علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (1) (علم القراءات القرآنية) كتبه/ ياسر محمد محمود أبو عمار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ أولًا: تعريف هذا العلم: اختلفت تعريفات أهل هذا الفن لهذا العلم، فمِن هذه التعريفات: ?- تعريف أبي حيان الأندلسي فقد عرَّفه بأنه: "علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن". ?- تعريف بدر الدين الزركشي، قال: "القرآن هو الوحي المنزَّل على محمدٍ، والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف أو كيفياتها من تخفيف وتثقيل، وغيرها". ?- تعريف ابن الجزري، قال: "علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة". ?- تعريف عبد الفتاح القاضي، قال: "علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية، وطريق أدائها اتفاقًا واختلافًا مع عزو كل وجه إلى ناقله". وبعد استعراض هذه التعريفات، نخلص من ذلك: أن هناك اختلافًا بين هذه التعريفات، فبعضها قد اقتصر على تعريف علم من علوم القرآن الكريم، ولم يشمل التعريف الكلام عن العلوم الأخرى المتعلقة بالقرآن الكريم. وخلاصة هذه التعريفات وما قاربها: أن علم القراءات علم يشتمل على ما يأتي: 1- كيفية النطق بألفاظ القرآن. 2- كيفية كتابة ألفاظ القرآن. 3- مواضع اتفاق نقلة القرآن، ومواضع اختلافهم. 4- عزو كل كيفية من كيفيات أداء القرآن إلى ناقلها. 5- تمييز ما صح متواترًا أو آحادًا مما لم يصح، مما روي على أنه قرآن. ويُلَاحظ على هذه التعريفات: أن بعضها عرَّف القراءات بنفس تعريف علمي: التجويد والرسم، مع أن الصواب هو: أن علم القراءات يشتمل على أكثر مباحث علمي: التجويد والرسم، فهو أعم منهما. وكذلك يلاحظ عليها: الخلط بين القرآن بقراءاته وبين القراءات كعلم، ولأجل هذا قصرت بعض التعريفات القراءات على مواضع الاختلاف كتعريف الزركشي، بينما شملت التعريفات الأخرى مواضع الاتفاق ومواضع الاختلاف، ولعل هذا هو الصواب؛ لأنك عندما تقول: قراءة نافع، أو قراءة عاصم؛ لا تعني بها المواضع التي خالف فيها غيره فقط، وإنما تعني بها قراءته للقرآن كله ما وافق فيه وما خالف. وكذلك يُلَاحظ على هذه التعريفات: أنها لم تميِّز بين التقسيمات الاصطلاحية لنقلة القرآن المتعارف عليها بين القراء، فمنهم مَن يسمَّى نقله قراءة، ومنهم مَن يسمى نقله رواية، ومنهم مَن يسمى نقله طريقًا، ومنهم من يسمى نقله وجهًا. هذا، وقد أورد فضيلة الدكتور محمد بن عمر بازمول عددًا من تعاريف القراءات، وبعض الملاحظات التي مَرَّ ذكرها، ثم حاول هو أن يعرِّف القراءات تعريفًا يسلم مما لوحظ على تعريفات السابقين؛ فعرَّف علم القراءات بثلاثة تعريفات، فقال: "تعريف القراءات كعلمٍ مدوَّن هو: مجموع المسائل المتعلقة باختلاف الناقلين لكتاب الله تعالى في: الحذف والإثبات، والتحريك والإسكان، والفصل والوصل، وغير ذلك من هيئة النطق والإبدال من حيث السماع. أو: مجموع المسائل المتعلقة باختلاف الناقلين لكتاب الله مِن جهة اللغة والإعراب، والحذف والإثبات، والفصل والوصل، من حيث النقل. أو: مجموع المسائل المتعلقة بالنطق بالكلمات القرآنية، وطريق أدائها؛ اتفاقًا واختلافًا مع عزو كلِّ وجه لناقله". قلتُ -وبالله التوفيق-: يُلَاحظ على التعريفين الأولين اقتصارهما على مواضع الاختلاف، وأن التعريف الأول لم يصن عن الإسهاب؛ فقد فَصَّل بعض أوجه الاختلاف ثم قال: "وغير ذلك"؛ فلم يكن لما فَصَّله داعٍ، وفي التعريف الثاني حصر أوجه الاختلاف في اللغة والإعراب، والحذف والإثبات، والفصل والوصل. وفي رأيي: أن هذا التعريف غير جامع؛ لأن أوجه الاختلاف لا تنحصر فيما ذكره، فمنها المد والقصر؛ فإن قيل: المد والقصر داخل في اللغة والإعراب، فكذلك الحذف والإثبات، والفصل والوصل داخل في اللغة والإعراب. وأما التعريف الثالث فغير مانع مِن دخول علوم اللغة العربية: كالنحو والصرف في تعريف علم القراءات. والتعريف المختار للقراءات من وجهة نظري -وأطرحه أمامكم للمناقشة طمعًا في الفوز بتوجيهكم وتعقباتكم عليه حتى نحاول الوصول إلى أسلم التعريفات- هو: "أنه علم يبحث في كيفية النطق بألفاظ القرآن وكتابتها، ومواضع اتفاق نقلتها ومواضع اختلافهم، مع عزو ذلك إلى ناقله وتمييز متواتره من آحاده وصحيحه؛ مما لم يصح مما روي على أنه قرآن". والله أعلم. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (2) علم القراءات يبيِّن إعجاز القرآن الكريم كتبه/ ياسر محمد محمود أبو عمار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فإنّ تعدّد القراءات ميزةٌ خاصَّةٌ بالقرآن الكريم، ولا توجد في أيّ كتابٍ سماويٍّ آخر، وهذا التعدّد في قراءة الآية الواحدة دليلٌ على إعجاز القرآن الكريم، فمع تعدّد وجوه قراءة الآية الواحدة؛ فإنّ كلّ معنى تأتي به القراءة لا يخالف ولا يضاد المعنى الذي تأتي به القراءة الثانية، وإنّما تأتي المعاني مصدِّقَةً لبعضها، وهو دليلٌ على أنّ القرآن من عند الله -تعالى-، كما أن للقراءات العشر المتواترة وما حوته من أوجه البلاغة والبيان والإيجاز فوائد عظيمة في غزارة المعاني مع إيجاز الألفاظ، فإن كل قراءة بمنزلة الآية، وهذا ضربٌ آخر من إعجاز القرآن، حيث شملت الآية الواحدة مع تعدّد لفظها على معانٍ كثيرةٍ. عِلْم القراءات متصًّلٌ بكثيرٍ من العلوم النافعة: إنّ عِلْم القراءات يُمكِّن متعلّمه من الوعي بكثيرٍ من العلوم النافعة؛ فيتحصّل لطالب هذا العلم ودارسه الكثير من المعارف والعلوم. ومن هذه العلوم: - علم التراجم والقرَّاء: يدرس هذا العلم السِّيَر الذاتية للقرّاء والرواة، وكذلك يبحث في أسانيد كلّ قراءةٍ، والرواة الذين نقلوا عنهم. - علم رسم المصحف الشريف: وهو علمٌ يتناول الرسم الذي كتبت به المصاحف في عهد عثمان -رضي الله عنه-. - علم توجيه القراءات: وهو علمٌ يبحث في الاحتجاج بالقراءات مِن الناحية: الصرفيّة، والنحويّة، واللغويّة. - علم التجويد: وهو علمٌ يبحث في مخارج الحروف وصفاتها، والأحكام التي تعرض لها. علم القراءات يميز ما هو قرآنٌ وما ليس بقرآنٍ: من خلال علم القراءات؛ فإنّ المسلم يستطيع معرفة القراءات الصحيحة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم والقراءات الشاذة، وبهذه المعرفة تتمايز القراءات، ويعرف المسلم ما يُتعبَّد به وما لا يجوز التعبد به؛ فعلم القراءات سورٌ حصينٌ يحفظ ألفاظ القرآن من التحريف. أهمية علم القراءات في التفسير: إنّ علم القراءات له أهميَّةٌ كبيرةٌ في علم التفسير، حيث يكون نظر المفسر للآية الكريمة ضمن التعدّد الذي جاءت به القراءات، وهذا يوسّع المعاني المستنبطة من الآية الكريمة، أو قد يقيّد المطلق، أو يخصّص العام منها، وقد حَوَت كتب تفسير المتقدّمين خاصَّةً على هذا النوع من التفسير الذي يأخذ بعين الاعتبار تعدَّد القراءات. علم القراءات بابٌ لتعظيم الأجور: إنّ المشتغلين في هذا العلم يبذلون جهدهم في تتبع المعاني، واستنباط الأحكام، والكشف عن توجيه القراءات، وكذلك فقد بذلوا وسعهم في الحفاظ على الأداء اللفظي لكلمات القرآن الكريم من التحريف، وعنوا بالمحافظة على الإسناد الصحيح المتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (3) مصدر القراءات ونشأتها كتبه/ ياسر محمد محمود أبو عمار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ ففي هذا المقال سيدور حديثنا بإذن الله تعالى حول بيان مصدر القراءات القرآنية ونشأتها، قال تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا"، وقال تعالى: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي"، وقال تعالى: "ولو تقول علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين". فقد دلَّت هذه الآيات الكريمات على أن مصدرَ القرآن الكريم هو الوحي المنزَّل على النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام، المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور، المتعبد بتلاوته من الفاتحة إلى الناس. ومن المعلوم: أن القرآن الكريم نَزَل بلهجاته المتعددة على النبي صلى الله عليه وسلم على مدار ثلاث وعشرين سنة؛ خلافًا لما ذهبت إليه بعض الطوائف مِن أن مصدر القراءات هو الرسم أو اللهجات أو الاختيارات، وهذه المذاهب ليس عليها دليل واضح مِن نقل صريح؛ فقد اعتراها الضعف والخلل. وقد بينت سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن المصدر الرئيسي للقراءات هو الوحي أو التوقيف؛ لحديث رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني جبريل على حرفٍ فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف"، وهذا الحديث الصحيح يبيِّن بطلان ما ذهبت إليه الجهمية من أن جبريل عليه السلام تلقَّى القرآن مِن الله ثم صاغه بلفظه. وكذلك يبيِّن بطلان القول القائل: إن جبريل عليه السلام أخذه مِن اللوح المحفوظ؛ فهذا القول أيضًا شديد البطلان، فإن الله جل وعلا قال: "نزل به الروح الأمين"، وهذا على قراءة مَن قرأ حرف "نزل" بتشديد الزاي وفتحها وفتح اللام، وكذا نصب الروح؛ فدلَّ ذلك على أن جبريل عليه السلام نزل بهذا القرآن من عند الله تبارك وتعالى. والصواب الذي ذهب إليه العلماء المحققون والمتقنون لهذا الفن هو: أن مصدر القرآن بلهجاته وحروفه المختلفة نزل به جبريل من عند الله جل وعلا على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دَلَّ على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان"، والقرآن الكريم من ضمن أوامر الله سبحانه وتعالى التي يأمر بها، والله تعالى أعلى وأعلم. وللحديث بقية إن شاء الله تعالى. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (4) تابع مصدر القراءات ونشأتها كتبه/ ياسر محمد محمود أبو عمار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد دار الحديث في المقال السابق حول مصدرية القرآن الكريم، وقد أوضحنا: أن القرآنَ الكريم بحروفه ولهجاته المختلفة وحي من عند الله تبارك وتعالى، نَزَل به جبريلُ عليه السلام على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دعمنا هذا بالأدلة الصريحة الواضحة من الكتاب والسنة. وفي هذا المقال سيخصص الحديث حول نشأة علم القراءات القرآنية وبدايتها، فنقول وبالله التوفيق: إن نشأة هذا العِلْم تبدأ منذ نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وحتى بداية عصر التدوين، فمن المعلوم أن هذا القرآن العظيم نُقِل بالسند المتواتر من الله تعالى إلى جبريل عليه السلام ثم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتلقَّاه مِن جبريل، قال تعالى: "وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم"، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقى شِدَّة عند نزول الوحي فيتعجل القراءة، فنهاه الله عز وجل عن ذلك قائلًا سبحانه: "لا تحرِّك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه"، وقال تعالى: "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضَى إليك وحيه وقل ربِّ زدني علمًا". فتلقى النبي صلى الله عليه وسلم القرآنَ مِن جبريل عليه السلام حتى كان في العام الذي قُبِض فيه دارسه جبريلُ عليه السلام القرآنَ مرتين، ثم استمر هذا التلقي سُنَّة متبعة بعد ذلك؛ فقد قام الصحابة الكرام رضي الله عنهم بتلقي الوحي من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكيفية التي نَزَل بها جبريل عليه السلام مِن عند الله عز وجل، وظل هذا المنهج المتَّبَع في التلقي جيلًا عن جيلٍ، ونقلًا مِن الخلف عن السَّلف إلى يومنا هذا بالسند المتواتر موافقًا للرسم العثماني الذي بين أيدينا اليوم في المصاحف المقروءة والمتلوة، وكذا موافقًا لوجهٍ مِن وجوه العربية؛ سواء كان هذا الوجه أفصح أم فصيح، حيث جاء في منظومة طيبة النشر في القراءات العشر للإمام ابن الجزري رحمه الله قوله: فكل ما وافق وجه نحو وكان للرسم احتمالًا يحوي وصح إسنادًا هو القرآن فهذه الثــــــــلاثة الأركــان فهذه أركان القراءة التي نزل بها القرآن وصارت حجة لا تقبل القراءة إلا بها؛ هذا وقد دَلَّ قوله تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" على سماع جبريل عليه السلام مِن الله، وسماع النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، وكذا سماع الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيرا ما يذكر عن الصحابة: أن الصحابي كان يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاته بكذا وكذا، ويقرأ في يوم كذا بكذا، وسمعته في خطبته يقرأ بكذا وكذا. فنقول: إن الذي نزل بمعناه جبريل عليه السلام هو السُّنَّة، وليس القرآن؛ فالسنة يجوز أن تُروَى بالمعنى، والسر في ذلك: أن القرآن لا ينزل بالمعنى؛ لأنه يتعبد بألفاظه وحروفه ومعانيه فلا يسوغ لجبريل عليه السلام أن ينزل إلا باللفظ التوقيفي من عند الله تبارك وتعالى، فمِن بركة هذا القرآن أن اللفظ الواحد منه يحمل تحته معاني كثيرة. ونكمل في المقال القادم بإذن الله تعالى. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (5) كتبه/ ياسر محمد محمود أبو عمار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد أسلفنا في مقالين سابقين أن القرآن بلهجاته المتعددة، تلقاه جبريل من رب العزة سبحانه وتعالى، ونزل به على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلمه إياه، قال تعالى: "وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى"؛ فقد تلقَّى النبي صلوات الله وسلامه عليه القرآن من جبريل عليه السلام على مدار ثلاث وعشرين سنة على الراجح؛ وذلك ليسهل حفظه وتدبره، والعمل به، ومِن ثَمَّ تعليمه الصحابة رضي الله عنهم. ولم ينزل القرآن جملة واحدة مثل الكتب السابقة: كالتوراة والإنجيل، ردًّا على المشركين الذين اقترحوا على وجه التعنت والتعجيز، أن ينزل القرآن جملة واحدة، قال تعالى: "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلًا"، فكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتلقى القرآن ويقوم به مصليًا يتدبره ويعمل به، ويعلمه أصحابه رضي الله عنهم. ومع كثرة غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وإقبال الناس على الإسلام وما يحيط به صلى الله عليه وسلم من أعباء ومهام جسام؛ لم يتمكَّن صلى الله عليه وسلم مِن تعليم كل هذه الأعداد الغفيرة؛ فلذا قام بتكليف نفر من أصحابه الكرام ممَّن حذقوا في تعلم القرآن الكريم، بأن يقوموا بهذه المهمة الكبرى، كأمثال: الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، وأُبَي بن كعب، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين. ومن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم مَن كان يكتب الوحي: كزيد بن ثابت، وأبي بن كعب رضي الله عنهما، وإذ ثبت أن مِن الصحابة مَن كان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا دليل قاطع وصريح في الرد على الطاعنين والمستشرقين والمشككين في مصدر الوحي؛ إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب القرآن من عنده كما زعم هؤلاء، لما عمد إلى أن يتخذ كُتَّابًا للوحي من أصحابه رضي الله عنهم، ولما علمه لهم باللسان العربي، كما ادَّعى المشركون أنه كان يتعلمه من اليهود والنصارى، ومن أشعار أمية بن أبي الصلت، وورقة بن نوفل؛ إذ كيف يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة باللسان العربي وهم قد قالوا كما جاء القرآن وأنزل، قال تعالى: "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين"؟! فكيف يكون القرآن كما زعموا بالأعجمية، وقد علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بلغة العرب؟! فهذا نص واضح وصريح وقاطع في كذب هؤلاء وافترائهم. ومما لا شك فيه: أن الصحابة رضي الله عنهم قاموا بتعليم القرآن باللهجات القبلية المنزَّلة على النبي صلى الله عليه وسلم. ومما سبق يتبيَّن: أن الصحابة رضي الله عنهم تلقوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلموه وعلموه، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد" أي: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ومن هؤلاء أيضًا في المنزلة بعد ابن مسعود رضي الله عنه الصحابي الجليل، أبي بن كعب رضي الله عنه الذي أمر الله نبيه أن يذهب إليه فيقرأ عليه سورة البينة، وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه سورة النساء، فقال: "أقرأ عليك، وعليك أنزل؟"، فقال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، ففي قول ابن مسعود رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: "وعليك أنزل" علم الصحابة أن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم بذلك. ولم يكن التعليم مقتصرًا على هؤلاء فحسب، بل كان هناك غيرهم كثر ممَّن أخذوا القرآن على يد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهم أجمعين، وهكذا كانت مرحلة تلقي الصحابة رضي الله عنهم القرآن وتعليمه، وبعد ذلك تأتي مرحلة تلقي التابعين من الصحابة رضي الله عنهم وكيف كانت، وسيكون ذلك في الحديث المقبل إن شاء الله تعالى. والحمد لله رب العالمين. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
علوم القرآن وارتباطها بالعلوم الأخرى (6) مرحلة تلقي الصحابة القرآن الكريم من بعضهم وتلقي التابعين من الصحابة كتبه/ ياسر محمد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الرجل مهاجرًا، دفعه لأحد أصحابه، ليعلمه القرآن"، وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأُبي بن كعب". وهنا قد تثار شبهة، وهي: كيف يؤخذ القرآن من أربعة فقط، وقد ثبت في الآثار والأسانيد أنه تُلقِّي من غيرهم، وهل هذا يعد مخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؟! والجواب من النووي وابن حجر، قال الإمام النووي: "هؤلاء الأربعة أكثر ضبطًا لألفاظ القرآن، وأتقن لأدائه، وإن كان غيرهم أفقه بمعانيه، وقد يكون هؤلاء الأربعة أخذوه مشافهة من النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم اكتفوا بأخذ بعضهم من بعض، أو أن هؤلاء الأربعة تفرَّغوا ليؤخذ عنهم، أو أنه صلى الله عليه وسلم أراد الإعلام بما يكون بعد وفاته من تقدم هؤلاء الأربعة وتمكنهم" (انتهى من شرح النووي على صحيح مسلم). وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأخذ عنهم في الوقت الذي صدر فيه القول، ولا يمتنع أن يكون غيرهم شارك في الإقراء، بل ربما كانوا أزيد منهم" (فتح الباري). وسيأتي في المقال قصة القراء الذين في حادثة بئر معونة، إذ بلغ عددهم سبعين من القراء؛ مما يدل على أن غير الأربعة كانوا يقرؤون القرآن ويؤخذ عنهم. وكثيرًا ما نسمع مَن يقول: قرأنا على الشيخ فلان والشيخ فلان، وهذا لتفرغهم وضبطهم، وإن كان غيرهم لا ينافي الأخذ عنهم والجلوس بين أيديهم. هذا والله أعلى وأعلم. وقد ذكر الذهبي في كتابه: (معرفة القراء الكبار)، أسماء الأعلام والكبار من قُرَّاء الصحابة: كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأُبي بن كعب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء رضي الله