة والأحقية الدائمة في التصدر والرئاسة، وقد يدفعه هذا الشعور المرضي لرفض المسئوليات الصغيرة، أو بعض الأعمال الإدارية التي قد يراها أقل من مكانته ومنزلته.

أما عن أهم الأسباب المؤدية للوقوع في الداء الوبيل فهي:

أولا: الجهل

رأس كل خطيئة، وأس كل بلية يقع فيها ابن آدم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) [ الانفطار: 6]، قال عمر رضي الله عنه: غره جهله، فجهل المعجب بقدر نفسه، وبقدر ربه عز وجل وأسمائه وصفاته، جهله بضعف عمله وقلة علمه، جهله بحقيقة نفسه، وهل كانت بدايته سوى نطفة مذرة، ثم كانت نهايته جيفة قذرة، وهو بين هذا وذاك يحمل البول والعذرة، فأنّى لمخلوق هذا حاله أن يعجب بنفسه، أو يدّل بعمله.

ثانيا: التنشئة الخاطئة

وهي من الأسباب الثابتة وراء كل آفة تصيب المسلم في قلبه ونفسه وسلوكياته وأخلاقه، فقد ينشأ الداعية في كنف والدين معجبين بنفسيهما، أو يحبان المدح والإطراء، أو يكثران من تزكية النفس، وحب المحمدة، فتتشرب هذه المعاني والأخلاق الرديئة في قلب المسلم من صغره، فينشأ كما عوده أبوه، أو يتربى في كنف داعية معجب بنفسه، والإنسان بطبعه شديد المحاكاة، سريع التأثر بمن يحبه، لاسيما لو كان معلمه ومربيه قوي الشخصية، عندها تكون المحاكاة أشد، والتأثير أكبر.

ثالثا: المبالغة في الإطراء والمديح

قد يكون عدم الالتزام بالآداب الشرعية في الإطراء والثناء، من أسباب تسرب العجب إلى قلب من وقع عليه هذا الإطراء والمديح، فالشيطان يقعد لابن آدم بكل سبيل، وينتهز أي فرصة للنيل منه، ويبحث ليل نهار عن أي مدخل يدخل عليه به، لذلك جاء الشرع محذرا وناهيا عن المدح في الوجه، لأن المادح قد يفتح على أخيه بهذا المدح باب شر عظيم من حيث لا يدري، فقد مدح رجل رجلا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: " ويحك، قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك " مرارا، وقال: " إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا "، وجاء عن مجاهد عن أبي معمر أنه قال ك قام رجل يثني على أمير من الأمراء، فجعل المقداد بن الأسود رضي الله عنه يحثي في وجهه في وجهه التراب، وقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب "، ومن هذه الأحاديث استنبط أهل العلم بأن للمدح آداب ثلاثة: الأول: ألا يكون في المدح إفراط ومجاوزة للحد، الثاني: أن يكون بالحق لا بالباطل، الثالث: ألا يكون مع من يخشى عليه الفتنة من إعجاب وغيره، وإذا توافرت هذه الآداب جاز المدح، بل من الممكن أن يصير مستحبا إن كان من ورائه مصلحة من تشجيع وتنشيط على الدعوة والخيرات.

رابعا: الاشتغال بالنعم ونسيان منعمها

لأبي حامد الغزالي رحمه الله تعريفا فريدا للعجب، يكشف عن دقيق فقهه وبصيرته بآفات النفوس وعيوبها، إذ عرفه بأنه: استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى النعم "، فالبعض قد يغره ما فيه من نعم ومواهب، وتعمي بصيرته أضواء هذه النعم، فينسي صاحبها الحقيقي، ومن أنعم بها ابتداء عليه، ويتحدث بلسان قارون الذي قال الله عنه: ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي )[ القصص: 78]، لذلك كان الله عز وجل دائم التذكير لعباده بمصدر النعمة فقال سبحانه (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [ النحل: 53]، قال: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) [ لقمان: 20]، قال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) [ فاطر: 3]

خامسا: التصدر قبل الأوان

العرب كانت تقول في حكمها السائرة " من تصدر قبل أوانه، فقد تصدر لهوانه " فالتصدر قبل أخذ العدة العلمية والنفسية والإيمانية ،وقبل أن يأخذ قدره اللازم من الإعداد التربوي، يعرض المرء لكثير من الأزمات والآفات، ذلك لأن منصب الصدارة والرئاسة يعرض صاحبه لكثير من المغريات القلبية والمعنوية، حيث يعتقد المتصدر أنه ما نال هذا المنصب إلا لمواهبه وقدراته الفذة، وقد يزداد الأمر حدة خاصة إذا كان من يعمل تحت يديه يبالغ في طاعته واحترامه، فهذا يفتح عليه بابا لا يغلق من العجب بالنفس والإدلاء بالعمل، لذلك نهى الإسلام عن القيام للغير والتعظيم المبالغ فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار "، وكان يكره أن يقوم له الصحابة رضي الله عنه عند قدومه ويقول لهم: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا ".

العجب داء خطير إذا ما تسرب بوادره إلى قلب الداعية، فإنه يتحول إلى داء خبيث سرطاني يأكل القلب والنفس والعمل والحسنات أكلا، لذلك كان العجب أحد المهلكات التي تهلك دنيا العبد ودينه، ولو لم يكن في العجب ضرر سوى وقوع الداعية في داء الكبر الرهيب، لكفى به ضرر وخطر، فآثار الكبر مهلكة، ولا ينجو يوم القيامة من كان في قلبه ذرة من هذا الداء الوبيل. كما أن العجب يؤدي لحرمان الداعية من التوفيق والمدد الإلهي ونور الهداية، إذا يكله الله عز وجل إلى نفسه، لأن المعجب يري إلا نفسه، ولا يعرف إلا قدراته وإمكاناته فقط، ومن كان هذا حاله، فإن الخذلان أمامه لا محالة. والمعجب بعمله قد يحبط عمله من حيث لا يدري، فالله خاطب خير خلقه وصفوة رسله بقوله سبحانه: (وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) [ المدثر: 6]. كما أن المعجب يكون عرضة للانهيار وقت الشدائد والنوازل، لأن إعجابه بنفسه يدفعه لنسيان تزكية نفسه، وتقوية إيمانه، ناهيك عن فقدان المعية والتأييد الإلهي، لأنه ما عرف ربه وقت الرخاء. والناس بطبيعتهم ينفرون من المعجب بنفسه، ويكرهونه لاستعلائه عليهم وازدرائه لهم.

ولن ينجو الداعية من الوقوع في الداء الوبيل إلا بالاعتماد على الله عز وجل، والافتقار إليه وحده، والانكسار بين يديه عز وجل، والانطراح على عتباته، وعدم رؤية النفس مطلقا، والشعور الدائم بالحاجة إليه سبحانه، الحاجة إلى معيته ونصره وتأييده وهداه، ولن يتأتى ذلك إلا بالعلم الشرعي الذي يهذب النفس، ويصلح القلوب ويواجه الآفات وحبائل الشيطان، العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله وقدرته سبحانه وتعالى، وتذكر نعم الله على العبد، والنظر في حال من فقد هذه النعم، أو حرمها ابتداء أو عقوبة، وتذكر عبادة الشكر الراقية التي راهن على هجرها الشيطان، كما قال الله عز وجل: (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) [ الأعراف: 17 ]، أيضا يجب على الداعية أن يعرف حقيقة الدنيا والآخرة حق المعرفة، ودوره في هذه الدنيا، وموقعها من الآخرة، قال الشافعي رحمه الله: " إذا خفت على عملك العجب، فاذكر رضا من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب، فمن فكر في ذلك، صغر عنده عمله "، فلن ينجو الداعية من العجب إلا بالعلم والإخلاص وداوم المراقبة والمعرفة الحقة.

ابوالوليد المسلم 10-08-2025 01:59 PM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
أمراض على طريق الدعوة (12) تنافس الدنيا


شريف عبدالعزيز

من الأمراض العضال التي تعترض طريق كثيرا من الدعاة في سيرهم إلى الله - عز وجل -؛ مرض التنافس على الدنيا وزينتها ومتاعها وشهواتها، فإن سلطان وسحر زينة الحياة الدنيا وشهواتها قد أخذ بألباب وعقول كثير من أبناء الأمة حتى عبدوها، وأصبحوا يرون في تعاليم الإسلام وأحكامه ما يفسد عليهم متعتهم بها، فصاروا يحاربون تعاليم الإسلام والداعين إليه، ويقفون في وجه كل دعوة جادة إلى الإسلام تريد إعادة الأمر إلى نصابه، وتقوم ببيان خطر الاغترار بالدنيا.

والشباب الملتزم بعامة والدعاة إلى الله - عز وجل - بخاصة،جزءٌ من أفراد المجتمع الإسلامي يصيب بعضهم ما يوجد في مجتمعاتهم من أمراض وأدواء،ومن ذلك وجود ظاهرة التنافس الدنيوي، وانشغالهم بذلك عن تربية أنفسهم والقيام بواجبـهـم تـجاه دينهم وأمتهم؛ بل إن الأمر لدى أولئك تجاوز حد التشاغل إلى مرحلة التساقط عن الطريق وترك الطاعة ومبارزة الله - عز وجل - بالمعاصي.هذا المرض قد أولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عناية خاصة لعلمه الشريف بأنه سيكون المرض الأشد فتكا والأنكى أثرا في عمل كثير من الدعاة إلى الله - عز وجل -، وقد خلّف هذا المرض وراءه آثارا خطيرة وعواقب مهلكة، لذلك كان الحذر منه من أولويات ومهمات العاملين المخلصين والدعاة المتجردين.

أولا: تعريف التنافس الدنيوي

التنافس في اللغة يأتي على عدة معان:

منها محبة الشيء والرغبة في الحصول عليه، يقال نافست في الشيء منافسة، ونُفاسة بالضم أي صار مرغوبا فيه ومحبوبا ،وأصله من الشيء النفيس. ومن المعاني أيضا الضن بالشيء والبخل به، يقال نفست عليه بالشيء بكسر النون أي ضننت به وما أحب أن يناله أحد غيري. ومنها التسابق والتباري في الشيء دون إلحاق الضرر بالآخرين ومنها قوله عز وجل ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) [ المطففين 26]. ومنها رؤية الغير غير أهلا للشيء يكون معه ومن ثم ينافسه عليه. وهذه المعاني كلها متقاربة لا تعارض فيها، وعلى هذا يكون تنافس الدنيا في اللغة بمعنى التسابق والتباري مع الغير على أمور الدنيا وأحوالها، وذلك رغبة ومحبة وضنا بهذه الدنيا.

أما تنافس الدنيا في الاصطلاح فهو واضح ومعروف ويكون بمعنى لا يختلف كثيرا عن المعنى اللغوي وهو التباري رغبة في حظوظ الدنيا ومتاعها والاستئثار بها دون الآخرين.

والأدلة من الكتاب والسنة على ذم هذا المرض الخبيث كثيرة ومتواترة وتضع تصورا شاملا وحدا فاصلا بين التمتع بما أباحه الله - عز وجل - من زينة الدنيا ومتاعها، وبين التنافس على أمرها، أما من الكتاب فمثل قوله عز وجل (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [الحديد 20]، وقوله عز وجل (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ? وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ طه 131 ]

أما من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي كثيرة وتحمل تحذيرات قوية وواضحة وصريحة لا لبس فيها عن خطورة هذا المرض، فعن الزهري عن عروة بن الزبير أخبره أن المسور بن مخرمة أخبره، أن عمرو بن عوف وَهُوَ حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ, وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فَقَدِمَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُ لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: " أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ ؟ " قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُ " أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم ؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض " أخرجه مسلم وابن ماجة

ومنها قوله: " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه من المال، والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه " وفي نفس معناه قوله صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله "

ومنها عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ, أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلَى الْمَوْتَى, ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمِنْبَرِ فقال: " إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ, وَإِنِّي وَاللَّهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ, وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا ".

وللتنافس على أمور الدنيا مظاهر وعلامات وآيات يعرفها أولوا الألباب والأبصار من أبرزها:

1ـ التوسع في المباحات من المآكل والمشارب والمتع والزينات، والتجمل والإكثار من التأنق في الهيئات.

2 ـ الانشغال الدائم والحديث المستمر عن الدنيا وزخارفها ومتعها وأحدث فنونها وملذاتها، وسبل التحصل عليها واقتناصها والبحث عن أحدث الموضات والابتكارات، والمخاصمة المستمرة عليها مع أهلها وعبيدها.

3 ـ كثرة استخدام وسائل الترويح عن النفس من مزاح وألعاب ونزهة وزيارات كثيرة تخرج بالترويح عن الأمر الذي شرع له، وتصبح في حياة كثير من الناس كأنها هي الأصل والجد هو الفرع.