عنهم جميعًا، قال: "وهؤلاء الذين دارت عليهم أسانيد القراءات العشر، ولعل الإمام الذهبي اقتصر على هؤلاء مع أن هناك مِن الصحابة رضي الله عنهم مَن جمع القرآن، ولكن الأسانيد دارت على هؤلاء السبعة، وقد ذكر الذهبي رحمه الله مَن أخذ القراءة وتلقاها على أيدي هؤلاء من الصحابة والتابعين وغيرهم، فبلغ عددهم اثني عشر رجلًا، منهم: أبو هريرة، وابن عباس، وابن السائب، والمغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وحطان بن عبد الله الرقاشي، والأسود بن يزيد النخعي، وعلقمة بن قيس، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعبد الله بن عياش، وأبو رجاء العطاردي، وأبو الأسود الدؤلي. ولم يتوقف أمر الإقراء عند هؤلاء، لكن أردنا الاستدلال على أن الصحابة تلقَّى بعضهم من بعض، وحصر العدد أمر بعيد المنال. وبعد عرضنا لهذه المرحلة من التلقي، يتبيَّن لنا أنه لا يتأكَّد لدينا أن الحفاظ من الصحابة قد تم حصرهم في هؤلاء النفر، فالوقائع التاريخية والأحداث والسِّير تنقل لنا ما يدل على أن عدد الحفاظ من الصحابة كانوا كثيرين. وعلى سبيل المثال: السبعين الذين قُتِلوا في حادثة بئر معونة، وكانوا من القراء، وفي معركة اليمامة استحر القتل في جيش المسلمين وخاصة في أهل القرآن حتى قُتِل سبعمائة من هؤلاء القراء؛ فكل هذا يدل على أنه لا يمكن حصر الحفظة من الصحابة رضي الله عنهم، والله أعلى وأعلم. هذا ما تيسر من الكلام عن مرحلة تلقي الصحابة القرآن من بعضهم، وكذا التابعين، وسيكون الكلام في المقال القادم حول بيان معنى الأحرف السبعة. والحمد لله رب العالمين. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (7) الأحرف السبعة وعلاقتها بالقراءات المتواترة كتبه/ ياسر محمد محمود أبو عمار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد روى مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال: "إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومعونته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية على حرفين، فقال له مثل ذلك، ثم أتاه الثالثة مثل ذلك، فقال له مثل ذلك، ثم أتاه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف؛ فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا". فمن خلال هذا الحديث سينتظم حديثنا في الكلام عن هذه الأحرف في عِدَّة محاور: الأول: الحكمة من ورود القرآن على سبعة أحرف. الثاني: معنى الأحرف. الثالث: المراد بها. الرابع: الاقتصار على سبعة دون ما سواها. الخامس: توجيه اختلاف الأحرف السبعة. السادس: المعاني المشتملة عليها. السابع: اشتمال المصاحف العثمانية على جميع الأحرف السبعة. الثامن: القراءات المقروء بها اليوم في كلِّ الأمصار جميع السبعة أو بعضها. التاسع: حقيقة اختلاف هذه السبعة المذكورة في الحديث. أما عن المحور الأول، وهو موضوع حديثنا في هذا المقال؛ فسبب وروده على سبعة أحرف، فالظاهر من حديث أبي رضي الله عنه هو التسهيل والتيسير على هذه الأمة، وتمييزًا لها عن بقية الأمم التي سبقتها، فلعل الكتب السابقة نزلت على حرف واحد، فخفف الله على هذه الأمة؛ مصداقًا لقوله تعالى: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، وقوله تعالى: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، وقد تكرر قوله تعالى في سورة القمر في أربع مواضع: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"، وقوله تعالى: "الرحمن . علم القرآن . خلق الإنسان . علمه البيان". كل هذه الآيات وغيرها تدل دلالة عامة وواضحة على أن هذا القرآن نزل بالتخفيف والتيسير والتسهيل؛ لأن هذا القرآن هو منهج حياة الأمة، بل والبشرية قاطبة، قال الله تبارك وتعالى: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا". وقد نقل ابن الجزري رحمه الله في طيِّبة النشر ما يدل على هذا، فقال رحمه الله: "وأصل الاختلاف: أن ربنا أنزله بسبعة مهونًا. وفي الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ربي أرسل إليَّ أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه أن هوِّن على أمتي، ولم يزل يردد حتى بلغ سبعة أحرف". وكما سيأتي في أثر صحيح -في المقالات القادمة- أن القرآن أُنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وأن الكتب قبله كانت تنزل من باب واحد على حرف واحد؛ إذ كان كل نبي يرسل إلى قومه بلسانهم، قال الله تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم"، وبُعِث نبينا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، قال تعالى: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا". وقد كانت العرب مَرَدوا ونشأوا على لهجة وحرف من اللغة، فيصعب على العربي التحول من هذا الحرف إلى غيره ولو بالتعليم؛ لا سيما الشيخ منهم، والمرأة، ومَن لم يقرأ، كما في الأحاديث الواردة بذلك. وعلى سبيل المثال لا الحصر: كانت قبيلة هذيل تقرأ هذا الحرف: «حتى حين» تقول «عتى حين»، تقرأ بالعين في موضع الحاء، وقبيلة الأسدي يقرؤون حرف «تعلمون» بكسر التاء بدلًا من فتحها، ومنهم من قرأ لفظ حرف: "عليهم" بضم الهاء في موضع الكسر، وستأتي الأمثلة بعد ذلك في مقالاتنا. والخلاصة في هذا المحور: أن الله جل وعلا خَلَق الخلق بقدرته وعلمه، ومن حكمته البالغة، وآياته الدالة على قدرته، أنه خالف بين الأجناس، والهيئات، والألوان، واللهجات، والقدرات؛ ليستدل أصحاب العقول والبصائر على وحدانيته، وتفرده بالملك، والبقاء، قال تعالى: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم . إن في ذلك لآيات للعالمين". فاختلاف الألسن واللهجات رحمة من الله تبارك وتعالى بالناس، وتيسيرًا عليهم، وفي ذلك قطع الحجة على من يقول بأن القرآن لم ينزل بلهجتي، ولغتي، ولم أستطع قراءته أو تلاوته؛ فإنه لهذا نزل بالتهوين، والتخفيف، والتيسير، وهذا مما اختصت به هذه الأمة كما خفف الله عنها في الصلوات من خمسين إلى خمس، وكذا في الصيام رخص للمسافر في الفطر، وكذا المريض، وكذا في سائر العبادات، والأحكام جاءت الشريعة بالتيسير، والتخفيف، فليس هناك ما يمنع عقلًا أن الله جل وعلا خفف على هذه الأمة في قراءة القرآن، وجعله ميسرًا، والحمد لله رب العالمين. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (8) الأحرف السبعة وعلاقتها بالقراءات المتواترة كتبه/ ياسر محمد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فسينتظم الكلام في هذا المقال حول معنى الأحرف والمراد بها، قال اللغويون: "حرف كل شيء: هو طرفه وحافته"، وقد ذكر الداني: "أن الأحرف هنا على وجهين: أحدهما: أن القرآن أُنزِل على سبعة أوجه من اللغات واللهجات، قال تعالى: "ومِن الناس مَن يعبد الله على حرف" أي: وجه مخصوص. والثاني: أن تسمية القراءات أحرفًا من باب السعة، وسميت القراءة حرفًا، وإن كان كلامًا كثيرًا؛ من أجل أن منها حرفًا جاء على غير نظمه، مثل: القلب، والإمالة، والزيادة، والنقصان، والمد، والقصر، والتقديم، والتأخير" (انتهى بتصرفٍ). والدليل: أن عمر رضي الله عنه صلَّى خلف هشام بن حكيم بسورة الفرقان، وذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عمر: "فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره -أي: أجذبه في الصلاة-، فتصبرت حتى سلَّم، فلببته بردائه، فقلت: مَن أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته، فقال صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف؛ فاقرأوا ما تيسر منه"، وفي رواية" "فأيما حرف قرأت به؛ فقد أصبت". فمِن خلال رواية هذا الحديث نستطيع أن نقول: إن هذا الحديث من أقوى الأدلة التي تبيِّن بجلاء أن المقصود بالأحرف السبعة هو اختلاف اللهجات والأوجه المقروء بها؛ لقول الفاروق عمر رضي الله عنه: "إن هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها". وكذلك في هذا الحديث: من الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم هذه اللهجات من جبريل عليه السلام، وعلمها الصحابة، إذ قال هشام لعمر: "أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكذلك هذا الحديث دليل على أن كل هذه الأحرف نزلت من عند الله تعالى تيسيرًا وتخفيفًا على الأمة، وكذا فيه من الدلائل على أن الاختلاف هنا هو اختلاف تنوع، وليس اختلاف تضاد؛ لأن النبي قال: "هكذا أنزلت" لما قرأ هشام، وقال: "هكذا أنزلت" لما قرأ عمر. وفي هذا دليل أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بكل هذه الأحرف، ومن المعلوم أن هشامًا رضي الله عنه كان يقرأ في سورة الفرقان، وهذه السورة وقع فيها اختلاف في بعض الألفاظ كغيرها من سور القرآن الكريم، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: "سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نُتًّخَذَ من دونك أولياء" بضم النون، وكذا قرئ بفتحها؛ فقد قرأ الإمام أبو جعفر رحمه الله بضم النون وفتح الخاء، وقرأ الباقون بفتح النون وكسر الخاء؛ فهذا لا شك أنه اختلاف لهجات، وكذا وقع في هذه السورة في قوله تعالى: "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا"؛ حيث قرأ بعضهم: "ذرياتنا" بالإفراط، وبعضهم قرأها بالجمع، وهذا الجمع والإفراط يعد من معاني الأحرف السبعة، واللهجات المختلفة. وكذا في قوله تعالى في هذه السورة: "أو تكون له جنة نأكل منها"؛ حيث قرأ حمزة والكسائي وخلف "نأكل منها": بالنون، وقرأ الباقون: "يأكل منها" بالياء، و"يأكل منها" عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم، ونأكل بالنون عائد على الجنة، أي: نأكل من الجنة. وهذه الأمثلة ليست على سبيل الحصر، بل هي للتوضيح، فكل هذه الأحرف وقع فيها اختلاف اللهجات، مع موافقتها للرسم العثماني، واللغة، والتواتر. وقد ذكر الإمام ابن الجزري رحمه الله في منظومته طيبة النشر في القراءات العشر ما يوافق ذلك، فقال: "وَقيلَ فِي الْمُرَادِ مِنْهَا أَوْجُهُ...وَكَوْنُهُ اخْتِلَافَ لَفْظٍ أوْجَهُ»، وهذا يبيِّن ضعف القول بأن هذه الأحرف سبع لغات من لغات العرب متفرقة في القرآن، وأكبر دليل على ضعف هذا القول: أن عمر وهشام رضي الله عنهما كانا من قريش، وصوَّب النبي صلى الله عليه وسلم قراءتهما، وكذلك قد ذهب البعض إلى أن هذه الأحرف معناها: الحلال والحرام، والمحكم والمتشابه، والأمثال، والإنشاء، والناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمبين والمفسر، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والتفسير والتأويل، وكل هذا بعيد كل البُعد عن معنى هذه الأحرف؛ وذلك لأن عمرًا وهشامًا رضي الله عنهما لم يختلفا في شيء مما سبق من ذلك، ولكن كان في قراءة الكلمة فحسب، هذا وقد أجمعوا على أن المقصود ليس هو أن يقرأ الحرف الواحد "الكلمة" على سبعة أوجه؛ إذ لا يوجد ذلك إلا في كلمات يسيرة في القرآن، ككلمة "أف - جبريل - هيهات أو هيت"، وكذا أجمعوا أنه ليس المقصود بهذه الأحرف "القراء السبعة"؛ فهذا لا يصح إطلاقا. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (9) كتبه/ ياسر محمد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد صرَّحت الأحاديث بنزول القرآن على سبعة أحرف، منها ما رواه مسلم، وأحمد، والطبري: "أنه لما أتاه جبريل بحرف واحد، قال له ميكائيل: استزده، وأنه سأل الله تعالى التهوين على أمته، فأتاه على حرفين، وأمره ميكائيل بالاستزادة، وسأل الله التخفيف، فأتاه بثلاثة، ولم يزل كذلك حتى بلغ سبعة أحرف". وفي حديث أبي بكر: "فنظرت إلى ميكائيل فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدة"، فدل على إرادة العدد وانحصاره، فالأمر غايته التخفيف، وليس حقيقة العدد، ولا أن قبائل العرب سبعة، أو أن اللغات سبعة، فالقول بتحديد السبعة أحرف "أوجه"، ليس ضربًا من الهوى أو التشهي، ولكن ثبت بالحديث. وقال الإمام ابن الجزري رحمه الله: "تأملت هذا الحديث نيف وثلاثين سنة، مع تتبعي للقراءات فوجدت اختلافها يرجع إلى سبعة أوجه"، وهي كالآتي: الأول: تغير الحركات مع كون المعنى واحدًا، ومثال على ذلك: حرف "يحسب"، و"يحسبون" بفتح السين وكسرها لغتان، وكذلك كلمة "البخل" بسكون الخاء وفتحها وضمها، وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) (المزمل: 20)، بضم اللام وسكونها، فمما سبق من هذه الكلمات اختلاف حركات مع وحدة المعنى. الثاني: اختلاف الحركات وتغير المعنى، ففي قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) (البقرة: 37)، فقرئ (آَدَمُ) بالرفع، وقرئت: (كَلِمَاتٍ) بالخفض، أي: أن (آدَمُ) هو الفاعل، و(كَلِمَاتٍ) هي المفعول، على أنها جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة، وقرئت: (فَتَلَقَّى آدَمَ) بفتح الميم، ورفع (كَلِمَاتٌ)، على أن (كَلِمَاتٌ) هي التي تلقَّت آدمَ. الثالث: تغير في المعنى، وليس الصورة، ومن الأمثلة: (تبلو - تتلو)، وهذه الكلمة قبل نقط المصحف، رسمت في المصاحف بما يوافق وجوه القراءات، وكذلك كلمتي: (الصراط - السراط)، و(مالك - ملك)؛ فكل هذه الكلمات رسمت بما يحتمل وجوه القراءات، فالصورة واحدة، والمعنى مختلف، أو المعنى واحد، والصورة مختلفة. الرابع: التقديم والتأخير نحو قوله تعالى في سورة التوبة: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (التوبة: 111)، بفتح الياء في الأول، وبضم الياء في الثاني، وبالعكس، بضم الياء في الأول، وبفتحها في الثاني. الخامس: الزيادة والنقصان، كما في قوله تعالى في سورة البقرة: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ) (البقرة: 132)، على التشديد والمبالغة في الوصية، وكذلك قرئ: (وأوصى) بزيادة ألف على التخفيف، وهي قراءة ابن عامر، والمدنيان، وكذلك قراءة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في سورة الليل: (الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) (النجم: 45)، ونكتفي بهذه الأوجه لعدم الإطالة. قلت: وقد عَلَّق على هذا القول الذي انتصر له ابن الجزري، فضيلة الدكتور ياسر برهامي حفظه الله في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، للشيخ عبد الله الغنيمان، باب: "فاقرءوا ما تيسر من القرآن"، حيث قال فضيلته: "وهذا القول من ابن الجزري لم يقله أحدٌ قبله" (انتهى بتصرف). قلت: وهذا حَسَن منه حفظه الله؛ لأن هناك أوجه أخرى وقع بها التغاير والاختلاف؛ مما يدل على ضعف ما قاله ابن الجزري رحمه الله، ومنها: اختلاف الأسماء في الإفراد والتثنية والجمع نحو قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (البقرة: 184)، بالجمع في (مَسَاكِيْن)، وقرئ: (مَسَاكِيْن) بالإفراد، وهذا لم يذكره ابن الجزري، مع أنه وجه من أوجه التغاير والاختلاف، ونحو قوله تعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 10)، على التثنية، وقرأ يعقوب الحضرمي: "فَأَصْلِحُوا بَيْنَ إِخْوَتِكُم" على الجمع، ونحو قوله تعالى في سورة سبأ: (وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) (سبأ: 37)، وكذا "وَهُمْ فِي الغُرْفَة" على الإفراد، ونحو قوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: 124)، و"رِسَالَاتِه" بالجمع. الثاني: اختلاف الأسماء في التذكير والتأنيث، وقوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) (البقرة: 48)، بتذكير الفعل المضارع "يُقْبَل"، وبتأنيثه تارة أخرى؛ فقد قرئ هكذا، وهكذا. الثالث: اختلاف تصريف الأفعال من ماضي ومضارع وأمر، نحو: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) (البقرة: 158)، على أنه ماضٍ، وقول: "وَمَنْ يَطَّوَّع" على أنه مضارع، وفي سورة يوسف: (فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ) (يوسف: 110)، بالتشديد على أنه ماضٍ، و"ننجي مَن نَشَاء" بعدم التشديد على أنه مضارع، وفي سورة الأنبياء: (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) (الأنبياء: 4)، و"قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ" على أنه أمر، وفي سورة البقرة قوله تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ) (البقرة: 259) برفع الميم على أنه مضارع، وفي قراءة: "فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ اعْلَم" بسكون الميم على أنه أمر. الرابع: اختلاف وجوه الإعراب نحو قوله: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) (البقرة: 119)، بضم التاء على أن "لَا" هنا نافية، ولا تسأل على أن "لا" هنا جازمة. وهذا على سبيل المثال، وإلا فالأمثلة كثيرة في هذا العنصر. الخامس: الحذف والإثبات نحو قوله تعالى في سورة الحديد: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (لقمان: 26)، بإثبات الضمير "هو"، وقوله: "إِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" بحذف الضمير، وهي قراءة المدنيان، وابن عامر الدمشقي. السادس: الإبدال نحو قوله تعالى: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (التكوير: 24)، أي: ببخيل، أي: لا يكتم الرسالة صلى الله عليه وسلم، وقرئ: "بِظَنِين" أي: بمتهم، ونحو قوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (الشعراء: 217) بالواو، وقرئ: "فَتَوَكَّل" بالفاء مكان الواو. ونكمل إن شاء الله في المقال القادم. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
علوم القرآن وارتباطها بالعلوم الأخرى (10) فوائد اختلاف الأحرف السبعة كتبه/ ياسر محمد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فإن اختلاف الأحرف السبعة يثمر الائتلاف والرحمة، وليس التناقض والتضاد، ومن خلال ضرب الأمثلة تظهر لنا هذه الفوائد. المثال الأول: الاختلاف لبيان حكم مجمع عليه، كقراءة: "وله أخ أو أخت من أم"، وهذه القراءة ثابتة عن سعد بن أبي وقاص، وثبتت عنه أيضًا بلفظ: "وله أخ أو أخت من أمه" ذكرها الطبري في الجامع والقرطبي في تفسيره، ورويت أيضًا بلفظ: "وله أخ أو أخت لأمه"، ورويت عن أبي "وله أخ أو أخت من الأم"، وهي قراءة مبينة لقراءة الجماعة: (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (النساء: 12)، حيث بيَّنت المراد من الأخت والأخ أنهما لأم، وهذا المعنى المراد محل إجماع بين العلماء؛ فيكون لهذا الحكم دليلان: الإجماع، والقراءات الشاذة المنزَّلة منزلة الآحاد عند مَن يحتج بها. قال ابن الجزري رحمه الله تعالى: "بيَّنت هذه القراءة أن المقصود بالإخوة هنا: الإخوة لأم، وقد اختلف العلماء في مسألة مشتهرة في عِلْم الفرائض تسمَّى: المسألة المشتركة، وهي: "زوج وأم، أو جدة واثنان من إخوة لأم، وواحد أو أكثر من إخوة الأب والأم"، فقال الأكثرون من الصحابة وغيرهم بالتشريك بين الإخوة لأم لانتسابهم لأم واحدة، وهو مذهب الشافعي، ومالك، وإسحاق، وغيرهم. وقال جماعة من الصحابة وغيرهم: يجعل ثلث لإخوة الأم، ولا شيء لإخوة الأبوين؛ لظاهر القراءة المتواترة الصحيحة، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه الثلاثة، وأحمد بن حنبل، وداود الظاهري وغيرهم" (انتهى من طيبة النشر بتصرفٍ). المثال الثاني: الترجيح لحكم مختلف فيه من خلال قراءة: (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (المائدة: 89)، في حكم كفارة اليمين، فقد قرأ ابن مسعود رضي الله عنه: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" (المائدة: 89)، فهذه الزيادة عند الأحناف عن النص القرآني القطعي تعد نسخًا، وعند الجمهور تخصيصًا أو تقييدًا لا نسخًا. وفائدة هذا الخلاف: في أن الحنفية يرون أن الزيادة لا تثبت بخبر الواحد ولا بالقياس؛ لأن كلًّا منهما لا ينسخ المتواتر؛ ولذا فإنهم لم يشترطوا الطهارة في الطواف، ولم يوجبوا قراءة الفاتحة في الصلاة، ولم يقولوا بالتغريب مع الجلد في حدِّ الزاني غير المحصن، وكذا منعوا الغرم في آية الصدقة، وزيادة النية والترتيب في آية الوضوء، وزيادة قيد الإيمان في كفارة اليمين، والظهار على كفارة القتل (ينظر: التبصرة للشيرازي، وأصول السرخسي). ومِن ثَمَّ فقد قال الأحناف بوجوب التتابع في صوم كفارة اليمين احتجاجًا بقراءة ابن مسعود، حيث قيَّدوا بهذه الزيادة النص المطلق: "فصيام ثلاثة أيام"، وهي قراءة كانت مشتهرة إلى زمن أبي حنيفة، ولم يوجبوا التتابع في قضاء صوم رمضان بقراءة أبي بن كعب: "فعدة من أيام أخر متتابعات"؛ لأنها غير مشتهرة عندهم، فلا يقيد مطلق الكتاب بمثلها، وهذا الشاذ عند الأحناف، يفيد ظنًّا فوق ظن خبر الآحاد قريبًا من اليقين، وهو ما يسمَّى عندهم: بعلم الطمأنينة. المثال الثالث: ومن ثمرات الاختلاف: الجمع بين حكمين مختلفين كقراءة: "حتى يطهرن" بالتشديد والتخفيف، فعلى التشديد لا يقرب الزوج امرأته الحائض حتى تغتسل، وعلى التخفيف يكون الطهر بانقطاع الدم، وليس معناه أنه بانقطاع الدم يجوز له المعاشرة، بل انقطاع الدم لإعلامه أنها طهرت، ولا يجوز وطؤها حتى تغتسل؛ لأن الله قال: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) (البقرة: 222). والمشهور والشائع: أن الطهارة تكون بالغسل بالماء؛ لقوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (الأنفال: 11). المثال الرابع: ومن ثمرات الاختلاف، اختلاف الأحكام باختلاف القراءة، كقراءة مَن قرأ: "وأرجلكم" بفتح اللام يتوجه عليه الغسل، ومَن قرأ بخفض اللام؛ فلبيان فرض المسح في حالة لبس الخف. المثال الخامس: ما يكون حجة لقول كقراءة: "ومَلِكًا كبيرًا" (الإنسان: 20)، بكسر اللام، وهي دليل على رؤية الله يوم القيامة، وبسكون اللام تكون موافقة لقراءة الجماعة في المصحف. المثال السادس: ومِن هذه الفوائد: إيضاح حكم يقتضي الظاهر خلافه كقراءة: "فامضوا إلى ذكر الله"؛ فهذه القراءة تبيِّن أن المراد بقراءة: "فاسعوا" الذهاب لا المشي السريع في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) (الجمعة: 9)، وقوله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما" بدلًا من "أيديهما"؛ فقد بينت ما يقطع. المثال السابع: ومن الفوائد تفسير ما لا يعرف كقراءة: "كالصوف المنفوش"، فهذه بينت المقصود بـ"العهن المنفوش". وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
علوم القرآن وارتباطها بالعلوم الأخرى (11) تابع الأحرف السبعة وعلاقتها بالقراءات المتواترة كتبه/ ياسر محمد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد مَرَّ بنا في أحداث هذه السلسلة الحديث عن الأحرف السبعة، وعلاقتها بالقراءات المتواترة، ونقف في هذا المقال على قراءات الأئمة السبعة وصلتها بالأحرف السبعة. فليست الأحرف الواردة في الأحاديث هي قراءات الأئمة السبعة؛ للآتي: أولًا: أن هذا يلزم منه بقاء الأحرف السبعة وعدم نسخ شيء منها، وهذا مخالف لإجماع الأمة: أن الأحرف السبعة كان سبب نزولها في البداية التيسير على الأمة. ثانيًا: فعل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه من كتابة المصاحف المقروء بها اليوم، وحرقه ما سواها؛ يؤكِّد بطلان هذا الرأي. ثالثًا: أنه يلزم من ذلك الرأي: عدم صحة القراءات غير السبعة: كأبي جعفر، ويعقوب، وهذا خلاف الإجماع. رابعًا: أن كل الأئمة السبعة من القُرَّاء تلقَّى عنهم كثيرون بروايات مختلفة، وهذه الروايات بمثابة قراءة الإمام؛ فلو كانت الأحرف السبعة قراءات الأئمة السبعة لما استطعنا إحصاءها مِن الكثرة. قال العلامة أبو شامة: "ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الأحاديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة؛ إنما يظن ذلك بعض أهل الجهل، فالصواب أن قراءة الأئمة السبعة، بل العشر المقروء بها اليوم، جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وورد بها حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، وهي موافقة لآخر عرضة، عرض فيها جبريل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم". وأخرج ابن أَشْتَة عن ابن سيرين قال: "القراءة التي عُرِضَت على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قُبِض فيه هي قراءة الناس اليوم، وهذه القراءات العشر موافقة لخط المصاحف التي وجهها الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار، وأجمع الصحابة عليها" (أبحاث في القرآن الكريم للشيخ القاضي). وفي شرح "طيبة النشر في القراءات العشر" لأبي القاسم النويري: ذكر أن هذه الأحرف السبعة متفرقة في القرآن، وقال: "لا شك في ذلك، فمَن قرأ ولو بعض القرآن بقراءة معينة اشتملت على الأوجه المذكورة؛ فإنه يكون قد قرأ بالأوجه السبعة دون أن يكون قد قرأ بالأحرف السبعة". وقد ذكر أيضًا: أن المصاحف العثمانية اشتملت على جميع الأحرف السبعة، وهذه مسألة عظيمة فذهب إلى ذلك القول جماعة من الفقهاء والقراء والمتكلمين؛ بحجة أن الأمة يحرم عليها ترك شيء من السبعة، وخالفهم الجمهور إلى أنها مشتملة على ما يحتمله رسم المصحف من الأحرف السبعة فقط، بناءً على العرضة الأخيرة التي عرضها جبريل على النبي عليه الصلاة والسلام. قلتُ: وهو الظاهر؛ لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المستفيضة تدل عليه، وهذا يدل على أن القراءات التي يقرأ بها الناس اليوم في كلِّ الأمصار هي جميع الأحرف السبعة أو بعضها. وقال إمام عصره ابن تيمية: "ولا نزاع بين العلماء المعتبرين: أن الأحرف السبعة ليست القراءات السبعة؛ ولذلك لم يتنازع العلماء في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة، بل مَن ثبت عنده قراءة متواترة مستوفية للشروط والأركان؛ فله أن يقرأ بها بلا نزاع، بل أكثر العلماء الذين أدركوا قراءة حمزة بن حبيب الزيات: كسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وبشر بن الحارث، وغيرهم، يختارون قراءة أبي جعفر، وشيبة بن نصاح، وقراءة شيوخ يعقوب على قراءة حمزة" (نقله ابن الجزري في منجده عن فتوى ابن تيمية). وقال الحافظ الذهبي: "وما رأينا أحدًا أنكر الإقراء بمثل قراءة يعقوب وأبي جعفر". وقال الكواشي في تفسيره: "ما اجتمعت فيه الشروط الثلاثة فهو من الأحرف السبعة؛ سواء وردت عن سبعة، أو سبعة آلاف". ونقل أبو القاسم النويري استفتاءً عن العلامة السبكي في القراءات المقروء بها اليوم: هل هي متواترة أم لا؟ وهل كل ما انفرد به واحد من العشرة بحرف من الحروف متواتر أم لا؟ وما الذي يجب على مَن جحدها أو حرفها؟ فأجاب قائلًا: "القراءات السبع التي نقلها الشاطبي، والثلاثة التي نقلها ابن الجزري متواترة معلومة من الدِّين بالضرورة، وكل حرف انفرد به واحدٌ من العشرة معلوم من الدين بالضرورة؛ أنه منزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهل، وليس التواتر مقصورًا على القارئ فحسب، بل هي متواترة عند كلِّ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولو كان مع ذلك عاميًّا جلفًا لا يحفظ من القرآن حرفًا" (انتهى بتصرف من شرح طيبة النشر للإمام ابن الجزري). وأخيرًا: قلتُ: ومِن أقوى الأدلة على أن الأحرف السبعة ليس المراد بها الأئمة السبعة؛ فضلًا عن العشرة، وأنها لهجات وأوجه استوعبتها القراءات العشر، واشتملت على بعضها المصاحف: أن الأئمة السبعة أو العشرة، لم يكونوا موجودين في زمن نزول الوحي بالقراءات على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إن أكثر سور القرآن سور مكية، فدل ذلك على بطلان القول بأن الأحرف السبعة هم الأئمة السبعة، وكذلك مع قوة كلام العلامة أبو شامة السابق في أول مقالنا، ولله الحمد والمنة. وللحديث بقية إن شاء الله. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