4 ـ ضياع الأوقات وانتشار البطالة في حياة بعض من الدعاة والمصلحين، حيث تكثر ساعات نومهم ويتتابع فناء أعمارهم دون أن يقضوا شيئاً منها في أمر ينفعهم في دينهم أو دنياهم.

5 ـ التعلق بالتوافه، وضعف التفكير، وغياب القدرة على النقد البناء، وانتشار التقليد، والتسرع في الحكم على الأشياء بناءً على ظواهرها، وإمكانية التلاعب بالشخص واستدراجه إلى ما يراد من قبل الآخرين بيسر وسهولة وبدون عناء أو مشقة.

6 ـ إهمال الورع وضياعه في غالب الأحوال وترك التحري في ما يدخل الجوف ويكسو البدن، وازدراء نعمة الله علي عبده، والتسخط من تقلب الأمور وعند نزول البلاء.

7 ـ الأخذ بالرخص والبحث عن أقوال العلم وانتقاء ما يناسب منها حاله من التلذذ بالدنيا والتنافس عليها، لكي يرفع عنه حرج السائلين ولوم اللائمين، ويبرر لنفسه انغماسه في هذه المباحات والتنافس على طلبها.

وللتنافس على الدنيا أسباب تقود إليه، وبواعث تؤدي للوقوع فيه، من أهمها:

1 ـ طول الأمل ونسيان الموت:
الانشغال بمتاع الدنيا والتنافس على تحصيل شهواتها ناتج عن طول الأمل ونسيان الإنسان كونه في رحلة إلى الدار الآخرة تكتمل بنزول ملك الموت لقبض الروح، ونظراً لخطورة تلك الغفلة عن ذلك المصير وما تنتجه من ضعف الخوف من الله - تعالى -، وبالتالي عدم المحاسبة للنفس والمراقبة لعملها، فإن الله - عز وجل - حذرنا في آيات عديدة من هذا العرض فقال سبحانه ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعُوا ويُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) [الحجر:3]، وقال صلى الله عليه وسلم موصياً ابن عمر: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" ،ذلك لأن الغريب لا تعلق له ببلد الغربة، ولا تشاغل لديه بملذاتها وملهياتها، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه، والمسافر لا هم له في الاستكثار من متاع الدنيا أثناء قطعه لمنازل السفر، وإنمـا يكتفي بتحصيل زاد السفر فقط. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: " هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به ـ أو قد أحاط به ـ وهذا الذي هو خارج: أمله، وهذا الخطط الصغار: الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا " أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه والدارمي، وقال ابن حجر معلقا عليه في الفتح: " ويتولد من طول الأمل: الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب "

2 ـ الغفلة عن حقيقة الدنيا:

وهو السبب الأهم الذي يقود إلى الوقوع في مرض التنافس الدنيوي، فالدنيا دار مم لا دار مقر، جعلها الله - عز وجل - معبرا للآخرة ومتزودا للرحلة الآخرة، وفي نفس الوقت جعلها الله - عز وجل - دار ابتلاء وسجن وعقوبة، شحنها بالزخارف والزينات وحفها بالمحبوبات والملذات، فكان من اشتغل بهذه الزخارف والزينات ونسي الغاية من خلقه من الغافلين والخاسرين، ومن انتبه وأخذ منها بقدر، سلم من شرها ونجا من حبائلها، والآيات عن حقيقة الدنيا وزينتها كثيرة جدا منها، (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ( [ آل عمران 14 ]، ومنها قوله (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ) [ يونس 7 ]، وقوله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة هود آية: 15-16 ] والآيات كثيرة في هذا الباب وهي تكشف حقيقة الدنيا، ومن غفل عن هذه الحقيقة فسوف يركن إلي الدنيا ويؤثرها على الآخرة ويحرص على تحصيل ملذاتها ومتعها، ومن ثم ينتقل الحرص إلى التنافس.

3 ـ ضعف الإيمان بالقضاء والقدر:

فالأرزاق والآجال والأحوال والأعراض وكل ما يعرض لابن آدم في دنياه من خير وشر كان بعلم الله وتقديره، وقد تضعف عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر في قلوب البعض فينسى أن حظوظ الدنيا تجري وفق هذه المقادير، وأن كل إنسان قد فُرغ من كتابة أجله ورزقه وحظه من الدنيا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فقد قسّم الله المعايش والأرزاق والآجال، فبسط للبعض وضيق على البعض الآخر، فلا حيلة فيما كتب الله - عز وجل - في لوحه المحفوظ، ومهما تبارى الناس وتسابقوا وتنافسوا فلن يخرجوا عما كتبه وقدره الله لهم، ولا يظن البعض من هذا السياق أنها دعوة لترك الأسباب والتنافس في الخيرات، ولكنه دعوة لتجديد الإيمان بالقضاء والقدر والرضا بما قسمه الله، وفهم حقيقة الدنيا وحظ كل امرئ منها. وزيادة المال ووجود النعم ووفرتها تكون أحياناً من أكبر دواعي الإقبال والتنافس على الدنيا، وذلك لأن المال يعمي ويصم، ويدعو إلى الركون والمتعة والراحة ويدفع صاحبه إلى البذخ والإنفاق في غير حاجة، وقد أوضح الله - تعالى - في كتابه هذه الحقيقة في آيات، منها قوله (كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ) [العلق:6-7]،ويزداد تأثير كثرة المال ووفرة النعم على الإنسان وجره إلى الترف وغاية الرفاهية حين يكون مولوداً في النعم، لم تمر به حالات بؤس، ولم يعرف شدة البلاء ومعاناة الفقر، بل جاءه المال وتوفرت لديه النعم بسهولة ويسر من دون ما كسب أو بذل جهد، عندها تكون الدنيا أكبر همه وغاية سعيه.

4 ـ التناقض في حياة الإنسان:
الانغماس في مباهج الحياة وزينتها عادة ما يكون ناتجا عن تغليب الإنسان لمتطلبات،وإغفاله لمتطلبات مهمة أخرى من عقل وروح، وعدم قيامه بالأخذ بالهدي النبوي الرشيد الداعي إلى الموازنة بين تلك الجوانب المختلفة، روى البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن عمرو حين علم بمغالاته في العبادة: " ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً"، وروى البخاري أيضاً أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".

5 ـ ضعف التربية وخلل البدايات:

من أبرز أسباب التنافس على الدنيا والاشتغال بشهواتها ضـعــف التربية وضعف التوجيه الجاد والمناسب للشباب من قبل بعض المربين في كيفية التعامل مــع فتنة الحياة الدنيا وزخرفها وما نتج عن ذلك من عدم تربية النشء على الجَلَدَ والخشونة بذريعة الخوف من انفراط اجتماع الطلاب حول المربي والخشية من انصرافهم عنه بالكلية، فتجد المربي يكثر من الرحلات الخلوية والخروج إلى المتنزهات بحجة تفريغ الطاقات والترويح عن عنت المذاكرات، وهذا ينتج على المدى الطويل وسطا حريصا على التنافس على الدنيا، وبيئة قابلة لزيادة التنافس والتسابق على متاع الدنيا، وهذه البيئة وحدها كفيلة بإنتاج جيل كامل من الشباب دعاة وغيرهم من المتنافسين على زخارف الدنيا.

6 ـ الغفلة عن الموت:

كل الناس يؤمنون بأن الموت هو غاية كل حي، ولكن قليل منهم من يؤمن بذلك إيمانا حقيقيا ينطبع على جوارحه وسلوكياته ومعاملاته، فالإيمان الحقيقي يجعل الإنسان يضع الدنيا في يديه لا في قلبه، ولا يبالي أقبلت عليه أم أدبرت عنه، أما الإيمان النظري بالموت يجعل الإنسان من حيث لا يدري ينسى هذا الحقيقة، ويركن إلى الدنيا ويقيم لها وزنا، ويعمل لها حسابا ويبذل قصارى جهده في تحصيلها ولو بالتنافس والتباري عليها، لذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت ودوام الاستعداد للقاء الله - عز وجل - حتى لا تغيب هذه الحقيقة عن قلوب وعقول الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أكثروا ذكر هاذم اللذات " أخرجه الترمذي وقال حسن غريب، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مصلاه يوما فوجد أناسا يكتشرون ـ تظهر أسنانهم من الضحك ـ فقال: " أما لو أنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى " أخرجه النسائي في سننه باب كتاب الجنائز.

الدعاة عندما تلبسوا بهذه الآفة الخطيرة ونسوا مهمتهم الأصلية، ونسوا أن الأطباء الذين يصفون العلاج لمن يقع في أمثال هذه الأدواء أصابهم كثير من الأذى والآثار الجانبية الضارة والمهلكة سواء في الدنيا أو الآخرة، ومن أبرزها: القلق والتوتر والاضطراب النفسي بسبب سيطرة الدنيا على قلبه وعقله وتفكيره، بعد أن ابتلي بجمعها والخوف من ضياعها، ومنها أيضا إهدار الحقوق الدعوية والأخوية، فالتنافس على الدنيا يقود إلى الصراع والتباري المذموم، وإساءة الظنون وتتبع العورات والتفتيش على الزلات، كما أنها تهدر معظم وقت الداعية بحيث يقع في التقصير والخلل في أداء الواجبات والاستحقاقات الدعوية لكثرة مشغولياته الدنيوية، ومع ازدحام الرغبات الدنيوية على الواجبات الدعوية يبدأ الداعية في التضحية بالدعوي إيثارا للدنيوي، بل يصل الأمر بالبعض للانصراف على أعمال الآخرة من العبادات والطاعات، ذلك لأن الدنيا قد صارت أكبر همه ومبلغ علمه وغاية سعيه.

لن يتخلص الداعية من هذه الآفة الخطيرة الضارة المضرة إلا بالاعتماد على الله وحده، واليقين التام بأن حظوظ الدنيا تجري بالمقادير، ومهما فعل الإنسان من أجل تحصيل حظ أو نصيب منها، فإنه لن يصل فوق ما قسم الله - عز وجل - له، وإن البصيرة التامة بحقيقة الدنيا وأنها ليست الهدف أو الغاية من أكبر معينات الداعية في الخروج من شرك هذا المرض الخطير، كما يجب على الداعية الذي يعيش في بيئة تنافسية ووسط حريص على الدنيا أن يقوم بتغيير هذا الوسط والخروج إلى البيئة الصالح أهلها الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، فإن ذلك ينزع من قلبه هذا الداء الخطير.



ابوالوليد المسلم 10-08-2025 02:09 PM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (13) الفتـور


شريف عبدالعزيز

من الأمراض المنتشرة على طريق الدعوة إلى الله - عز وجل - والتي نَدُرَ من سلم منها؛ آفة الفتور والانقطاع، فكثيرا ما نرى من الدعاة نشاطا وإقبالا قويا على البذل والعطاء الدعوي، ثم نفاجأ بعد فترة بانقطاع وتوقف عن العمل، حيث تخبو الحماسة ويخفت صوت التضحية، ويفتر الداعية عن العمل، ويضربه الكسل والقعود عن العمل، ولا يقبل على العمل بنفس القوة والنشاط المعتاد، فتصبح الدعوة بالنسبة إليه عملا روتينيا ثانويا يؤديه ببرود وفتور، وللأسف الشديد لا يكاد يسلم داعية من هذا الداء، لذلك وجب الحديث عنه والاستفاضة في بحثه.

الفتور لغة واصطلاحا:

الفتور في اللغة على معنيين: الأول: الانقطاع بعد الاستمرار، أو السكون بعد الحركة. الثاني: الكسل أو التراخي، أو التباطؤ بعد النشاط والجد، قال ابن منظور في لسان العرب: " وفتر الشيء، والحرُّ، وفلان يفتر فتورا، وفُتَارا: أي سكن بعد حدة، ولان بعد شدة "

أما في الاصطلاح: فالفتور داء يصيب بعض الدعاة إلى الله - عز وجل - يتراوح بين الكسل والتراخي والتباطؤ، وقد يصل بهم إلى الانقطاع والسكون التام بعد النشاط الدءوب. قال تعالى: (ولَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ) [ الأنبياء 19 ـ 20 ]، أي أن الملائكة في عبادة دائمة ينزهون الله عما لا يليق به سبحانه، ويواصلون الليل والنهار بالعبادة والذكر لا يضعفون ولا يسأمون ولا ينقطعون عن ذلك.

للفتور مظاهر كثيرة تبدأ بكثرة الاعتذارات عن التكاليف الدعوية، والتماس الأعذار من أجل الفكاك منها، وكثرة تأجيل المهام والأمور الدعوية، ومنها عدم الإتقان في أداء هذه الوظيفة الدعوية، والتكاسل والتباطؤ في التنفيذ، فما يمكن إنجازه في يوم ينجز في أسبوع أو أكثر، ومنها كثرة الاختلافات مع الأقران بسبب ضعف الأداء الدعوي والتقصير في التكاليف مما يؤدي لنشوب خلافات مع رفقاء الطريق، ومنها الانغماس في الأمور الدنيوية، حيث يعطي الدنيا الوقت الذي كان يعطيه للدعوة، وغير ذلك كثير من العوارض التي نستطيع أن نردها لتسرب هذا المرض الضار إلى نفوس وقلوب بعض الدعاة.

أسباب الفتور عند الدعاة:

أولا: الغلو والتشدد:

فالفتور قد يتسرب إلى النفس بسبب فقدان التوازن في حياة الداعية، فالداعية من جملة البشر مركب من جسد وروح ولكل منهما حاجاته ورغباته وحقوقه، والغلو والتشدد من أكثر الأمور التي تدفع إلى الفتور والتوقف، فعندما يشدد الداعية على نفسه في الدعوة والعبادة ويأخذ نفسه بالعزائم كلها، ويحرم بدنه حقه من الراحة والطيبات فإن ذلك حتما ولابد سيقوده إلى الضعف أو السأم والملل من ثم الفتور والانقطاع، لذلك جاء الإسلام بأشد عبارات النهي عن الغلو والتشدد والتنطع، فقال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " وقال أيضا: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا، وقال: " لا تشدَّدوا على أنفسكم، فُيشَدَّدَ عليكم، فإن قوما شدَّدوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع، والدَّيارات " وقال: " إن الدَّين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه "، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها، وعندها امرأة، فقال: " من هذه ؟ " فقالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها، قال: " مه عليكم بما تطيقون فو الله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين ما داوم عليه صاحبه عليه "، وقال صلى الله عليه وسلم: " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ّ"، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -قال: كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار، وتقوم الليل، فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل فقال صلى الله عليه وسلم: " إن لكل عمل شِرّة والشِرّة إلى فَترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل ".

وللأبدان حقوق أكد عليها الحبيب المصطفى صلوات ربي وتسليماته عليه لذلك قال لأبي الدرداء رضي الله عنه: " إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه " وفي رواية عند البخاري: " فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا .."

ثانيا: الإسراف والترف:

فكما قلنا في النقطة السابقة الوسطية والقوامة في الأمور كلها عناوين الثبات والاستمرارية والنجاح، فكما أن مجاوزة الحد في الطاعات والعبادات مذموم يقود إلى التنطع والغلو ومن ثم إلى الملل والفتور، فكذلك إن الإسراف والترف ومجاوزة الحد في التنعم والمباح من شأنه إلى يؤدي إلى البطنة والسمنة وسيطرة الشهوات وهذا يؤدي حتما إلى الكسل والتثاقل ثم الانقطاع، قال تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) [الأعراف 31 ]، وقال صلى الله عليه وسلم: " ما ملئ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ".

والصحابة رضوان الله عليهم كانوا مدركين لهذه الحقيقة لذلك نجد عباراتهم مليئة بالتحذير من هذه الآفة، فها هي أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وعن أبيها تقول: " أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشّبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فضعفت قلوبهم، وجمحت شهواتهم " وها هو أمير المؤمنين سيف الحق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: " إياكم والبطنة في الطعام والشراب، فإنها مفسدة للجسد، موروثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما، فإنه أصلح للجسد، وأبعد من السرف، وإن الله ليبغض الحبر السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه "، وقال أبو سليمان الداراني من أئمة السلف: " من شبع دخل عليه ست آفات: فَقَدَ حلاوة المناجاة، وتَعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشّباع حول المزابل ".

ثالثا: الميل للوحدة والتفرد:

العمل الدعوي عمل جماعي بشري يقوم على مخالطة الناس ومكابدة أحوالهم ومعايشة أوضاعهم، كما أن طريق الدعوة طويل وشاق كثير العقبات يحتاج إلى تساند وتساعد من رفقاء الدرب وإخوان الطريق، فإذا سار الداعية مع الجماعة وجد نفسه دوما متجدد النشاط، ثابت الجنان، قوي العزم، أما إذا آثر الوحدة واختار التفرد والعزلة في هذا الطريق، وفارق رفقاء الدرب، فإنه سرعان ما يستوحش ويفقد طاقته ولا يجد من يشحن بطاريات نشاطه، فيتراخى ويتباطأ، وربما انتهى به الأمر للانقطاع، وقد حفلت نصوص الشرع بالدعوة إلى التمسك بالجماعة والتحذير من مفارقتها، والشذوذ عنها، قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَلتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَلْعُدْوَانِ وَتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [ المائدة 2 ] وقال (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [ الأنفال 46 ]

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة " وقال: " من فارق الجماعة شبرا، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " وقال: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم "

رابعا: التفريط في واجبات اليوم والليلة:

فالله - عز وجل - قد افترض على المسلمين فروضا تؤدى بالليل والنهار، وأمر بالمحافظة عليها، ودور الدعاة أن يذكروا الناس بهذه الفروض ويحثونهم على التمسك بها والمواظبة عليها، فالله - عز وجل - قد افترض على المسلمين فروضا تؤدى بالليل والنهار، وأمر بالمحافظة عليها، ودور الدعاة أن يذكروا الناس بهذه الفروض ويحثونهم على التمسك بها والمواظبة عليها، فإذا فرّط الدعاة أنفسهم في المحافظة على هذه الواجبات والفرائض فإن عقوبتهم تكون أشد وأسرع وملامة الله - عز وجل - لهم أكبر كما قال سبحانه (أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون ) [ البقرة 43 ]، فلو صادفت داعية يوما قد أصابه داء الفتور والانقطاع فانظر أول ما تنظر إلى طاعاته وسجل عباداته، فإنك حتما ولابد ستجد تكاسلا عن الجماعة ونوما عن صلاة الفجر وهجرا لكتاب الله - عز وجل - وتخلفا عن مواطن الخير وهكذا، فالعبادات والطاعات وعلى رأسها الفرائض والواجبات هي رأس مال الداعية ومصدر قوته وعموده الفقري في مواجهة نوائب الدهر وصروف الزمان وأعباء الطريق ، بدونها يفقد الداعية خطوط الإمداد والتمويل والزاد للطريق الطويل.

خامسا: رفقة الضعفاء:

فصحبة ذوي الإرادات الضعيفة والهمم الدانية ممن يرون أن أقصى طموحاتهم لا يجاوز تحت أقدامهم، ويقتصرون دائما على الدون من العمل والقليل من البذل والنذر من العطاء، صحبة هؤلاء كصحبة الأجرب؛ معدية ممرضة تورث السقم وتنقل من النشاط إلى العدم، وكما قالت العرب قديما " الصاحب ساحب " أي يسحب إلى نفس خصاله وأخلاقه وأفعاله، لذلك جاء التنبيه النبوي على ضرورة انتقاء الصحبة الصالحة والرفقة الخيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم إلى من يخالل "، وقال أيضا: " إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وأما أن تبتاع منه، وأما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وأما أن تجد منه ريحا منتنة "

سادسا: العشوائية والعفوية:

من أهم أسباب نجاح أي عمل بعد الاعتماد والتوكل على الله؛ حسن التنظيم والترتيب والتخطيط، والناظر لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجدها كلها خير مثال على هذا الأمر، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يخطو خطوة واحدة إلا وهو يعلم أين يضعها ؟ ولماذا يضعها ؟ وما يرجو بعدها، ولعل حادثة الهجرة إلى المدينة خير شاهد على هذا الكلام، وربى صلى الله عليه وسلم أصحابه وعماله على النظام والترتيب وحسن التخطيط، فها هو صلى الله عليه وسلم يرسل عامله معاذ بن جبل - رضي الله عنه - إلى اليمن معلما ومرشدا، فيضع له منهجية وخطة العمل وترتيبه ودقته، فقال له: " إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد إلى فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإيّاك وكرائم أموالهم ،.. "

والداعية إذا لم ينطلق من هذه الأصول الدعوية من الترتيب والتنظيم والتخطيط، واعتمد على العشوائية والعفوية والارتجالية في عمله، بحيث يقدم الثانوي على الأساسي والمستحب على الواجب، عندها يطول عليه الطريق، وتضطرب عنده الرؤية، ويضاعف من الجهود والتضحيات ليصل إلى أهدافه، ولكن في المقابل تضعف عنده النتائج، وعندها يصيبه الحزن والفتور وربما التوقف والانقطاع. وقد يكون من صور العفوية والعشوائية في العمل الاقتصار في الدعوة على جانب واحد من العمل ملغيا غيره من الأعمال من حسابه، مثل أن يجعل همه التركيز على الشعائر التعبدية، أو التركيز على العمل الخيري مثل كفالة الأيتام والأرامل، أو التركيز على العمل الاجتماعي، ولاشك أن كلها أعمال عظيمة رائعة ولكن الاقتصار على واحدة منها دون غيرها حتما ولابد أن ينتهي بالداعية إلى الفتور.

الفتور من أضر الأمراض التي تصيب الدعاة إلى الله عز وجل، فالفتور يأتي على رصيد الداعية من الطاعات والحسنات، والأدهى من ذلك أن يأتيه ملك الموت وهو على فتوره وكسله، فيلقى الله مفرّطا مقصَّرا، لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال "، وكان من مبشراته صلى الله عليه وسلم للدعاة والصالحين والعاملين أنه قال: " إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله " فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت " أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، كما أن الفتور قد يؤدي لإهدار جهود عظيمة وطاقات كبيرة وأعمال هامة كانت على وشك الاكتمال، وسنة الله - عز وجل - الماضية في الخلق: أنه سبحانه لا يعطي النصر والتمكين للكسالى والغافلين والراقدين، كما قال سبحانه ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ إنَّا لا نُضِيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلاً ) [ الكهف 30] وقال ( والَّذِينَ جَاهَدُوا ِفينَا لَنَهدِيَّنهم سُبُلَنَا وإنَّ الله لَمَعَ المحُسِنِينَ ) [ العنكبوت 69].

لذلك فإن روشتة علاج هذا الداء الوبيل بالحرص والمواظبة على الطاعات وأعمال اليوم والليلة من أذكار وأوراد وصلوات وتهجد وسائر محفزات ومقويات القلوب الضعيفة الخائرة، والعمل في إطار مؤسسي جماعي يستوعب الطاقات ويوظف الملكات فيد الله - عز وجل - مع الجماعة، وفي أكنافها تتنزل الرحمات، وخارج أسوارها تتنزل العذابات، كما ينبغي للداعية أن يقي نفسه من داء الفتور بتناول مضادات المرض من التوسط والاعتدال والقصد في الأمور كلها، والتحرر من ربقة الغلو والتشدد والانحلال والتسيب، كما يجب على الدعاة معرفة أن حسن التخطيط والتنظيم والمنهجية السليمة للعمل هي أحد أسرار النجاح، وأخيرا فإن نعم الزاد لمواجهة أي داء هو التوكل على الله - عز وجل - واستمداده ودعائه وطلب العافية والرشاد منه، فهو نعم المولى ونعم النصير.






ابوالوليد المسلم 29-10-2025 06:21 PM

رد: سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘
 
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (14) الغضب


شريف عبدالعزيز

طريق الدعوة؛ طريق شاق مليء بالصعاب والمعوقات والعقبات والمواقف العصيبة، فموضوع الدعوة؛ هم الناس، ومخالطة الناس واحتمال أذاهم تحتاج إلى صبر، ومصابرة، واحتمال لأقصى درجات الاحتمال، فالداعية يجب أن يكون واسع الصدر مع الناس، يصبر على أذاهم، ويحلم على جهلهم، ويعفو عن تهورهم، ويبش في عبوسهم، لذلك كان الصبر مع اليقين هما طريق نيل الإمامة في الدين، قال تعالى: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) [ السجدة 24]. لذلك كان الغضب من أشد الآفات فتكا بوظائف الدعاة، وأسرع السبل لإحباط جهودهم، وإضاعة تعبهم ودعوتهم، ومعظم مشاكل الدعاة مع الجماهير سببها يرجع إلى الغضب، ومن ثم كان الوقوف عليه ومعرفة أسبابه ودوافعه من أهم أولويات فقه الدعوة والداعية.

أولا: الغضب في اللغة

الغضب في اللغة له عدة معاني منها: السخط، أو عدم الرضا بالشيء وعن الشيء، يقال: غضب عليه غضبا، ومغضبة: سخط ولم يرض، وغضب له: أي سخط على غيره من أجله. ومنها العض على الشيء، يقال: غضبت الخيل على اللجام: أي عضت عليه. ومنها العبوس، يقال: ناقة غضوب، وامرأة غضوب، أي عابسة. ومنها ورم ما حول الشيء، يقال: غضبت عينه، أي ورم ما حولها. ومنها الكدر في المعاشرة والخلق، يقال: هذا غُضَابي، أي متكدر في عيشه. ومنها الجُنَّة، تتخذ من الإبل وتلبس في القتال، والغضبة: جلد المسن من الوعول حين يسلخ.

ثانيا: الغضب في الاصطلاح

الغضب في الاصطلاح معناه: تغير حال الإنسان داخليا، بصورة يندفع معها الدم إلى الصدر والرأس، فيترتب عليه تولد انفعالات تدعو إلى الرغبة في الانتقام، وشفي الصدر مما يجده الإنسان، والتغيرات الداخلية تقود إلى تغييرات خارجية من احمرار الوجه والعينيين، وارتفاع الصوت، وارتجاف البدن، وأشد منه الغيظ الذي هو أشد الغضب.

ثالثا: الغضب في ميزان الإسلام

الغضب فطرة إنسانية تعامل معها الإسلام كحقيقة ثابتة، وعاطفة بشرية لا مفر منها، لذلك كان دور الإسلام أن يرشد هذه العاطفة ويقومها لا أن يلغيها أو يتجاهلها. وحقيقة الغضب في الإسلام: أن منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، فما كان دفاعا عن النفس أو العرض أو المال أو الدين أو نصرة للمظلوم، ونجدة لمقهور، فهو الغضب المحمود الذي يحبه الله ورسوله، ويشهد لذلك أدلة كثيرة منها: قوله عز وجل ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [ الفتح 29 ] والشدة على الكفار لا تكون إلا عن حمية وغضب، وذلك لا يكون إلا لنصرة دين الله أو غضبا لانتهاك حرماته، وهم في نفس الوقت رحماء فيما بينهم، فشدتهم ليست مطلقة، وكذلك رحمتهم ليست مطلقة، وهو التوظيف المثالي لهذه العاطفة القوية.

ومنها قوله عز وجل: ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة 54 ]، وفي هذه الآية ذكر الله - عز وجل - ، أن من صفات المرشحين للتمكين في الأرض، وحماية دين الله - عز وجل - ، والانتصار لشريعته؛ العزة على الكافرين والذلة على المؤمنين.

ومنها قوله عز وجل: ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ) [ التحريم 9 ] والغلظة على الكافرين والمنافقين لا تكون إلا عن غضب عليهم بسبب كفرهم ونفاقهم.

ومنها قول عائشة - رضي الله عنها - في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما إلا ما كان إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله ".

أما الغضب المذموم فما كان انتقاما للنفس، وثأرا لحظوظ الدنيا، ومنافسة على زينتها، وهو المقصود بالذم والذي جاءت الآثار والأخبار بالنهي عنه والتحذير من عواقبه، ومنها:

ما رواه البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب "، وعن أبي هريرة أيضا: أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أوصني، قال: " لا تغضب "، فردد مرارا، قال: " لا تغضب ". وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما تعدون الصرعة فيكم ؟ " قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: " ليس ذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب ". وكان عبد الله ابن مسعود يقول: " انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه " يقصد معرفة الرجل وأخلاقه عند المواقف الصعبة والتحديات الجالبة لانتزاع صفاته الحقيقية.

وعلى هذا فللغضب ثلاث درجات: الأولى: درجة الاعتدال وهي الدرجة المحمودة بأن يكون غضبه دفاعا عن نفسه، أو دينه، أو عرضه، أو ماله، أو حرمات المسلمين وحقوقهم، وهي الدرجة التي خلق الغضب من أجلها، دونها تفسد الأرض بانتشار الفوضى، وتقويض نظام الاجتماع، وتختلط الأنساب، وتنتشر الفاحشة، وتبطل سبل المعيشة. الثانية: درجة التفريط، وهي أن يفقد الإنسان عاطفة الغضب بالكلية، وتلك الحالة المذمومة شرعا، والمرفوضة عقلا وعرفا، إذ يتحول الإنسان وقتها إلى كائن بليد، عديم النخوة، ساقط المروءة، جبان خائر، أحط من الأنعام والدواب التي تثأر لنفسها، وترد عدوان من يعتدي عليها. الثالثة: درجة الإفراط، وعندها خرج الإنسان من طور الاعتدال إلى طور الطغيان على عقله ودينه، ويتأبط الشر في مدخله ومخرجه، ويندفع في طريق الشر بلا روية بما قد يقوده إلى الهلاك، وهو ما نراه من البعض حين يغضبون، فيرتكبون أبشع الجرائم، وشر الموبقات، فيندمون حين لا ينفع الندم.

الأسباب المؤدية للوقوع في الغضب:

1 ـ البيئة المحيطة بالمرء، فقد يكون الداعية قد نشأ وترعرع في بيئة غضوب، مليئة بالنزقين، ومن يفهمون الرجولة بصورة خاطئة، بأنها ارتفاع الصوت، وكثرة المشاجرات، فتتأثر نفسه بذلك، وتتشرب من حيث لا يدري، وببطء هذه الآفة الخطيرة، ويتحول الغضب عنده إلى عادة وديدنا.

2 ـ كثرة المراء والجدل، فالله - عز وجل - إذا غضب على عبد ألقى عليه الجدل، ومنعه من العمل، ومن موروثات الجدل البغيضة؛ أن كلا المتجادلين يريد أن ينتصر على قرينه، ولو بالباطل، وحين لا يتم له ذلك يغضب ويثور، قاصدا السطو أو الانتقام، وقلما نجد جدالا ينتهي بسلام ومحبة، فغالب المجادلات تنتهي بغضب وخصام وفساد ذات البين، لذلك نهى الله - عز وجل - عن الجدال بالباطل في آيات كثيرة، وكذا مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ترك الجدال ولو كان محقا، وبشره بالمثوبة العظيمة.

3 ـ كثرة المزاح، فالمزاح مباح، ولكن كثرته وخروجه عن حد الاعتدال، يخرج به على إلى الباطل والكذب، وتعمد السخرية وإضحاك الآخرين، وعندها يؤدي المزاح إلى ما لا يحمد عقباه، من الخصومة والخلاف وإشعال نيران الغضب، وكم من جريمة ارتكبت بدأت بالمزاح، وانتهت بالبكاء والعويل، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مزّاحا، نعم كان يمزح ولكنه لا يقول إلا حقا، ولا يدع أحدا يحزن من مزاحه، وقد ورد في الأثر: " لا تمار أخاك ولا تمازحه، ولا تعده موعدة فتخلفه "

4 ـ عدوان الآخرين، فاعتداء الآخرين على الفرد بأي صورة من صور العدوان يؤدي إلى الغضب لا محالة، فالسخرية، والاستهزاء، والتجسس، والتتبع للعورات، والغيبة، والنميمة، والسب، والتجريح، والضرب، والاضطهاد، والتنكيل، والتشريد، والاعتقال، كل هذه الصور وغيرها تشعل نيران الغضب في الصدور، بصورة قد تدفع لأعمال انتقامية وردود أفعال أكبر وأعمق من أصل العدوان نفسه، لذلك قد نهى الله ورسوله عن كل صور العدوان على المسلمين بالقول والفعل و حتى بالإشارة.

5 ـ التذكير بالعداوات القديمة، وهو من مداخل الشيطان وجنوده على المؤمنين، فالتذكير بالعداوات القديمة، والثارات التي اندرست، وإيغار الصدور، وتذكية النفوس التي خفت صوت الانتقام والحقد فيها عبر السنين، واستجلاب الأحداث التاريخية الأليمة، كل ذلك من أبرز الأمور التي يستخدمها إبليس وجنوده من الحاقدين والحاسدين والبغاة والنمامين والوشاة، للإيقاع بين المؤمنين، ولعل في قصة شاس ين قيس اليهودي الخبيث مع الأوس والخررج في المدينة خير دليل على هذا المدخل الكبير للغضب، فقد ذكر المفسرون أمثال الطبري وابن كثير وغيرهما أن قوله عز وجل: ( يا أهل الكتاب لما تكفرون بآيات الله حتى قوله أولئك لهم عذاب عظيم ) [ آل عمران 98 ـ 105 ]، قد نزلت في شاس بن قيس وكان شيخا يهوديا قد عسا في الجاهلية، شديد الضغن والكراهية على المسلمين، شديد الحسد لهم، وقد هاله ما رآه من اجتماع الأوس والخررج والألفة والمحبة بينهم، بعد عهود من القتال والعداوة فيما بينهم، فأمر أحد شباب اليهود أن يدخل ناديهم ويجلس بينهم، وينشد أشعار يوم بعاث ـ يوم اقتتل فيه الأوس والخزرج قتالا شديدا قبل الإسلام ـ وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل الشاب، فأثار غبار العداوات القديمة، فتقاول الحيان، وتنازع الرجال، وعلت الأصوات، وغضب الفريقان، ونشب القتال بالأيدي والسياط والنعال، حتى كاد أن يصل الأمر لحمل السلاح، فعصمهم الله - عز وجل - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج إليهم ووعظهم وذكرهم، وقال لهم: " يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا " ففاء القوم إلى رشدهم، وألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا، وتعانق الرجال، ثم انصرفوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - سامعين طائعين، ورد الله كيد اليهودي الخبيث " شاس بن قيس ".

آثار آفة الغضب على الدعوة والداعية:

للغضب آثار ضارة، وعواقب مهلكة على العاملين، وعلى العمل الدعوي نفسه، وذلك بصور كثيرة، فمن آثاره على الداعية: سقم الأبدان، فالغضب يؤدي للكثير من الأمراض المهلكة المزمنة مثل ضغط الدم، وتصلب الشرايين، والجلطات المتكررة، والسكر، والشلل والعياذ بالله، وربما قتل الغضب صاحبه بأن ينفجر القلب أو الدماغ من شدة اندفاع الدم فيهما. ومن آثاره أيضا نقصان الدين، فالغضب يقود لوقوع الداعية في غيبة الآخرين وانتهاك أعراضهم أو سبهم وشتمهم، إلى آخر تداعيات فورة الغضب الأليمة. ومنها فقدان السيطرة على النفس، ومن ثم تخرج القرارات المتعجلة والخطوات المتسرعة، فالغضب جنة العقل، يغطيه ويمنعه من العمل والتدبر والتفكر، وقد ورد في الأثر: أن إبليس يلعب بالرجل الحديد ـ أي الغضوب ـ كما يلعب الصبيان بالكرة. ومنها الوقوع في مذلة الاعتذار، وما أدراك ما مذلة الاعتذار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن ارتكاب ما يعتذر منه، فقال " إياك وكل ما يعتذر منه " أخرجه المقدسي في المختارة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.

أما آثار الغضب على العمل الدعوي نفسه، فإن كثيرا من الناس لا يفرقون بين الدعوة والداعية، فيحمّلون الدعوة كل أخطاء الداعية ومثالبه، فإذا غضب الداعية أو صدر منه ما لا يليق حال غضبه، نسبوا ذلك إلى الدعوة التي ينتسب إليها، مما يؤدي لفقدان الأنصار والأتباع، وتشويه صورة الدعوة، واستغلال الأعداء والخصوم لغضب الداعية من أجل تنفير الناس منه، والنفوس تألف العاقل الحكيم المنضبط في تصرفاته وردود أفعاله، وتلتف حوله وتعضده، أما الطائش الأرعن سريع الغضب، فإن الناس تعرض عنه وتهجره، ولعل ما جرى مع الإمام ابن حزم الظاهري - رحمه الله - خير مثال، فقد كان بحرا زخارا في العلم والفقه والتأليف والتدريس حتى أنه يحتل المركز الثاني في ثبت أكثر علماء المسلمين تأليفا وتصنيفا بعد الإمام الطبري - رحمه الله -، ومع ذلك أعرض الناس في عصره عن هذه الدرر والكنوز بسبب عصبيته الزائدة وحدة لسانه التي صارت مضربا للأمثال، وقرنت بسيف الحجاج. ومن آثارها أيضا على الدعوة، أن آفة الغضب تؤدي لتمزيق الصف الدعوي، وتأجج نيران الاختلاف فيه، فالغضب للنفس يعني أن العمل لغير الله – تعالى -، وكل من خالطته مثل هذه النوايا فإنها تفشله وتذهب ريحه. ومن آثارها أيضا أنها تؤدي لطول الطريق وكثرة التكاليف، وذلك لمعالجة آثار الغضب على العمل، من بذل الطاقات لإصلاح فساد ذات البين، وكسب أنصار جدد، بدلا من هؤلاء الذين خسرتهم الدعوة بسبب الغضب.






الساعة الآن : 03:46 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 187.40 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 186.76 كيلو بايت... تم توفير 0.64 كيلو بايت...بمعدل (0.34%)]