مقالات في علوم القرآن وارتباطها بالعلوم الأخرى (12) الكلام حول أركان القراءة وعلاقتها بعلم القراءات كتبه/ ياسر محمد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد قال العلامة ابن الجزري -رحمه الله تعالى- في طيبة النشر فيما يتعلَّق بما ينبغي على حامل القرآن فعله، وهو: أن يجتهد في حفظه والعمل به، وإتقانه وضبطه، وتصحيحه على أكمل الوجوه، بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: وليجتهد فيه وفي تصحيحه على الذي نُقِل من صحيحه وقد ذكرتُ هذه المقدمة لابن الجزري؛ لأنها هي المدخل للكلام عن أركان القراءة، ولما ذكر رحمه الله الوجه الصحيح قال في نظمه طيبة النشر: فـكـل ما وافـق وجه نحو وكان للرسم احتمالا يحوي وصح إسنادًا هو القرآن فهذه الثــــــــلاثة الأركــان والمعنى: إذا أردتَ القراءة المحكوم بقرآنيتها وعدم شذوذها؛ فهي القراءة التي استوفت الشروط الثلاثة، وهي: أن تكون موافقة لوجه من أوجه اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن التي نزل بها؛ مصداقًا لقول الله -تعالى-: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الزمر: 28)، وقوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) (طه: 113)، وقوله -تعالى-: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، وقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (النحل: 103). فكل قراءة وافقتْ وجهًا من وجوه العربية، ولو لم يكن هذا الوجه هو الأشهر، حكم عليها بالقبول، وسواء كان هذا الوجه مختلفًا فيه أو مجمعًا عليه؛ فهذا لا يضر إذا كانت القراءة شاعت وذاعت، وتلقاها الأئمة بالإسناد الصحيح؛ فكم من قراءة أنكرها نحويون ولم يُعتد بهذا الإنكار، بل أجمع الأئمة المقتدَى بهم مِن السَّلَف على قبولها. والأمثلة الآتية تبين ذلك: جاء لفظا: (بَارْئِكُمْ) و(يَأْمُرْكُم) بإسكان الراء، وكذلك بكسر الراء، وضمها في (يَأْمُرُكُم)، ولفظة: (مِن سَبَأْ) بإسكان الهمزة، وفتحها (مِن سَبَأَ)، وتنوينها مكسورة (مِن سَبَإٍ)، ولفظة: (يَا بُنَيْ) بإسكان الياء، و(يَا بُنَيَّ) في هود ويوسف ولقمان بفتح الياء، ولفظة: (وَكَذَلِكَ نُجِّيَ الْمُؤْمِنِينَ) في سورة الأنبياء؛ قرأ الشامي وشعبة بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم، والباقون بنونين، الأولى مضمومة والثانية ساكنة مع تخفيف الجيم، وكذلك الجمع بين الساكنين في قراءة ابن كثير في لفظ (وَلَاَ تَّعَاوَنُواْ) حيث قرأ الرواة عن ابن كثير في حالة الوصل بتشديد التاء وإشباع الألف، وكذا (وَلَاَ تَّنَازَعُواْ) في الأنفال، و(وَلَاَ تَّيَمَّمُواْ) في البقرة، وكذلك قوله: (لِلْمَلَائِكَةُ اسْجُدُوا)، حيث قرأ أبو جعفر المدني وصلا بضم التاء وقرأ الباقون بخفضها، وكذلك قوله: (أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ)، حيث قرأ الراوي عن ابن عامر الشامي بوجهين، وجه كحفص (أَفْئِدَةً)، والوجه الثاني قرأ بزيادة ياء بعد الهمزة (أَفْئِيدَةً)، وقوله -تعالى-: (تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)، حيث قرأ حمزة بن حبيب الزيات أحد القراء المشهورين بخفض الميم في لفظ: (وَالْأَرْحَامِ)، والتقدير: "واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام"، وكذلك قراءة: (إِنْ هَذَانِ) بسكون النون وإثبات الألف في (هَذَانِ)، وقرئ بتشديد النون في (إِنَّ)، و(هَذَيْنِ) بياء ساكنة بعد الذال بدلًا من الألف، وتخفيف لفظة: (وَلَا تَتَّبِعَانِ) في سورة يونس، وقراءة كلمة (لَيْكَةَ) في سورتي: الشعراء وص، بفتح اللام وحذف الهمزة وفتح التاء، وفي الحجر وق رُسِمَت هكذا: (الْأَيْكَةِ). قال عثمان بن سعيد الداني أبو عمرو الأندلسي في كتابه: "جامع البيان": "وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتتْ عنهم، لم يردها قياس العربية، ولا فشو اللغة؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها". قال البيهقي -رحمه الله-: "والمقصود بسنة متبعة أي: اتباع مَن قبلنا في الحروف، فلا يجوز مخالفة المصحف العثماني، ولا مخالفة المشهور من القراءات، وإن كان غير سائغ في اللغة" (الإتقان في علوم القرآن، 1/ 260 بتصرفٍ). وقد عَلَّق بعض العلماء على كلام أبي عمرو السابق، ووصفه بأنه: "كلام قوي وله وجاهة، وقد أخذ علماء النحو قواعدهم من القرآن الكريم، وكلام العرب، فالقرآن هو الحاكم على علماء النحو، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ويجب على علماء النحو أن يراجعوا قواعدهم على القرآن، فالقرآن هو أقوى حجة للنحويين في إثبات ما يثبتونه ونفي ما ينفونه" (مناهل العرفان في علوم القرآن، 1/ 422 بتصرفٍ). وللحديث بقية بإذن الله. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (13) تابع الكلام حول أركان القراءة وعلاقتها بعلم القراءات كتبه/ ياسر محمد محمود فالركن الثالث من أركان القراءة الصحيحة هو صحة السند، ومعناه: أن يروي القراءة عدل ضابط عن مثله إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من غير شذوذ، ولا علة قادحة. ومن الأجدر قبل الكلام عن هذا الركن أن نبيِّن مسألة مهمة؛ ألا وهي: ماذا لو اختل ركن من أركان القراءة الثلاثة؟ والجواب: قال ابن الجزري -رحمه الله- في طيبة النشر: وحَيـثُـماَ يَخْتَلُّ رُكْـنٌ أَثْبِتِ شُذُوذَهُ لَوْ أنَّهُ فِي السَّبعَةِ ثم بعد ذلك لا بد أن نعي: أن الاعتماد في نقل القرآن متوقف على الحفظ في القلوب والصدور، لا على المصاحف والكتب؛ فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانًا...) (رواه مسلم). ففي هذا الحديث إخبار من الله -تعالى- أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرأ في كلِّ حال، بخلاف أهل الكتاب لا يقرؤون إلا نظرًا، وقد توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو محفوظ في الصدور، ولما تولَّى بعده الصديق -رضي الله عنه-، واندلعت الحروب مع مسيلمة الكذاب، قام الصديق -رضي الله عنه- بعد مشورة الصحابة بجمع القرآن في مصحفٍ واحدٍ؛ خشية أن يذهب بذهاب قرائه، وأمر زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري كاتب الوحي بجمع القرآن، حتى قال زيد -رضي الله عنه-: "والله لو كلفوني نقل الجبال لكان أيسر عليَّ من ذلك!"، قال زيد: "فجعلت أتتبع القرآن من صدور الرجال، والرقاع -وهي: قطع الجلد-، والأكتاف -وهي: عظام الكتف المنبسط كاللوح والأضلاع-، والعسب: سعف النخل، واللخاف: الأحجار العريضة البيضاء؛ وذلك لانعدام الورق حينئذٍ، قال زيد: "فذكرت آية كنت قد سمعتها من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ) (التوبة: 128)، فلم أجدها إلا عند خزيمة بن ثابت. وقال أيضا: "فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما وجدتها إلا عند رجل من الأنصار وهي: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 23). وهنا تساؤل: لماذا يتتبع زيد القرآن ليجمعه وهو حافظ له، وهو مِن كاتبي الوحي؟ وكيف يحصل التواتر بما عند واحد من الصحابة؟ والجواب: أن هذا أبلغ في التواتر، وقد يجاب أيضًا بجواب آخر يعضد الأول، وهو: أنه ربما كان هذا الجمع لاستكمال وجوه قراءاته، فكتب زيد القرآن بجميع أحرفه ووجوهه المعروفة بالأحرف السبعة، فلما تمت كتابة الصحف أخذها أبو بكر عنده حتى أتاه الموت، ومن بعده عمر، فلما مات أخذتها ابنته حفصة -رضي الله عنها-، وفي سنة ثلاثين من خلافة عثمان -رضي الله عنه-، وأثناء الفتوحات رأي حذيفة اختلاف الناس في القرآن، فقال حذيفة لعثمان: "أدرك هذه الأمة قبل اختلافهم اختلاف الخارجين من الملة"، فأرسل إلى حفصة وأحضر الصحف، وأمر زيدًا، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بنسخها في المصاحف، ويردون لحفصة الصحف، فنَسَخ عنها عدة مصاحف، وأمسك لنفسه مصحفًا، وهو المعروف: بمصحف الإمام. وقد اختار الخليفة عثمان -رضي الله عنه- زيدًا أسوة بنبيه -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه، وضم إليه هؤلاء لاشتهار ضبطهم ومعرفتهم، وكتبوا القرآن مائة وأربعة عشر سورة، أولها: الحمد (الفاتحة)، وآخرها: الناس، وأول كل سورة البسملة؛ إلا أول سورة براءة، فجعلوا مكانها بياضًا، وجردوا المصاحف من أسماء السور، ونسبتها، وعددها، وتجزئتها، وفواصلها، تبعًا لأبي بكر الصديق، واجتمعت الأمة على ما في هذه المصاحف، وترك ما خالفها من زيادة ونقص، وإبدال كلمة بأخرى، مما كان مأذونًا فيه توسعة عليهم، ولم يثبت عندهم ثبوتًا مستفيضًا أنه مِن القرآن. وجردت هذه المصاحف كلها من النقط والشكل؛ لتحتمل ما صَحَّ نقله، وثبتت تلاوته وروايته عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الاعتماد -كما أسلفنا- على الحفظ، لا على مجرد الخط. وما ذكرناه في هذا المقال هو توطئة ومقدمة للكلام عن الإسناد والتواتر. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
مقالات في علوم القرآن وارتباطها بالعلوم الأخرى (14) تابع الكلام حول أركان القراءة وعلاقتها بعلم القراءات كتبه/ ياسر محمد محمود فنتحدث في هذا المقال عن موافقة القراءة القرآنية للرسم للعثماني، فحتى تكون القراءة محكوم بقرآنيتها لا بد أن توافق الرسم مطابقة أو احتمالًا، فقد توافق القراءة رسم جميع المصاحف العثمانية كقوله -تعالى-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (البقرة - 281)، أو توافق رسم بعض المصاحف نحو قوله -عز وجل-: (وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الحديد: 24)، ففي بعض المصاحف المدنية والشامية حذف الضمير "هو"، وهذا مما سبق الكلام عليه في توجيه معنى الأحرف السبعة، وأنها لهجات عربية مختلفة. وقد يوافق الرسم أحد المصاحف مثل قوله -تعالى-: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) (البقرة: 116)، حيث قرئ في بعض المصاحف بحذف الواو، وفي أخرى بإثباتها. وموافقة الرسم العثماني تكون على قسمين: - الأول: موافقة تحقيقية: أي: صريحة، نحو قوله -تعالى-: "إن ينصركم الله"، فالمصاحف العثمانية كتبت مجردة من النقط والشكل، فكانت محتملة لجميع أوجه القراءات؛ إذ إن القرآن نزل ملفوظًا وليس مكتوبًا كما نزلت بعض الكتب السابقة: كالتوراة، فمن المعلوم أن القرآن نزل خلال ثلاث وعشرين سنة منجمًا -مفرقًا- على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان يأمر بكتابة الوحي ويقول ضعوا هذه الآية في سورة كذا ولم يكن المصحف قد رقم بعد، وليس هناك فواصل بين الآيات؛ إلا أن جبريل عليه السلام قد علم النبي هذه الفواصل، والنبي علم الصحابة رؤوس الآيات وكان يقف على رأس الآية تعليما ويصلها بغيرها أحيانا لتوضيح معنى، أما ترقيم الآيات وفواصلها جاءت بعد ذلك باجتهاد العلماء. وقد جاء الرسم العثماني مجردًا من النقط؛ ليقرأ على وجوه متغايرة؛ إذ إن الأصل في تلقي القرآن هو المشافهة والشيوخ والقراء، وليس المصحف. ولقد جاء القرآن العظيم منسجمًا مع قواعد الإملاء الحديثة، ومتفوقًا عليها في كل الوجوه، وقد يظن البعض وجود اختلافات بين الرسم العثماني والرسم الإملائي، وهذا غير صحيح، فمن عظمة القرآن أن يتفق مع الرسمين، والمتأمل في الرسم العثماني يرى أنه اتسم مع الرسم الإملائي في كثير من آيات القرآن، بل أغلبها، والاختلاف بين هذا الرسم والآخر اختلاف ضئيل في أحرف وكلمات يسيرة بالنسبة لعدد آي القرآن التي بلغ عددها ستة آلاف ومئتان وست وثلاثين آية بالعد الكوفي، وهذا الاختلاف يرجع إلى إدغام أحرف، وحذف أحرف، وكتابتها برسم عثماني. - الثاني: موافقة الرسم تقديرًا، وهذا كما عبر عنه العلامة ابن الجزري: "وكان للرسم احتمالًا يحوي"، ومن الأمثلة على هذا القسم: "مالك يوم الدين" - "وما يخادعون" - "وإنا لجميع حاذرون"؛ فقرئت هذه الكلمات بحذف الألف وإثباته، فعلى القراءة بالألف توافق الرسم تقديرًا، وكذا قرئت كلمة: "صراط" - "المصيطرون" بالسين لقرب مخرج الصاد من السين، ومن هذا القسم الكلمات التي أجمع القراء على قراءتها بوجه يخالف الرسم الصحيح مثل: "العالمين" - "مؤمنات"، فرسمت بحذف الألف، وقد قرئت بإثبات الألف، وكذا كلمة "امرأت" بالتاء المفتوحة بدلا من التاء المربوطة، وقد أفردت هذه الكلمة؛ لأنها من الكلمات التي طعن البعض فيها ووقعت عندهم الشبهة، حيث قالوا: كيف تكون هذه الكلمة مكتوبة بالتاء المفتوحة، وهي في الأصل تكون بالتاء المربوطة؟! ويجاب على هذه الشبهة: بأن الأصل في التاء التي تأتي لتأنيث الاسم أن تكون مربوطة، وذلك للتمييز بينها وبين تاء التأنيث التي في الفعل، والتاء في جمع المؤنث السالم، فمثلًا: لو قلنا: (ذاكر أحمد الدرس - كتبت فاطمة الدرس - ذاكرت التلميذات الدرس)، فالتاء في مثال: "كتبت فاطمة" جاءت في "فاطمة" مربوطة؛ للتمييز بينها وبين التاء في "كتبت"، وفي "أحمد" لم تذكر التاء؛ لأنه هذا مذكر؛ لأنه لابد من التمييز بين التذكير والتأنيث. وخلاصة القول في ذلك: أن كلمة "امرأت" رسمت بالتاء المفتوحة لتوافق لغة طيء، وهي من قبائل العرب، وكذا لجواز الوقف عليها بالتاء ككلمة: "رحمت" - "نعمت" - "بقيت"؛ دلالة على لغة هذه القبيلة، وهي لغة عربية فصيحة، فرسمت الكلمة بالتائين لموافقة جميع اللغات، ولو رسمت على لغة واحدة ما كان القرآن معجزًا ولا بليغًا، وإذا نظرنا إلى بعض الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة، نرى الأمر واضحًا. وهاك الأمثلة: "امرأت عمران" - "امرأت العزيز" - "امرأت نوح وامرأت لوط" - "امرأت فرعون إذ قالت"، فبالتأمل في هذه الآيات نرى أن لفظ: "المرأة" قد أضيف، وعندما نطالع نفس الكلمة في آيات أخر، نراها هكذا: "امرأة تملكهم" - "وإن امرأة خافت" - "وامرأة مؤمنة إن وهبت" - "وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة"؛ فهذه هنا غير مضافة، أي: هي امرأة ليست بعينها لم تحدد. والخلاصة: أن الأمر ليس فيه مخالفة لقواعد الإملاء -كما يتوهم البعض!-، بل هو من الحفاظ على اللغات وإثرائها؛ فكل من عند الله. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (15) تابع الكلام حول أركان القراءة وعلاقتها بعلم القراءات كتبه/ ياسر محمد محمود فقد أسلفنا في المقال السابق الكلام حول الركن الثاني من أركان حجية القراءة وقبولها إذا وافقت الرسم العثماني يقينًا، أو احتمالًا، وفي هذا العدد نحاول أن نعرج على مسألة متعلقة بالرسم؛ ألا وهي: حكم الرسم العثماني في المصحف. ونعني بهذه المسألة: هل الرسم العثماني حكم توقيفي لا تصح مخالفته أم أنه حكم خاضع للاجتهاد والبحث؟ نحا بعض الأئمة؛ لا سيما مالك وأحمد إلى أن الرسم العثماني أمر توقيفي أي لا تجوز مخالفته، بل وبالغوا في ذلك حتى نسبوا هذا التوقيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونقل ابن المبارك عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال له: "ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، إنما هو توقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر كتبته أن يكتبوه بهذه الهيئة" (انتهى بتصرف من كلام ابن المبارك). وبعضهم ذكر لهذا الرسم أسرارًا تدل على أن له معان إعجازية، ككتابة كلمات بطريقة معينة، فعلى سبيل المثال: (أييد) في قوله -تعالى-: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَ????دٍ) (الذاريات 47)، إشارة إلى المبالغة في تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء، فلا تشبهها قوة، وقد تعرض هنا شبهة في هذه الآية، وهذه الشبهة: لماذا جاءت كلمة أيد بالجمع؟ بداية، نحن نثبت صفات الله دون تعطيل أو تمثيل، والجواب أن كلمة الأيد هنا ليست جمع يد، وإنما هي مصدر من آد -يئيد- أيدًا، مثل باع بيعًا، ومعناها القوة كما رواه الطبري عن ابن عباس، وسفيان الثوري، وقتادة، وقال أبو حيان في البحر المحيط: "بأيد أي: بقوة"؛ قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة وهو كقوله -تعالى-: (دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ) (ص: 17). وقد خطَّأ الشيخ الأمين الشنقيطي، وابن عثيمين -رحمهما الله تعالى- من جعل الأيد هنا جمعًا لليد، قال ابن عثيمين: "لم تضف الأيد هنا إلى الله. كما في قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا) (يس: 71). وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "إن ما أضيف إلى اسم الجمع ظاهرًا أو مضمرًا، فالأحسن جمعه مشاكلة للفظ"، ومثَّل لذلك بجمع العين واليد: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ) (القمر: 14)، واليد كما في الآية في سورة يس. وبعد عرض القول الأول في مسألة الرسم نستطيع القول بأنه لم يرد فيه شيء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما اصطلح الكتبة على هذا الرسم في زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إذ قال للكتبة في زمانه: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من الوحي فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم". وعندما اختلفوا في كتابة: (التابوت) فقال زيد: (التابوه)، وقال النفر الذين معه: (التابوت)، فرجعوا إلى الخليفة فأقر ما قاله النفر، وقال: "إنما أنزل على لسان قريش". قلت: ما فعله عثمان يدل على أن الرسم ليس توقيفيًّا؛ لأنه لو كان كذلك ما قال لهم: "لو اختلفتم أنتم وزيد". الرأي الثاني: أن الرسم ليس توقيفيًّا، ولكن هذا ما رآه الخليفة الراشد عثمان -رضي الله عنه- وتلقته الأمة بالقبول فلا تجوز مخالفته، وهذا الرأي عليه الكثيرون من العلماء. قال أشهب: "سئل مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ قال: لا، إلا على الكتبة الأولى". رواه أبو عمرو الداني في (المقنع) ثم قال: "ولا مخالف له من علماء الأمة، وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف، أترى أن تغير من المصحف؟ قال: لا"، وقال أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم نحو (أولوا) وقال أحمد: "تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك". الرأي الثالث: قالوا بأن الرسم اصطلاحي، ولا مانع من مخالفته، عندما يصطلح الناس على رسم إملائي قد شاع بينهم. قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه (الانتصار): "وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئًا"؛ إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب ذلك؛ ولذلك اختلفت خطوط المصاحف فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه أن هذا اصطلاح. قلتُ: أما باب الكتابة، فالأمر فيه واسع بخلاف باب القراءة، فالأمر فيه محدود ومنضبط، وأضرب لذلك مثالًا في قوله -تعالى- في سورة النمل: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ . لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) (النمل:20، 21)، فكلمة: (لَأَذْبَحَنَّهُ) رسمت هكذا، فقراءتها تختلف عن كتابتها، ومن أراد مزيدًا من هذا فليرجع إلى كتاب: (المقنع) لأبي عمرو الداني، وممَّن قال بأن الرسم أمر اجتهادي العلامة ابن خلدون، وقد أوضح ابن جرير الطبري أنه لا تجوز مخالفة الرسم. والخلاصة: أن المسألة خلافية، فالجمهور على عدم جواز المخالفة للرسم العثماني، وقد ذهب إلى جواز المخالفة عز الدين بن عبد السلام، لكنه شرط المحافظة على الرسم، وكذا الباقلاني وابن خلدون. قلت: والذي تطمئن إليه النفس، ويوافقه العقل، ويتفق مع مصالح الناس من حيث التيسير والتخفيف، ويعد من باب المصالح المرسلة، ما فعله عثمان -رضي الله عنه- من قوله للرهط الذين كتبوا المصحف أن يكتبوه بلغة قريش، ولكن قول الجمهور له حظ من الوجاهة، وهذا فيه وضع السياجات لحفظ القرآن والحذر من وقوع تحريف في الألفاظ ليظل قوله -تعالى- محكمًا: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، وفيه الاقتداء بالصحابة -رضي الله عنهم-. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (16) تابع الكلام حول أركان القراءة وعلاقتها بعلم القراءات كتبه/ ياسر محمد محمود ففي هذا المقال سيدور الحديث حول ركن القراءة الثالث؛ ألا وهو: صحة السند، وإن كنا قد قدمنا له بمقدمة في المقال السابق فلعلنا نختتم الكلام عنه بإذن الله تعالى. ذكرنا في المقال السابق أن ترتيب السور هو الموجود على ما هو عليه الآن، ولكن يعكر على هذا القول ما صح من رواية مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه حيث قال: "صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح سورة النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران" ثم ساق الحديث. قال القاضي عياض: "فيه دليل لمن يقول: إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين، وهذا قول مالك وجمهور العلماء، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني". قال الباقلاني: "وهو أصح القولين مع احتمالهما، قال: والذي نقوله إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس والتلقين، قال: وأما عند من يقول: إن ذلك بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيتأول ذلك على أنه قبل التوقيف، وفي مصحف أبي، كانت النساء ثم آل عمران، ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل المقروءة في الأولى، وإنما كره في نفس الركعة، وفي التلاوة في خارج الصلاة، قال: وقد أباحه بعضهم، وتأول نهي السلف عن قراءة القرآن منكوسا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها، قال: ولا خلاف في ترتيب الآيات أنه توقيفي من الله" (انتهى من كلام القاضي بتصرف يسير). قلتُ: وبعد كتابة عدة مصاحف في عهد عثمان -رضي الله عنه- مشتملة على بعض الأحرف السبعة الموافقة للهجات العرب، وإرسالها إلى الأمصار والبلدان، وقرأ كل مصر بما في مصحفهم، وتلقوا ما فيه عن الصحابة، حتى صار منهم الأئمة والمرجع في القراءة والإقراء، حتى نسبت إليهم هذه القراءات، وقد تلقى على أيديهم من بعدهم، وانتشروا في البلاد، وتبعتهم أمم، فكان منهم المتقن رواية ودراية، ومنهم المحصل لوصف واحد، ومنهم المحصل لأكثر من واحد، فكثر عندئذٍ الخلاف، فقام عند ذلك مَن بالغ في الاجتهاد، وميَّز بين الصحيح والباطل، وجمع الحروف والقراءات، وعزا الوجوه والروايات، وبين الصحيح والشاذ، بأصول مؤصلة، وأركان مفصلة. وقد أشار إلى تلك الأصول والأركان قول الإمام ابن الجزري -رحمه الله-: فـكـل مـا وافــق وجــه نـحـو وكان للرسم احتمالًا يحوي وصــح إسـنـادًا هـو القــرآن فـهـذه الـثـــلاثـة الأركـــان قال أبو شامة: "فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى لأحد من السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة إلا إن دخلت في الضابط؛ ألا وهو: أركان القراءة التي تقدمت، فلا يقول في النقل عن السبعة أو العشرة، بل العبرة بتوفر الأركان في القراءة، فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم، منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو شاذ" (انتهى بتصرف). قلتُ: وقد قال ابن الجزري في منظومته طيبة النشر: فكن على نهج سبيل السلف فـي مـجـمع عليه أو مختلف وبسبب هذا القول ضل قوم فقرؤوا أحرفًا لا يصح سندها؛ بزعم أن التواتر ليس بشرط، وهذه المسألة قد لخص القول فيها الإمام أبو القاسم النويري في شرح الطيبة مذاهب القراء والفقهاء المشهورين وما ذكره الأصوليون والمفسرون وغيرهم فقال: "إن القرآن عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة وصدر الشريعة، هو ما نقل بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا، وكل من قال بهذا اشترط التواتر، هذا عند أئمة المذاهب الأربعة، وصرح به جماعات لا يحصون كابن عبد البر، وابن عطية، وابن تيمية، والنووي، والسبكي، والأذرعي، والزركشي، وابن الحاجب، وابن عرفة، وغيرهم. وقد أجمع القراء على ذلك، ولم يخالف إلا أبو محمد مكي، وتبعه بعض المتأخرين كابن الجزري"، وقال النويري: "والذي لم يزل عليه الأئمة الكبار القدوة في جميع الأمصار من الفقهاء والمحدثين وأئمة العربية توقير القرآن، واتباع القراءات المشهورة، ولزوم الطرق المعروفة في الصلاة وغيرها، واجتناب الشاذ، لخروجها عن إجماع المسلمين، وعن وجه التواتر الذي ثبت به القرآن، والنقول في ذلك كثيرة، ولكن أشرنا إلى طرف منها". قلت: الخلاصة أنه لا بد في ثبوت القرآن من صحة السند، وبقية الأركان، ومنها التواتر. والحمد لله رب العالمين. |
رد: علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى
مقالات في علوم القرآن الكريم وارتباطها بالعلوم الأخرى (17) القراءات الشاذة ومدى حجيتها في الأحكام الفقهية كتبه/ ياسر محمد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد اشتهر مصطلح الشذوذ في مجالات متعددة من أقسام العلوم: كاللغة والنحو، والفقه، والذي يعنينا في هذا المقال هو معنى الشذوذ عند القراء. روى الإمام مسلم -رحمه الله- في كتاب الإيمان من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنهما-، وفي الحديث: "وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ"، فكلمة (شاذة) أي: ما انفرد به عن الجماعة، وورد أيضًا في بعض طرق هذا الحديث: "لَا يَدَعُ لَهُمْ فَاذَّةً" بالفاء، ثم هما -أي الكلمتين-: شاذة وفاذة، صفة لمحذوف بمعنى نسمة، والهاء فيهما للمبالغة. وقيل: المراد بالشاذ والفاذ: ما كبر وصغر. وقيل الشاذ: الخارج، والفاذ: المنفرد. (ينظر: فتح الباري). من خلال هذا الحديث يتبيَّن لنا معنى الشذوذ، وكذلك إذا بحثنا عن معناه عند القراء، فنرى أن من القراء كنافع المدني -كما جاء في معرفة القراء الكبار-، قال الذهبي في ترجمته: "قال المسيبي: قال نافع: قرأت على هؤلاء فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد تركته، حتى ألفت هذه القراءات". والمعنى: أن نافعًا كان يرغب عما انفرد به أحد شيوخه عن الباقي ممن قرأ عليهم نافع. وقد ألَّف في القراءات أيضًا الإمام محمد بن جرير الطبري -رحمه الله-؛ فله مؤلفات في المشهور من القراءات والشاذ، حيث ألف كتابًا كبيرًا في ثماني عشرة مجلد ذكر فيه جميع القراءات المشهور منها والشاذ، وفي هذا الكتاب كان يختار من القراءات، وقد قال عن ذلك الإمام أبو عمرو الداني: والطبري صاحب التفسير له اختيار ليس بالشهير وهـــو في جامعه مذكور وعند كل صحبه مشهور وقد تميَّز وتفرد الطبري بمعرفة واسعة في التفسير والآثار وأسفاره تشهد بذلك، وكان عالمًا بلسان العرب، فضلًا عن أنه كان أستاذًا لابن مجاهد، وابن مجاهد أول من ألف في القراءات السبع. ومصطلح الشذوذ عند ابن جرير يعني مخالفة الإجماع، وهو عنده على ضربين: - الأول: ما انفرد به أحد القراء عن باقي القراء، ونذكر مثالًا لذلك النوع: وهو في قوله -تعالى-: (قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ) (الأنبياء: 112). حيث قرأ حفص عن عاصم بلفظ: (قَالَ) على صيغة الماضي ومعنى الدعاء، وقرأ بكسر الباء من (رَبِّ)، وقرأ الباقون بصيغة الأمر: "قُلْ رَبِّ"، وهو أمر بصيغة الطلب، وقرأ أبو جعفر وحده - وهو يزيد أبو القعقاع وهو شيخ نافع المدني، وهو من القراء العشرة - بضم الباء من لفظ (رَبُّ)، ووافقه ابن محيصين. وعلى مذهب ابن جرير وطريقته فقراءة أبي جعفر عنده شاذة؛ لأن الشذوذ عنده معناه مخالفة الإجماع، والصواب أنها قراءة صحيحة، توافرت فيها أركان القراءة. مثال آخر: قول الله -تعالى-: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) (النساء: 34). فقد قرأ أبو جعفر القارئ بنصب لفظ الجلالة "بِمَا حَفِظَ اللَّهَ"، والباقون بالرفع، وقد حكم على هذه القراءة الإمام محمد بن جرير الطبري بالشذوذ على طريقته، والصواب من القول أن ما قرأ به أبو جعفر -رحمه الله- وجه صحيح، ويتوجه هذا الوجه من القراءة إلى أن الصالحات يحفظن الله بطاعته وأداء حقه بما أمرن به شرعًا من حفظ غيبة الأزواج، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: (احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وكقول الرجل للرجل: "مَا حَفِظْتَ اللهَ فِي كَذَا وَكَذَا"، بمعنى: ما راقبته وما خفته، فهي قراءة صحيحة متواترة وليست شاذة، فلا وجه لردها. وقد ذكر الإمام الرازي في هذه الآية فائدتين؛ فقال: "ما بمعنى (الذي)، أي: بما حفظه الله لهن، والمعنى أن: عليهن أي يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى في سورة البقرة: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228)، حيث أمرهم بالعدل وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن، فقوله -تعالى-: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أي هذا في مقابلة ذاك. الفائدة الثانية: أن ما مصدرية والتقدير: بحفظ الله، وعلى هذا وجهان، الأول: أنهن حافظات للغيب بما حفظ الله إياهن، أي بتوفيق الله، وقد جاء القرآن بذلك: قال -تعالى- على لسان نبيه شعيب: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) (هود: 88)، وقوله -تعالى-: (لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (الأعراف: 43)، وكذلك ما كان يرتجزه النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الخندق والصحابة من قولهم: "واللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهتدينا، ولا تَصَدَّقْنَا، وَلَا صَلَّيْنَا". والوجه الثاني: أن حفظ المرأة للغيب أي بسبب حفظها حدود الله وأوامره، وفي الحديث: (إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). والخلاصة: أن معيار القراءة عند الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله- ليس توافر الأركان، بل المعيار عنده مخالفة الإجماع، كما سبق في الموضوعين الذين سلفا، ولا شك أن هذا الاعتبار مردود، ولا يحكم به على قراءة بكونها شاذة. والله أعلى وأعلم. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
الساعة الآن : 02:08 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour