ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=41)
-   -   خاتم النبيين (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=276097)

ابوالوليد المسلم 09-04-2022 05:45 PM

خاتم النبيين
 
خاتم النبيين
الشيخ خالد بن علي الجريش


بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين.
الحلقة الأولى:
حينما يكون الطرحُ عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لا شك أنه كلامٌ جميلٌ كريمٌ عن أعظم رجل في تاريخ الإنسانية، بل أفضل رُسل الله وأنبيائه، بل إن الرسل يوم القيامة حال الشفاعة كل منهم يقول: نفسي، نفسي، وأما هو عليه الصلاة والسلام، فيقول أنا لها، فالحديث عن سيرته عليه الصلاة والسلام له حلاوة تجذبها القلوب السليمة، وأيضًا كذلك له طلاوة ترغبها العقول الزاكية، كيف لا وهو سيدُ ولد آدم، فما أشرقت الشمسُ على أفضل منه، عليه الصلاة والسلام، فدراسة سيرته عليه الصلاة والسلام هي هدى يهتدي به المسلم في حياته كلها في عباداته وفي عاداته، بل في جميع أحواله، فالاقتداءُ به عليه الصلاة والسلام هو الصراط المستقيم، هو الموصلُ إلى والسعادة في الدنيا والآخرة، فما من شاذةٍ ولا فاذةٍ إلا ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام للأمة تصريحًا وتلميحًا، وبيَّنها وأوضحها، ونحن نشهد أنه بلَّغ الرسالة ونصَح الأمة، وأدى الأمانة عليه الصلاة والسلام.

وقد كان ميلاده عليه الصلاة والسلام باتفاق أهل العلم أنه يوم الاثنين كما اتفقوا أيضًا أنه في عام الفيل، وكذلك اتفقوا أنه وُلد في مكة، لكن أهل العلم اختلفوا في تاريخ اليوم والشهر، فأما الشهر، فرأى جمهور أهل العلم أنه في ربيع الأول، وأما اليوم فقد ذكر ابن كثير أقوالًا عدة لكن رأي الجمهور أنه في الثاني عشر من ربيع الأول، فاليوم الذي ولد فيه ليس فيه إجماع بين أهل العلم، ولا يصح تمييزه بشيءٍ؛ حيث إن سلف الأمة لم يفعلوا ذلك، وكان ميلاده يوافق عام خمسمائة وواحد وسبعين للميلاد، وأما نسبه الشريف، فهو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانه بن خزيمة بن مدركه بن إلياس بن مضر بن نزار بن عدنان؛ قال الذهبي رحمه الله: وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم بالإجماع، وما بعد ذلك فمحل خلاف، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم)؛ رواه البخاري، ولذلك قال هرقل لأبي سفيان: كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو ذو نسب، فقال: هرقل وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها؛ رواه مسلم، وقد اجتمع له صلى الله عليه وسلم علو النسب من جهة أبويه كليهما، وأما كنيته فأبو القاسم وفي البخاري يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا قاسم أضع حيث أمرت)؛ رواه البخاري، وقد نهى عن التكني بكنيته، وأباح التسمي باسمه؛ حيث يقول عليه الصلاة والسلام، (سَمُّوا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي)؛ رواه البخاري ومسلم.

وبعد ولادته عليه الصلاة والسلام حضنته أم أيمن بركة الحبشية أَمَةُ أبيه، وأول من أرضعته ثويبةُ أَمَة عمه أبي لهب وهي إحدى مرضعاته، وقد كان من مرضعاته حليمه السَّعدية، وقد كان لها خبر عجيب، فعن عبدالله بن جعفر رضي الله عنه، قال: لَما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت حليمة بنت الحارث في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسون الرضعاء في مكة، قالت حليمة: فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي وهي أنثى الحمار، ومعي ناقة ليس فيها لبن، وذلك في سنة قحط قد جاع الناس جوعًا شديدًا ومعي ابن لي لا ينام من الجوع، فلما قدمنا مكة، فما بقيت امرأة منا إلا وعرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لترضعه فكرِهته؛ حيث قلن جميعًا: إنه يتيم وما عسى أن نحصل عليه من وراء هذا اليتيم، فما من امرأة إلا وأخذت رضيعًا ترضعه، وأما أنا فلم أجد غير هذا اليتيم، فقلت: لا أرجع إلى قومي بلا رضيع، وعسى الله أن ينفعنا به، فأخذته فأتيت به الرحل، فوالله ما هو إلا أن أتيت به الرحل، فأقبل ثدياي باللبن حتى أرويته وأرويت ابني الآخر الذي لم يجد لبنًا في أول الأمر، ونظرت إلى ناقتنا المسنة التي ليس فيها لبن، فإذا هي كثيرة اللبن فحلبناها وشربنا وروينا، فقال زوجي: يا حليمة، تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة، قالت: فبتنا بخير ليلة شباعًا، وكنا لا ننام من الجوع، ثم رجعنا إلى بلادنا أنا وصواحبي، فركبت حماري وحملته معي، فوالذي نفسي بيده أننا سبقناهم حتى النسوة ليقلنَ لا تسرعي علينا هل هذه هي أتانك التي خرجت عليها، فقلت نعم، فقالوا إنها كانت ضعيفة فما شأنها؟ فقلت لهن إنها والله حملت غلامًا مباركًا، قالت فخرجنا فما زال يزيدنا الله تعالى كل يوم خيرًا حتى قدمنا بلادنا بني سعد وهي قحط، وكان الرعاة يريحون بأغنامهم جياعًا وتروح غنمي بطانًا، فيقولون ما بال غنمنا جياعًا وغنم حليمةَ بطانًا، اسرحوا حيث تسرح غنم حليمة، قالت وكان عليه الصلاة والسلام يشب شبابًا لا يشبه أحدًا من الغلمان، فلما تم له سنتان قدمنا به مكة فقلنا لأمه والله ما رأينا صبيًّا قط أعظم بركة منه، وإنا نخشى عليه من وباء مكة، فأذني لنا بإرجاعه إلى بلادنا فأذنت، فرجعنا به فأقمنا أشهرًا، وبعد تلك الأشهر المعدودة حصلت حادثة شق الصدر فبينما هو يلعب هو وأخوه مع الصبيان خلف البيوت؛ إذ جاءه رجلان عليهما ثياب بيض، فأخذاه واضجعاه فشقا بطنه، فجاءنا أخوه بالخبر فخرجنا إليه أنا وزوجي فوجدناه قائمًا قد تغير لونه فلما رآنا بكى فسألناه فذكر الحادثة المذكورة فلما حصل ذلك الحدث ذهبنا به إلى أمه مستنكرين ما حصل فاستنكرت أمه قدومنا به في العجلة فقالت إن لكما لشأنًا فأخبراني فلم تزل بنا حتى أخبرناها الخبر فقالت سأخبركما خبره إنني إذ حملت به خرج مني نور أضاء له أعناق الإبل ببصرى.عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أتَاه جبريل - عليه السلام - وهو يَلْعَب مع الغِلمان، فأخَذَه فصَرَعه، فشقَّ عن قلبه، فاستَخْرَج القلب، فاستخرج منه عَلَقة، فقال: هذا حَظُّ الشيطان منك، ثم غَسَله في طَسْت مِن ذَهَب بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغِلْمان يَسْعَون إلى أُمِّه - يعني ظِئْرِه - فقالوا: إن محمدًا قد قُتِل، فاستَقْبَلُوه وهو مُنْتَقِعُ اللَّوْن، قال أنس: «وقد كنتُ أَرَى أثر ذلك المِخيط في صدره؛ رواه مسلم.

مستمعي الأكارم سنأخذ بعض الدروس المستفادة مما سبق فالسيرة كلها دروس وعبر.

1- الدرس الأول: أهمية دراسة السيرة والقراءةِ فيها ومناقشتها مع الأقران والجلساء؛ لأنها نبراس كبير يتمثله المسلم؛ إذ إنها سيرة أفضل البشر وخير الخلق وأحبهم إلى الله تعالى عليه الصلاة والسلام، فيمتثل القارئ والمستمع لتلك السيرة الأخلاق والعبادات والعادات الطيبة، فيكون محبوبًا عند الله تعالى وعند خلقة، فكم هو جميل لك أخي المستمع الكريم أن تجعل لك قراءة في تلك السيرة، وأقترح عليك كتابًا شيقًا في هذا المجال وهو كتاب الرحيق المختوم، فهو كتاب جميل في أسلوبه وطرحه، وقد حاز هذا الكتاب على المركز الأول في مسابقة السيرة العالمية لمؤلفه صفي الرحمن المباركفوري، وكم هو جميل أن تجتمع الأسرة على قراءة هذا الكتاب مستخلصة منه الدروس والعبر، وأن تضع عليه المسابقات الدورية وتبني عليه القيم الإيجابية.

2- الدرس الثاني: اليوم الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم لا يتميز بشيء من العبادات، ولو كان ذلك مشروعًا لفعله خلفاؤه الراشدون والصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهو أيضًا غير معلوم بالتحديد، فقد وقع الخلاف بين أهل العلم في تاريخ هذا اليوم بالتحديد على أقوال عدة.

3- الدرس الثالث: كان نسب النبي صلى الله عليه وسلم أرفع الأنساب، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام مضربَ المثل في التواضع، فرفعة النسب لا تجلب التفاخر على الآخرين أو التكبر عليهم، بل إن الميزان الحقيقي هو قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، فالميزان التقوى وليس النسب إذ إن هذا الميزان وهو التقوى سيبقى يوم القيامة، أما النسيب فإنه سيزول يقول تعالى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 101]، فنظرة الاستعلاء على الآخرين في الأنساب هي جاهلية محضة وكِبر لا مبرر له، فما أجمل التواضع مع علو النسب أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

4- الدرس الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي)، كان المنع من التكني بكنيته حال حياته عليه الصلاة والسلام، كما ذكره أهل العلم، أما بعد وفاته فلا بأس بذلك؛ لأنه أذِن لعلي إن ولد له ولد بعد وفاته أن يسميه باسمه ويكنيه بكنيته؛ كما في رواية الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وقال آخرون من أهل العلم إن المنع سائر حتى بعد حياته؛ كما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى: وقال آخرون أيضًا إن النهي في الجمع بين الاسم والكنية جميعًا، وأما إفراد أحدهما فلا بأس، ولعل الأرجح أنه جائز بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.

5- الدرس الخامس: ما ذكرته حليمة السعدية في إرضاعها له هو خوارق للعادة فهي كلها دليل على صدق نبوته عليه الصلاة والسلام، وتمهيد لها ومقدمات للبركة الحاصلة فيه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كانوا في جوع شديد وقحط، فلما أخذت النبي صلى الله عليه وسلم لإرضاعه ذهب عنهم ذلك الجوع وامتلأت الناقة من اللبن إلى آخر ما في قصتها من الخوارق العجيبة، وبهذا يزيد إيمان العبد عندما يقرأ تلك الخوارق العظيمة ويزداد ثباته على دينه.

6- الدرس السادس: في قصة حليمة السعدية أيضًا أنها لم تجد أحدًا ترضعه إلا ذلك اليتيم وهو محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث جاءت هي وصويحَباتها إلى مكة يردنَ إرضاع المواليد، فكل واحدة أخذت رضيعًا إلا هي لم تأخذ رضيعًا، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم على غير رغبة؛ لأنه يتيم وماذا يستفاد وراء ذلك اليتيم، فأخذته وهي كارهة، بل أخذته حتى لا ترجع وهي ليس معها رضيع، والله تعالى يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، فقد يكره الإنسان الشيء وفيه خير كثير له، فالحكمة البالغة لله تعالى وهو الذي يقدِّر الأمور ويقضيها وهو أعلم وأحكم، وليس هناك شر محض بحمد الله، فالمرض مثلًا هو مكروه للنفس وفيه خير وهو التكفير للذنوب، فعندما يحصل لك أخي المستمع الكريم أمر تكرهه فتفاءل خيرًا وانظر إلى المعنى الإيجابي فيه، وإياك والتسخط والجزع، بل عليك بالصبر والرضا والتفاؤل.

7- الدرس السابع: ما ذكرته آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قالت: عندما وضعتُه أضاءت له قصور بصري، فهذا أمر خارق للعادة، وهو من الأدلة على أنه سيكون لهذا المولود شأن كبير، وفعلًا كان له شأن كبير، فهو رسول رب العالمين وأفضل الخلق أجمعين، وهذا مما يجعل الإيمان به عليه الصلاة والسلام يثبت في القلوب ثبوت الجبال الراسيات.

8- الدرس الثامن: في حادثة شق الصدر المشهورة آية عظيمة، وأمر خارق للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو تهيئة لما سيكون عليه صلى الله عليه وسلم من النبوة والرسالة وعدم تسلُّط الشيطان عليه، وهو أيضًا تدعيم لأمته في تقوية إيمانهم به عليه الصلاة والسلام؛ حيث تم تنقية قلبه من مغمز الشيطان وتطهيره من كل خلق ذميم، وحتى لا يكون في قلبه إلا التوحيد الخالص؛ كما قاله السهيلي رحمه الله، فهذا الشق هو أمر حسي وقدرة إلهية عظيمة، وقد وردت في الصحيح، وهذا كما يقول ابن حجر رحمه الله تعالى: مما يجب التسليم به دون التعرض لصرفه عن حقيقته، فلا يستحيل شيء على الله عز وجل.

هذا التطهير لقلبه عليه الصلاة والسلام هو إعداد للعصمة من الشر والشرك، وقد دلت أحداث صباه عليه الصلاة والسلام على ذلك، فلم يرتكب إثمًا ولم يسجد لصنم رغم انتشار ذلك عند قريش، وكانت الحادثة بهذا الشكل الحسي؛ ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين أسماع الناس وأبصارهم.

9- الدرس التاسع: الخير كله فيما اختاره الله لعبده، فإن حليمة لم تأخذ محمدًا عليه الصلاة والسلام رغبة فيه، فإنه يتيم وقد لا تربح من اليتيم شيئًا، لكن الله صرف النسوة كلهنَّ عنه، وجعله من نصيب حليمة، ولم تفرح حليمة بهذا في مبدأ الأمر، بل كرهته ولكن الله يختار لعبده ما هو خير له، حتى اتضحت نتائج هذا الاختيار مع بداية أخذه، وكان من الخير الذي لحق حليمة الشيء الكثير، فقد درَّ ثدياها أكثر من ذي قبل، وأرضعت طفلها الذي لم ينم من الجوع فشبع وسكن ونام، فبنومه ارتاحت هي وزوجها وظهرت أيضًا البركة على ناقتهم؛ حيث كانت لا تدر اللبن، وبعد ذلك كانت تفيض اللبن الكثير الذي لم يعهد فيها، وظهرت البركة أيضًا على أغنامهم، وكانت هذا الأغنام أول الأمر عجفاوات هزيلات، ثم كانت بعد ذلك على أحسن مرأى ومن البركة أيضًا أن تشرَّف بيت حليمة بإرضاعه عليه الصلاة والسلام، وهو يذكر بهذا الشرف إلى قيام الساعة بخلاف النساء المرضعات الأخريات، وهذا درس عظيم لكل مسلم بأن يطمئن قلبه إلى ما قدره الله واختاره له، فيرضى ولا يندم، ويسلِّم الأمر لله ويحمده عليه.

10- الدرس العاشر: على المسلم أن يؤمن بقدرة الله تعالى القاهرة والعامة بأنه عز وجل على كل شيء قدير، وأنه يفعل ما يشاء، فالخلق خلقه والأمرُ أمره، وهو علام الغيوب يعلم ما ستؤول إليه الأمور، وهو الحكيم العليم فهو يقدِّر الأشياء بعلم وحكمه، ولا يعجزه شيء، وأمر الله تعالى نافذ إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، فهذه التدابير والمقادير في السيرة كلها حصلت بتقدير الله تعالى وعلمه وحكمته، فتأمل كيف صرف النسوة عن محمد عليه الصلاة والسلام، وجعله من نصيب حليمه، وتأمل كيف جاء جبريل وأمسك بمحمد عليه الصلاة والسلام أمام الصبية وشق صدره شقًّا حسيًّا، وغسل قلبه بماء زمزم .... إلخ، كل ذلك بقدرة القدير العظيم، فالإيمان بذلك واجب من واجبات الدين؛ لأن المسلم إذا آمن بهذه القدرة الإلهية، فإنه يعطيه اطمئنانًا وسعادة في الدنيا والآخرة؛ لأنه آمن بهذا الرب العظيم، فالله عز وجل على كل شيء قدير، ولا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.



ابوالوليد المسلم 09-04-2022 05:50 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (2)
الشيخ خالد بن علي الجريش
الحلقة الثانية من برنامج (خاتم النبيين)


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير البرية أجمعين وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
وأُصيب النبي صلى الله عليه وسلم باليتم من أبويه كليهما، فقد توفي أبوه وهو حمل في بطن أمه، بينما توفيت أمه آمنة بنت وهب وعمره 6 سنوات عليه الصلاة والسلام، وذلك كان في الأبواء بين مكة والمدينة، فذهبت أمه آمنة إلى أخواله بني عبد النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة إلى مكة، وعلى أي شيء مات أبوه وأمه عليه الصلاة والسلام، لقد مات على غير الإسلام، وبعد ذلك كفله جده عبد المطلب وكان جده يقرِّبه ويدنيه ويخاف عليه، ونقل ابن سعد رحمه الله أنه بلغ حب عبد المطلب لمحمد أنه كان يقربه ويدنيه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام وكان يجلسه على فراشه، وكان يبعثه في بعض حاجاته ولم يبعثه بحاجة إلا نجح فيها، وقد تأخر عليه الصلاة والسلام مرة، فحزن عليه حزنًا شديدًا، وقال خوفًا عليه لا أبعثك في حاجة أبدًا، وكان عبد المطلب يؤثره على أبنائه؛ أي أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الجد مهيبًا لا يجلس أحد على فراشه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس، فيحاولون إبعاده فينهاهم الجد ويقف بجانبه، ويقول: إن هذا الابن سيكون له شأن عظيم، وتوفِّي الجد وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنين؛ أي كفله جده سنتين وأوصى بعد موته في كفالته لعمه أبي طالب، فكفله عمه أبو طالب ولم يكن لأبي طالب يومئذ ولد وكان فردًا وحيدًا مع امرأته فاطمة بنت أسد بنت عمه، وكانت ممنوعة من الولد، فكفله أبو طالب وأحسن كفالته، وكان أبو طالب محترمًا معظمًا عند قومه، فشغف برسول الله صلى الله عليه وسلم شغفًا شديدًا، وولهت أيضًا بحبه زوجته فاطمة بنت أسد حبًّا شديدًا، وقالت: لأنزلن محمدًا من قلبي منزلة صميم الأحشاء، وكانت تشتغل به في غسله وتنظيفه وتلبيسه وتعطيره، وقد سخر الله تعالى عمه أبا طالب لكفالته قبل النبوة وبعد النبوة.


أعماله عليه الصلاة والسلام قبل البعثة: لم يكن عليه الصلاة والسلام منعزلًا عن الحياة ولم يكن أيضا عاطلًا، بل شارك المجتمع بأعمال شريفة وعين الله عز وجل ترعاه وتحرسه فمن أعماله التي عملها عليه الصلاة والسلام ما يلي:
رعى الغنم فحينما قدر الله تعالى اليتم للنبي صلى الله عليه وسلم، جعل له مصدر رزق يستغني به عن الناس، فكان يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة، فعندما سألوه عن ذلك قال نعم وهل من نبي إلا رعاها، قال العلماء إن الحكمة من ذلك أن يحصل لهم التمرن برعايتها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، وأيضًا لما في مخالطتها من الحلم وتحمل المشقة، وأيضًا يصبرون على جمعها ودفع عدوها عنها، فإن هذا لا شك أنه يعطيهم صبرًا على الأمة بجمعها وعدم تفرقها، ومن مصالح الرعي للغنم ما يلي:
الصبر، والتواضع، والشجاعة، والرحمة، والعطف، والكسب من عرق الجبين، وهذه الصفات وما يماثلها هي في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن أعماله عليه الصلاة والسلام عندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الثانية عشرة من عمره خرج مع عمه أبي طالب في أشياخ من قريش إلى الشام، ولعلها أول رحلة للنبي صلى الله عليه وسلم خارج الجزيرة وفي هذه الرحلة وقعت قصة بحيرى الراهب؛ حيث كان أبو طالب ومن معه يسيرون، فأشرفوا وهم في مسيرهم على مكان قريب من الراهب بحيرى، فهبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب وجعل يمشي بينهم حتى أمسك بيد محمد عليه الصلاة والسلام وهو غلام، فقال هذا سيد العالمين ورسول رب العالمين، فقال له الأشياخ وما علمك بذلك؟ قال كنتم عندما أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرَّ ساجدًا ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة عند غضروف كتفه إلى آخر قصة الراهب، وقد أشار الراهب على عمه أبي طالب أن يرده ولا يذهب به إلى الشام، حتى لا يقتله اليهود، فرده عمه خوفًا عليه، وهذه القصة قد صححها جملة من أهل العلم.


الأمر الثالث من أعماله عليه الصلاة والسلام: شارك النبي صلى الله عليه وسلم في بنيان الكعبة مع قريش وكان إلى جانب عمه العباس ينقلان الحجارة في بناء الكعبة، والأمر الرابع من أعماله أيضًا عليه الصلاة والسلام: مشاركته في حلف الفضول وكان حلف الفضول بعد رجوع قريش من حرب الفجار الذي كان بين قريش وهوازن، وسببها أن عروة الرحال بن عتبة بن هوازن أجار لطيمة للنعمان بن المنذر، واللطيمة هي مجموعة من الجمال تحمل الطيب والتجارة، فقال البراص بن قيس أتجيرها على كنانة؟ قال: نعم وعلي الخلق كلهم، فخرج بها عروة وخرج البراص يطلب غفلته حتى قتله إلى آخر ما حصل بينهم من المقاتلة، فعندما رجعت قريش من حرب الفجار، كان بعدها مباشرة حلف الفضول، وسببه أن رجلًا يقال له زبيدي قدم مكة ببضاعة، فاشتراها من العاص بن وائل ومنعه العاص حقه، فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص بن وائل، فاستغاث الزبيدي بعدد من القبائل، فقام الزبير بن المطلب بن عبد المطلب، فقال: ما لهذا مارك فاجتمعت بنو هاشم وبنو زهرة وبعض قبائل العرب في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعامًا وتحالفوا في شهر حرام وهو ذو القعدة، فتحالفوا ليكونن يدًا واحدة مع المظلوم، حتى يؤخذ حقه من الظالم ثم مشوا إلى العاص، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه، وفي هذا الحلف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب لي به حمر النعم ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت.


وهذا الحلف يعتبر من مفاخر العرب وعرفانهم لحقوق الإنسان.


الدروس المستفادة مما سبق:
الدرس الأول: لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من أبوين كافرين، فأبوه في النار وحيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال أين أبي؟ قال: أبي وأبوك في النار، وأما أمه آمنة فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يستغفر لها، فلم يأذن له، وهذا دليل على أنها غير مؤمنة، فالله تعالى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، فانظر إلى تلك الحال، وتأمل حكمة الله تبارك وتعالى البالغة فيها، واسأل الله تعالى الثبات، فإن الله عز وجل إذا أراد شيئًا قدره، فقال له كن، فيكون فخرج رسول رب العالمين من أبوين كافرين.


الدرس الثاني: قد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يأذن له في زيارة قبر أمه والاستغفار لها، فأذن له ربه بالزيارة ولم يأذن له في الاستغفار، فكيف بمن عاش أبواه على الإسلام وهو مع ذلك لا يأبه في قضية زيارتهما أو الاستغفار لهما، أو الدعاء لهما، وهذا مأخذ كبير؛ حيث إن البعض هداهم الله سواء كبارًا أو صغارًا، وهو في الصغار أكثر نسيان الدعاء والاستغفار للوالدين، وإن دعوا فمقلون أيضًا، ألم يعلموا أن الأبوين على أشد لهفة في انتظار ما يرد عليهم من أولادهم من دعاء أو استغفار أو صدقة، أو نحو ذلك، وقد ذكر أهل العلم أن الأجور المهداة للأموات تصل من الصدقة والدعاء، وأيضًا منه الاستغفار، وأيضًا الحج والعمرة وقضاء الديون، ونحو ذلك بأنها تصل إلى الأموات، فينتفعون بها، لكن علينا جميعًا أن نكون أوفياء لوالدينا في حياتهم وبعد مماتهم في تقديم ما ينفعهم؛ لأنهم هم الأصل في وجودنا بعد الله تبارك وتعالى.


الدرس الثالث: تأمل كيف يتولى الله تبارك وتعالى أولياءه، فقد كان عبد المطلب وأبو طالب على الكفر، وقد شغف بالنبي صلى الله عليه وسلم حبًّا وحفظًا له من الأعادي، ودفاعًا عنه أيضًا، وهذا كله برعاية الله عز وجل، فلو كان المدافع هو مسلم لما كان عجيبًا، لكن أن يكون المدافع كافرًا يدافع عن رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، فهذا يعطيك درسًا عظيمًا أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه إذا أراد الله عز وجل شيئًا هيَّأ أسبابه، فلا تجزع ولا تيأس في أحوالك ما دمت متعلقًا بالله الكريم القادر.


الدرس الرابع: من قصة الراهب بحيرى نعلم أن بعض أهل الكتاب يعلمون صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يؤمنون به، أما الراهب بحيرى فقد عرف صدقه وعلامته، وهذا دليل على أنهم يعرفون، لكن بعضهم يقوم مقام الإنكار؛ لأن ثبوت المعجزات حصل قبل النبوة؛ حيث قال لهم بحيرى بسجود الشجر والحجر عندما أقبلوا عليهم ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمره أربعة عشر عامًا، وقال: بحيرى بأنه لا تسجد إلا لنبي.


الدرس الخامس: إن حلف الفضول الذي وجد في دار عبد الله ابن جدعان هو مبدأ عظيم في نبي الظلم، وإحلال العدل، وهذا مسلك إسلامي كبير، وإن كانت مكة آنذاك معروفة بالشرك والظلم والسرقة وغيرها، إلا أنها فيها بقايا من الصفات الطيبة، فجعلوا حلف الفضول لرفع الظلم عن المظلوم، وهذا مبدأ كبير لك أخي المستمع الكريم، فإذا جلست في مجلس فتحدث أحدهم بفلان، فدافع عنه أو مظلمة على فلان، فحاول ردها إليه، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)، فإذا دافعت عن عرض إخوانك سلمت من جهة، وكتب الله أجرك من جهة ثانية، ويسَّر الله تعالى من يدافع عنك من جهة ثالثة، فالجزاء من جنس العمل، أما السكوت فهو لا شك أنه داء عضال.


الدرس السادس: تأمل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث نشأ يتيمًا فقيرًا حصل له من المآسي ما الله به عليم، ومع ذلك بلغت دعوته ما بلغ الليل والنهار، فالمقياس ليس بشريًّا حتى تنطلق المقاييس وتتسابق في هذا المضمار، وإنما هي ليست مقاييس بشرية وإنما هي توفيق من الله تبارك وتعالى لعباده، فاحرص على أن يكون في جميع دعوتك إلى الله تبارك وتعالى أمران مهمان الأمر الأول هو الإخلاص لله تبارك وتعالى، والأمر الثاني هو المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد هذان الشرطان وهما الإخلاص والمتابعة، فأبشر بنجاح عملك سواء على كان على مستوى الفرد، أو كان على مستوى الجماعة، وأبشر بالفلاح في الدنيا والآخرة.


الدرس السابع: تأمل كيف جعل الله تعالى الأنبياء جميعًا قاموا بمهمة رعي الغنم، وفي ذلك درس عظيم في أن المسلم إذا أراد شيئًا دعويًّا أو تربويًّا أو اجتماعيًّا، أو غير ذلك أن يحاول مزاولة ما يكون تمهيدًا لما يريد تحقيقه من هذه الأمور المستقبلية، فينظر ما الذي يناسب عمله هذا من أعمال الحياة ويزاوله مطبقًا فيه بعض مؤشرات العمل الأصلي المستقبلي، فإن هذا أقرب للنجاح في الأعمال، فرعي الغنم للأنبياء فيه الصبر والشجاعة والتواضع والرحمة واللين والكسب من عرق الجبين، وهذا لا شك أنه كله وأمثاله يحتاجه من يدعو الناس إلى الخير.


الدرس الثامن: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة منعزلًا عن الناس، بل كان اجتماعيًّا يعمل مع أهله وذويه، ويشارك في بناء الكعبة، وكان ينظر في أعمال الناس فما استحسنه منها أخذه عليه الصلاة والسلام، وهكذا الأشخاص الذين يهدفون إلى تحقيق أهداف سامية في الحياة عليهم ألا يعتزلوا، وعليهم أن يحسروا أيضًا عن ساعد الجد، وأن يعملوا ما يكونوا تهيئة لإنجاح أهدافهم، سواء كانت تجارية أو دعوية أو تعليمية أو تربوية، أو غير ذلك، فالعمل يتبع بعضه بعضًا ويكون سببًا في نجاح العامل.


الدرس التاسع: التكافل والتربية مطلبان مهمان في المجتمع حتى يكونا ناجحًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفيت أمه وتوفي أبوه قبل ذلك، قام جده ثم عمه بكفالته وتربيته، وفي هذا يجب أن يكون لدينا التسابق على فعل الخير كالكفالة لمن يحتاجونها وتربية من يوصف باليتم أو شبه اليتم أن نتولى تربيته وتعليمه، وهذا ما يوجد لدينا بحمد الله في الجمعيات لكفالة اليتيم ففيها من الخير والمغنم في الدنيا والآخرة الشيء الكثير.


الدرس العاشر: علينا بتربية أبنائنا على بناء مستقبلهم البناء الإيجابي إن ذلك يغرس في نفوسهم حب الإيجابية والتخطيط الإيجابي للمستقبل وبناء الخطوات لتحقيق أهدافهم النبيلة، وذلك بخلاف من يريد شيئًا إيجابيًّا لمستقبله، لكنه لم يعمل على تمهيده، فإن هذا في الغالب قد لا ينجح، ويعجبني أحدهم وقد تعامل مع ابنه في المرحلة المتوسطة تعاملًا جيدًا وظريفًا وإجراء لطيفًا، وهو أنه تحدث معه كثيرًا عن تخصُّصه ومستقبله، فلما اتَّفقا على نتيجة ذلك النقاش، وضع ذلك الأب بطاقة فيها بيانات ذلك الابن ومستقبله الوظيفي، فسلمه له على محفل أسرى صغير، فكان لهذا الإجراء اللطيف الأثر على ذلك الطالب.


اللهم إنا نسألك النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، واسلك بنا يا ربنا سبيل الراسخين الناجحين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.





ابوالوليد المسلم 27-05-2022 07:39 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (3)
الشيخ خالد بن علي الجريش
الحلقة الثالثة من برنامج (خاتم النبيين)




بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير البرية أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
وكان من أعماله عليه الصلاة والسلام التي شارك فيها المجتمع أنه تاجَرَ بمال خديجة رضي الله عنها، وكانت خديجة رضي الله عنها أرملة وذات شرف ومال كثير، فلما بلغها صدق محمد عليه الصلاة والسلام وأمانته عرضت عليه أن يخرج بمالها إلى الشام متاجرًا به، فرضي بذلك وخرج معه غلامها ميسرة، فقدم الشام فباع النبي صلى الله عليه وسلم واشترى بهذا المال حتى كثر وتبارك، فلما رجع إلى مكة تضاعف مال خديجة وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى من محمد عليه الصلاة والسلام من أخلاق عجيبة في الصدق والتعامل والأمانة وغيرها، ورأت خديجة بركة لم تجدها من قبل، فحدثت صديقتها نفيسة بنت منبه أن تحدِّث محمدًا عليه الصلاة والسلام عن زواجه بها، فعرض ذلك عليه الصلاة والسلام على أعمامه، فوافقوا فخطبوها له، فأصدقها 20 بَكْرةً، وكان عمره آنذاك 25 سنة، وكان عمرها 40 سنة، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت رضي الله عنها. قال ابن إسحاق: وقد ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل ولده إلا إبراهيم، فقد ولدت له القاسم وعبد الله وهو الطيب الطاهر، وأيضًا ولدت زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وكانت خديجة نعم الزوج للنبي عليه الصلاة والسلام؛ واسَتْهُ بنفسها، وثبتت معه في الشدائد، وأعطته من مالها، ثم مضت السنين، وبعد ذلك حصل إرهاصات للبعثة ومقدمات للنبوة، وكان من هذه المقدمات ما يلي:
1- دعوات الأنبياء كدعاء إبراهيم حيث يقول الله تبارك وتعالى عن ذلك: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾ [البقرة: 129] الآية، وأيضًا في بشارة عيسى يقول الله تعالى عن ذلك: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6] ونحو ذلك مما قاله الأنبياء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو دعوة أبيه إبراهيم، وبُشْرى أخيه عيسى عليهم الصلاة والسلام.

2- وأيضًا من المقدمات للنبوة إخبار أهل الكتاب وعلماؤهم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ [البقرة: 146] ومن إخبار اليهود ببعثته عليه الصلاة والسلام ما رواه أحمد وابن إسحاق وصححه ابن حجر وغيرهم أن يهوديًّا من بني عبد الأشهل خرج عليهم قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام بيسير فذكر البعث والقيامة والحساب والجنة والنار، فاستغرب ذلك أهل المدينة وهم يهود وأهل شرك حينها، فسألوه: وما علامة صحة ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار إلى مكة، قالوا: ومتى تراه؟ قال سلمة فنظر إليَّ وأنا أحدثهم سنًّا، فقال: إن استنفد هذا الغلام عمره يدركهُ، قال سلمة:فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم واليهودي حيٌّ بين أظهرنا، فآمنا به وكفر هو به بغيًا وحسدًا، فهذا من المقدمات من أخبار اليهود عن مبعثه عليه الصلاة والسلام.

3- تسليم الشجر والحجر على النبي عليه الصلاة والسلام، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن))؛ رواه مسلم، وزاد ابن إسحاق: فلا يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر ولا شجر إلا قال ذلك الشجر والحجر: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت النبي صلى الله عليه وسلم حوله يمينًا وشمالًا وخلفه، فلا يرى إلا الشجرة والحجر، فمكث كذلك ما شاء الله حتى جاءه جبريل بالوحي.

4- من المقدمات للنبوة الرؤيا الصادقة، فقد ثبت في البخاري ومسلم أنه أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

5- من مقدمات النبوة العزلة والتحنُّث والعبادة: فأجواء مكة قبل البعثة كانت أجواء شرك وجاهلية؛ ولكن الله عصم نبيَّه صلى الله عليه وسلم من أوضار الجاهلية، فحبَّبَ إليه الخلوة للتعبد، فخلا بغار حراء الليالي ذوات العدد، فقيل: كانت المدة شهرًا كما في مسلم، وقيل: إن هذا الشهر هو شهر رمضان، وكان يرجع إلى خديجة فيتزوَّد ثم يرجع، فإذا رجع إلى بيته بدأ بالطواف ثم ذهب إلى بيته ليتزود، وكان أكثر تعبده عليه الصلاة والسلام هو التفكُّر في خلق الله، واختلف العلماء: هل تعبُّده هذا كان على شريعة نبي أم لا؟ هو موضع خلاف بينهم؛ فقال بعضهم: على شريعة إبراهيم، وقال آخرون: على شريعة عيسى، وهو موضع خلاف بين أهل العلم.

6- من المقدمات للنبوة حادثة شق الصدر، فقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن صدره فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى حليمة بأن محمدًا قد قُتِل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، ثم بعد ذلك اطمأنت حليمة إلى أن هذا هو أمر الله عز وجل، ثم بعد تلك الإرهاصات والمقدمات جاءت النبوة ونزل الوحي، فالنبوة تكريم واختيار واصطفاء، يقول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]، فاصطفى الله عز وجل ذلك القلب الطاهر لمحمد عليه الصلاة والسلام ليتحمَّل الرسالة والنبوة رحمة للعالمين، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يتطلع إليها؛ بل هو النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الأربعين، وكان يتعبَّد في الغار، ففي يوم الاثنين من شهر رمضان جاءه جبريل بغتة في الغار أول مرة وهو يتعبَّد في ذلك الغار، فقال: ((اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني- أي: تركني- قال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني- أي: تركني- فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى أرسلني، فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾)) [العلق: 1] الآيات الخمس من سورة العلق، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة فقال: ((زملوني زملوني)) حتى ذهب عنه الروع، فذكر ذلك لخديجة، فقال: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت خديجة رضي الله عنها: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل- أي تنفق على الضعفاء- وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها وكان قد تنصر في الجاهلية، وهو رجل كبير كفيف، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس- يعني به جبريل الذي نزل على موسى- يا ليتني كنت فيها جذعًا وحيًّا إذ يخرجك قومك، قال: ((أومخرجي هم؟))، قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عُودي، وأن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا؛ لكن ورقة توفي قبل ذلك.

ومن حكمة تلك الشدة في الوحي لكي يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب بقوة ولا يتهاون فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ورقة: ((لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة أو جنتين))؛ رواه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني.

وقال بعضهم: إنه مات على النصرانية، ولا منافاة بينهما، فالدين المأمور به زمن حياته هو النصرانية، وقد فتر الوحي بعد ذلك مدة يقدرها بعضهم بـ 40 يومًا، وقالوا: إن حكمة ذلك ليزول عنه عليه الصلاة والسلام ما يجد من الروع والجهد والتعب، ثم بعد تلك الفترة نزلت صدر المدثر ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴾ [المدثر: 1] الآيات، وقال ابن تيمية رحمه الله: أول ما نزل اقرأ وصار بها نبيًّا، ثم صدر المدثر فصار بها رسولًا منذرًا، وقد جاءت أنواع الوحي على ستة أنواع كما ذكرها ابن القيم رحمه الله:
النوع الأول: الرؤيا الصالحة وكانت في مبدأ وحيه.

النوع الثاني: الإلهام، وهو أن ينفث الملك في روعه- أي: في قلبه- من غير أن يراه، كما ورد قوله: ((إن روح القدس نفث في روعي))؛ أي: جبريل نفخ في قلبي، وقال: ((لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)).

النوع الثالث من الوحي: أنه يأتيه مثل صلصلة الجرس، وهو يكون صوت شديد وهو أشده عليه، عليه الصلاة والسلام.

النوع الرابع: ما يوحيه الله تعالى له بلا واسطة، كما ثبت في حديث الإسراء.

النوع الخامس: أن يرى الملك على صورته التي خلقه الله عليها.

النوع السادس من الوحي: أن يأتيه الملك على صورة رجل، وقد يراه الصحابة كما في حديث جبريل المشهور.

الدروس المستفادة مما سبق:
الدرس الأول: أهمية العمل، وأنه مصدر من مصادر الرزق، وأيضًا نبذ الخمول والكسل؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اتجر وعمل بمال خديجة، وهذا العمل حثَّ عليه الإسلامُ حتى ولو كان قليلًا، فإنه سيتكاثر ويتبارك، فعلى شبابنا التوجُّه لذلك، ونبذ الخمول والكسل فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع، والمجالات متاحة، والأبواب مفتوحة، فعلى الشاب بذل السبب.

الدرس الثاني: إذا رأيت رجلًا أمينًا صادقًا ذا خلق حسن، فحاول المشاركة معه، في أعماله، واطرح عليه ذلك، فأخلاقه من مفاتيح الإيجابية؛ حيث طرحت خديجة رضي الله عنها تجارتها على النبي صلى الله عليه وسلم ليعمل بها؛ لما رأت من أخلاقه وصدقه وأمانته عليه الصلاة والسلام.

الدرس الثالث: مشروعية التوافق بين الناس على المتاجرة بالمال على جزء منه، كما حصل أن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بمال خديجة على جزء منه، فعلى شبابنا أن يبحث عن التجار ويذهب إليهم ويعرض عليهم قدراتهم وسيرهم الذاتية، والله يقضي ما يشاء، وهذا من بذل السبب المشروع.
الدرس الرابع: الآباء والأولياء إذا رأوا رجلًا ذا خلق وأمانة ودين وعقل أن يتقدموا إليه بصورة أو بأخرى عن طريق الآخرين ليزوِّجوه مولياتهم وبناتهم، وهذا ما حصل مع خديجة؛ حيث أرسلت إلى من يهمه الأمر في ذلك، وخطبت الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتزوَّجها، وفي الوقت نفسه استشار النبي صلى الله عليه وسلم أعمامَه في ذلك، فوافقوه، وهذا كله من أسباب التوفيق، وذلك بخلاف من يجعل من بناته ومولياته حبيسة البيت حتى يأتي من يريد الزواج، فالمبادرات الإيجابية مطلبٌ كبيرٌ، وقد حصل هذا لكثير من الأولياء
فوفقهم الله في زواجاتهم.

الدرس الخامس: إن الصدق والأمانة في الأعمال التجارية سببٌ كبيرٌ في نجاح تلك التجارة ووجود البركة والنمو فيها، وذلك مأخوذ من صدقه وأمانته عليه الصلاة والسلام عندما اشتغل بمال خديجة بصدق وأمانة أيضًا عندما نقل ذلك ميسرة خادم خديجة نقل تلك الأخلاق لخديجة، فأعجبت خديجة رضي الله عنها به عليه الصلاة والسلام، ونما مالها، وذلك بخلاف الغش والخداع والظلم في التجارة، فإنه محق لها وزوال البركة فيها، وإن كان المال في الظاهر يزداد فهو مجرد سراب.

الدرس السادس: أهمية الاستشارة في الزواج ومداولة الرأي في هذا قبل الإقدام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضت عليه خديجة وهي من هي رضي الله عنها استشار أعمامَه وداول معهم الرأي حتى أشاروا عليه بذلك.

الدرس السابع: من المفترض أن تكون الزوجة عونًا لزوجها، وكذلك الزوج لزوجته، فكل منهما مكمل للآخر في ماله وقدراته وخدماته حتى في أجوائه الاجتماعية والشرعية ونحو ذلك، وهذا ما حصل تمامًا بين خديجة رضي الله عنها والنبي عليه الصلاة والسلام، فقد واسَتْهُ بمالها ووقفت معه وقت الشدائد، وحاولت أن تزيل ما يجد من الكرب حال الدعوة ونحو ذلك، أما إذا اتصف أحد الزوجين بالجمود تجاه الآخر سواء في المحسوسات أو في المشاعر، فهذا سلبي يفترض أن يسارع الزوجان إلى حل لتلك المشكلة ولو بالتدريج فإنه نافع ومفيد.

الدرس الثامن: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وهو عز وجل بيده الهداية والإضلال؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7]، فاليهودي الذي أخبر بأنه سيخرج من مكة نبيٌّ صادق أمين، ثم ذكر ذلك اليهودي القيامة والبعث والحساب، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعدها بسنين، فآمن الناس، فقال بعض من آمن: بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم واليهودي الذي أخبرنا به بين أظهرنا فآمنا وكفر هو بغيًا وحسدًا، فاللهم يا مقلب القلوب، ثبِّتْ قلوبنا على دينك، واهدنا ولا تضلنا وذرياتنا والمسلمين.

الدرس التاسع: إن مما يقوِّي الإيمان عند المسلم حصول المعجزات للنبي عليه الصلاة والسلام قبل وبعد البعثة، وذلك ظاهر جدًّا من ظهور المعجزة قبل البعثة؛ كتسليم الحجر والشجر، ومع ذلك يسلمان على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر خارق للعادة، فهو معجزة وإرهاص لبعثته عليه الصلاة والسلام، وأن المسلم عندما يتأمل ذلك فإنه يقوى إيمانه وعقيدته وثباته على الحق ولا يحمل شيئًا من الشكوك أو الظنون السلبية التي قد يوردها الشيطان، فإن تلك المعجزات دليل كبير.

الدرس العاشر: إن الخلوة بالله عز وجل تعبدًا قوليًّا أو فعليًّا أو فكريًّا هي من أقوى السبل والأسباب للثبات على دين الله تبارك وتعالى؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة حُبِّب إليه الخلوة في الغار، وقد خلا به قرابة الشهر، وكان شهر رمضان، وكان يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود، فيرجع إلى الغار فيخلو بربه عز وجل تعبدًا لله تعالى، وهذا كله يجري بقدر الله عز وجل وحكمته، فإن تلك الخلوة لها مذاقها الخاص وطعمها اللذيذ، ولها في النفس طمأنينة وسكينة وهدوء، كيف لا وهي خلوة برب العالمين! وبقدر حضور القلب في تلك الخلوات تنتفع الروح بذلك الغذاء لها.

أخي الكريم عندما تمشي وحدك راجلًا أو في سيارتك، فأنت في خلوة، فاذكر الله تعالى، وعندما تغلق عليك باب غرفتك فأنت في خلوة، فاعبد الله عز وجل، وعندما ينام الناس ويرقدون بعد هزيع من الليل فقم بين يدي الله عز وجل، فأنت في خلوة، وهكذا تتعدد الخلوات الطيبة المباركة في حياة المسلم، وهذه هي الخلوات الطيبة الدوائية لكثير من العلل الروحية وغيرها، وذلك بخلاف الخلوات السلبية التي يخلو أصحابها فيها مع معصية الله عز وجل والله عز وجل يراهم ويسمعهم، وبيده أمرهم ورزقهم، فاللهم اهدهم ودلهم على صراطك المستقيم، وأصلح أحوال الجميع.

الدرس الحادي عشر: إن المجالات الدعوية والعمل فيها يحتاج إلى جهد وصبر ونحو ذلك، فعلى الداعية أن يتأقلم مع ذلك، ويعلم بأنه بقدر ذلك الجهد والصبر يأتيه الأجر، وهذا أمر طبعي في الدعوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل أول مرة أخذه فغطه- أي شد عليه ثم تركه- فقال: اقرأ، فقال: ((ما أنا بقارئ)) وفعل ذلك ثلاثًا، وربما كل واحدة أشد من الأخرى، قال أهل العلم بأن هذا دليل على أن من عمل في حقل الدعوة بأنه قد يلاقي من الجهد والتعب والنصب ربما الشيء الكثير، فليُوطِّن نفسه على ذلك، وليصبر وليعلم بأنه مأجور، وأن هذا التعب كما يحصل للداعية فهو أيضًا كذلك يحصل لغيره في أعمالهم الدنيوية؛ كالتجارة ونحوها، ولكن ذلك الداعية له نصيبه الأكبر من الأجر؛ لأنه يدعو إلى دين الله عز وجل، فما تصرفه أخي الداعية من المال أو الجهد أو الوقت، وما تضحي به من رغباتك في سبيل دعوتك؛ فاعلم أن هذا مرصود لك، فقط أحسِن النية لله عز وجل، واجعل عملك ذلك موافقًا لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وأبْشِر بعد ذلك بالخير والبركة والخلف.

الدرس الثاني عشر: على المرأة أن تكون بلسمًا شافيًا لزوجها إذا رأته مهمومًا أو متشتت الشأن، فتلاحظه في تلك الحالة الراهنة، فملاحظتها له مطلب كبير، حتى تدوم العشرة ويزول الهم والتشتت عن ذلك الزوج، وتكون تلك الزوجة في مكان عالٍ في قلب ذلك الزوج، وهذا يؤخذ من حال خديجة رضي الله عنها؛ حيث جاء إليها النبي صلى الله عليه وسلم مهمومًا مما رأى من الوحي أول مرة، فكان موقف خديجة رضي الله عنها مشرفًا؛ حيث قالت: أبْشِر فوالله لا يخزيك الله أبدًا، أنك لتصل الرحم، وتصدق في الحديث، وتحمل الكل... إلى آخر كلامها رضي الله عنها، فعلى المرأة أن تذكر لزوجها في مثل تلك الأحوال الإيجابيات التي فيه، وتفتح له مجالًا لارتياحه مما هو فيه، وأيضًا تذكر له بعض الحلول لهذه المشكلة، وذلك بخلاف المرأة السلبية التي لا تراعي أحوال زوجها في تقديم طلباتها، فيتصادم الرأيان، ويحصل بعد ذلك ما لا تحمد عقباه.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الموفقين المسددين، وأن يلهمنا رشدنا، ويعيذنا من شرور أنفسنا والشياطين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



ابوالوليد المسلم 27-05-2022 07:42 PM

رد: خاتم النبيين
 

خاتم النبيين (4)
الشيخ خالد بن علي الجريش
الحلقة الرابعة من برنامج (خاتم النبيين)
بسم الله الرحمن الرحيم


، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير البرية أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين. وقد ذكرنا في الحلقة السابقة الإرهاصات والمقدمات للنبوة، وكيفية بداية الوحي وأنواعه، وما هي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأثناء، وكيف كان موقف خديجة رضي الله عنها وغير ذلك، ونستكمل في تلك الحلقة بداية الدعوة ومرحلتها السرية والجهرية؛ فبعد نزول آيات المدثر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله عز وجل؛ ولكنه بدأ تلك الدعوة سرًّا، فبدأ بالدائرة الصغيرة الملتصقة به عليه الصلاة والسلام؛ وهم أهل بيته، ثم بجلسائه والمقربين منه، وهذا كله كان سرًّا، والأصل في الدعوة أن تكون جهرًا وعلانيةً، ولكن الظروف المحيطة بالمجتمع آنذاك تقتضي السرية في الدعوة، وكان من أدلة هذه الدعوة السرية ما رواه ابن إسحاق، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عز وجل عليه وعلى العباد من تلك النبوة سرًّا إلى من يطمئن إليه من أهله. وأيضًا كذلك نقل الواقدي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفيًا إلى أن أمر بالظهور. وفي صحيح البخاري ومسلم في قصة إسلام أبي ذرٍّ رضي الله عنه، وقدومه إلى مكة، ووصوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غاية التكتم والحذر، وبعد إسلامه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذرٍّ، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل))؛ رواه البخاري ومسلم. وكانت تلك البداية السرية بالدعوة حفاظًا على الدعوة، وعلى هؤلاء الذين آمنوا بها.

والمتأمل في تلك الدعوة السرية في بداية الإسلام يعلم أنها للأفراد وليست للقبائل، وأنها لـلقريبين من الأهل والأصدقاء والأقارب ونحوهم حتى يقوى عود تلك الدعوة، وأيضًا كذلك من أجل عدم مجابهة قريش بذلك. وكانت الدعوة السرية في توجيههم للحق والثبات عليه ونحو ذلك، ثم بعد ذلك قويت تلك الدعوة، وصار لها رواجًا وإن كان محدودًا أيضًا، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم مكانًا لاجتماعه بمن أسلم من الصحابة، وكانت تلك الدعوة السرية لمدة ثلاث سنين, وكان أول من أسلم من النساء خديجة بنت خويلد رضي الله عنها؛ بل هي أول من آمن به عليه الصلاة والسلام، ثم تتابع بعد ذلك الدخول في الإسلام، فأسلم علي وأبو بكر وزيد، وفي ترتيب هؤلاء خلاف؛ لكن يقول بعضهم: أول من أسلم من النساء خديجة, ومن الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الغلمان علي؛ حيث أسلم وهو ابن ثماني سنين، ومن الموالي زيد، وكل من أسلم دعا غيره إلى دين الله عز وجل حتى اتسعت دائرة الدخول في الإسلام والإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا هو شأن المسلم إذا هداه الله عز وجل إلى خير فليدعُ غيره إليه، فقد أسلم على يد أبي بكر رضي الله عنه ثُلَّةٌ كبيرة من الصحابة، بل ومنهم عدد من المبشرين بالجنة، ودار الأرقم بن أبي الأرقم هي الدار التي اجتمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حال نشاط الدعوة السرية، فكان يذكرهم عليه الصلاة والسلام بالله تعالى، ويتلو عليهم القرآن، ويربيهم على الفضائل حتى يثبتوا على دين الله عز وجل، وكانت شخصيته عليه الصلاة والسلام بتعاليمه الحكيمة وأخلاقها العالية مؤثرةً على هؤلاء كثيرًا.

بل إن المدعو للإسلام عندما يلتقي بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحصل له تأثُّر عجيب واهتداء وهدى، ثم يخرج من خلال هذا اللقاء الإيماني الدعويّ من الظلمات إلى النور، كيف لا وهذا رسول رب العالمين المؤيد بالوحي من ربه عز وجل؟!

وكان عليه الصلاة والسلام في تلك الأثناء يُوحَى إليه فيسمع الصحابة رضي الله عنهم منه القرآنَ طريًّا، ثم يتلونه كما سمعوه، وهم إذا سمعوا تأثروا؛ لأن تلك الآيات تجري في عروقهم، وقد كان بعضهم كذلك قبل إسلامه، فكيف به بعد ذلك؟! ثم بعد ذلك اتسعت تلك الدعوة السرية؛ حيث أسلم من كل قبيلة عدد منهم، فأبو بكر من تميم، وعثمان من بني أمية، والزبير بن العوام من بني أسد، ومصعب من بني عبد الدار، وعلي بن أبي طالب من بني هاشم، وهكذا أسلم من كل قبيلة عدد؛ مما جعل الأمر يستفحلُ نسبيًّا، وينتشر شيئًا فشيئًا، وهذهِ إرادة رب العالمين لنبيه وعباده المؤمنين. وقد جاءت الدعوة ومن خصائصها الصدعُ والبيان والإنذار، وقد كان الإصرار قبل ذلك لضرورة فرضها الواقع، فلما أسلم من كل قبيلة عدد منهم كان ذلك فرجًا ومخرجًا للأمة المسلمة؛ أن تنتقل من السرية إلى الجهرية النسبية، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، والقرآن يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهًا ومربيًا ومثبتًا لهم، فكانوا رضي الله عنهم خيرَ منصتٍ ومستمعٍ ومتأثر بذلك الوحي.

إن ما سبق من السنين كان إعدادًا لتلك الدعوة، وبعد ذلك الانتشار في القبائل في مكة وغيرها لتلك الدعوة، وهذه النبوة كثر أتباعها فجاء دورُ الجهر بالدعوة والصدعِ بها وإعلانها، فنزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214].

فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن صعد الصفا، فجعل ينادي لبطونٍ من قريش: ((يا بني فهر، يا بني عدي))، وغيرهم، حتى اجتمع كبارهم ومَنْ دونهم فقال: ((أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تُغير عليكم، أكنتم مصدقيَّ؟)) قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، فقال أبو لهب: تبًّا لك! ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد: 1] إلى آخر السورة؛ رواه البخاري. وفي رواية مسلم أنه قال عليه الصلاة والسلام لكل قبيلة: ((أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئًا))، وهناك روايات أخرى لكنها كلها تتفق على الجهر بالدعوة والإنذار. وبعد هذا الجهر بالدعوة دخل الناس أفواجًا وأرسالًا من الرجال والنساء، وكان ذلك كذلك؛ لأن الفطرة الموجودة في قلب كل واحد منهم هي متوافقة مع هذا الوحي المبارك، فالذي خلق الأنفس وفطرها هو الذي أنزل الوحي وأمر باتِّباعه، فالخالق هو الله، والذي أوحى هو الله، فلا عجب أن يدخل الناس في دين الله تعالى أفواجًا، وفي هذا مجال خصب للدُّعاة أن يدعوا إلى دين الله عز وجل، فهم حين يفعلون ذلك فإن معهم الأصل وهو الوحي والفطرة؛ ولذلك نرى الاستجابة من غير المسلمين للدخول في الإسلام سريعةً بخلاف المللِ والنحلِ الأخرى، وهذا يعني أن عدد المسلمين سيزيد، وسيكون لهم شأنٌ وتأثيرٌ كبير وعظيم، ولاحظ معي أخي الكريم أن تبدأ المرحلة الجهريةُ بالعشيرة الأقربين ليكونوا عونًا على الدعوة ونصرتها، فالمقربون أرجى من غيرهم. وقد جاءت الآيات المكية لتوضح عالمية الدعوة؛ كقول الله عز وجل: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وبعدها بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يغشى أنديتهم يدعوهم، وفي المواسم أيضًا يدعوهم هو ومَنْ معه من المؤمنين، وكانت النتيجة من خلال هذا الجهر بالدعوة أن آمن كثير من الناس؛ لأنهم وجدوا ما يوافق فطرتهم السليمة.

ومن جهة أخرى بقي أُناس معاندون آخرون، لم يكتب الله عز وجل لهم الهداية والإيمان، فبدأوا يُحرِّضون على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، واشتدَّ الصراع، ووجدت عقبات كبيرة وعظيمة في هذا الشأن، وهذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

أما الدروس المستفادة مما سبق فهي كثيرة جدًّا؛ لكن نذكر منها ما يلي:
الدرس الأول: الحكمة في الدعوة أمر مهم وغاية في الأهمية؛ لأن الداعية يريد تحقيق ما يدعو إليه، وإذا كان ذلك بغير الحكمة فإن هذا لا يتحقق، فالحكمة ضالَّةُ المؤمن، وهذا مأخوذ من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم التي فطرهُ الله عليها من بداية الدعوة بالسرية حتى يقوى عودها ويقوم لها ما يديرها ويحركها ويقويها، لكن لو جهر من أول مرة لكان أمرًا مستغربًا على ذلك المجتمع، ولكان الرد للدعوة قد يكون هو المقابل لها. فعلى الداعية في دعوته لأي أحد أن يتوخى الحكمة في قوله وفعله وطريقته، فالحكمة مِفْتاح النجاح، ومن الحكمة اختيار المكان المناسب والزمان المناسب مع الأسلوب المناسب، وأيضًا التدرُّج في ذلك شيئًا فشيئًا حتى يتحقق الهدف على أرضِ الواقع.

الدرس الثاني: إن مما يشرع للمسلم أنه إذا هداه الله عز وجل إلى عمل من الأعمال الصالحة أن يسارع في دلالة الآخرين إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله))؛ رواه مسلم. وهذا ميدان فسيح للتسابق إلى الخيرات وهو من الصدقة الجارية، وقد أخذنا هذا من فعل الصحابة رضي الله عنهم في الدعوة السرية والجهرية أيضًا، أن من أسلم أو تعلم شيئًا من أمور دينه دعا إليه غيرَه من الناس؛ ولذلك أسلم على يد أبي بكر رضي الله عنه عددٌ كبيرٌ من الصحابة، بعضهم من المبشرين بالجنة، فجميع أعمالهم هي في موازين أبي بكر رضي الله عنه، فيا أخي الكريم، اجعل لك في ذلك منهجًا في دلالة الآخرين على الخير، ولو تدعو في كل يوم واحدًا من الناس أو تدلُّه على خير، فإنك بذلك تجري لك الصدقات والأجور من حيث لا تشعر. وأذكر هنا موقفًا يسيرًا وعظيمًا أيضًا في نفس الوقت لأحد الإخوة حيث اجتمع ثُلَّة من الرجال فذكر أحدهم فضيلة صيام يوم الاثنين في خلال كلمة يسيرة لا تتعدى دقيقتين وأيضًا هي في عبارة سريعة؛ فما كان من أحد هؤلاء الجالسين بعد قيامهم وانصرافهم، إلا أن طرح ذلك على زوجته فاتفقا على صيام هذا اليوم فصاموه بعد ذلك ثلاثين عامًا، فكانت محصلة ما صاموه خلال هذه الثلاثين عامًا هو ثلاثة آلاف يوم، كلها في ميزان ذلك المتحدث، فماذا لو كنا كذلك في مجالسنا، فلا شك أن الخير سينتشر ويعمُّ، وتمتلئ موازيننا بالخير من حيث لا نشعر.

الدرس الثالث: إن التغذية الراجعة لتقوية الإيمان في القلب والجوارح غاية في الأهمية، وذلك لتزكية النفس وتطهيرها وشحذ الهمم في التسابق إلى الخيرات وتعزيز ذلك في النفوس، وذلك من خلال اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة في أواخر الدعوة السرية في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فجمعهم فيها عليه الصلاة والسلام يذكرهم ويربيهم ويزكي نفوسهم، فبيوتنا كلها دار الأرقم، فلماذا لا تكون بيوتنا مقرًّا لتزكية النفوس وتربيتها من خلال استحداث حلقة ذكر أو درس تربوي إيماني لأولادنا ولو مرتين في الأسبوع؟! فإن هذا له أثره الكبير في تربية الأولاد وتزكية نفوسهم وجلب الملائكة إلى هذا البيت، وفي ذلك من المصالح العديدة ما لا يحصيه مثل هذا المقام، فسارع أخي المستمع الكريم إلى ذلك فهو خير عظيم، ولعله أن يكون صدقة جارية لك عندما يسري ذلك في أحفادك وأولادهم.

الدرس الرابع: إن صفة الصدق صفة عظيمة جليلة، وبها يعرف الشخص في أعماله وأقواله، وتطمئن له النفوس وتحبه وتميل إليه، وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكنتم مصدقي؟)) عندما صعد إلى الصفا، فقالوا: ما جربنا عليك إلا صدقًا مع أنهم أعداؤه وعلى غير مِلَّته، فقد عرفوه بالصدق دائمًا، فلم يسمعوا عنه كذبًا أبدًا، فماذا لو كنا كذلك في أعمالنا أو أقوالنا أو مجالسنا نصدق مع الخالق والمخلوق؟ فلا شك أن كثيرًا من الإشكالات ستزول، وسيكون ذلك المجتمع الصادق هو المجتمع المسالم والمطمئن، وتسوده الأمانة والنصح، وستكون القلوب بيضاء سليمة وأيضًا متحابَّة؛ لأن آثار الصدق ظهرت في ذلك المجتمع، فما أحوجنا إلى ذلك!

الدرس الخامس: على الداعية في دعوته، بل على المسلم في جميع شؤون حياته أن يسير من خلال توجيهات القرآن الكريم؛ فإنها وحيٌّ وهي معصومة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ دعوته بنفسه ثم بحُرٍّ وعبْدٍ وهكذا، حتى بلغت دعوته ما بلغ الليل والنهار؛ لأنه يسير على هدى تعليمات القرآن الكريم، فإن هذا الكتاب العظيم هو منهج حياة للفرد والجماعة.

إن مشاكل العالم لو عرضت على الوحي لزال إشكالها، فكيف بالمشكلات الجزئية والفردية، ولكن الخلل يكمن في البحث عن هذه الكنوز الربانية في القرآن؟ والله عز وجل يقول: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، فلا بد أن يوجد حل بشكل صريح أو تلميح، فالسائر مع توجيهات الوحي سواءً كان فردًا أو جماعة فهو ناجح في سيره وسيرته، وفي دعوته ومنهجه، وليكن هذا السير على فهم السلف رضي الله عنهم؛ لا على تأويلات ملتوية، فما من حال تمرُّ عليك في يومك وليلتك إلا وفي القرآن والسنة ذكر لها، وحل لإشكالها، وتنمية لها، ولكن هذا لا يدركه كل أحد ولكن كما قال الله عز وجل: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].

إن المتأمل في نصوص القرآن والسنة يعلم أنها عالجت كل مشاكل الأُمَّة المسلمة، ولكن الإشكال يكمن في قلة تدبُّرنا وتأمُّلنا لنصوص الكتاب والسنة.

الدرس السادس: إن الكلمة التي يلفظها اللسان وقد لا يتأملها صاحبُها؛ قد تؤدي به إلى المهالك (والبلاء موكل بالمنطق)، فإطلاق الكلمات جُزافًا من دون تأمل هو مهلكة ومقتلة، ويتضح ذلك عندما قال أبو لهب للنبي صلى الله عليه وسلم: "تبًّا لك! ألهذا جمعتنا؟!" إنها كلمة يسيرة لكن نزل بها الحكم الرباني يُتلى إلى يوم القيامة بالحكم على قائلها أنه من أهل النار وهو حي يمشي بين الناس، فالكلمة لها وزنها وثقلها وهي داء أو دواء؛ فتأمَّل كلماتك ولفظاتك سواء في حق الخالق أو في حق المخلوق، وإن الكلمة هي سبب لملء موازين الخير والشر بالحسنات والسيئات، فإن اللسان من أوسع الجوارح في جلب الحسنات والسيئات؛ ولهذا يدخل الإسلام بكلمة وقد يخرج منه بكلمة، فاحذر آفات لسانك وفلتاته.

الدرس السابع: ليس غريبًا أن يدخل الناس في هذا الدين أفواجًا في السابق والحاضر؛ لأن هذا الدين متوافق مع الفطر المركوزة في قلوب الخلق وعقولهم، فعلى الدُّعاة استثمار ذلك، ومن شواهد هذا أن نرى المسلم الجديد قد يكون سببَ إسلامِه أمرٌ يسيرٌ، وهذا كثيرٌ تحدِّثنا عنه جمعيات الدعوة والإرشاد في مملكتنا الغالية، ويتضح هذا من إقبال الأمة على النبي صلى الله عليه وسلم في خلال الدعوة السرية والجهرية؛ حيث دخلوا أفواجًا، فعندما تتحدَّث أخي الكريم مع أحد عن شيء مركوز في فطرته، فإنه سيستجيب لك بإذن الله عز وجل، فكن داعيًا بقولك وفعلك، فما أسهل الاستجابة داخل هذا الدين القويم!

الدرس الثامن: في قوله عز وجل: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، علينا جميعًا الاهتمام بذوي القربى في دلالتهم على الخير قولًا وفعلًا، فهم أقرب الناس إلينا، ولهم حق كبير في توعيتهم، وإن مما يسهل ذلك كثيرًا وسائل التواصل، فما أسهل أن تعمل خيرًا عظيمًا مع أسرتك بمسماها العام من خلال تلك الوسائل تثقيفًا وتربيةً وتوجيهًا إيمانيًّا، فإن لك مثل أجورهم، فهي فرصة عظيمة لمن تأملها، فاجعل لك منهجية في ذلك ولو بدأت بفضائل الأعمال والأقوال وأرسلت إليهم كل يوم عملًا فاضلًا لكان ذلك في موازينك، واحرص على النصوص الثابتة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم واترك ما سواها.

الدرس التاسع: إن تلك الدعوة إلى هذا الدين القويم هي محاطة بحفظ الله عز وجل له؛ لأنه هو الذي أنزلها وهو الذي شرعها فهي محفوظة، بل ومزيدًا على ذلك الحفظ بأن شيئًا من الكون قد يتغير إذا أراد الله عز وجل ذلك فالبحر في عهد موسى صار يابسًا بأمر الله والنار التي طرح فيها إبراهيم صارت بردًا وسلامًا لا تحرق، والسكين التي سيذبح بها إسماعيل لم تذبح بأمر الله، والشمس وقفت ليوشع عليه السلام، والحوت لم يأكل يُونُسَ، فالله عز وجل حافظ دينه وعباده.

وهكذا قد تتغيَّر بعض المسلمات بأمر الله عز وجل، وهذا دليل كبير على أن هذا الدين هو الدين الحق المنزَّل من عند الله عز وجل.

أخي الكريم، إن دراسة السيرة مع تأمُّل دروسها وعبرها هي منهج للأمة جميعًا في جميع أحوالهم الشرعية والتربوية والاجتماعية والتجارية وغيرها في جميع أحوالهم في أن يسلكوا منهج نبيهم عليه الصلاة والسلام مستلهمين في ذلك ما يكون منهج حياة لهم، فهم بذلك يدرسون حياة المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإذا كانوا كذلك فإنه لا شك أن أحوالهم سيزول إشكالها، وإن إيجابياتهم ستكثر, وعندما يفعلون ذلك فإنما يربون عليه أولادهم وأحفادهم, وهكذا يكون العمل من الآباء والأمهات على أولادهم وأحفادهم وإن نزلوا، يكون صدقة جارية لهم يعلمونهم ويزكُّون أنفسهم. وما يدريك أخي الكريم لو أنك جمعت أولادك، ثم جعلت لهم درسًا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك تأهَّلوا إلى أن يعلموا أولادهم، ثم أولادهم يعلمون أولادهم وهكذا وإن نزلوا، فيكون هذا العمل وقفًا لك وصدقةً جارية لك.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يصلح نيَّاتنا وذريَّاتنا، وأن يوصلنا إلى دار السلام بسلام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.



ابوالوليد المسلم 01-06-2022 09:02 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (5)
الشيخ خالد بن علي الجريش
الحلقة الخامسة من برنامج

(خاتم النبيين)


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير البرية أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين، وقد ذكرنا في الحلقة السابقة المرحلة السرية للدعوة في بداية الوحي، ثم بعدها الحديث عن الدعوة الجهرية، وكيف كان واقعهم ومواقفهم رضي الله عنهم، ونستكمل في حلقتنا هذه امتداد تلك الدعوة الجهرية النبوية، وما كان في طريقها من عقبات، فإن الجهر بالدعوة اتسع؛ حيث أسلم عدد من أفراد القبائل في مكة وغيرها، فاتسعت دائرة المسلمين، وقويت شوكتهم، وفي هذه الأثناء بدأت قريش في محاربة تلك الدعوة، ووضع العقبات لها، فسلكوا لذلك عدة أساليب:

فالأسلوب الأول: مما سلكته قريش في مواجهة تلك الدعوة التهم الباطلة، والسب، والشتم، فلم تتورع قريش عن إلصاق التهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، فحينما كانوا يسمونه بالصادق الأمين قبل البعثة، اتهموه بعدها بالجنون والسحر والكهانة، وفي هذا انقلاب للموازين البشرية لدى كفار قريش، فما زال صادقًا أمينًا عليه الصلاة والسلام، فلماذا يُرمى بالسحر والجنون وهو يتلو عليهم كلام الله عز وجل الذي يعرفونه بلغتهم وبلاغتهم؟ ذلك لأنه عاب آلهتهم، وأوضح ما هم عليه من الباطل، وإذا كان ذلك بالنبي عليه الصلاة والسلام فكذلك سيتهمون المؤمنين به؛ ولذلك قال الله عز وجل عنهم: ﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾ [المطففين: 32]؛ لكن الله عز وجل تولى الدفاع عن نبيه عليه الصلاة والسلام، وعن المؤمنين رضي الله عنهم من تهم هؤلاء الكافرين، وجعل الغلبة للمؤمنين، وأمضى أمره عز وجل ونصر نبيه والمؤمنين.

الأسلوب الثاني الذي واجهت به قريش الدعوة:السخرية والاستهزاء، فقد كان كفار قريش قد سلكوا سياسة السخرية والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين به، وفعلوا في ذلك الأفاعيل، وقالوا الأقاويل؛ ولكن الله عز وجل حافظ نبيه ودينه وعباده، فكل أقوالهم وأفعالهم قد رجعت عليهم بحمد الله عز وجل؛ فقد كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم مذممًا بدل محمد، وقد جاء عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا تعجبون كيف صرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد؟!))؛ رواه البخاري، وقال الله عنهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [المطففين: 29، 30]، وكان أبو لهب وزوجته يضعون القذر والشوك في طريقه، وكان أبو لهب يتبعه في الأسواق ويكذبه، وأيضًا وضعوا سلا جزور بني فلان ودمها وفرثها عليه وهو يصلي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة، يستهزئون بنبي الرحمة والهدى عليه الصلاة والسلام، ولله الحكمة البالغة في ذلك؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالدعاء عليهم، وبيان الحق المنزل.

الأسلوب الثالث الذي واجهت به قريش الدعوة: التشويش على القرآن، وسبه وسب من أنزله؛ حيث قال الله عز وجل عنهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، وكان من حكمة الله عز وجل أن أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ﴾ [الإسراء: 110]، وذلك درءًا لسب المشركين للقرآن ومن أنزله، وكذلك عندما تنادوا فيما بينهم بعدم الإيمان بالقرآن، فقد قال الله عز وجل عنهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [سبأ: 31]، ومن الغريب أن بعضهم يعلم أن القرآن حق، ومن أدلة ذلك ما قاله الوليد بن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن لقوله لحلاوة إلى آخر ما قال، وأيضًا كما قال عتبة بن ربيعة عندما سمع صدر سورة فصلت قال: والله ليس هذا بسحر، ولا كهانة، ولا شعر، فهم يعرفون أن هذا هو الحق؛ ولكنهم يعاندون، وعندما يسمعونه يتلى يدركون منه معاني عظيمة؛ ولكنهم لا يصرحون بها عنادًا أو كبرياء، حيث إن الله عز وجل لم يكتب لهم الهداية.


الأسلوب الرابع مما تواجه به قريش الدعوة: التحريض على النبي صلى الله عليه وسلم، واستعداء القبائل عليه وعلى المؤمنين به؛ ولذلك حاولوا مع عمه أبي طالب- وهو على دينهم- أن يكف ابن أخيه عن دعوته، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي، كف عنهم أذاك، فإنهم يقولون ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينها قولته المشهورة: ((يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه))، فتأثر أبو طالب واستعبر، ثم قال: اذهب، وقل ما أحببتَ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا، وأما المؤمنون به فاستعدوا عليهم قبائلهم؛ فجعلوا يضايقونهم في أموالهم، ومعايشهم لأجل إيمانهم، وإسلامهم؛ بل ونالهم منهم بعض الأذى والتعذيب الجسدي أحيانًا، وما زادهم ذلك إلا إيمانًا وتثبيتًا لعلمهم أن ذلك في سبيل الله عز وجل.

الأسلوب الخامس لقريش في مواجهة الدعوة: إنهم سلكوا مسلك الترغيب والترهيب، فعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم المال والجاه والملك، فقالوا: إن كنت تريد مالًا أعطيناك، أو مُلكًا ملكناك، أو جاهًا سودناك علينا، فلما فرغوا قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم صدر سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]، فقال عتبة بن ربيعة: يا معشر قريش، اتركوا محمدًا وشأنه، فكلامه الذي سمعته ليس شعرًا ولا سحرًا ولا كهانة.

وكان هذا الترغيب يعد مسلكًا لقريش تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بعد مسلك الترهيب وهو إيذاؤهم للمؤمنين ومن معه، والتضييق عليهم، وربما تعذيبهم، خاصة إذا كانوا ليسوا من علية القوم، فثبت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بتثبيت الله عز وجل لهم، وكان إيمانهم كالجبال الراسيات.

الأسلوب السادس في مواجهة قريش للدعوة: محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تجاوزت قريش في عدوانها على النبي عليه الصلاة والسلام حتى فكروا في قتله ليرتاحوا منه؛ ولكن التدبير بيد الله عز وجل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اجتمع الملأ من قريش في الحجر، وتعاقدوا باللات والعزى لو قد رأينا محمدًا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فلما أخبرته فاطمة رضي الله عنها بذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((يا بنية، أرني وضوءًا)) فتوضأ، ثم دخل المسجد عليهم، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم على صدورهم، وعقروا في مجالسهم، ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ قبضة من تراب، وقام على رؤوسهم، وقال: ((شاهت الوجوه))، ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلًا منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا.

هذهِ بعض الأساليب التي سلكتها قريش في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته؛ ولكنها كلها باءت بالفشل الذريع، وهكذا عبر الأزمان نشاهد ونقرأ ونسمع أن الحق يعلو ولا يعلى عليه؛ لأن الحق مؤيد من السماء، فمن الذي لديه القدرة في مواجهة الرب العزيز الجليل القوي القادر؛ ولذلك قال الله عز وجل لأكلة الربا: ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]، فكل من واجه الحق بالحرب والرد فنتيجته محسومة عاجلًا أو آجلًا بالخسران المبين، والهزيمة والسحق والبعد؛ ولهذا قال الله عز وجل عن الكفار في أموالهم: ﴿ فَسَيُنْفِقُونَهَا ﴾ [الأنفال: 36]، ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون؛ لأن الله عز وجل هو المدبر، وهو الذي شرع هذا الدين، والخلق خلقه، والأمر أمره، فكيف يخرج شيء عن مراده، فيا ليت الأعداء يعلمون تلك الحقيقة؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي على خطى توجيهات القرآن الكريم، وهو مع ذلك متوكل على الله عز وجل حق التوكل أنه سينصره؛ لأنه هو الذي بعث، ولا يخرج شيء عن مراده؛ ولهذا كان في سكينة واطمئنان عندما كان في الغار؛ ليقينه الكامل أن الله عز وجل معه، وأن من عاش ذلك الشعور والاستشعار حال الضيق والضنك، فإن الأمر يتسع وينشرح في حقه، والواقع مليء من الشواهد على ذلك لمن آمن، وقوي إيمانه وتوكله، وبعد تلك الأساليب الكثيرة لقريش في مواجهة الدعوة وفشلها الفشل الذريع تضايق المسلمون منها؛ ولكنهم قلة لا يستطيعون حربًا على قريش، ولا مواجهة لها، فجاءت فكرة الهجرة إلى الحبشة، وهذا ما سنعرضه بمشيئة الله عز وجل في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.


أما الدروس المستفادة مما سبق فهي كثيرة، ومنها:
الدرس الأول: إن كل عمل من الأعمال يعتريه بعض العقبات، سواءً كان عملًا دعويًّا أو تربويًّا، أو غير ذلك حتى في أعمال الدنيا، فهذه العقبات على صاحبها تذليلها ما أمكن، وليعلم الداعية إلى الله عز وجل أن تلك العقبات تحمل في طياتها الابتلاء له، وكثرة الخير والأجور، وأجره على قدر نصبه؛ ولذلك لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل لاقى من العقبات الكؤود الشيء الكثير، وأصحابه كذلك فثبتوا على الحق؛ ولذلك وقفت قريش موقف السخرية والغمز واللمز، والسب والتشويش على القرآن، واستعداء القبائل، وغير ذلك، وهذه عقبات عسيرة، فالموقف تجاه ذلك كله هو الصبر والدعاء والاحتساب، وسلوك مسلك الحكمة في الدعوة، وسيجعل الله بعد عسر يسرًا.

الدرس الثاني: إن انقلاب الموازين هو خلل في التربية، وهذا شأن من زاغ قلبه أو قل إيمانه، وهذا أخذناه من قول قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صادق أمين، ثم لما أنذرهم انقلبت موازينهم فقالوا: ساحر كذاب، فعلى المسلم أن يلاحظ ذلك في نفسه، فيسير حيث سار الحق ووجد، ولا ينقلب ميزانه ضد الحق ولا لحظة واحدة بسبب ميول نفسي أو داعٍ شيطاني، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، فليعمل على أن يكون ميزانه في تقييمه للأشياء هو القرآن والسنة.

الدرس الثالث: على الداعية إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة أنه إذا ناله شيء من السخرية أو الغمز واللمز ونحو ذلك، أن يعلم أن ذلك ليس أمرًا جديدًا، ولا بدعًا من القول، فقد قيل ذلك لصفوة الخلق من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، فتوطين النفس على ملاقاة مثل ذلك مطلب كبير ليكون زادًا للاستمرار وعدم التوقف؛ ولذلك استهزأت قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسخروا منه وغمزوه وأصحابه وأذوهم؛ لكن كلا الفريقين يعلم في قرارة نفسه من صاحب الحق من الباطل، وإنك لتعجب من أحد الدعاة عندما يأتيه نزر يسير من الأذى أو السخرية، فتراه ضاق بذلك ذرعًا، وربما حجبه ذلك الموقف عن جهودٍ دعوية مماثلة، فيقال لهذا وأمثاله: لك بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدوة وأسوة، فاقرأ السيرة وتأمل، وربما كان ذلك ابتلاء لك.

الدرس الرابع: مشروعية تعظيم القرآن وإجلاله، ويدخل في ذلك دخولًا أوليًّا تلاوته، والعمل به، والتحاكم إليه، والتأدب بآدابه، والسير على توجيهاته، وذلك ضد عمل المشركين الذين كفروا بهذا القرآن، ولم يؤمنوا به، مع أنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنه حق، كما قال ذلك الوليد بن المغيرة عندما سمع صدر سورة فصلت، وأيضًا قال مثل ذلك عتبة بن ربيعة، فهم يعلمون ذلك؛ لكن الله عز وجل لم يرد لهم الإيمان، فجعل في آذانهم وقرًا، وعلى قلوبهم غلافًا عن قبوله، ولو نظرنا إلى واقعنا لعلمنا أنهم عرب خلص بلغاء كبار، وقد جاء القرآن بما يتوافق مع لغتهم وبلغتهم، فإنكارهم إنكار عناد لا اقتناع، فعلى المسلم عندما يعلم ذلك أن يسأل ربه عز وجل الهداية والثبات عليها، فإن الله عز وجل يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7].

الدرس الخامس: إن الله عز وجل حفظ نبيه عليه الصلاة والسلام من كيد الكفار، وذلك بكفالة عمه أبي طالب له مع أنه كافر وعلى ملتهم؛ ولكن الله عز وجل عندما بعث محمدًا عليه الصلاة والسلام بالحق فقد هيَّأ من يدافع عنه، وهكذا يحفظ الله عز وجل أولياءه والدعاة إليه من كيد المبطلين، وإن نالهم ما نالهم من الأذى، فإن ذلك في موازين أعمالهم، فحفظه لهم في ثباتهم، واستمرارهم وصبرهم على التحمل للدعوة، ونصبها وتعبها، وما فيها، كل ذلك وأمثاله من حفظ الله تعالى لأوليائه والدعاة إليه، فليبشروا خيرًا، والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].

الدرس السادس: إن الجزاء من جنس العمل، فكما يعمل الإنسان فإنه يجازى عليه بالمثل؛ إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، ومأخذ ذلك أن قريشًا عندما فكروا في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على ذلك، انتظروا خروجه، فتوضأ عليه الصلاة والسلام، وخرج إليهم حول الكعبة، فألقي عليهم النوم، فحصبهم عليه الصلاة والسلام، بالحصباء فأصابتهم، فما أصابت أحدًا منهم إلا وقتل في معركة بدر كافرًا، فهم لما عزموا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم جازاهم الله تعالى بالمثل، حيث قتلوا في معركة بدر، وهذه سنة إلهية، وفطرة مركوزة؛ أن الجزاء من جنس العمل، فلينظر المسلم في أعماله وأقواله كلها، وليعلم تلك السنة الإلهية، وأنه سيُجازى بمثل ما عمل، فلو تأملنا ذلك كثيرًا لتركنا كثيرًا من الأقوال السيئة، ولأقبلنا على كثير من الأعمال الحسنة؛ تحسبًا للثواب، وهروبًا من العقاب.

الدرس السابع: إن مما يلاقيه المسلم الجديد أو كذلك الداعية إلى الله عز وجل من تعب أو نصب ونحوهما، فهو مأجور عليه بقدر نصبه وتعبه، فعليه أن يتلذذ بالأجر المكتوب له؛ ليزيل الحرج الذي يصيبه، ومأخذ هذا من السيرة أن قريشًا آذت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وحاصرتهم اجتماعيًّا وتجاريًّا، وآذتهم لأجل إسلامهم، وأيضًا لأجل دعوتهم الآخرين إلى الإسلام، فكان موقف الصحابة رضي الله عنهم الثبات والصبر، والتمشي مع التوجيهات النبوية، فهم تناسوا مصابهم في نصبهم وتعبهم بما يحصل لهم من الأجور العظيمة عليه، وهذا شأن المسلم في مثل ذلك.

الدرس الثامن: المؤمن الحق لا يتنازل عن شيء من أمور دينه لأجل دنيا حقيرة، فهو ثابت على مبدئه الإيماني، ومأخذ ذلك أن قريشًا عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والمال والجاه على أن يتنازل عما هو فيه من الدعوة، فلم يقبل بذلك، فالتنازل عن أمور الدين للدنيا هو من التزعزع والخلل التربوي والإيماني، والمؤمن حيال ذلك يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).

الدرس التاسع: ليعلم الداعية إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة أن الحق معه، وإن لم يستجب له ذلك المدعو، أو حصل منه عناد أو مكابرة أو أذى، وهذا مما يزيده ثباتًا على الحق والدعوة إليه، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دعوتهم لكفار قريش بذلوا مساعي عظيمة، فلم يستجب كثير من هؤلاء مع علمهم أنه الحق، فلا ينبغي للداعية أن يتزعزع إذا لم يستجب له، وقد ورد في الأثر الطويل أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، الحديث بطوله متفق عليه، وفي ذلك تعزيز للدعاة إلى الخير إذا كانوا في دعوتهم على مراد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ ولكن على الداعية أن يراجع طريقته وأسلوبه، ويعرضهما على الوحيين.
الدرس العاشر: إن مما يعرف في الأذهان أن المخلوق الضعيف قد لا يقاوم المخلوق القوي وكلاهما مخلوق، فكيف إذا أراد المخلوق أن يعاند ويكابر في رد أمر الخالق عز وجل؛ ولذلك كفار قريش عاندوا وكابروا، وردُّوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل وقاتلوه، فهم لا طاقة لهم في حرب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ومن شواهد ذلك ما توعد الله به أكلة الربا فقال: ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]، فليس أمام الإنسان عمومًا إلا التسليم والإذعان لأمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فإن خالف ذلك فهو خاسر ومغلوبٌ لا محالة، فإدراك هذا المعنى يجعل الإنسان خاضعًا لأمر الله عز وجل؛ لكن من أراد الله عز وجل إظلاله فلن تجد له وليًّا مرشدًا.

أخي الكريم، إن دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تزيدك علمًا وثباتًا، وأيضًا كذلك ترسم لك منهجًا قويمًا، وتجعلك مطمئنًّا في سيرك إلى الله عز وجل والدار الآخرة، حيث إنك تقرأ تلك المواقف، وتستنتج منها الدروس والأحكام، فهي جمعت بين النواحي التربوية والإيمانية والاجتماعية والعلمية وغيرها، وهذا مما يجعلها الرسالة الحقة من الله عز وجل، فما أجمل أن يكون لنا في بيوتنا ومع أولادنا دروسًا في هذا الجانب! إن هذا مما يشرح الصدور، وينور القلوب، ويصحح التصورات، ويضبط الموازين، فكثير من مشاكل العصر حلها يكمن في دراسة هذه السيرة.

اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، وأوصلنا إلى دار السلام بسلام، واجعلنا ممن يؤتى الحكمة يا حي يا قيوم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.





ابوالوليد المسلم 23-06-2022 09:02 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (6)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة السادسة من برنامج (خاتم النبيين)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير البرية أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فمرحبًا بكم إخواني وأخواتي الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد ذكرنا في الحلقة السابقة امتدادَ الدعوة الجهرية، وكيف قابلت قريش تلك الدعوة، فقد عمِلت على أساليب كثيرة لمواجهة هذه الدعوة وإحباطها، لكن الله عز وجل أراد نصر نبيه عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، ولما تضايق المسلمون من مواقف كفار قريش، عزموا على الهجرة إلى الحبشة، فإن الحبشة تقع في الضفة الغربية للبحر الأحمر، وتُعرف اليوم بإثيوبيا وهي في القارة الإفريقية، وكان الأحباش فيها يدينون بالنصرانية، ويعبدون المسيح، وكانت تلك الهجرة في السنة الخامسة كما يرويه الواقدي، ونسبه ابن حجر إلى أهل السِّيَرِ وقيل في تاريخها غير ذلك، وعند التساؤل عن أسباب هجرة المسلمين إلى الحبشة، نقول: يكمن ذلك في عدة أسباب؛ منها:
السبب الأول: كثرة المسلمين بعد الجهر بالدعوة، فحين صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة، استجاب لها أعداد كثيرة من أهل مكة، وبدأ الناس يتحدثون عن الإسلام، فأغضب ذلك قريشًا، وثاروا على مَن آمَنَ يعذبونهم ويسجنونهم، كما يقوله الزهري، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لمن آمن: تفرقوا في الأرض، وأشار إلى أرض الحبشة، فكانت تلك الإجراءات من أسباب هجرتهم إلى الحبشة.

السبب الثاني في هجرة المسلمين إلى الحبشة: أن الحبشة دار أمنٍ وعدل، وفيها حاكم عادل، فرغِب المسلمون بذلك ليسلَموا بأنفسهم ودينهم، بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلَم عنده أحد، فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا))، ولم تفرق قريش بين كبير ولا صغير، حتى أبي بكر، وهو مَن هو في قومه، أراد الهجرة إلى الحبشة لما ضايقته قريش، ولما سار قليلًا، لقيه ابن الدغنة، فقال: مثلك لا يخرج يا أبا بكر، فأدخله في جواره، ثم رجع إلى مكة.

السبب الثالث في هجرة المسلمين إلى الحبشة: الخشية من الافتتان في الدين، فلم تكن الهجرة لمجرد الأذى فقط، لكن كان الصحابة رضي الله عنهم وهم على أول إسلامهم يخشون من قومهم أن يفتنوهم عن دينهم؛ لأنهم حديثو عهد بإسلام؛ ولذلك قال مصعب بن عمير رضي الله عنه لأمه: "أفر بديني أن تفتنوني"، وكانوا تعرضوا لفتنة شديدة، وفي حديث عروة: "وكانت فتنة شديدة على المؤمنين".

السبب الرابع في هجرة المسلمين إلى الحبشة: نشر الدعوة في خارج مكة، فكما أنهم رضي الله عنهم فرُّوا خوفًا من الافتتان وخشية الأذى، فهم أيضًا قصدوا نشر دين الله تعالى، والمتأمل في مجريات أحداث الهجرة يرى أن المهاجرين كانوا يتحدثون عن الإسلام منذ وطئت أقدامهم أرضَ الحبشة، فهم دعَوا ملك الحبشة إلى الإسلام، وقرؤوا عليه القرآن، وحاوروه في عيسى، وكانت ديانة أهل الحبشة آنذاك هي النصرانية، بل في حديث أم سلمة الطويل أن جعفر رضي الله عنه قرأ على النجاشي صدر سورة مريم، فتأثر النجاشيُّ وبكى، وامتلأت لحيته بالدموع، وبكى أساقفته، وقال النجاشي: ((إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة))، ثم أمَّنهم في الحبشة، وبعدها آمن النجاشي بالرسالة، ودخل في الإسلام، وكان إسلامه مكسبًا كبيرًا للدعوة، ومؤشرًا عظيمًا في أرض الحبشة في دعوتهم للإسلام، هذه جملة من الأسباب جعلت المؤمنين المستضعفين في مكة يهاجرون إلى الحبشة، لكن يتبادر سؤال؛ وهو: لماذا الهجرة كانت إلى الحبشة؟ ألم يكن شيء أقرب وأنسب منها؟ ويرجع ذلك - والله أعلم - إلى أسباب عدة:
منها أولًا: أن ملكها النجاشيَّ رجل عادل لا يُظلم عنده أحد، والمهاجرون بحاجة إلى عدل يقف أمام ظلم قريش، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال بعضهم: إن عدل النجاشي وصل إلى حدِّ أن قريش إذا تخاصموا، تحاكموا إليه.

السبب الثاني من أسباب اختيار الحبشة مكانًا للهجرة: صلاح النجاشي، وقد شهِد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كما في رواية البخاري، بل كان صلاحه مشهورًا، فقد تأثر بالقرآن لمَّا سمعه، وبكى بكاءً كثيرًا، ويواسي المهاجرين ويحميهم، وقد جاء إسلامه بعد ذلك، فصلاحه قبل إسلامه هو برقَّة قلبه وعدله ورحمته، والوقوف مع المظلوم، ونحو ذلك، ثم أسلم فاستمر صلاحه، حتى لقيَ ربه رحمه الله.

ثالثًا: من أسباب اختيار الحبشة مكانًا للهجرة أن الحبشة تعتبر متجرًا لقريش، وتربِطها بمكة عِلاقات تجارِية، وقد أكد ذلك الإمام الطبري، فقال: "هي متجر حسن لقريش، وقد كانت قريش ترحل إليها في الشتاء، فهي دفء لهم ومصدر رزق".

السبب الرابع من أسباب اختيار الحبشة مكانًا للهجرة: أن الحبشة ليست تحت ولاية قريش، وكانت ديانتهم النصرانية، بينما ديانة قريش الوثنية، فالنصرانية أقرب إلى الإسلام من الوثنية، وقد بشر عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أصحاب كتاب، فكانوا أقرب من غيرهم إلى المهاجرين؛ هذه جملة من الأسباب جعلت الحبشة خيارًا أوليًّا لمكان الهجرة.

وقد خرجوا من مكة إلى الحبشة سرًّا من قريش؛ حتى لا يفتنوهم، ولا يردوهم، وقد سارت قريش في إثرهم لردهم، ولكنهم لم يدركوهم، وكان المهاجرون حينها نحوًا من اثني عشر رجلًا، وخمس نسوة، ولكن كانت هجرة الحبشة الأولى أول هجرة إلى الله تعالى، وكانت من مناقب مَن هاجر، ولقد كانت الهجرة إلى الحبشة هجرتين.

الأولى: خرجوا متسللين سرًّا من قريش، منهم الراكب، ومنهم الماشي، فوصلوا البحر، فركبوا مع سفينة التجارة، فوصلوا إلى الحبشة، وأمِنوا وارتاحوا وعبدوا الله تعالى باطمئنان وسكينة، وقد مكثوا في هجرتهم تلك الأولى ثلاثة أشهر، ثم بلغهم أن أهل مكة أسلموا فرجعوا إلى مكة، فلما قربوا منها، بلغهم كذب ذلك الخبر، فرأى بعضهم الرجوع إلى الحبشة، ورأى آخرون الدخول إلى مكة بجوار، أو مستخفيًا، وبعد خروجهم إلى الهجرة الأولى أسلم حمزة، وأسلم أيضًا عمر رضي الله عنهما، وكان لإسلام هذين الرجلين العظيمين أثرُه في رجوع هؤلاء من الحبشة في الهجرة الأولى.

الهجرة الثانية: وقد كان سببها أنهم لما رجعوا من الهجرة الأولى، وجدوا أذًى شديدًا من أقوامهم وعشائرهم، فأذِن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة الثانية إلى الحبشة، وقد كان عددهم في هذه الهجرة الثانية ثلاثة وثمانين رجلًا، وسبع عشرة امرأة، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، رجع منهم أناس، وبقيَ آخرون، ولما مات النجاشي، نعاه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وصلى عليه، وأثنى عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مات اليوم رجل صالح فصلوا على أخيكم أصْحَمَة))؛ [رواه البخاري]، وأصحمة هو اسم النجاشي، وكانت وفاته رحمه الله في السنة التاسعة من الهجرة، وقد حكت أم سلمة رضي الله عنها في حديثها الطويل حالتهم هناك، وكيف لحقتهم قريش، وماذا كان واقع النجاشي مع قريش، وهو حديث طويل ذكره أهل السير، فليُرجع إليه، ففيه دروس عظيمة وعِبر قويمة، مع انتصار الحق على الباطل، وكذلك الحوار الذي جرى بين جعفر بن أبي طالب والنجاشي؛ ففي هذين الحديثين أسباب للثبات على الحق، ومعرفة للدين، وكان من نتائج الهجرتين مخرجات عظيمة.

أولها: أن الصحابة رضي الله عنهم عبدوا ربهم في الحبشة بطمأنينة وسكينة وسلام، وثاني المخرجات من الهجرة إلى الحبشة: أن الدعوة خرجت من مكة إلى غيرها كالحبشة؛ فامتدت واتسعت، وثالث المخرجات: إسلام النجاشي، وقد أسلم على يدي جعفر بن أبي طالب، ورابع المخرجات: إسلام من أسلم من أهل الحبشة، إلى غير ذلك من المخرجات والمكاسب، وبعد تلك الجولة المختصرة للهجرتين إلى الحبشة، جاء الحصار للمسلمين في شِعب بني هاشم، وهذا ما سنطرحه بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة.

أما الدروس المستفادة من دراسة تلك الهجرتين فهي كثيرة ومنها:
الدرس الأول: أن العدل قيمة من القيم الإيجابية، ومعها تنتظم عدد من الخِلال والصفات الطيبة؛ ولذلك لما اتصف النجاشي رحمه الله بالعدل وعدم الظلم، أشار النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليه، فعلينا جميعًا التمسك بتلك الصفة مع أولادنا وزوجاتنا ومع الآخرين في معاملاتنا، فما قامت قائمة لأحد إلا بالعدل، بخلاف الظالم وغير العادل، فهو ممحوق البركة، وسيئ الخصال.

الدرس الثاني: يتعين على المسلم أن يكون خائفًا من الزيغ وعدم الثبات، خصوصًا زمن الفتن، وليعلم أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ويدعو دائمًا بالثبات على دين الله في الدنيا والآخرة، فإن الصحابة رضي الله عنهم لما أسلموا بمكة، خشوا على أنفسهم من الفتنة عن الدين، ولذلك هاجروا إلى الحبشة؛ فرارًا بدينهم، بعدما أشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولهذا لما سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين لحذيفة، جاءه عمر يسأله: هل هو منهم؟ وهو عمر فكيف بمن دونه؟ فعلى المسلم أن يكون مكثرًا من الطاعات والخير؛ حتى تكون تلك الطاعات مثبتات له على الحق بإذن الله تعالى، ولا يغتر، ولا يعجب بعمله، حتى تسلم له حسناته.

الدرس الثالث: قد يعمل المسلم العملَ الواحد، ويحقق فيه أهدافًا ونيات عديدة، وهذا توفيق من الله تعالى لبعض عباده، وبركة تكون عليهم؛ فهؤلاء الصحابة جمعوا عدة أهداف عندما هاجروا إلى الحبشة؛ فهم جمعوا الفرار من الأذى، وأيضًا خشية الافتتان عن الدين، وأيضًا للدعوة إلى الله عز وجل، وكذلك ليحصل لهم الأمن والطمأنينة والسكينة، فهذه أهداف عدة في عمل واحد؛ وهو الهجرة، فيمكن للمسلم أن يعمل عدة عبادات في آن واحد؛ كمن يمشي إلى الصلاة وهو يقرأ القرآن، أو يذكر الله تعالى، وربما أيضًا كان صائمًا، فهذه عبادات متعددة في آن واحد، وهذا الجانب يسمى تجارة العلماء والعباد، فمن كثر علمه وعبادته وإدراكه، أدرك كثيرًا من الأجور في آن واحد، وهذا كثير عند التأمل، فتأمل هذا في ذهابك وإيابك، ومناسباتك ومعاملاتك مع الآخرين.

الدرس الرابع: كان الصحابة رضي الله عنهم في هجرتهم خائفين وجِلين، وغرباء فقراء، وفي أرض ليست أرضهم، وعند أُناس ليسوا من أقوامهم، وعلى غير دينهم أيضًا، ومع تلك العوامل المؤثرة
كانوا رضي الله عنهم حريصين على الدعوة أشدَّ الحرص، وهكذا شأن المسلم أينما حلَّ نفع، ولا ينبغي أن تكون العوامل المانعة نسبيًّا عائقًا له عن الدعوة إلى الله تعالى، فيا أخي الكريم في مناسباتك وذهابك وإيابك واختلاطك بالآخرين، اجعل لك بصمة تربوية أو إيمانية أو اجتماعية أو غيرها على الآخرين، فما أحوجنا لذلك! وأوصيك بألَّا تحضُرَ مجلسًا من المجالس إلا ويكون لك فيه غرس وصدقة جارية، ودلالة على الخير، ولو بكلمة واحدة.

الدرس الخامس: في أحداث الهجرة تظهر جليًّا شفقة الراعي على الرعية، وهذه الشفقة قد يصحبها الدعاء لهم، والسؤال عنهم، ونحو ذلك، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُشفق على المهاجرين، ويسأل عنهم القادمين من أرض الحبشة، ويتوجس أخبارهم، وهذا من أهم الروابط بين الراعي والرعية.

الدرس السادس: أن الله تعالى يحفظ أولياءه وعباده المؤمنين من كيد الكائدين، فهؤلاء الصحابة هاجروا ووصلوا إلى الحبشة، واطمأنوا وسكنوا وأمِنوا على أنفسهم بحفظ الله تعالى لهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((احفظ الله يحفظك، ومن توكل على الله، كفاه، ومن استعان بهِ، أعانه))، فالله عز وجل مع أوليائه يحفظهم وينصرهم ويسددهم، ويعلم حالهم، فاستشعار ذلك من المثبتات على الدين.

الدرس السابع: أهمية الشورى والاستشارة والتشاور في كثير من الأمور الجماعية والفردية؛ فإن استشارتك للآخرين هي كسب لعدة عقول في قضية واحدة، وهذا لا شك أنه سبب نجاح وتسديد، فالصحابة المهاجرون رضي الله عنهم عندما طلب النجاشي حضورهم لم يحضروا مباشرة، وإنما تشاوروا واستشاروا فيما بينهم، وظهر خلاصة عقولهم، فاستشارتك لمن تراه مناسبًا في كثير من أمورك هي من أسباب نجاحك، وقد ترى بعقلك الشيء حسنًا، لكنك عندما تستشير قد تظهر لك أمور لم تكن في حُسبانك؛ فاستثمر عقول الآخرين المناسبين باستشارتهم، ومِثلُ ذلك تلك السُّنَّةِ شبه المهجورة عند بعض الناس؛ وهي صلاة الاستخارة، فمن استشار واستخار في أموره، فهو موفَّق ومسدد، بخلاف من استقل برأيه بلا استشارة ولا استخارة، فقد يندم أو قد يحقق هدفه، لكنه يفوته كثير من المصالح كان يجهلها، والواقع شاهد بذلك.

الدرس الثامن: إن من الواجب على المسلم أن يلتمس رضا الله تعالى، ولو أسْخَطَ الناسَ، ما دام يدعو بالحكمة والآداب المرعية، ولذلك المهاجرون ذكروا للنجاشي الحقَّ الذي يرضي الله عز وجل، ولم ينظروا إلى رضا النجاشي، مع أنه كان حينها على النصرانية، ولذلك كانت النتيجة أن رضي الله عنهم، وأرضى عنهم النجاشي، فاحذر أن تسخط الله تعالى برضا الناس؛ ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من التمس رضا الله بسخط الناس، رضِيَ الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس))؛ [صححه الألباني]، فالقضية محسومة، فاتبع رضا الله عز وجل تنجح في جميع أمورك، لكن لتكن تلك التعاملات بأدب جمٍّ، واحترام متبادل، ومقال رصين، وقصد لرضا الله عز وجل.

الدرس التاسع: إذا أراد الله تعالى أمرًا هيَّأ أسبابه وطرقه؛ ولذلك لما أراد الله تعالى إسلام النجاشي، هيأ السبب لذلك، فقدَّر هجرة المهاجرين ولقاءهم بالنجاشي، ومحاورتهم له، ونحو ذلك، فعندما يقع لك أي أمر من الأمور، فلا تجزَع وتحزن، ولو كنت تكرهه، فقد يكون سببًا لحصول خير لك وأنت لا تعلم؛ فكن متفائلًا، وانظر إلى الجوانب الإيجابية في حصول ما تكرهه، فإن ذلك يخفف عنك وطأته، فقد يريد الله تعالى لك تكفير سيئاتك، فيصيبك بالمرض، فانظر إلى ذلك المرض بالمنظار الإيجابي، وهو أنه تكفير للسيئات، فجعل الله تعالى المرض سببًا للتكفير، فإن هذا المسلك في جميع المصائب التي تصيب الإنسان يخفف وطأتها عليه، وأيضًا يسليه بخلاف من ينظر إلى السلبية فقط في ذلك المصاب، فإنه يزداد حزنه حزنًا، وضيقه ضًيقا، وهمه همًّا، ويبدأ معه الشيطان بوساوسه.

الدرس العاشر: أن من عمِل بحقل الدعوة فقد يجد نَصَبًا وتعبًا، ويبذل جهدًا، بل وقد يجد أحيانًا عقبات من الآخرين؛ فإنه مأجور عليه بقدر ذلك، ومأخذ هذا أن المهاجرين رضي الله عنهم لقوا ما لقوا من المتاعب في خروجهم إلى الحبشة على خوف ووجَلٍ من قريش، ولكن الله تعالى يسر أمرهم وسلمهم، وفي قدومهم من الحبشة كذلك واجهوا شيئًا من ذلك، لكنهم ثبتوا بتثبيت الله تبارك وتعالى لهم، وحُفظوا بحفظ الله عز وجل لهم، فعلى الداعية أن يذلل العقبات، وليعلم بيقين أنه مأجور بقدر نصبه؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: ((أجرك على قدر نصبك))، ولماذا نقول ذلك؟ لأن الداعية عندما يدعو إلى ربه إنما يملأ ميزانه بالحسنات، ويجعل له أوقافًا معنوية في الدنيا يجري له أجرها، أرأيت إذا علَّمت أحدًا عملًا فاضلًا من الأعمال، فهذا الشخص المدلول على الخير هو وقف لك، ما دام يعمل بما دللته عليه؟ ولو تأملنا ذلك كثيرًا، لأسرعنا إلى تعليم الآخرين ذلك الخير، وإنني أقترح عليك - أخي الكريم - مقترحًا ثمينًا؛ وهو أن تجمع صغار أسرتك بمسماها العام أو بمسماها الخاص أو صغار الجيران، ولو يومًا في الأسبوع لنصف ساعة، فتعقد لهم ذلك المجلس، فتدلهم على عمل فاضل، وعلى آداب يحتاجونها، وقد يصححون عليك بعض الآيات من القرآن، مع قصة يستخرجون منها الدروس والعبر، ولا يمنع أن يصحب ذلك شيء من المأكول أو المشروب الخفيف، فإنك من خلال ذلك البرنامج جعلت هؤلاء وقفًا، ولن ينسَوه بعد ذلك، وربما تسلسل في أولادهم وأحفادهم، وهكذا كان المهاجرون والأنصار يعلِّمون أولادهم وأهاليهم وعشيرتهم، فما أجمل تلك اللقاءات الإيمانية؛ تحفها الملائكة، وتغشاها الرحمة، وتنزل عليها السكينة، ويذكر الله أصحابها فيمن عنده!

اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، واغفر لنا ذنوبنا وارحمنا يا كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ابوالوليد المسلم 23-06-2022 09:07 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (7)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة السابعة من برنامج (خاتم النبيين)

الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلم على النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فمرحبًا بكم إخواني وأخواتي الكرام في برنامجكم خاتم النبيين.

وقد سبق معنا في الحلقة السابقة الكلام عن الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة، وكيف هاجروا، وإعدادهم وواقعهم هناك، وآثارهم، والدروس المستفادة من ذلك، ونحن الآن نتحدث عن الحصار الذي أقامته قريش لصدِّ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد استاءت قريش من انتشار رقعة الإسلام والدعوة، وكثرة المسلمين، وأخَذَ الإسلام يفشو في القبائل، عند ذلك اجتمعوا وعزموا على أن يكتُبوا كتابًا يتعاقدون فيه على مقاطعة بني هاشم وبني عبدالمطلب مقاطعةً متنوعة؛ فهي اجتماعية فلا يناكحونهم، وأيضًا مقاطعة اقتصادية فلا يبيعونهم ولا يبتعون منهم، وأيضًا يقاطعونهم مقاطعة نفسية فلا يُؤونهم، حتى يسلِّموا لهم النبي صلى الله عليه وسلم لقتله، فلما علِم أبو طالب بذلك جَمَعَ بني هاشم في شِعبه، وعرض عليهم ما قالته قريش وكتبته عن بني هاشم وعن ابن أخيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا على أن يحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل أذية، وأن يكون معهم في شِعبهم، وكان تاريخ ذلك كما يقول الواقدي مع هلال المحرم سنة سبع من البعثة، واستمر ذلك الحصار ثلاث سنوات، ولكن خرج من بني هاشم أبو لهبٍ، وانضمَّ إلى قريش، واشتد ذلك الحصار على بني هاشم في الشِّعب، فكان الطعام لا يصل إليهم إلا خُفية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الشِّعب يدعو قومه، ويفقههم في دين الله تعالى.

وفي مدة الحصار وُلد حَبْرُ الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، ومكثوا في الشِّعب ثلاث سنين، ولم يكن كفار قريش متفقين جميعًا على ذلك الحصار الظالم؛ فهم مختلفون، ولذلك تلاوم رجال من قريش في ذلك، فخرج بعض كفار قريش، ومنهم المُطعم بن عَدي، وعدي بن قيس، ورجال معهم، فحملوا السلاح، ثم خرجوا إلى بني هاشم في الشِّعْب، وفكُّوا حصارهم بعد تلك السنوات الثلاث؛ إذ إن الحصار لا يُرضي هؤلاء الرجال، فعَرَفَتْ قريش أن هؤلاء الرجال سيحمون بني هاشم وبني عبدالمطلب؛ ولذلك فكوا الحصار، ومزقوا الصحيفة المكتوبة للمقاطعة، فخرج المسلمون من الحصار في السنة العاشرة من البعثة، وفي تلك السنة اجتمع على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحصار مصيبتان؛ هما: وفاة أبي طالب، ثم بعد ثلاثة أيام من ذلك وفاة خديجة رضي الله عنها زوجته، وكان مشهد وفاة أبي طالب مشهدًا عظيمًا، فيه الدرس والعِبرة؛ فلما حضرته الوفاة جاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((يا عمِّ، قلْ لا إله إلا الله؛ كلمة أحاجُّ لك بها يوم القيامة))، وكان بجوار أبي طالب أبو جهلٍ وعبدالله بن أمية، فقالا له: أترغب عن دين عبدالمطلب؟ وفي رواية لمسلم أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا تعيُّرُني قريش بها؛ يقولون: حمله عليها الجَزَعُ، لأقررتُ لك بها؛ أي: بالشهادة))؛ [رواه مسلم]، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]، وقد تتابعت المصائب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأولها الحصار الظالم، ثم وفاة أبي طالب الذي كان يدافع عنه، ثم وفاة زوجته خديجة التي كانت تؤازره وتواسيه؛ وحيث اجتمعت تلك المصائب، سمَّى بعضهم ذلك العام بعامِ الحزن، واعترض على تلك التسمية آخرون من أهل السير؛ فقد كان أبو طالب سندًا خارجيًّا للدعوة، وكانت خديجة سندًا داخليًّا بعد الله عز وجل، فلما مات أبو طالب آذت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تؤذيه قبل ذلك، ومن ذلك كان وضْعُ سلا الجزور على رأسه عليه الصلاة والسلام وهو ساجد، وأيضًا خَنْق عقبة بن أبي مُعيط له خنقًا شديدًا، وكذلك عزم أبي جهل على أن يطَأ عنقه، كل ذلك كان بعد وفاة أبي طالب، كما نص على ذلك ابن كثير رحمه الله، ثم بعد ذلك الأذى المتتابع من قريش، فكَّر النبي صلى الله عليه وسلم في مكان يكون أنسب من مكان قريش؛ وهي مكة، فاتجه عليه الصلاة والسلام إلى ثقيف في الطائف، وليس معه من أصحابه إلا زيد بن حارثة، وذلك سنة عشر من البعثة، في شهر شوال، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الطائف، وقابل وجهاءها وكبراءها، ودعاهم إلى الله عز وجل، فلم يستجِبْ إليه أحد منهم، بل أخرجوه منها، ورمَوه بالحجارة عليه الصلاة والسلام، حتى إن رجليه لَتُدْمَيان، وزيد بن حارثة يقيه من الحجارة بنفسه، وشُج رأسه صلى الله عليه وسلم شجاجًا، فانصرف عليه الصلاة والسلام إلى مكةَ، وهو محزون ومهموم، قال: ((ولم أستفِقْ إلا وأنا بقرن الثعالب))، وقرن الثعالب هذا قيل: هو قرن المنازل، كما يقوله القاضي عياض، وقال آخرون بأنه جبل قرب منًى، وقال بعضهم: هو جبل قرب عرفات، قال: ((فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمِع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت، فقال ملك الجبال: يا محمد، إن شئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو الرحيم بأمته: بل أرجو أن يُخرِجَ الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))؛ [رواه البخاري]، ولم يسلم من أهل الطائف إلا رجل واحد، يقال له: عداس، وأيضًا في رجوعه جلس النبي صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة في جوف الليل، فسمع قراءته نفر من الجن، وكانوا سبعة من جن نصيبين، فآمنوا به، وأنذروا قومهم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [الأحقاف: 29].

ذكر ذلك ابن اسحاق وابن سعد وابن القيم، وقال آخرون من أهل السير بأن ذلك السماع للجن كان في ابتداء المبعَث، وقيل بأن الحادثة متعددة هنا وهناك، والله أعلم، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكةَ، بعث عبدالله بن أُريقط إلى الأقدس بن شريق ليجيره في دخول مكة، فاعتذر بأنه حليف لقريش، ثم أرسل إلى سهيل بن عَمرو ليجيره، فاعتذر بأن بني عامر لا تجير على بني كعب، فأرسل إلى المطعم بن عدي ليجيره، فأجابه إلى ذلك، وأذِن له بدخول مكة بجواره، فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح المطعم لبِس السلاحَ هو وأولاده الستة، وذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فجعله يطوف بها وهو وأولاده حرس له، فأقبل أبو سفيان، فقال: هل أجرتَه؟ قال: نعم، قال: إذًا لا نخفر ذمَّتك، وقد حفِظ النبي صلى الله عليه وسلم للمطعم بن عدي إجارته تلك؛ ففي معركة بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كان المطعم بن عدي حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النَّتْنَى - وهم من قتلى الكفار يوم بدر - لتركتهم له))؛ [رواه البخاري].


وبعد تلك الجولة المختصرة في حصار الشِّعْب لبني هاشم، ووفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وماذا كان الواقع هناك، ورجوعه إلى مكة، جاءت قصة الإسراء والمعراج، وهذا ما سنعرضه بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة.

أما الدروس المستفادة من هذا العرض، فكثيرة؛ ومنها:
الدرس الأول: على الداعية إلى الله تبارك وتعالى أن يصبر في دعوته فيما يلاقي من عقبات، وأن يذللها ويسليَ نفسه حيالها بالأجر عليها، وأنها قد تكون أحيانًا ابتلاء له في صبره وإيمانه، ومأخذ هذا من السيرة؛ حيث بقاء النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم في الشِّعْب وحصارهم فيه ثلاث سنين، فصبروا واستمروا في دعوتهم، وثبتوا على إيمانهم، ولم يقلل ذلك الحصار من عزائمهم، فجعلوه فرصة يتعلم بعضهم من بعض.

الدرس الثاني: إن الظلم والظالمين لهم نهاية خاسرة وخاسئة، أما الصلاح والصالحون، فنهايتهم مشرقة ومشرفة إذا صبروا على إيمانهم وصلاحهم وإصلاحهم؛ وذلك أن قريشًا عندما حاصرت المسلمين في الشِّعْب، كانت نهاية قريش خاسرةً، فلم يستفيدوا شيئًا من الحصار، بل انتشر الإسلام بين القبائل، ودخل الناس في الدين أفواجًا، أما المؤمنون بعد فك الحصار عنهم، فقد استعادوا قوتهم، ودعَوا إلى دين الله تبارك وتعالى، وكانوا هم المفلحين الفائزين، بخلاف كفار قريش، فهم الخاسرون الخاسئون.

الدرس الثالث: إن الجليس والصاحب والصديق له تأثيره الواضح على صديقه وجليسه؛ ولذلك قالوا: الصاحب ساحب؛ فهل سيكون مثله في الصلاح والفساد؟ نعم، إلا من رحم الله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل))، ومأخذ هذا من السيرة، عندما حضرت أبا طالب الوفاةُ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عم، قل لا إله إلا الله؛ كلمةً أحاج لك بها عند الله))، فجاءه أبو جهل، وقال: أترغب عن دين عبدالمطلب، فأبى أن يقولها فمات على الكفر، انظر إلى تأثير الجليس مع أن القضية كفر وإيمان، وجنة ونار، فتأمل في أصدقائك وجلسائك، هل أنت مستفيد منهم صلاحًا وإصلاحًا أم غير ذلك، ولا تجامل على حساب دينك، فمن لم تستفِدْ منه، فابعَد عنه؛ لتسلم ويسلم أيضًا قلبُك.

الدرس الرابع: الهداية نوعان؛ الأولى: هداية دلالة وإرشاد؛ وهي التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب، وهي التي بيد البشر، والثانية: هداية توفيق وإلهام، وهي بيد الله تعالى وحده، فعلينا ببذل الهداية الأولى وهي الدلالة والإرشاد مع أولادنا وأهلنا وجيراننا والآخرين، وعلينا سؤال الله تعالى هداية التوفيق لنا ولهم، ولقد بُذلت دلالة الإرشاد لأبي طالب، ولكن الله تعالى لم يرِدْ له هداية التوفيق والإلهام.

الدرس الخامس: ليس على المسلم في دعوته للآخرين إلا البلاغ؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48]، وهذا رحمة من الله تعالى لعباده، فحرِّك لسانك بدعوة الآخرين، وأما استجابتهم، فهي بيد الله تعالى وحده؛ ولهذا بلَّغ النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة لأهل مكة والطائف، بل وبلَّغها للعالمين من الجن والإنس، وأما القَبول والاستجابة، فهذا توفيق بيد الله تعالى يعطيه من يشاء، فمن لم يستجب لدعوة الداعي، فليعلم أنه محروم، فلْيَبْكِ على ذلك الحرمان، وليسأل الله تعالى بصدق أن يرزقَهُ تلك الهدايةَ، فإن لم يعطِه إياها، فهو على خطر عظيم، فأبو طالب حُرم إياها، فكان من أهل النار، والعياذ بالله.

الدرس السادس: رد الجميل صفة جميلة، وخَصلة كريمة، فإذا عمِل أحد معك عملًا جميلًا، فحاول التفاعل بردِّ هذا الجميل عليه بأجملَ منه، فهذا من الخصال الطيبة، والخُلُق الحسن، ولا تكن في حالة من الجمود، فيُحسن الناس إليك، وتنسى إحسانهم، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينسَ الفعل الجميل من أبي طالب؛ حيث دافع عنه أبو طالب، وقام على حمايته، فردَّ له الجميل، فحرَص على ألَّا يموت إلا على الإسلام، فحاول معه بالشهادة، ولكن جليس السوء بقدر الله تعالى الكوني كان حاضرًا، فصرفه عن ذلك، وذلك كله بتقدير الله تعالى، نسأل الله عز وجل الثبات على الحق في الدنيا والآخرة.

الدرس السابع: من فضل الله تعالى على بعض الناس أن يجعلَه مفتاحًا للخير، حاثًّا عليه، وبعضهم يخذله الله تعالى، ويجعله مفتاحًا للشر مِغلاقًا للخير، فتأمل في معاملتك وتصرفاتك مع الآخرين من أيهما أنت، ومأخذ هذا من السيرة من موقف أبي جهل مع أبي طالب؛ حيث كان مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير، فقد أغلق عليه باب الدخول في الإسلام، وحثه على بقائه على الشرك في دين عبدالمطلب، فإياك أن تكون بلسان حالك أو مقالك مغلاقًا للخير.

الدرس الثامن: التوبة بابها مفتوح، وهي بإذن الله تعالى مقبولة، إذا تمت شروطها، حتى ولو كانت في مرض الموت ما لم تُغَرْغِر الروح أو تخرج الشمس من مغربها، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي طالب وهو في مرض موته، فعرض عليه الشهادة، فدلَّ ذلك على قبولها لو نطق بها، فلنسارع جميعًا إلى التوبة والأوبة، فمن تاب التوبة الصادقة، فليُبْشِرْ بثماني فوائد عظيمة؛ الأولى: أنها تكفر سيئاته، والثانية: أنها تبدل إلى حسنات، والثالثة: أن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده فرحًا شديدًا، والرابعة: أن الملائكة تدعو له بالمغفرة؛ قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ﴾ [غافر: 7]، الخامسة: أن الملائكة تدعو له بالوقاية من عذاب الجحيم؛ قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]، السادسة: دعاء الملائكة له بدخول الجنة؛ قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ﴾ [غافر: 8]، السابعة: دعاء الملائكة لآبائهم وأزواجهم وذرياتهم الصالحين؛ قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ [غافر: 8]، الفائدة الثامنة للتوبة: دعاء الملائكة له بالوقاية من السيئات؛ قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ﴾ [غافر: 9]، فهذه من ثمار التوبة فلنسارع إليها؛ والله تعالى يقول: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وأما إذا مات ولم يتُبْ، فأمره إلى الله، ولكنه على خطر من تلك الفعال السيئة، التي لم يتب منها، وإذا استدام المعصية، فإنه يجمع على نفسه سيئات هو في غِنًى عنها.

الدرس التاسع: سعة سمع الله تبارك وتعالى؛ حيث أرسل الله تعالى ملك الجبال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: ((قد سمع الله قول قومك لك))، فالله تعالى من أسمائه السميع، فلنتقِ الله تعالى في أقوالنا ولفظاتنا، فإن الله عز وجل يسمعنا في جميع أحوالنا في سرنا وعلانيتنا، فلْنَسْتَحِ من الله تبارك وتعالى أن نلفظ ما لا يرضيه من آفات اللسان كالغِيبة والنميمة وغيرهما؛ فاللسان من أعظم الجوارح كسبًا للحسنات والسيئات، فاستشعر حال كلامك بالخير وغيره، فإن الله عز وجل يسمعك، فإن هذا الاستشعار يزيدك من الخير، ويرغِّبك فيه، ويجعلك تنزع عن الشر ويبعدك عنه.

الدرس العاشر: عِظمُ شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة واستشراف المستقبل والتفاؤل الطيب؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام لملك الجبال: ((لعل الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا))، وفعلًا تحقق هذا التفاؤل الطيب، وأخرج الله من أصلابهم من يدعو إلى الله تعالى، وينصر هذا الدين، فكن - يا أخي الكريم - في تفكيرك وتصورك للأشياء بعيدَ النظر، متفائلًا مستشرفًا لمستقبل مشرق، صابرًا على تحقيق ذلك، ولا تستعجل؛ فإن المخرجات للأعمال لا تأتي سريعة، ولا تأتي دفعة واحدة؛ فالصبر وبُعد النظر خَصلتان كريمتان وخُلُقان حسنان، لعلنا أن نتحلى بهما، وعكس ذلك الاستعجال في تصور الأمور وسرعة الحكم عليها، وعدم الصبر حيالها.

الدرس الحادي عشر: إن النبي صلى الله عليه وسلم كانت رسالته للثَّقَلَينِ؛ الجن والإنس، وهو عليه الصلاة والسلام مرسل للعالمين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، فقد سمِعه جنُّ نصيبين، فولَّوا إلى قومهم منذرين، ففي الجن صالحون وغير صالحين، كما هو في الإنس.

الدرس الثاني عشر: أهمية إحياء قيمة الوفاء بالجميل، وعدم نسيان الفضل لأهل الفضل، فإذا أسدى أحد من الناس إليك معروفًا، فإياك أن تنساه، بل كافئه عليه بالجميل بخدمة مماثلة أو بالشكر المتكرر، أو بالدعاء، أو بالزيارة، أو نحو ذلك؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237]، ومأخذ هذا أن المُطعِم بن عَدي عندما أجار النبي صلى الله عليه وسلم لدخول مكة بعد رجوعه من الطائف، وفَّى له النبي صلى الله عليه وسلم بالجميل؛ فقال عليه الصلاة والسلام في قتلى بدر: ((لو كان المطعم بن عدي حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى يوم بدر، لتركتهم له))؛ [رواه البخاري]، فلا تنسَ فضل الآخرين عليك في خطأ واحد يخطئونه تجاهك، فإن عدم نسيان الفضل صفة كريمة، وخَلَّة فاضلة، اجتَهِدْ في الاتصاف بها، فإنها من الخلق الحسن الذي يحبه الله تعالى، ويحبه رسوله عليه الصلاة والسلام، أسأل الله تبارك وتعالى أن يوصلنا دار السلام بسلامٍ، وأن يغفر لنا ووالدينا والمسلمين، وأن يجعلنا من أحبِّ عباده إليه، وأن يجعلنا من المقتدين بنبيه عليه الصلاة والسلام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.






ابوالوليد المسلم 30-06-2022 07:43 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (8)
الشيخ خالد بن علي الجريش

الحلقة الثامنة من برنامج (خاتم النبيين)

الإسراء والمعراج

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين وأصلي وأسلم على من أُرسل رحمة للعالمين النبي المصطفى الكريم وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فسبَق معنا مستمعي الأكارم في الحلقة الماضية الكلام عن حِصار كفار قريش لبني هاشم في الشِّعب عدة سنوات، وأيضًا كذلك سبق معنا ما أُصيب به النبي صلى الله عليه وسلم من مصائب عظيمة في وفاة عمِّه أبي طالب الذي كان يدافع عنه، وأيضًا وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت تؤازره، وأيضًا في ذَهابه عليه الصلاة والسلام إلى ثقيف في الطائف، وكان يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، وما حصل له عليه الصلاة والسلام في رجوعه، هذا كله ما سبق معنا في الحلقة الماضية، ونحن الآن في هذه الحلقة بصدد الحديث عن حادثة الإسراء والمعراج.

جاءت تلك الحادثةُ العظيمة حادثة الإسراء والمعراج تثبيتًا للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له بعد تلك السنين من الدعوة، وما لقِيهُ من الأذى عليه الصلاة والسلام فيها، وأيضًا لتكون معجزة له صلى الله عليه وسلم، ودليلًا على صحة نبوته، والمقصود بالإسراء هي تلك الرحلة العجيبة التي بدأت من مكة في المسجد الحرام إلى بيت المقدس في المسجد الأقصى؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى عنها: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1]، ويقصد بالمعراج أيضًا ما بعد تلك الرحلة من الصعود بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلا ولُقياه الأنبياء، وما حصل فيها من تشريع وآيات عظام ابتدأت تلك الرحلة من مكة مِن جوار الكعبة كما في الصحيحين، وقال بعضهم: إنه كان من بيت أم هانئ، ولكنه ضعَّفه جمعٌ من أهل العلم، فالذي ورد في الصحيحين أنه من الحِجر، وقد ذكر ذلك ابن كثير والذهبي وغيرهما، وكانت وسيلته البراق في حادثة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس، وهذا البراق هو دابةٌ بيضاء طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفهِ، كما عند البخاري ومسلم، وكان الإسراء والمعراج في ليلة واحدة وقد وقع مرة واحدة أيضًا فقط في مكة قبل الهجرة، وقال الواقدي رحمه الله: إنه قبل الهجرة بسنة في شهر ربيع الأول، وقال: هو رأي الكثيرين، وكان ذلك بجسده وروحه عليه الصلاة والسلام يقظةً لا منامًا، وقيل في تاريخ الإسراء أقوال أُخرى، ولكن المتفق عليه أنه بعد عودته من الطائف عليه الصلاة والسلام.

والحديث الوارد في قصة الإسراء والمعراج هو حديث طويل جدًّا، فيمكن الرجوع إليه في صحيح البخاري، ولقد كانت تلك الرحلة من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام ومن معجزاته أيضًا، حتى أثارت أفكار كفار قريش وأذهانهم، فذهب بعضهم إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقالوا: إن صاحبك يزعُم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أهو قاله؟ قالوا: نعم، قال: إن كان قاله فقد صدق، ولهذا سُمي الصديق رضي الله عنه، وقال أيضًا: إني أصدقه بما هو أبعد من ذلك، إني أصدِّقهُ بخبر السماء في بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وقد رأى عليه الصلاة والسلام في عروجه إلى السماوات شيئًا من آيات الله تعالى الكبرى والتقى بالأنبياء، ووصف هيئاتهم، ثم رُفع إلى سدرة المنتهى عليه الصلاة والسلام، ورأى أيضًا جبريل على هيئته التي خُلق عليها وقد رآهُ قبل ذلك عند بداية الوحي، وله ستمائة جناح، وكان موقف قريش من تلك الحادِثة هو التكذيب؛ حيث إنهم كفروا بنبوته عليه الصلاة والسلام، وأما السواد الأعظم من المسلمين، فزادتهم تلك الحادثة إيمانًا وتسليمًا، وقد تأثر بعضهم كما ذكره ابن هشام رحمه الله، ولقد بدأت قريش تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عند الحجر عن بيت المقدس وعن أوصافه التي يعرفونها، فما سألوه إلا أجابهم عليه الصلاة والسلام حسب الواقع والحال؛ حيث ورد في الصحيحين أنه قال عليه الصلاة والسلام: (فجلَّى الله لي بيت المقدس، فطفِقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)؛ رواه البخاري ومسلم.

وهذه معجزة أخرى له عليه الصلاة والسلام، وحال عروجه إلى السماوات كان يلتقي بنبي واحد أو أكثر، فيسلم عليه ويدعو له، وانطلق به جبريل إلى فوق السماوات السبع حتى بلغ سدرة المنتهى، ثم تأخر جبريل وعُرج به عليه الصلاة والسلام حتى سمع صريف الأقلام، وهنا جاءت فرضية الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: فأوحى الله إليَّ ما أوحى، ففرض على خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فرجعت فمررت على موسى عليه الصلاة والسلام، فقال: بِمَ أمرك؟ فقلت: فرض عليَّ خمسين في كل يوم، فقال موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك إلى آخر الحديث الطويل، وفيه: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى، حتى قال: يا محمد، إنهنَّ خمسُ صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، إلى أن قال في آخر الحديث: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه؛ الحديث بطوله؛ رواه البخاري ومسلم، فليُرجع إليه.

وكانت الصلاة في أول فرضيتها ركعتين في كل وقت صلاة عدا المغرب ثلاث ركعات، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فُرضت أربعًا في الظهر والعصر والعشاء، وذلك في الحظر وأقرت ركعتين في السفر كما تقوله عائشة رضي الله عنها.

وكانت الصلاة في أول فرضيتها إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، وقيل سبعة عشر شهرًا، وبعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، صرفت القبلة إلى الكعبة، وقد كان تاريخ فرضية الصلاة هو تاريخ حادثة الإسراء والمعراج، وقد اختُلف فيها كما سبق، فقيل قبل الهجرة بسنة وقيل بثلاث سنوات، وقيل غير ذلك، لكنهم اتفقوا على أنها بعد رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يدعو القبائل إلى الله تعالى، فهو ينتظر القبائل القادمة إلى مكة للحج وغيره، فيعرض عليهم الإسلام، وكان يقول في رسالته عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله، تُفلحوا وتملِكوا بها العرب، وتذل لكم بها العجم، وكان الحظ الأكبر في الدخول إلى الإسلام للأوس والخزرج رضي الله عنهم، فقد أمن عددٌ منهم، وقال بعضهم لبعض: والله إنه النبي الذي تعدكم به يهود، فلا تسبقوا إليه وانصرفوا إلى بلدهم المدينة، ودعوا أهلهم وقراباتهم، وأسلم بعض أهل المدينة، وفشا فيهم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك تمهيدًا لهجرته وانتشار الإسلام في المدينة.

ثم حصلت بعد ذلك بيعة العقبة الأولى؛ حيث إن النفر الذين أسلموا من الأوسِ والخزرج سابقًا دعوا قومهم في المدينة، فجاؤوا مرةً أخرى، ومعهم نفرٌ غيرهم ممن أسلم من أهل المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا اثني عشر رجُلًا، فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام والإيمان، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: إن وفيتم فلكم الجنة، وكانت تلك البيعة فتحت الباب واسعًا لإسلام أهل المدينة، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعَثْ لنا قارئًا يُقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير رضي الله عنه، فسُمي مقرئ المدينة، ورغم صغر سن مصعب إلا أنه كان له شأنٌ عظيم وأسلم على يديه الكثير من أهل المدينة، وكان منهم أسيد وسعد سيد بني عبد الأشهل، فلما أسلمَ هذان لم يبقَ أحدٌ في بني عبد الأشهل إلا أسلم، فيا بشرى مصعب بذلك، وكانت قريش تحذر جميع القادمين إلى مكة من الاستماع إلى محمد، فحذروا كثيرًا منهم.

وكنموذج من هؤلاء الذين حذروهم الطفيل بن عمرو الدوسي، فلما قدم مكة استقبلوه فحذروه أشد التحذير، حتى وضع على أذنيه الكرسف وهو القطن؛ حتى لا يسمع شيئًا من النبي عليه الصلاة والسلام، يقول الطفيل: فغدوت إلى المسجد، فإذا أنا قُرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فسمعته صدفة يقول بعض الكلمات، فكان كلامًا حسنًا، فقلت في نفسي: إني لأعرف السحر والشعر، إن كلامه لحسن فما يمنعني أن أسمع منه، فتبعته عندما خرج من المسجد حتى دخل بيته ودخلت معه، وقلت له تحذير قريش لي من سماعي لك، فاعرِض عليَّ ما لديك، فعرضه وقرأ القرآن، ليقول الطفيل: فوالله ما سمعت قولًا أحسن منه ولا أعدل منه، فأسلمت في ساعتي وآمنت وشهدت شهادة الحق، فعاهدته على دعوة قومي إلى ذلك الدين.

أما الدروس المستفادة مما سبق عرضه فكثيرة، منها:
الدرس الأول: معجزاته عليه الصلاة والسلام ودلائل نبوته عندما يقرؤها المسلم، فإنه يزداد بذلك إيمانًا وثباتًا؛ لأن المعجزة هي أمر خارق للعادة، ودليلٌ على صدق من جرت على يده من الأنبياء، فكم نحن بحاجة يا إخواني وأخواتي الكرام؟ إلى الاطلاع على تلك المعجزات والدلائل، حتى نكسب من خلال ذلك الثبات وتقوية الإيمان، فإن الله عز وجل قد أيَّد أنبياءه ورسله بها لتكون دليلًا على صدقهم.

الدرس الثاني: إن المعجزة عندما تحصل على يد أحد الأنبياء والرسل، وتكون ثابتة، فإن موقف المسلم هو التسليم والإيمان بها، أما تكييف العقل لها، فهو غير لائقٍ؛ لأن العقل له حد محدود، كما أن للبصر حدًّا محدودًا، فاني العقل لا يعرف ما وراء ذلك الخارق، فإن المعجزة خارق على خلاف العادة وفوق مستوى العقل، فالإيمان والانقياد والتسليم لذلك هو الصحيح والأسلم.

الدرس الثالث: بعد حصول عددٍ من المصائب للنبي صلى الله عليه وسلم من حصاره في الشِّعب ووفاة عمه وزوجته خديجة، وما قابله به ثقيف في الطائف وكفار قريش من سوءٍ، وغير ذلك من المصائب جاءت حادثة الإسراء والمعراج إكرامًا للنبي عليه الصلاة والسلام، فيُطلعه الله تعالى على آيات كبرى، ويلتقي بالأنبياء، إن هذا لا شك أنه تقوية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأييد له وشرح لصدره، وإزالة لحزنه وارتباطٌ بربه وخالقه، فعلى المسلم إذا حلت عليه المصائب والأحزان والهموم أن يتجه إلى مولاه عز وجل بالدعاء والذكر والصلاة، فإن ذلك لا شك أنه يخفف، بل يزيل الإشكال؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 45].

الدرس الرابع: عظمة قدرة الله تعالى وهو الفعَّال لما يريد، فتأمل كيف تَم الإسراء من مكة إلى القدس، ثم المعراج إلى ما فوق السماء السابعة مع ما حصل من الآيات والتشريعات، ثم الرجوع إلى مكة من القدس، وكل ذلك بليلة واحدة، فإن الله على كل شيء قدير، وإذا أراد شيئًا فهو عليه قادرٌ وأمره، إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، فلا تستعظم شيئًا تسأله ربك، وثقْ به وظنَّ به الظن الحسن، واعلم أنه على كل شيء قدير، إن تأمُّلك لقدرة الله تبارك وتعالى يوجب تعظيمه في نفسك، وإذا عظَّمته أطعته ولم تعصه؛ لأنه عظيم، وهذا العظيم ثوابه جزيلٌ وعذابه أليم، وهو كما هو شديد العقاب، فهو أيضًا الغفور الرحيم.

الدرس الخامس: حين فرضت الصلاة كانت خمسين صلاة، ثم تسلسل التخفيف من الله تعالى على عباده إلى خمس صلوات رحمة بهم، وكل هذا التخفيف والمراجعة بين موسى وربه كله بقدر الله تعالى ورحمته، إن هذا التخفيف في الفعل لخمس مع بقاء الأجر لخمسين صلاة، هو رحمة من الله تعالى وفضل، وهذا يستوجب على العباد الشكر والثناء، والحمد لله رب العالمين، مع حسن الأداء لتلك الصلاة، والمحافظة عليها فإن الفرض استقرَّ في نهاية الأمر على العُشر مما فرض في أول الأمر، فالخمس هي عُشر الخمسين، فهي بفضل الله ورحمته خمس في الفعل وخمسون في الأجر، فلنحافظ عليها أشد المحافظة في أوقاتها وضوابطها قولًا وفعلًا، فما ظنكم يا كرام لو كانت خمسين صلاة، فماذا سيلحق من المشقة؟ لكن الغفور الحليم الرؤوف بعباده جعلها خمسًا فقط، فتأملوا تلك الرحمة الواسعة، وذلك الفضل العظيم، وقوموا بما أوجَب الله عليكم خيرَ قيامٍ، فالصلاة ستشفع لكم أو تخاصمكم حسب محافظتكم عليها، أو تضييعكم لها، فهي تقول: حفِظك الله كما حفظتني، أو تقول: ضيَّعك الله كما ضيعتني.

الدرس السادس: إن مصعب بن عمير رضي الله عنه لَما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليقرئهم، فهو نعمُ المعلم والداعية، فهو قدوة لنا بعد نبينا عليه الصلاة والسلام في تعليم الناس للخير ودعوتهم إليه، فاحرِص أخي الكريم أن يكون لك بصمة إيمانية، أو اجتماعية، أو تربوية، أو غيرها على غيرك في مجالسك ومحادثاتك ورحلاتك وسفراتك، ووسائل تواصلك.

إن تلك البصمة التي تجعلها في الناس هي صدقة جارية لك، وإليك ذلك الموقف يقول أحدهم: كنا في رحلة دورية مع بعض الزملاء، فتحدث أحدهم لمدة محدودة ثلاث دقائق عن فضيلة صيام الاثنين، فلما انتهينا وذهبت إلى زوجتي، أخبرتها بما سمعت، فعزمنا على صيام الاثنين من كل أسبوع، فما زلنا نصومه مدة تصل إلى ثلاثين عامًا، وما زلنا نصومه، فكان مجموع ما صامه هو وزوجته ثلاثة آلاف يوم، فهي في موازينهم ومثلها في موازين ذلك المتحدث في تلك الدقائق المحدودة، فأوصيك ألا تحضر مجلسًا إلا ويكون لك فيه بصمة خير على الجالسين، وهذا جانب كبير من الدعوة، كما كان يفعله مصعب ابن عمير رضي الله عنه وغيره من الصحابة.

الدرس السابع: إن المسلم عندما يتأمل ويتدبر القرآن، يزداد معرفة وإيمانًا ونقاوة، ويكسب معرفة الأحكام والحكم، ولذلك لما حذَّرت قريش الطفيل بن عمرو من سماع النبي صلى الله عليه وسلم، عزم هو على ذلك، لكنه سمع شيئًا من كلامه فتدبَّره وتأمَّله، فرآه حسنًا وجميلًا، فكان سببًا في إسلامه وإسلام من وراءه، فكان التدبر والتأمل للقرآن غاية في الأهمية، ولو كنا كذلك في قراءاتنا لاختفى كثيرٌ من السلوكيات السلبية القولية والفعلية، أرأيت من يغتاب الناس كمْ مرة قرأ قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ [الحجرات: 12]، وهكذا سائر المخالفات من الربا والنظر المحرم، والسماع المحرم والسرقة وغير ذلك، فلنحاول تصحيح مسارنا من خلال تدبُّرنا وتأمُّلنا لنصوص الوحيين، ونفعل فعل الطفيل بن عمرو رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.

الدرس الثامن: إذا أراد الله تعالى بعباده خيرًا ساقه إليهم وساقهم إليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لَما كان يدعو الوافدين إلى مكة لم يستجب له الكثير، لكن لما أراد الله بالأوس والخزرج خيرًا، ساق إليهم اللقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ووفَّقهم للإيمان به والدعوة إلى دينه، فبايعوه عليه الصلاة والسلام على الإيمان به والسمع في المنشط والمكره، وبلَّغوا من وراءهم ودعوهم إلى دين الله عز وجل، حتى دخل الأوس والخزرج في دين الله أفواجًا، وبَقِيَ ذكرهم غالبًا في المدينة عبر التاريخ.

الدرس التاسع: أننا حين ندرس السيرة ونعرف حال العهد الأول، وكيف وصِل إليهم هذا الدين بعد أنواع من الشرك، وكان هذا الدين الحنيف لم يطرق أسماعهم من قبلُ، فبعضهم أمن وبعضهم كفرٌ، وحصل القتال لهؤلاء الكفار، وحصلت المصائب العظيمة من الحصار والهجرة والأذى للمؤمنين من قريش أننا حينما نقرأ ذلك لنُدرك نعمة الله تبارك وتعالى علينا؛ حيث جاءنا هذا الدين صافيًا، وعلى فطرة سليمة، ولله الحمد والمنة، مما يجعلنا نلهج كثيرًا بالثناء على الله عز وجل وحمده على نعمة الإسلام، ونسأله الثبات عليها، فهذه نعمة عظيمة جديرة بالتأمل؛ لنعلمَ عِظَمَ نعمة الله تبارك وتعالى علينا، فالجيل الأول بذلوا جهودًا عظيمة في أموالهم وأنفسهم وأوقاتهم؛ ليوصلوا إلينا هذا الدين، فنحن بحمد الله تعالى نتفيأ ظلاله، فعلينا القيام بالواجب في نقله إلى من بعدنا، وتوعية بعضنا بعضًا بحكمه وأحكامه.

الدرس العاشر:إن حادثة الإسراء والمعراج تشهد ربطًا وثيقًا بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى هو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القبلة الأولى للمسلمين، ففي عهد الصحابة وقع المسجد الأقصى تحت عهد الرومان، ثم حرَّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبعد خمسة قرون عاث فيه الصليبيون فسادًا، فحرَّره صلاح الدين، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يعيده في وقتنا الحاضر إلى حياض المسلمين؛ لينعموا بالصلاة فيه آمنين.

إن دراسة السيرة واستخراج الدروس والعبر مهم جدًّا للثبات على دين الله تبارك وتعالى، والتوعية بأمر هذا الدين، وكم هو جميل أن تعقد الأسرة مجلسًا ولو أسبوعيًّا لمدارسة ذلك ومعرفته، أرجو منك أخي الكريم تطبيق ذلك تفقهًا وتعبدًا وطلبًا للعلم، وتوعية للجميع، نسأل الله تبارك وتعالى السداد والرشادَ والهدى والتقى، وهذه جولة مختصرة حول الإسراء والمعراج والبيعة الأولى للعقبة، وبعض الدروس المستفادة منها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.




ابوالوليد المسلم 30-06-2022 07:45 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (9)
الشيخ خالد بن علي الجريش

الحلقة التاسعة من برنامج (خاتم النبيين)

بيعة العقبة الثانية


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

سبَق لنا في الحديث في الحلقة الماضية عن حادثة الإسراء والمعراج وأسرارها، وما فيها من الآيات والتشريعات، مع عرضٍ مختصر لبيعة العقبة الأولى، مستخرجين من ذلك الدروس والعبر المستفادة من هذا كله.

وحديثنا في هذه الحلقة عن بيعة العقبة الثانية، وهي تختلف عن الأولى في عددها وهيئتها وسببها، أما عن عددها، فكانوا سبعين رجلًا، وقيل: ثلاثة وسبعون رجلًا، خرج هؤلاء السبعون من المدينة إلى الحج، مع قومهم الذين يبلغ عددهم خمسمائة وهم أخلاط من المسلمين والمشركين، فهؤلاء السبعون هم من المسلمين، فقد قالوا وهم في المدينة: إلى متى نترك رسول الله صلى عليه وسلم يلاحَق ويؤذَى بين كفار قومه، فعزموا على المسير إلى الحج مع قومهم، ومبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدفاع عنه وحمايته، وطاعته في المنشط والمكره، وكان ذلك في السنة الثالثة عشرة من البعثة قبيل الهجرة إلى المدينة، فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم محادثات محاطة بالسرية، فتم الاتفاق بينهم وبينه على أن يلتقوا في الشِّعب المجاور لجمرة العقبة في وسط أيام التشريق، وكان ذلك ليلًا؛ حتى لا يكشف كفار قريش ذلك الاتفاق، ويقول كعب بن مالك: دخلنا مكة فسألنا: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرِفه، فلقينا رجلًا من أهل مكة، فسألناه، فقال: ها هو جالس هو والعباس في المسجد، وكنا نعرف العباس؛ لأنه من التجار الذين يتاجرون نحو المدينة، فدخلنا المسجد فوجدناه والعباس جالسين، فأتيناهما وفرح بنا فرحًا شديدًا، فوعدناه في الشِّعب عند العقبة في وسط أيام التشريق ليلًا، فاجتمعنا في الشِّعب وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه العباس، وكان العباس حينها على دين قومه، وقيل: إنه مسلم يخفي إسلامه، ولكنه أحب أن يحضُر بيعة العقبة لابن أخيه، فتكلم العباس مبينًا أهمية تلك البيعة والوفاء بها في حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحثهم على الوفاء بها، فأجابوا لذلك جميعًا، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم من القرآن، ودعاهم ورغَّبهم في الإسلام، وكانت البيعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأيضًا على الدعوة إلى الإسلام وعلى النصرة والحماية، وأخبرهم بأن لهم على ذلك الجنة، فقالوا ابسط يدك نبايعك، فأمَرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا منهم اثني عشر رجلًا يكونوا رؤساءَ عليهم، فانتخبوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس من كل قبيلة نقيبًا، فبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصافحة بأيديهم تأكيدًا للبيعة، وكان مع هذا العدد امرأتان وهما نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عَمرو رضي الله عنهما، فبايعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المبايعين، غير أنه لم يصافحهما؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يصافح النساء، وإنما يبايعهنَّ بالكلام، وقال أحد المبايعين وهو العباس بن عبادة: إن شئتَ يا رسول الله لنميل على المشركين اليوم بأسيافنا، فقال عليه الصلاة والسلام: لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم.

وبعد تمام تلك البيعة الثانية انكشف سرُّها لأهل مكة، وذلك بمناداة الشيطان لأهل مكة؛ يقول كعب: فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قائلًا: يا أهل الجباجب يعني المنازل، هل لكم في مذمم يعني محمد صلى الله عليه وسلم والصُّباة يعني المسلمين المبايعين، فقد اجتمعوا على حربكم، فلما علمت قريش بذلك اتجهوا إلى منازل المشركين من الأوس والخزرج الذين قدموا للحج، فسألوهم عن الخبر، فقالوا: لا نعلم شيئًا من ذلك، فلما مضت أيام التشريق اتَّضح بجلاء وقوع البيعة من هؤلاء للنبي صلى الله عليه وسلم، فذهبت قريش تبحث عنهم لم يُدركوهم، فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة رضي الله عنه، فقد جاؤوا به إلى مكة وعذَّبوه، ولم يستخرجه منهم إلا جبير بن المطعم بن عدي؛ حيث إنه أجاره سعد في تجارة له في المدينة، وهكذا يحفظ الله تعالى أولياءه من كيد الكائدين، وهذه البيعة الثانية لها فضلها العظيم، ولها أثرها على فُشوِّ الإسلام وانتشاره، وقُرنت تلك البيعة بغزوة بدر على فضلها؛ حيث ورد في بدر افعلوا ما شئتم، فقد غفرت لكم؛ حيث يقول كعب بن مالك وهو أحد المبايعين: لقد شهدت بيعة العقبة حيث توافقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بي بها مشهدَ بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها؛ متفق عليه.

يقول ابن حجر في الفتح وإن كانت بدر أول غزوة نصر فيها الإسلام، إلا أن بيعة العقبة كانت سببًا في فشو الإسلام، ومنها نشأت غزوة بدر، ولما رجع الأنصار بعد تلك البيعة الثانية إلى المدينة، أظهروا الإسلام ودعوا إليه، وكان في قومهم بقايا على الشرك، وكان من هؤلاء بقايا عمرو بن الجموح من سادات بني سلمة، وكان ابنه معاذ شهد تلك البيعة، وكان عمرو قد اتخذ صنمًا في بيته وأسماه مناة، فلما أسلم بعض الفتيان من بني سلمة بدؤوا يدخلون ليلًا على صنم عمرو، فيحملونه ويطرحونه في بعض الحفر المتسقة والقذرة، فإذا أصبح عمرو فلم يجد صنمه ذهب يبحث عنه، فيجده في ذلك المكان المتسخ، فيأخذه ويغسله، ويقول: أما والله لو أعلم من فعل ذلك فيك لأُخزينه ولأفعلنَّ ولأفعلنَّ، فيفعلون ذلك مرارًا، وهو إذا أصبح من كل مرة فعل مثلما فعل في الأولى ينظِّفه ويغسله، فلما أكثروا عليه من ذلك جعل عمرو السيف على الصنم، وقال له: إن كان فيك خير فامتنع، فلما نام عمرو عَدَوْا هؤلاء الفتية على الصنم كما كانوا يفعلون، فلما أصبح عمرو وجده في ذلك المكان السابق مع القاذورات والأوساخ، فحينها علم أنها أصنام لا تنفع ولا تضر، فأسلم وحسُن إسلامه رضي الله عنه، فهؤلاء المبايعون ومن أسلم معهم، أطلق عليهم القرآن الأنصار؛ حيث إنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولئك الذين قبلهم هم المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضل الله ورضوانه، وقد ذكر الله تعالى في سورة الحشر ثلاث فئات:
الفئة الأولى: المهاجرون، فقال تعالى فيهم: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ﴾ [الحشر: 8].

والفئة الثانية: الأنصار، فقد قال الله تعالى فيهم: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].

والفئة الثالثة: من جاء بعدهم من الصالحين والمؤمنين إلى يوم القيامة، فقال الله تعالى فيهم: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10].

وهذه البيعة الثانية هي بيعة العقبة الكبرى وهي حلقة من حلقات النصر والتمكين من الله تعالى لنبيه وللمؤمنين، وإن الله عز وجل لما شرع هذا الدين تكفَّل بحفظه ونُصرة أهله، ولكن الله عز وجل يبتلي عباده وخلقه، فيدال للحق على الباطل أحيانًا، ويدال للباطل على الحق أحيانًا أخرى، وذلك قدر من الله تعالى تنطوي تحته حِكَمٌ عديدة، ليتضح المخلص من المرائي والمنافق من المؤمن، وقوي الإيمان من ضعيفة والآمر والناهي من غيره، ولتقوم الحُجة على الخلق وقوام ذلك كله، هو قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 109]، فأمر الله تعالى في تلك الآية بأمرين مهمين، وهما: الأول: الاتباع للشرع، والثاني: الصبر عليه، ففيهما ينجو المسلم ويفلح في الدنيا والآخرة.

وبعد تلك الجولة في بيعة العقبة الثانية نستخلص دروسًا عظيمة التي من أهمها ما يلي:
الدرس الأول: إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم عملٌ صالح جليل، بل هو من أوجب الواجبات، وهذه المحبة ليست دعوى فقط، وإنما لها علامة تصدقها أو تكذبها وتقوِّيها، أو تضعفها، وهذه العلامة هي اتباعه صلى الله عليه وسلم والمدافعة عن دينه والدعوة إليه، وهذا الأثر هو سلوك المسلم مع نفسه وإخوانه، ومأخذ ذلك من السيرة أن الأوس والخزرج عندما أسلم بعضهم أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة، فاتبعوه ودعوا إلى دينه ونصروه ودافعوا عنه، وأيضًا دافعوا عن سنته وعن اتباعه، فلنكن كذلك لتَقْوى محبتنا لنبينا عليه الصلاة والسلام، ولنكسب الأجور العظيمة من خلال ذلك.


الدرس الثاني: إن الله عز وجل يحفظ أولياءَه من كيد أعدائهم، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ ما أمره الله به ودعا إلى دين الله، فحفظه الله تعالى وحفِظ مَن آمن به من كيد كفار قريش، وأما ما يصيب الدعاة من أذى، فهو تمحيص لهم وتكفيرٌ، ورِفعة في الدرجات وابتلاءٌ لهم أيضًا في دعوتهم، فليصبروا وليتأملوا أن العاقبة للمتقين وأن الخسارة على الكافرين.


الدرس الثالث: عندما نتفيأ ظلال السيرة، ونتمعن في أسرارها، نرى الصحابة رضي الله عنهم عندما يبلغهم الأمر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، يسارعون في الاستجابة لله ورسوله من غير مجادلة أو مناقشة، ما دام أن الأمر أو النهي من الله أو رسوله عليه الصلاة والسلام، سواء في الدخول في الإسلام، أو فعل الأوامر وترك النواهي حال إسلامهم، وهذا هو شأن المسلم الحق، وهو التسليم والانقياد لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام، فلا يعارض أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام برأيه وعقله، ولهذا لما قالوا لأبي بكر رضي الله عنه في حادثة الإسراء والمعراج أنها حصلت في ليلة واحدة، قال رضي الله عنه قولته المشهورة: إن كان قاله فقد صدق، فعلى المسلم أن يتأمل أقواله وأفعاله وتصرفاته، هل هي متوافقة مع أمر الله ورسوله أم مخالفة، فحسن الاستجابة هو الإسلام والإيمان الحق، وينقص الإيمان بقدر نقص تلك الاستجابة في الأوامر والنواهي، فاحرِص أخي الكريم على ذلك فهو خير كله.


الدرس الرابع: النبي صلى الله عليه وسلم بايع الصحابة رضي الله عنهم في بيعة العقبة، وصافَحهم، وكان معهم امرأتان أسلمتا وبايعتا النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه بايعهما بالكلام وليس بالمصافحة، ونستلهم من ذلك درسًا عظيمًا، وهو عدم جواز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية عنه، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما مسَّت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا تحل له، ما كان يبايعهنَّ إلا بالكلام، وقد سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: هل يجوز مصافحة المرأة الأجنبية ولو من وراء ساتر على يدها? فأجابت بما يلي: لا يجوز للمرأة أن تصافح الرجال الأجانب ولو من وراء ساتر، وجريان العادة بذلك عند بعض المجتمعات لا يبيح ما حرمه الشرع عليها؛ انتهى. فعلينا جميعًا حسن الاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو الأسلم والأحكم والأتقى.


الدرس الخامس: عِظم الفضيلة التي حباها الله عز وجل للمبايعين في تلك البيعة الثانية، فقد كانت نصرًا عظيمًا للإسلام، وفتحًا مبينًا؛ حيث انتشر الإسلام بعدها وأسلم الكثير من أهل المدينة، وهذا توفيق يسوقه الله عز وجل لمن يشاء من عباده، فعلى المسلم أن يتعرض لتوفيق الله تعالى ونفحاته بفعل الأسباب التي توصله إلى ذلك، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أراد الله تعالى بهم خيرًا، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن بعضهم كان لا يعرفه، فأسلموا وحسُن إسلامهم، ومن جانب آخر تأمَّل حال أبي طالب، فقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم سنين، وأيضًا يدافع عنه، ولكنه لم يرد الله تعالى له الهداية إلى الإسلام، فسبحان من فتح على قلوب هؤلاء وهو أحكم الحاكمين، ونسأله الثبات على الحق في الدارين.


الدرس السادس: إن الوفاء بالعهد والوعد خصلة كريمة وصفة جليلة رائعة، يتصف بها أولو الألباب والعقول الزاكية؛ حيث إن نكث العهد والوعد صفة ذميمة وخصلة مشينة، ومأخذ هذا من السيرة ما فعله أصحابه بيعة العقبة، عندما عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وبايعوه، فقد أوفوا بعهدهم وبيعتهم، وناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا إلى دينه، وهكذا شأن المسلم إذا وعد واحدًا أو عاهده، وفَّى بذلك، وإذا كان ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مع الله تعالى أوثق وأقوى، وقد أخذ الله عز وجل الميثاق على بني آدم وأشهدهم أنه ربُّهم وخالقهم ومعبودهم، فليوفوا بذلك على مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكل معصية هي تمثل نسبة من النقص في هذا الميثاق، فعلى المسلم إذا فعل تلك المعصية أن يستغفر وينيب، فهو أقوى للميثاق، وكلما فعل معصية فليعلم أنه مَن مسَّ ذلك الميثاق بشيء من النقص، فليتداركه بالحسنة تمحو تلك المعصية.


الدرس السابع: إن عمرو بن الجموح رضي الله عنه كان معجبًا بصنمه قبل إسلامه، ويعتقد أنه ينفع ويضر، وهذا كله عندما استقل بعقله واقتدى بجهلة قومه، ولكنه لما تأمل الشرع الحكيم وعظمة الشارع، قاده ذلك بإذن الله تعالى إلى الدخول في الإسلام، إن تدبرنا لمقاصد نصوص الوحيين للكتاب والسنة، سيقودنا ذلك إلى مزيد من العلم والثبات وقوة الإيمان، فكن متدبرًا ولو في بعض قراءاتك لتلك النصوص.


الدرس الثامن: الجزاء من جنس العمل، فإن كان صالحًا كان جزاؤه الثواب، وإن كان سيئًا كان جزاؤه العقاب، فلا تظلم نفس شيئًا، ويقول الله تعالى: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].

إن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لَما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: إن وفَّيتم فلكم الجنة، فكان جزاؤهم موافقًا لعملهم، فقد قاموا بالوفاء أحسن قيام رضي الله عنهم وأرضاهم، فكن أخي الكريم مستلهمًا تلك القاعدة في أقوالك وأفعالك، وهي أن الجزاء من جنس العمل، فمن اغتاب الناس أو ظلمهم ونحو ذلك، فهم سيأخذون حقوقهم منه يوم القيامة مثلًا بمثل وآكل الربا، فلا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان من المس، والمتكبرون يحشرون يوم القيامة كالذر مثلًا بمثل، وهكذا في الأعمال الصالحة والسيئة جزاؤها يماثلها.


الدرس التاسع: قال أحد المبايعين للنبي صلى الله عليه وسلم وهو العباس بن عباده رضي الله عنه: إن شئت لنميل عليهم بأسيافنا غدًا، فجاء التوجيه النبوي الكريم بقوله عليه الصلاة والسلام: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم)، وفي هذا درسٌ عظيم في كبح جماح العواطف، وعدم الاستعجال، وتحقيق الأناة في تحصيل الأمور الشرعية، فالعواطف ليست مقياسًا لتحصيل المصالح، وهذا نحتاجه كثيرًا وكثيرًا مع أهلنا وزملائنا وجيراننا وغيرهم، فلا نتصرف تحت توجيه العاطفة، وإنما عليك بالشرع وتوجيهه، فهو خير كله، وهو أسلم وأحكم، فعليك بالتعرف على المواقف وعلاجها من جهة شرعية لتسلم وترتاح.


الدرس العاشر: عندما ذكر الله عز وجل الناس في سورة الحشر ثلاث فئات، وهم الأولى: المهاجرون، والثانية: الأنصار، والثالثة: كل من جاؤوا بعدهم، فهذه الفئة الثالثة في حقها هذا الدعاء العظيم، وهو قولهم: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].

إن هذا الدعاء بقلب حاضر هو دعاء عظيم ينشرح به صدرُك، ويسلم به قلبك، وتسعد به في الدنيا والآخرة.

أخي الكريم إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهج يسير عليه المسلم؛ تزكيةً لنفسه وسلامة لقلبه، وشرحًا لصدره، وتصحيحًا لمفاهيمه، ماذا أخي الكريم لو قرأت في كل يوم ولو عشر دقائق من الوقت أو صفحة أو صفحتين من كتاب، فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا ورائعًا من السيرة النبوية في وقت يسير، فابدأ واستمر، فأنت تقرأ سيرة أعظم رجل في التاريخ وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وما تقرأه أيضًا اذكره في مجالسك لتستفيد ويستفيد غيرُك أيضًا، هذه جولة مختصرة مع بيعة العقبة الثانية، وشيء من دروسها المستفادة، وكونوا على الموعد إن شاء الله تعالى، مع عرضٍ لأول أحداث الهجرة إلى المدينة.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ووفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، واجعلنا يا ربنا ممن يؤتى الحكمة، واغفِر لنا ووالدينا والمسلمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.




ابوالوليد المسلم 23-07-2022 07:04 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (10)
الشيخ خالد بن علي الجريش

الحلقة العاشرة من برنامج (خاتم النبيين)




بداية الهجرة وأحداثها


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ومصطفاه وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

ذكَرنا في الحلقة الماضية عرضًا لبيعة العقبة الثانية في سببها وعدد المبايعين فيها وشروطها ونتائجها، وكذلك المواقف التي فيها والدروس المستفادة منها، وننتقل في حلقتنا هذه إلى فاصل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو الهجرة إلى المدينة.

إن حدث الهجرة إلى المدينة حدثٌ عظيمٌ وتحوُّلٌ كبيرٌ في مسار الدعوة وفي مستقبل الإسلام، وهو مرتبطٌ ببيعة العقبة الثانية، وكذلك مرتبط بأحوال المسلمين في مكة، ولعل هناك أسبابًا عدة في حصول الهجرة إلى المدينة، من تلك الأسباب:
أولًا: اضطهاد المؤمنين في مكة والتضييق عليهم، حتى خشي هؤلاء المؤمنون على أنفسهم فتنتَهم في دينهم، ولذلك تجد منهم مَن هاجر إلى الحبشة، ومنهم من هاجر إلى المدينة، والسبب الثاني في حصول الهجرة إلى المدينة تكذيب قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة لوجود الأنصار فيها، خصوصًا أصحاب بيعة العقبة الثانية ومَن أسلم بعدهم، ثالثًا من الأسباب تآمُر قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصًا بعد وفاة أبي طالب وأذيَّتهم له والتضييق عليه، رابعًا من الأسباب التي جعلت المؤمنين يهاجرون إلى المدينة أنهم هاجروا؛ ليعبدوا الله عز وجل في مكان آخر أكثر أمنًا وأقل أذية، وأكثر أعوانًا على الخير.

هذه بعض الأسباب لحصول حدث الهجرة التاريخي إلى المدينة، وروى ابن سعد في الطبقات عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما صدر رجال العقبة الثانية من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، طابت نفسُه عليه الصلاة والسلام؛ حيث جعل الله تعالى له منعة وقومًا أهل حرب، وحين علمت قريش بذلك اشتد بلاؤها وأذاها على المسلمين، فشكا المسلمون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنوه في الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أُريت دار هجرتكم ذات نخلٍ بين لابتين وهما الحرتان، ثم بعد أيام أذِن لهم عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى المدينة، وأخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي يعني ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب)؛ متفق عليه.

وبعد ذلك خرج المسلمون أرسالًا من مكة مهاجرين إلى المدينة مشاةً ورُكبانًا على خُفية من قريش، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ينتظر أن يؤمر بالهجرة إلى المدينة، ولم تكن الهجرة سهلة وميسرة؛ لأن قريشًا تضع العراقيل والعقبات أمام المهاجرين، وتَسلُبهم أموالهم، فضحى هؤلاء المهاجرون رضي الله عنهم وأرضاهم بأموالهم مقابل بقائهم في المدينة، وفرارًا بدينهم من الفتنة، وكانت المدينة دار وباء آنذاك، حتى أصاب ذلك الوباء عددًا من الصحابة المهاجرين رضي الله عنهم، وكانوا يُصلون قعودًا من أثره، وعندما علموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم في النوافل، تجشَّموا رضي الله عنهم القيام، فصلوا قيامًا مع ضعفهم وسقمهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه قائلًا: (اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكةَ أو أشدَّ، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مُدنا، وصحِّحها لنا، وانقلْ حُمَّاها إلى الجُحفة)؛ متفق عليه.

وكان المهاجرون إلى المدينة لكل فردٍ منهم أو مجموعة منهم قصةٌ وموقف وحكاية؛ لأن قريشًا كانت كلما علِمت بأحد يريد الهجرة آذتْه وحاولتْ فتنتَه، وربما حبسته، ولذلك لا يجرؤ الكثيرون على الهجرة إلا خُفية، فيمكن الرجوع إلى كتب السِّير للاطلاع على تلك المواقف، ففيها دروس وعبرٌ، وهكذا لم يمضِ شهران على بيعة العقبة حتى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي، أو مفتون أو محبوس أو مريض أو ضعيف عن الهجرة، وكان أبو بكر رضي الله عنه كثيرًا ما يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبًا)، فيطمع أبو بكر أن يكون الصاحب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عند البخاري: على رِسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، وكانت قريش تريد الخلاص من النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر عددٌ من المؤرخين ومنهم ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية، قال: فاجتمع كبار قريش في دار الندوة، وتشاوروا في القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون، ويروي بعضهم أن الشيطان قد حضر معهم ذلك الاجتماع، فقال بعضهم: احبسوه بالحديد ووثِّقوه بالرباط، وتربصوا به حتى يموت، وقال آخرون: ننفيه عن البلاد، ولا يضيرنا بأي وادٍ هلك، وقال أبو جهل: يُؤخذ من كل قبيلة شابٌّ جلد قوي، ثم يجتمعون فيقتلونه بسيوفهم، فارتضوا ذلك الرأي، وعزموا على تنفيذه بتأييد الشيطان لهم، فأخبر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك، فنزل عليه قول الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [الأنفال: 30].

وهذا مما تحيكه قريش للإسلام ولنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، وعندما أُذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة أتى إلى أبي بكر في وقت لم يكن يأتي به إليه، وكان ذلك في الظهيرة متخفيًا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله ما جاء بك تلك الساعة إلا أمر ذو بالٍ، وقد كان عند أبي بكر ابنتاه عائشة وأسماء رضي الله عنهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أخرِج من عندك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما هم أهلك يا رسول الله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أُذن لي في الخروج - أي الهجرة - فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم فبدأ، أبو بكر وأهله بتجهيز الراحلتين والطعام ونحو ذلك، فلم يعلم أحد بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وابنتاه وعلي بن أبي طالب، ثم اتجه إلى جهة الجنوب إلى الغار، مع أن المدينة إلى جهة الشمال، وذلك ليوهم قريشًا؛ حيث إن قريشًا ستبحث عنه في جهة المدينة وهي الشمال، فلما وصلا إلى الغار مكَثَا فيه ثلاث ليال، وكان خروجهما للغار ليلًا، ووصلاه في ظهيرة الغد، وكان عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب حكيم يَبيت عندهما في الغار، فيذهب في السحرِ إلى مكة؛ ليصبح مع قريش في مكة، وكأنه بات معهم ليوهِمهم ذلك، فيسمع أخبارهم فينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وأيضًا عامر بن أبي فهيرة يأتيهما بلبن بعد العشاء، وكان مع أبي بكر ما له لقضاء حاجتهما حال الهجرة، وقد خلد القرآن ذكر أبي بكر رضي الله عنه في أحداث الهجرة؛ حيث قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]، وعندما قدم على الغار قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: مكانك يا رسول الله، حتى أستبرأ لك الغار من السِّباع والحيات، وشارك أيضًا في خدمتهما أسماء بنت أبي بكر؛ حيث كانت تأتيهما بالطعام، وقد سخر أبو بكر رضي الله عنه نفسه وأهله وماله في حدث الهجرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ما نفعني مال قط، ما نفعني مال أبي بكر، فلما سمع ذلك أبو بكر بكى، وقال: (وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله)؛ أخرجه أحمد.

وأما المشركون فقد بقوا ينتظرون خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته، ولم يعلموا أنه في الغار، وقد خرج من بيته وأعمى الله أعينهم عنه، فجاء رجل وهم على هذه الحال، فقال: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: ننتظر محمد يخرج من بيته، قال: خيَّبكم الله قد خرج وما ترك أحدًا منكم إلا ووضع على رأسه ترابًا، فرأوا ذلك التراب، فلم يصدِّقوا الرجل؛ لأنهم نظروا في البيت، فإذا أحد مُسجًّى على الفراش، فقالوا: هذا محمد، فلما قام، فإذا هو علي رضي الله عنه، أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت على فراشه، وأنه لا يمسه منهم شيء، فحينها جُن جنون قريش، وذهبوا يبحثون عنه، ووضعوا مكافأة مقدارها مائة ناقة لمن يأتي به وصاحبه؛ أخرج ذلك البخاري في الصحيح، فركِبوا كل مركب للبحث عنهما، حتى وصلوا إلى قرب الغار، بل وصلوا إلى فم الغار، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؛ رواه البخاري، ومعنى ثالثهما؛ أي: ناصرهما ومُعينهما، ومعهم بعلمه بهما وتأييده لهما، وقد سمع أبو بكر أصوات أقدامهم فأصابه همٌّ وغم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، وقد روى بعضهم أن العنكبوت قد نسجت نسجًا على بعض الغار، فاستبعدوا أن يكون فيه، ولعلنا نذكر شيئًا من الدروس والعبر مما سبق ذكره، ونستكمل مسيرة الهجرة بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة.

أما الدروس والعبر، فكثيرة، منها:
الدرس الأول: إن حدث الهجرة هو فتح من الله تبارك وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وأوليائه؛ حيث حصل لهم عُسر ومشقة وأذية، فأراد الله عز وجل لهم اليُسر، فقدَّر لهم تلك الهجرة المباركة، وإن من الفطرة للمؤمنين أن العُسر يتبعه اليسر؛ حيث يأتي عليه فيخرجه، وقد يتعجل ذلك اليُسر أو يتأخر؛ لأن ذلك بقدر وحكمة من الله تبارك وتعالى، فإذا حصل لك أخي الكريم عسرًا، فادعُ الله تعالى باليسر، وكن على ثقة بإتيانه وحصوله بإذن الله تعالى، فإن هؤلاء المؤمنين قد كانوا ببلدهم مكة، وحصل لهم من الأذية والمضايقة والعسر شيءٌ كثير، فجعل الله لهم فرجًا في تلك الهجرة.

الدرس الثاني: على المسلم أن يخرُج ويبتعد عن مجالس وأماكن الفتن، وما يضعف الإيمان، فإن ذلك الابتعاد هو أسلم لدينه وآخرته ودنياه، بينما لو مكث في تلك الأماكن للفتن، فلربما أصابه ذلك الافتتان، فزاغ قلبه، ولذلك هاجر هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم من بلدهم مكة خشية الافتتان عن الدين، ففرُّوا إلى المدينة؛ ليسلَم لهم دينُهم، فهم أسوة وقدوة لنا بأن نتجنَّب مجالس وأماكن الفتن التي تُضعف الإيمان في القلب، وتُسهل المعصية على الجوارح، فإن تلك الأماكن هي سوق الشيطان الذي يصطاد به العباد، فلا تكن أخي الكريم صيدًا في شباك عدوك، واختر مَجالسَك ومُجالسيك.

الدرس الثالث: إن رؤيا الأنبياء هي إحدى طرق الوحي، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر إلى المدينة، فامتثل أمر ربه عز وجل، وأمر المؤمنين بذلك فهاجروا، وهذه الرؤيا هي من المبشرات يراها المسلم أو تُرى له، فإذا رأيت رؤيا حسنة فحدِّث بها مَن تُحب، واحْمَد الله تعالى عليها، وإن رأيت رؤيا سيئة فلا تُخبر بها أحدًا، ولا تسأل عنها، واستعِذْ بالله من شرها فإنها لا تضرُّك، في حين أن البعض من الناس يسأل عن كل شيء، ويخبر بكل شيء، وهذا لا شك أنه نوع من الجهل.

الدرس الرابع: كان الصحابة رضي الله عنهم عندما هاجروا إلى المدينة، أصابَ بعضهم شيءٌ من وباء المدينة، فضعفوا، فصار بعضهم يصلي قاعدًا، فلما علموا أن القاعد على النصف من أجر القائم قاموا في صلواتهم، وهذا يدل على حرصهم على تحصيل الخير وعدم نقصانه، والاستزادة منه، وهذا شأن المسلم أن يحرص على الاستزادة من الخير؛ لأنه لا يدري ما مقامه في الدنيا، فاحرص أخي الكريم في ذَهابك وإيابك ولحظات الانتظار لديك ونحوها - على كثرة ذكر الله تبارك وتعالى؛ لتحصُل على الكثير من الأجور والحسنات، فإن فعلت ذلك فأنت من الموفَّقين.

الدرس الخامس: النبي عليه الصلاة والسلام رحيم بأُمته، ويعيش شعورهم ويرأف بهم، ومأخذ ذلك أنه عليه الصلاة والسلام دعا الله عز وجل أن تزول حُمَّى المدينة، ودعا بالبركة فيها، فاستجاب الله تعالى دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام، فأزال عنها الحمى وبارك فيها، وهكذا المسلم يدعو لإخوانه المسلمين، فيخص ويعم، وكلما دعوت لأحد بخير، فإن الملك يقول: ولك بمثلٍ، فاستكثروا رحِمكم الله من الدعاء للمسلمين بخصوص وعموم، فهم بأمسِّ الحاجة إلى ذلك في دينهم ودنياهم، ففيهم من الأمراض والديون واللأْوى والمشكلات ما نرجو أن يكون دعاؤكم سببًا في رفعه ودفْعه وتخفيفه.

الدرس السادس: أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه واستجابته له؛ حيث بقي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أول المهاجرين حتى أذن له ربُّه بذلك، وهذا غاية في الاسترشاد بأمر الله تبارك وتعالى، فلما أذِن له ربه هاجر، ولله عز وجل في ذلك الحكمة البالغة في تقدير ذلك.

الدرس السابع: إن نصرة هذا الدين هي بيد الله تبارك وتعالى، وثمة أسباب تُبذل ليتحقق ذلك النصر، وأما الباطل فهو في مآله إلى الخسران المبين، وإن انتشر وانتفش، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا في مكة مستضعفين، وقد اجتمعت قريش على أذيتهم وفتنتهم، ومع ذلك نصر الله تعالى عباده على أعدائه، فهاجروا بسلام وعبدوا ربَّهم باطمئنان، بل إن قريشًا اجتمعوا في دار الندوة على الانتقام من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أمرهم ذلك وبالًا عليهم، وأنجى الله تعالى نبيه والمؤمنين، فالله عز وجل ناصرٌ دينَه وأولياءَه، ولكن لحكمة يريدها الله عز وجل قد يتأخر ذلك النصر، والله عز وجل هو الحكيم العليم.

الدرس الثامن: إن حُسن الترتيب والتنظيم والتخطيط الجيد، يُعد من أهم أسباب النجاح في الحياة عمومًا، وفي الناحية الدعوية على سبيل الخصوص، ومأخذ هذا من السيرة حسن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم وتخطيطه مع أبي بكر في أمر الهجرة؛ حيث تم ذلك بكتمان الخبر عن قريش، وكان في الزمن المناسب أيضًا، وعلى هيئة تناسب الحال كذلك، مع اتفاق مبرم مع آل أبي بكر في مسألة الطعام والشراب وأخبار قريش، وكل ذلك تَم بتنسيق وتشاور ولم يكن عشوائيًّا، فما أحوجنا في حياتنا كلها عامة وخاصة في شؤوننا الدعوية الفردية والجماعية إلى التخطيط الجيد لننجح في حياتنا، أما العشوائية فلا تُعرف سلبياتها من إيجابياتها، وقد يخسر الفرد أوقاتًا طويلة وجهودًا كثيرة بسبب عدم التخطيط لهذا المشروع.

الدرس التاسع: إن التوكل على الله عز وجل - وهو تفويض الأمر إلى الله تبارك وتعالى، مع الأخذ بالأسباب - من أهم ركائز النجاح في الحياة، فمن توكل على الله تعالى كفاه، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي كافيه، ومأخذ ذلك من السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعَلَا الأسباب في أمر الهجرة، مع تفويض الأمر إلى الله تعالى، فكانا متوكلين على الله عز وجل، فكفاهم الله تعالى شرَّ كفار قريش، فحفظهما بحفظه، فإن التوكل على الله تعالى حقَّ التوكل يطرد كثيرًا من الهموم والأحزان والمشاكل إذا كان حقيقيًّا صادقًا، وإذا توكلت على الله تعالى في أمورك فاطرُد عن نفسك الأفكار المزعجة والسلبية، وعش حالة التفاؤل والحال الطيبة، فإنك بذلك تلمس نتيجة التوكل في قلبك وتصرفاتك، وذلك بارتياح الضمير وسكون النفس وهدوء البال.

الدرس العاشر: إذا كان الله تعالى معك، فأي شيء تفقده، إنك معك كل شيء، ومأخذ ذلك من السيرة قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: (ما بالك باثنين الله ثالثهما)، وقوله أيضًا: (لا تحزن إن الله معنا).

إن معية الله تعالى لعبده غاية في الأهمية، وهي تعني النصر والتأييد والإعانة، فهو معه بعلمه يعلم حاله ويعينه ويوفِّقه، وييسِّر أمره، فاحرص أخي الكريم على الأعمال التي ثوابها أن يكون الله معك، وأضرب لذلك مثالًا بعملين احرِص عليهما:
العمل الأول: الإحسان إلى الآخرين، فالله عز وجل يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، فاحرِص على أن تُحسن إلى غيرك بأي نوع من الإحسان، سواء عملي أو قولي ولو كان يسيرًا، فإن الله عز وجل معك ورحمته قريبة منك؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، وأيضًا يحبك الله، إن الله يحب المحسنين، فالنتيجة للإحسان معية ومحبة ورحمة، فسارع إلى ذلك رحمك الله.

العمل الثاني: كثرة ذكر الله تعالى، ففي الحديث: (وأنا معه إذا ذكرني)؛ رواه البخاري.

فكن مكثرًا من الذكر ليكون الله معك، فأين أصحاب الأعمال الشاقة والمعاملات المستعصية؟ لماذا لا يكثرون من ذلك الذكر ليكون الله معهم، يُعينهم وييسر أمورهم ويوفِّقهم، فما أحوجهم إلى ذلك، ففي ذَهابك وإيابك ولحظات انتظارك، كن مكثرًا من ذكر الله تعالى، وإن كنا نقول بمعية الله لك، فهذا زائد عن الأجر المترتب على هذا الذكر، فتأمل ذلك ولا يُنسينَّك الشيطان إياه بالغفلة والسهو والنسيان.

أخي الكريم، هذا جانب مختصر من الأحداث الأولى للهجرة، وبعض دروسها المستفادة منها، وكم هو جميل أن تجعل لأسرتك الكريمة مجلسًا ولو أسبوعيًّا فيه شيءٌ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وتستخرجون من ذلك الدروس والعبر، فيكون له أثرٌ إيجابي على الأولاد في تصحيح مفاهيمهم، وبناء أفكارهم الإيمانية، مع ما يحصل من تنزُّل الملائكة وغشيان الرحمة، وأن يذكرَكم الله تعالى فيمن عنده، فيا لها من حوافز وجوائز عظيمة! ويا لها من أثر عظيم على طُمأنينة أهل البيت وجمع شملهم، إني أرجو ذلك منكم أيها الوالدان الكريمان.

اللهم وفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وأصلحنا وأصلح لنا، وأصلِح بنا، ووفِّقنا لما تحبه وترضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ابوالوليد المسلم 21-08-2022 09:00 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (11)
الشيخ خالد بن علي الجريش


الحلقة الحادية عشرة من برنامج (خاتم النبيين)

مواقف في طريق الهجرة


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير النبيين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين، وبعد:
فقد ذكرنا - مُستمعِيَّ الأكارم - في الحلقة الماضية بدايةَ الهجرة إلى المدينة، فذكرنا أسبابها، وكيف كانت هجرتهم رضي الله عنهم، وذكرنا أيضًا موقف قريش من ذلك الحَدَث العظيم المبارك، وأيضًا ذكرنا كيف بدأت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأيضًا ذكرنا خروجهما إلى الغار، وكيف حفظ الله نبيَّه عليه الصلاة والسلام وأولياءه.

ونزدلف الآن إلى ذكر مواقف في طريق الهجرة، فإن الروايات الصحيحة تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكرٍ استأجرا رجلًا، وهو عبدالله بن أريقط، وهو على دين قريش، وكان هاديًا خِرِّيتًا، فَأْتَمناه ودفعا إليه راحِلتَيْهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ، فالطريق مخوف، وقريش تبحث عنهما، وقد وصلت تلك الأمانة، وهما الراحلتان في الوقت المحدد، فارتحل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راحلتَه، وارتحل أبو بكر راحلتَه وأردف معه عامر بن فهيرة ليخدمهما، ومعهما عبدالله بن أريقط الدليل لهما، فانطلق هؤلاء الأربعة فقط بحفظ الله ورعايته إلى المدينة من الغار، وذلك ليلة الاثنين حيث مكثا في الغار ثلاث ليالٍ، وكان ابن أريقط دليلًا خِرِّيتًا - أي متميِّزًا - في معرفة الطرق، فسلَكَ بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل، ثم على عسفان، وسلَكَ طريقًا بعيدًا عن أعيُن قريش حتى نزل بهما في قباء قرب المدينة.

ومن مواقف تلك الهجرة ذلك الأمر الغريب الذي حصل مع سُراقة بن مالك كما عند البخاري، فيقول سراقة: كنا جلوسًا فجاء رجل، وقال: رأيتُ سوادًا ولا أظنه إلا محمدًا وصاحبه فكذبناه؛ لكني ركبت فرسي وأخذت رمحي، فخرجت إلى ذلك السواد، وهو خرج إلى ذلك ليحوز ويفوز بالمئة ناقة التي وضعتها قريش لمن يأتي بمحمدٍ وصاحبه، يقول: فلما دنوتُ منهم عثَرتْ بي فرسي، ثم قامت فلحقت بهم، ثم عثَرت مرةً أخرى، فقامت وركبتها ولحقتهم حتى دنوت منهم وأنا أسمع قراءة محمد، وهو لا يلتفت وأبو بكر يُكثِر الالتفات، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنا))، فيقول سراقة: دنوت منهم جدًّا، فلم يكن بيني وبينهم إلا رمحين، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله، لحقنا الطلب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لِمَ تبكي?))، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أما إني والله لا أبكي على نفسي؛ ولكن أبكي عليك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ))، قال سراقة: فساخَتْ يدا فرسي في الأرض فناديتهم بالأمان، فوقفوا فعلمت أن أمر هذا النبي سيظهر فأخبرتهم بأخبار قريش، وعرضتُ عليهم الزاد فأبَوا، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخْفِ عَنَّا))، فرجع سراقة يقول لقريش: إن تلك الجهة كفيتكم إياها، فابحثوا عنهما في غيرها، فكان في آخر الأمر مُدافعًا عنهما، وهو في أول الأمر يريدهما.

ومن مواقف تلك الهجرة سُقْيا اللبن، فقد أخرج الشيخان: البخاري ومسلم، عن أبي بكر قال: ارتحلنا من مكة فسِرْنا في ليلتنا حتى ظهيرة الغد، فرميت ببصري أبحث عن ظلٍّ نأوي إليه فجئت إلى الظل، ففرشتُ فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قلت: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع، فبحثتُ حولي فإذا براعي غَنَمٍ يريد ذلك الظل، فقلت: هل في غنمك من لبن? قال: نعم، فحلب لنا، ثم أتيتُ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فوافيتُه قد استيقظ من نومه، فقلت: اشرب فشرب حتى رضيت، ثم ارتحلنا والقوم ما زالوا يطلبوننا.

ومن مواقف الهجرة إسلام الراعي، ففي طريقهم للهجرة مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على راعي غنم فاستسقياه لبنًا، فقال الراعي: ما عندي شاة تحلب غير أنها ها هنا عَناق حملت قريبًا، وليس فيها لبن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ادْعُ بها)) فجاء بها الراعي، فمسحَ النبي صلى الله عليه وسلم ضَرْعَها، ودعا فامتلأ ضَرْعُها من الحليب، فحلب النبي صلى الله عليه وسلم، فسقى أبا بكرٍ رضي الله عنه، وسقى الراعي، ثم شرب عليه الصلاة والسلام بعدهما، فقال الراعي: من أنت? فوالله، ما رأيت مِثْلَكَ قَطُّ، قال: ((إنِّي محمدٌ رسولُ الله)) فقال الراعي: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنهم لَيَقُولونَ ذلكَ))، فقال الراعي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وإني مُتَّبِعُك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنك لا تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتِنا)).

ومن مواقف الهجرة مرورهما بخيمة أم معبد، وهي عاتكة بنت خالد، وقيل: إنها كانت مسلمة، وقيل: أسلمت فيما بعد، ومنزلها كان بقُدَيْد، وقد مَرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وطلبا منها طعامًا بثمنٍ فلم يصيبوا عندها شيئًا، ثم رأوا شاةً هزيلةً واستأذنوا في حلبها، فأذنت واعتذرت بأنها لا تحلب وليس فيها شيء من الحليب؛ لهزالها وضعفها، فمسحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ضَرْعَها ودعا فحلبها وشربوا وسقوا وبقي شيء من الحليب فأبقوه عندها، ثم قدم زوجُها بعد ذلك فأخبرته الخبر ووصفته لزوجها، فقال: هذا والله صاحبُ قريش الذي يُطلب، ولقد هممْتُ أن أصاحبه، ولأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلًا.

ومن مواقف الهجرة أيضًا أنه قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه إلى المدينة لقيا الزبير بن العوام رضي الله عنه في ركب من المسلمين كانوا تُجَّارًا قافلين من الشام، وكان معهم شيء من الثياب، فكسا الزبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بيضًا، ولقيه أيضًا كذلك طلحة بن عبيد الله قادمًا من الشام في عِيرٍ، فكسا كذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه من تلك الثياب، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين في المدينة قد استبطأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فعَجَّل رسولُ الله عليه الصلاة والسلام السَّيْرَ، ومضى طلحة إلى مكة وقضى حاجته من تجارته، ثم خرج بعد ذلك بآل أبي بكر، وهاجر بهم إلى المدينة.

وكان علي رضي الله عنه قد أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليؤدي الودائع التي كانت عند النبي عليه الصلاة والسلام للناس، حيث عُرِف النبي عليه الصلاة والسلام بالأمانة والصدق، فكانوا يجعلون الأمانات عنده ودائع، فأدَّاها علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلال الأيام الثلاثة، ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة، فأدركه في قُباء على ميلين من المدينة فنزل معه.

ومن مواقف الهجرة هجرةُ صهيب الرومي رضي الله عنه، فلما أراد الهجرة إلى المدينة وكان غنيًّا ثريًّا ردَّه كُفَّار قريش، وقالوا: أتيتنا صعلوكًا فقيرًا فكثُر مالُك عندنا، ثم تريد أن تخرج بهذا المال، والله لا يكون ذلك أبدًا، فقال صهيب لمَّا علِم أنهم سيردُّونه: أرأيتم إن جعلت لكم مالي تخلون سبيلي? قالوا: نعم، قال: أشهدكم أني جعلت مالي لكم، قال صهيب رضي الله عنه: وخرجت حتى قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قُباء، فلما رآني قال: ((يا أبا يحيى، ربِحَ البيعُ، يا أبا يحيى، ربِحَ البيعُ، يا أبا يحيى، ربِحَ البيعُ)) قالها ثلاثًا، فقلتُ: يا رسول الله، ما سبقني إليك أحد، فمَنْ الذي أخبرك؟! إنما أخبرك بها جبريل، وفيه نزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في قُباء عند بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم، قيل: أربع عشرة ليلة، وقال بعضهم: إنما أقام أربعة أيام فقط، وكان أول عمل عَمِله النبي صلى الله عليه وسلم لما قدمَ قُباء هو تأسيس المسجد، وهو مسجد قُباء المعروف الآن، وهو المسجد الذي أُسِّس على التقوى، كما أخرجه البخاري، ومسجد قُباء هو أول مسجد بُني بعد الهجرة للناس عامة، وهو أول مسجد صلى فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعةً بهذا الظهور والوضوح، وقد اختُلِف في المسجد الذي أُسِّس على التقوى؛ فالجمهور قالوا: إنه هو قُباء، وقال آخرون: هو المسجد النبوي، ومما يؤكد أنه قُباء قوله تعالى: ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ﴾ [التوبة: 108] حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّها نَزَلَتْ في أهْلِ قُباء))، والحق أن كلًّا منهما أُسِّس على التقوى، وفي فضيلة مسجد قُباء يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن تطهَّر في بيته ثم أتى مسجد قُباء فصلَّى فيه صلاةً كان كأجْرِ عُمْرة))؛ صحَّحه الألباني، وحسَّنه آخرون، وقد ثبَتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى قُباء يوم السبت راكبًا وماشيًا.

ومن مواقف الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ في طريقه برجلينِ من أسْلَم يقال لهما: المهانان، وهما قد اشتهرا بالسرقة والنهب والسلب، فقصدهما النبي صلى الله عليه وسلم وتحدَّث معهما، وعرض عليهما الإسلام فأسلما، وأمرهما أن يقدما عليه في المدينة، فهذه بعض المواقف في طريق الهجرة لعلَّها تكون نِبْراسًا لنا نستلهم منها الدروس والعِبر، ونستكمل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، ونذكر الآن بعض الدروس والعِبَر، فمن هذه الدروس:
الدرس الأول: حفظ الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام وأوليائه، ونصره لهم وتسديده لأمورهم، ومأخذ هذا أن الدليل الذي يسير خلفَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه هو كافر على دين قريش، وهو عبدالله بن أريقط، وهو يعلم أن قريشًا قد وضعت مئة ناقة لمن يأتي بمحمدٍ وصاحبه، فيمكن لهذا الدليل أن يخونهما كما هي عادة بعض كفار قريش، ويحوز المئة ناقة؛ ولكن الله عز وجل حفظ نبيَّه من ذلك، فكان هذا الدليل على دين قريش؛ لكنه كان ذا أمانةٍ وصِدْقٍ، وسلَكَ بهما طريقًا لا تعرفه قريش؛ بل وتغفل عنه، فسبحان مَن سخَّر هذا لهذا مع اختلاف الدين والمِلَّة! وهذا شاهدٌ كبيرٌ، وغيره كثير من شواهد حفظ الله تعالى لأوليائه وتسديدهم ونصرهم، وأما ما يُصيبهم فهو تكفير وتمحيص.

الدرس الثاني: عندما جاء سراقة يطلب النبي صلى الله وسلم وأبا بكر ليسلمهما إلى قريش بكى أبو بكر، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك البكاء، فقال: إني أبكي عليك يا رسول الله، وليس على نفسي؛ وذلك شفقة على النبي صلى الله عليه وسلم وسُنَّته وشريعته، فهل نحن عندما نرى المُحرَّمات تُنتهَك والسُّنَّة تُحارَب، هل ندافع عنها بما نستطيع، ناهيك عن البكاء في ذلك، فمن الناس - مشكورًا مأجورًا - مَن يفعل ذلك الدفاع، وربما بكى؛ لكن البعض الآخر - هداهم الله - كأن الأمر لا يعنيهم، وربما استدلوا بقوله تعالى: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وهذا الاستدلال في غير محله إذ لو اكتملت تلك الهداية لأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فعدم أمره ونهيه دليلٌ على أن الهداية لم تكتمل؛ ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: "إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها"، فعلينا جميعًا أن نكون سياجًا منيعًا لسُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم وشريعته.

الدرس الثالث: عندما جاء سُراقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه ليُسلَّمهما إلى قريش اتَّجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه بدعائه، فقال: ((اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ))، وهذا يُعطينا درسًا عظيمًا وجليلًا؛ وهو أنه إذا حصلت لنا مشكلة في أي مجال من مجالات الحياة، فلنجعل الدعاء أحد الحلول لهذه المشكلة، فنجد البعض من الناس - هداهم الله سبيل الرشاد - يبحث عن حلول عديدة لمشاكله؛ لكنه يتخلَّى عن الدعاء، وربما كان الدعاء هو الحل الأمثل لهذه المشكلة، وكم من مشكلة كان الدعاء والإلحاح هو بإذن الله تعالى المزيل لها، والمصلح للحال، ففي كل نوائبك صغيرها وكبيرها لا تنسَ الدعاء، وهو لا يحتاج إلى بحث ولا إلى مال ولا إلى مِنَّة مخلوق ولا شفاعة أحد؛ بل هو كلمات ودعوات تبدؤها بالحمد لله تعالى، وتتوسَّل بالاسم الأعظم ثم ترفعها إلى مولاك، وهو بعد ذلك يتولَّاك، وكلما كثُر الإلحاح قرُبت الإجابة، ولو لم تحصل إجابة، فأنت رابح على كل حال، فلك بدعائك إحدى ثلاث: أن تُعطى ما سألت، أو يُصرف عنك من السوء مثلها، أو تُدَّخَر لك حسنات في موازينك يوم القيامة، فدعاؤك لن يذهب سُدًى، ومن هنا نعرف خطأ مَن يقول من الجهلة: إنني أدعو وأدعو ولم يُستجَب لي، ولم يعلم ذلك المسكين أنه صرف عنه أهوالًا لم يشعُر بها أو ادُّخِرت له حسنات لم يعلم بها، وذلك بسبب دعائه.

الدرس الرابع: من حفظ الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام وصاحبه أن سراقة بن مالك جاء إليهما في أول الأمر يطلبهما؛ ليُسلِّمهما إلى قريش، وفي نهاية الأمر صار يُدافع عنهما، فيقول لقريش: لا تبحثوا في تلك الجهة فقد كفيتكم إياها؛ وذلك لمَّا رأى من عجائب الأمور التي حصلت له ولفرسه؛ حيث توقفَتْ فرسُه، وساخت في الأرض أرجُلُها، وتكرَّر ذلك مرارًا، وسَمِع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع مُدافِعًا عنهما، وهو في أول الأمر يطلبهما، ففي هذا حفظ لهما ودلائل على نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم.

الدرس الخامس: ينبغي للأصحاب إذا سافروا أن يُبادروا لخدمة بعضهم بعضًا، فهذا من مكارم الأخلاق وصفاء النفوس، فإن أبا بكر رضي الله عنه مع ما به من التعب والسهر، كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم في مأكله ومشربه ومضجعه بخلاف الأصحاب الذين يتكاسلون عن هذا الخُلُق النبيل، فتراهم مختلفين، قد يوجد فيهم بعض الشحناء وسُوء الطِّباع وقلة الحياء وكثرة الخلاف وضياع الوقت وعدم اتحاد الرأي، وكل هذه السلبيات وأمثالها تزول إذا تفانى الأصحاب والخِلَّان والزملاء في خدمة بعضهم البعض سواء في سفر أو رحلة أو نحو ذلك، فسيسودهم الاحترام المتبادل والكلام الطيِّب والراحة النفسية والطُّمَأْنينة وقلة الخلاف واتِّحاد الرأي ونحو ذلك من المصالح إذا خدم بعضُهم بعضًا.

الدرس السادس: بيان دلائل النبوَّة ومعجزاتها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من خلال حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لأُمِّ معبد؛ حيث أتَتْ أُمُّ معبد بشاةٍ هزيلة ليست ذات لبن بل وميؤوس منها، فهي لم تلحق بالرعي لهُزالها وضعفها، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضَرْعها فدرَّت الحليب الكثير حتى شربوا وارتووا، وأبقوا عندها ما يكفي لحاجتها وذويها، وفي هذا معجزةٌ ودليلٌ على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما يقرأ المسلم في هذه الدلائل والمعجزات يَقْوَى إيمانُه ويقينُه، فهي أمور خارقة للعادة، فاقرأوا - رحمكم الله - في تلك المعجزات لتتأملوا نبوَّةَ نبيِّكم ودلائلها فهي عِلْمٌ شريفٌ ومن أسباب الثبات على الحق.

الدرس السابع: حرص الصحابة رضي الله عنهم على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وتفانيهم في ذلك، ومن ذلك كِسوة الزبير وطلحة للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه؛ حيث أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه من سفر، وهما سيقابلان الناس، ومثل هذا الحدث يحتاج إلى أخذ الزينة، فبذل الزبير وطلحة تلك الثياب والألبسة للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فاجتمع للنبي عليه الصلاة والسلام بذلك حُسْنُ المَظْهَرِ وطِيبُ المَخْبَرِ.

الدرس الثامن: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعرَف في مكة بالصادق الأمين حتى وصل الأمر إلى أن المشركين وهم يحاربونه يضعون عنده بعض الودائع؛ لمعرفتهم بصدقه وأمانته؛ حيث لم يجدوا من ذويهم مَنْ يضعون أماناتهم عنده خوفًا من الخيانة؛ ولذلك تأخَّر عليٌّ في الهجرة حتى يُسلِّم الأمانات إلى أهلها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وفي هذا درس عظيم لنا جميعًا؛ أن نتصف بالصدق والأمانة، ففيهما البركة والخير العظيم، وفي ضدهما الضياع والضلال المبين، فماذا لو ساد هذان الخلقان الناس جميعًا ونحن جزءٌ منهم لزالت كثيرٌ من المشاكل سواء على المستوى الشخصي والفردي أو على المستوى الرسمي والهيئات الحكومية، فلنتعاهد جميعًا على هذين الخُلُقينِ العظيمين: الصدق والأمانة، فنحن الرابحون في ذلك، وإذا تركناهما فنحن الخاسرون، وماذا سينفع ذلك الكاذب والخائن إذا أخذ حفنةً من المال، وهي ليست له فهو سيردُّها حسنات يوم القيامة، ووالله ثم والله، لو امتثل المجتمع هذين الخلقين تمامًا لأغلقت بعض جهات المحاكمة والشُّرَط لزوال المسببات والمشاكل.

الدرس التاسع: في هجرة صهيب رضي الله عنه أرغمه كُفَّار قريش أن يترك ماله لأجل الهجرة، فبادر لترك المال مقابل الهجرة، فهو خرج من مكة وليس معه شيء من ماله، وهو غنيٌّ ثريٌّ ابتغاء وجه الله تعالى؛ ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ربِحَ البيعُ أبا يحيى))، فهل سيكون هذا الفعل مُوقِظًا لنا في الصَّدَقة وبذلها والإكثار منها، فإن تلك الصدقة مخلوفة، وهي وإن كانت خرجت منك، فهي مرصودةٌ لك، وهي عبارة عن نقل مالك من حساب الدنيا الفاني الفقير إلى حساب الآخرة الباقي النفيس، وعجبًا لمن يعلم تلك الحقيقة ولا يُكثِر من الصدقة، فيا معاشر الأغنياء والفقراء كُلٌّ يتصدَّق مِن وسعه، فالقليل مهما قَلَّ فهو خير عظيم، فإذا كان شِقُّ التمرة يقي من النار، فما بالكم بما هو أكبر من شِقِّ التمرة؟! فاحتسبوا وابذلوا، واعلموا أن ذلك مخلوف عليكم، وكم هو جميل أن يجعل أهل البيت صندوقًا أو حصالةً في مكان بارز من البيت؛ لتكون مجالًا للصَّدَقة، ولو بالقليل، وإذا كانت في سِرٍّ فصاحبها تحت ظلِّ العرش، ثم يفتح ذلك دوريًّا شهريًّا، ويدفع إلى المحتاجين.

الدرس العاشر: النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته رأى رجلين فدَعاهما إلى الإسلام، وفي هذا درس لنا جميعًا في سفرنا ورحلاتنا أن نساهم بجهودنا في دعوة الآخرين وبيان أخطائهم وتعديل سلوكهم، وأمرهم بالخير ونهيهم عن الشر، فكم سيحصل من الخير العظيم لو كنا جميعًا كذلك في رحلاتنا القريبة والبعيدة، فكونوا - رحمكم الله - كذلك تفلحوا.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يوصلنا إلى دار السلام بسلامٍ، وأن يرزقنا قلوبًا وعقولًا راشدة، وألسنة صادقة، وأن يشرح صدورنا، ويُيسِّر أمورنا، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.





ابوالوليد المسلم 21-08-2022 09:02 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (12)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة الثانية عشرة من برنامج (خاتم النبيين)

بداية غزوة بدر


الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلِّم على النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين.

ذكَرْنا - إخواني الأكارم - في الحلقة الماضية شيئًا من البعوث والسرايا التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم لمجاهدة الكفار، وذكرنا شيئًا من التشريعات والأحكام التي شرعت في السنة الثانية من الهجرة؛ وذلك كتحويل القبلة، وفرض الصيام والزكاة، وأيضًا ذكرنا الدروس المستفادة من ذلك، والآن في حلقتنا هذه نزدلف إلى الحديث عن غزوة بدر الكبرى، فقد حدثَتْ تلك الغزوة التاريخية العظيمة في نهار يوم الجمعة السابع عشر من رمضان من السنة الثانية من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في صحيح مسلم، قال ابن عبدالبر رحمه الله: كانت أشرف غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وأعظمها حرمة عند الله تعالى، وهذا اليوم الذي وقعت فيه الغزوة يُسمَّى يوم الفرقان؛ حيث أعزَّ الله عز وجل الإسلام وأهله، وأذلَّ الشرك وأهله مع قلة المسلمين وكثرة المشركين، ومن خصائص هذه الغزوة ما يلي:
أولًا: أن مَن شهِدها فإنه ينسب إليها، فيُقال: فلان البَدْريُّ، ولا يُقال ذلك في غيرها.

ثانيًا: من خصائص غزوة بدر أن مَن شهِدها من المسلمين له فضله الكبير؛ حيث ورد عند البخاري عن رفاعة بن رافع وكان بَدْريًّا قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما تَعُدُّون أهلَ بَدْر فيكم، قال: من أفضل المسلمين، قال: وكذلك مَنْ شَهِدَ بَدْرًا من الملائكةِ))؛ رواه البخاري.

ثالثًا: من خصائص تلك الغزوة أن من شهِدَها كُتبت له المغفرة إلى يوم القيامة، فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حاطب بن أبي بلتعة في قصة إخباره لأهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم قال فيه: ((أليس من أهل بدر؟ لعَلَّ اللهَ اطَّلَع على أهل بَدْر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجَبَتْ لكُم الجنة أو فقد غَفَرْتُ لكم))؛ رواه البخاري ومسلم.

رابعًا: من خصائصها أن الملائكة قاتلت فيها مع المسلمين إلى غير ذلك من الخصائص.

وكان سبب هذه الغزوة أن عِيرًا لقريش عظيمة قادمة من الشام تريد مكة، فيها أموال قريش، فكان فيها ألف بعير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: ((هذه عِير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعَلَّ اللهَ أن يَنْفُلكمُوها)) ذكر ذلك ابن إسحاق رحمه الله، فخرجوا لتلك العير وفيها ثلاثون أو أربعون رجلًا من قريش، وعندما علم أبو سفيان قائد العير بذلك الخروج للمسلمين أرسل ضمضمة بن عمرو إلى مكة ليستنفر قريشًا، ويخبرهم بأن محمدًا عليه الصلاة والسلام وأصحابه اعترضوها، وقد استطاع أبو سفيان أن ينجو بالعير؛ ولكنه حصل القتال بين المسلمين والكفار حتى أثبت الله الحق وأزهق الباطل، فعندما علِمَ النبي صلى الله عليه وسلم بمسير قريش إلى بَدْر استشار الصحابة، فتحدَّث أبو بكر رضي الله عنه وأحسن، وتحدَّث عمر وأحسن، وقام المقداد بن عمرو، وقال: امْضِ يا رسول الله ونحن معك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشيرُوا عليَّ أيُّها الناسُ))، وكان يقصد الأنصار، فقام سعد بن معاذ فقال: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: ((أجَل)) فقال سعد رضي الله عنه: آمنا بك وصدَّقْناك، وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة، فامْضِ يا رسول الله لما أردْتَ، فنحن معك؛ فسُرَّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((سِيرُوا وأبْشِرُوا، فإنَّ اللهَ وعَدَني إحدى الطائفتين، واللهِ لكأنِّي أنظُر مصارعَ القوم))؛ رواه مسلم.

وإن كان هذا هو اتفاق المسلمين على الخروج والقتال، فقد افترق كُفَّار قريش، فبعضُهم يرى الرجوع دون القتال، وكان أبو جهل وهو قائدهم مُصِرًّا على القتال، وممن يرى عدم القتال بنو زهرة وبنو عدي، فقد رجعوا؛ بل إنَّ أبا سفيان قائد العِير يرى الرجوع من دون قتالٍ، وذلك لما ضرب في قلوبهم من الخوف والوجل، وفي تلك الغزوة التقى الجَمْعانِ، وهي معركة قاتل فيها خيارُ أهل الأرض وهم الصحابة رضي الله عنهم، وخيارُ أهل السماء وهم الملائكة عليهم السلام، وشاء الله تعالى ألا يتكافأ العدد، فعدد المسلمين فيها ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، بينما كان عدد المشركين ألفًا وثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا، ومع ذلك وقع النصر للمسلمين وهُزِم المشركون وقُتِل صناديدُهم، وميزان النصر ليس بالعدد والعتاد، وما النصر إلَّا من عند الله عز وجل، ولك أن تتخيل أخي الكريم كيف كانت قوة الاستجابة والصمود واليقين، حيث إنه في الشهر نفسه شهر رمضان وهو أول شهر يصومونه؛ حيث إنه فرض في تلك السنة، ثم جاءتْ فيه تلك الغزوة العظيمة، ومع ذلك صمدوا واستجابوا لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وذلك بتثبيت الله تعالى لهم وتوفيقه إياهم، وقد تخلف عن هذه الغزوة عددٌ من الصحابة رضي الله عنهم، ولهم أعذارهم، فمنهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث كانت امرأتُه مريضةً فقام عليها، وقد ماتت في مرضها هذا، وهي رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وتخلَّف أيضًا طلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد؛ حيث بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم قبل القِتال ليأتيا بخبر العير عند انطلاقها من الشام، فلما قدم المدينة بالخبر وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءه الخبر عنها، فلحقاه حتى لقياه منصرفًا من بَدْر، وتخلَّف أيضًا أبو لبابة رضي الله عنه؛ حيث استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة، وتخلَّف أبو أمامة ابن ثعلبة؛ حيث كانت أُمُّه مريضةً، فقال له خاله: أقِمْ عند أمِّكَ يا بن أختي، فقال: بل أنت أقم عند أختك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أبا أمامة أن يقيم عند أُمِّه، وتخلَّف عاصم بن عدي؛ حيث استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على قُباء، وتخلَّف أيضًا الحارث بن الصمة؛ حيث انكسرت ساقه في الطريق، فردَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وغير هؤلاء تخلَّفوا بأعذارهم الشرعية رضي الله عنهم أجمعين.

وكان الصحابة في مسيرهم إلى الغزوة كل ثلاثة يتعاقبون بعيرًا في ركوبه، وكان علي ومرثد بن أبي مرثد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاقبون بعيرًا، فلما جاء دور النبي صلى الله عليه وسلم في المشي قالا له: اركب يا رسول الله ونحن نمشي عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أنتما أقوى مني، ولا أنا بأغْنَى عن الأجْرِ مِنْكُما)).

ومكث النبي صلى الله عليه وسلم يستعرض أصحابه في مشاركتهم للقتال، فرَدَّ مَن استصغره منهم، وكان ممن ردَّه أسامة بن زيد، وابن عمر، والبراء بن عازب، ورافع بن خديج، وأسيد بن الحضير، رضي الله عنهم أجمعين؛ حيث كانوا صغارًا، ويقول سعد بن أبي وقاص: عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعرضنا رأيت أخي عميرًا يتوارى ويختفي، فقلت: ما لك تختفي؟ فقال: أخشى أن يرُدَّني النبي صلى الله عليه وسلم، فرآه النبي عليه الصلاة والسلام فاستصغره فرَدَّه، فبكى عمير، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن ست عشرة سنة.

وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بإعداد القيادات وتوزيعها، وأعطى اللواء - وهو الراية التي يجتمع حولها الجيش - مصعبَ بن عمير، وقسَّم جيشه إلى كتيبتين؛ الأولى: كتيبة المهاجرين، وأخذ لواءها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والثانية: كتيبة الأنصار، وأخذ لواءها سعد بن معاذ رضي الله عنه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على الميمنة، والمقداد بن عمرو على الميسرة، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، والقيادة العامة كانت في يد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فقر المسلمين وحاجتهم دعا فقال: ((اللهُمَّ إنهم حُفاةٌ فاحملهم، اللهمَّ إنهم عُراةٌ فاكْسُهم، اللهمَّ إنهم جِياعٌ فأشْبِعْهم))، فاستجاب الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام فأغناهم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم بالفطر؛ حيث إن تلك الغزوة في شهر رمضان، فمن وجد قوةً صام، ومن وجد ضعفًا أفطر، وفي صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم: ((قُومُوا إلى جنَّةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ)) فقال عمير بن الحمام: بَخٍ بَخٍ، فأخرج تمرات من جَعْبته، فجعل يأكل منهنَّ ثم قال: لئن أنا حييتُ حتى آكلَ تمرات هذه، إنها لحياةٌ طويلةٌ، فترك ما كان معه من التمر ثم قاتلهم رضي الله عنه حتى قُتِل؛ رواه مسلم.

واقترح سعد بن معاذ في ذلك اليوم أن يُبنى للنبي صلى الله عليه وسلم عريش؛ حفاظًا عليه، فبُني له ذلك العريش، وبات النبي صلى الله عليه وسلم ليلته تلك يدعو ربَّه قائلًا: ((اللهُمَّ إنك إن تُهلِك هذه الفئةَ لا تُعبَد))، وفي البخاري ومسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهُمَّ إني أنشدك عهدَكَ ووعدَكَ))، فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا رسول الله- أي: كافيك - لأنه أشفق عليه فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ [القمر: 45] وحيث تجهز المسلمون ورتَّبوا أنفسهم، فقد تجهزت قريش أيضًا في ترتيب جيشها، فنفروا، فلم يتخلف من كِبارهم أحد إلا أبو لهب، ومَن كرِه الخروج أخرجوه، فخرجوا عن بكرة أبيهم، وتجهَّزوا مسرعين، وكان عددهم ألفًا وثلاثمائة وتسعة عشر مقاتلًا، وكان معهم مئة فرس وستمائة من الدروع، وجِمال كثيرة، وكانوا بقيادة أبي جهل - لعنه الله - بينما المسلمون ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا، فهي معركة غير متكافئة في العدد والعتاد؛ ولكن الله تعالى نصر نبيَّه وأولياءه على أعدائه، وأظهر الحق وأزهق الباطل، ولله الحمد والفضل والمنة، وهو القوي العزيز.

ولعلنا نذكر شيئًا من الدروس والعبر فيما سبق، ونستكمل بإذن الله تعالى تلك الغزوة العظيمة في الحلقة القادمة، فمن الدروس في ذلك ما يلي:
الدرس الأول: في غزوة بدر ظهر فضل هؤلاء الصحابة المشاركين في الغزوة، ويطلق عليهم البَدْريُّون، حيث وجبت لهم الجنة أو المغفرة كما في الحديث الصحيح، وهذا من فضل الله تعالى عليهم؛ حيث طلبوه فأعطاهم عز وجل، فَلْنَلْتَمِس نحن فضل الله تعالى وعطاءه في كل ما يُقرِّبنا من الله عز وجل من صلاة وصيام وصدقة وبِرٍّ وذِكْرٍ وغيرها، فإن الأعمال الصالحة لا تُحصَى كثرةً، فيا أخي الكريم، اجعل لك مع كل طاعة منهجًا ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، لعَلَّ اللهَ أن يفتح لك من فضله، وإذا فتح لك ذلك الباب من الخير، فاستثمره واشكُر الله تعالى وادْعُ إليه الآخرين، واستفتح أبوابًا أخرى فإن الرب شكور، فإن فعلتَ ذلك فقد سَلَكْتَ طُرُقًا إلى الجنة كما سَلَكَها هؤلاء الصَّحْبُ الكِرامُ، وغُفِرَت ذنوبُك؛ لأن الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات، وكُنْ جازمًا وعازمًا، فرياض الجنة بين يديك، فاملأ وقتك بما فتحه الله عليك من الطاعات لتملأ ميزانك من الحسنات فتَقَرَّ عينُك يوم القيامة.

الدرس الثاني:إن قتال الملائكة مع المؤمنين في بدر شاهد كبير وظاهر على معية الله تعالى لعباده المؤمنين، ينصرهم ويسددهم ويعينهم، وإن كان ذلك في القتال فإن معية الله تعالى لعباده بالنصر والتسديد والإعانة تكون بأعمال أخرى يسيرة، ومن أهمها ذكر الله تعالى؛ حيث ورد في الحديث القدسي: ((وأنا معه إذا ذكرني))، فعليك أخي الكريم بكثرة ذكر الله تعالى حتى وأنت تقضي حاجاتك خارج بيتك من شراء وبيع ومعاملات ومراجعات وغيرها، فإن الله تعالى يكون معك فيأتيك العون والتسديد من حيث لا تشعر، فما بال أحدنا إذا خرج من بيته لحاجته أو مراجعة دائرة من الدوائر أو في أي شأن من شؤونه تجده ساكتًا صامتًا إلا من رحم الله.

إن هذا الذكر هو سبب لمعية الله، فاحرص عليه وأكثر منه، وهذا زيادة على الأجر الذي تحصل عليه، فما أسعدك حينما تدخل وتخرج وأنت ذاكر لله تعالى وهو يسمعك ويراك ويعلم حاجتك! فأبشر بالتيسير.

الدرس الثالث: إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد الخروج استشار الصحابة رضي الله عنهم مع أنه رسول رب العالمين والمؤيد بالوحي، وهذا يعطينا أهمية الاستشارة، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، فالاستشارة في فعل الشيء تجمع لك مع عقلك عقول الآخرين، ولا شك أن جمع آراء العقول أكثر سدادًا في الرأي، وربما أشاروا عليك بشيء لم يكن في خَلَدك، فلا تدع الاستشارة في جميع أمورك، وأيضًا كذلك استخر الله عز وجل، فمن استشار واستخار لم يندم، في حين أن بعض الناس يعمل أعمالًا كثيرة ولا تخطر في باله الاستشارة، ثم يجد بعد ذلك مَن يوبِّخه أو يشير عليه بغير فعله، وعلى المستشار أن ينصح له في رأيه، وذلك قبل الفعل، أما إن استشارك بعد الفعل فبارك له عمله، وادْعُ له، وإن كنت ملحًّا في إبداء رأيك المخالف لفعله فليكن برفْقٍ وأحسن عبارة وألطف إشارة، ولا تُكرِّر عليه الرأي، فإن رأيت منه ندمًا فبارك له رأيه، وافتح له إيجابيات في رأيه، وأظهر له ما استحسنته فيه ليفرح به.

الدرس الرابع: إن استجابة الصحابة رضي الله عنهم لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم للخروج للعير كانت سريعةً وبقوةٍ، وهكذا المؤمن يستجيب لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ونحن قد نادانا اللهُ تعالى كثيرًا بقوله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 278] وغيرها من نداءات المؤمنين في القرآن؛ كترك الربا والتزام الصدق، وكثرة الذكر والتثبُّت من الأخبار والقول السديد وغيرها كثير، فلتكن استجابتنا قويةً وسريعةً ما دمنا في زمن الإمكان ليزداد إيماننا، ويحسن سلوكُنا، وتسلم قلوبُنا، ونرضي ربَّنا، ونقتدي بنبيِّنا عليه الصلاة والسلام، أما إن تأخَّرْنا عن الاستجابة فسنكون مصيدةً للشيطان، نعوذ بالله منه، فتأمَّل نفسَك وواقعك، وصحِّح مسارك قبل ألا يكون لديك فرصة لتصحيح المسار.

الدرس الخامس: حيث إن غزوة بدر في رمضان، فكان الصحابة رضي الله عنهم خرجوا صائمين، فبعضُهم أفطر، وبعضُهم بقي على صيامه، فخروجُهم وصيامُهم يُعطينا درسًا عظيمًا في الصبر، واعلم أخي الكريم، أنك لن تنال مُناك إلا بالصبر سواء في دينك أو دنياك، فإذا أردت فعل شيء وثقل عليك فلا يكن الحل هو تركه؛ وإنما الحل هو الصبر عليه؛ لأن عاقبة الصبر أحلى من العسل، وبعد العمل المصاحب للصبر سيجد ذلك العامل نشوةً عاليةَ ولذةً جميلةً ومخرجات طيبة، وهذا يشهد له واقع الصابرين سواءً كان الصبر على طاعة الله أو عن معصية الله أو على أقدار الله تعالى أو على أمور الدنيا ومشاغلها أو على تربية الأولاد والنفس، فالصبر كُلُّه ممدوح، ومخرجاته كلُّها دروس لهذا الصابر، فلنكن كذلك بوركتم ووفقتم.

الدرس السادس: حرص الصحابة رضي الله عنهم على مرضاة الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، فقد تقدَّموا للقتال وهم صغار، يرجون ما عند الله تعالى، وبعضهم يبكي عندما ردَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا نُسارع - إخواني الكرام - إلى مرضاة الله تعالى في صلواتنا، وقيامنا، وصيام النفل، وصدقات التطوُّع، وفعل المعروف وغير ذلك؛ ليكون أولادنا كذلك، فما أجمل الحرص مع المسارعة إلى الطاعة عند الصغير والكبير!

الدرس السابع: في قصة عمير بن الحمام عندما ترك تلك التمرات التي بيده واستطول الحياة إن هو جلس يأكلها فيها درس لقصر الأمل، فالحياة كُلُّها قصيرة، فاستثمرها بالطاعة؛ ولهذا يقول ابن السماك: الدنيا قليل، ولم يبق منها إلا القليل، وليس لك مما بقي إلا القليل، ولم يبق أيضًا من قليلك إلا القليل.

فاستثمر وقتك بإصلاح نفسك والزُّلفى إلى ربِّك لعلَّكَ تحظى برحمة الله تعالى، ثم بدخول الفردوس الأعلى بفضل الله عز وجل.

الدرس الثامن:في أول معركة بَدْر وبعد الإعداد والتأهُّب بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربَّه، ويلتجئ إليه، وفي هذا درس عظيم في أن ندعو الله عز وجل في جميع شؤوننا صغيرها وكبيرها، فكل شيء تريد فعله فادْعُ اللهَ عز وجل تيسيره، فلو لم يُيسِّره الله عز وجل لم يتيسر، وإذا تيسَّر أيضًا، فاحمد الله عز وجل على ذلك التيسير، فستجد نفسَك تدعو وتحمد خلال حياتك بملايين المرات، وهذا فضل عظيم وأجر جسيم وكبير تجده في موازينك يوم القيامة فادْعُ الله في جميع أحوالك في حين أن البعض من الناس - هداهم الله - مُقللون جدًّا في هذا الجانب، ويشكون النقص، فيقال لهم: اتجهوا إلى مولاكم، فقد ناداكم لتدعوه فيجيبكم فضلًا منه وكرمًا، وأنت إذا دعوت الله عز وجل، فلن تخيب من تلك الدعوات، فلك بدعواتك إحدى ثلاث؛ الأولى: إما أن تُعطى ما سألت، الثانية: أن يُدفَع عنك من السوء مثلها، الثالثة: أن تُدَّخَر لك تلك الدعوات حسنات في ميزانك، فأنت رابح في جميع أحوالك، ونعتب كثيرًا على بعض إخواننا وأخواتنا في قلة دعائهم عندما لا يحصل لهم ما سألوا أن يتركوا الدعاء بحجة أنه لا يستجاب لهم، وهذا من قلة الفقه والعلم، ووالله ثم والله، لو علم هؤلاء ما دفع الله عنهم من البلاء وما ادَّخَره لهم من الأجور لضاعفوا جهودهم في الدعاء، ولأكثروا من دعاء ربهم عز وجل في جميع أحوالهم، فلنُكثر أيها الأخوة والأخوات من دعاء الله عز وجل، فهو من أفضل العبادات وأجلِّها، وابدأوا دعاءكم بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتوسُّل بالاسم الأعظم الحي القيوم أو يا الله، وأبشروا بعد ذلك بالخير العظيم من الله عز وجل اللطيف الحنَّان المنَّان.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبَّل مِنَّا أعمالنا، وأن يصلح قلوبنا ونيَّاتنا وذرياتنا والمسلمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.





ابوالوليد المسلم 21-08-2022 09:03 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (13)
الشيخ خالد بن علي الجريش



الحلقة الثالثة عشرة من برنامج (خاتم النبيين)

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والوثيقة مع اليهود


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على مَن أُرسِل رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين، وبعد:
إخواني الأكارم، ذكرنا في الحلقة الماضية الأحداث والمواقف في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة، وأيضًا ذكرنا صورًا من إسلام بعض الصحابة رضي الله عنهم، وأيضًا تعرَّضنا لمسجد قُباء وفضله، وذكرنا شيئًا من دلائل النبوة ومعجزاتها، وبذلك نكون انتهينا من العهد المكي، ونزدلف الآن إلى العهد المدني في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمضى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثةَ عشرَ عامًا، تلوَّنَتْ تلك الأعوامُ بالأفراح والأتراح في المجال الدعوي، وبقي من عمر النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين أمضاها في المدينة، وفيها شُرعت أكثر الأحكام الشرعية، وانتشر الإسلام في الأرض، وفتح الله تعالى على نبيِّه وعباده فتوحًا عظيمة، وحصلت الغزوات والمعارك.

وكان بداية ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة وعلِمَ بذلك أهلُ المدينة كانوا يخرجون صبيحة كل يوم ينتظرون قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا اشتدَّ الحَرُّ رجعوا، فلما كان في يوم الاثنين سنة أربع عشرة من البعثة، وهي السنة الأولى من الهجرة خرجوا كعادتهم، فلما اشتدَّ الحَرُّ رجعوا، وبعد رجوعهم صعد رجلٌ من اليهود على بيته لحاجة له، فنظر فإذا شيء قادم، فاتَّضحه فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَحْبه الكِرام رضي الله عنهم، فقال: يا معشر العرب، هذا جَدُّكم الذي تنتظرونه، فثار المسلمون في حَرِّ الشمس وأخذوا السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَحْبه الكِرام بظَهْرِ الحَرَّة، ولهم تكبير رجَّ المكان فتلقَّوه وحيَّوه وصَحْبَه، وكان بعضهم لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظلَّله أبو بكر عن الشمس عرَفوا أنه هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فغامرتهم الفرحة وغشيتهم السكينة، وظهر في أسارير وجوههم السرور، واتَّضح ذلك كثيرًا وقد استقبلوه خارج المدينة، فمَشَوا معه حتى دخل المدينة عليه الصلاة والسلام، وهم عن يمينه وشماله متقلِّدو سيوفهم، وكلَّما مرَّ على قوم رحَّبُوا به وطلبوه أن ينزل عندهم، فيقول لهم عليه الصلاة والسلام: ((خَلُّوا سَبيلَها فإنَّها مأمُورةٌ)) - يعني ناقته - وكان قد مَرَّ على أربعة أقوام قبيل المدينة كلهم يقول له ذلك، فيرُدُّ عليهم: ((خَلُّوا سَبيلَها فأنَّها مأمُورةٌ))، حتى دخل المدينة عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك مساء يوم الجمعة في جوٍّ مشحونٍ بالفرح والسرور والبهجة، وكان يومًا تاريخيًّا مشهودًا ارتجَّتْ له المدينة بالتحميد والتكبير حتى إن النساء فوق البيوت يتراءونه يقلْنَ: أيهم هو؟ أيهم هو؟

وقال البراء بن عازب: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء مثل فرحهم هذا، ولم تزل ناقتُه عليه الصلاة والسلام تسير به حتى أتَتْ إلى دار بني مالك بن النجار، وهو موضع المسجد النبوي اليوم، فبركَتْ عنده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا إنْ شاءَ اللهُ المنزل))، أمام دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيُّ بيوتِ أهلِنا أقْرَبُ?)) فقال أبو أيوب رضي الله عنه: أنا يا نبي الله، هذه داري، وهذا بابي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((فانطلِقْ فهيِّئ لنا مَقيلًا))، فاحتمل أبو أيوب رَحْلَ النبي صلى الله عليه وسلم، فوضَعه في بيته، فجاء رجل بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أين تحلُّ يا رسول الله? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المَرْءُ مع رَحْله))، وأخذ أسعد بن زرارة راحلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى داره.

وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب سبعة أشهر، وقيل: شهرًا واحدًا، ثم انتقل إلى مساكنه قرب المسجد، فما أحسَنَ حظَّ أبي أيوب! وما أكرم الضيفَ عليه الصلاة والسلام! ولم تقتصر تلك الفرحة بقدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة على المسلمين فقط؛ بل شملت نفرًا من أهل الكتاب، فهذا عبدالله بن سلام رضي الله عنه وكان حين قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يهوديًّا، فيقول عبدالله بن سلام: جئت لأنظر إليه فعرَفتُ أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، وكان أول ما سمِعْتُه منه قوله: ((يا أيُّها الناسُ، أفْشُوا السلامَ، وأطْعِمُوا الطعامَ، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناسُ نيام، تدخلوا الجنةَ بسلامٍ)).

وكانت أول جمعة صلَّاها صلى الله عليه وسلم بالمدينة هي التي كانت في حي بني سالم بن عوف، وعندما نزل النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب نزل في القسم السفلي وأبو أيوب وزوجته في القسم العلوي، فقال أبو أيوب لزوجته: كيف نمشي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أثناء الليل فتنحَّوا جانبًا من البيت حتى أصبحوا، ثم ذكر أبو أيوب ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن يكون الرسول في الأعلى وهو في الأسفل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((السُّفْلُ أرْفَقُ بنا وبمَنْ يَغْشانا)) ثم لم يزل أبو أيوب يرجوه ويُلِحُّ عليه في ذلك حتى صعد النبي صلى الله عليه وسلم في الأعلى، وكان أبو أيوب إذا أخذ فضلة العشاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمَّم هو وزوجته مكان يده عليه الصلاة والسلام، فأكل منها رجاء البركة.

وعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب بعث زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم ليأتياه بأهله، فقدما رضي الله عنهما بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وأيضًا قدما بزوجته سودة بنت زمعة وغيرهن.

فقدموا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أسماء بنت أبي بكر حين هاجرت حاملًا بابنها عبدالله بن الزبير، فلما نزلت قُباء ولدَتْه، فأتت به النبي صلى الله عليه وسلم فحَنَّكَه؛ حيث مضغ النبي صلى الله عليه وسلم التمرة ثم أخذ منها ووضعه في فم عبدالله بن الزبير فحَنَّكَه بها، فكان من أوائل ما دخل إلى جوف عبدالله بن الزبير هو ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا له وباركه، وسمَّاه عبد الله، فكان هو أول مَن ولِدَ في الإسلام بعد الهجرة؛ رواه البخاري.

وفي شهر شوال من السنة الأولى من الهجرة تزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وقد رآها في المنام، فقال عليه الصلاة والسلام بعد تلك الرؤيا: ((إنْ يَكُ هذا من الله يُمْضِهِ))؛ رواه البخاري ومسلم، وهي البِكْر الوحيدة من زوجاته عليه الصلاة والسلام، وقد دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم ضُحى وهي بنت تسع سنين، وكانت كنيتها أم عبدالله، والذي كنَّاها بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وهي لم يولد لها قَطُّ، وكانت وليمتها مختصرة جدًّا تقدر بالجفنة من الطعام، أتى بها سعد بن عبادة رضي الله عنه؛ أخرجه الإمام أحمد، وحين استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عمد إلى تأسيس لهذا المجتمع المسلم يقوم على أعمدة ثلاثة؛ الأول: بناء المسجد، والثاني: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والثالث: المعاهدة مع اليهود في المدينة، فكان بناء المسجد هو أول الأعمال التي قام بها في المدينة؛ حيث هو الشعار الكبير للمسلمين والإسلام، فهم يجتمعون فيه مرارًا في اليوم والليلة لتأدية تلك الفريضة العظيمة الصلاة.

فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا غلامين من بني النجَّار وهما صاحبا الأرض التي عليها المسجد فساومَهما على ثمنها، فقالا: نَهِبُها لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا بالثمن، فابتاعها منهما بعشرة دنانير، وكانت قبلته إلى بيت المقدس؛ لأنه في أول الأمر قبل أن تتحوَّل القبلة إلى الكعبة كانت إلى بيت المقدس، وتم بناء المسجد، وكان طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع- أي: خمسون مترًا - فهو مربع الشكل، وفي عهد عمر تمت زيادة المسجد، وقد قال عمر عند أمره ببناء المسجد وتوسعته لمن يبنيه، قال له: إياك أن تحمِّر أو تصفِّر، فتفتن الناس – أي: نهي لهذا البنَّاء عن الزخرفة - فهو نهي من عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الزخرفة المشغلة للمصلِّين، وكذلك في عهد عثمان بن عفان زاد فيه كثيرًا فكان المسجد مركزًا للمسلمين للتآلف والتشاوُر، يسلم فيه فئام من الناس، وفيه إيواء الفقراء؛ كأهل الصُّفَّة، ويُقابَل فيه الوفود، وتُصدَر فيه الأحكام، وتنطلق منه الراياتُ، وتنعقد فيه حِلَقُ الذِّكْر والعلم.

وذكر البيهقي رحمه الله أن بناء المسجد قد استغرق اثني عشر يومًا، وبعد الفراغ من المسجد تم بناء الحجرات لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استغرق هذا البناء لهذه الحجرات أيامًا قليلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس مستندًا إلى جذع نخلة، فلما كثُر الناس وكان ذلك بعد غزوة خيبر أشار عليه أصحابه رضي الله عنهم، فقالوا: لو اتخذت شيئًا تخطُب عليه؟ فأمر ببناء المنبر، فلما قام على المنبر حَنَّ الجذعُ وأصدر صوتًا كصياح الطفل، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم ومسَحَه فسَكَن، وفي المسجد الروضة الشريفة حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياضِ الجنةِ، ومنبري على حوضي))؛ رواه البخاري ومسلم، قال ابن حجر في الفتح في معنى ذلك: أي تلك البقعة كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة، أو أن يكون الحديث على ظاهره بأن تلك البقعة تنتقل في الآخرة إلى الجنة.

والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألْفِ صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام))؛ متفق عليه، وهي تعادل أكثر من ستة أشهر فيما سواه، ومن أسماء المدينة طابة، ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ سمَّى المدينةَ طابة))؛ رواه مسلم، وسمَّاها النبي صلى الله عليه وسلم طيبة، وقد نهي عن تسميتها يَثْرِب، قال ابن حجر: لأن كلمة يَثْرِب هي من التثريب، وهو التوبيخ، أو من الثرب وهو الفساد، وكلاهما مستقبح على المدينة.

إخواني الكرام، لعلنا نستخرج بعض الدروس والعِبَر والفوائد مما سبق ذكره، نستكمل مادتنا العلمية في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فمن الدروس ما يلي:
الدرس الأول: حرص الصحابة رضي الله عنهم على استقبال النبي صلى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة، وكان ضيفًا عليهم وأكْرِمْ به من ضيف وصحبه الكرام! والدافع لهم في ذلك هو التقرُّب إلى الله تعالى بمحبة هذا النبي الكريم واتِّباعه والإيمان به، ومن حُسْن استقبالهم له وحفاوتهم به خرجوا من المدينة لاستقباله عليه الصلاة والسلام، ومَشَوا معه داخلين إلى المدينة، وفي هذا درس في استقبال الضيوف خصوصًا إذا كانوا من أهل العلم والكِبار والوجهاء وأهل الإحسان بأن يكون الاستقبال محفوفًا بالاهتمام، فإن ذلك يُدخِل السرور، ويُوجِب المحبة، ويسلم الصدور، ويبهج النفس، وذلك بعكس المعهود السلبي عند بعض الناس حيث يستقبل ضيوفه ببرودة وغير اهتمام؛ مما يجعل الضيف قد لا يعود مرةً أخرى، وقد اشتاق الأنصار للالتقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم فحصل لهم ما اشتاقوا إليه، وحقَّ لهم ذلك؛ فهو سيِّدُ ولد آدم، وأفضل خَلْق الله تعالى، ورسول ربِّ العالمين عليه الصلاة والسلام.

الدرس الثاني: لقد فرح الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم فرحًا شديدًا؛ حيث تخلَّص من أذية قريش، وجاء إلى مَن ينصره ويرفع راية دينه، فإن كان الصحابة رضي الله عنهم فعلوا ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم حال وجوده بين أظهرهم، فلنفرح نحن في زماننا هذا بسُنَّته عليه الصلاة والسلام تطبيقًا لها ودعوة إليها، ومنابذة لمن يُعاديها وتربية لأولادنا وأنفسنا عليها ودفاعًا عنها، وإننا إذ نفعل ذلك فهو مقدورنا وما قدَّره الله لنا، وأيضًا عندما نفعل ذلك فإننا لنرجو أن نفرح بلُقْياه عليه الصلاة والسلام في الآخرة ونُحشَر في زمرته وتحت لوائه، فاستمسكوا بسُنَّته وعضُّوا عليها بالنواجذ في أقوالكم وأفعالكم وأعمال قلوبكم، فهذا من أعظم أسباب الثبات على دين الله تعالى، وقوموا بتربية أولادكم على ذلك باستحداث البرامج التربوية داخل أُسَركم وبيوتكم، وذلك كتحفيظ أولادكم لأذكار اليوم والليلة، ودلالتهم على عمل اليوم والليلة؛ كصلاة الضُّحى والسُّنَن الرواتب، وصلاة الوتر، وغيرها من التطوعات، وقد يتسلسل ذلك إلى أحفادكم، ويكون صدقةً جاريةً لكم، فافرحوا بهذا كما فرح الصحابة رضي الله عنهم بلُقْيا النبي صلى الله عليه وسلم.

الدرس الثالث: تأمَّل من خلال السيرة كيف أن الله عز وجل يُؤتي فضلَه مَن يشاء، نسأل الله تعالى من فضله، وذلك بعمل مقارنة سريعة بين أهل مكة وهم قريش، وأهل المدينة وهم الأنصار، فالجميع خَلْق من خَلْق الله تعالى؛ ولكن الله عز وجل أسدى فضله وعطاءه للأنصار في المدينة، وحرَمه قريشًا في مكة، فإن الأنصار في المدينة نصروا النبي صلى الله عليه وسلم واتَّبعوه ووقَّرُوه وعزَّروه وأطاعوه، بينما قريش في مكة آذَوْه وحاربوه وطردوه وكفَروا به، فما حجم الفرق بين الفريقين؛ فريق في الجنة، وفريق في السعير، فعندما تتأمَّل تلك المقارنة فإنك تسأل الله تعالى التوفيق والثبات على الحقِّ في الدارين.

الدرس الرابع: في موقف أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في منزله، حيث أشار أبو أيوب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون النبي في الأعلى وأبو أيوب في الأسفل وليس العكس، وذلك كله تقديرًا واحترامًا ومهابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان أبو أيوب فعل ذلك مع النبي عليه الصلاة والسلام، فلنعمل نحن ذلك مع سُنَّته صلى الله عليه وسلم محبةً له وتوقيرًا ومهابةً، وذلك في تطبيقها والدعوة إليها والتربية عليها وعدم مخالفتها وتمام الإيمان بها.

الدرس الخامس: في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة وهي ابنة تسع سنين دليلٌ كبيرٌ على جواز تزويج الصغيرات إذا كُنَّ يعقلْنَ الأمر ويفهمْنَه، ودرس لجميع الأولياء الكِرام الذين تبقى بناتُهم ومولياتهم حبيسات البيوت سنين طويلة؛ نظرًا لشروط يتطلبونها هم أو بناتهم، فيا معاشر الأولياء كما تبحثون لأبنائكم عن زوجات، فابحثوا لبناتكم عن أزواج أكْفاء، ولا تزيدوا في شروط لا داعي لها، فليس من صالح الجميع أن تتأخر الفتاة أو يتأخر الشابُّ في الزواج، فالتأخُّر له سلبياته التي تتزايد كلما زاد ذلك التأخر، فالكمال عزيز، فلا بُدَّ من التنازل غير المخل والتفاؤل مطلب الجميع، وهناك زواجات عديدة لم يكمل انعقادها وتمامها؛ بل انتهت أثناء الخطبة، وكان السبب في ذلك شروطًا لا داعي لها ولا تستحق أن يُطلق عليها ثانويات، ناهيك أن تكون ضروريات، فيا معاشر الأزواج والزوجات والآباء والأمهات خفِّفُوا من شروطكم واسْعَوا إلى استثمار الخطاب ما أمكن، وعيشوا حالة التفاؤل ولا بُدَّ من مراعاة كل طرف للآخر، بارك الله لكم وفيكم، وجعلكم مباركين أينما كنتم.

الدرس السادس: إن من أعظم النساء بركةً أيسرهُنَّ مؤونة، وقد كانت وليمة عائشة رضي الله عنها تقدر بالجفنة من الطعام، أتى بها سعد بن عبادة، وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن بن عوف: ((أوْلِمْ ولو بشاةٍ)) وعندما نُلقي نظرةً على الواقع نجده أحيانًا أليمًا وموجعًا أن تكون الولائم أضعافًا مضاعفة للحاضرين، وربما أن المتبقي منها قد لا يُستفاد منه كما ينبغي، وهذا من طِباع بعض الناس هداهم الله، أما أناس آخرون فقد قدروا تلك النِّعَم فلم يزيدوا إلا القليل، واستفادوا من ذلك المتبقي للفقراء والمحتاجين عن طريق الجمعيات الخيرية وغيرها، فحَريٌّ بنا جميعًا الابتعاد عن الإسراف ما أمكن سواء في الوليمة أو في مقدماتها من المأكولات الشعبية والمحلية.

الدرس السابع: أهمية المسجد في حياة المسلم، فهو يتردَّد عليه مرارًا في اليوم والليلة، فعلينا التعرف على فضائله، فالمكث فيه عبادة، فتدعو الملائكة لك وتُصلِّي عليك، وهو في صلاة ما انتظر الصلاة، وأيضًا صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم هي خيرٌ من ألف صلاة، فهي تعادل في غيره ستة أشهر عدا المسجد الحرام، والمسجد مصدرٌ للعلم والتعلُّم والتواصل والتكافل، فلا يكن المسجد فقط لأداء صلواتكم؛ بل امكثوا فيه في مبادرتكم للصلوات، وكذلك امكثوا بعدها وتعلَّمُوا فيه، وعلى أئمة المساجد ومؤذنيها - حفظهم الله وسلَّمَهم - أن يستشعروا تلك المسئولية من حيث تحقيق المقاصد الشرعية مما كُلِّفوا به والحرص على التوافق ونبذ الخلاف وتحقيق الائتلاف، وعليهم - وفقهم الله - إحياء مساجدهم بالكلمات الوعظية عن طريق الجمعيات الدعوية، وأيضًا من خلال حديث العصر والعشاء، فلهذه المصالح ونحوها بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد حال وصوله المدينة.

الدرس الثامن: لما وسَّع عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسجد نهى ذلك البَنَّاء أن يزخرف المسجد حتى لا يكون مُشغِلًا للمُصلِّين، وفي هذا درس عظيم لأصحاب الخير والإحسان الذين يقومون ببناء المساجد في عدم الإسراف وإزجاء الأموال في زخرفتها وتحسينها أكثر مما يلزم، ففي هذا مفسدتان: المفسدة الأولى إشغال المصلي بتلك الزخافة الزائدة، والمفسدة الثانية ضياع المال على شيء ليس له مردود، وكلا الأمرين خسارة، فعلى المحسنين ونحوهم أن تكون أموالهم مصروفةً في مكانها الصحيح، فالمساجد تختلف عن البيوت والقصور والمتاحف، فهي ليست مكانًا للزخرفة والنقوش الزائدة؛ ولذلك قال عمر لمن يبني: لا تحمِّر ولا تصفِّر، فتفتن الناس، وهذا أمر واقع، فكثرةُ الزخرفة هي فتنة ومشغلة للمُصلِّين.

الدرس التاسع: إثبات معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي حنين ذلك الجِذْع وهو جماد، فكيف صدر منه هذا الصوت؟! فهو أمر خارق للعادة، فسبحان الله ما أعظمَه! لذلك كان معجزة لهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وذلك كسلام الحَجَر والشَّجَر عليه في مكة، فمعرفة معجزاته عليه الصلاة والسلام تزيد من الإيمان به، وهي سببٌ من أسباب الثبات على الدين.

إن من يتأمَّل تلك المعجزات يقوى إيمانُه بقدرة الله تبارك وتعالى وبرسوله عليه الصلاة والسلام، وكم هو جميل أن يكون للأسرة الكريمة مجلسٌ ولو أسبوعيًّا في قراءة تلك المعجزات والتعليق عليها، فهو خيرٌ عظيمٌ لهذه الأسرة.

أخي الكريم، إن تأمُّلَك وقراءاتك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تعطيك بإذن الله تعالى دروسًا علمية وعملية، فحافظ على ذلك مقتديًا به متأسيًا به، ومما يُقترح عليك في ذلك قراءة كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري، فهو كتابٌ قيِّمٌ ومفيدٌ، وقد حصل على الدرجة الأولى في المسابقة العالمية، فأسلوبُه سهلٌ ومادَّتُه متميزة.

أسأل الله تبارك وتعالى التوفيق للجميع، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ابوالوليد المسلم 21-08-2022 09:05 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (14)
الشيخ خالد بن علي الجريش

الحلقة الرابعة عشرة من برنامج (خاتم النبيين)



بداية السرايا والبعوث وبعض الأحكام الشرعية


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم وبارك على خير رُسُلِه وأنبيائه وعلى آله وصَحْبه أجمعين.

وقد ذكرنا في الحلقة الماضية إخواني الأكارم ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة مهاجرًا، فأوَّل ما بدأ به بناء المسجد، ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم حدَّد موقفه عليه الصلاة والسلام من اليهود، وكتب الوثيقة بينه وبينهم، وتعرَّضْنا أيضًا لشعيرة الأذان وكيف شُرعت، وتعرَّضْنا أيضًا لبعض الأحكام الشرعية في أول الهجرة، ونستكمل حديثنا في تلك الحلقة في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ومعاركه وسراياه، فحين استقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم وبنى مسجده وآخى بين أصحابه، وعاهد اليهود، بدأ بعد ذلك بخطوات عملية أخرى يكسب من خلالها نشر ذلك الدين والدعوة إليه، وفي الوقت نفسه أيضًا تنزل التشريعات الربانية على نبيِّه عليه الصلاة والسلام في بيان عبادتهم وفي تزكيتهم، ومن ذلك الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم بَعْثُ السرايا والغزوات، وجهاده الأعداء، وترتيبه جيشه، فإن قريشًا لا تزال تمثل عدوًّا للمسلمين، ولا يزال يحيط بالمدينة عددٌ من القبائل تدين بالولاء لقريش.

وهؤلاء يمثلون خطرًا على المدينة، وحتى يأمن النبي صلى الله عليه وسلم شرَّهم شكَّل مجموعة من السرايا والغزوات؛ وذلك لتهديد قريش في طريقها إلى الشام من جهة المدينة، وضرب اقتصادها، وأيضًا إبراز قوة المسلمين وتهيئتهم، وقد ذكر ابن سعد رحمه الله أن عدد الغزوات اثنتان وسبعون غزوة، وكانت الغزوات التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم تسع غزوات؛ وهي: بَدْر، وأُحُد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحُنين، والطائف، وقد نزل القرآن متحدثًا عن هذه الغزوات الكبار، ففي غزوة بَدْر نزل كثير من سورة الأنفال، وفي غزوة أحد نزل قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾ [آل عمران: 121] الآيات، وفي الخندق وقريظة نزل صدر سورة الأحزاب، وفي شأن الحديبية وخيبر نزلت سورة الفتح، وأشير أيضًا إلى فتح مكة في سورة النصر، وفي غزوة حُنين وتبوك نزلت آيات من سورة التوبة، وفي بني النضير شيء من سورة الحشر، وهكذا ينزل القرآن في شأن حروب المسلمين موضحًا الأحكام، مُثبِّتًا لهم، مُعزِّزًا لمواقفهم، مُبيِّنًا أحوالهم.

وقد قاتلت الملائكة في غزوة بدر، قيل: كذلك في أُحُد وحُنين، وكذلك نزلت في غزوة الخندق، فزلزلوا المشركين، وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة ينذر بالدعوة بغير قتالٍ، صابرًا هو وأصحابه رضي الله عنهم على كيد المشركين وأذاهم؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، ويقول الله عز وجل: ﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [البقرة: 109].

فلما قويت شوكة المسلمين، واشتدَّ ساعِدُهم أنزل الله عز وجل الإذن بالقتال؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39] الآيات، قال ابن عباس رضي الله عنه: هي أول ما نزل في الإذن بالقتال، وأول ما بدأ القتال بدأ ببعث البعوث والسرايا، والسرايا جمع سَريَّة؛ والمراد بالسرية: هي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة من المقاتلين، في السنة الأولى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سَريَّةً بقيادة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في ثلاثين راكبًا من المهاجرين، فخرج بهم حمزة، وكان هدفهم اعتراض عِيرٍ لقريش قادمة من الشام تريد مكة، ثم تتابعت السرايا بعد ذلك واحدة تِلْوَ الأخرى لقتال المشركين، ثم في السنة الثانية من الهجرة بدأت الغزوات، وهي أكبر وأكثر عددًا من السرايا والبعوث، وهذا يدل على قوة المسلمين، وأول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم هي غزوة الأبواء، وتسمى وَدَّان، ومكانها بين مكة والمدينة، والأبواء ووَدَّان هما مكانان متقاربان، ففي البخاري: قال ابن إسحاق رحمه الله: أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم الأبْواء، ثم بُواط، ثم العُشَيْرة، وكانت في شهر صفر من السنة الثانية من الهجرة، وعددهم سبعون، ثم في ربيع الأول غزا النبي صلى الله عليه وسلم بُواط، وكان عددُهم مائتي رجل، ثم غزوة العُشَيْرة في جمادى الآخرة، وكان عددهم مائة وخمسين رجلًا في ثلاثين بعيرًا، ولم يقم النبي صلى الله عليه وسلم بعدها في المدينة إلا ليالي معدودة، حتى نزل عدد من التشريعات والأحكام تبيينًا لهذه الأُمَّة لأمر دينها، وتشريعًا لأحكامه.

ففي هذه السنة الثانية حصل عدد من الأحكام الشرعية، وعدد من الغزوات والسرايا والبعوث، فمن الأحكام ما يلي: أولًا: تحويل القبلة، ففي النصف من شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة أمر الله عز وجل بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في المسجد الحرام في مكة، فقد أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: صلَّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستةَ عشرَ شهرًا، أو سبعةَ عشرَ شهرًا، ثم صُرِفنا إلى الكعبة؛ رواه البخاري ومسلم.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يُصرَف إلى الكعبة، فقد كان وهو بمكة يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، ثم بعدها صُرِف إلى الكعبة في السنة الثانية، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يرفع طرفه إلى السماء، ويدعو ربَّه بذلك، فأنزل الله تعالى عليه قوله: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، وأول صلاة صلَّاها إلى الكعبة هي صلاة العصر، كما عند البخاري، وقد تأخَّر الخبر عن أهل قُباء، فلم يصِلْ إليهم تحويل القبلة إلا في وقت الفجر، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: بينا الناس بقُباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزِل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة؛ رواه البخاري ومسلم.

وحصل مثل هذا لقوم من الأنصار قرب المدينة في صلاة العصر، فانحرفوا نحو الكعبة كما عند البخاري، وفي حديث تحويل القبلة حجة قوية في قبول خبر الآحاد، والعمل به؛ حيث إن البعض من الناس يعمل بالمتواتر دون الآحاد، وهذا خطأ كبير وجسيم، فخبر الآحاد إذا ثبت فهو حجة على الخلق أجمعين، وفي تحويل القبلة تخبَّط أهل النفاق واليهود يُشكِّكون، فقالوا: ما لهؤلاء، تارة يستقبلون الشام، وتارة يستقبلون الكعبة؟! فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: 142] الآية، وأما المسلمون فقالوا: سمِعْنا وأطَعْنا؛ ولكن كيف حال صلاتنا إلى بيت المقدس، وكيف بمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 143]؛ أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.

الحكم الشرعي الثاني الذي شرع في مقدم النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة هو صيام يوم عاشوراء، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وجد اليهود يصومون ذلك اليوم، فسألهم، فقالوا: هذا يوم نجَّى اللهُ فيه موسى وقومَه من فرعون وقومِه، فنحن نصومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نحنُ أحَقُّ بموسى منكم))، فأمر بصيامه، وجاء في فضله أنه عليه الصلاة والسلام سُئل عن صيامه، فقال: ((يُكَفِّر السنةَ الماضيةَ))؛ رواه مسلم.

الحكم الثالث الذي شرع في السنة الثانية هو صيام شهر رمضان، وقد فرض بعد تحويل القبلة بشهر، فهو فُرض في شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة، وكان صيامه على ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى: التخيير بين أن يصومه المسلم، أو يُطعم عن كل يوم مسكينًا، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى بإطعام مسكين لكل يوم، المرحلة الثانية: وجوب صيامه، ولا يتناول ذلك الصائم المفطرات إلا فقط ما بين المغرب والعشاء، فإذا دخل وقت العشاء أو نام قبله حُرِّمَت عليه جميع المفطرات إلى الليلة القابلة فوجدوا مشقة كبيرة في ذلك، فجاءت المرحلة الثالثة تخفيفًا على العباد؛ وهي الصيام ما بين الفجر إلى الليل، وهو الذي استقر عليه الحال.

الحكم الرابع الذي فرض في السنة الثانية من الهجرة: زكاة الفطر في شهر شعبان، وكان ذلك قبل أن تُفرَض زكاة المال؛ وهي صاع من قوت البلد على الذكر والأنثى، والحُرِّ والعَبْد، والصغير والكبير من المسلمين.

الحكم الخامس الذي فرض في هذه السنة: هو زكاة الأموال ذات النصاب، فقد فرضت في هذه السنة؛ الثانية من الهجرة التي هي ركن من أركان الإسلام.

إخواني الكرام، هذه أحكام شُرعت في تلك السنة الثانية من الهجرة؛ وهي تحويل القبلة، وصيام رمضان، وصيام عاشوراء، وزكاة الفطر، وزكاة المال، ولعلنا نطرح بعض الدروس والعبر مما سبق، ونستكمل المادة العلمية للسيرة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى:
الدرس الأول: أن المربي حين يأمر من يربيهم بشيء من أمور التربية؛ فإنه يكون قدوةً لهم في ممازجة ذلك العمل الذي أمرهم به؛ وذلك ليقتدوا به في ذلك، حتى يحفِّزهم على العمل، ومأخذ هذا من السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بقتال عدوِّهم لم يتأخَّر عنهم؛ بل كان قائدًا لهم في ذلك، مُطبِّقًا ما يأمرهم به، وهكذا نحتاج في تربيتنا لغيرنا عندما نُوجِّههم إلى سلوكيات إيجابية، فلنكن نحن أول من يطبق ذلك السلوك؛ ليروا ذلك حتى يطبقوه بأنفسهم، أما إذا صدر الأمر وتخلَّف التطبيق؛ فإن عزيمتهم ستضعُف عند التنفيذ.

الدرس الثاني: نزل القرآن مُتحدِّثًا عن الغزوات؛ كبَدْر، وأُحُد، والخندق، وغيرها؛ تثبيتًا للمؤمنين على دينهم، وتقويةً لقلوبهم، فنحن بحاجة ماسة للتأمل والتدبر لتلك الآيات؛ ليقوى تمسُّكُنا بديننا، ويعظم ثباتُنا عليه في خضمِّ تلك الفتن في الليل والنهار، فمن قرأ وتدبَّر وتأمَّل فإنه حريٌّ بأن يستلهم الدروس والعبر، معظمًا لله تعالى، متبعًا لشرعه، ثابتًا على دينه لا تزعزعه الفتن.

الدرس الثالث: نزول الملائكة في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تقاتل مع المؤمنين يعطينا درسًا عظيمًا أن الله تعالى مع عباده المؤمنين، ينصرهم ويثبتهم، وييسِّر أمورهم، ويشرح صدورهم، وإن من أكثر ما يكون ذلك مع كثرة ذكر الله تعالى حيث ورد في الحديث القدسي: ((وأنا مَعَه إذا ذَكَرني))، وفي قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، فإذا ذكرت الله تعالى ذكرَكَ الله، وكان مَعَك، فكُنْ مُكْثِرًا من ذكر الله تعالى في ذَهابك وإيابك، ولحظات انتظارك، فهو عبادة عظيمة في أجرها، ويسيرة في تطبيقها، فما عليك إلا تحريك لسانك في تسبيح، أو تهليل، أو استغفار، أو قرآن، أو غيره من الأذكار، فلا تغفل عن هذا ليذكرك الله تعالى ويكن معك.

الدرس الرابع: في أول الإسلام لم يُؤمَر النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال؛ وذلك لقلة المسلمين وضعفهم، وقوة عدوِّهم؛ ولكن بعد أن قويت شوكتُهم، وكثُر عددُهم، وانتشر دينهم جاء الإذن بالقتال، وفي ذلك درس عظيم في عدم الإقدام على الأشياء التي لا يستطيعها الإنسان، ففي حياتنا اليومية نجد الإغراق أحيانًا في أشياء لا نستطيعها، وهي مكلفة لنا، وفوق طاقتنا، ومع ذلك نفعلها، فلو تم تأجيلها حتى يتسنَّى الحال المناسب لها لكان أليق وأحسن، وذلك له أمثلة كثيرة؛ كالصرف على الأولاد، فالبعض ينفق فوق طاقته تماشيًا مع حال فلان وفلان من الأغنياء والأثرياء، فلو أنفق بقدر الطاقة حتى يفتح الله تعالى عليه من رزقه وفضله لكان خيرًا له، ومثال آخر في تأثيث المنازل يسرف في هذا فوق ما يستطيع، ومثل هذا ينتظر حتى يوسِّع الله عليه من رزقه وفضله، ومثال ثالث في شراء السيارات الفارهة، ومثال رابع في بناء البيوت الشاهقة، وخامس في السفريات المكلفة، ومثال سادس في المناسبات المسرفة، وهكذا حال بعض الناس، فيقال لهؤلاء جميعًا: أدركوا أحجامَكم وقدراتكم، وكونوا معها على حدٍّ سواء.

الدرس الخامس: يتضح لنا من خلال السيرة حكم شرعي في الصلاة؛ وهو لو أن الإنسان جهل القبلة، فبحث، فلم يجد ما يدُلُّه عليها، فتحرَّاها واجتهد في ذلك وصلى، ثم جاءه أحد، وأشار عليه بأن القبلة عن يمينك، فليستدر إلى يمينه، وهو يصلي، وليبن على صلاته، وما مضى من صلاته فهو صحيح؛ حيث استدار أهل قُباء في صلاتهم، وبنوا على ما سبق منها.

الدرس السادس: في انحراف أهل قُباء للقبلة، وهم في صلاتهم عندما أتاهم آتٍ، وأخبرهم بأن القبلة حُوِّلت إلى الكعبة، في ذلك حسن الاستجابة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا هو واجب المسلم الحق إذا علم شيئًا عن الله تعالى ورسوله، فإنه يُسارع في الاستجابة لذلك، ولا يتوانى، ولا يتأخَّر، والله عز وجل يقول: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24].

فيا أخي الكريم، كلنا نقرأ القرآن، وشيئًا من السُّنَّة، ونسمع كلام أهل العلم والوعظ والإرشاد، فبعضنا - مشكورًا مأجورًا - يُفلِح في الاستجابة، ويُسارع فيها، ويدعو إليها، وهذا من فضل الله تعالى عليه، والبعض الآخر يقرأ وربما تجاهل حاله التي هو عليها، فهو يسمع عن تحريم الإسبال ويستمر عليه، ويسمع عن تحريم الغناء ويستمر عليه، ويقرأ في تحريم الغِيبة والكذب ويستمر عليهما، ويقرأ ويسمع في تحريم القطيعة والعقوق وهو على ذلك، وهكذا بقية الأحكام، فإلى متى عدم الاستجابة وضعفها؟! فاستثمر وقتك ما دمت في زمن الإمكان، وقبل زوال الأوان، ولو عُرِض على أصحاب القبور الذين لم يستجيبوا أن يرجعوا ليستجيبوا، لافتدوا ذلك بالدنيا كلها؛ ولكنهم إليها لا يرجعون، فما دمت يا أخي الكريم في زمان يمكنك فيه الاستجابة، فسارع إليها قبل أن تحطَّ رِحالَك في زمان ومكان لا يمكنك الاستجابة والرجوع.

الدرس السابع: لا تقوم الحجة على المكلف حتى يبلغه الحكم الشرعي، فتحويل القبلة بدأ بصلاة العصر في المدينة، وأهل قُباء لم يبلغهم ذلك إلا في صلاة الصبح من الغد، فصلَّوا العصر والمغرب والعشاء إلى القبلة الأولى إلى بيت المقدس، فلم يؤمروا بالإعادة، فدلَّ ذلك على أن الحجة لا تقوم حتى يبلغ المكلف الخبر.

الدرس الثامن: في فرضية الصيام، وتخفيفه في نهاية الأمر مظهر عظيم من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده؛ حيث شرع ذلك الركن، فلما شقَّ عليهم في أول الأمر خفَّف عنهم برحمته، وواسع فضله عز وجل، وهكذا في كثير من الأحكام؛ لأن الله عز وجل رؤوف بعباده، غفور لذنوبهم، رحيم بهم، ومتى سأل المسلم ربَّه الرحمة أعطاه إياها، فكل النعم رحمة من الله تعالى بعباده، ومن مظاهر رحمة الله تعالى بعباده في الأحكام الفطر في السفر والمرض، وأيضًا كذلك من مظاهر الرحمة قصر الصلاة في السفر، وكذلك المسافر والمريض يكتب لهما ما كان يعملان صحيحين مقيمين، ومن مظاهر الرحمة مضاعفة العمل إلى عشرة أضعافه وهكذا يتتابع عدد من المظاهر في رحمة الله تعالى بعباده، فلله الحمد رب العالمين على رحمته وسعة فضله بعباده.

الدرس التاسع: في دراسة السيرة النبوية تظهر مظاهر القدرة الإلهية في نصرة الله تعالى لعباده وأنبيائه وأوليائه وتسديدهم وتيسير أمورهم، فمن آمن وأسلم، فإن الله عز وجل معه بنصره وتأييده، ومن كفَر وعاند، فإن الله عز وجل يخذله ويمكر به، أخي الكريم كم هو جميل أن يكون لك مع أسرتك الكريمة قراءة وجلسة، ولو مرة في الأسبوع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ للتعرف على هذا الخُلُق الكريم، والمعاملة الحسنة، والتعبُّد والنُّسُك لنبينا عليه الصلاة والسلام، وصحابته رضي الله عنهم مع ما يحصل مع هذا من تصحيح المفاهيم والتصورات، وما يصحب ذلك من نزول السكينة، وغشيان الرحمة، فاحرص أخي الكريم على ذلك، فما أحوجنا إلى مثل هذا! تربيةً لنفوسنا أولًا، ولمن تحت أيدينا ثانيًا، وأيضًا هو علم نتقرَّب به إلى الله تعالى، وكم هو جميل أن يكون ذلك المقروء مسابقة بين الأولاد لتحفيزهم وتشجيعهم! ومما يقترح في ذلك كتاب الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري، وقد كان هذا الكتاب قد حاز المركزَ الأول في المسابقة العالمية في السيرة، أو أن تكون القراءة في كتاب مختصر ككتاب " نور اليقين في سيرة سيد المرسلين "، وسيستفيد الجميع زيادة على ما ذكر الثبات على دين الله تعالى والاستمساك به، فإن الإنسان إذا قرأ في الكتاب والسنة، ثم في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يتعرف على كثير من أسباب الثبات على دين الله؛ لأن هؤلاء الصحابة الكِرام كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبتوا بتوفيق الله تعالى لهم، فما أحوجنا إلى أن نكون كذلك في زماننا هذا!

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المفلحين، الذين لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، اللهم أوصلنا إلى دار السلام بسلامٍ، وبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا، واغفر لنا، وارحمنا ووالدينا والمسلمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.







ابوالوليد المسلم 21-08-2022 09:07 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (15)
الشيخ خالد بن علي الجريش



الحلقة الخامسة عشرة من برنامج (خاتم النبيين)

القدوم على المدينة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين على إحسانه، والشُّكرُ له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم وبارك على خير أنبيائه، وعلى آله وصَحْبه وأتباعه إلى يوم الدين.

وقد سبق معنا - إخواني الأكارم - في الحلقة الماضية الكلام عن قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ حين الهجرة، وكيف استقبله أهل المدينة ذلك الاستقبال الحافل المفعم بالبهجة والفرحة، وأيضًا سبق معنا أين نزل النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف نزل، وأيضًا كيف بنى المسجد والحجرات، ونستكمل في هذه الحلقة شيئًا من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في أول أيامه، فبعد بناء المسجد وتأسيسه شَرع النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ حيث إن المهاجرين لما هاجروا من مكة تركوا كثيرًا من أموالهم في مكة، فكانوا بحاجة إلى مؤازرة إخوانهم من الأنصار، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجد حلًّا لهذه الحالة المادية عند المهاجرين، فعَقَد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقد عُقِدتْ تلك المؤاخاة في دار أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال آخرون: إنها عُقِدتْ في المسجد، وقد وصلت تلك المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إلى حد التوارُث، فكان يَرِث المهاجريُّ الأنصاريَّ، والأنصاريُّ المُهاجِريَّ، وهو ليس من رَحِمِه؛ ولكن بسبب المؤاخاة، فنُسِخ ذلك بقول الله تعالى: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75]، وكانت تلك المؤاخاة مظهرًا شريفًا ورائعًا من مظاهر حسن الإسلام، والتعاون على البر والتقوى والتكافل الاجتماعي، فجاءت تلك المؤاخاة لتزيل عن المهاجرين وَحْشةَ الغُرْبة، وأُنْسًا لهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ومن نماذج تلك المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ما حصل بين أبي عبيدة بن الجرَّاح وأبي طلحة رضي الله عنهما، وأيضًا ما حصل بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع رضي الله عنهما، وقد تكون المؤاخاة أحيانًا بين المهاجرين أنفسهم بعضهم مع بعض، فالأعلى مع الأدنى، وكانت المؤاخاة مع تسعين إلى مئة من الصحابة رضي الله عنهم، وقد سجَّل الأنصار مواقف نبيلة في البذل والعطاء لإخوانهم المهاجرين، كما سجَّل المهاجرون مواقف مماثلة في الشكر وردِّ المعروف للأنصار، وفي الصحيحين وغيرهما قصة سعد رضي الله عنه حين عَرَض على أخيه عبدالرحمن بن عوف أن يُناصفه أهلَه ومالَه، فعَرَض عليه رضي الله عنه أن يُناصفه هؤلاء الأهل وهذا المال، فيتركه لعبدالرحمن بن عوف، فقال له عبدالرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلِكَ ومالِكَ؛ ولكن دُلُّوني على السوق، فذهب إلى السوق فربِح فيه ربحًا كثيرًا.

ومن نماذج المؤاخاة أن الأنصار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النخيل، فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال الأنصار للمهاجرين تبرعًا منهم: تكفوننا المؤونة والسقي، ونشرككم في الثمرة؛ رواه البخاري. فشاركوهم في المؤونة وشاركوهم في الثمرة، إن تلك المؤاخاة قد أذابَت العصبية والقبلية بصورة عملية واقعية رائعة، فما أحوجنا في زماننا هذا إلى المؤاخاة المعنوية التي تذيب القبلية والعصبية للجنس أو البلد، والمقياس في ذلك هو التقوى، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].

وهؤلاء الأنصار سموا بذلك؛ لأنهم نصروا دين الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم حبَّهم علامةً على الإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يُحِبُّهُمْ إلَّا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إلَّا مُنَافِقٌ))؛ رواه البخاري، وأيضًا دعا لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((اللهُمَّ اغفِرْ للأنصار ولأبناءِ الأنصار ِولأبناءِ أبناءِ الأنصارِ ولنساءِ الأنصار))؛ رواه البخاري، وقال أيضًا النبي عليه الصلاة والسلام: ((آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفاق بُغْضُ الأنصارِ))؛ رواه البخاري ومسلم، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أحَبَّهم أحَبَّه اللهُ، ومَن أبْغَضَهم أبْغَضَه الله))؛ رواه البخاري ومسلم.
فهذه المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وهي العمل الثاني الذي أسَّسَه النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة وذلك بعد العمل الأول والأهَمِّ وهو بناءُ المسجد، أما العمل الثالث الذي عمله النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى المدينة فهو المعاهدة وكتابة الوثيقة مع اليهود في المدينة؛ حيث إنه لمَّا وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان بها عدد كبير من اليهود، وحيث نظَّم النبي صلى الله عليه وسلم العلاقة بين المهاجرين والأنصار كان لا بُدَّ أن يُنظِّم العلاقة مع غير المسلمين، واليهود أبرزُهم؛ وذلك ليأمَن شرَّهم وحتى تكون تلك المعاهدة حُجَّةً للنبيِّ عليه الصلاة والسلام في معاملتهم بما يستحقون.

وهذه الوثيقة يُصحِّحها قوم من أهل العلم، وربما ضعَّفَها آخرون، وكان من بنود تلك الصحيفة ما يلي: أولًا: أنَّ مَن خالف تلك الصحيفة فإنه يُحارب ويُقاتل، ثانيًا: من بنود تلك الصحيفة أن يكون بينهم النصح والبر دون الإثم، ثالثًا: أن جوف المدينة حرام على اليهود، رابعًا: أن الجار كالنفس غير مضارٍّ ولا آثم، خامسًا: أن ما كان من خلاف في هذه الصحيفة أو شجار فمردُّه إلى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، سادسًا: أن من خرج من المدينة فهو آمن، وقد بلغت بنود الصحيفة قرابة بضعة وثلاثين بندًا كلها في تنظيم الحياة مع اليهود؛ ليعيش المجتمع المدني آمنًا عابدًا لربِّه مطمئنًّا مستكينًا، وبهذه الحكمة أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعدَ وأسَّس هذا المجتمع المسلم، وأيضًا كذلك في السنة الأولى من الهجرة شُرع الأذان، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاةَ، ليس يُنادى لها، فتكلَّموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال آخرون: بل بُوقًا مثل بُوق اليهود"؛ متفق عليه.

ثم جاءت بعد ذلك رؤيا عبدالله بن زيد رضي الله عنه؛ حيث رأى صفةَ الأذان المعهود في منامه، فلما أصبح حدَّث بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها لرؤيا حَقٍّ إن شاء الله، قُمْ فألْقِ على بلال ما رأيتَ، فليؤذن؛ فإنه أندى صوتًا منك))، فقمتُ مع بلال، فجعلتُ ألقي عليه ويُؤذِّن، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد ذلك حينما سمِعَ ذلك فقال: والذي بعثك بالحق، لقد رأيتُ مثل ما رأى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فللهِ الحمدُ))، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربعةٌ من المؤذِّنين؛ وهم: بلال، وابن أُمِّ مكتوم بالمدينة، وأبو محذورة بمكة، وسعد القرظ بقُباء.

وفي فضل الأذان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإنَّه لا يَسْمَع صوتَ المؤذِّنِ جِنٌّ ولا إنسٌ ولا شيء إلا شهِدَ له يومَ القيامة))؛ رواه البخاري، ويُسَنُّ لمن يسمَع الأذان خمس سُنَن؛ وهي: أولًا: المتابعة للمؤذِّن، ثانيًا: أن يُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان مباشرة، ثالثًا: أن يقول: اللهُمَّ رب هذه الدعوة التامَّة والصلاة القائمة آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلةَ، وابْعَثْه مقامًا محمودًا الذي وعدْتَه، رابعًا: أن يقول: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا، خامسًا: أن يدعو بما شاء، فهذه خمس سُنَن في الوقت الواحد، وفي اليوم والليلة خمس وعشرون سنة، فحافظ عليها.

ولما قدم المهاجرون المدينة استنكروا ماءها، وقد كان هناك عين رومة، وهي لرجل من بني غِفار، وكان يبيع القِرْبة منها بمُدٍّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((تبيعنيها بعين في الجنَّةِ))، فقال: ليس لي ولعيالي مال غيرها، فبلغ ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: تجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: ((نَعَم)) فاشتراها عثمان رضي الله عنه بخمسة وثلاثين ألف درهم، وجعلها للمسلمين.

ومن الأحكام التي حصلت في أول الهجرة أن الصلاة زِيدت من ركعتين في أول الأمر إلى أربع ركعات بعد الهجرة، وذلك في الظهر والعصر والعشاء، إلا المغرب والفجر فبقيت على عددها، وكانت تلك الزيادة إنما هي في الحضر، وأقرت ركعتين في السفر، وكان اليهود يضمرون العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أشدهم حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر، وسلام بن مِشْكم، وكعب بن الأشرف ونحوهم من أكابر اليهود، فكانوا يُثيرون البلبلة عند المسلمين، ومن ذلك قول بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بمحمدٍ غدوةً، ونكفُر بالعشية حتى نلبس عليهم دينهم، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران: 72]، فعداوة اليهود متأصِّلة على المسلمين قديمًا وحديثًا، والله تعالى يقول: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، فهم لا يرضيهم إلا الخروج من الإسلام واتِّباع اليهودية والنصرانية، فمتى يعي المعجبون بهم ذلك ويبتعدون عن موالاتهم والتشبُّه بهم ليسلم لهم دينهم؟! فإن تولوهم فهم على خطر عظيم وجسيم.

إخواني الكرام، لعلنا نستخرج بعض الدروس والعِبَر والفوائد مما سبق، ونستكمل مادتنا العلمية في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فمن الدروس ما يلي:
الدرس الأول: إن تلك المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هي من محاسن الإسلام، فهو ترابُط رُوحي وجسدي، وإن كان ذلك بينهم رضي الله عنهم، فإن التآخي باقٍ عند المسلمين إلى يوم القيامة تكافلًا وترابُطًا ونُصْحًا وتوجيهًا وإعانةً، وهذا من المحاسن الكُبْرى للإسلام التي من خلالها يكون جسدُ الأمة جسدًا واحدًا متماسكًا، فالمجتمع هو أنا وأنت، فإذا كنا متكاتفين؛ فسيسعد المجتمع، ويكون لُحْمةً واحدةً، ومن مجالات ذلك التماسُك التوجيه التربوي والتكافُل المالي من الصدقة والزكاة وغيرهما، وأيضًا إغاثة الملهوف، وإعانة العاجز، وزيارة المريض، وصِلة الرَّحِم، وإظهار حقِّ الجار، وبَذْل السلام، وبذل المعروف، ونحو ذلك، فلو أن تلك المجالات ظهرت ظهورًا واضحًا في المجتمع لصار المجتمع سعيدًا، يشعُر بإخوانه من حوله، فلنجتهد على إظهارها، فابدأ بنفسك ولا ترتبط بالآخرين فلك أجرك وثوابك الجزيل عند الله تعالى، ولو لم يعمل بها إلا أنت، فإذا رآك الآخرون اقتدوا بك، فكسبت مثل أجورهم.

الدرس الثاني:إن إسداء المعروف يستوجب الشكر عليه؛ ليتكرر ذلك المعروف، ومأخذ هذا من أحداث الهجرة أن الأنصار لما قاموا بخدمة المهاجرين رضي الله عن الجميع وضيَّفوهم أجزل المهاجرون الشكر للأنصار على صنيعهم الجميل، وهكذا كُلَّما أسدى أحدٌ إليك معروفًا ولو صغيرًا فاشكره عليه، فإن هذا الشكر له أثر كبير على النفوس وتقوية لها، وكن شاكرًا دائمًا لصاحب الإيجابية حتى ولو كانت الإيجابية على غيرك فشُكْره تعزيزٌ له، وبعضنا قد يعاتب على السلبية إذا رآها ولا جناح؛ لكن قد لا يشكر على الإيجابية إذا رآها فلا بُدَّ من التوازن بين الشكر والعتاب، وما أجمل أن ترى عملًا طيبًا حسنًا لشخص ما فتُزجي شكرك له وثناءك عليه! فسيتضاعف لديه النشاط والجهد في تكرار ذلك العمل الإيجابي، فيكون لك مثل أجره، فلنكن جميعًا كذلك - جزيتم الجنة - لتكثُر إيجابياتُنا.

الدرس الثالث:في قول عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: دُلُّوني على السوق، عندما عرض عليه أخوه سعد بن الربيع أن يُناصفه ماله وأهله، في ذلك درس عظيم على العمل والنشاط ونَبْذ الكسل، فإن الحياة قد تثقل أحيانًا بمتطلباتها ومستقبلها من زواج وسكن ونفقات وغيرها، فعلى شبابنا المبارك أن يبحثوا عن العمل في جميع المجالات، ولا يتوقف على مجال وظيفي معين، فبعض الشباب قد يرغب في مجال من العمل فينتظره وقتًا طويلًا فتسير الحياة ويتسارع الزمن وهو ما زال في الانتظار، وهذا خطأ واضحٌ جليٌّ، فإن كنت أخي الشاب تنتظر ما تريده وترغبه من العمل، فإنك حين انتظارك يجب أن تعمل عملًا آخر تكسب من خلاله شيئًا من المال؛ حتى لا تخسر المال والعمل جميعًا، فالأعمال الحرة متنوعة وواسعة ومتشكلة، فانظر ما يناسبك منها، وكن مع ذلك منتظرًا لما تريده وترغبه من الوظيفة الأخرى.

الدرس الرابع:في حدث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار زالت - وكأن لم تكن - تلك العصبية القبلية، فإنها إن تعززت أفسدت، فهي ليست مقياسًا للفضل والرفعة، وإنما المقياس الحقيقي، هو في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]، فللنسب شرفه ورفعته؛ لكنه ليس مقياسًا للتفاضل بين الناس، فانظر إلى التقيِّ نظرةَ احترامٍ وتقديرٍ، ولو كان من أقل الناس نسَبًا، وانظر إلى الشقيِّ نظرةَ إشفاقٍ، ولو كان من أرفع الناس نسَبًا، فالفضل في التقوى والعمل الصالح.

الدرس الخامس:إن حبَّ الأنصار علامةٌ على الإيمان، وحبهم عبادة وقُرْبة إلى الله تعالى، وعلامة حُبِّهم اتِّباعهم؛ حيث إن المحبة ليست ادِّعاءً فقط باللسان، وإنما لا بُدَّ أن يتوافق اللسان مع الجوارح لتصدق المحبة، فمَن أحبَّهم وخالفَهم فليس صادقًا في محبَّتِه، فمحبَّتُهم مع اتِّباعهم إيمان، وبُغْضهم نِفاقٌ، ومَنْ أحبَّهم يكسب بحُبِّهم أن الله عز وجل يُحِبُّه، ومن أبغضَهم أبغضَه الله كما ثبَت ذلك كله في الأحاديث الصحيحة.

الدرس السادس:الرؤيا هي من طرق الوحي إذا رآها نبيٌّ من الأنبياء أو أقرَّها ذلك النبيُّ، فهذه شعيرة الأذان جاءت في رؤيا أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فأقَرَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فصارت شريعةً ظاهرةً لهذا الدين، وعلى المسلم إذا رأى رؤيا، فإن كانت حسنةً وصالحةً أخبر بها مَن يُحِب، وسأل عن تعبيرها، وإن كانت سيئةً كتَمَها وتعوَّذ بالله من الشيطان، ونفَث عن يساره ولم يسأل عنها، فإنها بذلك لا تضرُّه، في حين أن البعض من الناس - هداهم الله - يتحدَّثون بكل ما يرون، ويسألون عن كل ما يرون، وهذا جانب من الخطأ الذي يجب تعديله؛ حتى لا يحصل ما يكرهه.

الدرس السابع:الأذان شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام، وله فضل عظيم، وحيث إنه كذلك فينبغي علينا الاعتناء بالأذان من عدة جهات؛ من جهة المؤذِّن في أمانته في ضبطه للوقت، ومن جهة المستمع أيضًا في متابعته وتطبيق سُنَنه الخمس المشهورة المعروفة، في حين أن بعض الناس قد يسمع المؤذِّن ثم ينشغل بأحاديث جانبية ثانوية يمكن تأجيلها حتى يتابع المؤذِّن ويَنال الأجر العظيم؛ بل لو كان في سيارته فسمِع المؤذِّن فوقف قليلًا ليتابع وينال ذلك الأجر العظيم وهو دخول الجنة لكان أمْرًا حَسَنًا طيبًا، فاحرص على ذلك فهو من الأعمال الصالحة المتكررة، وعلينا التسابُق إلى الأذان كما كان يفعله الصَّحْب الكِرام.

الدرس الثامن: بيان حرص عثمان بن عفان رضي الله عنه على استثمار المواقف الصالحة، ومأخذ ذلك من حدث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن كانت له بئر رومة: ((بِعْنِيها ولك عينٌ في الجنَّةِ))، فاعتذر عن هذا، فاشتراها عثمان رضي الله عنه وسَبَّلَها للمسلمين، فالحرص على سقي الماء وحفر الآبار هو عمل صالح جليل رائع، ففي كل كبد رطبة أجْر، فبذلك سقيت الظمآن، فأنت قد أطعمته وأدخلت عليه السرور، ونلت أجر الصدقة عليه، ومن فرص ذلك وضع البرَّادات في أماكنها المناسبة، وأيضًا إيصال الماء المعلَّب إلى العمالة الذين يعملون في الطرق ونحوها، وأيضًا التصدق به على الفقراء والمساكين، وأيضًا ما يتعلق بالمساجد وروَّادها، والاحتساب في بذله في المناسبات الكبيرة والصغيرة، وإن أمرًا آخر قد ينساه كثيرٌ من الناس، وهو ما تضعه في بيتك لنفسك وأولادك فاحتسبه صَدَقةً، فهو يكتب لك كذلك، ويجري على ذلك سائر النفقات على الأولاد، ففي الحديث المتفق عليه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنْفَقَ الرجلُ على أهلِه نفقةً يحتسبها فهي له صَدَقة))؛ متفق عليه، فلنحتسب في نفقاتنا على أولادنا باستحضار النية بأنها صدقة عليهم، وقيام بواجب النفقة، فقد ينفق بعضُ الآباء الآلاف من الريالات على أولاده، فليحتسبها لتكون له صَدَقةً كما في الحديث السابق، واحتسابُها أن يمُرَّ على قلبه أن هذه صَدَقةٌ على أولاده.

الدرس التاسع: بيان عداوة اليهود للمسلمين، وكيف أساءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصَحْبه الكِرام؛ حيث إنهم آذوه وحاولوا قتله، وأساءوا إلى دين الإسلام، وحاولوا تفريق الأمة وبثهم للسُّمِّ الزُّعاف في إنتاجهم الثقافي، ومع ذلك كله نجد مع الأسف من المسلمين من يميل إليهم ويواليهم، وكيف يفعل ذلك وقد عملوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ودينه وصَحْبه ما عملوا، فهؤلاء أحفاد أولئك، والحية لا تَلِد إلا حيَّةً، فعداوتهم وبغضهم والبعد عنهم هو قربة يتقرَّب بها المسلم إلى ربِّه، والله عز وجل يقول: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة: 51]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51]، فهذا وعيدٌ شديدٌ يخشى المسلم على نفسه من تلك الموالاة لهم أن يختم له بها، أو يأتيه من فساد قلبه ما يأتيه من خلال موالاته لهم، وكافيك أنهم نسبوا الفقر إلى الله تعالى، وقد قتلوا بعض أنبيائهم، وكتموا العلم، وحرَّفوا كتابهم، وكفروا بالله عز وجل، فكيف بعد ذلك يأتي مَن يواليهم على حساب دنيا حقيرة قليلة فانية؟! فليحذر أولئك أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.

إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهج يسير عليه المسلم تزكيةً لنفسه وسلامةً لقلبه وشرحًا لصدره وتصحيحًا لمفاهيمه، ماذا أخي الكريم لو قرأت في كل يوم ولو عشر دقائق أو صفحةً من كتاب، فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا من السيرة النبوية في وقت يسير، فابدأ واستمر فأنت تقرأ سيرة أعظم رجل في التاريخ وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وما تقرؤه اذكره في مجالسك لتفيد وتستفيد، وهذا من طلب العلم ونشره فسيُيسِّر الله تعالى لك به طريقًا إلى الجنة، وأيضًا أن يكون لك مع أولادك مجلسٌ في هذه السيرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك تستخرجون الدروس والعِبَر، فأنتم بذلك تكونون سببًا في حضور الملائكة إلى مجلسكم وغشيان الرحمة عليكم، وأيضًا تنزل عليكم السكينة ويذكركم الله تعالى فيمن عنده، وأيضًا يتربَّى الأولاد على تلك السيرة النبوية، وتُصحِّح مفاهيمهم، ويحظون بالأعمال الصالحة من خلال إرشادات هذا النبي الكريم، ومن خلال اقتداء الصحابة رضي الله عنهم به عليه الصلاة والسلام، فما أجمل تلك الجلسات أن تكون في بيوتنا وبين أولادنا ومع إخواننا وزملائنا! فهي لا شكَّ خيرٌ عظيمٌ.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنَه، وصلى الله وسلم، وبارك على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.




ابوالوليد المسلم 29-08-2022 09:28 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (16)
الشيخ خالد بن علي الجريش



الحلقة السادسة عشرة من برنامج (خاتم النبيين)

شيء من تفاصيل غزوة بدر


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على مَن بعثه الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
ذكرنا في الحلقة الماضية الكلام عن غزوة بدر وخصائصها وتاريخها وأسبابها، وأيضًا ذكرنا عددَ كلٍّ من المسلمين والمشركين، وأيضًا كيف سارع الصحابة الكِرام رضي الله عنهم لهذه الغزوة، وكيف كان ترتيب جيش المسلمين، وما شعارهم، إلى آخر ما تم ذكره، والآن في حلقتنا هذه نزدلف في تلك الغزوة العظيمة إلى بعض تفاصيلها؛ فقد خرج المسلمون إلى ملاقاة عير أبي سفيان، فلم يستعدوا للقتال، ولا ظنوا أنهم سيلقون قتالًا؛ ولكن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشًا خرجت من مكة بلفِّها ولفيفها لملاقاة المسلمين، ومنعهم من العير، فعند ذلك استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، فكره بعضهم القتال؛ لأنهم لم يستعدوا له، فما خرجوا إلا لفئة قليلة وهم حُرَّاس العير، فلما علموا بخروج قريش كرهوا ذلك؛ لعدم المكافأة، وأيضًا للضعف في الاستعداد، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾ [الأنفال: 5]، وقد أشار الكثيرون من الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم بأننا معك مقاتلون ومدافعون، ولو خضت بنا هذا الوادي لخضناه معك مع أن المكافأة بين الجيشين غير متساوية؛ فعدد الكفار يزيد على ألف رجل، أما عدد المسلمين فهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، فلا مكافأة بينهم في العدد، وكذلك لا مكافأة بينهم في العتاد، فالكفار معهم مئة فرس وستمائة درع وجِمال كثيرة، وأما المسلمون فمعهم فرسٌ واحدٌ مع المقداد بن عمرو رضي الله عنه، وشيءٌ يسير من الجِمال، ومع عدم المكافأة في العدد والعتاد، فقد أراد الله تعالى نصر هذه الفئة المؤمنة؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 123]؛ بل في صحيح مسلم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُرينا مصارع القوم قبل المعركة بيوم، فيقول: ((هذا مَصْرعُ فلان، وهذا مصرعُ فلانٍ))، فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.

وارتحل جيش المسلمين حتى نزلوا بالعدوة الدنيا في بدر، والمشركون بالعدوة القصوى، والعدوة الدنيا هي القريبة من المدينة، وأما القصوى فهي القريبة من مكة، وحيث أصاب المسلمين عطش وضعف، فأنزل الله تعالى المطر في تلك الليلة على المسلمين، فشربوا وارتووا وتلبَّدت أرضهم وقويت؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ [الأنفال: 11] الآية، فشربوا وارتووا وقويت نفوسهم وتلبَّدت الأرض فزال غبارها، وتحرك المسلمون قليلًا حتى استولوا على بئر بدر، وبعد أن نزل المسلمون عند ماء بدر واستقر أمرهم أشار سعد بن معاذ رضي الله عنه ببناء العريش للرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك العريش مقرًّا للقيادة، وبُني العريش من الجريد، وكان على مرفع من الأرض يطل على المعركة، فدخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وجلس حول ذلك العريش سعد بن معاذ ونفر من الأنصار ومعهم سيوفهم يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجهز الجيش في تلك الليلة وهي ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان وصبيحتها المعركة بين المسلمين والكفار، وفي تلك الليلة نزل النعاس على المسلمين فناموا جميعًا، وكانت ليلة آمِنة، فاخذوا قسطهم من الراحة والنوم، قال الله تعالى: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ﴾، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما فينا فارس يوم بدر إلا المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم- يعني في تلك الليلة- وهذا من لطف الله تعالى بعباده المؤمنين؛ ليرتاحوا قبل غزوتهم، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد بات تلك الليلة يصلي تحت شجرة، يتضرع إلى الله تعالى ويُكثر من قوله: ((يا حي يا قيوم)) يكرر ذلك حتى أصبح، فلما أصبحوا في يوم الجمعة يوم الغزوة، يوم الفرقان، يوم القتال، وهو اليوم الذي التقى فيه الجَمْعان، وكل جيش قد تأهَّب لقتال الجيش الآخر، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: ((الصلاةَ عبادَ اللهِ))، فجاءوا فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد الصلاة حرَّضَهم على القتال وحثهم عليه، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يصفون جنودهم؛ لملاقاة عدوِّهم، وأمر أصحابه ألا يبدأوا القتال حتى يأمُرَهم، وفي صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: ((إذا أكسبوكم- أي: دنوا منكم- فارْمُوهم واستبقوا نَبْلكم))، وفي صبيحة هذا اليوم جاءت قريش إلى وادي بدر استعدادًا للقتال والمواجهة، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهُمَّ هذه قريشٌ قد أقبلَتْ بخُيلائها وفَخْرها تُحادُّكَ وتُكذِّبُ رسولَك، اللهم فنصرَك الذي وعَدْتَني، اللهم أحِنْهُم الغَداةَ)) فلما وصل جيش قريش إلى ميدان المعركة بعثوا عمير بن وهب يستطلع من بعيد على جيش المسلمين، وعن عددهم وعتادهم، فتجوَّل عمير حول العسكر، فرجع إلى قومه، فقال: القوم ثلاثمائة، يزيدون قليلًا أو ينقصون قليلًا، وقال لهم: يا معشر قريش، رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح المسلمين تحمل لكم السم الناقع، فأروا رأيكم، فلما سمع حكيم بن حزام ذلك أشار على عتبة- وكان من كبار قريش- أن يرجع بالناس ولا يُقاتل المسلمين، فقال عتبة: اذهب إلى أبي جهل فإنه لا يصرف الناس غيره، ثم قام عتبة خطيبًا فيهم فقال: أيها الناس، إني أرى قومًا مستميتين، لا تصلون إليهم وفيكم قوة، فلما سمع أبو جهل كلام عتبة قال له: أنت تقول هذا يا عتبة؟! وهل امتلأ جوفك رعبًا وخوفًا؟! فلا نرجع حتى نقاتلهم وقد جبنت يا عتبة، فقال عتبة لأبي جهل: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ؟! ستعلم أينا الجبان، ومعنى مُصفِّر استه؛ أي: كلمة تقال للمترف المتنعم الذي لم يجرب الشدائد.

فأفسد أبو جهل رأي عتبة، فتغلب الطيش على الحكمة، وأول قتيل في هذه المعركة هو الأسود بن عبد الأسد من المشركين، وكان رجلًا شرسًا سيِّئ الخُلُق، فقال: أعاهد الله، لأشربن من حوض المسلمين أو لأهدمنه حتى يظمئوا أو أقتل دونه، فلما خرج إلى الحوض لهدمه خرج إليه حمزة رضي الله عنه، فضرب حمزة قدم الأسود حتى قطع رجله، ثم حبا عتبة إلى الحوض ليبر بيمينه، ثم قتله حمزة رضي الله عنه داخل الحوض، فكان هذا أول قتيل في معركة بدر، ثم بعد ذلك بدأت المبارزة، فخرج ثلاثة من خيرة فرسان قريش وهم: عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وابنه الوليد بن عتبة، وخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار وهم: عوف ومعاذ ابنا الحارث، وعبدالله بن رواحة رضي الله عنهم، فكأنهم استصغروهم، فقالوا: يا محمد، أخرج لنا أكفاءنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي، فبارز عبيدة عتبة، وبارز علي الوليد بن عتبة، وبارز حمزة شيبة، فأما حمزة وعلي رضي الله عنهما فقد قتلا صاحبيهما مباشرةً، وأما عبيدة مع صاحبه فاختلفا ضربتين فجرح كل منهما صاحبه، ثم كرَّ حمزة وعلي على عتبة فقتلاه، وفي هؤلاء الستة نزل قول الله تعالى: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴾ [الحج: 19] الآيات؛ رواه البخاري ومسلم.

وهكذا فقد المشركون ثلاثة من أكبر فرسانهم في أول القتال دفعة واحدة، فاستشاطت قريش غضبًا، وتزاحف الجيشان والتقى الصفَّان، ودنا بعضهم من بعض، ولما اشتدَّ القتال استفتح أبو جهل فقال: اللهم أقطعنا للرحم فأَحِنْه الغداةَ، فنزل قول الله تعالى: ﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ ﴾ [الأنفال: 19] الآية، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام، فما زال يناشد ربَّه قائلًا: ((اللهم أنجِز لي ما وعدْتَني، اللهم إني أَنْشُدُكَ عهدَك ووعدَك))، واجتهد في الدعاء حتى سقط رداؤه عليه الصلاة والسلام، فقال له أبو بكر وقد أشفق عليه: حسبك يا رسول الله؛ فإن الله عز وجل سينجز لك ما وعدك، وفي تلك الأثناء نزل خيار السماء من الملائكة، فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد دعائه هذا أغفى إغفاءة يسيرة، ثم انتبه، فقال: ((أبْشِر يا أبا بكرٍ، أتاكَ نصرُ الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثَنياه النَّقْع))؛ أي: الغبار؛ أخرجه البخاري، هكذا بدأ الهجوم الكاسح من المسلمين على المشركين، والرسول عليه الصلاة والسلام يُبشِّر أصحابه بقوله: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ [القمر: 45]، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب، ثم رماها في وجوه القوم، فما من أحد إلا وأصابت عينيه، فقال: ((شاهت الوجوه))؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17]، وقتل من صناديد قريش سبعون، وأُسِر منهم أيضًا سبعون أسيرًا، وأما المسلمون فقد استشهد منهم أربعةَ عشرَ رجلًا، وكان أيضًا من نتائج بدر أن الأعداء صاروا يخافون من المسلمين وفي أثنائها أيضًا وبعدها أسلم الكثيرون، ولما انتهت المعركة دَفَن النبي صلى الله عليه وسلم أربعةَ عشرَ رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في بئر خبيثة في بدر؛ كما رواه البخاري.

وبعد ثلاثة أيام من بدر رجع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الصحابة رضي الله عنهم إلى المدينة وهم يصطحبون الأسرى من بدر، ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم أبناء العم والعشيرة، فأرى أن تأخذ منهم الفدية وتُطْلِقهم، ولعل الله أن يهديهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ترى يابن الخطاب؟)) فقال عمر رضي الله عنه: أرى أن تمكننا منهم فنضرب أعناقهم حتى يعلم الله أننا ليس في قلوبنا هوادة للمشركين؛ ولهذا جاء القرآن موافقًا لرأي عمر رضي الله عنه، إخواني الكرام وفي نهاية هذا العرض السريع لتلك الغزوة لعلنا نستخرج الدروس والعبر مما سبق.

الدرس الأول: إن انتصار الحق على الباطل ليس بالعدد والعتاد؛ وإنما هو تأييد من عند الله تبارك وتعالى للحق وأهله ومكر بالباطل وأهله، وهذه هي الفطرة الإلهية أن الله تعالى ينصر دينه وأولياءه، وهذا يظهر جليًّا من خلال تلك الغزوة العظيمة حيث لم يتكافأ عدد المسلمين مع المشركين؛ بل إن المشركين أضعاف المسلمين في عددهم وعتادهم؛ ولكن الله تعالى بالمرصاد لمن خالف أمره، فهنيئًا لأهل الحق بانتصارهم وإن حصل ضد ذلك فهو ابتلاء لأهل الحق وإملاء واستدراج لأهل الباطل، أما الفطرة الثابتة فهي أن الله تعالى ينصر دينه وأولياءه على الباطل وأهله، والمحصلة النهائية على كلا الحالين من النصر والهزيمة أن أهل الحق هم الناجون وإن هزموا، وأن أهل الباطل هم الهالكون وإن انتصروا.

الدرس الثاني: يظهر من خلال تلك الغزوة العظيمة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي أنه أراهم مصارع القوم قبل المعركة والقتال، فيقول الصحابة رضي الله عنهم: والله ما تأخر هؤلاء القوم عن مكانهم الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه معجزة عظيمة لهذا النبي الكريم، ولنعلم أخواني وأخواتي الكرام أن القراءة في المعجزات النبوية تعطي دروسًا عظيمة وقوة الإيمان بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، فما أجمل أن يكون لنا قراءة وتدبر في تلك المعجزات النبوية، فهي من دلائل النبوة الكبرى، يستنير بها المسلم، وتكون سببًا لثباته وتعظيمه لله عز وجل.

الدرس الثالث: الله تعالى لطيف بعباده المؤمنين فينصرهم وييسر أمورهم ويشرح صدورهم، وهذا من مظاهر الرحمة الإلهية واللطف الرباني، وهذا يظهر من خلال ما حصل في تلك الغزوة من إنزال المطر ليعزز الأرض ويقويها، ويزيل عنها غبارها؛ حيث كانت أرضهم رملية مغبرة، وكذلك ألقى عليهم النعاس أمنة منه لهم؛ ليرتاحوا ويأخذوا قسطًا من النوم أيضًا؛ ليلقوا عدوَّهم بنشاط وقوة وبسالة، وكذلك من لطف الله تعالى عليهم ما حصل لهم من الثبات حال اللقاء فهو عامل مهم في النصر بعد توفيق الله تعالى، وأيضًا من لطفه بهم أن الله تعالى قلل الكفار في نظر المسلمين وأيضًا كثر المسلمين في نظر الكفار؛ وذلك لتقوى عزيمة المسلمين، وهذا أمر خارق، إن هذه العوامل كلها وأمثالها هي من لطف الله تعالى بعباده المؤمنين، فالله تعالى شكور، فلما استجابوا لأمره لم يتركهم؛ وإنما جازاهم على صنيعهم بحيث كان معهم، ومن كان الله معه، فلن يغلبه أحد، ومَن عصاه فهو المخذول المذموم.

الدرس الرابع: إن الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى من أعظم الأسباب في كشف الكربات ونزول الخيرات، وهذا يظهر جليًّا من كثرة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم حال القتال وسؤاله لينصر الله تعالى عباده، فيقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا يدعو ويتوسل بالحي القيوم، ثم ذهبتُ إلى ميدان القتال ورجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية، فإذا هو ساجد يدعو، ثم ذهبتُ إلى ميدان القتال ورجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثالثة، فإذا هو ساجد يدعو، فالالتجاءُ إلى الله تعالى في جميع الأحوال في السلم والحرب، والخوف والأمْن، والصحة والمرض، وغيرها، مطلبٌ كبيرٌ لكل مسلم.

فيا إخواني الكرام، لا غنى لنا جميعًا عن ربنا ولا طرفة عين، فلنكن في جميع حاجاتنا وأحوالنا ندعو الله تعالى بتيسيرها، ولا نتوقف على الأسباب الظاهرة المبذولة، فقد تفشل الأسباب وينجح الدعاء، فوصيتي لك أخي الكريم أنك إذا أردتَ عملًا معينًا من شراء أو علاج أو استشارة أو سفر أو غير ذلك من شؤونك، فادْعُ الله تعالى بتيسيره، فلو لم يُيسِّره الله لم يتيسر، والبعض منا قد تمر به أحلك الظروف وأشدها فينسى الدعاء، ويبحث عن الأسباب المحسوسة، فالدعاء هو ارتباط بالله تعالى وثيق، وكذلك هو العمل الذي تربح فيه في غالب أحوالك، فلك بدعائك أن تُعطى ما سألت، أو يدفع عنك سوء أو يُدَّخر لك حسنات، فأنت رابح وبكثرة، وإنني أرغب في تصحيح مفهوم خاطئ عند البعض؛ حيث إذا لم يجد حقيقة ما سأل ترك الدعاء وقال: إنه لا يُستجاب لي، وهذا لا شك أنه جهل عظيم، فكم دفع الله عنك من البلاء، فلربما أن ذلك بسبب الدعاء، وأيضًا وما يدريك أن الله تعالى ادَّخَر لك حسنات تجدها أحوج ما تكون إليها، فالدعاء عبادة عظيمة لا نغفل عنه أيها المباركون، ولنُرَبِّ أولادنا عليه، واستفتح دعاءك بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضًا بالتوسل بالحي القيوم، ثم اسأل الله تعالى تجد الإجابة قريبةً جدًّا بإذن الله عز وجل.

الدرس الخامس: في غزوة بدر حصل للكفار خلل في اتفاقهم، وافترقوا أيضًا في آرائهم، وذلك في مبدأ الغزوة وفي نهايتها، وهذا يعطينا درسًا عظيمًا؛ أن الباطل مهما انتفش فهو غير متفق، والسبب الكبير في ذلك أنه مخالف للفطرة، ويظهر خلله في نتائج أعماله وإن كان متفقًا في الظاهر إلا أنه متخلخل في الباطن، فالكفار في تلك الغزوة حصل لهم من الخلاف ما جعل بعضهم يُعيِّر بعضًا بالجبن والخوف كما حصل ذلك بين عتبة وأبي جهل، ولكل منهما أعوان وأنصار، فالباطل دائمًا يختلف ولا يتفق؛ لأن الاتفاق نعمة، والاختلاف نقمة، وكلاهما بيد الله تعالى، فمن أطاعه أعطاه النعمة، ومن خالفه جازاه بالنقمة، فيا ليتنا ندرك هذا تمامًا؛ لكي تكون نعم الله تعالى علينا متتابعة، وأيضًا متتالية، فاحرص أخي الكريم أن تكون مُتبعًا للحق في جميع أحوالك، وفي حال اختلاف الناس فعليك برأي العلماء الراسخين في العلم فاتبعهم فإنهم يسيرون مع الدليل من الكتاب والسنة، ولا تغترَّ بكثرة الباطل، فعدد المشركين في غزوة بدر أضعاف المسلمين ومع ذلك هزموا، فانجُ بنفسك من مواطن الفتنة والرَّدَى.

إخواني الكرام، تلكم لفتات يسيرة عن غزوة بدر الكبرى التي كان لمن شارك فيها شرفٌ كبيرٌ في مغفرة ذنوبهم ودخولهم جنات النعيم برحمة الله تعالى، فلنقرأ عنها وعن غيرها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليتصحح عندنا أفعال وأقوال وأحكام كانت خاطئةً من ذي قبل، فنعبد الله تعالى على بصيرة، فعندما تجتمع الأسرة ولو مرة في الأسبوع، ثم يتداولون بينهم شيئًا من هذا، فهم على خير عظيم وثواب جزيل وهو مجلس تحفُّه الملائكة وتغشاه السكينة وتنزل عليه الرحمة، ويذكر الله تعالى أصحابه فيمن عنده، وماذا نريد بعد ذلك؟! وإن التجربة برهانٌ كبيرٌ، فلعلك أخي المبارك تعقد ذلك المجلس مع أولادك، وستجد من الأرباح ما لم يكن في الحسبان، إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهجٌ يسير عليه المسلم تزكيةً لنفسه وسلامةً لقلبه وشرحًا لصدره وتصحيحًا لمفاهيمه، وما تقرؤه من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام اذكره في مجالسك لتفيد وتستفيد، وهذا لا شك أنه من طلب العلم ونشره.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المفلحين، وأن يوصلنا دار السلام بسلام، كما أسأله تبارك وتعالى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يجعلنا من عباده الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وأن يغفر لنا ووالدينا والمسلمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ابوالوليد المسلم 29-08-2022 09:30 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (17)
الشيخ خالد بن علي الجريش



الحلقة السابعة عشرة من برنامج (خاتم النبيين)

الأحداث بين بدر وأُحُد، وعددها 15 حدثًا


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه الله تعالى رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
وقد ذكرنا إخواني الأفاضل في الحلقة الماضية شيئًا من تفاصيل غزوة بدر في ملاقاة عِير أبي سفيان، كيف علمت قريش بذلك، وماذا عملوا عندما علموا، وأيضًا ذكرنا كيف كان خروج كل من الفريقين، وكيف بدأ القتال، وأيضًا ذكرنا النتيجة لهذا القتال في تلك الغزوة، وأيضًا ذكرنا كيف لطف الله عز وجل بعباده المؤمنين، إلى غير ذلك من المسائل.

وفي حلقتنا هذه نتطرق لأحداث حدثت بعد غزوة بدر وقبل أُحُد؛ حيث إنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة، فغزوة بدر في السنة الثانية وغزوة أُحُد في السنة الثالثة، وحدث بين الغزوتين أحداث تاريخية يحسن بنا مدارستها والعلم بها على سبيل الاختصار، ومن ذلك:
الحدث الأول: عيد للفطر هو بعد غزوة بدر مباشرة، فلم يكن بينهما إلا بضعة أيام، فما أروع هذا العيد بعد هذا الانتصار المبين، وقد كان لأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ قد أبْدَلَكم بهما خيرًا: يوم الفطر، ويوم النَّحْر))؛ أخرجه أحمد.

الحدث الثاني: وفاة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي زوجة عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ حيث تخلَّف عثمان عن غزوة بدر بإذنٍ من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون عند زوجته رقية، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لكَ أجرَ رجلٍ ممَّن شَهِدَ بدرًا وسَهْمَه))؛ رواه البخاري.

الحدث الثالث: زواج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها؛ حيث بنى عليها في السنة الثانية بعد بدر، وقد عقد له عليها في نهاية السنة الأولى، وكان عُمُرُه حينها خمسة وعشرين عامًا، وكان عمرها ثماني عشرة سنة، وقد خطبها قبل ذلك أبو بكر وعمر، فردَّهما النبي صلى الله عليه وسلم لصغرها آنذاك، وولد له منها الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم وزينب، ولما ولد الذكور سموا الأول حربًا، فسمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، ولما ولد الثاني سمَّوه أيضًا حربًا، فسمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم الحسين، ولما ولد الثالث كذلك سمَّوه حربًا، فسمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم محسن، وفي هذا العناية باختيار الأسماء ذات المعاني الطيبة، وعقَّ النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين كَبْشَينِ كَبْشَينِ.

الحدث الرابع: ظهور النفاق والمنافقين، ففي هذه الفترة بدأت ظاهرة النفاق، فأسلم أناس في الظاهر، وأبطنوا الحقد والكيد في قلوبهم للإسلام وأهله.

الحدث الخامس: بني قينقاع، فقد حدثت تلك الغزوة في السنة الثانية بعد بدر بشهر تقريبًا، وكان بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام عهدٌ، فلما كانت وقعة بدر أظهروا الحسد والبغي، ونقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما رجع من بدر جمع اليهود فقال لهم: ((يا معشر يهود، أسْلِمُوا قبل أن يصيبَكم مثل ما أصاب قريشًا))، فكان ردُّهم سيئًا، واعتزوا بقوتهم، فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 12]، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فتحصنوا في حصونهم ودام الحصار عليهم خمسة عشر يومًا، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتفهم عليه الصلاة والسلام وأسرهم، ثم بدأ المنافق عبدالله بن أُبيِّ بن سلول يشفع لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألحَّ عليه كثيرًا حتى قبِلَ النبي عليه الصلاة والسلام شفاعته، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرجوا من المدينة، وأمهلهم ثلاثة أيام، وأوكل بهم عبادة بن الصامت، وطلبوا هم من عبادة زيادة المدة في الإمهال، فقال لهم عبادة رضي الله عنه: لا أمهلكم ولا ساعة من نهار بعد الثلاثة أيام، فأخرجهم من المدينة وأجْلَاهم عنها.

الحدث السادس: غزوة السويق، وهي في الخامس من ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة؛ حيث إن أبا سفيان أقسم يمينًا أن يغزو محمدًا وصحبه؛ ليأخذ بثأر بدر، فخرج بمئتي رجل من قريش متجهًا إلى المدينة للحرب، فلما وصل أطراف المدينة ليلًا طرق الباب على حُيي بن أخطب زعيم بني النضير، فأبى أن يفتح عليه بابه؛ خوفًا من المسلمين، ثم اتجه إلى سلام بن مشكم وكان من ساداتهم أيضًا ففتح له وتحدث معه ساعةً، ثم خرج منه وبعث رجالًا من قومه الذين معه إلى بستان، فوجدوا فيه رجلين من المسلمين، فقتلوهما، ثم هربوا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليه الصلاة والسلام مائتي رجل من المهاجرين والأنصار، فخرج بهم عليه الصلاة والسلام يطلب هؤلاء، فهرب أبو سفيان ومن معه حتى ألقوا ما معهم من السويق؛ وهو نوع من الطعام؛ ليتخفَّفوا في هروبهم، فلما ولَّوا مدبرين رجع النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة إلى المدينة، وسميت بهذا الاسم؛ لكثرة ما ألقي من السويق ليتخفَّفوا في الهرب.

الحدث السابع: إقامة عيد الأضحى، فهو أول عيد للأضحى في المدينة، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضحى هو وأهل اليسر من الصحابة، فقد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم كبشين، وذلك بعد صلاة العيد، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام الإمساك عن الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي.

الحدث الثامن: وفاة عثمان بن مظعون رضي الله عنه، فقد كان من سادات المهاجرين، وهو ممن هاجر إلى الحبشة والمدينة، وأيضًا هو ممن شهد بدرًا، وكان صاحب نُسُك وعبادة كثيرة، وقد أخرج البخاري (أن أم العلاء رضي الله عنها قالت: رأيت في النوم عينًا تجري لعثمان بن مظعون)، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ذلك عملُه يجري له))؛ رواه البخاري.

الحدث التاسع: غزوة بني سليم، وكانت في منتصف شهر الله المحرم من السنة الثالثة، فعندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن جمعًا من بني سليم وغطفان تجمعوا لقتاله، خرج إليهم عليه الصلاة والسلام بمئتي رجل من أصحابه رضي الله عنهم، فساروا إليهم، فهربوا منه ولم يبق إلا الراعي يسار ومعه الإبل يرعاها، فظفروا وغنموا تلك الإبل والراعي، وأعتق الراعي بعد ذلك الذي هو يسار، ثم أسلم هذا الراعي، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم الإبل على الصحابة، وكان ذلك استغرق خمس عشرة ليلة.

الحدث العاشر: غزوة غطفان، ففي المحرم من السنة الثالثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعمائة رجل من أصحابه رضي الله عنهم، وذلك عندما جاءه الخبر أن جمعًا من غطفان اجتمعوا للإغارة على المدينة، فلما سمعوا بخروج رسول الله عليه الصلاة والسلام والصحابة إليهم هربوا على رؤوس الجبال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سار إليهم حتى بلغ مكانًا يقال له ذو أمر، فعسكر به، وأصابهم مطر، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فرآه المشركون كذلك، فبعثوا رجلًا شجاعًا لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، واسم هذا الرجل دعثور بن الحارث، فلما شعر به الرسول عليه الصلاة والسلام وهو قائم على رأسه والسيف بيد دعثور، فقال له: مَن يمنعك مني يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله))، فوقع السيف من يده على الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((مَنْ يمنعك مني؟))، قال دعثور: لا أحد، ثم قال بعد ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فرجع إلى قومه متغيرًا، فقالوا: ويلك! ما لك؟! فقال: لما جئتُ إلى محمد لأقتله نظرت إلى رجل طويل، فدفع في صدري ووقعت لظهري، فوقع مني السيف، فعرفت أنه مَلَك، فأسلمتُ، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام.

الحدث الحادي عشر: مقتل كعب بن الأشرف، وهو من أشد اليهود عداوةً للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان شاعرًا مجيدًا، ولما علم بانتصار المسلمين في بدر، قال: إن كان ذلك صحيحًا، فبطن الأرض خيرٌ من ظهرها، فانبعث يهجو المسلمين، ويمدح كفار قريش، ويبكي على قتلاهم، فلما اشتد أذاه للمؤمنين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لكعب بن الأشرف؛ فإنه آذى اللهَ ورسولَه؟))، فانتدب له ثلاثة من الصحابة، وهم: محمد بن مسلمة، وأبو نائلة، وعباد بن بشر، ودلَّهم على قتله، وذهبوا إليه، ولهم في قصة قتله حدث طويل كبير طريف رواه البخاري في صحيحه؛ لكن في آخر موقفهم قال لهما أبو نائلة- أي: قال لمحمد وعبَّاد -: سأشم الطيب في رأس كعب، فإذا تمكنت منه فاقتلوه، فلما تمكن منه قتلوه شر قتلة، ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: ((أفلَحَتِ الوجوهُ))، والقصة طويلة وطريفة جدًّا، فليُرجَع إليها في صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب قتل كعب بن الأشرف، ولما قُتِل كعب - وهو من أشرافهم- ضعف اليهود واستكانوا، ودَبَّ الرعب والخوف في قلوبهم.

الحدث الثاني عشر: سرية زيد بن حارثة، حيث إن قريشًا قالت: لا بد أن نذهب بتجارتنا إلى الشام وليس لنا طريق إلا بجوار المدينة، وإننا نخشى المسلمين أن يفعلوا بنا كما فعلوا في بدر، فسلكوا طريقًا بعيدًا عن المدينة يتَّجه إلى الشام، فلما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن حارثة بمئة راكب، فأدركوهم بمكان يقال له القردة، فاستولوا على العِير كلها، وهرب أهلها وأسر المسلمون دليل القافلة، وهو فرات بن الحارث، وأسلم عندما أُسِر وحسُن إسلامه.

الحدث الثالث عشر: زواج عثمان بن عفان رضي الله عنه بأم كلثوم رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن عثمان تزوج اختها رقية بنت محمد عليه الصلاة والسلام وماتت، ثم تزوج بعدها أختها أم كلثوم.

الحدث الرابع عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر، فقد تزوجها في شعبان من السنة الثالثة، وكان عمر قد عرض نكاحها على عثمان بن عفان فأبى، ثم عرضها على أبي بكر رضي الله عنه فأبى، ثم تقدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجها، ثم قال أبو بكر بعد ذلك لعمر: لم أقبل الزواج بحفصة؛ لأني سمِعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها ليتزوجها.

الحدث الخامس عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت خزيمة، فقد تزوَّجها في شهر رمضان من السنة الثالثة، وكانت رضي الله عنها تُسمَّى أم المساكين؛ لكثرة إطعامها لهم، ولم تلبث إلا ستة أشهر تقريبًا حتى توفيت ولها ثلاثون سنة، فصلَّى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ودُفِنَتْ في البقيع.

إخواني وأخواتي الكرام، هذه خمسةَ عشرَ حدثًا حصلت بين غزوة بدر وأُحُد، ولعلنا نختم تلك الحلقة ببعض الدروس والعِبَر من تلك الأحداث، فمن الدروس في تلك الأحداث ما يلي:
الدرس الأول: أن من نوى عملًا من أعمال الخير، ثم منعه مانع منه، فإنه يُكتَب له أجر ذلك العمل فضلًا من الله عز وجل ورحمة، وهذا مستنبط من بقاء عثمان بن عفان رضي الله عنه لتمريض زوجته رقية، وقد عقد العزم على الخروج إلى غزوة بدر؛ لكنه منعه ذلك المانع؛ وهو مرض زوجته رقية رضي الله عنها؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لك أجْرَ مَن شهِدَ بدرًا وسَهْمَه))؛ رواه البخاري، والله عز وجل يقول: ﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] وقد استنبط أهل العلم من ذلك حكمًا؛ وهو أن مَن منعه مانع من أداء العمل الذي عزم على فعله، فإنه يُكتَب له أجرُه، فالحمد لله على سعة فضله ورحمته على عباده، فلا تضِق ذَرْعًا إذا مُنعت من خير قد عزمت على فعله، فاهنأ بفضل الله تبارك وتعالى؛ فقد كتب لك الأجر وإن لم تعمل.

الدرس الثاني: يتعين علينا العناية بتسمية أبنائنا وبناتنا الأسماء الحسنة ذات المعاني السامية الطيبة حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّى أبناءه الحسن والحسين ومحسنًا، وبدل تسميتهم الأولى بحرب؛ فهي تفيد معنى الإحسان وذلك بخلاف الأسماء ذات المعاني السيئة أو أسماء أعداء الإسلام أو الأسماء الأجنبية، فكل هذا محظور، ففي الغالب أن المسمى له نسبة من اسمه؛ فقد ورد عن المسيب عن أبيه عن جده قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اسمُكَ؟))، قلتُ: حزن، قال: ((بل أنت سهل))، قال: لا أغير اسمًا سمَّاني به أبي، فقال المسيب: ما زالت الحزونة فينا بعد؛ رواه البخاري.
فيا معاشر الأولياء، اختاروا لأولادكم الأسماء الحسنة ذات المعاني السامية، فهذا من أسباب صلاحهم.

الدرس الثالث: لقد حثَّ الإسلام على العقيقة عن المولود؛ حيث عقَّ النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين كبشين كبشين، وهي سنة مؤكدة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الغلامُ مرتهنٌ بعقيقتِه)) ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((كُلُّ غلامٍ مرتهنٌ بعقيقته، تُذبَح عنه اليوم السابع، ويحلق، ويُسمَّى))؛ صححه الألباني وغيره، وهي عن الذكر والأنثى، فللذكر شاتان، وللأنثى شاة، ولو ذبح شاة عن الذكر لجاز ذلك، وقد كان اليهود يعقُّون عن الذكر ويتركون الأنثى، وفي هذا تكريم من الإسلام للمرأة، وتُذبَح العقيقة في اليوم السابع من ولادته، وهذا على سبيل الاستحباب، ومن منافعها قيل: إنه محبوس عن الشفاعة لوالديه حتى يعق عنه، وقيل أيضًا: إنها نوع من أسباب حفظه من الشيطان، ومن لم يعق عنه حال صغره فله أن يذبح له عقيقة ولو كان كبيرًا.

الدرس الرابع: بيان خطر النفاق والمنافقين، فإن فعل المنافق هو خير في الظاهر؛ لكنه ليس لله عز وجل، فهو تعب بلا ثمرة، وليسأل الإنسان ربَّه عز وجل الثبات على الحق، ويبذل جهده في الإخلاص لله تعالى في أقواله وأفعاله، ولو نظرنا إلى عمل المنافقين لرأيناها صلاةً وصَدَقةً وصيامًا وغيرها من العبادات؛ لكنها هباء منثور، فلنستعذ بالله تعالى من حالهم، ولنبتعد عن صفاتهم ونفاقهم العملي والاعتقادي، فعملهم كعمل المسلمين؛ لكن فقدوا ثمرة العمل بسبب تلك النية الفاسدة، نسأل الله تعالى العافية.

الدرس الخامس: إن الصدقة الجارية هي أجر وحسنات تُكتَب للإنسان في حياته وبعد مماته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن مظعون في تفسير الرؤيا: ((ذاك عمَلُه يجري له))، فهل جعلنا لأنفسنا أعمالًا تجري لنا من الصدقات الجارية، فما أحوجنا لذلك! وإنني ألفتُ نظرك أخي الكريم إلى أن الصدقة الجارية ليس لزامًا أن تحتوي على كلفة مادية مالية؛ كبناء مسجد، أو حفر بئر، ونحوهما، فهذه الصدقات ذات الكلفة المالية هي على رأس الصدقات الجارية فضلًا وأجرًا وغنيمةً؛ ولكن لمن لا يستطيعها فإن لديه صدقات جارية هي خالية من المال تمامًا، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ دلَّ على خير فله مثلُ أجْرِ فاعلِه))؛ رواه مسلم، فعندما تُعلِم أحدًا من الناس بعمل صالح فيعمله، فهو صدقة جارية لك، وإنني أذكر لك صورةً من أبدع الصور في ذلك، وغيرها كثير، وذلك أن أحدهم تحدث مع أصحابه مدة لا تزيد عن دقيقتين في رحلة لهم، وذلك عن صيام يوم الاثنين، فلما انصرفوا تحدَّث أحد هؤلاء الجالسين مع زوجته عن ذلك الصيام لذلك اليوم المبارك، فشجَّعَتْه زوجتُه على صيام ذلك اليوم، فيقول: صُمْنا بعد ذلك مدة ثلاثين عامًا ولا نزال نصوم، وهي ما يعادل تقريبًا ثلاثة آلاف يوم، وكلها في ميزان ذلك المتحدث، فكان هذا الكلام المختصر صدقةً جاريةً لهذا المتحدث فيا بُشْراه! فلنكن جميعًا كذلك، ولنحفظ بعض الأحاديث المختصرة الثابتة، ولنجعلها مشروعًا لنا وصدقةً جاريةً لنا في مجالسنا، ومع أهلنا وأبنائنا وأصحابنا، وأيضًا في وسائل التواصل لدينا، وذلك مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((مَن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطَّت خطاياه، وإن كانتْ مثل زَبَد البحر))؛ رواه البخاري.
فاجعل هذا الحديث العظيم في فضله واليسير في تنفيذه، اجعله وأمثاله صدقةً جاريةً لك في حياتك وبعد مماتك، فستنهال عليك الحسنات والأجور بإذن الله تبارك وتعالى، ولا تغفل عن ذلك ولا تُسوِّف.

الدرس السادس: عندما نقرأ أو نسمع شيئًا من الأعمال والأقوال الصالحة لا يحسن بنا أن تكون حبيسة الأفكار والأذهان؛ بل إن من الدعوة إلى الله تعالى نشرَ ذلك ليكون أجرًا وذخرًا لنا، وذلك مقتبس من موقف دعثور عندما أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فسقط من يده السيف، وفي الأخير أسلم وذهب دعثور إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام واجتهد في ذلك فلم يكن أنانيًّا فيما كسبه من الخير؛ بل ذهب إلى قومه يدعو إلى الله عز وجل، فلنكن نحن كذلك عندما نعلم شيئًا من الخير، فهو مرصود لنا في الموازين، فاستثمر مجالسك بذلك يا رعاك الله.

الدرس السابع: لقد عرض عمرُ حفصةَ على عثمانَ، وبعده على أبي بكر رضي الله عنهما، فلم يرغبا في ذلك، ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك درس عظيم لنا معاشر الأولياء؛ ألا ننتظر في بناتنا حتى يأتي الخُطَّاب؛ بل إذا علمنا أن فلانًا كُفْئًا، فلنلتمس ذلك بالطرق المناسبة، ولنعرض عليه بالأسلوب المناسب، فالبيوت قد امتلأت بسبب ذلك الانتظار، ولو كنا إذا رأينا الكفء وعلمنا ذلك تمامًا مدَدْنا الجسور للموافقة، لكان ذلك طريقًا حسنًا في سرعة تزويج بناتنا، واختصرنا كثيرًا من الجهود والأوقات، وفي المقابل أيضًا إذا تقدم الكُفْء فلا يطيل الوليُّ في السؤال والتسويف، ثم يكون ذلك حجرَ عثرةٍ في التزويج؛ بل يستعجل بلا خَلَلٍ.

الدرس الثامن: بعض المواقف تكون مكروهةً للنفس؛ لكن وراءها الخير العظيم، وذلك يتضح من خلال أسْرِ دليل قريش في سير عِيرهم إلى الشام، وهو فرات بن حيان، فلما تم أسْرُه كره ذلك كثيرًا وحزن له واهتمَّ؛ ولكنه كان سببًا في إسلامه، فنحن يحصل لنا في مواقفنا الحياتية أمور نكرهها وربما كان الخير فيها، والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19]، فوطِّن نفسك عند حصول أي موقف تكرهه أنه ربما كان خيرًا وأنت لا تعلم، فإن هذا يُسهِّل عليك في هذا الموقف غير المرغوب، وقد لا يخلو ذلك الموقف من نسبة إيجابية، ففكِّر فيها منطلقًا منها؛ ليخف عليك ذلك المكروه.

أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا السداد والهُدى والرشاد، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.





ابوالوليد المسلم 03-09-2022 11:42 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (18)
الشيخ خالد بن علي الجريش



غزوة أُحُد


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
إخواني الأكارم، ذكرنا في الحلقة الماضية الأحداث التي حدثت بين غزوة بدر وأُحُد، وهي كثيرة، فقد ذكرنا خمسة عشر حدثًا، ذكرناها باختصار، والآن في حلقتنا هذه نبدأ بعرض لغزوة أُحُد، فقد حدثت تلك الغزوة في منتصف نهار يوم السبت للنصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، وكان سببها أن قريشًا لما رجعوا من غزوة بدر، وأصيبوا بتلك المصيبة العظيمة في قتل صناديدهم، فقد تشاوروا بعد ذلك في استحداث حرب شاملة ضد المسلمين ليأخذوا بثأرهم، وكان من أشدهم إصرارًا على ذلك عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان، وكذلك عبدالله بن أبي ربيعة.

فأول إجراءاتهم أنهم قالوا لأصحاب العِير التي نجا بها أبو سفيان: إنَّ محمدًا قد وتركم- أي: قتل أشرافكم- فأعينونا بهذا المال في تلك العِير ليكون زادًا لهذه الحرب، فأجابوهم لذلك ووافقوا عليه، وكانت ألف بَعير وخمسين ألف دينار، وتجهَّزت قريش وساروا في القبائل يدعونهم لمشاركتهم بنفوسهم وأموالهم في هذه الحرب، فاجتمع لهم ثلاثة آلاف مقاتل، وسبعمائة دارع، ومئة فرس، وثلاثة آلاف بعير، وخرجوا ببعض نسائهم معهم ليضربوا الدفوف، وكُنَّ خمس عشرة امرأة، وكن يُحرِّضْنَ الرجال على القتال، وكانت القيادة العامة عند أبي سفيان، وقيادة الفرسان عند خالد بن الوليد بمساعدة عكرمة بن أبي جهل، وكان اللواء بيد بني عبدالدار، فلما تجهَّزت قريش وخرجت، بعث العباس بن عبدالمطلب- وكان بمكة- برسالة عاجلة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يخبره بما اتفقت عليه قريش، وبخروجها وتفاصيل تلك الحرب، وأرسلها مع رجل من بني غفار، وشرط عليه أنه في ثلاثة أيام يسلم تلك الرسالة للنبي عليه الصلاة والسلام، فأتى ذلك الرجل، وأدرك الرسول عليه الصلاة والسلام في مسجد قباء، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها لأبي بن كعب، فقرأها عليه، فأمره بالكتمان، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم عاد مسرعًا إلى المدينة، وأخذ يستشير أصحابه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم حينها بحراسة المدينة في مداخلها ومطالعها، وأما قريش فقد ساروا من مكة حتى أقبلوا على المدينة، واقتربوا منها حتى نزلوا قريبًا من جبل أُحُد، وكانت مساحة المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم هي مساحة المسجد الآن مع توسيعاته تقريبًا، فلما وصل جيش المشركين عسكروا قريبًا من الجبل، وكان وصولهم ليلة الخميس في اليوم الخامس من شهر شوال- أي: قبل المعركة بعشرة أيام- وحينها بعث النبي صلى الله عليه وسلم عينين له يأتيانه بأخبار القوم، وهما أنس ومؤنس ابنا فضالة، فأتياه بأخبارهم، وبعث أيضًا الحباب بن المنذر، فدخل فيهم خفية، فعرف عددهم، وجاء بأخبارهم، ولما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمر الغزوة، فاختلفوا على رأيين؛ فطائفة منهم ترى القتال داخل المدينة فتحرس المدينة وتتحصن بها، وإذا دخلها العدو قاتلوه، وطائفة أخرى ترى أن يخرجوا إلى العدو خارج المدينة ويقاتلوه، ولعل الثاني هو رأي الأكثرية؛ وهو الخروج من المدينة، فاستجاب لهم النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بيته ولبس لَأْمَةَ الحربِ، فكأنهم شعروا أنهم أكرهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الرأي، فأرادوا التراجع عن رأيهم بالخروج؛ لأنه كان من رأي النبي صلى الله عليه وسلم البقاء في المدينة؛ لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: ((ما كانَ لنبيٍّ إذا لبسَ لَأْمَتَه أن يضعَها حتى يقاتل))، وعقد النبي صلى الله عليه وسلم الألوية، فجعل لواء الأوس مع أسيد بن حضير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء المهاجرين مع مصعب بن عمير، ولما وصل مكانًا بين المدينة وأُحُد في المساء صلى فيه المغرب والعشاء، وباتوا هناك، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلًا يحرسون المعسكر، ثم استيقظوا قبيل الفجر وساروا إلى أُحُد، وصلوا الفجر في طريقهم، وفي هذا الصباح الباكر رجع عبدالله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين بثلث الجيش مخذلًا لهم، وبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم سبعمائة، وكانوا قبل ذلك ألفًا، فلما وصلوا إلى أُحُد جعل النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلًا على جبل الرُّماة، وجعل عبدالله بن جبير أميرًا عليهم، وقال لهم: ((لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظَهَرْنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظَهَرُوا علينا فلا تعينونا))؛ رواه البخاري.

وأخذ الراية مصعب بن عمير وبدأ القتال، وكان النصر للمسلمين، فبدأ المسلمون يقذفون رؤوس المشركين قطفًا بالسيوف قتلًا وفتكًا، وهذا نصر مبين للمسلمين؛ ولكن المصيبة بعد ذلك أطلَّتْ برأسِها على المسلمين، فحيث هُزم المشركون وولَّوا مدبرين، قال نفر ممن كانوا على جبل الرُّماة: الغنيمةَ الغنيمةَ، فناداهم أميرهم عبدالله بن جبير مُذكِّرًا لهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبرحوا))، فأبوا ذلك، ونزلوا عن الجبل ظنًّا منهم رضي الله عنهم أن المعركة قد انتهت وأنه أيضًا تحقَّق النصر للمسلمين، ولم يثبت على جبل الرُّماة إلا عشرة تقريبًا، وقد كان المشركون قد جاءوا ثلاث مرات ليقتلوا المسلمين عن طريق جبل الرُّماة فيفاجئون بهؤلاء الرُّماة يمطرونهم بالسهام والنبال، فيرجعون خاسرين؛ ولكنهم في هذه الأثناء وبعد نزول أكثر الرُّماة عن الجبل، رجع المشركون بقيادة خالد بن الوليد حيث لم يكن مسلمًا آنذاك، فصعدوا الجبل وقتلوا هؤلاء العشرة الباقين، وبدأوا يُطلقون السهام على المسلمين حتى أصابوا كثيرًا منهم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه بعض السهام، وكُسِرت رَباعِيَتُه، وشُجَّ وجهُه عليه الصلاة والسلام.

وحينما أصيب المسلمون بذلك انقسموا ثلاث فرق: فرقة فرَّت وتولَّت عن الميدان، وقد قال الله تعالى فيهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران: 155]، وفئة ثانية قعدت في أرض المعركة دون قتال، وفئة ثالثة استمروا على القتال، وفي هذه المرحلة أشرف أبو سفيان على المعركة، فقال: أفي القوم محمد? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تُجِيبوه))، ثم قال: أفي القوم أبو قحافة? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تجيبوه))، ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب? ثم قال أبو سفيان: إن هؤلاء قد قُتِلوا ولو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه حتى قال: كذبت يا عدوَّ الله، وقد أبقى الله عليك ما يخزيك، وحينها دخل نفس أبي سفيان الخور والجبن والخوف.

وكان من مواقف غزوة أحد أنه كان مع جيش المسلمين شيخان كبيران، وهما ثابت بن وقش واليمان والد حذيفة بن اليمان، فقد أذِنَ لهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقيا في المدينة؛ لكبرهما، فقال أحدهما للآخر بعد أن انصرف الجيش إلى أُحُد: أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله أن يرزقنا الشهادة، فأخذا أسيافهما وخرجا، ولم يعلم بهما المسلمون، أما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فقد قتله المسلمون خطأً حيث لم يعرفوه، وناداهم حذيفة قائلًا: إنه أبي، إنه أبي، فقالوا: ما عرفناه وقد قتلوه، فقال حذيفة رضي الله عنه: يغفر الله لكم، وتصدَّق حذيفة بديته على المسلمين.

وفي تلك الغزوة غزوة أُحُد قُتِل مصعب بن عمير، وهو حامل اللواء، فقد ضربه ابن قمئة في يده اليمنى فقطعها، فحمل مصعب الراية بيده الأخرى وهو يقول ويقرأ: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]، ثم قتله ابن قمئة، فرفع الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال المشركون عندما نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم جراحًا وآذوه، قالوا ما قالوا في ذلك؛ لأنهم سروا بهذه الأذية للنبي عليه الصلاة والسلام، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد قال: ((اشتدَّ غضبُ اللهِ على قوم دَمَّوا وجهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهشَمُوا عليه البَيْضة، وكسروا رَباعِيَتَه))؛ أخرجه البخاري.

وفي تلك الغزوة دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم عددٌ من الصحابة، فقُتل بعضهم، ونزلت الملائكة تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحفظه بأمر الله عز وجل، فقد روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بِيض، ما رأيتهما قبل ولا بعد، زاد مسلم: يعني جبريل وميكائيل، ولم تقاتل الملائكة إلا في بدر، أما في أُحُد فهي نزلت تدافع وتحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله، وكان ابن قمئة عندما قتل مصعب بن عمير- وكان مصعب يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم- رجع إلى قومه وقال: قتلتُ محمدًا، وصرخ بها الشيطان، فلما سمِعَه المسلمون عظُم ذلك في نفوسهم، وضعف بعضهم، وقوي المشركون، ووقف جمْعٌ من الصحابة يدافعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نادى النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: ((إليَّ عبادَ الله، إليَّ عبادَ الله)) فقويت نفوسهم عندما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يُناديهم، وممن استمات في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو طلحة؛ حيث بدأت المصيبة والضعف في المسلمين يوم أُحُد، فكان أبو طلحة مترس على النبي صلى الله عليه وسلم بترس معه يحميه من المشركين، وكان أبو طلحة راميًا شجاعًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرف ينظر إلى القوم فيقول له أبو طلحة: بأبي أنت وأُمِّي يا رسول الله، نحري دون نحرك، لا تنظر حتى لا يصيبك سهم من سهامهم؛ رواه البخاري ومسلم.

وحين اشتد الخوف على المسلمين لطف الله عز وجل بهم، وأنزل عليهم النعاس أمَنةً؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران: 154] الآية، وأخذ المسلمون يداوون جَرْحاهم، ويداوون جراح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((اشتدَّ غضبُ اللهِ على مَن دَمَّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ومن بين النصر والهزيمة سجَّل المسلمون وسطروا ألوانًا من الشجاعة، فقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم سيفًا فقال: ((من يأخُذُه بحقِّه))، فقال أبو دُجانة: أنا آخذُه بحقِّه يا رسول الله، فأخذه وفلق به هامات المشركين، وحمزة أبلى بلاءً حسنًا حتى إنه كان يقطف رؤوس المشركين قطفًا، وكان سعد بن أبي وقاص ينثر له النبي صلى الله عليه وسلم كِنانته وسهامه ويقول: ((ارْمِ فِداكَ أبي وأُمِّي))، وكذلك حنظلة بن أبي عامر، خرج إلى أُحُد وأبلى بلاءً حسنًا، فلما قُتِل قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إنَّ صاحبَكم تُغسِّله الملائكةُ))، فاسألوا صاحبته عن ذلك، فقالت: إنه خرج وهو جُنُب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فلذلك غسَّلَتْه الملائكة)).

إخواني وأخواتي الكرام، هذه بعض المواقف والأحوال من غزوة أُحُد، ولنختم حلقتنا تلك بذكر بعض الدروس والعبر في تلك الغزوة، وهي ما يلي:
الدرس الأول: أهمية الاستشارة؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج قريش جمَعَ صحابته رضي الله عنهم، وعقد معهم مجلس شورى، مع أنه عليه الصلاة والسلام مؤيد بالوحي، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159]، فيا أخي الكريم، إن إقدامك على ما تريد بعد استشارة غيرك يفتح لك آفاقًا فيه، ويجعلك بإذن الله تعالى بعيدًا عن الندم والأسف، ولعل الاستشارة هي من صفات الناجحين؛ حيث جمعوا عقول الآخرين وأخذوا خلاصتها، فأنت لست عالمًا بكل شيء ولا مدركًا لكل شيء؛ ولكن شاور في كل أمر أهلَه؛ ولكن أيضًا لا تضع شؤونك بضاعةً مزجاةً لكل الناس، فالاستشارة لها ميزان، متى زادت انقلبت إلى حيرة؛ ولكن خذها بقدرها المعقول.

الدرس الثاني: في هذه الغزوة مظهر عظيم من مظاهر اللطف الرباني بعباده؛ حيث اشتد الخوف على المسلمين في أحد مراحل الغزوة، فلطف الله عز وجل بهم بنُعاس يريحهم ويذهب معه خوفهم، وتطمئن معه نفوسهم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال: 11]، فالله تعالى سمَّى نفسه اللطيف، ووصف نفسه بأنه لطيف بعباده عندما تشتدُّ الأزمة، فاستعن بالله عز وجل، واطلب منه اللطف والمعونة، واعلم أن الإجابة قريبة؛ ولكن مشكلة البعض أنه في مشاكله وأزماته ربما أنه اهتمَّ بالأسباب الحسية أكثر من الأسباب المعنوية من الدعاء والالتجاء واستشعار قرب الله تعالى إليه ولطفه به؛ لأنه عبده وخلق من خلقه، فكم هو جميل أننا نجعل جانبًا كبيرًا في حل مشاكلنا في توجهنا إلى الله عز وجل ودعائنا إياه وانتظارنا ذلك، فنحن حينما نفعل ذلك فنحن في عبادة عظيمة؛ فالمريض والفقير والمدين والسجين والأيم ومن تلاطمت به أمواج البأساء وغيرهم- نسأل الله تعالى أن يرفع ما حلَّ بهم- أين هم من التوجُّه إلى الله عز وجل ليلطف بهم، فربما انكشفت مشاكلهم بسبب ذلك، وما ذلك على الله بعزيز، صرفَ اللهُ عنا وعنهم شرَّ ما قضى.

الدرس الثالث: هو درس عظيم حصل بقدر الله تعالى الكوني، وعلينا أن نستلهم الدروس مما يقع سواء كان لنا أو علينا، ففي تلك الغزوة كان النصر للمسلمين؛ بل تم قتل عدد من المشركين وكادت الهزيمة أن تحيط بالكفار؛ بل قد أحاطت بهم إلى حد كبير، وفي تلك الأثناء وفي ثنايا تلك الهزيمة للمشركين فإذا بالرُّماة الذين أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في مكانهم ولا يغادروه مهما كانت الحال إذا بهم ينزلون عن الجبل ظنًّا منهم رضي الله عنهم أن المعركة قد انتهت وأن العدوَّ قد هُزِم وأن المسلمين قد انتصروا، وهذه معصية ولو كانت باجتهاد، وقد ناداهم أميرهم فلم يسمعوا قوله، فماذا كانت نتيجة تلك المعصية? لقد تعدَّدت آثارها السلبية وخسائرها البشرية وسلبياتها النفسية؛ مما جعل الأمر ينعكس من نصر للمسلمين إلى هزيمة عليهم، إن الآمِر وهو النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي عندما أمرهم ألا ينزلوا مهما كانت الظروف؛ ولكنهم رضي الله عنهم اجتهدوا فنزلوا ولا اجتهاد مع النص، فحصل بنزولهم ذلك تلك الآثار التي شملت النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه، وشجعت أيضًا المشركين وساهمت في تقوية عزيمتهم؛ لأنه بنزول الصحابة عن الجبل صعد عليه المشركون فقتلوا مَن تبقَّى من الخمسين رجلًا؛ حيث بقي منهم عشرة، ثم بدأ المشركون ينبلون المسلمين ويرمونهم، وقد نزل بذلك قوله تعالى: ﴿ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران: 152] حتى حصل ما لم يكن بالحسبان، ومما حصل من الأضرار ما يلي:
أولًا: انفلت زمام المسلمين وحصلت نسبة من الفوضى عندما رأوا المشركين على الجبل.

ثانيًا: من الخسائر في خلال تلك المعصية في تلك الفوضى والانكشاف ظهر حمزة رضي الله عنه لوحشي الذي جاء ليقتل حمزة خاصة، وكان على غفلة من حمزة، فقتل وحشي حمزة رضي الله عنه، وهو أسد الله وأسد رسوله.

ثالثًا: من الأضرار قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الراية، فأخذها عليٌّ بعد مصعب.

رابعًا: من الخسائر أن ابن قمئة لما قتل مصعب بن عمير كان مصعب يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ للمشركين وقال: قتلتُ محمدًا، فلما سمِعَه المسلمون فترتْ نفوسُهم، ولاذ بعضُهم بالفرار.

خامسًا: من الخسائر من تلك المعصية مقتل السبعة من الأنصار الذين كانوا يدافعون عن النبي صلى الله عليه وسلم.

سادسًا: من الخسائر، أصيبت شفة النبي صلى الله عليه وسلم السُّفلى من حجارة عتبة بن أبي وقاص.

سابعا: من الخسائر، كُسِرت رَباعِية النبي صلى الله عليه وسلم.

ثامنًا: شج النبي صلى الله عليه وسلم في جبهته.

تاسعًا: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف على منكبه، فشكى منها شهرًا كاملًا.

عاشرًا: من الخسائر ضرب النبي صلى الله عليه وسلم على وجنتيه، وهما خداه، فدخلت حلقات المغْفَر في وجنته صلى الله عليه وسلم.

حادي عشر: سقوط النبي صلى الله عليه وسلم في الحفرة التي حفرها له أبو عامر الفاسق.

ثاني عشر: من الخسائر خروج الدماء من النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالث عشر: قتل الرُّماة الذين بقَوا على الجبل.

هذه الآثار هي من آثار تلك المخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم علمًا أن تلك المخالفة جاءت باجتهاد وظن أن المسلمين قد انتصروا، فكيف بمن يعمل المعصية عن عمد، ويعلم أنها معصية، فإن لفعله هذا آثارًا عظيمة في نفسه وفي غيره، نجملها فيما يلي:
أولًا: من أضرار المعصية عمومًا أنها مخالفة لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: أنه قد يحرم الرزق بسببها.

ثالثًا: أن المعصية تجر اختها.

رابعًا: ضعف الأمن؛ حيث يقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82].

خامسًا: من أضرار المعصية البقعة تشهد عليه بفعل تلك المعصية.

سادسًا: أن الجوارح تشهد عليه كذلك.

سابعًا: من أضرار المعصية أن الشيطان يكثر ولوجه إلى قلبه إذا استمرأ المعصية.

ثامنًا: من أضرار المعصية أنه قد يراه أحد فيقتدي به؛ فيكون عليه مثل وِزْره.

تاسعًا: من أضرار المعصية أنه قد يختم له بها، وهذه مصيبة عظيمة.

عاشرًا: من أضرار المعصية أنه قد يراه الآخرون، فلا ينهونه عنها، فيتحملون سيئة عدم النهي عن المنكر.

حادي عشر: من أضرار المعصية أنها تنزع الحياء من نفس العاصي.

ثاني عشر: من أضرار المعصية أنها قد تحرم العاصي بعض الطاعات.

إن تلك الآثار هي من آثار المعاصي عمومًا، فيا أخي الكريم، احذر فعل المعصية، وإذا سوَّل لك الشيطان ففعلتها فاحذر استدامتها؛ ولكن تُبْ منها، فلكل مرة من فعلها الشؤم والنقص عليك وعلى غيرك، ومن المعاصي الظاهرة التي تحتاج إلى تغيير ما يلي:
أولًا: إسبال الثياب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أسْفَل من الكعبينِ من الإزارِ ففي النارِ))؛ رواه البخاري.

ثانيًا: الغِيبة والنميمة وسائر آفات اللسان، فهي تحرق الحسنات، وتنقلها إلى غيرك.

ثالثًا: أكل الحرام بالربا والرشوة أو غيرهما، وكل جسم نبت من سُحْت، فالنارُ أولى به، وأن هذا المال الحرام غرمه على ظهرك وغنمه لغيرك، فاحذر ذلك.

رابعًا: آفة التدخين والمخدِّرات والمسكرات.

خامسًا: عقوق الوالدين والقطيعة للرحم.

سادسًا: النظر والسماع للحرام.

سابعًا: التهاون بالصلاة وتأخيرها وجمعها من غير عذر.

ثامنًا: الرياء والنفاق في الأقوال والأعمال.
إن تلك المعاصي وما يماثلها هي أسباب التأخُّر والضعف، فعلينا معالجتها ما دمنا قادرين على ذلك قبل أن ننتقل إلى زمان ومكان لا يمكن فيه التغيير وهو يوم القيامة.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا بعفوه ومغفرته ورحمته، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.



ابوالوليد المسلم 10-09-2022 09:57 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (19)
الشيخ خالد بن علي الجريش



تكميل لأحداث غزوة أُحُد


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فقد ذكرنا في الحلقة الماضية شيئًا من أحداث غزوة أُحُد وتاريخها، وسبب حدوثها، وكيف بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خروج قريش، وماذا عمل حينها، وأيضًا كذلك ذكرنا استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الخروج من عدمه، وأيضًا ذكرنا كيف بدأ القتال وكيف كان النصر للمسلمين، ثم بخطأ حدث عند المسلمين حصلت أضرار جِسام، وأيضًا ذكرنا كيف تصرَّف النبي صلى الله عليه وسلم حيال ذلك، إلى غير ذلك من الأحداث، ونستكمل في هذه الحلقة أحداث تلك الغزوة التي هي غزوة أُحُد، فمن أحداثها ما يلي:
مقتل عبدالله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما، فهو من الذين أبلَوا بلاءً حسنًا، فقد أخرج البخاري عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: جيء بأبي مسجى، فأردتُ أن أرفعَ الثوب عنه، فنهاني قومي، فرفعه النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت باكية، وهي أخته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لمَ تبكي؟ فما زالت الملائكة تظِلُّه بأجنحتها حتى رُفِع))؛ رواه البخاري، وكان عبدالله قد أوصى ابنه جابر، فقد روى البخاري أن جابرًا قال: دعاني أبي من الليل في أُحُد، وقال: ما أراني إلا مقتولًا، فإنَّ عليَّ دَينًا فاقضه واستوصِ بأخواتك خيرًا؛ رواه البخاري.

ومن الأحداث في تلك الغزوة ما وقع لحنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه، وكان أبوه أبو عامر عدوًّا لدودًا للإسلام، وتأمَّل كيف يُخرج الله الحيَّ من الميت! وقد كان حنظلة رضي الله عنه لما سمع بتلك الغزوة خرج إليها، فالتقى بأبي سفيان قائد قريش، فعلاه بسيفه ليقتله؛ ولكن رآه شداد بن الأسود فقتله قبل أن يقتل حنظلة أبا سفيان، فلما قتل حنظلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ صاحبَكم حنظلة تُغسِّله الملائكة، فسَلُوا صاحِبَته))، فقالت: خرج وهو جُنُب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فذاك قد غسَّلته الملائكةُ))؛ أخرجه ابن حبان والحاكم، وكان حنظلة رضي الله عنه يُلقَّب بغسيل الملائكة.

ومن الأحداث في تلك الغزوة ما وقع للأصيرم، وهو عمرو بن ثابت المعروف بالأصيرم، وهو من بني عبد الأشهل، وكان يأبى الإسلام حين قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولما حدثت تلك الغزوة التي هي غزوة أُحُد قذف الله الإسلام في قلبه، فأسلم ولحِق بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بعدما ذهبوا، فلما هدأت المعركة أخذ بنو عبد الأشهل يتفقدون قتلاهم، فرأوا الأصيرم ولم يعلموا بإسلامه، وهو في آخر رمق، فقالوا: ما الذي جاء بك؟ آشفقتَ على قومك أم أسلمتَ؟ فقال: بل أسلمتُ وآمنتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّه مِن أهلِ الجنةِ))، قال أبو هريرة رضي الله عنه: ولم يُصلِّ للهِ صلاةً قَطُّ؛ أخرجه أحمد، وإسناده حسن.

وفي نهاية تلك الغزوة أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على القتلى والشهداء، ثم قال: ((أنا شهيدٌ على هؤلاءِ يومَ القيامةِ))؛ رواه البخاري، وأيضًا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدفَن الشهداء بدمائهم، ولم يُغسِّلْهم؛ كما عند البخاري، وقال الإمام البغوي: اتفق العلماء على أن شهيد المعركة مع الكُفَّار لا يُغسَّل، وأما الصلاة عليهم فقد اختلف أهل العلم بذلك؛ لورود نصوص تثبت ونصوص أخرى تنفي؛ ففي البخاري في كتاب المغازي أمر بدفنهم بدمائهم، ولم يُصلَّ عليهم ولم يُغسَّلوا، وجاءت نصوص أخرى تثبت الصلاة عليهم، وقد جمع بينها أهل العلم؛ كابن القيم رحمه الله؛ حيث قال: والصواب في المسألة أنه مُخيَّر بين الصلاة عليهم وتركها؛ لمجيء الآثار بكلا الأمرين، وكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة في قبر واحد؛ وذلك لما حصل عليهم من الجراح والتعب رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد شكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: كيف تأمرنا بقتلانا، فقال: ((احفروا وأوسعوا وأحسنوا وادفنوا في القبرِ الاثنينِ والثلاثةَ))، قالوا: يا رسول الله، مَن نُقدِّم؟ قال: ((أكثرهم جَمْعًا وأخْذًا للقرآنِ))؛ أخرجه أحمد.

واستشهد في تلك الغزوة من المسلمين سبعون شهيدًا، وكان أناس من المسلمين قد احتملوا قتلاهم لدفنهم في المدينة، فناداهم منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ردُّوا القتلى إلى مصارعهم، فردوهم إلى مكانهم في أُحُد، وقد أكرم الله عز وجل هؤلاء الشهداء؛ فقد روى البخاري في صحيحه أن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كان أبي أول قتيل ودُفِن معه آخر في قبر واحد، ثم لم تطِبْ نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير أذنه؛ رواه البخاري، وفي لفظ آخر، قال جابر: دخل السيل قبر أبي فحفرتُه، فرأيتُه كأنه نائم ولم يتغيَّر منه إلا اليسير، وكان ذلك بعد ستة وأربعين عامًا من دفنه وحده، وأما قتل المشركين فبلغوا ثلاثة وعشرين رجلًا، ولما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى المدينة بعد أُحُد فاستقبلهم أهل المدينة، وكان منهم حَمْنة بنت جحش، فنُعي لها أخوها عبدالله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت، ونُعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت، ثم لما نُعي لها زوجُها مصعب بن عمير صاحت وولولَتْ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ زوجَ المرأة منها لبمكان))، وخرجت امرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها فقتلوا، فلما نُعُوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: هو بخير يا أم فلان، وهو كما تحبين والحمد لله، فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأُشير إليه، فلما رأتْه قالت: كل مصيبة بعدك يسيرة هيِّنة؛ ذكره ابن إسحاق والبيهقي.

وبات المسلمون تلك الليلة يحرسون المدينة من العدوِّ بعد غزوة أُحُد مباشرة، وبات بعض الأنصار يحرسون الرسول عليه الصلاة والسلام في بيته، ثم بعد غزوة أحد بيوم واحد فقط حدث ما يسمى بغزوة حمراء الأسد؛ حيث كانت أُحُد في يوم السبت، وكانت حمراء الأسد في يوم الأحد لسِتَّ عشرةَ ليلة مضت من شوال، فقد كان سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أبا سفيان بن حرب يريد الرجوع بقريش إلى المدينة ليستأصلوا المسلمين، فقد أخرج النسائي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما لما انصرف جيش المشركين عن أُحُد وبلغوا الروحاء، وهو مكان يبعد عن المدينة خمسين كيلو مترًا تقريبًا، قال بعضهم لبعض: لم تقتلوا محمدًا ولا أسرتم أسرى، ارجعوا إليهم فلنقاتلهم في المدينة، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس حتى خرجوا فبلغوا حمراء الأسد، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح في المدينة أمر بلالًا أن يُنادي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب العدوِّ، ولا يخرج معنا إلا مَن شهد القتال بالأمس في أُحُد إلا جابر بن عبدالله، فقد قال: يا رسول الله، إن أبي قد قُتِل بالأمس في أُحُد، وقد خلفني على أخوات لي سبع، ولا أحب أن تتوجَّه يا رسول الله وجهة إلا وأنا معك، فأذن لي أن أخرج إلى حمراء الأسد، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يخرج أحد لم يشهد القتال في أُحُد غير جابر.

واستأذن عبدالله بن أبي بن سلول بأن يذهب إلى القتال، فلم يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمل لواء المسلمين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستعمل الرسول عليه الصلاة والسلام على المدينة ابن أم مكتوم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة، وفيهم الجراح والقرح والتعب، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد خرج وهو مجروح في وجهه ومشجوجٌ في جبهته ومكسور في رَباعيَتِه، وبجنبه الأيمن ضربة، وركبتاه مجروحتان، ونزل قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172].

ومضى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عسكروا بحمراء الأسد، وهي موضع يبعد عن المدينة خمسة عشر كيلو مترًا تقريبًا، وأقاموا ثلاثة أيام ولقَوا بحمراء الأسد معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكان معبد يومئذٍ مشركًا، فقال: يا محمد، لقد عظُم علينا ما أصابك وأصاب أصحابك، ثم خرج معبد إلى أبي سفيان في الروحاء وهو يريد الرجوع بقريش إلى المدينة، فقال أبو سفيان: ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد: إن محمدًا قد خرج يريدكم ويطلبكم بجيش لم أرَ مثلَه قَطُّ، وإني أرى أن ترتحلوا وإني أنهاك أن تلقى محمدًا بجيشك، فلما سمِع أبو سفيان ذلك الكلام رجع إلى مكة بجيشه خائفًا وجلًا، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما أراد أبو سفيان قال: ((حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ))، وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173- 174].

وفي هذا الخروج إلى حمراء الأسد استردَّ المسلمون قوَّتهم وهيبتهم التي كادت أن تضعف في غزوة أُحُد، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل رجوعه إلى المدينة من حمراء الأسد أبا عزة الجمحي، وكان أسيرًا عند المسلمين في بدر، فمَنَّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأطلقه وعاهده على ألا يقاتل ضده، ولا يعين عليه أحدًا؛ ولكنه نقض العهد وخرج مع قريش ينصرهم ويحرضهم، فلما أُسِر قال: يا محمد، أقلني وامنُنْ عليَّ وأعطيك عهدًا على ألَّا أعودَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واللهِ لا تمسح عارضيك بمكة بعدها، وتقول: خدعتُ محمدًا مرتينِ)) وفي رواية: ((لا يُلدَغ المؤمِنُ مِن جُحْرٍ مرتينِ))، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير فضرب عنقه.

إخواني الكرام، إن الحديث في سرد السيرة النبوية شيق ولطيف وخفيف، وسنختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبر مما سبق ذكره، وهذه الدروس نذكر منها ما يلي:
الدرس الأول: في وصية عبدالله والد جابر رضي الله عنهما لابنه جابر بقضاء دينه درسٌ عظيم في التعامل مع الديون من حيث كتابتها وحفظها والوصية بها والحرص على المبادرة في قضائها وعدم المماطلة في تأخيرها؛ حيث نرى بعض المدينين يهمل كتابتها فيقع الخلل في مقدارها مع مضي الوقت، فيقع الاختلاف أو يسري عليها النسيان، فتكون في الذمة، والله تعالى يقول: ﴿ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282]، وربما أن البعض لم يوصِ بها بنيه ونحوهم؛ لأنه قد يؤتى على غِرَّة، وربما أن البعض يسوِّف في قضائها، وقد يُقدِّم عليها كثيرًا من النوافل، وهذا من الجهل العميق ولا شك، ألم يعلم هذا وأمثاله أن الشهيد وهو شهيد قد غفر له كل شيء إلا الدين، فهو من حقوق العباد، وأشير إلى إشارة تقع عند بعض الناس أنهم يقترضون أحيانًا مبالغَ يسيرةً؛ كالمئة والمائتين والثلاث ونحوها، ثم يسري عليها النسيان لقلتها، فلنحرص جميعًا أن يكون قدومنا على الله تعالى خاليًا من حقوق العباد في مال أو عرض.

الدرس الثاني: في وصية عبدالله رضي الله عنه لابنه جابر رضي الله عنه في رعاية أخواته وهن سبع، وقيل: تسع، ففي هذا درس عظيم في رعاية النساء صغرن أم كبرن، فهن بحاجة إلى رعاية من حيث الدين والدنيا؛ ففي الدين رعاية الحشمة والستر والحياء وتعليمهن أحكام شرع الله عز وجل وتزويجهن الأكفأ من الرجال، ووصيتهن بتقوى الله تبارك وتعالى، وأيضًا في الدنيا قضاء حوائجهن التي لا يقضيها إلا الرجال، ومحاولة بعدهن عن الرجال والنظر في معيشتهن ولباسهن ونحو ذلك، فالمرأة بحكم قرارها في البيت هي بحاجة إلى رعاية في أمور دينها ودُنْياها.

الدرس الثالث: في قصة الأصيرم وهو عمرو بن ثابت رضي الله عنه، فهو لم يسلم إلا في أثناء الغزوة، فلما قذف الله تعالى في قلبه الإيمان سارع إلى العمل الصالح فاستشهد، ففي هذا درس عظيم في استشعار أن القلوب بيد علَّام الغيوب يُقلِّبها كيف يشاء، فلا ييأس العاصي ولا يعجب المطيع؛ بل على الجميع أن يدعو بقوله: ((يا مُقلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي على دِينكَ))، وإن من وسائل الثبات البعد عن مواطن الفتن، فإن الإنسان قد يتعرض لها في أحد مواطنها، وهو يظن أن لا فتنة، فتقع الفتنة، فالابتعاد عنها وقاية وعلاج، وعلى المسلم أن يكون خائفًا من سوء الخاتمة؛ لأنه إذا استشعر هذا، أكثرَ مِن الدعاء بالثبات، وأكثرَ من عبادة الخلوات التي هي من أهم أسباب الثبات.

الدرس الرابع: في دفن شهداء أُحُد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الأكثر أخذًا للقرآن، وفي هذا تحقيق جزء من الخيرية في قوله عليه الصلاة والسلام: ((خيرُكم مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّمه))، وفي هذا حَثٌّ لكثرة التلاوة ومتابعة الحفظ للقرآن أو بعضه، وإنه ميسر كل التيسير، فحاول أخي الكريم حفظ شيء منه لتلحق بركب الحفظة، وإن الحفظ ولو كان يسيرًا فسيدفعك إلى المزيد، وكثير من كبار السن الذين لم يحفظوا حصل لهم ظروف؛ كضعف البصر أو كف البصر أو الضعف العام، ندموا على أن لم يبادروا أيام نشاطهم إلى حفظ القرآن أو بعضه، فأنت الآن في زمن الأمنية، فحاول تحقيقها، وإنك عندما تبدأ الآن في حفظه أو حفظ بعضه، فإنك بعد سنتين أو نحوهما ستكون حافظًا لكتاب الله عز وجل، وتدخل قبرك ومعك القرآن، فما أسعدك! فمن هو الحصيف العالي الهِمَّة منكم إخواني الكرام الذي يقول: أنا لها ويشق طريقه، فهو مشروع لا يعرف الفشل.

الدرس الخامس: إن الدين يسر، وإن المشقَّة تجلب التيسير، ويظهر ذلك من خلال دفن شهداء أُحُد، فلما شق عليهم ذلك لجراحهم وتعبهم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا الاثنين والثلاثة جميعًا في قبر واحدٍ، وهكذا الأمر إذا حصلت المشقة جاء التيسير، فالمسافر يجمع ويقصر، وعادم الماء يتيمَّم، والمريض يُصلي حسب طاقته وجهده ونحو ذلك، وهذا من لُطْف الله تعالى بعباده ورحمته بهم، فاللهم لك الحمد على ذلك كثيرًا.

الدرس السادس: إن للزوج مكانًا ليس لأحد غيره، وهذا على سبيل العموم، ويظهر هذا من خلال حالة حَمْنة بنت جحش رضي الله عنها، عندما جاءها خبر وفاة أخيها وخالها فاسترجعت، وعندما نُعي لها زوجها صاحت وولوَلَتْ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مكان الزوج عند زوجته رفيع وعالٍ، وهكذا الأزواج والزوجات يتعين عليهم جميعًا أن يكونوا متحابِّين فيما بينهم متعاطفين متفاهمين، وأيضًا كذلك متغافلين عن أخطاء بعضهم فيما يمكن التغافل فيه؛ لأن الزوج كما في الحديث هو جنتها ونارها، فهما في جنة إن تفاهموا وتحابوا وتعاونوا، وهم أيضًا كأنهم في نار إذا تشاقوا واختلفوا، وعلى كل منهما أن يحتمل من الآخر ما يجعله يعيش عيشة هنيئة، ويصعب أن يأخذ كل منهم حقَّه كاملًا من دون أي خلل؛ لأن الخلل والنقص من طبيعة البشر، فلا بُدَّ من العفو والتغافل وإدراك عواقب الأمور ومآلاتها، وهذا قد ينعكس إيجابًا على الأولاد والأحفاد، فتكون الأسرة متماسكة ومترابطة.

الدرس السابع: في قوة إيمان تلك المرأة من بني دينار درس جليل حيث نُعِي لها عددٌ من أقاربها المقربين جدًّا في الغزوة حيث ماتوا، فسألت أول ما سألت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف حاله؟ فلما اطمأنَّتْ عليه ارتاح ضميرها، فإن كانت هي اطمأنت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين يديها، فلنحافظ نحن على سُنَّته عليه الصلاة والسلام، فسُنَّته ترجمة لحياته عليه الصلاة والسلام، فلنحرص على حفظها والعمل بها وتربية أولادنا عليها، وأنفسنا؛ لتسلم أنفسنا بسلام تلك السُّنَّة، وعلينا نشرها وتعليمها للآخرين، وهذا كله يعكس الاهتمام بسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم كما اهتمت تلك المرأة الدينارية بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الدرس الثامن: إن خروج الصحابة إلى حمراء الأسد مع جراحهم وتعبهم هو يعكس الاستجابة القوية لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وذلك دليل على قوة الإيمان، ونحن تقرع أسماعنا ليلًا ونهارًا النداءات الربانية والنبوية، فمنا من استجاب وأفلح، وربما يوجد من تأخَّر، فليُسارع ذلك المتأخر؛ لأن الحياة لا تدوم على حال، وقد يأتي الموت على غِرَّة فلينتبه المتهاون والمسوِّف، فاستجيبوا يا عباد الله لما يحييكم فهو خير وأبقى في سلوككم وجوارحكم وأعمال قلوبكم، وادعوا إلى ذلك تفلحوا وتسعدوا دنيا وأخرى.

الدرس التاسع: في قصة أبي عزة الجمحي الذي أطلق النبي صلى الله عليه وسلم أسْرَه وعاهد على عدم القتال، ثم غدر بعد ذلك فقاتل مع قريش، فطلب العفو مرة أخرى، أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن ((المؤمن لا يُلدَغ مع جُحْرِ مرتينِ)) وأنه يجب أن يكون كيِّسًا فَطنًا لا يُخدَع، فإنَّ العفو يتبع المصلحة والإصلاح، وعلى المسلم إذا لُدِغ مرة أن يحترز في الثانية حتى لا يُلدَغ مرة أخرى، وليس ذلك من باب الإساءة للآخرين؛ ولكنه من باب حفظ النفس وحقها.

اللهم وفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رِضاك، وأوصلنا دار السلام بسلام، وبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا، وأصلح نيَّاتنا وذريَّاتنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ابوالوليد المسلم 10-09-2022 10:00 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (20)
الشيخ خالد بن علي الجريش



بعض الحِكَم والأحكام في أُحُد مع استكمال بعض أحداثها


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على النبي المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
سبق معنا في الحلقة الماضية شيء من أحداث غزوة أُحُد، فذكرنا كرامات لبعض الصحابة رضي الله عنهم الذين استشهدوا في تلك الغزوة، وذكرنا أيضًا بعض الأحكام للشهيد؛ من حيث التغسيل والتكفين والدفن، وذكرنا أيضًا كيف كان انصراف الصحابة رضي الله عنهم من غزوة أُحُد إلى المدينة، ثم تعرضنا بعد ذلك لغزوة حمراء الأسد وأسبابها ونتائجها، وغير ذلك.

وفي حلقتنا هذه نتدارس شيئًا من الحكم والأحكام من غزوة أُحُد، مع بيان شيء من الأحداث المباشرة لها، فقد نزل من القرآن قرابة ستين آية من سورة آل عمران، فيها تفصيل وبيان لأحداث وأحكام وحكم تلك الغزوة العظيمة غزوة أُحُد، وهي تمزج بين العتاب الرقيق والدرس النافع وتطهير المؤمنين من اليأس والقنوط، وذلك كقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]، وكقوله تعالى: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ﴾ [آل عمران: 140]، وكقول الله عز وجل: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141] إلى غير ذلك من الآيات التي يتربَّى عليها المؤمنون، ويستلهمون منها الدروس والعِبر.

وقد اشتملت تلك الغزوة على كثير من الأحكام الفقهية والحكم الوعظية، فمن ذلك ما يلي:
أولًا:من الحكم والأحكام أن السُّنَّة في الشهيد ألَّا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه ولا يُكفَّن بغير ثيابه؛ بل يدفن بدمائه؛ حيث فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بشهداء أُحُد.

ثانيًا: من الأحكام أن السُّنَّة في الشهداء أن يُدفنوا في مصارعهم ولا يُنقَلوا إلى مكان آخر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم دفن شهداء أُحُد في مكانهم، وأمر بمن تم نقلهم أن يرجعوا إلى مكانهم.

ثالثًا: من الأحكام جواز دفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد عند الحاجة والضرورة.

رابعًا: من الحكم في تلك الغزوة تعريفهم سوء عاقبة المعصية، وأن ما أصابهم في أُحُد هو بسبب تلك المعصية، فلما حصل ذلك وفهموا الدرس واستلهموه كانوا رضي الله عنهم حذرين من تكرار تلك المعصية، فللمعصية شؤم وضرر قد يعمُّ وقد يخصُّ.

خامسًا: من الحكم اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى وسُنَّته أن الرسل وأتباعهم ينتصرون أحيانًا، ويُدال عليهم أحيانًا أخرى؛ لكن تكون العاقبة لهم، فلو انتصروا دائمًا لم يتميز الصادق من غيره، ولو أُديل عليهم دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت السُّنَّة الإلهية الجمع بين الأمرين ابتلاء واختبارًا للفريقين.

سادسًا: من الحكم أن الله عز وجل يقدر على عباده الابتلاءات؛ كما حصل في غزوة أُحُد ليبلغوا درجات لهم في الجنة لا تبلغها أعمالهم، فتكون تلك الابتلاءات رفعةً في درجاتهم في الجنان.

والأحكامُ والحِكَمُ من تلك الغزوة كثيرةٌ جدًّا، وقد أسهب في ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "زاد المعاد" فليُراجع؛ ففيه كلام نفيس، وكان بعد غزوة أُحُد بعوث وسرايا أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم وبعثَها للدعوة إلى الله عز وجل، ولرصد تحركات المشركين ونحو ذلك، فهي أحداث عظيمة حصلت بين أُحُد والخندق، وسبب تلك الأحداث أنه بعد المصيبة التي حصلت في غزوة أُحُد كانت هيبة المسلمين قد ضعفت، فظهر عدد من المنافقين واليهود وبدأوا بنقض العهود، وبعض القبائل المشركة قامت بمكائد للمسلمين؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصرف تجاه ذلك التصرف الحكيم المؤيد من رب العالمين الذي بيده كل شيء جل جلاله؛ ولذلك أرسل السرايا وبعثَ البعوث؛ ليُعيد لتلك الأمة قوَّتها وشجاعتها، وفعلًا عاد لهم ذلك، فقد حدثت أحداث عدة بعد غزوة أُحُد، ولعلي أقتصر على حدثينِ منهما:

الحدث الأول: سرية أبي سلمة رضي الله عنه إلى بني أسد، وكان سببها أن بعض بني أسد قد عزموا على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الخبر دعا أبا سلمة، فقال له: ((اخرج في هذه السرية، فقد استعملتُكَ عليها))، وبعث معه مئة وخمسين رجلًا، وقال له: ((سِرْ حتى تأتي بني أسد فأغِرْ عليهم قبل أن تتلاقى عليك جموعهم))، وأوصاه ومن معه بتقوى الله عز وجل، فخرج أبو سلمة رضي الله عنه بهم في محرم من السنة الرابعة للهجرة حتى انتهى إلى ماء فأغار عليهم فجأةً، فذعروا وخافوا وهربوا وتركوا مواشيهم فأخذها أبو سلمة، ومكث على مائهم وعسكر فيه، ثم تبعهم يطلبهم، فساروا خارج ديارهم، فرجع أبو سلمة رضي الله عنه غانمًا تلك المواشي، وأسر بعض مماليكهم، وأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهم سالمون منتصرون بحمد الله تعالى، ولما رجع أبو سلمة إلى المدينة اشتعل عليه جرحُه الذي جرحه في غزوة أُحُد وأقام عليه شهرًا يعالجه، وكان ذلك الجرح سببًا لوفاته رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ((اللهُمَّ اغْفِرْ لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلُفْه في عقبه في الغابرين، وافسَحْ له في قبره، ونوِّرْ له فيه))؛ رواه مسلم.

ثم قالت زوجته أم سلمة بعد وفاته: من لي بخير من أبي سلمة من المسلمين؟ ثم قالت ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم المصاب أن يقوله وهو: ((إنَّا للهِ وإنَّا اليه راجعونَ، اللهم أجرني في مصيبتي واخلُف لي خيرًا منها))، فلما قالتها بيقين تزوَّجَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

الحدث الثاني: بئر معونة أو سرية القُرَّاء، وكانت في صفر من السنة الرابعة للهجرة، فقد روى البخاري رحمه الله عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إن رِعْلًا وذِكْوانَ وعُصَيَّة بني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عددًا فأمدَّهم بسبعين من الأنصار يقال لهم القُرَّاء، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل رضي الله عنهم، وفي صحيح مسلم قالوا: ابعث لنا رجالًا يُعلِّموننا القرآن والسُّنَّة، فوصل هؤلاء السبعون إلى بئر معونة، فنزلوا فيها، وكانوا في جوار رجلٍ منهم، وبعثوا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حرام بن ملحان رضي الله عنه، ليسلمه إلى سيدهم عامر بن الطفيل، فلم ينظر عامر بن الطفيل إلى الكتاب؛ بل أمر بقتل حرام بن ملحان، فقال حرام بعدما قُتِل: فُزْتُ وربِّ الكعبة، ثم لم يكتفِ عامر بذلك الغدر؛ بل استنفر بني عامر في قتال الباقين من الصحابة القُرَّاء، فأبى ذلك بنو عامر وقالوا: لا نخفر جوار أبي براء لهم، وكان أبو براء عامر بن مالك قد أجار هؤلاء القُرَّاء، فاستنفر عامر ابن طفيل قبائل بني سليم وهم رِعْل وذكْوان وعُصَيَّة، فأجابوا إلى ذلك وغدروا، فقاتلوهم حتى قتلوهم.

وبعد هذا بوقت ليس بالطويل مرَّ على مكان الوقعة اثنانِ من الصحابة، وهما: عمرو بن أمية الضمري، والمنذر بن عقبة الأنصاري، وهما يسرحان بالماشية، فرأيا طيورًا في ذلك الموقع، فقال بعضهم لبعض: إن لهذه الطيور لشأنًا، فنظرا فإذا هؤلاء أصحابهم من القُرَّاء بدمائهم مقتولين، فقال المنذر لعمرو: ما ترى في هذا الشأن، فقال عمرو: أرى أن نرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونخبره الخبر، أما المنذر فقال: إنه سيقاتل القوم الذين قتلوا هؤلاء الصحابة، فقاتلهم رضي الله عنه حتى قُتِل، وأما عمرو بن أمية فرجع إلى المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فحزن لذلك النبي صلى الله عليه وسلم والصحابةُ حزنًا شديدًا.

وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على تلك القبائل، وأخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((إنَّ إخوانَكم قد قُتِلُوا، وإنهم قالوا: اللهم بلِّغ عنا نبيَّك أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا))؛ رواه مسلم.

وأما عامر بن مالك الذي أجار هؤلاء القُرَّاء وهو سيد من أسياد بني عامر الذي أعطى الجوار لهؤلاء القُرَّاء، فإنه لما بلغه مقتلهم شقَّ عليه ذلك أشدَّ المشقَّة حتى مات من شدة الهمِّ والمشقَّة، وأما عمرو بن أمية في رجوعه إلى المدينة ففي طريقه وجد رجلين من بني عامر قتلة هؤلاء القُرَّاء، فنزل معهما في ظل شجرة، وكان الرجلان معهما عقد وجوار من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما؛ ولكن لم يعلم به عمرو، فلما علم أنهما من بني عامر ورآهما قد ناما قام بقتلهما أخذًا بالثأر من قتل القُرَّاء، فلما قدم إلى المدينة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمقتله لهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بئسَ ما صنعْتَ؛ لقد كان لهما مني أمانٌ وجوارٍ، لأدِينَّهما))، فبعث بدِيَتِهما لقومهما.

إخواني الكرام، لعلنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبر، ونستكمل بإذن الله عز وجل في الحلقة القادمة تلك الأحداث التاريخية، فمن الدروس فيما سبق ذكره:

الدرس الأول: أن ما حصل في غزوة أُحُد من جراح وقرح وتعب ومصائب هو من الكفَّارات التي يُكفِّر الله بها ذنوب العبد، فالمشروع للعبد إذا حصل له ما يكره من مصائب الدنيا أن يعلم أنها مقدرة ومكتوبة ولحكمة عظيمة، ويُشرع له حيالها الصبر والتسليم والرضا والحمد، فإذا فعل ذلك هانت عليه مصيبته، وذلك بخلاف الذي جزع ولم يصبر؛ فإن الشيطان يستولي عليه، ووصيتي لك أخي الكريم أن تعلم أنه لا يوجد شر محض بحمد الله فيما يصيب المؤمن من البلاء، فانظر في كل ما يصيبك إلى الوجه الإيجابي فيه، ولو كان يسيرًا، فادخل من خلاله لسلامة صدرك وانشراحه، فالمرض مثلًا وإن كان شرًّا ففيه وجه إيجابي وهو التكفير للسيئات ورفع الدرجات مع سؤال الله تعالى العافية، فعِش التفاؤل وحسن الظن في كل ما يصيبك مبتدأ بالنقطة الإيجابية فيه، وإذا حصل لك خلاف ما تريد فتفاءل بقولك: لعله خير لي من حيث لا أشعر، وهكذا فإنك بذلك تشرح صدرك وتطمئن نفسك، وأيضًا ترسل لنفسك وسائل ورسائل إيجابية تعزيزية، أما لو عشت السلبية لضاقت عليك الأرض بما رحبت.

الدرس الثاني: شرع الإسلام للمصاب بأي مصيبة كانت كلامًا يقوله، فيشرح الله تعالى له صدره، ويخلف عليه بخير، وهو قوله عند المصيبة: ((إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلُف لي خيرًا منها))، وهذا ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم له أُمَّ سلمة رضي الله عنها عندما قُتِل زوجُها قالت: ومَن خيرٌ من أبي سلمة، فتقول أم سلمة رضي الله عنها: فلما قلتُها بيقينٍ أخلف الله عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فيا أخي الكريم، اجعل بدل تأسُّفك وتفكيرك عند حصول المصائب تلك العباراتِ النيرةَ والكلماتِ الطيبةَ على لسانك، فهي دعاء وتوسُّل وخشوع، والله عز وجل قريب مجيب.

الدرس الثالث: الحذر من المعصية؛ فإن لها شؤمًا قد يعم وقد يخص؛ كما حصل في غزوة أُحُد، فالمعصية شرٌّ لا خير فيه، فلماذا يفعل العاقل ما يعتقد أنه شر محض، وهو يعلم أن الله عز وجل يراه ويسمعه، وهو الذي خلقه ورزقه، وبيده تدبير أمره؟! فلنتَّقِ اللهَ تعالى جميعًا، لعلنا نفلح ونسعد دنيا وأُخْرى.

الدرس الرابع: إن أهل الحق أحيانًا قد يهزمون ويُدال عليهم، وذلك ابتلاء لهم أو خلل لديهم أو ابتلاء لأهل الباطل بسُّنَّة الإمهال؛ لكن العاقبة تكون للمتقين، ولكن من ابتلاء أهل الحق في هزيمتهم أن ينظر هل يستكينون وينكصون على أعقابهم أو يُصحِّحون المسار والخلل، ويرجعون وينيبون، هو موضع ابتلاء لهم، فعلى أهل الحق العمل على نصرته في كل وقت وحين، ويقول القائل: إن إيقادك لشمعة في الظلام هو أفضل من أن تلعن الظلام ألف مرة، فالعمل على نصرة الحق بما أعطاك الله ومكَّنك منه، هو الواجب عليك، وكلٌّ أعلم بمقدرته ومقدوره، وهذا مستفاد من واقع الصحابة رضي الله عنهم عندما رجعوا من غزوة أُحُد بجراحهم وتعبهم، استعدوا للذهاب إلى حمراء الأسد مباشرة، فرضي الله عنهم وأرضاهم.

الدرس الخامس: عندما قال حرام بن ملحان رضي الله عنه: فُزْتُ وربِّ الكعبة بعدما قُتِل، هو فوز حقيقي في مقاييس الآخرة مع أنه قُتِل؛ وذلك لأنه بلَّغ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بمهمته التي كلَّفه بها النبي عليه الصلاة والسلام، ومقاييس الآخرة هي المقاييس الحقيقية للفوز؛ لأنها هي الباقية، أرأيت من أنفق ماله في مجالات الخير فهو أربح ممن أمسك هذا المال مع أن هذا الممسك قد يكون أكثر فيما بقي ممن أنفق ماله، أرأيت أيضًا من قام ليله راكعًا وساجدًا هو أكثر فوزًا وربحًا من هذا النائم مع أن هذا النوم ربما كان أكثر راحةً للجسم، أرأيت من أتعب نفسه في خدمة إخوانه المسلمين وقضاء حوائجهم هو أكثر ربحًا وفوزًا ممن ليس كذلك، مع أن الأخير هو أكثر راحةً جسميةً بينما الأول هو أكثر راحةً نفسيةً وربحًا وفوزًا في الأجور والحسنات، أرأيت من تعب في وَصْلِ رَحِمِه وبِرِّه بوالديه، فهو أكثر فوزًا وربحًا ممن قطع وعقَّ مع أن الأخير هو أكثر راحةً جسميةً، وهكذا المقاييس المعتبرة هي مقاييس الآخرة؛ لأنها هي الباقية وليست مقاييس الدنيا؛ لأنها هي الفانية.

فمن تصدَّق بماله فقد قدمه لنفسه، ومن أمسكه فقد جعله لغيره؛ ولهذا قال حرام بن ملحان رضي الله عنه: فُزْتُ وربِّ الكعبة، مع أنه قُتِل.

الدرس السادس: إن الغدر والخداع والمكر ونقض العهود هو من صفات أهل الجاهلية والأعداء بخلاف أهل الملة والدين فهم موفون بالعهود، لا يعرفون للغدر طريقًا، ومأخذ هذا من السيرة عندما غدرت قبائل بني سليم في قتل القُرَّاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أمرهم عامر بن الطفيل فغدروا في الجوار والذمة بينما في الجانب الآخر الذي أمر به الإسلام وهو الوفاء بالعهد، ويظهر هذا جليًّا من خلال موقف عمرو بن أمية رضي الله عنه عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأنه قتل رجلينِ من رجال عامر بن الطفيل أخذًا بالثأر من قتل القُرَّاء من الصحابة، وهو لم يعلم أنهما في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاتبَه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، ودفع دية الرجلينِ؛ لأنهما كانا في جوار وذمة، فقارِنْ بين هذا وذاك.

الدرس السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما بلغَه قتلُ القُرَّاء اتجه إلى ربِّه عز وجل بالدعاء على تلك القبائل التي غدرت وقتلت هؤلاء القُرَّاء، وهكذا المسلم عندما يحزُبُه أمر، فإنه يتجه إلى ربِّه تبارك وتعالى يدعوه ويرجوه؛ لأن جميع الأمور هي بيد العزيز الحكيم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم في صلاته بعدما يرفع من ركوعه، وكان الدعاء في هذا الموطن مع أن السجود أقرب الأحوال؛ لأنه أراد أن يُؤمِّن المصلُّون على دعائه، وهذا لا يحصل في السجود؛ قال ذلك ابن حجر رحمه الله.

فالدعاء مخرج عظيم في تحصيل الأمور وشرح الصدور واطمئنان النفوس؛ فلنفزع إليه عند أي مصيبة، فله أثر عجيب في الحاضر والمستقبل.

إخواني الكرام، ما أجمل الاطلاع والقراءة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته! مقتبسين الدروس والعِبر؛ لتكون نبراسًا لنا في أفعالنا وأقوالنا؛ فسنستفيد منها الأحكام والحكم وخصال الخير ونفائس الصفات، فكم هو جميل أن تجتمع الأسرة على برنامج ولو يومًا في الأسبوع في ذلك المجال! وإنني أقترح عليك أخي الكريم أن تعقد العزم على تنفيذ ذلك مع أسرتك المباركة الكريمة، كما أقترح عليك أن تختار أحد هذه الكتب الثلاثة؛ فهي من أجمل ما كتب في السيرة، الكتاب الأول: اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون من تأليف موسى العازمي، والكتاب الثاني: الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري، والكتاب الثالث: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، فاحرص على اقتناء أحدها، واجعله منهجًا لك ولأسرتك قراءة وتعلمًا وتعليمًا واستخراجًا للدروس والعبر، وكافيك في هذا أربع خصال عظيمة: تحفكم الملائكة، وتغشاكم الرحمة، وتنزل عليكم السكينة، ويذكركم الله فيمن عنده، وهذه الصفات هي خير من الدنيا وما فيها مع أنه طريق من طرق طلب العلم، ومَن سَلَك طريقًا يطلب فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، فاعقد العزم أخي الكريم مستشيرًا أولادك في هذا المجال حتى يحصل بإذن الله عز وجل ما يمكن أن تصحح معه المفاهيم الاجتماعية والإيمانية والتربوية، وتعيش هذه الأسرة عيشة هنية مقتبسة ذلك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكِرام.

أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الصلاح والإصلاح في النية والذرية، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ابوالوليد المسلم 10-10-2022 04:20 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (21)
الشيخ خالد بن علي الجريش





الحلقة الواحد والعشرون من برنامج: خاتم النبيين

بعض الأحداث بين أحد والخندق (1)


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فقد ذكرنا في الحلقة الماضية - إخواني الأفاضل - شيئًا من الحِكَم والأحكام في غزوة أحد، وبعض الأحداث التي حدثت في تلك الغزوة، وأيضًا تعرضنا للدروس المستفادة من ذلك، وفي تلك الحلقة نستعرض بعض الغزوات التي حدثت بين غزوة أحد والخندق، فمن ذلك غزوة بني النضير فقد حدثت في السنة الرابعة للهجرة، وقيل قبل ذلك، وكان سببها أن قريشًا كتبت لبني النضير بأنكم أنتم أهل الحلقة والحصون والسلاح، فقاتلوا محمدًا، أو لنفعلنَّ كذا وكذا، إلى آخر ما كتبوا لهم، فلما بلغ ذلك الكتابُ يهود بني النضير أجمعوا على الغدر فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنِ اخْرُج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، ففعل، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر والسلاح ليغدروا، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار قد أسلم تخبره بأمر بني النضير، وتخبره بغدرهم، فأخبر أخوها هذا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم صبَّحهم بالكتائب فحاصرهم من يومه، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم محمد بن مسلمة؛ قائلًا لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنِ اخرجوا من المدينة، فلا تساكنوني فيها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، فمن رُئِيَ بعد ذلك ضربت عنقه))، فتجهز بنو النضير للخروج من المدينة خائفين صاغرين، فلما سمع المنافقون ذلك أرسل إليهم عبدالله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وقال لهم: لا تخرجوا من دياركم، لئن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم، فمن ذلك قوِيَتْ نفوس بني النضير فأرسل زعيمهم حُيَيُّ بن أخطب كتابًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيهِ: إنا لن نخرج من ديارنا، وإن قاتلتنا قاتلناك؛ فنزل قول الله تبارك وتعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الحشر: 11]؛ الآيات.

فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة قادمين، تحصنوا في حصونهم وبدؤوا ينبلون المسلمين بالنبل والحجارة، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بقطع نخيلهم وتحريقها؛ وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5]، واللِّينة هي النخلة، وقد فعل ذلك؛ إهانة لهم وإرعابًا لقلوبهم، وذلك لغدرهم المستديم، فلما كانوا في تلك الحال تخلَّى عنهم المنافقون كالمعتاد، فقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، فعند ذلك صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجلاء؛ وهو الخروج من المدينة، وأنه ليس لهم من أموالهم إلا ما حملته الإبل من الأمتعة فقط، إلا السلاح فلا يحملوه أيضًا معهم؛ وأخرج البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ((أجلى بني النضير وأقرَّ بني قريظة؛ حيث منَّ عليهم بالبقاء، فلما غدروا وقاتلوا، قتل رجالهم، وقسم نساءهم سبايا على المسلمين))؛ [رواه البخاري]، وكان بنو النضير لديهم ستمائة من الإبل، فاحتملوا عليها ما احتملت من الأمتعة، وكانوا قبل خروجهم من بيوتهم يهدمونها؛ ليخربوها على المسلمين، وليحملوا أيضًا ما يرونه نافعًا لهم، ثم خرجوا من المدينة إلى خيبر، وهم في حال من الصَّغار والذل، وسار بعضهم إلى الشام، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركوه من السلاح، فكان عداده خمسين درعًا، وثلاثمائة وأربعين سيفًا، وخمسين قطعة من السلاح، وكانت أموالهم وأرضهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء؛ لأنها فيء، وليست غنيمة؛ فالفيءُ ما حصل بدون قتال، والغنيمة ما حصل بقتال، ووضعهم مع بني النضير هو بدون قتال فصار فيئًا، فصار خالصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين؛ نظرًا لحاجتهم المادية، وجعل بعضها في السلاح في سبيل الله، وأنزل الله عز وجل في بني النضير سورة الحشر فهي عرضت حالهم؛ فذكر الله تعالى ما أصابهم الله به من الهزيمة، وما سلط عليهم من الرعب، ثم ذكر حكم الفيء، وذكر أيضًا المنافقين ذامًّا لهم؛ لإخلافهم الوعد، وهذا من صفات المنافقين البارزة، ثم ضرب لهم مثلًا قبيحًا شنيعًا؛ حيث شبههم بالشيطان.

وأخرج البخاري عن سعيد بن جبير رضي الله عنه، قال: ((قلت لابن عباس عن سورة الحشر، قال: نزلت في بني النضير))، وفي رواية أخرى في البخاري؛ قال ابن عباس: ((قُلْ سورة النضير))؛ قال الحافظ في الفتح: "كأنه كره تسميتها بالحشر؛ لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة، وإنما المراد بالحشر إخراج بني النضير وحشرهم وإجلاؤهم، وبإجلائهم ارتاح المسلمون من شرورهم، ومن الغزوات أيضًا التي حدثت بعد أحد ما يسمى بغزوة بدر الأخرى، وكانت في شعبان من السنة الرابعة؛ حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وخمسمائة رجل من الصحابة إلى بدر لموعده الذي كان واعد به أبا سفيان يوم أحد، واستخلف على المدينة عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول، وكانت بدر مجتمعًا يجتمع فيه العرب، وسوقًا من أسواقهم، وخرج أبو سفيان من مكة في ألفي رجل من قريش متجهًا إلى بدر، ومعهم خمسون فارسًا؛ للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحربه، وكان أبو سفيان كارهًا للخروج، حتى إذا وصلوا إلى عسفان، ثم ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب، فرأى أبو سفيان أن يرجع بهم، فقال لهم معتذرًا: "يا معشر قريش، إن هذا العام عام جدبٍ، ولا يصلحكم إلا عام خصب ترعَون به الشجر، وتشربون اللبن، وإني راجع فارجعوا"، فرجع الناس، وكان المسلمون قد أخذوا معهم بعض التجارات لموسم بدر، فأرسل أبو سفيان رجلًا ليخذِّل المسلمين عن الخروج، ووعده بعشرين بعيرًا، فقدم هذا الرجل المدينة فبدأ يخذل المسلمين ولكن لم ينخذل له أحد، فخرجوا حتى أقاموا في بدر ثمانية أيام، وباعوا تجارتهم في موسم بدر، وربحوا؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ [آل عمران: 174]، على حين أن بعض أهل العلم قالوا بأن هذه الآية ليست هنا، وإنما هي نزلت في خروجهم لحمراء الأسد.

ثم بعد ذلك رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى المدينة، وسمعت قريش بخروجه إلى بدر فأصابهم من الرعب ما أصابهم، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، وأيضًا كذلك مما حدث في تلك الفترة بين أحد والخندق زواجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة رضي الله عنها؛ فقد تزوجها في شوال من السنة الرابعة للهجرة؛ وهي هند بنت أبي أمية، وذلك بعد انقضاء عِدتها من أبي سلمة وهو ابن عمها، وكانت تقول بعد وفاة أبي سلمة: ومن خير من أبي سلمة؟ فلما أن استرجعت، وقالت ما يُشرع للمصاب أن يقوله؛ وهو: ((اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها)) ففعلًا استجاب الله دعاءها، وأخلف عليها خيرًا من أبي سلمة؛ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام، زوجها ابنها عمر، وقيل: سلمة، وفي ذات يوم جاءت أم سلمة بصَحْفَةٍ فيها طعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة رضي الله عنها ملتفة بكساء، ومعها حجر، فكسرت الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة، وقال: ((غارت أمكم، غارت أمكم))، ثم أخذ صحفة من عائشة وبعثها إلى أم سلمة، وأعطى عائشة صحفة أم سلمة المكسورة، ومما حدث أيضًا كذلك بين أحد والخندق غزوة دُومة الجندل، وهي بضم الدال لا بفتحها؛ وهي موضع بين المدينة والشام، وقد كانت في ربيع الأول من السنة الخامسة، وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بدومة الجندل عددًا من القبائل، وكانوا يظلمون من مرَّ بهم، وينهبون ما معهم من أموال، وأنهم أيضًا يريدون مهاجمة المدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، وخرج ومعه ألف من المسلمين، فكانوا يسيرون بالليل، ويستترون بالنهار، ومعه دليل يُقال له: مذكور، فلما قربوا من دُومة الجندل، هجموا على ماشيتهم ورُعاتهم، فأصابوا ما أصابوا، وهرب من هرب، فلما علِم أهل دُومة الجندل بذلك، تفرقوا وخرجوا، فنزل بساحتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأقام أيامًا وأسر منهم رجل فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلم، ثم رجع النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة إلى المدينة، ولم يلقوا حربًا.

وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعاد للأمة هيبتها بين الأمم والشعوب، بعد أن ضعفت من خلال ما وقع في غزوة أحد، وهذا كله من نصر الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين، فهو معهم أينما كانوا ينصرهم ويؤازرهم، ويكبت عدوهم، والله عز وجل متم نوره، ولو كره الكافرون.

إخواني الكرام، إن الحديث عن السيرة حديث لا يُمل، وفيه دروس وعِبر، وفيه حكم وأحكام، وفيه مفاهيم ومقاصد جليلة رائعة، فلعلنا نتطرق لشيء من الدروس والعبر مما سبق، ونستكمل الحديث عن السيرة في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى؛ فمن هذه الدروس ما يلي:
الدرس الأول: بيان شؤم النفاق والمنافقين، وذلك من خلال مواقف كثيرة؛ ومنها: رجوع عبدالله بن أبي بن سلول بثلث الجيش في غزوة أحد، وكذلك وعودهم المتتالية لبني النضير أن ينصروهم ويقاتلوا معهم، ولكنهم تخلَّوا عنهم في الساعة الحرجة، وأيضًا قد ذمهم القرآن، وإن كان فيهم بلاغة وفصاحة، وقد تعجبك أجسامهم إلا أنهم - كما وصفهم القرآن - كالخُشُب المُسَنَّدة، فهم لا يقومون بأنفسهم، كما أن هذه الخشب لا تقوم إلا بالجُدُر، وكذلك المنافقون لا يقومون إلا على أكتاف الآخرين، فمن النفاق العملي الكذبُ، وقد كذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم في شهادتهم؛ وقد قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1]، وقد كذبوا حتى على من يوالونهم، وهم بنو النضير، فاحذر صفاتهم؛ فمن صفاتهم الكذب، والغدر، والخيانة، والخلف في الوعد، والفجور في الخصومة، فكلها صفات سوداء ليس فيها بياض، فمن كان فيه خَصلة منها، كان فيه خصلة من النفاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة المنافقون في يوم الجمعة؛ قال أهل العلم في حكمة ذلك: ليحذر المؤمنون النفاق، ولعله أن يرجع المنافقون عن نفاقهم، فهم أتعبوا أنفسهم في العمل، ولكن ليس لهم منه مثقال ذرة، فعندما تسمع عنهم أو تقرأ، فإنك ضرورة تحمد الله تبارك وتعالى أن عافاك وتسأله الثبات.

وعقوبة المنافقين قال الله عنها: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾ [النساء: 145]، فكيف يقر للمنافق قرارٌ، وهو يقرأ ويَعْلَم مثل ذلك؟ نسأل الله تعالى العافية والسلامة والثبات على الحق.


الدرس الثاني: كانت القوة عند المسلمين عزيزة وعارمة؛ وذلك لأنهم على الفطرة الربانية، ولقد وعد الله تعالى أن ينصر من ينصره؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج: 40]، بخلاف من خالف أمره واتبع هواه، فإن الله تعالى يضعفه؛ وذلك أن الأمر كله لله، فهو يمد أولياءه بنصره لهم، وتسديده، وتيسيره، ويمنع ذلك لأعدائه، وأما إن حصل خلاف ذلك، فهو ابتلاء للفريقين أو لخللٍ عند الأمة المسلمة، فأفعاله عز وجل كلها حكمة، ومن شواهد إمداد الله تعالى لعباده المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته يتوجه إلى ربه بالدعاء؛ كما حصل ذلك في غزوة بدر وغيرها، فيمدهم الله عز وجل بالملائكة، أو بالسكينة، أو بالثبات، أو بالنصر المبين؛ كما حصل في حمراء الأسد ودومة الجندل وغيرهما، وإن كان هذا على مستوى الجماعة والأمة، فإن ذلك أيضًا يحصل لعباده على مستوى الأفراد؛ فقد ورد في الحديث القدسي: ((وأنا معه إذا ذكرني))؛ [رواه البخاري]، وإذا كان الله تعالى معه، فإنه ييسر أموره وينصره ويوفقه ويسدده، فهذه المعية هي بهذا المعنى؛ بالنصر والتسديد، والتيسير والتوفيق لهذا الذاكر؛ فلْنُكْثِرْ من ذكر الله تعالى عند قضاء حوائجنا وشؤوننا؛ ليكون الله عز وجل معنا على مقتضى هذا الحديث الصحيح، وهذا الذكر أيضًا هو مما يمنعنا أن نظلم الناس أو نغشهم أو نأخذ ما ليس لنا، إن كان في القلب تقوى وخوف من الله تعالى، فما أجمل أن يذهب أهل البيت، ويخرجوا كلهم ذاكرين لله تعالى؛ فالأب يذهب إلى عمله وهو يلهج بذكر الله عز وجل، والابن يذهب إلى مدرسته وهو يتلفظ بهذا الذكر، والبنت كذلك تذهب إلى مدرستها وهي تحرك لسانها بالذكر! فما أجملها من حال وأسعدها من لحظات، فسيكون الله تعالى معهم جميعًا يطمئنهم وييسر أمورهم، فلنكن - معاشر الآباء والأمهات - كذلك نحن وأولادنا، ولنقم بتذكيرهم دائمًا بهذا الحديث وهذه الصفة.


الدرس الثالث:موقف أسري حكيم من خلال ما حصل من عائشة في إناء أم سلمة رضي الله عنهما، وهما زوجتان لهذا النبي الكريم، فلما جاءت أم سلمة بصحفة فيها طعام، كسرتها عائشة بحجر، فلما حصلت تلك المشكلة في بيت النبوة لم يزد النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: ((غارت أمكم))؛ قالها مرتين، فتلك العبارة على قصرها أوضحت السبب، وذكرت الاعتذار، وهدَّأت الموقف، وأنهت الخصومة، ثم أبدلها بصحفة أخرى من عائشة، إن المشاكل الأسرية لا تنتهي، ولو وقف الزوجان مع كل مشكلة لتعبا وأتعبا، واختلفا ولم يتفقا، فهذه الحادثة هي تقدير من رب العالمين؛ لتكون بيانًا للعباد في التعامل، فيا أخي الكريم عندما تحصل أي مشكلة أسرية مع الزوجة أو غيرها، فلا تستعجل بما تريد فعله، بل أولًا اضبط انفعالك وتعرَّف على المآلات والعواقب، ادرأ المفسدة الكبرى بتحمُّل المفسدة الصغرى؛ فإن التربويين يقولون لا تصدر قرارك خلال بداية حصول الموقف، فإن تلك اللحظة هي حرجة وغير متفاهمة في الغالب، ويؤزُّها الشيطان أزًّا فتعرف على السبب، وحاول الهدوء وعدم الانفعال؛ لأننا حين نوصيك بهذا نعلم أن الأسرة هي المستقر والمقر المتين لذويها، فإذا تشتت لحصول مشكلة بسبب أنه لم يفهم بعضهم مقصود الآخر، أو استعجل أحدهم بتصرف غير مدروس، ولم يعذره الآخر، فإن هذا التشتت له أبعاده السلبية؛ فالتعامل مع الأسرة يختلف في الجملة عن التعامل مع الآخرين، فالأقربون أولى بالمعروف، ويا ليتنا في كلام بعضنا مع بعض حول مشكلة ما نأخذ بهذه القاعدة، وهي قاعدة رائعة جميلة ذهبية، تُروى عن الشافعي رحمه الله حيث يقول: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"، لكن البعض - هداهم الله - يتعامل بقاعدة أخرى سلبية؛ وهي: رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب، ففرقٌ بين القاعدتين؛ فالأولى تحملك على التفاهم والتأمل والتأني، وأما الثانية، فهي تغلق عليك تلك الصفات الجميلة؛ فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((غارت أمكم))، هما كلمتان فقط، لكنهما أنهيا مشكلة بين بيتين من بيوت أزواجه عليه الصلاة والسلام، فما أجمل التفاهم والاعتذار، والتقبل والاعتراف، فلو كنا كذلك لزالت كثير من المشاكل الأسرية، وحصل الاطمئنان والسكون، فقد تفرقت أسرٌ بأسباب تافهة، من خلال أرشيف المحاكم، وجهات الإصلاح والمصلحين، وتم لمُّ الشمل بحمد الله تعالى لكثير منها عندما ساد الهدوء والتفاهم، وعرف كل منهم فضل الآخر، وعرفت مآلات الأمور في الأولاد والأحفاد، فاللهم لك الحمد كثيرًا على ذلك.

وإن مما يستحق الإشارة إليه في الجو الأسري أن نربي أنفسنا على ثقافة الحوار الجيد، وأيضًا على التغافل الإيجابي، وكذلك على التشجيع والتحفيز عند الإنجاز، وأيضًا على استدامة الدعاء بعضنا من بعض، وأيضًا ألَّا ننسى الفضل بيننا، وأن نعلم أن خيرنا هو خيرنا لأهله، وكذلك أن نقوم بتحميل أولادنا للمسؤوليات ليتعلموها، وأن يكون الشكر سائدًا بيننا أكثر من العتاب، مع استحداث جلسات تجمعنا، نتجاذب فيها أطراف الحديث، إن الاهتمام بهذه وأمثالها يبني الأسرة ويعززها، وأيضًا كذلك يزيل مشاكلها، ويجمع شملها، وقد تمثلت هذه الصفات في أسر، فنجحت وسعدت، وقد فقدتها بعض الأسر، فاختلفت، وربما فشلت، اللهم أجمع شملنا على الهدى والتقى، وأصلح نياتنا وذرياتنا، وبارك لنا وعلينا يا رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ابوالوليد المسلم 10-10-2022 04:23 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (22)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة الثانية والعشرون من برنامج: خاتم النبيين

بعض الأحداث بين أحد والخندق (2)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
فقد سبق معنا - إخواني الأكارم - في الحلقة الماضية ذكر بعض الأحداث التي حصلت بين غزوتي أُحُد والخندق، فقد ذكرنا يهود بني النضير وبني قريظة، وأيضًا غدرهم وكيف أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، وذكرنا ما أفاءه الله على رسوله عليه الصلاة والسلام من سلاحهم وأموالهم، وذكرنا أيضًا غزوة دُومة الجندل، وغزوة بدر الآخرة، إلى غير ذلك مما سبق ذكره، ونحن في حلقتنا هذه بإذن الله نتابع ذكر تلك الأحداث، سواء كانت في بيت النبوة أم خارجها.

فمن ذلك قدوم وفد مُزَينة؛ ففي رجب من السنة الخامسة قدم وفد من مزينةَ، وعددهم أربعمائة رجل، فبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأمرهم بأمره، وأوضح لهم، وزودهم ببعض الطعام، وهذا الوفد هو أحد الوفود التي قدمت المدينة، فتُبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وذلك مما يغيظ المنافقين والكفار آنذاك؛ لأنه بإسلام مثل هذا الوفد ورجوعه إلى قومه سيسلم الكثيرون ممن وراءهم، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، ومن نصره له، وتسديده إياه، ومن الأحداث أيضًا في تلك المرحلة غزوة بني المصطلق أو المُرَيْسِيع، والمريسيع هو موقع ماء لخزاعة، وهو الآن في وادي ستارة، تبعد عن المدينة قرابة مائتين وخمسين كيلومترًا إلى جهة مكة قريبًا من قديد، وكانت تلك الغزوة في الثاني من شهر شعبان من السنة الخامسة، وكان سببها أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق جمع قومه لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام بريدة بن الحصيب؛ ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وكأنه رجل من العرب يريد إعانتهم، فأتى إلى الحارث وكلَّمه فيما يريدونه، وعلِم خططهم ومآربهم وما هم عليه من خلال كلامه معه، فقال بريدة للحارث: دعني أذهب إلى قومي لكي أجمع منهم رجالًا، فسُرُّوا بذلك، ورجع هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بخبرهم، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إليهم، فأسرعوا الخروج وكانوا سبعمائة مقاتل وثلاثين فرسة، وخرج معهم عدد كبير من المنافقين، ومعهم رأسهم عبدالله بن أبي بن سلول، وكان الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق قد أرسل عينًا له يأتيه بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلقيَهُ النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه، فسأله عنهم، فلم يذكر عنهم شيئًا، وكتم أخبارهم، فعرض النبي عليه الصلاة والسلام عليه الإسلام، فأبى أن يسلم، واتضح لهم أنه عين لبني المصطلق، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرَ بن الخطاب فضرب عنقه، فلما علم بذلك الحارث، ساءهم وَوَلَجَ في قلوبهم الرعب، وتفرق عنه مَن كان معه من غير قومه.

فوصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع، فأغار عليهم وهم غافلون، فقتل بعض مقاتلتهم، وسبى من ذراريهم، وكان منهم جويرية رضي الله عنها؛ [رواه البخاري]، ثم جُمعت الغنائم بعد ذلك، وغنموا من الإبل الشيء الكثير، فقد غنموا ألفين من الإبل، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي والأسرى الشيء الكثير؛ لأنهم أتَوهم على غفلة، ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كله في موضعه الذي غنمه فيه، فأخرج الخمس، ثم قسم الباقي بين الناس، وفرق السبيَ، فصار بأيدي الرجال، وقسم الإبل والشياه، وكانت جويرية رضي الله عنها من السبي فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكانت أمًّا للمؤمنين؛ وهي بنت الحارث رئيس بني المصطلق.

وكان زواجه عليه الصلاة والسلام بها سببًا في إسلام الكثير من بني المصطلق، حتى أسلم أبوها الحارث بن ضرار، ثم خرج الحارث إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم كثير منهم، وبزواجه أيضًا عليه الصلاة والسلام من جويرية أعتق كثير من الرقيق؛ لأنهم صاروا أصهارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها: ((ما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها))، وكانت جويرية رضي الله عنها عابدة ذاكرة، وهي التي كانت سببًا في ورود ذلك الذكر العظيم المضاعف الذي رواه مسلم في صحيحه؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن جويرية رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها؛ أي: في موضع صلاتها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال لها: ما زلتِ على الحال التي فارقتكِ عليها؟ قالت: نعم، أذكر الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلتُ بعدكِ أربع كلمات؛ ثلاث مرات، لو وُزنت بما قلتِ منذ اليوم، لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته))؛ [رواه مسلم].

فهذا ذكر عظيم جليل ينبغي لنا حفظه، والمحافظة عليه، وتحفيظه لأولادنا، ولم يُقتَل أحد من المسلمين في تلك الغزوة إلا رجل واحد، وهو هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار، وهو يظنه من العدو فقتله خطأ، فلما علم أخوه مقياس بن صبابة وهو في مكة، جاء إلى المدينة وأشهر إسلامه، ومكث أيامًا، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أطلب دية أخي"، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفع دية أخيه، فأخذها، واستلمها، ثم بعد أن أقام أيامًا عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدًّا، والعياذ بالله، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه وإن كان متعلقًا بأستار الكعبة؛ فقُتل في فتح مكة.

وقد خرج في تلك الغزوة غزوة المريسيع عدد من المنافقين؛ ومنهم عبدالله بن أُبي، رئيس المنافقين، وقد خرجوا باسم الجهاد، ولكنهم يقصدون إثارة الفتنة بين المسلمين، وقد حدث حدثان عظيمان بسببهم:
الحدث الأول: إنه ازدحم رجلان؛ أحدهما من المهاجرين، والآخر من الأنصار، فاختلفا فكسع المهاجري الأنصاري؛ أي: ضربه، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوها؛ فإنها مُنتنة، لينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا؛ فإن كان ظالمًا، فلْيَنْهَهُ، فإنه له نصرة، وإن كان مظلومًا فلينصره))؛ [رواه مسلم]، وفي رواية قال: ((ما بال دعوى الجاهلية؟ فبلغ ذلك عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فغضب، وعنده رهط من قومه، وفيهم زيد بن أرقم رضي الله عنه وأرضاه، وكان غلامًا يافعًا، فقال ابن أبي: أو قد فعلوها؟ يعني: المهاجرين جاؤوا إلى المدينة، وكاثرونا في ديارنا، والله ما أعُدُّنا وجلابيب قريش إلا كقول القائل: سمِّن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقال أيضًا: لا تنفقوا على مَن عند رسول الله؛ حتى ينفضوا من حوله))؛ [أخرجه البخاري ومسلم].

فذهب زيد بن أرقم ذلك الغلام وكان حاضرًا معهم، فذكر ذلك لعمه سعد بن عبادة، فذكر سعد ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق ذلك المنافق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دَعْهُ؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي يسأله عن ذلك، فحلف أنه ما قال ذلك، واجتهد في يمينه، وقال هو ومن معه: كذب زيد، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد؛ أي مستنكرًا ذلك الخبر، فقال سعد: إنما أخبرنيه ذلك الغلام؛ يعني: زيدًا، فأخذ عبدالله بن أبي يزجر زيدًا على ذلك زجرًا شديدًا، يقول زيد: فأجهشت بالبكاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت: والذي أنزل عليك النبوة، لقد قالها، يقول زيد: فأصابني همٌّ وغمٌّ لم يصبني مثله قط، وجلست وحيدًا، فلما حصل ذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرف الناس عن دعوى الجاهلية، وإلا تتسع دائرة المشكلة، فأمر بسير الجيش في ساعة لا يرتحل فيها عادة، فسأله أسيد بن الحضير عن هذا الارتحال على غير العادة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بمقالة ابن أبي، فقال أسيد رضي الله عنه: أنت يا رسول الله العزيز، وهو وحزبه الذليل، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به؛ فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لَينْظِمون له الخرز ليُتوِّجوه؛ فإنه يرى أنك قد سلبته ملكه.

ثم سار بهم النبي صلى الله عليه وسلم مسارًا طويلًا حتى تعبوا ثم ناموا، قال زيد: فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفقت برأسي من الهم والغم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك بأُذني، وضحك في وجهي، فما يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، فلقيني أبو بكر، فقال: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: ما قال شيئًا، وإنما ضحك في وجهي، وسررت لذلك، ولحقني عمر، وقال لي مثل ذلك، فقلت له مثل ذلك، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقون؛ وكان مما قرأ قوله تعالى: ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾ [المنافقون: 7]؛ الآية، وقوله: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ﴾ [المنافقون: 8]؛ الآية.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد صدقك))؛ [رواه البخاري]، ثم أكملوا مسيرهم فنزلوا في مكان، فهبت عليهم ريح شديدة وتخوَّفوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تخافوها؛ هذه الريح لموت منافق))، قال جابر: فلما قدمنا المدينة، فإذا رفاعة بن زيد قد مات، وهو من عظماء اليهود، وكان كهفًا للمنافقين، وعندما علم عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول وهو أحد الصحابة الأجلاء، عندما علم ما قاله والده المنافق، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي عبد الله بن أبي، فإن كنت فاعلًا، فمُرْني به، فإني أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمتِ الخزرج ما كان لها من رجل أبرَّ بوالده مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقِيَ معنا))، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من المريسيع، وقف الصحابي الجليل عبدالله بن عبدالله بن أبي على باب المدينة، فلما جاء أبوه أناخ ناقته عند بابها، وقال لأبيه: والله لا تجوز من هذا الباب، حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذِن له فخلى سبيله، وكانت تلك الغزوة في اليوم الثاني من شهر شعبان، وقدموا المدينة في هلال رمضان.

إخواني الكرام، فيما سبق عرضه في تلك الحلقة دروس وعِبر، فلعلنا نتطرق لبعضها، ونستكمل حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله؛ فمن الدروس ما يلي:
الدرس الأول: في هذه الغزوة ظهرت بركات متعددة لجويرية رضي الله عنها وأرضاها، وهي أم المؤمنين، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانت في السبي صارت من نصيب أحد الصحابة، فعرضت على سيدها المكاتبة، فكاتبها، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينها، فأعانها، وتزوجها، فزواجه منها صار سببًا في عتق عدد من الصحابة لمماليكهم من بني المصطلق؛ حيث كانوا بعد هذا الزواج أصهارًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بركتها أنها بزواجها من الرسول عليه الصلاة والسلام أسلم أبوها، ومن بركتها أيضًا أنه بإسلام أبيها ذهب يدعو قومه فأسلموا، وأيضًا من بركتها رضي الله عنها أنها كانت سببًا في هذا الذكر المضاعف؛ وهو ((سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته))؛ والحديث مشهور في صحيح مسلم، فهو ذكر عظيم جليل ينبغي لنا حفظه والمحافظة عليه، وتحفيظه لأولادنا صغارًا وكبارًا، وأن ندل عليه كل من نحب، فهو يُقال في كل وقت، لكنه يتأكد في الصباح، وهو ذكر عظيم ويسير أيضًا؛ فهو لا يستغرق أكثر من ربع دقيقة، لكنه يحوي من الأجور أكثر من ملء الأرض والسماء، فحافظوا عليه يا رعاكم الله، فإنكم على خير عظيم، وأُعيده لأهميته: ((سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته؛ ثلاث مرات)).

الدرس الثاني: قد يكون أحيانًا ظاهرُ الأمر قتلًا وفتكًا، لكنه في باطنه الخير العظيم؛ فغزوة بني المصطلق كانت لقتال وجهاد الكفار، ولكنه حصل في تلك الغزوة خير عظيم، ويتمثل ذلك بإسلام الأسرى، وبركات جويرية رضي الله عنها، وإسلام الحارث زعيم بني المصطلق، وإسلام كثير من قومه لما دعاهم، فحصل هذا الخير العظيم، مع أن ظاهر الأمر لهم شرٌّ كبير، فعندما يحصل أمر قد نكرهه في حياتنا، فلننظر إلى النقطة الإيجابية فيه، وننطلق منها في التفاؤل وحسن الظن؛ فإن ذلك أشْرَحُ لصدورنا، وأكثر طمأنينة لنفوسنا، وأضيق لدائرة المشكلة، وأوسع في دائرة الحل، بينما لو تشاءمنا ولم نتفاءل، لانقلبت تلك الإيجابيات المذكورة إلى سلبيات، فتبدأ المشاكل بالاتساع والتكاثر.

الدرس الثالث: في تلك الغزوة عندما تشاجر المهاجري والأنصاري يُستفاد أن النفوس ليست معصومة من الخطأ، حتى ولو كانوا صحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولكنهم يرجعون سريعًا للحق رضي الله عنهم، ويُستفاد من تلك الحادثة تلكم القاعدة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي نهيه عن أمور الجاهلية؛ حيث قال: ((دعوها فإنها منتنة))، فهو نهي عن أعمال أهل الجاهلية وأسس المحبة والتعاون، والتكاتف والتفاهم، وحسن الظن، وغير ذلك من تعاليم الإسلام، فإذا أسلم الكافر أو اهتدى العاصي، فليترك ما كان عليه قبل ذلك من جاهلية، وليستبدلها بنور الإسلام وتعاليمه.

الدرس الرابع: على المسلمين أن ينصر بعضهم بعضًا، سواء كانوا ظالمين أو مظلومين، فنصرُ الظالم بإبعاده عن الظلم ونهيه عنه، ونصر المظلوم بأخذ حقه من الظالم، والمقياس في هذا كله هو الإسلام، وليس حظوظ النفس أو القرابة أو العشيرة ونحو ذلك؛ فالعدل هو الأساس، والله عز وجل يعلم الخفايا وما تخفيه الصدور، ونهيُ الظالم عن ظلمه هو حجز له عن عذاب الله، وحفاظ على حسناته وأعماله، وكم نحن بحاجة ماسة في واقعنا المعاصر إلى ذلك، سواء في البيع والشراء، أو في الغيبة والنميمة، أو في القضايا الزوجية، أو في التعاملات الأخرى، فيتعين علينا جميعًا أن نعدل في هذا، وننصف المظلوم من الظالم، وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك إذا طلب منك شهادة على شيء من الأشياء، فعليك بالعدل، واحذر الحيف، ولا يمنعك من العدل، حتى ولو كان صاحبك أو قريبك، بل ولو على نفسك؛ لأنك إن نجوت الآن، فأمامك الآخرة، وسيتضح فيها كل شيء، وستظهر فيها النتائج على حقيقتها، فكلما وقع سمعك أو نظرك على ظلم، فكن إيجابيًّا مع الظالم والمظلوم، وذلك بإحلال العدل بينهما؛ فالظلم يتنوع؛ فقد يكون بالأقوال، أو بالأعيان، أو بالأعراض، ويا ليت الظالم الذي يأخذ ما ليس له من مال أو عرض في الدنيا، يا ليته يعلم أنه سيرده يوم القيامة من حسناته، فوقفة تأمل مع تلك النقطة قد تُوقِظ القلب إلى الأبد، إن كان في القلب تقوى وخوف.

الدرس الخامس: تأمل بُعد النظر عند هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وتأمل أيضًا النظر في مآلات الأمور، كم نحن بحاجة ماسة لهذه الصفة العظيمة؛ وهي بُعْدُ النظر في تصرفاتنا وقراراتنا! فكان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لأحد الصحابة بقتل رئيس المنافقين، وينتهي أمره، ويدرأ شره، لكنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى أمر بعيد، وهو قوله: ((لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))، فإن هذا قد يرد بعض الناس عن الإسلام، وكذلك قد تقوم فتنة بذلك؛ ولذلك احتمل أدنى المفسدتين بدفع أعلاهما، فكذلك نحن في تربيتنا لأولادنا وتصرفاتنا وتعاملنا مع الآخرين لا بد أن يكون ذلك مدروسًا ومنظورًا فيه عواقب الأمور؛ ففي الطلاق والهجر، والكلام السيئ، والظنون القبيحة آثار سلبية كبيرة، فلندرأها ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.

الدرس السادس: في موقف عبدالله بن عبدالله بن أُبيٍّ رضي الله عنه عندما أراد أبوه دخول المدينة فقال: "لا تتجاوز حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم"، في هذا الموقف العظيم تقديم أمر الرسول عليه الصلاة والسلام على أمر الوالدين، مع أنه كان بارًّا بأبيه أشد البر، ومع ذلك قال له: "لا تدخل المدينة حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فمهما كانت محبة الوالدين أو البر بهما، فلا يُقدَّمان على أمر الله ورسوله، وفي ذلك قوة إيمان بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، مع عِظم حق الوالدين، ووجوب البر بهما، فإن تلك المحبة وذلك البر إذا تعارض مع أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يُنظر إليه، بل ليس برًّا.

الدرس السابع: يظهر في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أُبيِّ بن سلول، الخلق الحسن في التعامل حتى ولو كان الآخر فيه عداوة؛ فالخلق الحسن مفتاح لكل خير، وجالب لكل برٍّ، وهذا يرسم لنا منهجًا في التعامل الأمثل فيما بيننا في كلامنا وتصرفاتنا أن تكون مدروسة، ويُراعَى فيها نفوس الآخرين؛ فالخلق الحسن والتعامل الأمثل هو دعوة إلى الدين، وموضع قدوة للآخرين، فإذا رآك أحد على خلق حسن أحبك وارتاح إليك، واقتدى بك، فنِلْتَ مثل أجره، فاحرص على اقتناص ذلك الخلق الحسن من خلال تصرفات الآخرين، فما كان من حسن فخُذْهُ، واحرص عليه، وما كان من سيئ، فاتركه وابتعد عنه، وبذلك تجتمع فيك المحاسن، وتزول عنك المساوئ، فهذه قاعدة عظيمة في حسن الأخلاق، وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، اللهم أصلحنا وأصلح لنا، وأصلح بنا، واغفر لنا، وارحمنا ووالدينا والمسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




ابوالوليد المسلم 27-10-2022 08:50 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (23)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة الثالثة والعشرون من برنامج خاتم المرسلين

حادثة الإفك


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم أيها المستمعون والمستمعات الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، فقد تعرضنا مستمعي الأكارم في الحلقة الماضية إلى غزوة بني المصطلق وهي المريسيع، وذكرنا وفودَ وفدٍ من مُزينة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا شيئًا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وكذلك ذكرنا الخير العظيم الذي كان في تلك الغزوة، وأيضًا ذكرنا فضائل جويرية رضي الله عنها على قومها، بل على الأمة جمعاء!

وذكرنا شيئًا من أحداث المنافقين في تلك الغزوة، ويتواصل الحديث في تلك الحلقة عن حدث في آخر غزوة المريسيع، وهو حادثة الإفك التاريخية التي كانت أعظم فتنة حاكها المنافقون، وقد استباح عبدالله بن أبي ابن سلول لنفسه أن يرمي الطاهرة المطهرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بالفحشاء، وهذه الحادثة أخرجها البخاري في صحيحه؛ حيث ترويها عائشة رضي الله عنها، فتقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخروج أقرع بين نسائه؛ أي جعل بينهن قرعة، فمن خرج سهمها خرجت معه، فلما كان غزوة بني المصطلق، فعل كما كان يفعل، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزل وجوب الحجاب، فكنت أُحمل في الهودج وانزل فيه، حتى إذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته، رجعنا إلى المدينة فنزلنا وبتنا بعض الليل قرب المدينة، فلما أذنوا بالرحيل، ذهبت لقضاء حاجتي، فلما قضيت حاجتي ورجعت، فلمست صدري فلم أجد عقدي، فرجعت أطلبه وألتمسه، فلما رجعت فإذا الجيش قد حملوا هودجي، وظنوا أني فيه، فحملوه على بعيري، وكنت خفيفة اللحم إذ ذاك، فبعثوا الجمل وسار الجيش، ووجدت عقدي بعد مسيرهم، فجئت إلى مكانهم فلم أجدهم، فمكثت في مكاني لأجل أنهم إذا فقدوني رجعوا إليه، فبينما أنا جالسة ومتحجبة بجلبابي، فنمت وكان صفوان بن معطل السلمي رضي الله عنه من وراء الجيش، فرأى سواد إنسان، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل وجوب الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي، فوالله ما سمعت منه كلمة غير الاسترجاع، فأناخ راحلته فركبتها، فسار حتى أتينا الجيش وهم نازلون في طريقهم، فلما رأى الناس ذلك قالوا ما قالوا من السوء، وهلك من هلك، وقد تولى الإفك عبدالله بن أبي ابن سلول، ثم قدمنا المدينة والناس يتحدثون بالإفك ولم أشعر به، وكنت مشتكية من المرض بعد قدوم إلى المدينة، فلما زال عني بعض مرضي خرجت أنا وأم مسطح لبعض الحاجة، فلما رجعنا إلى بيتي، قالت أم مسطح: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلًا شهد بدرًا? فقالت: أو لم تسمعي ما قال، قلت: وما قال? فأخبرتني بقول أهل الإفك، فرجع إليَّ مرضي، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فسأل عن الحال، فقال: كيف تيكم? فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي، فأذن لي وأنا أريد أن استوثق الخبر منهما، فقالت عائشة رضي الله عنها لأمها: بماذا يتحدث الناس? فأخبرتها، قالت أمها: ويا بنية هوِّني عليك من الأمر، فقلت: وهل علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي? قالت نعم، فبكيت حتى سمعني أبي، فقال: ما شأنها? فذكرت له حادثة الإفك، فقال أقسمت عليك يا بنية أن ترجعي إلى بيتك فرجعت؛ رواه البخاري.

وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة فبرَّؤوها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين، مَن يعذِرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه وكان سعد سيد الأوس، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا ذلك، قالت عائشة: فمكثت أبكي يومًا وليلتين ولا أكتحل بنوم، مما أصابني من الهم والغم وكان عندي أبواي، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه شيء في شأني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرِّئك الله، وإن كنت ألممتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي ما أجيب به رسول الله عليه الصلاة والسلام. وقلت لأمي أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أدري ما أقول لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فقلت: والله لقد علمت ما سمعت، واني والله إن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة، فإنكم لا تصدقوني، وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة، فإنكم مصدقي، ولكن لا أقول إلا كما قال يعقوب: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، ثم تحولت واضطجعت على فراشي، وكنت أرجو أن يوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في هذا، فوالله ما خرج أحد من البيت حتى بدأ الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفناه. فإنه ليتحدَّر منه العرق ونحن في يوم شاتي، وذلك من ثقل القول عليه، فأما أنا فعلمت أنها براءتي.

وأما أبواي فأخذهما الغم والهم خشيةَ أن يكون صدق الناس فيما قالوا، فلما سُري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يضحك ويقول: يا عائشة، أما الله عز وجل فقد برأك، فحمدت الله عز وجل، فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 11 - 20]، فلما نزلت البراءة خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في المسجد، ثم تلا تلك الآيات، ثم أمر برجلين وامرأة - وهما مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش - فضُربوا ثمانين حدَّ القذف.

ثم اعتذر حسان من عائشة رضي الله عنها ومدحها بأبيات من الشعر في طهارتها وعفافها، وفي أثناء الإفك سأل النبي صلى الله عليه وسلم زوجته زينب بنت جحش عما سمعت أو رأت من الحال، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عنها إلا خيرًا، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على مسطح بن أثاثة؛ حيث كان ابن خالته، فلما نزلت براءة عائشة، أمسك أبو بكر تلك النفقة ردةَ فعل لما اتَّهم عائشة، فأنزل الله تعالى قوله ) ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى والله أحب أن يغفر الله لي، فأرجع على مسطح النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، وقد قيل: إن آية التيمم نزلت في تلك الغزوة، وقال آخرون: إنها في موقف آخر، ولعله هو الراجح كما ذكره ابن القيم وغيره، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله فوائد عظيمة مما اشتملت عليه حادثة الإفك، فقد ذكر سبعين فائدة، وأذكر منها في هذا المقام عشرًا وهي كما يلي:
أولًا: مشروعية القرعة حين الاختلاف، فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم القرعة بين نسائه حينما أراد أن يخرج بإحداهن.

ثانيًا: وجوب تغطية المرأة وجهها عن الرجال الذين ليسوا من محارمها، فقد احتجبت عائشة رضي الله عن صفوان رضي الله عنه.

ثالثًا: مشروعية رد عرض المسلم كما ذكرت زينب وأبو أيوب وغيرهما؛ حيث قالوا لا نعلم إلا خيرًا.

رابعًا: مشروعية التسبيح عندما يسمع المسلم شيئًا كذبًا، فيقول: سبحان الله.

خامسًا عدم خروج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها.

سادسًا: فيه تثبت أبي بكر في الموقف، فلم يلفظ بكلمة واحدة حميَّة، فهو ينتظر الحقيقة من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال أبو بكر: ما قيل عنا هذا في الجاهلية، فكيف يقال عنا بعد أن أعزنا الله بالإسلام؟

سابعًا: فيه الحث على البشارة لمن تجدَّدت له نعمة أو اندفعت عنه نقمة، والمسارعة بها؛ لأنها سرور على مسلم، وهو عمل صالح.

ثامنًا: فيه أن الشدة كلما زادت فإن الفرج قريب.

تاسعًا: فيه الحث على العفو والصفح كما حصل من أبي بكر لمسطح.

عاشرًا: فيه مساعدة من حصل له بلية أن يشاركه شعوره مع محاولة تأنيسه والتوسعة عليه، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى تلك الفوائد السبعين كلها في كتابه فتح الباري في الجزء التاسع منه، وهكذا وبعد شهر من حصول هذه التهمة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تقشعت سُحب الشك والارتياب والاضطراب، وافتُضح رأس المنافقين ومن شاكلهم بنزول تلك الآيات العظيمة التي تتلى إلى يوم القيامة.

أيها المستمعون الكرام، نختم حلقتنا تلك ببعض الدروس والعبر من تلك الحادثة، على أننا سنكمل بإذن الله عز وجل الكلام عن السيرة في الحلقة القادمة بذكر غزوة الخندق بإذن الله تبارك وتعالى، فمن دروس حادثة الإفك ما يلي:
الأول: بيان الحكمة الإلهية العظيمة في حصول تلك الأحداث ولو كانت سيئة على أصحابها؛ ليحصل من خلالها حكمٌ عظيمة يطول ذكرها، لكن منها التشريعات الفقهية المستفادة مما يحصل، بحيث يكون تشريعًا للعباد، وتكون تلك الأحداث أيضًا بيانًا للمخلص من غيره، وتكون تكفيرًا لمن قدرت عليه تلك الأحداث، ويرتفع بها أقوام، وينخفض بها آخرون حسب الواقع الذي يعيشونه، وهذه الأحداث بأفراحها وأتراحها، فإن للمؤمن منها موقفًا شرعيًّا يجب عليه التمسك به، وهو الصبر عند الأتراح مع الحمد والتسليم، وكذلك الشكر عند الأفراح مع الثناء على الله عز وجل، وإمساك اللسان عن حوادث الفتن، ولا يقول ما لا يعلم، وليستحضر أنه مسؤول عن كل كلمة أو فعل يصدُر منه، فهو مسؤول عنه في الدنيا والآخرة، وليتأمل ماذا يترتب على ذلك، وليكن بعيدَ النظر، والسلامة لا يعدلها شيء؛ فاجعل موقفك إيجابيًّا في أفراحك وأتراحك، فالشكر والحمد والثناء والامتثال عند حصول أفراحك، وكذلك استرجاعك وحمدك وصبرك وتسليمك الأمر لله عند حصول أتراحك، وبهذا تكون صابرًا شاكرًا، وحينها ينطبق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سراءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن).

فاستحضِر هذا جيدًا عند حصول ذلك، وأتْبِع العلم بالعمل.

الدرس الثاني: في ذهاب عائشة رضي الله عنها لالتماس عقدها لم يعلموا عنها، ولذلك حملوا الهودج ظنًّا منهم أنها فيه، فهي لم تخبرهم، وهذا يعطينا أدبا من الآداب في الرحلات والسفريات ونحوهما، أنه إذا أراد أحدنا أمرًا من الأمور كقضاء حاجة أو شراء شيء ما، أو نحو ذلك - أن يخبر رُفقته عن ذلك، خصوصًا إذا كان قرب الرحيل من المكان؛ حتى لا يحصل ما لا تُحمد عقباه، فعائشة رضي الله عنها لم تخبرهم ولو أخبرتهم لانتظروها، ولكن لَما لم يعلموا ساروا على أنها معهم، فلنعلِّم صغارنا وأولادنا ذلك الأدب حتى لا يحصل ما لا يُحمد.

الدرس الثالث: في قول عائشة رضي الله عنها عن صفوان رضي الله عنه وقد رآني قبل نزول الحجاب، فيه دلالة صريحة صحيحة على وجوب الحجاب للمرأة بأن تغطي وجهها وسائر بدنها عن غير محارمها، أما المحارم فيكشف لهم الوجه والقدمان والرأس ونحو ذلك، والله عز وجل يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ﴾ [الأحزاب: 59]، ويقول الله تبارك: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 31]، فالخمار على الرأس ويضرب على الجيب، فيغطي الوجه، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾ [الأحزاب: 53]، وتقول عائشة رضي الله عنها حين الإحرام إذا حاذانا الرجال أسدلت إحدانا جلبابها، وإذا جاوزونا كشفناه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، كل هذه الأدلة وما في معناها تدل على وجوب حجاب المرأة عن الرجال غير المحارم، وهو أكثر صيانة لها، وأيضًا هو عبادة تتعبد بها وتؤجر عليها، وهو أبعد عن الفتنة وأقرب إلى الطهر والتزكية، فصفوان رضي الله عنه قد رأى عائشة قبل نزول آيات الحجاب، وفي آيات الحجاب جاء القرآن موافقًا لرأي عمر رضي الله عنه؛ حيث قال عمر للنبي عليه الصلاة والسلام: لو احتجبت نساؤك يا رسول الله، فنزل القرآن موافقًا لرأي عمر، فعلينا تربية بناتنا على ذلك، فهو أكثر مروءة وطهرًا وعفافًا وتزكية للنفس، وبُعدًا عن مواطن الفتنة.

الدرس الرابع: في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها عندما سألها عن الحقيقة في تلك الحادثة قال: إن كنت ألممتِ بذنبٍ، فاستغفري الله وتوبي إليه، يستفاد من ذلك أن العبد المسلم إذا فعل ذنبًا أو قصر في عبادة، فعليه بالاستغفار، وهذا الاستغفار هو نعمة من الله تبارك وتعالى على عباده؛ حيث يغفر ذنوبهم باستغفارهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار في يومه وليلته، وربما استغفر سبعين مرة في المجلس الواحد، فهو الأسوة والقدوة لنا جميعًا، فما منهجيتنا مع الاستغفار? لعلك أخي المستمع الكريم تضع لك منهجية في الاستغفار فتربطه بأوقات الصلاة، أو بساعات اليوم، أو في أوقات فراغك وذَهابك وإيابك، أو كما تراه مناسبًا، فكن مكثرًا من الاستغفار في يومك وليلتك، لتحصل لك طوبى، ففي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن وجَد في صحيفته استغفارًا كثيرًا، والاستغفار علاج لكثير من المشاكل المعنوية والحسية، وسبب لحصول كثير من البركات العامة والخاصة.

الدرس الخامس: في حادثة الإفك درس عظيم في التثبت في مجريات الأخبار، وعدم الشهادة بشيء لم يتضح، فالأعراض مصونة والأنفس محترمة، والألسن محاسبة عما تقول، ولا تقل شيئًا لا تعلمه؛ لأن فلانًا قال به، فعليه حسابه وعليك حسابك، فالخصوم ستجتمع عند الله تبارك وتعالى يحكم بينهم، فالإشاعات يجب ألا تنطلي على العاقل الحصيف، فإنه يصطحب الأصل حتى يحصل خلافه، فإن كان أحدٌ ألَمَّ بشيء من ذلك على أحد، فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، وإنما هي الحسنات والسيئات، ومن أهم الأشياء ما يعرف بالشهادة من دون علم، كشهادة الزور ونحوها، وذلك مقابل مال حقير سيذهب ويتركه لغيره، وليستحضر المتحدث والمتصرف بهذه الأشياء أهوال يوم القيامة والحساب وما فيه، فإن ذلك حاجز له عن السوء بالآخرين، ومبرئٌ لذمته بإذن الله عز وجل بأن يكون صادقًا أمينًا في قوله وفعله.

الدرس السادس: قاعدة عظيمة في تربية اللسان على الخير وتحصينه عن الشر، وهي تتمثل في قول زينب بنت جحش رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، عندما سألها عن الإفك، قالت رضي الله عنها: أحمي سمعي وبصري، ما علمت عنها إلا خيرًا، فعلى المسلم أن يحفظ جوارحه عن التُّهَم بالآخرين، فهو أذكى له وأطهر، ولا يقول: سمعت ورأيت إلا إذا كان سمع ورأى حقائقَ، أما سماع الإشاعة والظنون ورؤيتها، فهذا يترفع عنه العاقل الحصيف في مقام الشهادة والحكم، ومجالس الناس؛ لأنه قد يُبنى عليها أحكام وظنون وزيادات كلها ملفقة على مسلم هو منها براء، فلينتبه لهذا.

الدرس السابع: في موقف أبي بكر في إرجاع النفقة لمسطح؛ حيث إن مسطحًا كان من المتهمين لعائشة، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه، ثم منع النفقة فلما سمع قول الله تعالى: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [النور: 22]، عفا عنه وصفح، وأرجع النفقة إليه، وهكذا النفوس الزكية الطاهرة تتطلع لواسع فضل الله تعالى ومغفرته، مع أن أبا بكر رضي الله عنه تجرع مرارة الإفك، ولكن أمر الله تعالى ومغفرته أعظم، بل قال: لا أنزعها عنه أبدًا، فلنكن كذلك إذا أخطأ علينا أحد وجاء يطلب العفو، فلنعلم أن الجزاء من جنس العمل، فعفو الله عز وجل أعظم وأجل، ولنا بالصحب الكرام أسوة وقدوة، ولا نكن حريصين على أخذ حقوقنا من حسنات الآخرين يوم القيامة، بل إذا عفونا فإنما يأتينا من فضل الله تعالى ما هو أعظم من ذلك، حيث يقول الله تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40]، والله عز وجل يعطي بغير حساب اللهم ارزقنا قلوبًا سليمة والسنة صادقة، وبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا، وأصلح لنا نياتنا وذرياتنا، ووفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ابوالوليد المسلم 27-10-2022 09:21 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (24)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحلقة الرابعة والعشرون من برنامج خاتم المرسلين

غزوة الخندق


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم أيها المستمعون والمستمعات الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد تعرضنا مستمعي الأكارم في الحلقة الماضية إلى حادثة الإفك التي أشاعها المنافقون، وهي في غزوة بني المصطلق، وكيف نزل القرآن مبينًا الحق من الباطل، وكيف كان ذلك خيرًا لبيت النبوة? وذكرنا الدروس المستفادة من تلك الواقعة العظيمة، ونستأنف في هذه الحلقة غزوة الخندق التي صاحبتها المخاوف والظروف من كل جهة، وضاقت على المؤمنين، ولكن الله عز وجل أعانهم بنصره وتأييده، وقد حدثت هذه الغزوة في السنة الخامسة من الهجرة، وتسمى أيضًا غزوة الأحزاب، فسُميت بالخندق لأجل الخندق الذي حُفر الذي أشار إليه سلمان الفارسي رضي الله عنه، وأمَر به النبي صلى الله عليه وسلم، وسُميت أيضًا بالأحزاب؛ لأن طوائف المشركين تحزَّبوا على المسلمين كغَطَفان وقريش واليهود وغيرهم، وسبب تلك الغزوة أن نفرًا من كبار اليهود من بني النضير الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، ومنهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع وغيرهم، خرج هؤلاء إلى مكة واجتمعوا بأشراف قريش، وحرَّضوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فوعدوهم أولئك من أنفسهم الإعانة والنصرة، ثم خرج هؤلاء النفر من اليهود إلى بقية قبائل اليهود، فاستجابوا لدعوتهم، فحصلت تلك الغزوة وهي غزوة الخندق، وقد خرجت قريش بعد أن تشاوروا في دار الأرقم، وعقدوا اللواء فيه، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألفًا وخمسمائة بعير، وخرجوا يقودهم أبو سفيان، وكان في طريقهم بنو سليم، فخرجوا معهم وهم سبعمائة رجل، وأيضًا خرج معهم أيضًا بنو فزارة وهم ألف رجل، وكذلك خرج معهم بنو مرة وهم أربعمائة رجل، وخرج معهم أيضًا أشجع وهم أربعمائة رجل، وخرج معهم أيضًا آخرون، فكان جميع من خرج يصل إلى عشرة آلاف مقاتل، فاتجه هؤلاء جميعًا نحو المدينة على ميعاد تعاهدوا عليه مع قبائل اليهود هناك، وقبل خروج الأحزاب من مكة، قدم ركب من خزاعة إلى المدينة، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الأحزاب وخروجهم، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم، واستشارهم في ذلك، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق، وقال: كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا، فأعجب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بحفر الخندق، وكانت المدينة محاطة من كل نواحيها إلا الناحية الشمالية، فحفر الخندق منها، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم لكل عشرة رجال أربعين ذراعًا يحفروه، وشرع المسلمون في حفر الخندق في جو بارد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشاركهم في ذلك، ويحمل التراب بنفسه عليه الصلاة والسلام، وقد رأى ما بهم من الجوع والتعب، فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة، فقالوا هم: نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا؛ متفق عليه. وواصل المسلمون حفرهم للخندق، فهم يحفرون طول النهار، ثم يعودون في ليلهم إلى أهليهم ليرتاحوا ويطعموا.

وقد ربطوا على بطونهم الحجارة من الجوع، وأما المنافقون فكانوا يتأخرون في العمل ويثبِّطون عزائم المسلمين، ويتسللون عن العمل بلا إذنٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذهبون إلى أهليهم، وفي هذه الغزوة حصلت معجزات عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن هذه المعجزات ما رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كنا نحفر الخندق، فعرضت لنا كدية؛ أي حجر كبير، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم عجزوا عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب الحجر على ضخامته، فما كان من الحجر إلا أن كان كثيبًا؛ أي رملًا لينًا، فحفروه، فسبحان من قدرته عمَّت كل شيء.

والمعجزة الثانية تكثير الطعام، ففي البخاري ومسلم أن جابرًا رضي الله عنه لما حفر الخندق، قال: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جوعًا شديدًا، فذهبت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء? فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم جوعًا شديدًا، فأخرجت قليلًا من الشعير ولنا بهيمة صغيرة، فذبحتها ثم وضعناها في البرمة، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وساررته، فقلت: يا رسول الله، لقد صنعت طعامًا قليلًا، فتعالَ أنت ونفر قليل معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق جميعًا، وقال: يا أهل الخندق، إن جابرًا قد صنع سؤرًا؛ أي: طعامًا، فحيَّ هلًا بكم، وكان عددهم ألف رجل، فقال جابر: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تُنزلنَّ برمتكم، ولا تَخبزن عجينكم حتى أجيء، قال جابر: فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الخندق وكان عددهم ألف رجل، فقلت لامرأتي في ذلك، فعاتبتني وقالت بك وبك، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فبصق في العجين وفي البرمة، وبارك فزاد الطعام حتى فاض.

قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى شبعوا وتركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط باللحم والخبز، فهذا شيء من معجزاته عليه الصلاة والسلام يقرأها المسلم، فيزداد ثباتًا وإيمانًا ويقينًا.

واستمروا على حفر الخندق مدة اختلف فيها أهل السير، فبعضهم قال ستة أيام وبعضهم قال أكثر من ذلك، وبعضهم قال: إن الخندق استغرق شهرًا لحفره.

ويجمع بين تلك الروايات بأن بعض المجموعات فرغت بستة أيام من نصيبها، وأخرى استمرت إلى شهر، وتكامل حفر الخندق قبل وصول جيش المشركين إلى المدينة، وبعد حفر الخندق وصل جيش المشركين الذي يصل تعداده إلى عشرة آلاف مقاتل، فنزل بعضهم وهم أربعة آلاف في أعلى المدينة، ونزل ستة آلاف في أسفلها إلى جهة أحد، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ﴾ [الأحزاب: 10].

وخرج إليهم المسلمون بجيش تعداده ثلاثة آلاف مقاتل، فمكثوا قرب جبل سلع، وجعلوا وجوههم إلى العدو والخندق بينهم وبين عدوِّهم، فضربت للنبي صلى الله عليه وسلم قبة، وكان على حراستها عدد من الأنصار، وقدم المشركون بجيشهم ورآهم المؤمنون، فقال الله تعالى عن ذلك: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22] ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]، ولما رأى المشركون الخندق دهشوا وتعجبوا، وقالوا: إن هذا ليس معروفًا عند العرب، فأخذوا يتجولون عند الخندق ليدخلوا فعجزوا، والصحابة رضي الله عنهم يقذفونهم بالنبل، وأقاموا على ذلك بضعًا وعشرين ليلة لم يحصل حرب إلا الضرب بالنبل، وفي هذه الأثناء أمر أبو سفيان وهو زعيم المشركين حيي بن أخطب أن يذهب إلى زعيم بني قريظة وهو كعب بن أسد، ليأمره بنقض العهد مع محمد، فأبى عليه كعب إضافته وأبى عليه النقض، فَأَلَحَّ عليه حيي حتى تكلم معه، فذكر له نقض العهد مع وانضمامه إلى جيش الأحزاب، فقال زعيم بني قريظة: ما أنا بناقض العهد مع محمد، فلم أجد منه إلا وفاءً وصدقًا وعدلًا، فما زال به يُلح عليه ويعرض عليه المغريات حتى نقض العهد بنو قريظة، ودخلوا مع المشركين، فلما بلغ ذلك الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الزبير بن العوام ليتأكد من الخبر، فجاءه بخبرهم وأنهم نقضوا العهد، وكان حصل للمسلمين في تلك الغزوة موقف عصيب وشديد؛ حيث تكالبت عليهم الأحزاب من كل جهة مع خوف شديد وجوع كذلك، وأجواء باردة شديدة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].

فالموقف عصيب وشديد، ويزيد ذلك شدةً أن المنافقين من الداخل يخلخلون الصف قائلين: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا، وبعضهم يشجع على الفرار، فمنهم من يستأذن ومنهم من لا يستأذن مع عهودهم السابقة ألا يرجعوا.

ومما زاد الخوف شدةً نقض بني قريظة للعهد، فقد خاف المسلمون على المدينة من هذا النقض الذي حصل في هذا الموقف العصيب، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجيش ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة من بني قريظة أن يُغيروا عليهم، ولكن مع تلك الشدة العصيبة والموقف الشديد كان المسلمون موقنين بأن الأمر بيد الله، وأنه سينصرهم ويفرِّج كربهم ويعينهم، ولهذا قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يبشِّرهم بقوله: والذي نفسي بيده، ليفرجنَّ عنكم ما ترونه من الشدة، واني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليَّ مفاتيح كسرى وقيصر، ولتُنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله، فيا تُرى ما الذي حصل بعد تلك الشدة العصيبة والمواقف الشديدة والخوف، والجوع والبرد وقلة عدد المسلمين، وكثرة عدد المشركين، وتكالُب المشركين على المسلمين من كل جانب، ما الذي حصل بعد هذا? هذا ما سنعرفه إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة، ونختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعبر مما سبق عرضه، فمن ذلك ما يلي:
الدرس الأول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يشاركهم في إعداده وحفره، فلم يكن موقفه موقف المتفرج، وإنما كأنه واحد منهم، فهو بذلك يشجعهم ويحفزهم، ويكون مكان القدوة لهم، فما أحوجنا في أوامرنا لأولادنا أو لغيرهم أن نكون ممتثلين لما نأمرهم به، ويرونه عيانًا فينا؛ ليتشجعوا على التنفيذ، فإن من أهم العوامل في التربية الأسرية هو التربية بالقدوة، وهي ترجمة الأقوال والتوجيهات إلى واقع أسري إيجابي يراه الأولاد، فيقتدون، وهو وقاية وعلاج في آن واحد، لذا أعتب على بعض أحبابنا من الآباء والأمهات والمربين الذين يأمرون مَن تحت أيديهم بعمل حسن، ثم يرى هؤلاء المتربون عملًا مخالفًا، فإن التربية حينئذ تكون هزيلة وضعيفة، وذلك كمن ينهى عن الكذب ويسمعونه يكذب، أو ينهى عن السب ويسمعونه يسب، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال، فالنبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق عندما أمرهم ووجَّههم، وبدؤوا العمل، وكان عليه الصلاة والسلام واحدًا منهم، والبعض من الآباء وهو موضع القدوة، قد يعمل عملًا مشينًا أمام الأبناء كالتدخين وسماع ما لا يحل سماعه، أو يتحدث مع أحد بكلام سيئ، فهؤلاء سيقتدون به؛ لأنه أمامهم موضع القدوة، فلينتبه لذلك وُفِّقتم وبوركتم.

الدرس الثاني: إن النتائج الطيبة والمخرجات المتميزة تحتاج إلى الجهود الجبارة والتعب وتحمُّل المشاق بعد توفيق الله تعالى، أما من يطلب ذلك بدون جهود تُذكَر، فهو في الغالب قد لا يتحصل عليها، فالصحابة رضي الله عنهم بذلوا جهودًا عظيمة في حفر الخندق، فحماهم الله عز وجل، فشبابنا وأولادنا الكرام الأفاضل يتطلعون إلى معالي الأمور في دينهم ودنياهم، ولكن نَهمس في أذانهم بأن هذا يحتاج منكم وفَّقكم الله إلى جهدٍ وصبرٍ، وعدم استعجال، ويحتاج أيضًا إلى نظر في العواقب، وتخطيط واهتمام وتفاؤل، أما من يريد تلك المعالي وهو لم يقدِّم ما يوازيها، فقد لا يحصل له ذلك، فالبداية المحرقة تكون لها بإذن الله تعالى النهاية المشرقة، وعلى الآباء والأمهات الكرام تثقيف أولادهم في ذلك مما مارسه الوالدان في سابق عملهم، وأيضًا مما اكتسبوه من معرفتهم وتجاربهم.

الدرس الثالث: في هذه الغزوة حدث عددٌ من المعجزات لنبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه المعجزات هي من دلائل النبوة وأدلتها، وإذا قرأها المسلم زاده إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسلفنا في ثنايا تلك الحلقة بذكر بعض المعجزات؛ كزيادة الطعام، وقصة الحجر في الخندق وغير ذلك، فعلى المسلم أن يكون له اطلاع على تلك المعجزات، فإذا علمها وتأمَّلها زاد إيمانه، والعلم بها من أسباب الثبات على دين الله؛ لأنها خارقة للعادة، وهي أدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكم هو جميل أن يطلع عليها الأولاد ليقوى إيمانُهم? وهي أسلوب قصصي مرغوب، وفيها مظاهر عديدة من مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى؛ حيث أجرى تلك الخوارق على يد نبيه صلى الله عليه وسلم نصرًا له وتأييدًا وتسديدًا.

الدرس الرابع: يظهر من خلال تلك الغزوة قوة إيمان الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث أَلَمَّت بهم المخاوف من كل وجه، فالتحزب من المشركين واليهود، وأيضًا كثرة العدد في العدو، وأيضًا قلة المعيشة، وكذلك الأجواء الباردة، وكذلك نقض بني قريظة للعهد، وأيضًا إتيان المشركين للمسلمين من فوقهم ومن أسفل منهم، فالوضع حرج جدًّا، ولكن هذه المخاوف والمظاهر هي ضئيلة مقابل ما امتلأت به قلوب المسلمين من الإيمان، وحب الله تعالى ورسوله، واستشعارهم أن الله عز وجل معهم ينصرهم ويسدِّدهم، وييسِّر أمورهم، ولذلك ما زادهم هذا إلا إيمانًا وتسليمًا، وهكذا المؤمن الحق إذا حصل له مخاوف، فيتجه إلى تعالى ويكثر من ذكره وعبادته، ويعلم أن الله عز وجل معه، ويستشعر ذلك ويتفاءل، فتنقلب تلك المخاوف إلى أقل درجاتها، ولربما تزول هذه المخاوف، وهذا الاستشعار وذلك التفاؤل يعطي العقل الباطن إيجابية وتحفيزًا واطمئنانًا وَسَعة، وذلك بخلاف من اشغل عقله وفكره بالتشاؤم، فهو قد ملأ داخله بالرسائل السلبية التي لا منتهى لها، فإذا حصل لك موقف تكرهه فلا تستدرج معه، بل انظر النقطة الإيجابية فيه، وانطلق منها بالتفاؤل، فسيخف كثيرًا، ولا فرق بين التفاؤل والتشاؤم من حيث العمل، إلا ما يقع في العقل من التأمل، فاجعله إيجابيًّا لا سلبيًّا، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم حصل لهم تلك المواقف الحرجة، فانطلقوا بالتفاؤل مبتدئين بمعيَّة الله تعالى لهم، وأنه لن يتخلى عنهم، ومسترشدين بتوجيه هذا النبي الكريم لهم.

إن التفاؤل مسكن فعَّال لكثير من المشاكل الحاضرة والمستقبلية، فإذا صحبه الدعاء كان أكثر فاعلية، فلنتعلم أيها المستمعون الكرام خلقَ التفاعل من خلال مواقفنا، كيف لا? والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، فأوكِل الأمر إلى الله تعالى، وقل: لعله خير لا أعلمه، فستطمئن وترتاح، وتسكن نفس عن الأفكار السلبية.

الدرس الخامس: إن الحق ما شهدت به الأعداء كما يقال، فبنو قريظة قبل نقضهم للعهد، شهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء والصدق والعدل، وهكذا المسلم يكون متصفًا بهذه الصفات الطيبة، فهو وفي وصادق وعادل، وتلك الصفات الثلاث هي من مقومات نجاح المجتمع أُسوةً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا المجتمع يتصف بضدها من الغدر والكذب والظلم، فهو مجتمع مخفق فاشل، فلنستمسك معاشر المستمعين الأفاضل بتلك الصفات الطيبة مع أنفسنا ومع الآخرين من ذوي القربى وغيرهم، وهي من جملة العمل الصالح، ومن جملة الخلق الحسن الذي هو من أعظم أسباب دخول الجنة.

وحينما يتمثل المسلم تلك الأخلاق، فإن الأخلاق الأخرى الحسنة تأتي تبعًا لها، حتى تجتمع فيه المحاسن من الأخلاق، فيا بشراه بذلك، فلنكن جميعًا كذلك، فهو أكثرُ انشراحًا لنفوسنا، وأكثر سكنًا لقلوبنا، وأصفى وأنقى لصدورنا، وها هي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام بين أيدينا، فلنَمْتثلها في أفعالنا وأقوالنا؛ لنُفلح في دنيانا وأخرانا، فاقضوا مع أولادكم رحمكم الله الجلسات التربوية في الخلق الحسن؛ ليتعلموه منكم وينشؤوا عليه، وذلك بالأسلوب المناسب لهم، مع الاستشهاد بالقصص والمواقف، فسيزيد برُّهم بكم من خلال تلك الجلسات الطيبة، اللهم أصلحنا، وأصلِح لنا، وأصلح بنا.



ابوالوليد المسلم 03-11-2022 07:23 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (25)
الشيخ خالد بن علي الجريش





الحلقة الخامسة والعشرون من برنامج خاتم المرسلين

دروس من غزوة الخندق


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير النبيين وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم أيها المستمعون والمستمعات الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، فيما سبق مستمعي الأكارم في حلقتنا الماضية ذكرنا غزوة الأحزاب، وكيف تحزَّب المشركون على المسلمين، وماذا كان مستوى تلك الشدة، وكيف تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، وأيضا ذكرنا عددًا من المعجزات في تلك الغزوة، وأزلفنا أيضًا وصفًا لواقع للمشركين والمسلمين، وذكرنا عددًا من المبشرات إلى غير ذلك.

وفي حلقتنا هذه نستكمل تلك الغزوة، مواقفها ودروسها، فهي اشتداد في الحال وظهور في النفاق والمنافقين، فإن هذا لم يفتَّ من عَضُد المؤمنين، بل سلموا الأمر لله تعالى تسليمًا، وعلموا أن النصر من عند الله تبارك وتعالى وأنه قريبٌ، فكانوا يعيشون ذلك التفاؤل والاطمئنان داخل نفوسهم، وإن كان الواقع مخيفًا، لكن الله عز وجل ربط على قلوبهم، وبدأت المعركة بالنبال حتى خرجت فوارس من قريشإلى الخندق، فرأوا مكانًا ضيقًا، فاقتحموه فدخلوا على المسلمين، فأسرع إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين، فأغلقوا تلك الثغرة عن دخول آخرين، وممن دخل مع هذه الفتحة عمرو بن ود، فأخذ يدعو إلى المبارزة، وهو ابن تسعين سنة، فبارزه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حتى قتله فهرَب أصحابه راجعين، واستمرت المناوشات بين المسلمين والكفار، فأصاب رجل من الكفار سعد بن معاذ، أصابه إصابة شديدة وسالت منه الدماء، فقال سعد رضي الله عنه: اللهم لا تُخرج نفسي حتى تقرَّ عيني من بني قريظة، فاستمسك الدم عن السيلان، فاستجاب الله عز جل دعوته، وحكم سعد على بني قريظة بأن تُقتل مقاتلتهم، وتُسبى ذراريهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، فحمل رضي عنه إلى المسجد، ليتطبب فيه وليعوده من يعوده، وحيث مكث المشركون قريبًا من شهر، ولم يستطيعوا أن يعبروا الخندق في الجهة الشمالية من المدينة، فقد طال المقام عليهم، فاتَّعدوا أن يُغيروا جميعًا ولا يتخلف منهم أحد، فهيؤُوا أنفسهم ورتبوا صفوفهم ليعبروا الخندق عبرًا واحدًا، ويقاتلوا المسلمين، فجاؤوا إلى الخندق قبل طلوع الشمس، فتجهزوا للقتال، وكذلك تجهز المسلمون لمجابهة عدوهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف أصحابه رضي الله عنهم ويرتِّبهم، ووعدهم بالنصر بإذن الله تعالى إن هم صبَروا، فحصل التراشق بالنبل وبالرمي، وكان المسلمون يدافعون ضربات عدوِّهم، ودام ذلك التراشق مع محاولة عبور الخندق يومهم هذا كله، حتى غربت الشمس، فلم يستطع المسلمون أن يُصلوا صلواتهم لانشغالهم بعدوِّهم، وذلك قبل نزول صلاة الخوف، فلما غربت الشمس تفرَّق المشركون ولم يحصل بعد ذلك اليوم قتال، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصلوات الفائتة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا؛ رواه مسلم.

وفي هذه الشدة العصيبة واجتماع الأحزاب جميعًا على المسلمين، أسلم نُعيم بن مسعود رضي الله عنه، فجاء خُفية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد شهادة الحق، وقال: يا رسول الله، مُرني بما شئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذِّل عنا ما استطعتَ، فإن الحرب خَدعة، فذهب نعيم رضي الله عنه وأخذ يقابل بعض سادات بني قريظة، فقال لهم كلامًا ثم ذهب إلى أشراف قريش من الأحزاب، فقال لهم كلامًا آخر مغايرًا، وذهب إلى غطفان وقال لهم كلامًا مغايرًا عن السابق، حتى اضطرب القوم، وكل منهم يقول لأصحابه: صدق نعيم بما قاله، فتباعد كل فريق عن الآخر، ووقعت بينهم الوقيعةُ، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ﴾ [الأحزاب: 25]، وقد حصل النصر للمسلمين على عدوهم من خلال عوامل عديدة بإذن الله تعالى، من أهمها ما يلي:
أولًا: حفر الخندق الذي حال بين المسلمين والكفار، وهو تجربة فارسية.

الثاني: الريح التي أرسلها الله تعالى؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [الأحزاب: 9]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: نُصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدَّبور؛ متفق عليه.

العامل الثالث في نصر المسلمين في الأحزاب: موقف نعيم بن مسعود رضي الله عنه، فعندما أسلم ذهب ليخذِّل الأحزاب ويخالف بينهم.

العامل الرابع: الدعاء، فهو سلاح كبير وعظيم، فقد دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزِم الأحزاب، اللهم اهزِمهم وزلزِلهم؛ متفق عليه، وفي رواية صحيحة: وانصُرنا عليهم، ومن أعظم نتائج غزوة الأحزاب أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه رضي الله عنهم متفائلًا ومستشعرًا نصرَ الله عز وجل حين انصرف الأحزاب أذلاءَ صاغرين، فقد قال لهم: الآن نغزوهم ولا يَغزوننا، نحن نسير إليهم؛ رواه البخاري، وفي رواية أخرى حسنة قال: لا يغزونكم بعد هذا أبدًا، ولكن أنتم تغزونهم.

وفعلًا بعد تلك الغزوة سار المسلمون إلى الكفار يغزونهم، فقد سار المسلمون إلى مكة معتمرين بعد الأحزاب، وتوالت الفتوح بدءًا بفتح مكة في السنة الثامنة، ثم حنين، وهكذا حتى دخل الناس في دين الله تعالى أفواجًا، وأما الأحزاب فلم يغزو المدينة بعد ذلك، وفي هذا علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، وقد ظهرت مظاهر القدرة الإلهية في غزوة الأحزاب، فأرسل الله تعالى تلك الريح الباردة في الليالي الشاتية، فأكفأت قدورَهم وأطفأت نيرانهم، وهدمت خيامهم، وأرسل الله تعالى مع الريح ملائكة تُزلزلهم، وتلقي الرعب في قلوبهم، فامتلأت قلوبهم رعبًا وخوفًا؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ولولا أن جعل الله رسوله رحمة للعالمين؛ حيث قال تعالى: وما الله ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: 33]، لولا ذلك وذاك، لكانت هذه الريح كالريح العقيم على عاد، ويلتمس أيضًا الإمام ابن كثير رحمه الله حكمة وملحة، فيقول: حيث اجتمعوا بسبب الرأي والهوى، فقد سلط الله عليهم الهواء الذي فرَّقهم، فكما جمعهم هوى فقد فرَّقهم أيضًا هواء، ولما حصلت تلك الريح وساءت حالهم، سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من رجل يقوم، فينظُر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة، قال حذيفة: فما قام أحد من شدة الجوع والبرد والخوف، فلما لم يقم أحد دعاني عليه الصلاة والسلام، فقال: اذهَب فادخل في القوم، فانظُر ماذا يفعلون، ولا تحدثن شيئًا حتى تأتينا، قال حذيفة فذهبت وتسلَّلت حتى دخلت في القوم، فرأيت الريح وجنود الله تعالى تفعل بهم الأفاعيل، فكأنهم توجسوا أن أحدًا دخل عليهم، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، ليَنظر كل امرئ من جليسه، قال حذيفة رضي الله عنه، فبادرت مَن عن يميني وعن يساري، فقلت من أنت? فلما انتهيت رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي، فلما سلَّم، أخبرته خبرهم، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني أن أُحدث شيئًا لقتلت أبا سفيان زعيمهم، وبعد ذلك أَذِنَ الرسول عليه الصلاة والسلام للمسلمين في الانصراف إلى المدينة وهم يقولون: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، وكان انصرافهم في أواخر ذي القعدة، وهكذا تكالب الأحزاب والقبائل، ورجعوا خاسئين خاسرين خائبين، أذلاءَ صاغرين، وهي سنة الله تعالى في نصر أوليائه، وكبت أعدائه إلى قيام الساعة، فلله الحمد أولًا وآخرًا.

ونختتم حلقتنا هذه أيها المستمعون والمستمعات الكرام ببعض الدروس والعبر المستفادة مما سبق عرضه، فمن ذلك ما يلي:
أولًا: في هذه الغزوة سنة إلهية وحكمة ربانية تستحق التأمل؛ لأن فيها فرجًا ومخرجًا للنفوس، واطمئنانًا لِما في الصدور، وهي أنه كلما زادت الشدة، فإن الفرج على أثرها، ويَتبعها، وتلك الغزوة مثال ونموذج على هذا، وقد قال الله تعالى: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لن يغلب عسرٌ يسرين، ففي تلك الآية العسر جاء معرفًا، فالأول هو الثاني نفسه، لكن اليسر جاء منكرًا، ومن ثم يختلف الثاني عن الأول، ففي الآية عسر واحد ويسران، فإن من ابتُلي بشدة وعسر، وتأمَّل مثل هذه القواعد، فإنه يحسن الظن بربه عز وجل، وينتظر الفرج ويتفاءل بحصوله، وإذا كان كذلك، فسيحصل عنده الاطمئنان والراحة بقدر ما عنده من التفاؤل وحسن الظن، فليستقل أو ليستكثر، أما من تخلف عن فكره تلك القاعدة العظيمة، فقد يعيش في أوهام ومخاوف قد تتجدد وتتكاثر، وتفتح باب الشيطان، ففي تلك الغزوة ومع شدتهم وضيقهم، قالوا: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]، فتفاءلوا وأحسنوا ظنَّكم بربكم رحمكم الله.

الدرس الثاني في تلك الغزوة: أنهم انشغلوا بالقتال ومدافعة العدو عن صلاتهم، وذلك أنهم لم يستطيعوا أن يجمعوا بين الصلاة والمدافعة، وذلك قبل نزول صلاة الخوف، فكان تأسُّفهم رضي الله عنهم على فوات صلاتهم، وهم بذلك معذورون ومعهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، فتأسفوا كل الأسف وندموا كل الندم على فواتها عن وقتها، انشغالًا بمدافعة ذلك العدو الذي لو انشغلوا عنه لاستأصلهم، فأين الذين يؤخرون صلواتهم عن أوقاتها بلا عذر أو بنومٍ لا يُعذرون فيه، فإن جملة كبيرة من أهل العلم قالوا: إذا أخَّر المسلم الصلاة عن وقتها عمدًا بلا عذرٍ فلا تصح منه ولو صلاها مرارًا؛ لأنها ليست في وقتها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ؛ أي مردود على صاحبه، ومثلوا لذلك بمن أخَّر صيام رمضان إلى غيره من الشهور بلا عذرٍ، أو أخر الحج إلى غيره من الشهور، فإنه لا يُقبل منه صيام ولا حج، قالوا: والصلاة أعظم من الصيام والحج، فليتقِ الله تعالى أولئك الذين هم عن صلاتهم ساهون، فيجمعون الصلاة مع الأخرى بغير عذرٍ، فهم على خطر عظيم من الكفر، كما قاله جمع من السلف، فعليهم أن يتوبوا ويرجعوا.

ألا يخشى أولئك أن تُقبض أرواحُهم وهم لم يُصلوا؟ فبماذا يقابلون ربهم عز وجل? وهم لاهون غير معذورين، فليس كل نوم عذرًا مبيحًا لتأخير الصلاة، فاتقوا الله تعالى تفلحوا في الدارين.

الدرس الثالث: في موقف نعيم بن مسعود رضي الله عنه درس في أن الحرب خَدعة، فهو قال كلامًا، ونقله بين الأحزاب وهو ليس حقيقيًّا، لكنه فيه مصلحة للمسلمين وتفريق للكافرين، وقد أَذِنَ له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فحصل به فرج للمسلمين بتوفيق الله تعالى، ويشبه هذا ما يكون للإصلاح بين المتخاصمين، فالمصلح له أن ينقل كلامًا بين المتشاحنين ليصلح بينهما، وليحرص أن يكون ذلك من المعاريض إن أمكَن، فيقصد به وجهًا ويفهمون هم وجهًا آخر للكلام، فالإصلاح بين المتخاصمين عمل صالح كبير وثوابه جزيل، وما يقال في سبيل الإصلاح لعله مغفور مقابل تلك المصلحة العظيمة، وهو الصلح بين المتخاصمين.

الدرس الرابع: في الأحزاب أرسل الله تعالى الريح وهي جندٌ من جند الله، يرسلها على من خالف أمره واتَّبع هواه، فجنود الله تعالى عظيمة وكثيرة، وليخشَ العصاة المجاهرون أن يقع عليهم شيءٌ من جنود الله تعالى من مرض أو وباء، أو فقر مُدقعٍ، أو تسلُّط عدوٍّ، أو نقصٍ في المعيشة، أو غير ذلك، ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾ [المدثر: 31]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كل أمتي معافى إلا المجاهرون.

فإن المعصية إذا خَفيت فهي على صاحبها، أما إذا جهر بها ولم تُنكر، فتعم، فلنتقِ الله تعالى في أفعالنا وأقوالنا، ولنعلَم أن الله عز وجل أنعم علينا بنعم قد صرَفها عن غيرنا، أما نخشى أن يَصرفها عنا.

الدرس الخامس: الدعاء سلاح عظيم وجسيم، وهو طريق لتفريج الكربات والمضايق، سلكه الأنبياء والصالحون، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا في الأحزاب على العدو، فاستجاب الله عز وجل دعوته، فكن أخي المستمع الكريم في جميع أحوالك ملازمًا للدعاء، وعندما تدعو فافتتحه بالحمد والثناء على الله وحسن الظن به، وتوسل بقولك: يا ألله يا حي يا قيوم، وأظهر حاجتك وعجزك، فالله عز وجل قريب مجيب، والبعض منا قد يسلك الأسباب المادية وينسى الدعاء، بقضاء حاجاته وتفريجها، واعلم أنك إذا دعوت فلك بدعائك إحدى ثلاث؛ إما أن تُعطى ما سألت، أو يُدَّخر لك ذلك حسنات يوم القيامة، أو أن يُدفع عنك بلاءٌ سيقع عليك، فيدفعه الله عنك، فأنت رابح في جميع أحوالك، فإذا كنت تدعو الله تعالى لقضاء حاجاتك وتحمده أيضًا بعد قضائها، فستدعو وتحمد خلال حياتك بملايين المرات، فيا بشراك بذلك، فاجعل ذلك سجية لك أنك في جميع حاجاتك تدعو، وإذا قضيت تلك الحاجة تحمد، فما أحوجنا إلى تلك اللمسات أن تكون واقعًا لنا.

الدرس السادس: في غزوة الأحزاب شيء من دلائل النبوة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأن الأحزاب لن يغزوَهم، وقد حصل ذلك فعلًا، فلم يغزوهم في المدينة بعد غزوة الأحزاب، وكل معجزاته عليه الصلاة والسلام هي دلائل على صحة نبوته عليه الصلاة والسلام، فإذا تأمَّلها المسلم زاد علمًا ويقينًا وإيمانًا وثباتًا، وزالت عنه الشُّبه واتَّضح له الحق.

الدرس السابع: أهمية التفاؤل في حياة المسلم، فما أضيقَ الحالة التي مرت بالمسلمين في الأحزاب? ومع ذلك كانوا متفائلين ومحسنين الظن بالله عز وجل، ففي جميع أحوالك - وخصوصًا ما ضاق منها - كن متفائلًا؛ لأنك إن تفاءلت كان هذا التفاؤل رسائل إيجابية للضمير، فيرتاح ولو نسبيًّا، ويخف عليه وطأة المشكلة، وذلك الضيق، أما لو لم يتفاءل وبَقِيَ على ضيقه وتشاؤمه، فسيفتح على نفسه باب الوساوس والتفكير، وسيرسل من خلال ذلك رسائل سلبية للضمير، فيزيد الضيق ضيقًا والإشكال إشكالًا، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل؛ لأنه شرح للنفس وطُمأنينة لها، وسلامة للقلب، وطريق للحل والوصول إليه، وعلى أقل أحواله هو علاج مناعي عن زيادة الأمراض المزمنة، فلنتفاءل حتى ولو بلغت القلوب الحناجر.

الدرس الثامن: أن الصلاة إذا فاتت بعذرٍ، وأراد المسلم تأديتها، فليُصلها كما كان، يُصليها كل يوم، فالجهرية يَجهر بها ولو قُضيت في وقت سرٍّ، كالفجر في وقت الضحى، والسرية تُصلى سرًّا، ولو قضيت في الليل، فالقضاء يحكي الأداء، أما من أخرها عن وقتها بلا عذرٍ كمن يضع المنبه لصلاة الفجر في وقت الضحى، فيستيقظ ويصلي، ثم يذهب إلى عمله، فإني أهمس في أذنه ما يلي:
أولًا: إن هذا الفعل مخالفة للفطرة والشريعة، فهي صلاة في غير وقتها، فقد افتقدت شرطًا مهمًّا من شروط الصلاة وهو الوقت؛ لأنها بغير عذرٍ، ولأن النوم والحالة هذه ليس عذرًا شرعيًّا.

ثانيًا: ماذا لو ختمت حياته قبل استيقاظه، وقد تعمَّد تأخير الصلاة عن وقتها، فما جوابه لربه عز وجل؟

ثالثًا: إن المنافقين لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ويؤخرون الصلاة، ويصلون في بيوتهم، وهذا تشبُّه بهم.

رابعًا: إن هذا وأمثاله كيف يكونون في ذمة الله تعالى وهم لم يطيعوا الله عز وجل في تأدية الصلاة في وقتها.

خامسًا: إن هذا الفعل فيه رضا للشيطان، فهو يريد ذلك الفعل؛ ليفسد على المسلم دينه.

سادسًا: إن هذا وأمثاله لو تاب توبة صادقة، فإن له أربعًا من البشارة، الأولى تمحى عنه سيئاته التي كُتبت عليه، والثانية أنها تقلب إلى حسنات، والثالثة أن الله عز وجل يفرح بتوبته فرحًا شديدًا، والرابعة أن الملائكة تستغفر له وتدعو له، فحَيهلًا أيها المستمعون والمستمعات الكرام على التوبة وتحصيل تلك البشريات، فهي خير عظيم في الدارين.

إن دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهج يسير عليه المسلم؛ تزكيةً لنفسه وسلامة لقلبه، وشرحًا لصدره، وتصحيحًا لمفاهيمه، فماذا لو قرأت في كل يوم ولو عشر دقائق أو صفحة من كتاب، فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا من السيرة النبوية في وقت يسير، فابدأ أخي المستمع الكريم، واستمر فأنت تقرأ سيرة أعظم رجل في التاريخ، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وما تقرأه أيضًا اذكره في مجالسك لتفيد وتستفيد، وهذا من طلب العلم ونشره، فسيُيسر الله عز وجل لك طريقًا إلى الجنة؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)، فما أحوجك أخي المستمع الكريم أن تجعل لك في دنياك هذه طرقًا توصلك إلى الجنة، ومن هذه الطرق أن تبدأ بقراءة سيرة النبي صلى الله وسلم، مستخرجًا منها الدروس والعبر، ولتكون منهجًا لك ولأولادك ولأقربائك ولجلسائك، وكل مَن عَلِمَ علمًا من تلك السيرة عن طريقك، فإن لك مثل أجره.

أسال الله تبارك وتعالى أن يَجعلنا من عباده المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

اللهم ارزُقنا قلوبًا صادقة، وعقولًا زاكية راشدة، ووفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ابوالوليد المسلم 03-11-2022 07:25 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (26)
الشيخ خالد بن علي الجريش






الحلقة السادسة والعشرون من برنامج خاتم المرسلين

غزوة بني قريظة


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فمرحبًا بكم مستمعي الأكارم في برنامجكم خاتم النبيين، وقد سبق معنا أيها المستمعون الأفاضل أن استكمَلنا في حلقة ماضية غزوة الأحزاب، وكيف تعامل الصحابة رضي الله عنهم مع ضيق الحال والشدة والخوف? تعاملوا بالتفاؤل وحسن الظن بالله تبارك وتعالى، وكيف أيضًا حاول المشركون القتال، فخيَّبهم الله، وذكرنا أيضًا المبارزة ونتيجتها، وذكرنا أيضًا العوامل التي سخَّرها الله تعالى لعباده المؤمنين، فكانت سببًا لنصرهم بتوفيق الله عز وجل، وذكرنا أيضًا انصراف المؤمنين منتصرين، وانصراف المشركين خاسئين مهزومين، وختمنا ذلك بالدروس والعبر، ونزدلف في حلقتنا هذه إلى الحديث عن غزوة بني قريظة، يقول ابن القيم رحمه الله: وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن كثير رحمه الله: أحلَّ الله على بني قريظة البأس الشديد في الدنيا، مع ما أعدَّه لهم في الآخرة من العذاب الأليم، وذلك لكفرهم ونقْضهم للعهود ومشاركتهم الأحزاب، فباؤوا بغضب الله، وأخرج البخاري أنه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام، فقال: وضعت السلاح والله ما وضعناه، فاخرُج إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين? قال: ها هنا وأشار إلى بني قريظة، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ رواه البخاري، وقد جاء جبريل على هيئة دحية الكلب رضي الله عنه، وقد كان دحية حسن الصورة، وكان جبريل كثيرًا ما يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة دحية، ثم بعد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس ألا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد أخرج البخاري عن أنس أنه قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في طرق الخزرج وهو موكب جبريل، حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى بني قريظة، حاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، فلما اشتد عليهم الحصار، أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تعاملنا معاملة بني النضير، بحيث يرحلون ولهم ما حملت الإبل من المتاع إلا السلاح، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا أن ينزلوا على حكمه، ثم أرسلوا إليه مرة أخرى، فقالوا: لنرحل ولا حاجة لنا في الأموال كلها، فأبى عليهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه، فلما رأوا ذلك طلبوا أن يستشيروا حلفاءهم من الأوس: ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة رضي الله عنه، وكان حليفًا لهم، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه أجهشوا بالبكاء، وقاموا إليه وسألوه ماذا سيفعل بهم محمد إذا نزلوا على حكمه? فأشار بيده إلى حلقه يعني الذبح وكان أبو لبابة بإشارته تلك، رأى أنه افشى سرًّا وخان الله ورسوله، فقال رضي الله عنه: والله لا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوب مما فعلت، ويتوب الله تعالى عليَّ، فذهب إلى المسجد وربط نفسه، وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت، فنزل قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون ﴾ [الأنفال: 27].

فلما استبطأه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعَلِم خبره قال: أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، وقام أبو لبابة مربوطًا في المسجد ست ليال، فلا يحل رباطه إلا امرأته لوقت الصلاة فقط، حتى نزلت توبته رضي الله عنه في قول الله تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102]، ولما اشتد عليهم الحصار، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قذف الله في قلوب بني قريظة الرعب والخوف، وانهارت معنوياتهم، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكُتفوا وكانوا أربعمائة، وقيل سبعمائة، وتَم عزل الرجال عن النساء والذراري، فجاء الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا يا رسول الله، إن بني قريظة حلفاؤنا وموالينا، وقد التمسوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عليهم العقوبة والحكم، فقال عليه الصلاة والسلام ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجلٌ منكم، قالوا: بلى يا رسول الله، فقال فذاك إلى سعد بن معاذ، وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه في المسجد في خيمة له وهو مريض يعوده من يعوده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأُتي به محمولًا على حمار ليحكم فيهم، فلما كان في طريقه إليهم، استقبلوه وكلموه في الرفق، وقالوا هم مواليك وحلفاؤك، وأكثروا عليه من طلب الرفق بهم، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فلما وصل قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: قوموا إلى سيدكم أو خيركم فأنزلوه، فقاموا إليه فأنزلوه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء نزلوا على حكمك، فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتُسبى ذراريهم، وتُقسم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه بالأسرى فجُمعوا، ثم أمر بحفر الخنادق لهم، فجيء بهم إرسالًا ومجموعات، ثم تضرب أعناقهم في تلك الخنادق، ويلقون فيها، وكانوا أربعمائة وقيل سبعمائة، وكان من جملتهم حيي بن أخطب؛ لأنه دخل مع بني قريظة في حصنهم، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، وقد تم توزيع غنائم بني قريظة، فجمعوا من حصونهم ألفًا وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألف رمح وجمالًا وماشية كثيرة، وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، وأقر بني قريظة ومنَّ عليهم، حتى حاربت قريظة بعد ذلك ونقضوا العهد، فقتل رجالهم وقسَّم نساءهم وأولادهم، وقد قال الله في بني قريظة: ﴿ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ ﴾ [الأحزاب: 26]؛ أي حصونهم: ﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 26، 27]، ولم يستشهد من المسلمين في مقابلة بني قريظة إلا ثلاثة فقط، وفي نهاية الحدث مع بني قريظة ذلت اليهود وذل المنافقون، ودخلهم الرعب والخوف، ولم يكن لهم بعد ذلك شوكة، ولم يفكروا في غزو المسلمين، ولما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه على بني قريظة، وشفى الله تعالى صدره منهم، انفجر جرحه، فمات رضي الله عنه وقد سأل الله تعالى ألا يُميته حتى يشفي صدره من بني قريظة في حكمه عليهم؛ لأنهم نقضوا العهود والمواثيق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اهتز العرش لوفاة سعد رضي الله عنه، وهبطت الملائكة لتشييعه، وأخرج النسائي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن سعد: لقد ضُمَّ ضمة ثم فرِّج عنه، وقد حملوا سعدًا لدفنه وكان جسمه طويلًا وضخمًا، ووجدوا له خفة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تحمله معهم، وكان عمره رضي الله عنه سبعًا وثلاثين سنة، وفي ذلك العام الخامس من الهجرة، قدم وفد من أشجع وكانوا مائة رجل، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس والطاعة، ولا يسألون الناس شيئًا، قال عوف: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوت أحدهم فلا يسأل أحدًا يناوله إياه، وبعد أن قويت شوكة المسلمين بدؤوا يغزون غيرهم من المشركين، ففتحوا الفتوح وكثر إرسال السرايا والبعوث لدعوة غير المسلمين أو قتالهم، وهذا مصداق ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أنهم بعد الخندق يغزون الكفار فبدؤوا بفتح مكة والطائف وحنين، وغيرها من الفتوحات.

ونختم أيها المستمعون والمستمعات الكرام حلقتنا تلك في بعض الدروس والعبر مما سبق عرضه، ومن هذه الدروس ما يلي:
الدرس الأول: يظهر في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة العزة والقوة والشجاعة والبسالة، فقد طلب بنو قريظة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاملوه معاملة بني النظير، ولكنه أبى عليهم لأن بني قريظة قد عاهدوا وغدروا بعد عهدهم وقاتلوا مع الأحزاب، فأظهر النبي صلى الله عليه وسلم عزة الإسلام وقوته، فلم يُطعهم فيما طلبوا، مع أنهم استكانوا وخضعوا وذلوا في طلبهم هذا، ولكن العزة لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين، فحكم عليهم بما أصدره سعد بن معاذ من قتلهم وسبيهم، وأقرَّه على ذلك وأوضح أن هذا هو حكم الله تعالى فيهم، وبذلك استردت الأمة قوتها وشجاعتها بين الأمم، وخافها القاصي والداني، وبدأ المسلمون بعد ذلك يغزون الكفار في بلادهم كفتح مكة وحنين والطائف؛ حيث بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنكم تغزونهم ولا يغزونكم.

الدرس الثاني: أن المسلم إذا فعل ذنبًا أو معصية، فإنه يشعر بألم تلك الخطيئة، ولا تكن عادة أو أمرًا يسيرًا، وذلك أنه معصية لله تبارك وتعالى، وهو العظيم القوي العزيز، فهذا أبو لبابة رضي الله عنه عندما ذهب إلى بني قريظة يستشيرونه في نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم أبو لبابة: نعم انزلوا على حكمه، وهذا لا جناح عليه، لكنه زاد على ذلك أنه وضَّح لهم العقوبة وهي القتل، عندما أشار إلى حلقه أنه الذبح، فاعتبر نفسه بتلك الإشارة إلى حلقه وأنه الذبح أنه قد خان الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فماذا فعل أبو لبابة رضي الله عنه بعد ذلك? ذهب وربط نفسه في المسجد حتى يتوب الله تعالى عليه، وذلك إظهار للندم على تلك المعصية حتى تاب الله تعالى عليه، فنحن يا كرام عندما نخطئ في جنب الله تعالى بتسويل من الشيطان، فنرتكب معصية من المعاصي، فيتعيَّن علينا أن يكون لهذه المعصية وقعٌ شديد في أنفسنا وهمٌّ في الخلاص منها؛ لأنها إذا تكررت المعصية على النفس، ولم يكن لها وقعٌ شديد، فإن دخول الشيطان إلى قلب الإنسان يكون سهلًا، فيكثر دخوله عليه، فيخشى عليه من الران وهو متابعة الذنب على الذنب، وقد يختم له بشيءٍ من هذه المعاصي، فإذا سول لك الشيطان المعصية، ففعلتها فاندم وتبْ واستغفر، وعوِّضها من صالح العمل لعل الحسنة تكفر السيئة وتَمحوها، فأبو لبابة رضي الله عنه يعرف أن باب التوبة مفتوح، ولكنه يريد تأديب نفسه؛ حتى لا تتكرر تلك المعصية أو غيرها، أو حتى يطهِّر نفسه أيضًا من أضرارها، وهذا يدل على قوة الإيمان ويقظة الضمير، والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].

الدرس الثالث: في قصة أبي لبابة أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستغفار، ومعنى الاستغفار هو طلب المغفرة والعفو والمحو للذنب عنه، فهو ذكر من أهم الأذكار وأخفها على اللسان، فما أجمل كلمة أستغفر الله، فهي اعتراف بالذنب وطلب لمغفرة هذا الخطأ، فإذا استشعر المستغفر ذلك، واستشعر أن الله تعالى غفور غفار، وأحسن الظن بربه، فليُبشر بالخير العظيم، فقد وعد الله تعالى عباده بالإجابة، وليكن لنا أيها المستمعون الكرام منهجية واضحة مع الاستغفار، سواء عند الذنب، أو عند الانتهاء من الطاعة، أو في المجالس، أو على عموم الأحوال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر أكثر من سبعين مرة، وربما كان ذلك في المجلس الواحد، فاجعل الاستغفار سجية لك، فاستغفر في مجلسك، وبعد صلاتك وفي سجودك، وعند خطئك وعلى عموم أحوالك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: طُوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا، واحرص على الأعمال التي من خلالها تُغفر الذنوب، وذلك مثل قولك: سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، فقد ورد في البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، ففي خلال دقيقتين تغفر ذنوبك بهذا، فما أعظم عفو الله تعالى وسعة فضله على عباده.

الدرس الرابع: فضيلة سعد بن معاذ رضي الله عنه، فإنه قد دعا الله تعالى ألا يُميته حتى يحكم في بني قريظة، وقد استجاب الله دعاءه، فحكم عليهم بحكم الله تعالى، ومن فضائله أنه اهتز لموته عرش الرحمن، ومن فضائله أن الملائكة هبطت من السماء لتشييع جنازة سعد، ولذلك وجدوا لحمله خفة مع أنه رجل طويل ضخم، وهذه الفضائل وغيرها كثير مع أنه لم يعمر كثيرًا، فهو رضي الله عنه لم يتجاوز السابعة والثلاثين، وهكذا هم القدوات من الصحابة والأئمة والصالحين، تَكثُر أعمالهم تزكيةً لنفوسهم، وليكونوا قدوة لمن خلفهم، فلنستمسك بما استمسكوا به من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم علمًا وعملًا، ولنربي أولادنا على ذلك المسلك القويم، لنحيا حياة السعداء، فما أجمل أن يكون في داخل الأسرة كلام عن سيرة الصالحين في السابق واللاحق؛ ليكونوا محل القدوة والأسوة، فإن ذلك سيكون سببًا في تصحيح المفاهيم وتحسين الأخلاق وكثرة الأعمال الصالحة.

الدرس الخامس: إن سعد بن معاذ على فضائله الجمة والجليلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه ضمه القبر ضمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للقبر ضغطة ولو كان أحد ناجيًا منها لنجا منها سعد بن معاذ)؛ صححه الألباني ووافقه الذهبي وغيره، وهي ضمة تكون على المؤمن الصالح يسيرة، ثم يفرج عنه، وتشتد على الفاسق وتطول عليه، وهي من المكفرات للذنوب، فهم يتفاوتون في ذلك حسب أعمالهم الحسنة والسيئة، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام، فلنُكثر من الصالحات ولنجتنب السيئات، فمن فعل ذلك، فهو على خير في دينه ودنياه وفي قبره وأخراه بإذن الله تعالى، وليعلم العبد أن أمامه أهوالًا وعليه استحضارها عندما يفعل الطاعة ليزيد منها، وعندما يهمُّ بفعل المعصية لينزع منها، فما أحرانا بذلك معاشر المستمعين كرام.

الدرس السادس: عندما وفد قوم من أشجع بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أمور أربعة هي من عظائم الأمور، وهي أولًا: العبادة الخالصة من الشرك والرياء والنفاق، فلا ينفعك عند ربك إلا ما أخلصت فيه لله تعالى، وأما غير ذلك فهو وبال على صاحبه، ومردود عليه فلا يتعب نفسه فيه.

الأمر الثاني الذي بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلوات الخمس، وإتقانها كما أمر الله تعالى بأوقاتها وأذكارها، فلا تأخير ولا نسيان، ولا جمعَ لها بغير عذرٍ، فهي - أي الصلاة - ستخاطب صاحبها يوم القيامة، فتقول له إن كان محافظًا عليها: حفِظك الله كما حفظتني وإن كان مضيعًا لها فهي ستقول له: ضيَّعك الله كما ضيعتني، فلنحضر أيها المستمعون والمستمعات قلوبنا في صلواتنا، ولنحافظ عليها في أوقاتها، ولنؤدِّيها كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باطمئنان وتأنٍّ وتُؤدة، ولا نستعجل في أدائها، ولا ننقص من أذكارها وأقوالها حتى تقول لنا يوم القيامة حفِظكم الله كما حفظتموني.

الأمر الثالث: الطاعة لله ورسوله بالفعل في الأوامر والترك في النواهي، فهذه هي العبادة الحقة، فلو حرصنا أيها المستمعون الكرام مع أولادنا على أن ننظر في أوامر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم نَمتثلها، وننظر إلى النواهي ثم نتركها، لكنا على خيرٍ عظيم، وإن قصَّرنا في الأوامر استغفرنا، وإن قصرنا في ترك النواهي استغفرنا، فصار هذا المنهج سجيةً لنا ومع أولادنا، وبهذا نلحق لركب المفلحين والصالحين والمصلحين.

الأمر الرابع: عدم سؤال الناس، وهذه هي التي تجعل الناس معك ويحبونك ويجالسونك، فإن سؤال الناس هو إظهار لِمِنَّتهم عليك، وكسل تجلبه إلى نفسك، وزهد من الناس فيك، إذا استغنيت عن الناس واستعنت بالله تعالى، وقضيت حوائجك بنفسك، فإنك ستغتني عن الناس بفضل الله تعالى وعونه لك، وهذا لا يمنع أن يشفع الناس بعضهم لبعض، أو يعينوا بعضهم بعضًا، فإن هذا باب من الخير عظيم وهو من الإحسان الذي يؤجر عليه الإنسان، ولكن الذي تستطيع فعله افعَله، ولا تحتج إلى الناس، وأما سوى ذلك فلا مانع من الاستعانة بالناس بعد الله تعالى فيما يقدِر عليه الناس، ولكن لا يكن ذلك عادة دائمة فيَملَّ الناس منك، ولهذا بعض الناس كثيرًا ما يجعل الناس يخدمونه حتى في أمور هو يستطيع فعلها، وهذا لا شك أنه من الكسل، ومن ثم ربما ملَّ الناس من هذا الذي يحتاج إليهم، أما حاجة الإنسان لأخيه فيما لا يستطيعه هذا المحتاج، وهو في مقدور ذلك المستعان به بعد الله تعالى، فهذا لا مانع، وهو من الإحسان الذي أمر الله تعالى به، ويؤجَر عليه الناسُ، وفي الأثر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ازهد فيما عند الناس يُحبك الناس).

أسأل الله تبارك وتعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحُسن عبادته، كما أسأله تبارك وتعالى أن يوصلنا دار السلام بسلام، وأن يرزقنا قلوبًا سليمة وعقولًا زاكية راشدة وألسنةً صادقةً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:04 AM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (27)
الشيخ خالد بن علي الجريش



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكِرام في برنامجكم خاتم النبيِّين، ففيما سبق أيها الأكارم ذكرنا غزوة بني قريظة، وكيف شاركت الملائكة الكرام في بثِّ الرعب في قلوب اليهود؟ وكيف تعامل معهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ وبماذا أيضًا حكم فيهم؟ وما آثار ذلك الحكم العادل، وذكرنا أيضًا فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه.

وأيضًا ذكرنا قدوم وَفْد من أشجع على النبي عليه الصلاة والسلام، وإسلامهم، ووصايا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لهم، وذكرنا أيضًا غير ذلك مع ما هو مستفاد من الدروس والعِبَر، وفي حلقتنا هذا الأسبوع نتعرَّض لعددٍ من السرايا والبعوث التي حدثت بعد غزوة الخندق؛ حيث كانت تلك السرايا في العام السادس من الهجرة، فقد قويَتْ شوكةُ المسلمين، وعزَّ شأنُهم، وخافهم القاصي والداني، فحيث فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وبني قريظة، انكسرت شوكة اليهود وقريش، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الحملات الدعويَّة للقبائل، وأيضًا هي كذلك تأديبية لبعض القبائل التي كانت قد عزمت على غزو المدينة والإغارة عليها، فمن ذلك سرية محمد بن مسلمة في ثلاثين رجلًا بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى القرطاء، وهم بطن من بني بكر، فخرجوا إليهم وقد آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلمَّا وصلوا إليهم أغاروا عليهم خفيةً، فما كان من هذا البطن إلا أن هربوا وقُتِل منهم عددٌ من الرجال، وأخَذَ الصحابةُ الإبلَ والغنم والشياه غنيمةً، وكان عددُها مائة وخمسين بعيرًا وثلاثة آلاف شاة، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المقاتلين، فإن الله عز وجل سدَّدهم وسلمهم في غزوتهم من أن يُقتَل منهم أحد أو يُؤسَر.

ومن ذلك أيضًا تلك السرية العجيبة وهي قد حدثت في جُمادى الأولى من السنة السادسة؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد زوَّج ابنته زينب زوجها أبا العاص بن الربيع، وذلك في مكة قبل البعثة، وكان أبو العاص آنذاك مشركًا؛ حيث كان في مبدأ الأمر جواز نكاح المشركة للمسلم؛ كما ذكر ذلك ابن كثير، فهاجرت زينب إلى المدينة وتركت زوجها المشرك؛ وهو أبو العاص بن الربيع، فلما كان في السنة السادسة بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريَّةً تعدادها مائة وسبعون رجلًا، وهدفها اعتراض عِيْر لقريش يقودُها أبو العاص بن الربيع، وكان حينها على شركه، فأدركوها وأخذوها وما فيها من أموال، وكانت تلك الأموال لأُناسٍ من قريش، وهرب بعضُهم وأسروا آخرين، ومنهم قائد العير أبو العاص بن الربيع، وكان أبو العاص من التجار المعدودين، ومن المعروفين بالأمانة، فلما أتوا بأبي العاص إلى المدينة مأسورًا وقد سلب ما معه من المال، ومكث في المدينة ذهب إلى زوجته السابقة؛ وهي زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب منها الإجارة، فاستجار بها، وطلب أن تجيره فأجارته، وسألها أن تطلب من أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الصبح صرخت زينب رضي الله عنها قائلةً: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فلما سَلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح، قال: ((أيُّها الناس، هل سمعتم ما سمعتُ؟))، قالوا: نعم، قال: ((أما والذي نفسي بيده، ما علمتُ بشيءٍ من ذلك حتى سمعتُ ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم))، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته زينب رضي الله عنها، فقالت له: "إن أبا العاص ابن عم وأبو ولد- تعني: ابن عمها وأبًا لأولادها- فإني أجرته" وطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرُدَّ إليه أمواله التي سُلِبَتْ منه، فقَبِل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استشار السريَّة في ردِّ المال عليه، فقَبِلوا ذلك، فرَدُّوا عليه كل ما أخذوا منه، ثم رجع أبو العاص إلى مكة، وأدَّى إلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحدٍ منكم عندي شيء؟ قالوا: لا، فقد وجدناك وفيًّا كريمًا، ثم قال بعد ذلك: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرًا في المحرم من سنة سبع من الهجرة، ثم رد إليه النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صَداقًا، فقد ورد ذلك عند الإمام أحمد بسند حسن.

وقد كانت زينب رضي الله عنها أسلمت قبله بستِّ سنوات، فإذا أسلم الكافر رجع إلى زوجته بلا عقدٍ ولا صَداق ما دام النكاح صحيحًا بحيث لم يكن بينهما محرمية؛ كالأخت، أو الخالة، أو العَمَّة، ونحو ذلك، وقد أسلم الجَمُّ الغفير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم بتجديد عقودهم، وقد ذكر ابن عبد البرِّ رحمه الله الإجماعَ على ذلك، وقال ابن القيِّم: ولا نعلم أحدًا جدَّد للإسلام نكاحه البتة، وقد ولدت زينب رضي الله عنها من أبي العاص عليًّا وأمامة فقط.

ومن السرايا التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم سرية عبدالله بن عتيك رضي الله عنه لقتل سلام بن أبي الحقيق؛ وهو أبو رافع، وقد رواها البخاري في صحيحه، وذلك في شهر رمضان من السنة السادسة من الهجرة، وكان سلام ممَّن أعان الأحزاب على المسلمين في الخندق بالمال والعتاد، وكان يُؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغوا من الأحزاب استأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق؛ لشدة إيذائه للإسلام وأهله؛ لا سيما وأن الأوس قد قتلوا سيدًا من سادات اليهود؛ وهو كعب بن الأشرف، فأرادت الخزرج أن يفعلوا مثلهم في قتل أحد ساداتهم؛ وهو سلام بن أبي الحقيق أبو رافع، فأذِنَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج ستة رجال من الخزرج لتنفيذ تلك المهمة، وكان أميرهم عبدالله بن عتيك رضي الله عنه، فخرجوا إلى خيبر حيث حصن أبي رافع سلام بن أبي الحقيق، فلما قربوا من الحصن وقد غربت الشمس، قال عبدالله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم؛ فإني منطلق إلى بوَّاب الحصن، ومتلطِّف له، لعلي أدخل، فجلسوا وذهب هو إلى الحصن، فلما أقبل على الحصن ودنا منه جلس متنكِّرًا كأنه يقضي حاجته، وقد أظلمت الدنيا قليلًا، وقد دخل الناس إلى الحصن ولم يعلم به البوَّاب، فظنَّه رجلًا منهم، فقال: هيَّا ادخل؛ فإني سأغلق الباب، يقول عبدالله: فتنكَّرتُ ودخلتُ الحصن، ثم اختفيت في مكان الدوابِّ، فلما تكامل الناس داخلين أغلق الباب ووضع مغاليق الأبواب على الحائط، قال عبدالله: فلما نام القوم بعدما سمروا، أخذت المغاليق وهي المفاتيح، وكلما دخلت من باب من أبواب الحصن أغلقتُه؛ حتى لا يتبعني أحد، فمشيت على تلك الحال في الحصن حتى وصلت إلى مكان نوم أبي رافع سلام بن أبي الحقيق، فإذا هو في غرفة مظلمة قد أُطفئ سراجُها، وفيها هو وزوجته، وحيث كان المكان مظلمًا؛ فإني لا أعلم أين مكانه من مكان امرأته، فقلت مُغيِّرًا صوتي: يا أبا رافع، فقال: من هذا؟ فأهويت بسيفي نحو الصوت، فضربتُه ضربةً؛ ولكنها لم تقتله، فصاح صيحةً شديدةً، ثم خرجت قليلًا، ورجعتُ مُغيِّرًا صوتي وكأني من الجند، فقلتُ: ما بك يا أبا رافع؟ فذكر لي أن رجلًا ضربه بسيف، وحينها فلما علمتُ مكانَه من خلال صوته ضربتُه ضربةً أثخنته وقتلته، ثم خرجت مسرعًا مع درج له، فوقعت قدمي فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة معي، ثم خرجتُ فانتظرتُ حتى أسمع الناعي ينعى قتله وموته، فلما علمتُ ذلك انطلقتُ إلى أصحابي، فقلت لهم: أسرعوا في السير؛ فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثْتُه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ابسط رِجْلَكَ))، فبسطت رجلي، فمسحها، فكأنها لم تُصَبْ قبل ذلك؛ أخرج القصة البخاري في صحيحه.

أيها الأكارم لعلنا نستنبط مما سبق شيئًا من الدروس والعِبَر، فمن ذلك:
الدرس الأول: كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتمًّا بدعوة الخَلْق إلى دين الله تبارك وتعالى، فكان يبعث السرايا لأجل ذلك، ولنا به أسوة وقدوة في دعوة الآخرين إلى الله تعالى أمرًا ونهيًا وبيانًا لمحاسن هذا الدين، واعلم أخي الكريم أن كل مَن دعوته إلى خير فلك مثل أجره؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ دَلَّ على خيرٍ فله مِثْلُ أجْرِهِ))؛ رواه مسلم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه دعا الكثيرين إلى الإسلام ومنهم عددٌ من العشرة المبشَّرين بالجنة، فله مثل ما يعملون.

فاجعل لك منهجًا في دعوة الآخرين إلى دين الله عز وجل بقولك وفعلك، ولا تحقرنَّ شيئًا؛ فالداعي والمدعو كل منهم محتاجٌ إلى الآخر، وممَّا يجب أن يتحلَّى به الداعية العلم والحلم والصبر والرفق، فما رأيت من خلل عند أخيك فأتِهِ بالتي هي أحسن، مُوضِّحًا هذا الخَلَل، وذلك في الزمان والمكان المناسبين، فإن استجاب المدعوُّ للداعي فخيرٌ لهما جميعًا، وإن لم يستجِبْ فما على الداعي إلا البلاغ.

وابدأ بدعوتك أسرتك الكريمة مُصحِّحًا مفاهيمهم ناشرًا للخير بينهم، وذلك عبر الوسائل المتاحة؛ وذلك مثل الدرس البيتي مع العائلة، فكم له من الأرباح العظيمة التي يجنيها الأولاد! حيث غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحفَّتْهم الملائكة، وزاد علمهم، وزال جهلهم.

وأيضًا كذلك من الوسائل المتاحة وسائل التواصُل الاجتماعي، فالمدعو يتناولها متى شاء وكيف شاء، وهي تدخل إلى البيوت، وتصِل إلى الأشخاص بلا إذنٍ منهم، فما أيسرَها! وأعظمَ أثرَها! وكذلك من الوسائل المتاحة الأحاديث الثنائية بين الداعية والمدعو، فما أجملَ أثرَها إذا اصطحبها الكلام الطيب والابتسامة والتحية.

وكذلك من الوسائل المتاحة إمامة المسجد؛ فللإمام دورٌ كبيرٌ في توعية المأمومين، فكم من الأجور والحسنات يجنيها! من حيث لا يشعر.

ومن الوسائل المتاحة التي لا تُكلِّف شيئًا الدعاء للمسلمين بصلاحهم وإصلاحهم، إلى غير ذلك من الوسائل الدعوية المتاحة، فلنستثمر ذلك في خلال حياتنا اليومية؛ لنكون مجتمعًا واعيًا وداعيًا.

الدرس الثاني: في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي العاص بن الربيع عندما أجارته زينب مثالٌ كبيرٌ لحسن التعامل مع الآخر؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم عرَف قدْرَه، وقَبِل شفاعة ابنته فيه، وردَّ إليه ما أُخِذ منه؛ ولذلك كان له الأثر الكبير على نفس أبي العاص.

الدرس الثالث: أن زينب رضي الله عنها لم تَنْسَ الفضل بينها وبين أبي العاص؛ حيث كان أبو العاص هو زوجها قبل أن تسلم، فعندما أسلمت وهاجرت فارقته، فعندما جاء إليها وطلب منها الإجارة أجارَتْه، وهذا درس عظيم لنا جميعًا؛ ألَّا ننسى فضل الآخرين علينا حتى ولو أخطأوا، والله عز وجل يقول: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237] فنسيان الفضل نوع من الجهل، فإذا أخطأ أحد في حقِّك يومًا ما فلا تنْسَ فضائله الأخرى السابقة، فتعامله من خلال ذلك الخطأ فقط؛ وإنما له عليك فضائل كثيرة، وأعمال جليلة جميلة في السابق، فخذها بعين الاعتبار، ولعلها أن تغطي ذلك الخطأ، أما أن بعض الناس قد يعامل هذا المخطئ من خلال هذا الخطأ الأخير وينسى الفضائل السابقة؛ فهذا نوع من الجهل.

الدرس الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبِلَ إجارة زينب وهي ابنته، فلم ينهرها، ولم يعاتِبْها، وهذا من محاسن الإسلام، فالتعامل الحسن بين الناس هو عنوان النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل.

الدرس الخامس: أنَّ أبا العاص لما رأى تلك المعاملة الحسنة من النبي صلى الله عليه وسلم وابنته زينب رضي الله عنها التي هي زوجته قبل إسلامها؛ دعاه ذلك إلى الإسلام، فأسلم رضي الله عنه، وهاجر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، ورد النبي عليه الصلاة والسلام زوجتَه عليه، وما أكثر المواقف في السابق واللاحق التي يسلم من خلالها كُفَّار عندما رأوا تلك التصرُّفات الجميلة والجليلة! ولعَلَّ موقف أبي العاص نموذج لها.

ومن نماذج ذلك في الوقت الحاضر هذا الموقف التالي؛ وهو أن شخصًا كان يتاجر في الخضار، وكان في طريقه وهو على سيارته أحدُ المارَّة، فطلب هذا الشخص مِن صاحب السيارة أن يُوصِلَه إلى مكانه الذي يريد، فركب معه، وبدأ يتجاذب معه أطراف الحديث، وأشعره صاحب السيارة أنه مستعجل جدًّا، وأن الوقت عنده ضيق؛ ولكنه ذكر له أنه سيُوصِله إلى مكانه احتسابًا للأجر عند الله تبارك وتعالى، فلما وصل إلى مكانه، سأله هذا الرجل- سأل صاحب السيارة-: كم أُجْرتُك على عملك هذا؟ فقال صاحب السيارة: أنا فعلت ذلك؛ لأنَّ ديننا يأمرنا بالإحسان إلى الآخرين، فأعجب هذا الرجل بهذا التعامل، ثم أبدى استعداده لمعرفة الإسلام، وكيف الطريق إليه؟ فذهب به صاحب السيارة إلى إحدى جمعيات الدعوة وتوعية الجاليات في مملكتنا الحبيبة علمًا أن الطريق مزدحم، والوقت ضيق، ومع ذلك أحسن إليه كل هذا الإحسان، فدخل هذا الشخص على تلك الجمعية، فأخذوا معه بالحديث عن الإسلام وقتًا يسيرًا، وأخذ بعض الكتيبات وانصرف إلى بيته، فلما كان من الغد رجع ذلك الرجل إلى تلك الجمعية ليُشهِر إسلامَه لديهم، وكان يحضر دروس الجمعية، ويقوم بزيارتهم بين الفينة والأخرى، ونقل هو أيضًا بدوره فكرةَ الإسلام إلى أصحابه؛ حتى أسلم مِن بعده سبعةٌ من أصحابه، واستمرَّ على نقله الإسلام للآخرين مع ارتباطه بالجمعية عن طريق وسائل التواصل، وانتقل ذلك الرجل المسلم الجديد إلى بلد آخر، فصار داعيةً فيه، وأسلم على يديه خَلْقٌ كثيرٌ، وكل ذلك وثوابه وأجره في موازين هؤلاء الذين كانوا سببًا في إسلامه، وأولهم ذلك التاجر الذي تعامل معه تلك المعاملة الحسنة، فهذا نموذج مُشرِّف في الوقت الحاضر، وعلينا جميعًا أن نحذو ذلك الحذو في التعامل، فالأفعال لا تقل عن مستوى الأقوال في الدعوة إلى الله عز وجل، وهو ما يعرف بالدعوة بالقدوة، وربما اهتدى أو أسلم أحد بسبب عمل مُشرِّف عملته أنت ورآك ذلك المهتدي من حيث لا تشعر، فَلْنُحاسِبْ أنفسنا في تصرُّفاتنا مع الآخرين، وإذا كان هذا النموذج مع غير المسلمين قد أثر هذا التأثير البالغ، فكيف به مع المسلمين؟! فاستثمروا أفعالَكم وتصرُّفاتكم في دعوة الآخرين إلى ذلك الدين القويم، لتحوزوا مثل أجورهم- يارعاكم الله- ولا يلزم أن يكون هذا مع غير المسلمين؛ بل إن تعديل الأخطاء وتصحيح المفاهيم حتى مع المسلمين هذا هو مطلب كبير، وهو سَهْمٌ كبيرٌ من أسْهُم الدعوة إلى الله عز وجل.

الدرس السادس: أنَّ الكُفَّار إذا أسلموا فلا حاجة لتجديد عقود زواجهم؛ وإنما تبقى على عقدها الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُجدِّد عقد أبي العاص لزينب رضي الله عنها، وكثيرٌ من الذين أسلموا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يرِدْ أنه جَدَّد عقودهم، ويقول ابن قدامة رحمه الله: أنكِحةُ الكُفَّار صحيحةٌ، يُقَرُّون عليها إذا أسلموا، ولا ينظر في صفة عقدهم وكيفيته.

وقال ابن عبدالبَرِّ: أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما أن لهما المقام على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسبٌ يُحرِّم أو رضاع، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنهم إذا أسلموا فلا يستأنفوا في عقودهم وأنكحتهم؛ وإنما تبقى على مقامها الأول.

وهذا مِن يُسْر الإسلام وسماحته؛ حيث إنه دين مُيسَّر، وهذه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي لنا أن نتدارسَها، وأن نتناقش فيها، وأن نعقد لها الجلسات مع أهلنا وزملائنا وخلائنا ورحلاتنا، وأن نقرأ في كتب أهل العلم عن هذه السيرة العطرة، وأن يكون لنا معها منهجٌ؛ حيث إنها تشتمل على الكثير من الأمور التوعويَّة والتربوية والفقهية حتى في الآداب والأخلاق، ونفعل ذلك تصحيحًا للمفاهيم، وأيضًا لو جعلت أخي الكريم منهجًا لك في قراءة تلك السيرة النبوية العطرة، فماذا لو قرأت في كل يوم ولو مدة عشر دقائق أو صفحة من كتاب؛ فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا من هذه السيرة النبوية في وقت يسير، وعلمًا أن هذا العمل الذي تقدمه مهما كان يسيرًا فإنه طلب للعلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَلَكَ طريقًا يلتمِسُ فيه عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنَّةِ))، وماذا لو جمعتَ الأسرة المباركة الكريمة، وجعلت لهم مجلسًا أو مجلسين في الأسبوع؟ تتحدثون فيه أو فيهما عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وتأخذون تلك الأحكام والأخلاق والآداب وما إلى ذلك، وأيضًا تفيدون الآخرين من خلالها، فإن هذا لا شَكَّ أنه عمل تربوي كبير، ينبغي لنا الحرص عليه والتقيُّد به، والحث أيضًا عليه؛ لأنه يُصحِّح أخلاقنا، ويُصحِّح مفاهيمنا، وأيضًا يُصحِّح عباداتنا التي نتقرَّب بها إلى الله تبارك وتعالى، فكم من شخص قد يُصلِّي وفي صلاته خطأ؟ وكم من شخص يتعامل مع أبيه أو أب يتعامل مع أولاده وهذا التعامل خطأ؟ ولو أننا قرأنا وتناقشنا وتحدَّثْنا عن هذه السيرة لتصحَّحَتْ هذه الأعمال، وتناقشنا بما هو فيه خيرنا في الدنيا والآخرة.

اللهُمَّ وفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رِضاك، ووفِّقْنا لما تحبُّه وترضاه، وصلَّى الله وسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:06 AM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (28)
الشيخ خالد بن علي الجريش


الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكِرام في برنامجكم خاتم النبيِّين، أيها الأفاضل فيما سبق ذكرنا شيئًا من السرايا والبعوث التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الجهات والقبائل، فذكرنا أحداثها ودروسَها المستفادة منها، ونستكمل في حلقتنا تلك شيئًا من السرايا والبعوث الأخرى، مستذكرين بعض الدروس والعِبَر، فمن ذلك ما يُسمَّى بسرية الخَبَط، وقد رواها البخاري ومسلم، فقد بعَثَ النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنه ومعه ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار؛ ليرصدوا عِيْرًا لقريشٍ، وقد زوَّدهم النبي صلى الله عليه وسلم جرابًا من تَمْر، لم يجد غيره، حتى إذا كانوا في أثناء الطريق نفد زادُهم، فأمر أبو عبيدة رضي الله عنه أن يأتوا بأزوادهم، فجمعها أبو عبيدة وصار يُعطيهم منه قليلًا قليلًا حتى كاد أن يفنى، فصار يُزوِّدهم تمرةً تمرةً، فلكُلِّ رجلٍ تمرة، فكانوا يمصُّونها كما يمصُّها الصبي، ثم يشربون عليها الماء، قال الراوي: فتكفينا تلك التمرة إلى الليل، وسُئل جابر رضي الله عنه: وما تُغني عنكم التمرة؟ قال: وجدنا فقدها حين فقدناها، فأصابهم الجوع والجهد حتى أكلوا الخَبَط، وهو أن يضرب الشجرة اليابسة فيتساقط ورقها، ثم يرطبه بالماء ويأكله، حتى تقرَّحت أشداقهم رضي الله عنهم وأرضاهم؛ ولهذا سميت تلك السريَّة سريَّة الخَبَط، وعندما وصلوا لساحل البحر أخرج الله تعالى لهم من البحر حوتًا يدعى العَنْبر، وهو كبير، قالوا بأنه كالجبل الصغير، فأقاموا يأكلون منه ثماني عشرة ليلة حتى سمنوا وصحَّت أجسامُهم حتى ذكر جابر رضي الله عنه شيئًا من صفات ذلك الحوت، فقال: كنا نغترف من عينه الدهن بالقلال، وهي الأواني الكبيرة، وقال أيضًا: كنا نقتطع منه اللحم بحجم الثور، وقال أيضًا: لقد جلس في مكان عينه ثلاثة عشر رجلًا، وقال أيضًا: أخذنا ضلعًا من أضلاعه فجئنا بأطول رجل على أكبر بعير فمَرَّ من تحته؛ فهذا يدل على ضخامة هذا الحوت، فسبحان الخالق العظيم! وفي تلك السريَّة لم يجدوا تلك العِيْر لقريش، فانصرفوا إلى المدينة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الحوت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((هو رِزْقٌ أخرجَه اللهُ لكم، فهل معكم مِن لَحْمِه شيءٌ فتُطعمونا؟)) قال جابر: فأعطيناه منه فأكله؛ رواه البخاري ومسلم.

ومن السرايا أيضًا سريَّة كُرْز بن جابر الفِهْري في العُرَنِيِّين، وقد كانت في شوال من السنة السادسة؛ حيث إنه قدم إلى المدينة ثمانية نفر من عُكْل وعُرَيْنة، فأظهروا الإسلام، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وجلسوا في المدينة فأصابهم المرض، وسقمت أجسامُهم وهزلت، فاشتكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تخرجون مع راعينا في إبله؟ فتُصيبون من أبوالها وألبانها؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، فخرجوا إليها، فشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحُّوا وسمنُوا ورجعت إليهم عافيتُهم كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا الراعي، واسمه يسار، ومثَّلُوا به، وسمروا عينيه، وساقوا الإبل معهم، فجاء الراعي الآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صارخًا بأنهم قتلوا صاحبه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم على أثرهم عشرين فارسًا بقيادة كُرْز بن جابر رضي الله عنه، وأرسل معهم بعض القافة؛ وهو الذي يتتبَّع الأثر ويعرفه، ودعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم أعم عليهم الطريق، واجعله عليهم أضيق من مسك جمل))؛ أي: جلد الجمل، فعمى الله عليهم الطريق، فما ارتفع النهار حتى أدركوهم وأسروهم وربطوهم وأردفوهم على الخيل، حتى أتوا بهم المدينة، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُطِعَت أيديهم وأرْجُلُهم، وسمرت أعينهم- أي: كحل أعينهم بمسامير محمَّاة بالنار كما فعلوا بالراعي- وألقاهم بالحرة يستسقون فلا يُسْقَون حتى ماتوا، قال أبو قلابة: هؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا وحاربوا الله ورسوله، وأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء العُرَنِيِّين قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33]، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: بأن هذه الآية عامة فيهم وفي غيرهم من المفسدين والمحاربين لله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهذه الآية هي أصل في حد الحرابة.

ومن السرايا أيضًا التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم سرية عبدالرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، وكانت في شعبان من السنة السادسة، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن بن عوف، فقال له: ((تَجَهَّز فإني باعثك في سرية من يومك هذا أو من الغد إن شاء الله)).

فأصبح عبدالرحمن بن عوف، فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقعده بين يديه وعمَّمَه بيده، ثم عقد له اللواء ثم قال: ((خُذْه بسم الله وبركته))، ثم أمَرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فسار عبدالرحمن بأصحابه، وكانوا سبعمائة رجل، حتى قدم دومة الجندل، فمكث أيامًا يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم رئيسهم الأصبغ بن عمرو، وكان نصرانيًّا، وأسلم بإسلامه خَلْقٌ كثيرٌ، فبعث عبدالرحمن بشيرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُبشِّره بإسلامهم، وتزوَّج أيضًا عبدُالرحمن ابنةَ رئيسِهم، وقدم بها المدينة، فولدت له سلمة بن عبدالرحمن بن عوف.

أيها الأكارم، تلك من أهم السرايا والبعوث التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الأقوام والقبائل من العرب، ولعلنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر من تلك السرايا، فمن ذلك:
الدرس الأول: في سرية أبي عبيدة رضي الله عنه كان عددهم ثلاثمائة رجل ولم يزوِّدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بجرابٍ من تَمْر لم يجد غيره، ولنا في ذلك وقفة ودرس عظيم؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله تعالى، وهؤلاء الأصحاب هم أفضل القرون، ومع ذلك لم يجد إلا ذلك زادًا لهم، وهذا يفيدنا بأن الدنيا وما تحويه من مآكل ومشارب وملبس ومركب ونحو ذلك، ليست هي الأصل؛ بل إنها وسيلة للآخرة، وعمل الآخرة هو الذي يبقى ذخرًا للإنسان وسببًا لدخول الجنان برحمة الله تبارك وتعالى، وأن اللذائذ من النِّعَم أيًّا كانت وإن كانت حلالًا للمؤمنين؛ إلا أن الإكثار منها ليس ممدحة، وأن الإسراف منها فيه مذمَّة، فرسالة لأولئك الذين يُسرِفون في طعامهم وملابسهم ومراكبهم، وكأن ذلك هو الأصل، فيُقال لهم: رويدًا بأنفسكم، فلو كان ذلك فيما هو أنفع لكان أولى وأتم.

ويزيد الإشكال إشكالًا إذا كان هذا الإسراف من ورائه ديون بسبب هذا الإسراف، فهذه المصيبة الأكبر، فكيف يتحمَّل الديون مع عظم شأنها على نوافل يمكن التخلِّي عنها؟! وهي أيضًا رسالة أخرى لمن لا يحترمون النعمة فيفيضون بباقي أطعمتهم في أماكن لا تليق بها، فيضعها بعضهم مع النفايات العامة مع أنها صالحة للاستهلاك الآدمي، ولو أن هذا وأمثاله غلَّفَها ثم دفعها إلى مستحقِّيها وما أكثرهم! لكان خيرًا وبرًّا بدل أن يكون إثمًا وزُورًا، كيف لا وهناك أناس يتضوَّرُون جوعًا فيمرضون ويموتون ولا يجدون ما يطعمون؟! ألا يكون لنا في هؤلاء عبرة وعظة؟! وقد انتشر في مملكتنا الغالية جمعيات تُعنى بفائض الأطعمة، فيمكن التواصُل معهم لأخذه وإعداده، ويُقترَح أيضًا على تلك الجمعيات وضع وسيلة التواصل في قصور الأفراح وعموم الاستراحات؛ ليسهل التواصُل بهم عند الحاجة مشكورين.

الدرس الثاني: رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وأوليائه؛ حيث رزقهم ذلك الحوت الكبير عندما جاعوا واحتاجوا، وفي هذا درس أن الله عز وجل لا يضيع أجْرَ المحسنين؛ بل هو معهم يكلؤهم ويرعاهم ويُسدِّدهم ويطعمهم، ومن يتوكَّل على الله فهو حسبه، ومن أسماء الله تعالى الرزَّاق، فهو يرزق عباده ما يحتاجون إليه في حياتهم، وإذا حصل لك أخي الكريم رِزْق من الله تبارك وتعالى أيًّا كان، فعليك بالإكثار من حمد الله تعالى وشكره، وقد وعدَك الله تعالى بأنك إذا شكرته زادك من عطائه ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، فعوِّد نفسك اللهج بالشكر عند حصول النِّعَم وتجدُّدها وقضاء الحاجات، فالله تعالى علم حال هؤلاء الصحابة، فرحمهم ورزقهم.

الدرس الثالث: في حجم هذا الحوت الذي هو كالجبل مظهر عظيم من مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى؛ حيث إن عظمة هذا المخلوق تدل على عظمة الخالق، وقد سبق وصف الصحابة رضي الله عنهم لبعض مظاهر وصفات هذا الحوت العظيم الكبير، فسبحان الخلَّاق العظيم! وعندما يتأمَّل المسلم تلك المخلوقات يقوى إيمانُه بالله تعالى، وتطمئن نفسه، ويقدر الله تعالى حقَّ قدْرَه، وذلك مِن تقوى القلوب، فما أحوجنا إذا رأينا أو سمعنا أو قرأنا شيئًا من ذلك أن نقف وقفة تأمُّل وتفكُّر ليقوى إيماننا! فهذه الشمس وهذا القمر وتلك السماء والأرض والنجوم وعموم الخلق، هي كلها مجال للتفكُّر والتأمُّل، فاجعل ذلك التفكُّر منهجًا لك؛ فهو من المثبتات على دين الله تبارك وتعالى.

الدرس الرابع: هؤلاء العُرْنِيُّون شكَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجدونه في أنفسهم من المرض، فأرشدهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى ما يكون فيه علاجهم بإذن الله تعالى، وهذا لا بأس به أن يذكر الإنسان حاله لمن قد يستفيد منه في ذلك؛ كالطبيب ونحوه؛ لكن المأخذ عند بعض الناس أنه إذا أصابه عِلَّةٌ أو مرض فقد يشكو ذلك لكلِّ الناس مُخبِرًا لهم بهذا المرض وتلك العلة، ولو أنه اقتصر على من يستفيد منه في ذلك، لكان خيرًا له في دينه ودنياه، فإن الناس فيهم من المشاكل ما يكفيهم، وقد لا يرغبون بذكر المزيد عليها، في حين أن هذا المريض عليه أن يشكو ذلك كثيرًا إلى الله تبارك وتعالى؛ لأنه هو القادر على كل شيء، وهو القريب المجيب، وهو المجازي على تلك الأمراض والعِلَل، وهو الذي قدرها، وهو الذي يزيلها، فاجعل شكواك إلى مولاك ولا تلتفت إلى الخلق إلا بمقدار ما يستطيعون نفعك به، مستعينًا بالله تعالى، معتقدًا أن ما عندهم هو من الله تبارك تعالى، ساقه لك على أيديهم، فهذا أوْلَى وأقْرَب وأصْوَب وأحْكَم بإذن الله تبارك وتعالى.

الدرس الخامس: في فعل العُرْنِيِّين صفة ذميمة يجب على المسلم أن يحذر منها، ويبتعد عنها؛ وهي مقابلة الإحسان بالإساءة، فهم عندما أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه علاجهم وصِحَّتهم، قابلوا هذا الإحسان بالسوء، وهذا من خُبْث الطويَّة وسوء النيَّة، والأصل أن تُحسِن إلى مَنْ أحْسَن إليك، وذلك بدعوة أو غيرها، والبعض من الناس يحسن إلى غيره؛ ولكِنَّ في إحسانه نوعًا من الخلل غير المقصود، فمثل هذا ينبغي أن يُغتفَر خَلَلُه لأجل نيَّته الحسنة، ولا يمنع هذا من إرشاده وتوجيهه ليزول خَلَلُه، واجعل أخي الكريم الإحسان إلى الآخرين سجيَّةً لك تكسب من خلالها محبَّة الله تعالى ورحمته ومعيَّته وعونه وجزاءه لك بالإحسان، فهل جزاءُ الإحسانِ إلَّا الإحسان؟!

الدرس السادس: إثبات العلاج بألبان وأبوال الإبل، وقد أكَّد ذلك عددٌ من الأطِبَّاء في القديم والحديث، وكذلك مراكز الأبحاث؛ ولهذا شواهد كثيرةٌ من الواقع في السابق واللاحق، على اختلاف في آلية التعامل في المسلك العلاجي لهما، إن التحاليل المخبريَّة تدل على أن أبوال الإبل وألبانها تحتوي على تركيز عالٍ من البوتاسيوم والبروتينات والصوديوم وغيرها، ذكر ذلك الدكتور محمد هاج في رسالته العلمية الماجستير، وعلى مَن أراد العلاج بهما استشارة المصادر الطبية ومراكز الأبحاث قبل تناولها ليتعرف على احتياطاتها قبل تناولها، فالأبحاث والنتائج تتجدَّد يومًا بعد يوم، ولا يتناولها اعتمادًا على التجربة، فإن التجارب تختلف من شخص إلى آخر.

الدرس السابع: في تلك الحادثة نزلت آية المائدة؛ وهي نصٌّ في حدِّ الحرابة، فجزاء هؤلاء المفسدين والمحاربين هو ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا... ﴾ الآية [المائدة: 33].

الدرس الثامن: إن عقوبة هؤلاء الجناة كانت مماثلة لما فعلوه بالراعي؛ كما في كتاب الله، وهذا يُعطينا قاعدةً أن الجزاء من جنس العمل؛ سواء في الخير أو في الشر، فكما يكون العمل فسيكون الجزاء مماثلًا له؛ ولهذا قال الله تعالى في الخير ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]، فلنحرص على عمل الصالحات لنجد جزاءها تكريمًا ورحمةً وعطاءً وافرًا، ولنبتعد عن السيئات حتى لا نحظى بجزائها؛ وهو العقوبة في الآخرة، إن لم يعْفُ الله تبارك وتعالى.

الدرس التاسع: حُسْن الاستجابة من الصحابة الكرام، وذلك من خلال استعداد واستجابة عبدالرحمن بن عوف عندما أمره النبي صلى الله عليه وسلم في يومه أن يقود تلك السريَّة، فقد استجاب مباشرةً هو وصحبه الكِرام رضي الله عنهم، وهذا شأن المؤمن مع أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، تراه مستجيبًا، يقول: سمِعْنا وأطَعْنا.

فانظر أخي الكريم في أحوالك وتصرُّفاتك وأقوالك، هل هي فيها استجابة لأمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام؟ أم أنها تنحو ذات اليمين وذات الشمال؟ فالأمر الآن بيدك فاستثمر وقتك وحياتك لتصحيح مسارك قبل فوات الأوان.

الدرس العاشر: أهمية البشارة في حصول الخير، وهذا أبو عبيدة رضي الله عنه أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُخبره ويُبشِّره بإسلام رئيسهم، فالبشارة لها مذاقها الطيب لدى المبشِّر والمبشَّر، وفيها أيضًا أجْرٌ عظيمٌ، فهي إدخال للسرور على المسلم حيث يصحبها الابتسامة والاطمئنان والسكون والبهجة والفرح، كذلك الكلمة الطيبة، وأيضًا على مَن تُلقَى عليه البشارة أن يُكثِر من الحمد والشكر لله تبارك وتعالى، وأن يسجد سجود شكر لله عز وجل، فإن ذلك الفعل والقول هو سبب للزيادة من الخير، وكم تستجد نعمة أو تندفع نقمة عند بعض الناس فينسى سجود الشكر ويلهو بما بشَّره به الآخرون!

أيها الكِرام، السيرة كلها دروس وعِبَر تُصحِّح المفاهيم، وتُقوِّي الإيمان، وتزيد في العلم، فليكن لنا في قراءتها نصيبٌ وافرٌ، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهج يسير عليه المسلم تزكيةً لنفسه وسلامةً لقلبه وشرحًا لصدره وتصحيحًا لمفاهيمه، فماذا أخي الكريم لو قرأتَ في كل يوم ولو عشر دقائق أو صفحةً من كتاب، فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا من السيرة النبوية في وقت يسير، فابدأ واستمر، فأنت تقرأ سيرةَ أعظم رجل في التاريخ وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وما تقرؤه اذكره في مجالسك لتفيد الآخرين وتستفيد أيضًا ثبات هذا العلم في ذهنك، وهذا من طلب العلم ونشره فسييسِّر الله تعالى لك طريقًا إلى الجنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن سَلَكَ طريقًا يلتمِسُ فيه عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لهُ به طريقًا إلى الجَنَّةِ))، فأنت إذا قرأت في هذه السيرة النبوية واستفدت منها الأحكام الفقهية والوقفات التربوية وتصحيح المفاهيم، فإنك بذلك تعرف الحكم والدليل؛ لأن هذا هو فعل النبي عليه الصلاة والسلام وفعل أصحابه ومجالسته عليه الصلاة والسلام لهم رضي الله عنهم، فأنت بهذا تعرف الوقائع الشرعية، فتستطيع أن تعبد الله تبارك وتعالى على ما شرعه لك، فاحرص أخي الكريم أن يكون لك جلسة مع أولادك، حتى يتفقَّه الجميع، وفي هذا خيرٌ عظيمٌ لا يُحصَى كثرةً، فتغشاكم الرحمة، وتنزل عليكم السكينة، ويذكركم الله تعالى فيمن عنده، وهذا لا شَكَّ أنه خيرٌ عظيمٌ، وتكون مجالِسُكم وبيوتُكم ومنازِلُكم هي مأوى هؤلاء الملائكة الكِرام الذين حفُّوكم، وجلسوا حولكم، فكنتم جلساء الملائكة مع ما يحصل من طمأنة النفوس وشَرْح الصدور، فهذا خيرٌ عظيمٌ لا سيَّما وأن فيه زوالًا لكثيرٍ من المشاكل؛ لأن المشاكل التي عند الأولاد أو المشاكل الزوجية سيأتي مثل هذه المجالس وسيكون حلًّا لها بإذن الله تبارك وتعالى.

أسأل الله عز وجل لنا جميعًا الهُدَى والتُّقَى والسَّداد والرشاد، اللهُمَّ أوصِلْنا دار السلام بسلامٍ، ووفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رِضاك، وارحمنا واغفر لنا ووالدينا والمسلمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابوالوليد المسلم 27-11-2022 11:09 AM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (29)
الشيخ خالد بن علي الجريش




الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الأفاضل في برنامجكم خاتم النبيِّين، وقد ذكرنا أيها الكِرام في الحلقة السابقة شيئًا من السرايا والبعوث التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم لأقوام وقبائل من العرب دعوةً لهم وأيضًا غزوًا لهؤلاء ونحو ذلك، وذيَّلْناها أيضًا بالدروس والعِبَر المستفادة منها، وفي حلقتنا هذه نتعرَّض لأحداث صُلْح الحديبية وما فيه من أحداث ووقائع ودروس وأحكام، والحديبية هي اسم لبئر تقع على بُعْدِ اثنين وعشرين كيلومترًا من الشمال الغربي لمكة، وتُعرَف اليوم بالشميسي، ففي شهر ذي القعدة من العام السادس الهجري أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه أنه يريد العمرة، وأنه رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه رضي الله عنهم محلقين رؤوسهم ومقصرين، فما أنْ سَمِع الصحابة رضي الله عنهم بذلك حتى أسرعوا وتهيَّأوا للخروج معه، وفرحوا بذلك أشدَّ الفرح، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر معه العرب من البوادي ممن أسلموا ليخرجوا معه خشيةَ أن تتعرَّض له قريش ويصدُّونه عن البيت الحرام، فنفر بعضهم وتأخَّر كثيرٌ منهم، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [الفتح: 11]، وهم قد تخلَّفُوا عن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العمرة في عام الحديبية، وقد ظنُّوا أنه سيُهزَم، فاعتذروا بالأموال والأولاد عن الصُّحْبة، والقرآن في هذا العرض يعالج أمراض النفوس والقلوب، ويُعالِج الضعف والانحراف، ثم يُوضِّح القِيَم والحقائق الواقعة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة متوجِّهًا إلى مكة في يوم الاثنين من شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة، ومعه من أزواجه أُمُّ سلمة رضي الله عنها، وخرج معه من أصحابه ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ومَنْ لحِقَ به أيضًا من الأعراب، ولم يكن معه سلاح إلَّا سلاح المسافر وهي السيوف، وساق معه الهَدْي وعددُها سبعون بدنةً، ومع هذا الهَدْي جَمَل لأبي جهل جاء به ليغيظ به المشركين، وبعث الهَدْي مع ناجية بن جندب الأسلمي، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة صلَّى الظهر، ثم دعا بالهَدْي فقلَّده وأشعرَه- أي: جعل عليه شعارًا ليكون علامةً على أنه هدي- وأحرم بالعمرة ولبَّى، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه بشر بن سفيان عينًا له إلى قريش ليأتيه بخَبَرهم، وأكمل النبي صلى الله عليه وسلم طريقه ومساره إلى مكة حتى إذا كان قريبًا من عسفان أتاه الذي أرسلَه لينظر في خبر قريشٍ وهو عينه، فقال له: إنَّ قريشًا قد جمعوا لك جموعًا من الأحابيش وغيرهم، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن المسجد الحرام، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في ذلك وقال: ((أشيروا أيها الناس عليَّ))، فقال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت، لا تريد قَتْلَ أحَدٍ ولا حَرْبَ أحدٍ، فتوجَّه له، فمَنْ صدَّنا عنه قاتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((امضوا على اسم الله))؛ أخرجه البخاري، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى عسفان اقترب إليه خالد بن الوليد- وذلك قبل إسلامه- في مائتي فارس، فكانوا بين المسلمين وبين القبلة، وفي تلك الحال نزل الوحي بصلاة الخوف وبصفتها، فصلَّى المسلمون صلاةَ الظهر، فلمَّا قُضِيت الصلاة قال المشركون بعضُهم لبعضٍ: لو أصَبْناهم وهم في حال صلاتهم، لكان إتيانًا لهم على غِرَّة؛ ولكن ستأتي عليهم صلاةٌ أخرى- يعنون صلاة العصر- ولنفعل ذلك، فنزلت صفة صلاة الخوف بين الظهر والعصر، وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ﴾ [النساء: 102]، فحضرت صلاة العصر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا السلاح في صلاتهم، وهذه هي الصفة المشهورة بحيث إن المأمومين في تلك الحال لا يكونون جميعًا في حال السجود، فيسجد الصَّفُّ الأوَّل ويقوم الصَّفُّ الثاني باتجاه العدوِّ، فهذه أوَّلُ صلاةِ خوفٍ صلَّاها المسلمون، كما ذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري، وقد ورد في صلاة الخوف صفات مُتعدِّدة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تفادَى الاشتباك مع قريش، فذهب بأصحابه إلى الحديبية عند بئر هناك فيها شيء من الماء، فنزحوها حتى انتهى ماؤها، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شِدَّةَ العطش فيهم، وفي ركائبهم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم سهمًا من كنانته، فأمرهم أن يجعلوه فيه، فما زال البئر يفور بالماء حتى رَوَوا وسقوا ركائبهم؛ رواه البخاري، وأيضًا معجزة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري في كتاب المغازي، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: "عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة- والركوة هي جلد صغير فيه ماء قليل- فتوضَّأ فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل الناس نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لكم?))، قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضَّأ منه ولا نشرب إلَّا ما في ركوتك هذه، فقال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يَدَه في الركوة، فجعل الماء يفور بين أصابعه كأمثال العيون، قال جابر رضي الله عنه: فشربنا وتوضَّأنا، فقيل لجابر: كم كنتم يومئذٍ? قال: كُنَّا ألفًا وخمسمائة، ولو كُنَّا مئة ألف لكفانا"؛ أخرجه البخاري، وفي الحديبية أصاب المسلمين مطرٌ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلُّوا في رحالهم، وعندما صَلَّى بهم بعد ذلك أقبل عليهم بوجهه، وقال: ((أتدرون ماذا قال ربُّكم?))، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((قال الله: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي، وكافرٌ بي، فأمَّا مَن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأمَّا مَن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافرٌ بي مؤمِنٌ بالكوكب))؛ متفق عليه.

وفي مكث النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية جاء إليه بديل بن ورقاء وكان من خزاعة، وكانت خزاعة مسالمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بديل: إنَّ قريشًا صادُّوك عن البيت ومقاتلوك، فأخبره صلى الله عليه وسلم أنهم لم يجيئوا مقاتلين؛ وإنما جاءوا إلى البيت، فمَنْ قاتلنا قاتلناه، فانطلق بديل إلى قريش وأخبرَهم بما قال، فقالوا: والله، لا يدخلها قهرًا وغلبةً وتتحدَّث العرب بذلك، ثم بعد ذلك أرسلت قريش رُسَلَها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفاوُض، فأوَّل رسول لهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو مكرز بن حفص، فقد بعثَتْه قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا رجل فاجر))، فلما تحدَّث مع النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما رَدَّ بديل بن ورقاء، ثم رجع إلى قريش، ثم بعثت قريش رسولًا آخر، وهو الحلس بن علقمة، فلمَّا رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا من قوم يُعظِّمون البُدْن، فابعثوها له))، فبعثوا الهَدْي، واستقبله الناس يُلبُّون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل رجع مباشرةً إلى قريش بعد رؤيته البدن وسماعه للتلبية، وقال لهم: رأيت البُدْن قد قُلِّدَتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت? فردُّوا عليه ردًّا سيئًا، فغضب عليهم وسبَّهم، ووعدهم أن ينفر بالأحابيش فلا يقاتلون معهم، ثم ذهب رسول ثالث لقريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عروة بن مسعود قبل أن يسلم، فقال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجمع أوباش الناس وتستأصل بهم بيضتك وأمْر قومِك، ثم ردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يأتِ للحرب، ثم أخذ عروة ينظر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما بصق النبي صلى الله عليه وسلم بصاقًا إلَّا كان بيد أحدِهم فدَلَكَ به وجهه وجِلْده، وإذا أمرهم ابتدروا، وإذا توضَّأ اقتتلوا على فضل وضوئه، وإذا تكلَّموا خفضوا أصواتهم، وما كانوا يُحِدُّون النظر إليه؛ تعظيمًا له واجلالًا له، فلَمَّا رجع عروة إلى قريش ذكر لهم ما رأى من ذلك الواقع الجليل في مَحبَّة الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نردُّه عن البيت في عامِنا هذا، ويرجع من قابل فيدخُل مكة ويطوف بالبيت، أيها الأفاضل الكِرام للحديث بإذن الله تعالى بقية، ونختم حلقتنا هذه بشيءٍ من الدروس والعِبَر؛ لكننا بإذن الله تعالى سنستكمل الحديث عن صلح الحديبية في الحلقة القادمة إن شاء الله عز وجل، فمن الدروس والعِبَر ما يلي:
الدرس الأول: أن رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي نوع من أنواع الوحي؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه، وإن كانت هذه الرؤى للأنبياء وَحْيًا فهي لغيرهم من المُبشِّرات، يراها المسلم أو تُرى له، وهذه الرُّؤى تنقسم إلى قسمين: الأول: رؤيا ظاهرها الصلاح والارتياح والاطمئنان والسكينة، فهي رؤيا صالحة يسأل عنها الرائي ويحمد الله تبارك وتعالى عليها، ويخبر بها مَنْ يُحِبُّ؛ ولكنه لا يغترُّ بتأويلها، ويسأل الله تعالى الإعانة والسداد ويحمده عليها، وتكون تلك الرؤيا الصالحة مقربةً إلى الله تبارك وتعالى.

النوع الثاني من الرؤى: رؤيا ظاهرها السوء والضيق، فهذه موقف المسلم منها ما يلي: لا يُحدِّث بها أحدًا، ويستعيذ بالله تعالى من الشيطان وشر تلك الرؤيا، وأيضًا كذلك لا يسأل عن تأويلها، ولا يُفكِّر بها، ولا تستولي عليه، فإنه إذا فعل ذلك، فإنها لا تضُرُّه بإذن الله عز وجل؛ حيث إنَّ أحد الصحابة شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرى الرؤيا السيئة فتُمرِضه أيامًا، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا يخبر بها أحدًا، ويستعيذ بالله من شرِّها والشيطان، فيقول ذلك الصحابي: فعلتُ ذلك، فأذهب الله عني أذاها في حين أن بعض الناس كُلَّما رأى تحدَّث للناس بما رأى، وسأل أيضًا عمَّا رأى سواء كان حسنًا أو سيئًا، وهذا لا شَكَّ أنه منهج جهل وحُمْق.

الدرس الثاني: عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى مكة عام الحديبية اعتذر أناس بأعذارٍ واهيةٍ يظنُّون أنهم سيسلمون بعدها من العتاب؛ لكن القرآن نزل بعتابهم وفضَحَهم، وهذا يُعطينا معنًى تربويًّا إيمانيًّا بأن المسلم إذا انتدب إلى ما فيه صلاح للإسلام والمسلمين وهو قادر عليه، فليمتثل ذلك الأمر، فهو خيرٌ له من بقائه بعُذْرٍ مكذوبٍ ولا حقيقة له، وهذا يجري مع الحاكم والوالد والصديق والقريب ودائرة العمل، وفي المجال الدعوي ونحوهم، وهذا يكسبه أجرًا وعملًا صالحًا وطاعةً وبرًّا، فإذا صدر من هؤلاء ونحوهم أمْرٌ فيه صلاحٌ، فليُبادر ذلك المأمور، ولا يختلق الأعذار الوهميَّة ما دام قادرًا ومؤثرًا، فليحتسب في ذلك الأجر والثواب عند الله تبارك وتعالى.

الدرس الثالث: رحمة الله تعالى بعباده وحفظه لهم من أعدائهم؛ حيث شرع لهم صلاة الخوف بهذه الصفة المذكورة؛ بحيث يجمعون بين صلاتهم ومراقبة عدوِّهم.

الدرس الرابع: في استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حَثٌّ على الشورى، والاستشارة تكون في جميع الأمور التي تشكل على الإنسان، فالاستشارة هي جَمْع خلاصة عقول الآخرين، وقد يتَّضِح بعد الاستشارة أمورٌ هي غائبةٌ قبل الاستشارة، وهي أيضًا مُهِمَّةٌ، ففي البيع والشراء والبناء وغيرها من شؤون الحياة تكون الاستشارة غايةً في الأهمية، فأنت قبل الاستشارة تعمل بعقل واحد، أما بعدها فتعمل بخلاصة عدد من العقول؛ مما يجعل المشروع أقرب إلى النجاح منه إلى الفشل، فالاستشارة والاستخارة أمرانِ مُهِمَّانِ في هذا الجانب.

الدرس الخامس: في مشروعية صلاة الخوف بيان واضح لأهمية الصلاة وإقامتها جماعة، فهم رضي الله عنهم وهم أمام عدوِّهم مأمورون بأداء الصلاة وأيضًا جماعة، وهذا يُعطينا درسًا أن نُعيدَ حساباتنا مع الصلاة، فهؤلاء صلَّوها وفي وقتها جماعةً وهم أمام العدوِّ، وفي المقابل أناس يُؤخِّرونها وأيضًا فُرادى مع الأمن دون خوف، فسبحان مَن وفَّق هؤلاء المصلِّين وحَرَمَ أولئك المؤخِّرين! وهل يظُنُّ هؤلاء المؤخِّرون لصلاتهم أو يصلُّونها فُرادى، هل يظنُّون أنهم حقَّقُوا بذلك فوزًا دنيويًّا أو أخرويًّا؛ إنما خالفوا نصوصًا كثيرةً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفاتهم من الأجور الشيء الكثير، فخسروا تلك الخُطَى إلى المساجد، وخسروا انتظار الصلاة، وخسروا الجماعة، وخسروا دعوات المسلمين باجتماعهم، وخالفوا نصوصًا من الكِتاب والسُّنَّة صريحةً في حضور الجماعة، وفي المقابل هل ينتظرون بذلك رشدًا في عقولهم أو زكاةً في نفوسِهم أو انسجامًا في حياتهم فلا تستقيم الحياة كما نريد إذا لم تستقِم الصلاة، ولو تأمَّلوا أيضًا أن تلك الصلاة هي أول ما يُحاسَبُون عليه لهرعوا إلى تحقيقها كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الله عز وجل يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء، وربَّما تسلَّل هذا الخَلَل إلى أولادِهم، فباءوا به؛ حيث إنهم هم الذين ربَّوهم عليه.

الدرس السادس: في أحداث صلح الحديبية معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي من دلائل النبوة، فإن المسلم عندما يقرأ هذه المعجزات يقوى إيمانه، ويزداد ثباتًا على دينه، وكم هو جميل جِدًّا أن نضع لأنفسنا وأولادنا جلسات أسريَّة مع تلك المعجزات? تقويةً لهم وتصحيحًا لمفاهيمهم وتعريفًا بنبيِّهم، ونستخرج منها أيضًا الدروس والعِبَر ليعرفوا تلك الدلائل بوضوح.

الدرس السابع: عندما نزل المطر في صُلْح الحديبية أرشدَهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يقولوا: مطرنا بفضل الله ورحمته، وهذا هو المشروع عند نزول المطر مع حسر الرأس ليُصيبه المطر، كما فَعَل النبي صلى الله عليه وسلم، ويشرع أيضًا أن يقول المسلم: اللَّهُمَّ اجعله صَيِّبًا نافعًا، فهذا ممَّا يشرع عند نزول المطر كما يشرع أيضًا كثرة الدعاء، فهو موطِن من مواطِن استجابة الدعاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثنتانِ لا تردان: الدعاء عند النداء، وعند المطر))؛ حسَّنَه الألباني.

الدرس الثامن: يحسن مقابلة الناس بما يُناسبهم من المحاسن، فعندما أقبل عليهم الحلس رسولًا من قريش، وكان من قوم يحبون البُدْن، أقاموا له البُدْن، فأعجب بذلك، فلتكن مقابلتنا للناس وحديثنا معهم هو بما يناسبهم، وفيما هو من اهتمامهم وبما يعجبهم، إذا كان ذلك من المحاسن والمحامد؛ وذلك تأنيسًا لهم، واستفادة منهم، وتأليفًا لقلوبهم، وتقريبًا أيضًا لنفوسهم، ويظهر الفرق جليًّا واضحًا في فعل ما يضادُّ ذلك، فقد تخبو المجالس ويتسلَّل إليها المَلَل والكَلَل، وهذا مُشاهَد من الواقع.

الدرس التاسع: في تلك الأحداث يظهر حُبُّ الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أعجب رسول قريش بما يفعله الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمًا له وإجلالًا له، وإن كان هذا حال الصحابة الكِرام مع نبيِّهم في حياته، فلنا بهم أسوةٌ في محبَّتِنا لسُنَّتِه بعد مماته، وتطبيقها والحرص عليها، وتربية أبنائنا عليها، فهي منهجنا مع القرآن في جميع شؤون حياتنا؛ في ديننا ودُنْيانا، فمَنْ حادَ عنهما، فقد ضَلَّ بقدر ذلك الميل والحياد، ومَنْ تمسَّك بهما عاشَ حياةً سعيدةً ومطمئنَّةً؛ سواء مع النفس أو الأقربين أو شرائح المجتمع المختلفة، فلنتعلم تلك السُّنَّة، ومن ذلك حفظ أذكارها فيما يُعرَف بعمل اليوم والليلة لأنفسنا وأولادنا، فلو جعلنا في هذا منهجًا محررًا، لكان خيرًا عظيمًا لأولادنا وأحفادنا، ففي كل أسبوع نوعان من الأذكار يتم تعلُّمُها وتطبيقهما وحفظهما، فسنأتي على كثيرٍ من السُّنَّة في زمن يسير، فاعزم العقد أخي الكريم على تطبيق ذلك مع نفسك وأولادك، لعلَّ الله عز وجل أن يجعل في ذلك الخير العظيم، ثم إنَّ دراسة السيرة هي غاية في الأهمية، فهي اقتداء وعِلْم وعمل وخير عظيم وتعلُّم للشمائل والأحكام الشرعية والآداب والأخلاق وما إلى ذلك، كما أنَّ مَنْ سَلَك ذلك التعلُّم لهذه السيرة فقد سَلَك طريقًا يلتمِسُ فيه عِلْمًا، والحاصل أنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ سيُسَهِّل له طريقًا إلى الجنة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ سَلَكَ طريقًا يلتمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لهُ بِهِ طريقًا إلى الجنة))، ولو كانت قراءتُك في السيرة أو غيرها من العلوم قراءةً يسيرةً ومقتضبةً، وحتى لو كانت صفحةً في كل يوم، فإنك ستقرأ في السنة الكاملة ما لا يقل عن ثلاثمائة وستين صفحةً، وهذا لا شَكَّ أنه رِبْحٌ كبيرٌ، وعِلْمٌ غزيرٌ.

أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الهُدَى والتُّقَى والسَّداد والرَّشاد، اللهُمَّ أوْصِلْنا دارَ السلام بسلام، وعافِنا واعْفُ عَنَّا، واغفر لنا وارحمنا ووالدينا والمسلمين، وصَلَّى الله وسلِّم على سيِّدنا محمدٍ، وعلى آلِهِ وصَحْبِه أجمعين.

ابوالوليد المسلم 16-12-2022 07:24 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (30)
الشيخ خالد بن علي الجريش


الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على مَن أُرْسِل رحمةً للعالمين، وعلى آلِهِ وصَحْبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكرام في برنامجكم خاتم النبيِّين، أيها الأكارم سبق معنا في الحلقة الماضية الحديث عن صلح الحديبية، وكيف خرج النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه يريدون العُمْرة لا غيرها؟ وكيف وقفت لهم قريش صادَّةً لهم عن البيت؟ وذكرنا أيضًا المراسلة بين قريش والنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن قريشًا ردَّت النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول إلى مكة، فجاءت الرسل للمفاهمة حيال هذا الرد، وذكرنا أيضًا نزول آية الخوف وشيئًا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وفي حلقتنا لهذا الأسبوع نذكر إكمالًا لهذا الصُّلْح في الحديبية؛ فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية إلى قريش ليخبرهم بأنه قد جاء زائرًا إلى البيت وليس للقتال، فذهب خراش إلى مكة ووصل إليهم فأساءوا إليه وأرادوا قتله، فمنعهم الأحابيش من ذلك فخلَّوا سبيله، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما لقي، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عثمان بن عفان إلى قريش، فلما دخل مكة لقِيَه أَبَانُ بن سعيد وقد أسلم أَبَانُ بعد الحديبية، فحمله على دابَّتِه وأجاره حتى يُبلِّغ ما كلَّفَه به النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وكِبار قريش، فبلَّغَهم رسالةَ النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا فرغ عثمان من كلامه، قالوا له: إنْ شئت أن تطوف بالبيت فافعل، فقال عثمان رضي الله عنه: ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، واحتبست قريش عثمان عندهم ليتشاوروا في ردِّهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فطال هذا الاحتباس شيئًا من الوقت فشاعَ بين المسلمين أن عثمان قد قُتِل، فلما بلغت تلك الإشاعة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نبرح حتى نُناجِز القوم))، ثم دعاهم إلى البيعة فبايعوه رضي الله عنهم، ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده اليُمْنى وقال: ((هذه يدُ عثمان))، فضرب بها على يده اليُسْرى، وقال: ((هذه لعثمان))، وكانت تلك البيعة على ألَّا يفرُّوا إذا حصل قتال مع قريش، وقد بايع الجميع النبي صلى الله عليه وسلم إلَّا رجلٌ واحدٌ وهو الجَدُّ بن قيس، وقد اختبأ خلف جَمَلِه الأحمر، وقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّكم مغفورٌ له إلَّا صاحِبُ الجَمَل الأحْمَر))، فأتيناه فقلنا: تعالى يستغفر لك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله، لأنْ أجِدَ ضالَّتي أحبُّ إليَّ مِن أنْ يستغفِرَ لي صاحِبُكم، وكان ينشد ضالَّةً له.

وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وقد قال الله تعالى فيها: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخُل النارَ أحَدٌ بايَعَ تحتَ الشجرةِ))؛ رواه أحمد، ولم يُعرَف موضع الشجرة بعد ذلك، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: رجعنا من العام المُقْبِل فلم نعرف موضِعَ الشجرة التي حصلت عندها البيعة، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده؛ حتى لا يُفتتن بها.

ثم بعد أن تمت البيعة رجع عثمان رضي الله عنه إلى المسلمين، ولمَّا علمت قريش بالبيعة خافَ بعضُهم ورغبوا بالصلح، في حين رأى البعض الآخر اللجوء إلى الحرب، فقرَّرُوا التسلُّل إلى معسكر المسلمين ليشعلوا الحرب، فتسلَّل منهم ثمانون رجلًا على معسكر المسلمين، فتم أسْرُهم جميعًا، وأُحضِرُوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعد حديثه صلى الله عليه وسلم معهم عفا عنهم وأطلقهم؛ وذلك رغبة منه في الصلح، وأنه لم يأتِ للحرب، وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الفتح: 24]، ولما رأت قريش ذلك أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو ومَن معه، وقالوا له: ايتِ محمدًا فصالحه، ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع هذا العام ويعتمر من العام القادم، فلما أتاه سهيل ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((قد سهل الله لكم أمركم))، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فلما تحدَّث سهيل مع النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((تخلوا بيننا وبين البيت نطوف به))، فقال سهيل: والله لا تتحدَّث العرب إنكم دخلتم عَنوة- أي: قهرًا- ولكن لتطوفوا من العام القابل، ثم اتفقوا على شروط الصلح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليكتب الكِتاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اكتب بسم الله الرحمن الرحيم))، فقال سهيل: أمَّا الرحمن فوالله ما أدري ما هي؟ ولكن اكتب "باسمك اللهم"، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اكتب باسمك اللهم))، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ((هذا ما قاضى عليه محمدٌ رسولُ اللهِ سهيلَ بن عمرو))، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صدَدْناك عن البيت ولا قاتلناك؛ ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واللهِ إني لرسول الله وإنْ كذبتموني))، ثم قال لعلي رضي الله عنه: ((امْحُها))، فقال عليٌّ: والله لا أمحوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أرني مكانها)) فمحاها بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم.

ولما كتب الصلح أشهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من الصحابة، ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان، وشهد عليه من المشركين من كان مع سهيل في الصلح، ونسخت هذه الشروط لهذا الصلح، فكانت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومثلها مع قريش، وكانت بنود الصلح كما يلي:
أولًا: يرجع محمد عامَه هذا فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل أتَوا إلى مكة ليعتمروا.

ثانيًا: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين.

ثالثًا: من أحب أن يدخل مع محمد دخل فيه، ومن أحَبَّ أن يدخل مع قريش دخل معهم.

رابعًا: مَنْ أتى من قريش إلى المسلمين فيردُّونه إلى قريش، ومَن أتى من المسلمين إلى قريش فلا يردُّونه إلى المسلمين، وكان هذا أشدَّ الشروط على المسلمين.

فكانت تلك هي شروط صلح الحديبية بين قريش والمسلمين، فتعاقدوا عليها، وفي هذه الأثناء جاء أبو جندل- وهو ابن سهيل بن عمرو كاتب الصلح- إلى المسلمين مسلمًا، فقال أبوه سهيل: أول ما أقاضيك به يا محمد ابني أبو جندل، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم إجازته أن يذهب إلى المسلمين فلم يُجِزْه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حينها لأبي جندل: ((يا أبا جندل، اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدًا، وإنا لن نغدر بهم))، وقد حزن المسلمون على تلك الشروط وهم قد عزموا على أداء العمرة، وإنهم على الحق، وكان من أشدِّهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذهب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ألست نبيَّ اللهِ حقًّا? قال: ((بلى))، قال عمر: ألسنا على الحق وهم على الباطل? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بلى))، فقال عمر: فلمَ نعطي الدنيَّة في ديننا? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني رسول الله، ولستُ أعصيه وهو ناصري))، وقال عمر مثل ذلك لأبي بكر، فرَدَّ عليه أبو بكر بقوله: إنه لرَسُول الله وليس يعصي ربَّه وهو ناصِرُه، فاستمسِكْ بغرزه، فوالله إنه على الحق؛ أخرجه البخاري، فلمَّا نزلت سورة الفتح بعد ذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عُمَر فقرأها عليه، فطابت نفسُ عمر، فكان عمر يقول: ما زلتُ أتصدَّق وأصلِّي وأعتق مما صنعت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخافة من عقوبة كلامي معه.

معاشر الأفاضل الكرام، لعلنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر المستفادة على أمل بإذن الله تعالى أننا سنُكمِل في الحلقة القادمة بإذن الله عز وجل ما تبقَّى من أحداث صلح الحديبية، فمن الدروس ما يلي:
الدرس الأول: أن التفاهم بين كل طرفين هو من أهم الأخلاق والآداب بخلاف العنجهية والإقدام من غير تفكير، فهو له مفاسد عظيمة، فهؤلاء الرسل بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش.

كل ذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم لجلب المصلحة ودرء المفسدة، وإن كان ذلك التفاهم في الصلح؛ إلا أنه يمكن اعتباره في جميع شؤون الحياة، خصوصًا في الشؤون الأسرية، فالتفاهم بين الزوجين، وبين الأب وابنه، والقريب وقريبه، والجار وجاره، كل ذلك غاية في الأهمية، أمَّا مَنْ يستعجل في اتخاذ القرار دون تفاهُمٍ أو مناقشة، فإن هذا يحصل عليه من المفاسد الشيء الكثير، كما أنه سيخسر شيئًا من المصالح، وسيشعر بعد ذلك بالندم، فيا معاشر الأزواج والآباء، والأقارب والجيران، لا تستعجلوا في اتخاذ القرار بينكم؛ لأن القرار إذا تمَّ اتخاذه وحصلت عليه المفسدة يصعب إرجاع المياه إلى مجاريها، فتأمَّلوا أحوالكم، وليتحمَّل بعضُكم بعضًا مقابل المصالح المرجوَّة، فلو فكَّر الزوجان قبل الفِراق وتفاهما، ففي الغالب لم يفترقا؛ لأن الأسباب أحيانًا تكون في موازين العقول السليمة أوهنَ من بيت العنكبوت، ومثل ذلك أيضًا الاستعجال بلفظ الكلمات في أوقات الأزمات، فهي تحتاج إلى تأمُّل وتفكير حتى لا يحصل الندم، فهذا الصلح لما كان فيه هذا التفاهُم حصل على إثره خيرٌ كبيرٌ؛ وهو الفتح والاستقرار وغيرهما، والحمد لله.

الدرس الثاني: عندما ذهب عثمان إلى قريش للتفاهُم معهم أُشِيع أنه قُتِل، فالإشاعة لها سلبياتها، وأيضًا على مَنْ سَمِعَها أن يتثبت فيها؛ لأنه يترتب على الإشاعة أحيانًا فهومات سلبية ونظرات سيئة.

ومن المنهج السلبي عند بعض الناس أن يكون هو الأسبق في نشر الخبر بغض النظر عن التثبُّت فيه، وهذا ليس منهجًا سليمًا في استقبال المعلومات؛ بل اجعل الناس لا يعرفون عنك إلَّا الحقيقة، أمَّا ما خرج عن دائرة الحقيقة فلا تتبعه نفسك لا استقبالًا ولا إفادة للغير، والله عز وجل يقول في استقبال الأخبار: ﴿ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، فلا تكن درجة من درجات الكذب، ولا مرحلة من مراحل الوهم؛ بل كن مع الحقيقة فقط.

الدرس الثالث: عندما تسلَّل ثمانون رجلًا من قريش وأُسِروا، عفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان ذلك العفو هو لإدراك مصلحة كبرى؛ وهي الصلح، فكم هو جميل أن نعفو عمَّن أخطأ علينا لننال المصلحة الأكبر؛ وهي التآخي والتصافي، فالاستمساك بالحال الراهنة من دون نظر للمآلات والعواقب ليس من أخلاق الكبار؛ بل أخلاق الكبار تتجه حيث اتجهت المصالح الكبرى ولو خسروا بعض المصالح الدنيا، فلو كنا في شؤوننا ننظر للمآلات وعواقب الأمور والمصالح الكبرى لكانت حالنا أحسن وبكثير؛ بل لا أبالغ إن قلت: إن القضايا في الجهات الرسمية ستكون أقل عددًا وكمًّا، وسيرتاح الطرفان لو تفاهما ونظرا إلى المآلات والعواقب؛ ولكن كل مشكلة خلفها شيطان يؤزُّ عليها ويُحرِّكها، ويُعْمي عن المصالح المشتركة؛ ولكنها تحتاج إلى تأمُّل يسير.

الدرس الرابع: عندما قدم سهيل بن عمرو للصلح قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سهل أمركم)) وهذا جانب كبير من التفاؤل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل، فإن النفس تنشرح وتبتهج إذا عاشت التفاؤل صفة لها وسجية من سجاياها، فلنجعل حياتنا تفاؤلًا بالخير حتى ولو ضاقت نسبيًّا، فلا تُفكِّر في هذا الضيق بقدر ما تفكر بالإيجابية الموجودة فيه ولو كانت يسيرة فانطلق منها، فالمرض مثلًا ضيق، والفقر أيضًا ضيق ونحو ذلك؛ ولكن فيهما زاوية إيجابية؛ وهي تكفير الذنوب في الأمراض، وربما أن الفقر كان حائلًا عن كثير من الشرور ونحو ذلك، فالله عز وجل حكيمٌ عليمٌ.

الدرس الخامس: في بداية الصلح لم ترض قريش أن يكتب "بسم الله الرحمن الرحيم"، ولم يرضوا أيضًا أن يكتب "محمد رسول الله"، وفي هذا ظهرت غيرة الصحابة رضي الله عنهم غيرة شديدة، وهكذا المسلم يغار على دينه أن ينتقص منه شيء، فالغيرة على محارم الله هي صفة جليلة للمسلم يزداد بها قُرْبًا من الله عز وجل، وثباتًا على دينه، وبراءةً لذمته، وأمرًا ونهيًا لمن انتقص بفعل أو قول، وأمَّا إذا زالت الغيرة فقد يختم على القلب فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلَّا ما أُشْرِب مِن هواه، فالغيرة على النفس وعلى المحارم وعلى المسلمين أمرٌ عظيمٌ حثَّ عليه الشرعُ وأمَرَ به.

الدرس السادس: أهمية صفة الوفاء بالعهد والعقد بأمانة وصدق، وذلك مقتبس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل عندما ذكر له أن هذا عقد تم مع قريش، وسيجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا، فصفة الأمانة صفة عظيمة يدخل فيها الوفاء بالعهود والعقود والوعود، ويدخل فيها أيضًا الصدق في التعامل؛ سواء كان له أو عليه، وليعلم المُخْلِف للعهد والعقد والناقض لهما، وليعلم أيضًا الخائن للأمانة، وليعلم أيضًا المتعامل بالكذب، ليعلم هؤلاء جميعًا أن من ورائهم يومًا ثقيلًا وهو يوم القيامة، فإن أفلتوا من أيدي البشر بما يسمُّونه ذكاءً وفطنةً، فإن الله تعالى سيسألهم في يوم أحوج ما يكونون فيه إلى الرحمة والمغفرة، فماذا هم قائلون يومئذٍ?! وقد نقضوا العهود والعقود، وتعاملوا بالكذب والغش ونحو ذلك، فليتدارك هؤلاء أمْرَهم، وليشكروا الله عز وجل أن أحياهم إلى أن يتوبوا ولم يأخذهم على غِرَّة من أمرهم، فإن الحياة الدنيا هي يوم أو بعض يوم، وأمَّا الآخرة فهي الحياة الخالدة الباقية.

الدرس السابع: في قول أبي بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق، درس عظيم في قوَّة إيمان أبي بكر وثباته وقوَّته وتصديقه، فالاستجابةُ ظاهرةٌ، فقد أزال عن نفسه كل شكٍّ وريب، فلا تزعزعه الرياح، وهذا كقوله رضي الله عنه في قصة الإسراء: "إن كان قاله فقد صدق"- يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- فما أعظمَه من ثبات! وما أكملَه من إيمان! وما أبيضَه من قلب رضي الله عنه! فلنكن كذلك.

الدرس الثامن: محاورة عمر للرسول صلى الله عليه وسلم حصل بعدها عند عمر إحساس بالخطأ في أنه تجاسَر بالكلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتبر ذلك خطأً كبيرًا وهو غيرة منه رضي الله عنه؛ ولكنه مع ذلك قال رضي الله عنه: ما زلت أتصدَّق وأصلِّي وأعتق؛ ليكون كفَّارةً لكلامي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف، فأين مَنْ يفعل المعاصي الظاهرة والباطنة?! وأيضًا ما لهؤلاء العصاة لماذا لا يُقدِمون على كثرة الأعمال الصالحة؛ لتكون كفَّارةً للسيئات ومنهاةً عنها؟! فإن الحسنة إذا زاحمت السيئة أزالتها بإذن الله عز وجل، فالمسلم الحق إذا فعل السيئة حاكت في نفسه أيامًا؛ لأنها مخالفة للخالق المنعم المتفضِّل الذي يقدر كل خير وشر لهذا العاصي، فجديرٌ بفاعل المعصية أن يخاف من شؤمها وأثرها ومن تتابعها، ويتأمَّل مستقبله الأخروي مُكثِرًا من الحسنات الماحية للسيئات، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وإذا تاب هذا العاصي من معصيته، فإنه يُبشِّر ببشائر عظيمة، فمن البشائر أن الله عز وجل يقلب سيئاته إلى حسنات، فيوفِّقْه لفعل حسنات يعملها بعد تلك التوبة، وأيضًا كذلك يُبشِّر بفرح الله تبارك وتعالى بتوبته تلك؛ لأنه عندما تاب فإن الله عز وجل يفرح فرحًا شديدًا بتوبة ذلك التائب، وأيضًا ممَّا يُبشِّر به هذا التائب من المعصية أن الملائكة تدعو له؛ بل وتدعو له ولوالديه ولزوجه وذريته؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى على لسان الملائكة: ﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ [غافر:7- 8] إلى آخر الآيات، فهذه بشريات متعددة عظيمة لمن تاب وأناب إلى الله تبارك وتعالى، فأين المسرفون والعاصون عن هذه البشائر؟ لماذا لا يقدمون? ما دام أن الله عز وجل أعطاهم المهلة، وأنه أبقاهم ولم يأخذهم على غِرَّة، فحريٌّ بنا جميعًا أيها الأخوة الكِرام أن نطبق قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وهكذا السيرة هي كلها دروس وعِبَر وحِكَم وأحكام وشمائل وأخلاق نستفيد منها في حياتنا أخلاقًا وعِلْمًا وعملًا.

أسأل الله تبارك وتعالى للجميع الهُدْى والتُّقَى، والسَّداد والرشاد، والعفو والعافية، والصَّلاح والإصلاح في النية والذرية ولجميع المسلمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابوالوليد المسلم 01-03-2023 09:20 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (31)
الشيخ خالد بن علي الجريش





كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والزعماء

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكِرام في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأكارم، ذكرنا في حلقة الأسبوع الماضي كيف تحلَّل النبي صلى الله عليه وسلم من إحرامه عندما منع من أداء النسك في صُلْح الحديبية، وعرَّجنا كذلك على نزول سورة الفتح بعد ذلك، وتمَّ أيضًا التوضيح للمصالح في هذا الصلح، وذكرنا قصة أبي بصير رضي الله عنه ومَن معه من المهاجرين، وكيف جاءهم فرجُ الله تبارك وتعالى وتوفيقه؟ وكيف بايَعَ النبي صلى الله عليه وسلم النساء المهاجرات? إلى غير ذلك مع ذكرنا للدروس والعِبَر المستفادة، وفي حلقتنا هذه نتعرَّض لشيء من كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والزعماء.


فلمَّا استقر الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية كانت الفرصة سانحةً بشكل أكبر للدعوة إلى الله تعالى خارج نطاق الجزيرة؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم الرُّسُل ومعهم الكُتُب إلى رؤساء العرب والعَجَم، يدعوهم إلى الإسلام، فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كِسْرى وقيصر وغيرهما يدعوهم إلى الله تعالى، واتَّخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا كتب عليه محمد رسول الله، يختم به الكُتُب والرسائل التي يرسلها، وفيما يلي ذكر بعض الملوك والرؤساء الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم تلك الرسائل، فمنهم:
الكتاب الأول:كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة، واسم النجاشي أصحمة، وأمَّا لقب النجاشي فهو لقب لكُلِّ مَن ملك الحبشة، وأرسل كتابه إليه مع عمرو بن أُميَّة الضمري رضي الله عنه، وأرسل معه كتابينِ: أحدهما يدعوه إلى الإسلام، والآخر يطلب منه فيه أن يبعث إليه مَن عنده من المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة.


وفيما يلي نصُّ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على مَنِ اتَّبَع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، وأدعوك بدعاية الله، فإنِّي أنا رسول الله، فأسْلِمْ تسلم ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64] فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك؛ انتهى الخطاب.


فلمَّا وصل الكتاب إلى النجاشي وقُرئ عليه، أخذ الكتاب فوضعه على رأسه، ونزل عن سريره على الأرض تواضُعًا، ثم أسلَمَ وشهِدَ شهادةَ الحَقِّ، وقال: لولا ما أنا فيه من الملك لأتيتُه حتى أحمِلَ نعليه، ثم رَدَّ النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابته وتصديقه وإسلامه وإيمانه، وأهدى له مع الكِتاب بعض الهدايا، وقد توفي النجاشي رحمه الله في السنة التاسعة في شهر رجب، ونعاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مات اليوم رَجُلٌ صالِحٌ، فقُومُوا فصلُّوا على أخيكم أصحمة واستغفروا له))؛ رواه البخاري.


وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، وقد نزل في النجاشي قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران: 199] الآية، وبعد وفاته تولَّى الحبشة نجاشيٌّ آخر، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا آخر يدعوه فيه إلى الإسلام.

الكتاب الثاني: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الرُّوم، وأرسله مع دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه يدعوه فيه إلى الإسلام، وأمره أن يدفعه إلى أحد أمرائه ليدفعه إلى هرقل، فلمَّا وصل الكتاب إلى هرقل سأل: هل أحد من قوم هذا النبي عندنا نسأله عنه؟ وكان عنده أبو سفيان مع رجال من قريش في تجارة لهم، فأرسل إليه، فأتوا بهم، فقال هرقل لترجمانه: إني سائله وقل لأصحابه: إن كذب عليَّ فكذَّبوه، فقال أبو سفيان: والله، لولا الحياء أن يأثر أصحابي عني الكذب لكذبْتُ عليه؛ ولكني استحييت منهم فصدقته، وهذا قبل إسلام أبي سفيان رضي الله عنه، فقال هرقل: ما نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب، فقال هرقل: هل قال هذا منكم أحدٌ قبله؟ قال أبو سفيان: لا، فقال هرقل: هل كان من آبائه مَلِك؟ قال أبو سفيان: لا، فقال هرقل: وهل يتبعه الأشراف أم الضعفاء؟ قال أبو سفيان: بل يتبعه الضعفاء، فقال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان: بل يزيدون، فقال هرقل: هل يرتدُّون عنه؟ قال أبو سفيان: لا يرتدُّون، فقال هرقل: هل تتهمونه بالكذب؟ قال أبو سفيان: لا والله، لا نتِّهمه، فقال هرقل: فهل هو يغدر؟ قال أبو سفيان: لا والله، لا يغدر، فقال هرقل: بمَ يأمرُكم؟ قال أبو سفيان: كان يأمرنا بالتوحيد وعدم الشرك، ويأمرنا بالصلاة والصدق والصلة، فقال هرقل: فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موقِعَ قدميَّ هاتينِ.

ولمَّا قُرئ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم على هرقل اهتزَّ وتأثَّر وتحدَّث هرقل أنه سيسلم؛ ولكن لم توافقه حاشيتُه ومجالسوه على ذلك، وأكرم هرقل هذا الرسول الذي حمل الكِتاب وردَّ معه كتابًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيه: إني مسلم، وبعث بدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قُرئ عليه كتاب هرقل: ((كذب عدوُّ الله، ليس بمسلمٍ، وهو على النصرانية))، ثم قسم النبي صلى الله عليه وسلم الدنانير على أصحابه، وكان هرقل آثر مُلْكَه وحاشيتَه على الإسلام والإيمان، وقد حارب هرقل المسلمين في غزوة مُؤْتة وهي بعد ذلك الكتاب بسَنَةٍ.

الكتاب الثالث: كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كِسْرى ملك الفرس، وقد بعثه مع عبدالله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، فلمَّا وصل الكِتاب إلى كِسْرى وقرئ عليه الكتاب أخذه ومزَّقَه، وقال: أيكتب إليَّ هذا وهو عبدي؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه من ذلك، فلمَّا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه أن يُمزِّقَه الله؛ أخرجه البخاري، وبعث كِسْرى إلى عامله، وقال له: ابعث رجلينِ جلدينِ قويينِ ليأتياني بهذا الرجل الذي خرج في الحجاز، ويزعم أنه نبيٌّ، ففعل الأمير ذلك، وذهب الرجلانِ إلى المدينة وقابلا النبي صلى الله عليه وسلم وقالا له ذلك الطلب، فتبسَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ودعاهما إلى الإسلام ثم أمرهما أن يأتياه من الغد، فجاءاه من الغد، فأخبرهما أن الله عز وجل قتل كِسْرى؛ حيث سلَّط عليه ابنَه، فرجعا إلى بلدهما، فوجدا أنَّ كِسْرى قد قُتِل، فأسلم الرجلانِ، وأسلم ذلك الأمير الذي أرسلهما، وأسلم من تحت يده، فسبحان من كانت الهداية بيده! وبعد هلاك قيصر سقطت دولتهم في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا هلك كِسْرى فلا كِسْرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتفتحنَّ كنوزَهما في سبيل الله))؛ رواه البخاري ومسلم.



الكتاب الرابع: كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس في مصر، وأرسله مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، فلمَّا استلم المقوقس هذا الكتاب وقرأه، أكرم حاطبًا، وأخذ بتقبيل هذا الكتاب، وجمع بطارقته، وأخذ يحاور حاطبًا، ثم قال له بعد المحاورة: أنت حكيم جاء من عند حكيم، وأرسل ردًّا على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان ردًّا حسنًا؛ لكنه لم يسلم، وبعث مع الكِتاب بجاريتينِ، وكسوة وبغلة، ورجع حاطب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((ضَنَّ الخبيث بمُلْكه ولا بقاء لملكه))، وأخذ هديته، والجاريتانِ هما مارية القبطية وأختُها سيرين، فهذه مارية هي أمُّ إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وأمَّا الأخرى فأهداها النبي صلى الله عليه وسلم لجهم بن قيس رضي الله عنه، وقد ولدت زكريا الذي كان واليًا على مصر بعد عمرو بن العاص رضي الله عنه.

الكتاب الخامس: كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحارث والي دمشق، فلمَّا وصل إليه الكتاب وقرأه رمى به، وقال: هذا محمد يريد أن ينتزع مني مُلْكي، وحشد الجيش ليُقاتل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ ولكن هرقل نقض عزمه عن ذلك، فلمَّا رجع الذي نقل الكتاب إلى المدينة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((بادَ مُلْكُه)) وهذا بمثابة الدعاء عليه، فمات وباد مُلْكُه بحمد الله تعالى.

الكتاب السادس: كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملك اليمامة يدعوه إلى الإسلام، وقال فيه: ((اعلم أن ديني سيظهر على منتهى الخف والحافر، فأسْلِم تَسْلَم))، فلم يسلم، ودعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فمات، هذه بعض الكتب التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الأقوام يدعوهم إلى الإسلام، وكلها كانت في شهر المُحرَّم من السنة السابعة، ويُلاحظ في تلك الرسائل أنه لم يُقتَل أحدٌ من حامليها إلى هؤلاء الأقوام والرؤساء؛ لأنها جَرَتْ عادتُهم أن الرُّسُل لا تُقتَل ولا تُسلَب.


أيُّها الكِرام، لعلَّنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر، ونُكمِل فيما بعد من الحلقات تلك السيرة العطرة، فمن الدروس ما يلي:

الدرس الأول: أن كتابة الرسائل الدعويَّة من النبي صلى الله عليه وسلم للملوك والزُّعماء تعطي المسلم منهجًا في تواصي المسلم مع إخوانه وأحبابه عن طريق المراسلة والمكاتبة؛ سواء كانت المقروءة منها أو المسموعة، فما أجمل أن يصدر منك رسالةٌ مقروءة أو مسموعة أو تأتيك رسالة كذلك من أحد إخوانك وأحبابك فيها التوصية بالحقِّ والدلالة على الخير والترغيب فيه، فيا أخي، هل جرَّبْت هذا؟ إن لهذا وقعًا كبيرًا على أخيك عندما يقرأ أو يسمع رسالتك، ويكون ذلك سببًا للودِّ بينكما، وقد كان ذلك بين الصالحين من السابقين واللاحقين، وكم هو جميل أيضًا أن يطبقه المسلم مع غير المسلمين، يدعوهم فيه إلى الله تبارك وتعالى مُبيِّنًا محاسن الإسلام، ولا تيأس؛ لأنك أنت تفعل السبب والتوفيق بيد الله تبارك وتعالى، فقد يكون السبب سهلًا ويسيرًا؛ ولكن النتيجة عظيمة أمثال الجبال، وما أكثرَ تلك الوقائعَ عند الدُّعاة أو جمعيات الدعوة في بلدنا المبارك وفي غيره أيضًا! فلا نغفل عن هذا.



الدرس الثاني: لا تستبعد هداية أحد، فهذا النجاشي عندما أرسل إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكتاب آمن وصلحت حالُه ومات على الإسلام، فعندما ترى خللًا في إخوانك، أو ترى كافرًا صادًّا عن سبيل الله تعالى ونحو ذلك، فلا تيأس؛ فقد يكون القدر بهدايته على يديك، ولو بذلت شيئًا يسيرًا من الجُهْد فلا تنظر إلى حجم جهدك؛ وإنما انظر إلى أن جهدك مهما كان يسيرًا فهو سبب، وأن الهداية من عند الله تبارك وتعالى، وقد يهتدي أحد على يديك وأنت لا تشعُر حيث اقتدى بك.



الدرس الثالث: مشروعية الصلاة على الغائب على خلاف بين أهل العِلْم متى تكون? فقال بعضهم: هي فيمن مات ولم يُصَلَّ عليه لظرف أو لآخر، وهو رواية عن أحمد، وقال به ابن تيمية وابن القيم وابن عثيمين وغيرهم، وقال آخرون: هي مشروعة على مَنْ كان له نفع للمسلمين وجاه، وهو رواية أيضًا عن أحمد، وقال به السعدي واللجنة الدائمة، وقيل في المسألة أقوال أخرى.



الدرس الرابع: في مقابلة هرقل لأبي سفيان قبل إسلامه، وسؤاله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان: لولا الحياء من أصحابي أن يأثروا عليَّ الكذب لكذبتُ عليه، قال هذا وهو على الكفر، فكيف بالمسلم الذي أمره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالصِّدْق في القول والعمل، فإن المسلم أوْلَى أن يكون صادقًا في قوله وفعله فيما يتعلَّق بعبادته أو معاملته مع المخلوقين؛ لأن الله عز وجل يراه ويسمعه قبل أن يراه ويسمعه الآخرون، وممَّا لا شكَّ فيه أن الكذب ضَعْفٌ في الشخصية، فلو تكاملت الشخصية ما احتاج إلى الكذب، ثم إنَّ الكذب من كبائر الذنوب، وأيضًا لو عرَف الناس كذبَه ما صدَّقُوه حتى فيما صدق فيه، وكل شيء بُنِي على الكذب فهو ممحوق البركة، والكذب حكمه التحريم؛ سواء في المزاح أو الجد؛ بل قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ويلٌ لمن يُحدِّث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له))؛ حديث حسن.


وإذا تتابع الكذب صار صاحبُه عند الله كذَّابًا، وما أجمل الصدق ولو كان عليك! فنجاة الآخرة أوْلَى من نجاة الدنيا، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، وإذا كان الصادقون سيسألون عن صدقهم كما في قوله تعالى: ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 8]، فكيف بالكاذبين؟ والكذب مُحرَّم سواء كان على صغير أو على بهيمة أو غيرهما؛ ولهذا يقول الشاعر:
عوِّد لسانَك قولَ الخيرِ تَحْظَ به https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إنَّ اللِّسانَ لما عوَّدْتَ معتاد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فإيَّاك أخي المسلم أن يعثر الناس عليك بشيء من الكذب؛ خوفًا من الله تعالى، ثم حياء من الناس، والحياء لا يأتي إلَّا بخيرٍ، واحذر من الوعيد الشديد لمن يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق؛ حيث ورد في حديث الرؤيا كما عند البخاري ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يُعاقَب، وعقوبته أنه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم المَلك في الرؤيا عن هذا المعاقب، فقال الملك: هو الرجل يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق)).



وها هي وسائل التواصُل ترسلها فتبلغ الآفاق في وقت قصير، فاحذر الكذب كله صغيره وكبيره تفلح وتربح وُفِّقْت وبُورِكْتَ.



الدرس الخامس: أن هرقل عندما قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه الإسلام؛ بل وكاد أن يسلم؛ لكن الجلساء والحاشية كانوا عائقًا له بقدر الله تعالى الكوني، وذلك مماثل لما حصل لأبي طالب عندما كاد أن يُسلِم، فكان تأثير الجلساء عائقًا له عن ذلك، ومن هذا نأخذ درسينِ عظيمينِ: الأول أن هداية التوفيق هي بيد الله تبارك وتعالى، فلنسأله إيَّاها لنا ولغيرنا مع بذلنا لهداية الدلالة والإرشاد، والثاني أن الجليس له أثره الإيجابي أو السلبي على صاحبه، فاختر جلساءك، فمن خلالهم ستملأ ميزانك بالحسنات، إن كانوا صالحين وإيجابيين، وقد يمتلئ ميزانك بالسيئات إن كانوا فاسدين سلبيين، والأمر جد خطير؛ فهو له تعلُّق كبير في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فكم ستجني من الخير إذا كان جليسُك صالحًا، وكم ستجني من الشَّرِّ إذا كان جليسُك سيئًا? وها هي الحياة ستسير على هذا المنوال وأنت فرس الميدان، والتوفيق بيد الله تبارك وتعالى، فاعرف ما ينفعك دنيا وأُخْرى وتمسَّك به.



الدرس السادس: من دلائل النبوة ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر الصحابة بقتل كِسْرى مباشرة من دون إعلام وإخبار من أحد من البشر؛ حيث بُعْد المسافة؛ ولكنه الوحي الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وهذا ممَّا يقوِّي عقيدة المؤمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها حَقٌّ من ربِّ العالمين، وهذه المعجزات هي من المثبتات على الحق بإذن الله تبارك وتعالى؛ لأنها خوارق للعادة على يد النبي صلى الله عليه وسلم، والقراءة فيها هي من مقويات الإيمان ومغذياته.

أيُّها الكرام، إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي مجموعة الأحكام والأخلاق والشمائل، والقراءة فيها ممتعة ومفيدة، فأقترح عليك أيها الأب المبارك، ويا أيتها الأم المباركة، أن تجعلا لأسرتكما درسًا أسبوعيًّا ولو مختصرًا بوقت يسير تقرؤون في تلك السيرة بالتسلسل المعروف؛ لتعرفوا هَدْيَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتُصحِّحُوا مفاهيمَ أولادِكم، وتُصحِّحُوا أيضًا أخلاقهم وألفاظهم، وأيضًا لتكون زادًا علميًّا لكم ولهم، وكافيكم حضور الملائكة في منازلكم، وغشيان الرحمة لكم، ونزول السكينة عليكم، وأيضًا كذلك ذكر الله تعالى لكم في الملأ الأعلى، فيالها من أرباح عظيمة لو تفهمناها، فلنعمل ذلك لينشأ أولادُنا عليه ويُنشِّئوا أيضًا أولادَهم كذلك، فيكون صدقةً جاريةً لكم، أملي كبير أن تقبلوا ذلك المقترح، وأن يكون واقعًا عمليًّا، ومن الكُتُب المقترحة في ذلك ما يلي: الكتاب الأول اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون للشيخ موسى العازمي، والكتاب الثاني كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري؛ فهما كتابانِ شيقان وسلسان ومتممان للفائدة، فيهما من الخير والعلم والدروس والعِبَر ما الله به عليم، فإن هذا إذا كان دأبًا لنا ولأولادنا؛ فإن هذا من باب طلب العلم، ومن باب تصحيح المفاهيم، ومن باب أيضًا الاقتداء ومعرفة حالة النبي عليه الصلاة والسلام في مأكله ومشربه وملبسه ومركبه، وفي لفظه وعبادته ومع أهله وأصحابه حتى مع غير المسلمين، فما أحوجنا أيها الكِرام إلى معرفة ذلك عن نبيِّنا عليه الصلاة والسلام عن كثب! حتى نقتدي به الاقتداء اللازم، وحتى تهدأ أفكارُ أولادِنا فيما هو صواب لها ونافع لها في دُنْياها وأُخْراها، أمَّا أن يتشرَّدُوا في قراءات أخرى من هنا أو هناك، فإن هذا قد يكون ضررًا عليهم، أمَّا قراءتهم وإشرافنا عليهم من السيرة، فإن هذا لا شَكَّ أنه خيرٌ عظيمٌ سيق إلينا. أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا أن يصلح نيَّاتنا وذريَّاتنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا والمسلمين، وأن يوصلنا دار السلام بسلام، وأن يجعلنا ممَّن يؤتنا الحكمة، وصلَّى الله وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابوالوليد المسلم 01-03-2023 09:22 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (32)
الشيخ خالد بن علي الجريش


أحداث السنة السابعة من الهجرة


الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأسلِّم على مَنْ بَعَثَه الله تعالى رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين، وبعد:
أيها الأكارِم، مرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأفاضل، كان حديثنا في الحلقة الماضية عن الكُتُب والرسائل التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والزعماء خارج الجزيرة العربية، يدعوهم فيها إلى الإسلام، وقد ذكرنا أنه أرسل عليه الصلاة والسلام إلى هرقل وإلى النجاشي، وكذلك أرسل إلى كِسْرى وإلى المقوقس في مصر، وإلى غيرهم، فمنهم من آمن؛ كالنجاشي، ومنهم من كاد أن يسلم ويؤمن؛ كهرقل، ومنهم مَن بقي على غيِّه وضلاله، وختمنا الحلقة بذكر بعض الدروس والعِبَر من تلك الرسائل، وفي حلقتنا لهذا الأسبوع نزدلف إلى أحداث السنة السابعة من الهجرة، فكان من أوائل تلك الأحداث غزوة خيبر، وكانت في آخر شهر الله المُحرَّم من السنة السابعة، وسببها أن خيبر كانت مكانَ تجمُّعٍ لليهود ومركزًا لإثارة القلاقل والفتن، وحيث كان اليهود في خيبر يعتمدون على إمداد قريش لهم، وقد انقطع ذلك الإمداد بحمد الله تعالى في هدنة صلح الحديبية، فتفرَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء اليهود في خيبر بعد ذلك الصلح الذي كان فيه عدم إمداد اليهود، فغزا خيبر وهي ذات حصون ومزارع، وقد وعد الله عز وجل نبيَّه عليه الصلاة والسلام بفتح خيبر؛ حيث يقول الله جل جلاله: ﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا [الفتح: 20]، فلمَّا تجهَّز رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لغزو خيبر جاء الذين تخلَّفُوا عنه في الخروج إلى الحديبية، فلم يأذن لأحَدٍ منهم، وأمر مُناديًا يُنادي ألَّا يخرج معنا إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج معه إلَّا أصحاب الشجرة، وهم ألف وأربعمائة، وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة: ((الْتَمِس لي غلامًا من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر))، فالتمس أبو طلحة رضي الله عنه أنس بن مالك رضي الله عنه، وأنس قد قارب البلوغ، فكان يخدمه، فيقول أنس: كثيرًا ما أسمعه وهو يقول: ((اللهُمَّ إني أعوذ بك من الهَمِّ والحزن، والعجز والكَسَل، والبُخْل والجُبْن، وضَلَعِ الدَّيْن، وغَلَبَة الرجال))؛ رواه البخاري ومسلم، وهذا الذكر عظيم، فما أحوجَنا لحفظه وتحفيظه لأولادنا والدعاء به كثيرًا! فهو علاج لكثير من المشاكل النفسية والاجتماعية والمالية وغيرها.


وفي مسير النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ( كان يُصلِّي عليه الصلاة والسلام وهو في مسيره على الدابَّة)؛ رواه مسلم، والمراد بهذه الصلاة هو النفل وليست الفريضة؛ لأن الفريضة لا تُصلَّى على الراحلة إلا في الضرورة، وأخرج البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسِرْنا ليلًا، فقال رجل لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنياتك? وكان عامر شاعرًا ذا صوتٍ جميلٍ، فجعل يقول من الحداء لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((مَنِ الحادي?))، قالوا: عامر بن الأكوع، فقال: ((يرحمه الله))؛ متفق عليه.


ولما اقترب الجيش من خيبر باتوا قريبًا منها، ثم استيقظوا وصلَّوا الصبح بغلس، ثم ساروا إلى خيبر، ولما أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر قال: ((اللَّهُمَّ رب السماوات وما أظلَلْن، ورب الأراضين وما أقلَلْنَ، ورب الشياطين وما أضلَلْنَ، ورب الرياح وما أذريْنَ، فإنَّا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذُ بِكَ من شرِّ هذه القرية، وشرِّ أهلِها، وشرِّ ما فيها))، ثم أتَوا إليهم مع بزوغ الشمس، وكان اليهود قد خرجوا حينها من حصونهم لمزارعهم ومواشيهم، فلمَّا رأوا جيش المسلمين مُقْبِلًا فزعوا وهربوا إلى حصونهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين))؛ رواه البخاري.


وخيبر في ذلك العهد ممتلئة من الحصون؛ لكن أعظم تلك الحصون هي ثمانية، فأول حصن هاجمه جيش المسلمون هو حصن ناعم، وكان رئيسه مرحب اليهودي، فخرج يُنادي بالمبارزة، فخرج إليه عامر بن الأكوع، فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب على ترس عامر، فلم يُصِبْه، وأراد عامر رضي الله عنه أن يضرب مرحبًا في قدمه ليسقط، فانطلق ذباب سيف عامر عليه، فمات عامر رضي الله عنه، فقال بعض الناس: إنه قَتَل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذب مَنْ قال ذلك؛ إنَّ له لأجرين، إنه لجاهِدٌ مُجاهِدٌ))؛ رواه البخاري، وقد وجد المسلمون شِدَّة قويَّةً عند هذا الحصن، وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الرايةَ لأبي بكرٍ، وقاتل قِتالًا شديدًا، ولم يفتح له، ثُمَّ في اليوم الثاني أعطى الراية لعمر بن الخطاب فقاتل قِتالًا شديدًا، فلم يُفتَح له أيضًا، وظلُّوا تسعة أيام يريدون فتح هذا الحصن فعجزوا عنه، وهو حصن ناعم، وفي ليلة العاشر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأُعطينَّ الرايةَ غدًا رجُلًا يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويُحِبُّه اللهُ ورسولُه، ولا يرجع حتى يُفتَح له))، قال عمر: فما أحببْتُ الإمارة إلَّا يومئذٍ؛ لهذه الفضيلة، وقال بريدة رضي الله عنه: وأنا فيمن أنتظرها، فبات الناس تلك الليلة يدوكون ليلتهم ويتحدَّثون أيهم يُعطاها، فهي فضيلةٌ عظيمةٌ؛ حيث يُحِبُّ الله ورسوله، ويُحبُّه الله ورسوله ويفتح الله عليه، فلما أصبحوا? قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أين عليُّ بنُ أبي طالب?))، قالوا: يا رسول الله، هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فجاء به محمد بن مسلمة يقوده، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له فبرأ تمامًا كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب من حقِّ الله فيه، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم))؛ متفق عليه، فذهب إليهم عليٌّ رضي الله عنه، ومن معه من الصحابة، فأدَّوا ما عليهم تجاه ذلك، فخرج بعد ذلك مرحب بطلب المبارزة قائلًا في أرجوزته:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
شاكي السلاح بَطَلٌ مُجَرَّبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا الليوثُ أقبلتْ تَلَهَّب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يرتجز أيضًا قائلًا:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَلَيْثِ غَابَاتٍ شَدِيدِ الْقَسْوَرَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أوْفِيهم بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فضرب عليٌّ مرحبًا، ففلق رأسه فلقتين فقتله، ثم بعد ذلك افتتح الحصن بعد قتل مرحب، وكان ذلك على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ رواه مسلم.


ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، وطلب المبارزة فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه، فتبارز فقتله الزبير، ثم خرج رجل بعد ذلك من المسلمين وقاتل قتالًا شديدًا مع المسلمين، فكان يقطف الرؤوس من اليهود، فأعجب به الصحابة رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هو من أهل النار))، وقاتل هذا الرجل حتى كثرت عليه الجراح وأوجعته، فاستخرج من كنانته سهمًا فقتل نفسه، فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا، وقال له: ((يا بلالُ، قُمْ فأذِّن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإنَّ الله ليُؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر))؛ متفق عليه.


واشتدَّت مقاومة اليهود في هذا الحصن حتى فتحه المسلمون، فخرج اليهود منه هاربين إلى الحصن الثاني؛ وهو حصن الصعب بن معاذ، وكان هذا الحصن هو الحصن الثاني من حيث القوة والمنعة بعد حصن ناعم، فبدأ الحصار عليه حتى فتحه المسلمون خلال ثلاثة أيام.


أيها الكِرام، ما أجمل الاطِّلاع والقراءة في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكِرام رضي الله عنهم! فهي دروسٌ وشمائل وأحكام وأخلاق وتربية وعلم وعمل، ولعلَّنا نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر مما سبق ذكره على أمل أننا بإذن الله تعالى سنُكمِل في الحلقة القادمة أحداث تلك الغزوة، فمِن الدروس ما يلي:
الدرس الأول: أن المسلمين عندما منعوا من إكمال نُسُكهم في الحديبية كرهوا ذلك كراهةً شديدةً؛ ولكنه كان خيرًا عظيمًا جاء بتلك الصورة فتمَّ فتح مكة وكتابة الرسائل للملوك والزعماء، وكذلك انتشر الإسلام، وأيضًا انقطع إمداد قريش لليهود، وهذه وأمثالها مصالحُ عظيمةٌ، ويُستفاد من ذلك أيضًا درسٌ عظيمٌ؛ وهو عدم كراهية ما يُقدِّره الله علينا، ولو كرهته نفوسُنا، وقد يحصل لأحدنا شيءٌ ممَّا يكرهه؛ ولكن المؤمن الحق يعلم أن ما اختاره الله تعالى هو الخير، فلا تكره ما يُصيبك من قدر الله تعالى ممَّا لا ترغبه نفسك، فقد يكون الخير فيه وأنت لا تعلم، فلا تغرق في الولولة أو الحزن أو التأسُّف عندما يفوتك مرغوبك، فلا تعلم ما في القَدَر، ولا تعلم أين يكون الخير، أمَّا من قدر فوات هذا المرغوب فهو يعلم كل شيء، وهو أرحم بك وأرأف، فعليك بتسليم الأمر لله تعالى، ولا تقلق ولا تحزن.



الدرس الثاني: أن أنَسًا رضي الله عنه عندما خدم النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة كان يلاحظ أقوال النبي عليه الصلاة والسلام وأفعاله، فيستفيد منها، وهذا منهج قويم؛ فعلينا جميعًا كبارًا وصغارًا أننا إذا صحبنا أحدًا من أهل الفضيلة والإيمان أن نستفيد من سلوكهم وأفعالهم وأقوالهم، فقد يثبت في حياتنا عمل صالح نملأ به موازيننا بسبب صحبة فلان، فما أجمل تربية أنفسنا وصغارنا على ذلك! فهذا سلوك تربوي علمي إيماني كبير في القدوة والاقتداء، وعلى الآباء والأمهات الكِرام توجيه أولادهم إلى استحضار ذلك واستثماره، وهو وجه من أوجه التربية على الخير؛ بل أوصي الآباء الكِرام أنهم إذا أرادوا التعامل مع أهل الفضيلة والتربية أن يجعلوا أولادَهم أحيانًا وسيلةً بينهم وبين هؤلاء ليستفيد الأولاد، وإن أمكن توصية الأولاد بالاستفادة، وأيضًا توصية أصحاب الفضيلة بالإفادة، فهذا نور على نور، والله تعالى يهدي لنوره من يشاء.


الدرس الثالث: في سفر النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر للجهاد في فتحها ذكر الراوي أنه كان يُصلِّي النافلة على الدابَّة وهو يسير، وهذه سنة شبه مهجورة في حال السفر عند بعض المسافرين، فإن النافلة تُصلَّى على الدابَّة حال السفر مع السير فيه، ويُومئ المصلِّي برأسه للركوع والسجود كما ورد في حديث ابن عمر، ويُلاحَظ على كثيرٍ من المسافرين أنهم ينشغلون بسفرهم وحديثهم عن تلك السنة، ففي تلك السنة مواضع عظيمة لاستجابة الدعاء، وهي حال السجود، وقد اجتمع مع تلك الحال أيضًا السفر، وهو موضع إجابة، فالإجابة قريبة؛ فلنحافظ على ذلك معاشر المستمعين، فهي مما خفَّ عملُه وعظُمَ أجْرُه وأثره، ولا يُشترَط في تلك السنة استقبال القبلة.



الدرس الرابع: حيث إن الجيش في غزوة خيبر كان مسافرًا من المدينة إلى خيبر، وحيث أرادوا إزالة المَلَل والتَّعَب والكَلَل عنهم، كانوا يرتجزون ببعض الحداء الأشعار، وهذا من المحاسن حتى يزول كلل المسافر وتَعَبُه؛ ولكن هذا مشروط بما هو مباح من الألفاظ والمعاني، وغير مصاحب للمعازف المُحرَّمة والمؤثِّرات الصوتيَّة التي تُشبه المعازف، فكم هو جميل أن يحدو المسافر مع رفاق بحداء يزيل المَلَل والكَلَل، ويفيد سامعيه بمعانيه الجميلة وأدائه الرائع، ومثله الأحاديث الوديَّة بين المسافرين هي مِمَّا تُزيل المَلَل؛ ولكن لا يصحبها شيء من الغيبة أو النميمة أو الكذب أو نحو ذلك، فإن كانت مصاحبة لشيء من آفات اللسان وعلله، فوالله، إنَّ المَلَل والكَلَل أطيب منها وأذكى، وإنَّ ممَّا يزيل المَلَل والكَلَل كذلك مناقشةَ هؤلاء الرفقة خلال سيرهم في سفرهم عن شيء ينفعهم في دينهم ودنياهم، فاجتماعُهم فرصةٌ أن يستفيد بعضُهم من بعض.



الدرس الخامس: قول النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه ((لأن يهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)).


إن مجال دعوة الناس إلى الخير هو ميدان فسيح للتنافس والمنافسة؛ لأن هؤلاء المهتدين على يديك هم رصيدٌ لك في موازينك، ولا تحتقر شيئًا ولو كان يسيرًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ((مَنْ دَلَّ على خيرٍ فله مِثْلُ أجْرُ فاعِلُه))؛ رواه مسلم.


وكلمة ((خير)) هنا نكرة؛ فتشمل الخير كله؛ صغيره وكبيره، وقليله وكثيره؛ ولهذا نماذج كثيرة من الدلالة على الخير، فأحدُهم يقول: عندما كنت في العاشرة من عمري علَّمني أحدُهم سيد الاستغفار، وهو سبب من أسباب دخول الجنة، فكنتُ أُكرِّر سيد الاستغفار كل صباح ومساء مع الأذكار، وقد بلغتُ الآنَ السبعين من عمري وأنا أكرِّره طوال تلك السنين، ويقول الآخر: دلَّني فلان على صيام يوم الاثنين، فبعد تلك الدلالة صمتُه ثلاثين عامًا، وما أزال أصومه، ويقول آخر: أرسل إليَّ أحدُهم رسالةَ جوَّال فيها فضيلة صلاة الضُّحْى، فصليتها بعد تلك الرسالة عشر سنوات وما زلت أُصلِّيها، ويقول الآخر: أقرأ الأذكار الصباحية والمسائية كل يوم وليلة منذ ثلاثين عامًا، علَّمني إيَّاها فلان، ويقول آخر: أقرأ آية الكرسي منذ خمسة وثلاثين عامًا، حفَّظني إيَّاها فلان، فيا بُشْرى هؤلاء وأمثالهم في دلالة الآخرين على الخير، فإن لهم مثل أجورهم.


أخي الكريم، هل فكَّرت أن تجعل لك مشروعًا في هذا الميدان? فما عليك إلا أن تختار الأعمال والأقوال الفاضلة الثابتة مما تيسَّر تنفيذه وعظم أجره، واجعله مشروعًا لك بين أهلك وجيرانك وزملائك، وأيضًا في وسائل التواصُل لديك، فستنهمر عليك الأجور بإذن الله عز وجل وتملأ ميزانك منها، واسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبَّل منك وأن يعينك، ومن أمثلة تلك الأعمال والأقوال ما يلي: ركعتا الضُّحَى، وصلاة الوتر، والتسبيح مئة مرة في اليوم، وأذكار الصباح والمساء، ونحو ذلك مما ثبَتَ في السُّنَّة، فإنهم كثيرون أولئك الذين يعلمون تلك الأعمال؛ ولكنهم يغفلون أو ينشغلون عنها، فإذا خاطبتهم كنت دللتهم على هذا، ونِلْتَ مثل أجورهم، فاجعل ذلك واقعًا عمليًّا لك، فهو تجارةٌ مع الله تبارك وتعالى، وهي رابحةٌ بإذن الله عز وجل ولا تعرف الخسارة.


الدرس السادس: أن قصة هذا الرجل الذي قاتل مع المسلمين ثم قتل نفسه عمدًا قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((هو من أهل النار)) فيه درس عظيم في الثبات على دين الله تعالى، فقد كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ((يا مُقلِّب القلوبِ، ثبِّت قلبي على دينك، وإن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف يشاء))، فلنحرص جميعًا على أسباب الثبات على الدين، ولعلِّي أذكر شيئًا من تلك الأسباب، فمن ذلك ما يلي: أولًا: الدعاء دائمًا بالثبات على دين الله تبارك وتعالى في الدنيا وفي الآخرة، الثاني: مُجالسة الأخيار الذين يُعينونك على الثبات والتمسُّك، ثالثًا: من أسباب الثبات طلب العلم فهو سلاح متين للتعرُّف على الله تعالى وأحكامه وشرعه، الرابع: من أسباب الثبات على الحَقِّ دعوة الآخرين إلى الخير، فهذه الدعوة هي عبارة عن تثبيت لنفسك على الحق الذي هداك الله تعالى إليه، الخامس من أسباب الثبات: إذا رأيت مُبْتلًى فاحمد الله تعالى وادْعُ له ولا تشمت به، فيُصيبك ما أصابه، السابع من أسباب الثبات: عليك بالإكثار من العمل الصالح؛ فهو من المثبتات والمُعزِّزات، الثامن من أسباب الثبات: القراءة عن الضالِّين لتتجنَّب طُرُقَهم، التاسع من أسباب الثبات: تأمُّل وتدبُّر آيات الله تعالى المتلوَّة والمرئية في ملكوت السماوات والأرض، هذه جملةٌ أيُّها الكِرام من أسباب الثبات لنجعلها واقعًا عمليًّا لنا ولأولادنا وأهلنا، فما أحوجنا إليها!


الدرس السابع: أن الشدة يتبعها الرخاء بإذن الله تعالى، وأن العسر يتبعه اليُسْر، إذا كان ذلك كله فيما يرضي الله عز وجل، فالصحابة رضي الله عنهم وجدوا مشقَّةً شديدةً في الحصن الأول من حصون خيبر؛ ولكن الشدة مع الصبر والعمل تزول، وفي هذا درسٌ عظيمٌ بأن الصبر هو مِفْتاح اليُسْر والرخاء، فنوصي شبابنا وأنفسنا بالصبر على الأعمال دُنْيا وأخرى، ولو كانت شاقَّةً على النفس فإن العاقبة حميدة، وذلك بخلاف من لا يصحب الصبر في أعماله، فقد يُخفِّق ويذهب جهده بلا فائدة تُذكَر، فالصبر مِفْتاح للنتائج والمخرجات الطيبة، وإن كان مذاقُه مُرًّا إلا أنه أحلى من العسل في نتائجه ومخرجاته، وعند عملك لأمور دينك أو دنياك خُذْ بهاتينِ القاعدتينِ الآتيتين، وهما: القاعدة الأولى: فكِّر في المكاسب قبل أن تُفكِّر في المتاعب، والقاعدة الثانية: قاوِم ما تكره لتصل إلى ما تحب، اللهم وفِّقْنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وأوصلنا دار السلام بسلام، واغفر لنا ولوالدينا والمسلمين وصلَّى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابوالوليد المسلم 01-03-2023 09:28 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (33)
الشيخ خالد بن علي الجريش





الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الإخوة الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأفاضل أسلفنا الحديث في الحلقة الماضية عن بداية غزوة خيبر؛ في سببها وزمانها وشيء من التفصيل عن الحصون فيها، وأيضًا ذكرنا كيف كان المسير إليها؟ ومتى بدأ القتال فيها؟ وأيضًا ذكرنا كيف وماذا لاقى المسلمون من الشدة في ذلك? وأيضًا كيف كان النصر للمسلمين؟ وختمناها بالدروس المستفادة منها.

وفي حلقتنا هذه ما زال الكلام عن واقع تلك الغزوة التي هي غزوة خيبر، فقد أصاب المسلمين فيها جوعٌ شديدٌ، فروى البخاري ومسلم عن عبدالله بن أبي أوفى أنه قال: (أصابتنا مجاعةٌ يومَ خيبر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصبنا للقوم حُمُرًا خارجة عن المدينة، فنحَرْناها، وإنَّ قدورنا لتغلي إذ نادى منادي الرسول صلى الله عليه وسلم أنِ اكْفَؤُا القدور ولا تطعموا من لحوم الحُمُر شيئًا)؛ متفق عليه، فاستجابوا لذلك رضي الله عنهم وهم على حالة من الجوع، فأكْفَؤا القُدُور ومع شدة الجوع كانت أرضهم أيضا أرضًا وخمة وشديدة الحَرِّ، فصبروا رضي الله عنهم وأرضاهم، ومع توفيق الله تعالى لهم وإعانته إياهم فتحوها حصنًا حصنًا، وكان عدد القتلى من اليهود ثلاثة وتسعين رجلًا، وعدد القتلى من المسلمين خمسة عشر رجلًا، وقد صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا بأنفسهم ولا يحملوا معهم شيئًا من السلاح ولا من غيره، وعند البخاري ومسلم: (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يخرج أهل خيبر سألوه أن يعملوا ويزرعوا فيها ولهم شطر ما يخرج منها)؛ متفق عليه، فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك الشرط، فزرعوا ولهم الشطر وللمسلمين الشطر؛ وقد كان لذلك أثر كبير في حياة المسلمين حتى قالت عائشة رضي الله عنها بعد ذلك لما فتحت خيبر (قلنا: الآن نشبع من التمر)؛ رواه البخاري، وقال ابن عمر رضي الله عنه: (ما شبعنا حتى فُتِحت خيبر)؛ رواه البخاري، وكان مع تلك المجاعة وشدة الحر في زمن غزوة خيبر الشدة في فتح حصون خيبر الثمانية؛ حيث كان اليهود كلما فتح عليهم حِصْن هربوا إلى الحصن الثاني، فلمَّا فُتِح حصن ناعم وهو أكبرُها وأشدُّها ودام ذلك عشرةَ أيَّامٍ اتَّجَه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ، ففتحوه في ثلاثة أيام، ثم فتح حصن قلعة الزبير وفتحوه أيضًا خلال ثلاثة أيام، ثم تتابع المسلمون على الحصون يفتحونها حصنًا بعد حصن بحمد الله تعالى، فظهر عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وقتلوا مقاتلتهم وسبَوا ذراريهم، وبعد ذلك الفتح والمشارطة في البقاء في خيبر على شطر ثمارها، قال عليه الصلاة والسلام لهم: ((نترككم على ذلك ما شئنا))؛ رواه البخاري، ثم أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر بين أهل الحديبية؛ لأن الله عز وجل وَعَدهم إيَّاها، وفي غزوة خيبر جاء أعرابي وأسلم وخرج مع المسلمين إلى خيبر، وكان مع الجيش يحمي ظهورهم، فلمَّا قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم أرسل إلى هذا الأعرابي نصيبه، فلمَّا أتوا به إليه، قال: ما هذا? قالوا: قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم، ثم أخذه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ما على هذا بايعْتُك؛ ولكني بايعْتُك على أن أُجاهِدَ فيرميني سَهْمٌ من ها هنا وأشار إلى حلقه، فأموت وأدخل الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ))، ثم لبثوا وقتًا حتى نهضوا للقتال، فقاتل هذا الرجل حتى قُتِل رضي الله عنه، وأتوا به مقتولًا قد أصابه سَهْمٌ في حَلْقِه حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أهو هو?))، قالوا: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ))، فصلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال في دعائه: ((اللهُمَّ هذا عبدُك، خرج مُهاجِرًا في سبيلك، فقُتِل شهيدًا، فأنا عليه شهيد)).

وروى الإمام أحمد والحاكم (أنَّ رجلًا من أشجع مات فلم يصلِّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقال: ((صَلُّوا على صاحبِكم))، قال الراوي: فتغيَّرت وجوهُ القوم لذلك، فلمَّا رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، قال الراوي: فنظرنا في متاعه فوجدنا فيه خَرَزًا من خَرَز اليهود لا يساوي درهمين، وكان رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو أصابه سَهْمٌ فقتله، فقالوا: هنيئًا له الشهادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كَلَّا والذي نفسي بيده، إنَّ الشَّمْلة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا))، فجاء رجل آخر بشِراك أو شِراكين، وقال: هذا كنت أصبته من المغانم يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((شِراك أو شِراكان من نار))؛ رواه البخاري.

وفي غزوة خيبر قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففرح به النبي عليه الصلاة والسلام فرحًا شديدًا، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أدري بأيهما أنا أُسَرُّ؛ بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر?))، وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا وهو في خيبر مهاجرة الحبشة، وقدم أيضًا الأشعريُّون، وقدم أيضًا الدوسيُّون وفيهم الطفيل بن عمرو الدوسي، وقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى دوس يدعوهم إلى الإسلام، ومكث فيهم حتى قريبًا من سنة خيبر؛ أي: السنة السابعة، ثم قدم بمن أسلم معه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد نزلوا بسبعين أو ثمانين بيتًا من المدينة، فيهم أبو هريرة رضي الله عنه، وكان من سبايا خيبر صفية بنت حيي رئيس اليهود، فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فأسلمت فأعتقها، وجعل عتقها صداقها، وكانت قبل ذلك زوجة لكنانة بن أبي الحقيق أحد رجال كبار اليهود، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجهها أثرًا فسألها عنه، فقالت: كان رأسي في حجر زوجي ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت في المنام كأنَّ قمرًا وقع في حجري، فأخبرته في ذلك فلطمني وقال: هل تتمنين أن تتزوَّجي ملك يثرب? وقالت صفية: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامي من أبغض الناس إليَّ، فقد قتل زوجي وأبي وأخي، فأوضح لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قائلًا: ((إنَّ أباك قلَّب عليَّ العرب، وفعل وفعل))، فقالت: فذهب ما في نفسي، وقد كانت وليمة النبي صلى الله عليه وسلم في زواجه بحفصة هي عبارة عن حيس، وهو طعام مخلوط من السمن والتمر والأقط ونحوها، وقد رجع الجيش إلى المدينة بعد أن غاب عنها شهرًا كاملًا، ففي عودتهم إلى المدينة حدث أحداث، ومن هذه الأحداث ما يلي:
الحدث الأول: أن المسلمين في رجوعهم كلما أشرفوا على وادٍ رفعوا أصواتهم بالتكبير والتهليل، فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارْبَعُوا على أنفسكم- أي: ارفقوا- إنكم لا تدعون أصَمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا بصيرًا، وهو معكم))، وكان عبدالله بن قيس رضي الله عنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلُّك على كنز من كنوز الجنة? لا حول ولا قوة إلا بالله))؛ رواه البخاري.

الحدث الثاني: فوات صلاة الفجر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ساروا ليلة من الليالي في رجوعهم فباتوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: ((اكْلأْ لنا الليل))، فناموا وقام بلال يصلي، ولما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته فنام، فما أيقظَهم إلا حَرُّ الشمس، فاستيقظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((أي بلال))، فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك يا رسول الله، فانتقلوا من مكانِهم إلى مكان آخر فصلوها؛ رواه البخاري.

الحدث الثالث: وصول الجيش إلى المدينة؛ حيث أقبلوا عليها، ولما قربوا من جبل أُحُد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا جبل أُحُد يحبُّنا ونحبُّه))، فلما أشرف على المدينة قال: ((اللهُمَّ إني أُحرِّم ما بين جبليها مثلما حرَّمَ إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مُدِّهِم وصاعِهم، ثم قال: آيبون تائبون عابدون، لربِّنا حامدون))، فلم يزل يقولها حتى دخل المدينة؛ رواه البخاري ومسلم.

أيها الكرام في ختام هذه الحلقة نتطرَّق لبعض الدروس والعِبَر من غزوة خيبر، فمن ذلك ما يلي:
الدرس الأول: عندما حصل الجهد والجوع في غزوة خيبر نحَرَ الصحابةُ رضي الله عنهم بعض الحُمُر الأهليَّة، وذلك قبل تحريمها، فطبخوها وغلَتْ بها القُدُورُ، ثم جاءهم النهي عن أكلها وهم على تلك الحال من التعب والألم والجوع، فاستجابوا مباشرةً، فأكفأوا القُدُور، وهكذا شأن المسلم مع الأوامر والنواهي الشرعية ممتثلًا ومستجيبًا، فيا أخي الكريم، اجعل لك مع نفسك وقفة محاسبة في الأوامر والمنهيَّات الشرعية، فالذي أنْعَم عليك من النِّعَم ما لا تحصيه هو الذي أمرك ونهاك ألَّا تعصيه، فكيف يتمتع بنعمه ذلك العاصي في قلبه أو جوارحه?! ولكن كما استجاب هؤلاء الصَّحْب الكِرام، فلنكن نحن كذلك، فلنا بهم أسوة وقدوة وإيَّاك والاستدامة والإصرار على الذنب؛ فإنه مهلكة إن لم يعْفُ الله عز وجل، فسارِعْ في التصحيح قبل أن يفوت زمانه، فما أحوجنا لذلك!

الدرس الثاني: في قول عائشة رضي الله عنها وابن عمر رضي الله عنهما "إننا بعد فتح خيبر سنشبع من التمر" فيه درس عظيم على توالي النِّعَم علينا في أصناف المأكولات والمشروبات وغيرها، وأن تلك النعم لها قيد يثبتها ويزيدها بإذن الله وهو الشكر بأركانه الثلاثة؛ وهي: الاعتراف بها في القلب، والتحدُّث بها في اللسان، وأيضًا صرف تلك النِّعَم في طاعة المنعم جل جلاله، فطبق تلك الأركان الثلاثة على كل نعمة مهما كانت لتكشف شكرك، هل هو حقيقي أم سراب? فلنعمل على توعية المجتمع في ذلك وهذا المجتمع هو أنا وأنت وأولادي وأولادك، ولنستثمر مجالسنا ووسائل تواصلنا في تلك التوعية؛ لعل الغافل ينتبه، والمسرف يرجع، والعاصي ينيب ويتوب، ومن شكر النعمة التصرُّف الحسن فيما يتبقى من المأكولات في البيوت والمناسبات بأن يصرف في مصارفه المناسبة، ففي مناسباتك اتِّصل على الجمعيات المعنية بذلك، فهم قريبون منك، فيأخذون ما تبقى من وليمتك، وأمَّا في بيتك فاجعل ما تبقَّى في تلك الأواني البلاستيكية وادفعها إلى المحتاجين فهم بانتظارك، أمَّا أولئك الذين يرمون ما تبقَّى من مأكولهم في النفايات العامة والعياذ بالله، فماذا ينتظر هؤلاء مقابل ذلك العمل؟ فيا ليتهم يفقهون ويرجعون.

الدرس الثالث: في خيبر أخذ أحدهم خَرَزًا يسيرًا من المغانم، وأخذ آخر شَمْلة، وأخذ آخر شِراكًا أو شِراكين، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوعيد هؤلاء؛ حيث أخذوا من مال المسلمين ما لا يحِلُّ لهم، والله عز وجل يقول: ﴿ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 161] فالأخذ بغير حق مهما كان المُسمَّى هو يأخذ حطامًا من الدنيا، ربما أنه غني عنه؛ ولكنه ليته يعلم بأنه إذا أخذه فإنه سيرجعه في يوم عصيب شديد تشيب منه الولدان، فما دام أن الأمر كذلك فالعاقل يرجع وينيب، وأمَّا من لم يخف ذلك فالموعد أمامه، وعليه غرمه ولغيره غنمه، فلا تستكثر أخي الكريم بما ليس لك، فإنَّ أمامك قنطرة الحساب يوم القيامة وأنت وحيد عارٍ وليس معك إلَّا حسناتك وسيئاتك، فتمثل ذلك اليوم عندما تأخذ ما لا يحل لك، فرجوعك الآن هو خيرٌ لك من ندمك وحسرتك يوم القيامة.

الدرس الرابع: عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو إلى دوس يدعوهم إلى الله تعالى، ففعل ذلك رضي الله عنه، وأقام عندهم سنين حتى أسلم على يديه المئات والآلاف، ولنكن كذلك نحن في دعوة الآخرين ودلالتهم على الخير، فكُلُّ مَن عمل حسنةً بسببك، فلك مثل أجره، فاستثمر حياتك في ذلك من خلال أهل بيتك وجُلَسائك وزُمَلائك، وأيضًا وسائل التواصُل لديك، ولعلِّي أذكر صورتين من صور كثيرة لا تُحْصى في الدلالة على الخير، فالصورة الأولى: أحدهم دلَّ صاحبه على فضيلة صيام يوم الاثنين من كل أسبوع، فبدأ ذلك المدلول على ذلك يصوم هذا اليوم من كل أسبوع، فيقول هذا الصائم: صمتُ ثلاثين عامًا وما زلت أصوم.

والصورة الثانية: أحدهم دلَّ شابًّا يافعًا لا يتجاوز عمره العاشرة، دلَّه على نوع من الذكر، وهو سيِّد الاستغفار الذي هو أحد أسباب دخول الجنة، فيقول ذلك الشابُّ: حافظت عليه، والآن بلغت السبعين سنة وأنا أُكرِّره كل صباح ومساء، ودلَلْتُ عليه غيري، فهؤلاء لهم مثل أجر ما عمل أولئك، فلنكن مثلهم، فما أجمل أن تجعل لك رصيدًا أخرويًّا في دلالة الآخرين على الخير! والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((مَنْ دَلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجْرِ فاعلِه))؛ رواه مسلم، فاستثمر ذلك حقَّ الاستثمار.

الدرس الخامس: كانت وليمة صفية رضي الله عنها هي عبارة عن حيس وهو التمر والسمن والأقط، وكانت متواضِعةً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعظم النساء بركةً أيسرُهُنَّ مؤونةً)) وإن كانت تلك الوليمة في ذلك الوقت قد تتناسب نوعًا ما مع قلة ذات اليد؛ لكن الرسول عليه الصلاة والسلام قادر على أن يضع أكثر من ذلك؛ لكنه القدوة والأسوة عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة، وقد انفتحت الدنيا على الناس في وقتنا الحاضر بمآكلها ومشاربها بحمد الله عز وجل إلا أن حكم الإسراف هو باقٍ إلى قيام الساعة، وأنه مُحرَّم ومذموم، وأنه ليس من علامات البركة، فعلى أصحاب الولائم والأفراح الكِرام أن يجتهدوا في التقدير، وقد يزيدون قليلًا؛ لكن ما نراه اليوم هو نوعٌ من الإسراف في كثير من الأفراح والمناسبات، ويا ليت من أسرف كفر عن إسرافه بالمحافظة على ما تبقَّى، ويتم صرفه بعناية في مصرفه الصحيح بطريقة أو بأخرى، وليعلم صاحب الوليمة أنَّ ما بيده من المال ليس هو حُرَّ في التصرُّف فيه؛ بل هو على أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وقد نهى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الإسراف، والمال مال الله فاتقوا الله في مناسباتكم، ومِمَّا يُنبِّه عليه في المناسبات كثرةُ المقبلات التي قبل الولائم التي هي في حقيقتها كأنها وليمة، فهناك أكباد جائعة، وأجساد عارية، وديون باهظة، فلنحمد الله تعالى ونتَّقيه ونشكُره على ما أعطانا؛ ولكن في مناسباتنا نجعلها على أمر الله ورسوله، فهو أعظمُ بركةً وأقربُ إلى السُّنَّة.

الدرس السادس: أن المسافر قد يُصيبه المَلَل والتَّعَب والكَلَل من خلال سفره، فإشغال نفسه بذكر الله عز وجل أحيانًا هو ممَّا يزيل ذلك الكَلَل والتَّعَب كما كان حال الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته رضي الله عنهم، فكانوا إذا علوا نشزًا كبَّروا، وإذا نزلوا واديًا سبَّحوا، وكانوا يذكرون دعاء السفر، ويُصلُّون النافلة على الراحلة، وغير ذلك من العبادات والأذكار المطلقة والمقيَّدة، وهكذا كان حال رجوعهم من غزوة خيبر، فيا أخي المسافر، اجعل لك نصيبًا في طريقك من ذكر الله تعالى بأنواعه، فهو يسيرٌ في تنفيذه وعظيمٌ في أجره، فالكلمات الأربع: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، هي أحَبُّ الكلام إلى الله تعالى وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام بعد القرآن، فكرِّرها، وأيضًا لا تَنْسَ أن تدعو في سَفَرِك، فأنت في ساعةِ إجابةٍ، وهذه الأذكار كما أنها تزيل عنك التعب، فهي أيضًا تدخل عليك البهجة والسرور، وأيضًا تملأ ميزانك من الخير، وأيضًا كذلك صلِّ من النوافل ما كتب الله تعالى لك أن تصلي، فما أجملها من حال وسكينة وطُمَأْنينة، وعتابًا ثم عتابًا آخر على من اشتغل في سفره في غيبة أو نميمة أو سماع ما لا يحِلُّ سماعُه، نعوذ بالله من ذلك، ولنعلم أن القضية توفيق وحرمان وثواب وعقاب، فاختر منها ما ينفعُك.

الدرس السابع: في رجوعهم من غزوة خيبر ناموا عن صلاة الفجر، وهذا النوم هم معذورون فيه؛ لأنهم جعلوا مَن يوقظهم؛ ولكن نام هذا الموقظ لهم وهم وضعوا أسبابًا للاستيقاظ؛ لذلك كان نومهم عن عذر، أمَّا من ينام عن صلاة الفجر ويصليها خارج وقتها بنوم لا يعذر فيه حيث لم يتخذ الأسباب الممكنة للاستيقاظ، فهذا لا يُعذَر بنومه هذا، ورُبَّما بعضهم تعمَّد وجعل المُنبِّه على وقت الضُّحَى، فإذا استيقظ صلَّى ثم ذهب إلى عمله، فهؤلاء إن لم يتوبوا ويرجعوا فهم على خطرٍ عظيمٍ؛ لأن تلك الصلاة هي على غير وقتها، فلا تقبل كمن حجَّ في غير وقته، أو صام رمضان في غير وقته من غير عذر، فليتدارك هؤلاء أمرهم قبل أن يلقَوا ربَّهم وهم على تلك الحال والعياذ بالله.

الدرس الثامن: إن ممَّا يُقال في الرجوع من السفر دعاء السفر، فكما قاله عند ابتداء السفر، فهو أيضًا يقوله إذا ابتدأ الرجوع من السفر، وكذلك إذا أقبل على بلده قال: ((آيبون تائبون عابدون، لربِّنا حامدون))، فلنحرص على التمسُّك بسُنَّة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

إن هذه الدروس والعِبَر أيها الكِرام ينبغي أن تُؤخَذ بعناية، وأن تكون سلوكًا لنا حتى نعمل على ما يُرضي الله تعالى ويُرضي رسولَه عليه الصلاة والسلام، فهكذا كانت السيرة تُصحِّح المفاهيم، وتُعلِّم الجاهلين، وتُربِّي الناس على سُنَّة نبيِّهم عليه الصلاة والسلام، فما أحْرَانا أن نتعرَّف على سيرته صلى الله عليه وسلم، وأن نقرأ فيها، وأن نستلهم منها الدروس والعبر! حتى نكون مقتدين به عليه الصلاة والسلام.

أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الهدى والتُّقى والسداد والرشاد والعفو والعافية والصلاح والإصلاح في النيَّة والذُّريَّة، وصلَّى الله وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابوالوليد المسلم 01-03-2023 09:30 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (34)
الشيخ خالد بن علي الجريش



أحداث وقعت بعد غزوة خيبر



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأسلِّم على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.


أيها الأكارم، مرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين، وقد أسلفنا في الحلقة الماضية الحالة الشديدة من الجوع والجهد الذي أصاب المسلمين في غزوة خيبر، وأيضًا ذكرنا كيف وفَّقَهم الله تعالى للنصر مع تلك الحال، وذكرنا أيضًا كيف فتحوا تلك الحصون لليهود على شِدَّتها، وذكرنا أيضًا كذلك قدوم مهاجري الحبشة على النبي عليه الصلاة والسلام في خيبر، وأيضًا ذكرنا كيف فرح النبي صلى الله عليه وسلم بقدومِهم مع انتصاره على أعدائه، وذكرنا كذلك الأحداث التي حصلت في رجوعهم إلى المدينة، ثم ختمنا الحلقة بالدروس والعِبَر المستفادة منها، ونزدلف أيها الكِرام في حلقتنا هذه إلى أحداث كانت بعد خيبر، ومنها غزوة ذات الرقاع، وهذه الغزوة اختُلِف في تاريخها؛ فقال بعضهم: هي في الرابعة من الهجرة، وقال آخرون: هي في الخامسة، والصحيح الذي عليه أكثرُ أهل العلم أنها في السابعة بعد خيبر، كما ذكر ذلك في صحيح البخاري، وأيضًا كذلك ذكره ابن كثير وابن القيم وغيرهما، وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن جموعًا من اليهود قد أجمعوا على حربه عليه الصلاة والسلام، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة من أصحابه حتى وصل إليهم، فهرب رجالهم على رؤوس الجبال، وبقي النساء، فأخذهن سبيًا، ثم خاف المسلمون أن يُغِيرَ هؤلاء اليهود عليهم، وقد حضرت الصلاة فصلَّى بهم صلاة الخوف، ومكثوا هناك صولات وجولات لمدة خمسة عشر يومًا، ولم يُقتَل بحمد الله أحدٌ من المسلمين، ورجعوا منتصرين بهذا السَّبْي من النساء، وكان مع السَّبْي امرأة وضيئة لرجل من اليهود؛ ففي صحيح البخاري (أن هذا الرجل كان غائبًا فلمَّا رجع بعد انصراف المسلمين بالسَّبْي ومعهم زوجته أقسم أن يَلحَق بالمسلمين فيمسك بزوجته أو يصيبهم بدم وقتل، فخرج يتبع أثرهم، وكان المسلمون قد نزلوا بشعب من الشعاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رجل يكلؤنا ليلتنا هذه؟)) فقال عمار بن ياسر وعباد بن بشر: نحن يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فكونا على فم الشعب))، فخرج الرجلان إلى فم الشعب، فقال عباد لعمار: أي الليل تريد أوَّله أو آخره؟ فقال عمار: آخره، فاضطجع عمَّار فنام أول الليل، وقام عبَّاد رضي الله عنهما يُصلِّي، فوصل الرجل زوج المرأة إلى الشعب، فلمَّا رأى سواد عباد علم أنه حارسُهم، فرماه بسهم فأصابه، فانتزعه عباد من جسده، فرماه الرجل بسهم ثانٍ فانتزعه عباد من جسده، فرماه الرجل بسهم ثالث فانتزعه كذلك عباد، ثم ركع وسجد فأنهى صلاته، وأيقظ عمارًا، فقال: قم، فلمَّا رأى زوجُ المرأة عمارًا قد قام عرَف أن القوم علموا به، فهرب، فقال عمار لعباد: سبحان الله! أفلا أيقظتني أول ما رمى؟ فقال عباد: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها؛ رواه البخاري في صحيحه.


ومن الأحداث التي حدثت بعد خيبر ما ورد عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم؛ وهو مرداس بن ناهيك، فلما غشيناه قال الرجل: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا المدينة بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: ((يا أسامة، أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟))، قلت: يا رسول الله، إنما قالها متعوذًا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((فهلا شقَقْتَ عن قلبه حتى تعلم أنه إنما قالها فَرَقًا من السلاح، كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)) وأخذ يُكرِّرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أسامة رضي الله عنه: تمنيتُ أنِّي لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم؛ متفق عليه، وقال أسامة بعد ذلك: أعاهد الله ألا أقاتل أحدًا يشهد أن لا إله إلا الله؛ ولذلك تخلَّف أسامة عن موقعتي الجَمَل وصفِّين، وكان سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه يقول: لا أُقاتِل أحدًا حتى يقاتله أسامة، وفي نهاية السنة السابعة في غرة ذي القعدة أحرم المسلمون لعمرة القضاء، والمراد بالقضاء ليس هو قضاء عمرة الحديبية؛ لأنها لم تكن قد فسدت، فقد حلوا منها بالحلق والنَّحْر؛ لأنهم أحصروا؛ ولكن المراد بالقضاء- وتُسمَّى أيضًا عمرة القضية- هو ما وقع من المقاضاة بين المسلمين والمشركين الذي وقع في الحديبية السنة السادسة، فقد اتفقوا على عدة شروط، ومنها أن يعتمروا من قابل عمرة أخرى وليست بديلةً عن الأولى، فلو قلنا بديلة؛ لكانت الأولى فاسدة؛ ولكنها لم تفسد، فقد فعلوا الواجب عند الإحصار وهو الحلق والنحر؛ فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك العمرة الأخرى ولم يتخلَّف عنه أحد ممن شهد الحديبية إلَّا مَن توفي، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بألفين سوى النساء والصبيان، وساق النبي صلى الله عليه وسلم معه ستين بدنة، وحمل معه السلاح والرماح والدروع؛ خوفًا من غدر المشركين، فلما وصل إلى ذي الحليفة أحرم ولبَّى ولبَّى معه المسلمون، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه أن يتقدَّم بالخيل والسلاح إلى مَرِّ الظهران، وهو مكان بين مكة وعسفان؛ وذلك لاستقبالهم هناك، فلمَّا وصل محمد بن مسلمة إلى مَرِّ الظهران وجد فيها نفرًا من قريش، فسألوا محمد بن مسلمة عن ذلك فقال: إنَّ محمدًا عليه الصلاة والسلام يُصبِّحكم غدًا في هذا المكان، فخرج هؤلاء النفر إلى قريش فأخبروهم، فلمَّا وصل النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه إلى مَرِّ الظهران، ومكثوا فيه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نحرنا من أظهرنا شيئًا وأكلناه لنقدم مكة شباعًا، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمعوا أزوادهم بدل أن ينحروا ظهورهم، فجمعوها فدعا بالبركة فيها فأكلوا وشبعوا، وأخذوا الفضلة معهم، ثم ساروا حتى قربوا من مكة، فبعثت قريش مكرز بن حفص، فقابل النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة بقليل، فحدَّثه عن مجيئه، فعلم مكرز أنه جاء معتمرًا، فرجع إلى قريش، فأخبرهم بذلك، وأنه الشرط المشروط في صلح الحديبية، وقد أشيع في مكة أن أهل المدينة أصابتهم الحُمَّى، فخرج كثيرٌ من أهل مكة إلى الجبال المحيطة بالمسجد الحرام حتى لا تُصيبهم العدوى من تلك الحُمَّى، فلمَّا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالرمل في الطواف؛ وهو الإسراع بالخطى مع تقارُبها، فلمَّا رأى المشركون ذلك النشاط منهم، قال بعضهم لبعض: ليس فيهم من حُمَّى، هؤلاء كأنهم الغزلان، وعند دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة يقول عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (سترناه وحرصناه من المشركين وغلمانهم أن يؤذوه، وقد صف المشركون صفوفًا ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدخل المسجد الحرام مُلبِّيًا ومن معه بقوة ونشاط، فلمَّا اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه جلسوا ثلاثة أيام، فلمَّا انقضت الثلاثة أيام جاءت قريش إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقالوا: أخرج عنا صاحبك فقد مضى الأجل الذي بيننا وبينه، فذكر عليٌّ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((نعم)) فخرج)؛ رواه البخاري.


وهكذا أتمَّ الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام ولأصحابه العمرة، قال ابن هشام: فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 27]، وهو فتح خيبر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في دخوله إلى مكة سأل عن خالد بن الوليد، فقال: ((أين خالد؟)) وكان أخوه الوليد بن الوليد ممَّن اعتمر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب الوليد لأخيه خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عنك، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما مثله جهل الإسلام))، وكان خالد قد خرج من مكة كراهية للنبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، فلمَّا اطَّلع خالد على الكِتاب وقَعَ الإسلامُ في قلبِه؛ فأسلم رضي الله عنه قبيل الفتح.


أيها الكرام، في ختام تلك الحلقة أذكر شيئًا من الدروس والعِبَر المستفادة مما سبق، ومنها الدروس التالية:
الدرس الأول: في قصة عباد بن بشر وصلاته أثناء حراسته للصحابة رضي الله عنهم أخذ يصلي، فضُرِب بالسهام فصبر، وأقبل على صلاته، وهذا يعطينا درسًا عظيمًا في المحافظة على روح الصلاة وعلى لُبِّها وهو الخشوع، فهو متلذِّذ من جهة ومُعظِّم لها من جهة أخرى أن يقطعها، فإذا كان هذه حاله في الحرب، فكيف بحاله في السلم؟!


فيا أيها الكرام الأفاضل، هل من عودة حازمة وجازمة في حضور القلب في الصلاة وعدم الاسترسال مع الخواطر والأفكار؟ ولنعلم جميعًا أن الشيطان هو من سيضيع تلك الصلاة في هذه الخواطر، فكن أخي الكريم ذا حزمٍ وعزمٍ في محافظتك على صلاتك، واعلم أنه لا يُكتَب لك إلَّا ما حضر قلبك فيه منها، فهذا المكان الصغير الذي تُصلِّي فيه، والذي لا يتجاوز مترًا في نصف متر، هو ميدان الجهاد بينك وبين الشيطان في الصلاة في المحافظة عليها أو تضييعها، فالحزمَ الحزمَ والعزمَ العزمَ على الاجتهاد في خشوعنا في صلواتنا، وأمَّا في انتقاص الصلاة سيُقال يوم القيامة: ((انظروا هل لعبدي من تطوُّع؟)) فعليك بالإكثار منها لعلها تكون مُتمِّمة، وكلٌّ أعلم بحاله في صلاته.


الدرس الثاني:في قتل أسامة بن زيد رضي الله عنه للرجل الذي قال: "لا إله إلا الله" عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يُعطينا قاعدةً عظيمةً اجتماعيةً وشرعيةً ونفسيةً وتربويةً، وهي أنك تتعامل مع الناس حسب ظواهرهم، وتترك البواطن إلى الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((أشققت عن قلبه؟)) فلو أن الناس تعاملوا بتلك القاعدة، لزال كثير من المشاكل بأنواعها، وإنَّما الواقع عند البعض- وربما أنهم قلة ولله الحمد- أنهم يظنُّون ظنونًا أخرى بالآخرين، والله عز وجل يقول: ﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12] فسلموا رحمكم الله صدوركم ولا تُنقِّبوا عن البواطن؛ فذلك أزكى لكم وأربح وأنجح، أمَّا من تابَعَ الظنون السيئة فهو المتضرِّر الأول سلوكًا وسوءًا، فالأخذ بالظواهر هو الأيْسَر في الأفعال والأقوال، وأيضًا في سلامة الصدور ونقاء القلوب، وليس لذلك توابُع سيئة، أمَّا من كان غير ذلك فهو من سوء إلى سوء ولن تنتهي مشاكِلُه عند حدٍّ؛ بل هي تتكاثر وتتفرَّع.


الدرس الثالث: في قصة قتل أسامة لهذا الرجل حصل ذلك التأثُّر الكبير من أسامة رضي الله عنه، فعندما كرَّر عليه النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشقَقْتَ عن قلبه؟)) تأثَّر رضي الله عنه وأرضاه، ونحن في هذه القرون المتأخِّرة ها هي سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم نقرؤها ونسمعها، فهل المخالفون لها يتأثَّرون كما تأثَّر أسامة؟ فهي تُقرأ عليهم وهم يقرؤونها، فالمُسبِل لثوبه مثلًا يقرأ ويسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام ((ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار))؛ رواه البخاري، وأيضًا كذلك النمَّام يسمع ويقرأ قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنَّةَ نمَّام))، وأيضًا كذلك التارك لصلاته يقرأ قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمَنْ تَرَكَها كَفَر))، وهكذا جميع المنهيات، فلنتأثَّر عند المخالفة أسوةً بهؤلاء الصَّحْب الكِرام حتى تمنَّى أسامة رضي الله عنه أنه لم يسلم إلَّا اليوم، وإن هذا التأثُّر له أثره الإيجابي على السلوك، وإيَّاك أخي الكريم واستدامة المعصية أيًّا كانت، فهي سبب لملء كِفَّة السيئات، وربَّما حصل في القلب الران؛ وهو تتابُع الذنوب على القلب، واعلم أن السيئة تجُرُّ أختها كما الطاعة تجُرُّ أختها، فلنحذر من سيئات أعمالنا، ولنعمل أيضًا على تكفيرها ومحوها.


الدرس الرابع: فيه بركة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه؛ حيث جمعوا ما تبقَّى من طعامهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة فيه، فأكلوا وشبعوا، وبقي شيء كثير، وإن كان ذلك استجابة من الله تبارك وتعالى لدعاء نبيِّه عليه الصلاة والسلام، وبركة في هذا النبي الكريم، فنقول أيضًا: ممَّا يساهم في بركة الطعام أن يجتمع الناس عليه؛ ولذلك لما سأل بعضُ الصحابةِ النبي صلى الله عليه وسلم إنهم يأكلون ولا يشبعون، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لعلَّكم تتفرَّقون))، فقالوا: نعم، فأمرهم بالاجتماع، فإن الاجتماع على الطعام سببٌ ايجابيٌّ في كفايته لهم بإذن الله تعالى وحلول البركة فيه.


الدرس الخامس: لقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن خالد بن الوليد في عمرة القضاء، وكان ذلك قبل إسلامه رضي الله عنه، وكان خالد قد خرج من الحرم كراهيةً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلمَّا سمع الوليد ذلك وهو أخ لخالد سمع ذلك السؤال فبلَّغَه أخاه خالدًا، فكان ذلك سببًا في إسلام خالد، فكم هو جميل أننا في مناسباتنا نسأل عن الغائب ونطمئنُّ عليه، فإن هذا السؤال سيبلغه وسيزيد من الأُلْفة بيننا خصوصًا إذا رافق ذلك السؤال إرسال السلام أو المهاتفة ونحو ذلك، فهو نور على نور، وسلوك يوجب التآلف والتكاتُف، ومثل ذلك إذا ذكر فلان في المجلس فلنذكر إيجابيَّاته، فإن هذا سيبلغه فتزيد الأُلْفة والمحبَّة، وهذه سلوكيات طيبة يدعو إليها الإسلام وهي من محاسنه.


الدرس السادس: إذا وصل المعتمر إلى مكة فإن الأفضل له أن يبدأ بالعمرة مباشرةً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُؤجِّلها؛ لكن إن كان متعبًا وقد لا يؤدي العمرة بارتياح وطُمَأْنينة، فله تأجيلها إلى الغد، ويبقى على إحرامه، وسبب ذلك؛ لأن النظر إلى ذات العبادة أفضل من النظر إلى زمانها ومكانها، ومثال ذلك صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في المسجد من حيث المكان؛ لكن إن كان يحصل على المصلي بصلاته لها في البيت انشغالٌ وذهولٌ بينما في المسجد أخشع، فصلاتُه لها في المسجد أفضلُ، وهكذا باقي النوافل، أمَّا الفرائض المحدَّدة بوقت معين فلا تُؤخَّر عن وقتها ويُؤدِّيها المسلم حسب قدرته وطاقته، وهذا كله من أجل أن تُؤدَّى العبادة بخشوع وطُمَأْنينة وحضور قلب.


الدرس السابع: في قتل أسامة للرجل الذي قال: "لا إله إلا الله" عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم عتابًا شديدًا، وتأثَّر أسامة أيضًا رضي الله عنه تأثُّرًا بالغًا وهو يظنُّ أن هذا الرجل غير مسلم، فكيف بمَن يقتل المسلم عمدًا، أو رُبَّما حصل شجار وخصام ثم تماسُك بالأيدي؛ فأغوى الشيطان أحدهما على قتل صاحبه بضربة يظنُّ أنَّها لا تقتله؛ لكنها قتلته، فإن كان العتاب على فعل أسامة وهو في الجهاد، فكيف بهذا الفعل في إغواء الشيطان بخصومة ربما على أشياء تافهة لا تستحق الذكر، فيا ليتنا جميعًا قبل أن نفعل أو نقول شيئًا نتفكَّر في العواقب والمآلات، فإنها قد تكون وخيمةً وشديدةً على أشياء يسيرة يندم صاحبها أشد الندم؛ فلنحذر ذلك أشد الحذر، فإن الخصومة والشجار قد يبدآن صغيرين ثم يكبران وينموان من كلا الطرفين، والشيطان يؤزُّهم أزًّا، ثم يقع ما لا تُحمَد عُقْباه.


فيا أخي الكريم، كُنْ عاقِلًا حكيمًا حتى في خصومتك، واستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، فإنَّه أصلح وأفلح لك في دُنْياك وأُخْراك، وما أجملَ الحكمةَ والعقل حتى في الخصومة! وما أجمل أيها الأخوة في أفعالنا وأقوالنا أن ننظر إلى مآلات الأمور! لا نستحضر اللحظة الحاضرة التي نعيشها الآن، وإنما ننظر ونتأمَّل ونتفكَّر فيما هو قادم، وفي نهايات الأشياء، فإن الأشياء قد تكون في لحظتها الحاضرة أمرًا سهلًا؛ لكنها في مآلاتها وعواقبها شيء شديد، فلنكن أيها الكرام على مستوى التفاعُل والحكمة مع هذه السيرة النبوية مقتبسين منها ما يفيدنا قولًا وفعلًا تربيةً لأولادنا وذلك بقراءتها والاطِّلاع عليها والمناقشة فيها، وأيضًا كذلك سماع كلام أهل العلم فيها، فإن هذا أيها الأخوة يُؤصِّل عندنا قاعدةً عظيمةً؛ وهي أن نتعامل مع أنفسنا ومع غيرنا سواء من الأقربين أو الأبعدين أن نتعامل حسب ما تُمْليه علينا تلك السيرة العَطِرة لا على ما تُمليه أهواؤنا ونفوسنا، فإن نفوسنا قد تُخْطئ وتُصيب، أمَّا هذه السيرة فهي سيرة المعصوم عليه الصلاة والسلام، وهو قدوتنا، والله عز وجل يقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]، اللهُمَّ إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة لنا ولجميع المسلمين، اللهُمَّ أوصلنا السلام بسلام، ووفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رِضاك، وصلَّى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



ابوالوليد المسلم 01-03-2023 09:32 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (35)
الشيخ خالد بن علي الجريش





أحداث السنة الثامنة من الهجرة


الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد أسلفنا في الحلقة الماضية الحديث عن غزوة ذات الرقاع، وعن مشروعية صلاة الخوف فيها، وأيضًا عن مواقف عظيمة مُشرِّفة للصَّحْب الكِرام رضي الله عنهم في تلك الغزوة، وعرَّجنا أيضًا على حديث أسامة رضي الله عنه في قتل الذي قال: "لا إله إلا الله"، وذكرنا ملابسات ذلك الحَدَث، ثم ختمنا الحلقة بقصة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في إحرامهم لعمرة القضاء، مستلهمين من ذلك عددًا من الدروس والعِبَر من تلك الأحداث الجليلة، وفي حلقتنا هذه نذكر شيئًا من أحداث السنة الثامنة من الهجرة، فمن هذه الأحداث إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة رضي الله عنهم، ففي شهر صفر من السنة الثامنة من الهجرة قدم خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة وعمرو بن العاص رضي الله عنهم إلى المدينة؛ ليسلموا، فلمَّا رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها))، ففي مسند الإمام أحمد وغيره بسند حسن أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما انصرف من الأحزاب قال: جمعت رجالًا من قريش كانوا يرون مكانتي فيهم، ويسمعون منِّي، فقلت لهم: إني رأيت رأيًا فماذا ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت? قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي في الحبشة، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومِنا فنحن عند النجاشي وتحت ولايته، فهو أحَبُّ إلينا من محمد، وإنْ ظهر قومنا على محمد لحقنا بهم وأصبنا خيرًا، فقالوا: إنَّ هذا لهو الرأي الرشيد، فقلت لهم: اجمعوا شيئًا نهديه إلى النجاشي حال قدومنا عليه، فلمَّا قدمنا عليه أهديناه وحدَّثناه، فإذا هو يدخل عمرو بن أمية الضمري أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي في شأن جعفر وأصحابه، فكلَّمه ثم خرج من عنده، يقول عمرو: فخرجنا، ثم استشرت أصحابي في قتل هذا الرسول، وهو عمرو بن أميَّة، فشجعوني على ذلك فرجعت إلى النجاشي وقلت: أيها الملك، إنَّ هذا الرجل الذي خرج من عندك هو رسول رجل عدوٍّ لنا، فأذن لي لأقتله، فغضب النجاشي غضبًا شديدًا، يقول عمرو: فشقَّ ذلك عليَّ كثيرًا، ثم قال النجاشي: أتسألني قتل رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي لموسى؛ ولكن أطعني يا عمرو واتِّبِعْه؛ فإنه والله لعلى الحقِّ، وليظهرن على مَنْ خالفَه، فلمَّا قال النجاشي ذلك لعمرو انشرحَ صدرُ عمرو للإسلام، فترك أصحابه وخرج عامدًا إلى المدينة؛ ليُسْلِم، يقول عمرو: فلقيت خالد بن الوليد وهو خارج من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان? فقال خالد: والله لقد استقام الطريق، وإن هذا الرجل لنبيٌّ حقًّا، فسألحق به لأسلم، فقال عمرو: والله، ما جاء بي إلا هذا، قال عمرو: فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدنا منه خالد فأسلم، وشهد شهادةَ الحَقِّ، وأمَّا أنا فدنوت وقلت: إني أُبايعك على أن يغفر لي ما تقدَّم من ذنبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عمرو، بايع فإن الإسلام يجُبُّ ما كان قبله، وإنَّ الهجرة تجُبُّ ما كان قبلها))، قال فبايعتُه ثم انصرفت، فلما أسلم خالد وهو من هو في الشجاعة والقوة، وأسلم أيضًا عمرو بن العاص وهو من هو في الدهاء والذكاء والفطنة أسلم الناس بإسلامهما.

وروى مسلم في صحيحه أن عمرو بن العاص بعد إسلامه قال: ما كان أحدٌ أحَبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجَلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئلت أن أصِفَه ما أطقتُ؛ لأنِّي لم أكن أملأ عيني منه، وأمَّا خالد بن الوليد رضي الله عنه، فكان من قصة إسلامه أنه قال: كنت أعرف محمدًا أنه سيظهر على العرب والعجم، وما زلت أُعاديه وأحبُّ قتله حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في عمرة القضاء، فخرجت أنا مع خيل المشركين وتعرَّضْتُ له مرارًا لأقتله؛ ولكنه يصرف عنِّي، فقلت: الرجل ممنوع ومحروس، فلمَّا صالح قريشًا في الحديبية على الشروط المعروفة، ففكرت في الخروج إلى النجاشي أو إلى هرقل أو غيرهما فأتلبس باليهودية أو النصرانية، فبينما أنا على ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء، فتخلَّفت ولم أشهد دخوله بغضًا له، وكان أخي الوليد بن الوليد قد أسلم ودخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبني أخي فلم يجدني، فكتب إليَّ كتابًا يقول فيه: إني لم أرَ أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وأنت مَنْ أنت? وهل مثلك يجهل الإسلام، وقد سألني عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أين خالد?))، فقلت: يأتي به الله، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ما مثله يجهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته مع المسلمين على المشركين لكان خيرًا له، ولقدمناه على غيره))، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك وقد فاتك مواطن صالحة كثيرة، قال خالد: فلما قرأتُ كتابه زادني ذلك رغبةً في الإسلام، ورأيتُ أيضًا كذلك في المنام كأني في بلاد ضيقة جدبة، فخرجتُ إلى بلاد خضراء واسعة، فقلت: إنها لرؤيا حق، فذكرتُ تلك الرؤيا للمفسِّرين فقالوا: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، وأمَّا الضيق فهو الشرك، فأجمعتُ نفسي على الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت صفوان بن أمية، فأشرت عليه بصحبتي إلى محمد، فأبى أشدَّ الإباء فافترقنا، فلقيت بعده عكرمة بن أبي جهل، فقلت له بالصحبة، فأبى كذلك أشد الإباء، فذهبت إلى منزلي فارتحلت راحلتي، فلقيت عثمان بن أبي طلحة، فذكرت له الصحبة، فأسرع الإجابة، فاتفقنا على الخروج من مكة بوقت مختلف، وكان موعدنا مكانًا يُقال له يأجج، وهو على بعد من مكة بثمانية أميال، فمن أتى قبل صاحبه فلينتظره، فالتقينا فجرًا في يأجج، ثم غدونا إلى المدينة، فلقينا عمرو بن العاص على راحلته، فقال: مرحبًا بالقوم، ما الذي أخرجكم؟ قلنا: أخرجنا الدخول في الإسلام، قال عمرو: وهذا الذي أخرجني، قال خالد: فاصطحبنا جميعًا حتى دخلنا المدينة، فأنخنا ركابنا بالحرة، فجاء مَنْ أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، ففرح بنا، فلبست من صالح ثيابي، ثم قصدت الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقيت أخي الوليد، فقال: أسرع، فقد جاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومك وأصحابك، فهو ينتظركم، فأسرعنا المشي، فلمَّا رأيته فإذا هو يبتسم إليَّ منذ أن رآني حتى وقفتُ عليه وهو يبتسم، فسلمت عليه، فرَدَّ عليَّ السَّلام بوجْهٍ طَلْق، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلًا رجوت ألا يسلمك إلَّا إلى خير))، فطلب خالد رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بالمغفرة عمَّا مضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإسلامُ يجُبُّ ما كان قبله))، وقال خالد بعد إسلامه بسنين: لقد منعني كثيرًا من قراءة القرآن الجهاد في سبيل الله، وكان إسلام هؤلاء الثلاثة في أوائل السنة الثامنة من الهجرة، وأسلم بإسلامهم خلقٌ كثيرٌ، فهؤلاء منهم من اتصف بالشجاعة والقوة؛ كخالد بن الوليد، ومنهم أيضًا من اتصف بالفطنة والذكاء والدهاء؛ وهو عمرو العاص، وأيضًا عثمان بن طلحة كان يملك مفتاح الكعبة، فبعد إسلامهم أسلم بإسلامهم خلق كثير، وفي هذه السنة نفسها أيضًا السنة الثامنة نزل تحريم الخمر التحريم القاطع، وقد كان تحريمها على مراحل: الأولى: هي في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ [النحل: 67]، فكأنَّ الآية جعلت السَّكَر غير الرزق الحسن، ثم المرحلة الثانية في تحريك الوجدان بقول الله تعالى: ﴿ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 219]، وهذا يُوحي بأن الترك هو الأحسن، والمرحلة الثالثة: حرمت في وقت الصلوات الخمس، وهي خمسة أوقات، وأيضًا متقاربه في قوله تعالى: ﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43]، ثمَّ جاءت المرحلة الرابعة حيث تهيَّأت النفوس للتحريم النهائي، وهي قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90] الآيات، فقالوا: انتهينا انتهينا، ثم سكب الصحابة رضي الله عنهم ما عندهم من الخمور على اعتياد بعضهم عليها، فما أحسن استجابتهم وأطوعها وأتمَّها رضي الله عنهم وأرضاهم!

أيها الكِرام، لعلَّنا نختم حلقتنا تلك ببعض الدروس والعِبَر، ونستكمل سردنا التاريخي في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فمن هذه الدروس والعِبَر الدروس التالية:
الدرس الأول: حسن استثمار المكان والمكانة وتسخيرها في الدعوة إلى الله تعالى، فالنجاشي لما كان في مكانه بالحبشة وبمكانته الكبرى فيها، وجاء إليه عمرو بن العاص قبل إسلامه أرشده النجاشي إلى اتِّباع النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقال له: إنه على الهدى؛ فكانت الشعلة الكبرى في اتجاه عمرو بن العاص للإسلام، فكلٌّ مِنَّا له مكان ومكانة حسب مستواه العلمي والاجتماعي والتربوي، فماذا لو أدَّى كل مِنَّا ما يجب عليه في المكان والمكانة الخاصين به في دعوة الآخرين حسب قدرته واستطاعته، وحسب ما يحسنه؛ لحصل من ذلك خيرٌ كثيرٌ وكبيرٌ، فالمُعلِّم في مدرسته، والمُعلِّمة في مدرستها، والإمام في مسجده، وكذلك الأب والأم مع أولادهم وهكذا، فلا تحقرنَّ شيئًا تفيد به مسلمًا من المسلمين؛ فذلك صدقة جارية لك بلا مالٍ ولا جهدٍ ولا تعبٍ، وتلك والله الغنيمة الباردة العظيمة، فلنكن كذلك مع الأباعد والأقارب.

الدرس الثاني: إن من أهم الأشياء في إسلام خالد سؤالَ النبي صلى الله عليه وسلم عنه في عمرة القضية؛ حيث أخبره أخوه بذلك، فالسؤال عن الآخرين اهتمامًا بهم واطمئنانًا عليهم هو سلوك جميل وجليل خصوصًا إذا تمَّ إرسال السلام إليهم مع هذا السؤال، فهذا ممَّا يوصل القلوب بعضها ببعض، ويوجب المحبَّة، ويُزيل ما في النفوس من غِلٍّ، فالمناسبات واللقاءات والزيارات ونحوها هي مجالات خصبة لتحقيق ذلك الهدف النبيل لا سيَّما إذا كان السؤال من الأكابر عن الأصاغر في حين أن ذلك لا يكلف شيئًا، وهو ضمن كلام الجالسين وحديثهم.

الدرس الثالث: في قصة عمرو وخالد أوضح لهما النبي صلى الله عليه وسلم أن التوبة تجُبُّ ما قبلها وتمحوه، وفي هذا ترغيب أيما ترغيب في عظيم أثر التوبة على صاحبها، فهي كما أنها تمحو الذنب والخطيئة فهي أيضًا تُبدِّلها بالحسنات، يقول الله تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [الفرقان: 70]، وهي أيضًا سبب في فرح الله تبارك وتعالى الشديد الكبير بتوبة عبده، ففي الحديث: ((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبده))؛ الحديث، وهي أيضًا سببٌ في دعاء الملائكة للتائب، قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]، وهي أيضًا سبب في الدعاء له بدخول الجنة مع الآباء والأزواج والذرية، قال الله تعالى على لسان الملائكة: ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ [غافر: 8]، وهي أيضًا سبب في الوقاية من السيئات، قال تعالى على لسان الملائكة: ﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ﴾ [غافر: 9]، فهذه جملة عظيمة من فوائد التوبة، فكيف لا يقبل العاصي بالتوبة عن معصيته وهو يقرأ ذلك في كتاب الله تعالى صباحًا ومساءً؟! وإنني بالمناسبة أُحذِّر من يستديمون المعصية؛ كالإسبال والعقوق والقطيعة وحلق اللحية والغيبة ونحوها، فأُحذِّر هؤلاء وأمثالهم من مزيد سيئاتهم ونقص حسناتهم مع الوقت، فإنهم لا يعلمون متى تكون نهايتهم لكن لعلهم يرجعون، ولعلهم ينيبون، ولعلهم يتذكرون، والذكرى تنفع المؤمنين.

الدرس الرابع: في كتابة الوليد بن الوليد لأخيه خالد بن الوليد يدعوه إلى الإسلام ويخبره بما قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه، في ذلك درسٌ لنا جميعًا أن نتواصى فيما بيننا بالمراسلات التي تُقوِّي الإيمان، وتوثق عرى التقوى، فما أجمل أن يقرأ أخوك رسالةً منك ورقيةً أو في وسائل التواصل تُوصيه فيها بخير أو تُحذِّره من شرٍّ، أو تُشعره بخطأ يجب أن يتخلَّى عنه!

فيا أخي الكريم، لا تبخل على نفسك وإخوانك بذلك؛ ولكن عليك بالأسلوب المناسب، وأن تذكر شيئًا من محاسن أخيك قبل أن تذكر له شيئًا من مساوئه، فإن هذا أدعى للقبول والتقبُّل، وأُهنِّئك بالأجر العظيم الذي يعود لك وعليك من خلال ذلك، ومن أمثلة ذلك أن أحدهم أرسل رسالةَ جوَّال لصاحبه، فيها الدلالة على ركعتي الضُّحى فصلَّاها صاحبه بعد تلك الرسالة عشر سنين وما يزال يُصلِّيها فيا بُشراهما جميعًا بذلك الخير العظيم، فاجعل لك مع تلك الرسائل منهجية مدروسة ولا تغفل عنها.

الدرس الخامس: عندما يريد أحدُنا عملًا من الأعمال الحسنة، فقد يجد بعض العقبات، فعليه بتجاوزها ما أمكن؛ فإن خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما أراد القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام طلب من صفوان بن أمية أن يصحبه، فأبى وردَّ عليه ردًّا سيئًا، وكذلك طلب من عكرمة بن أبي جهل فأبى كذلك أشدَّ الإباء؛ ولكنه تجاوز تلك العقبات وأمثالها، وشد رحله، وخرج إلى المدينة، فهو تجاوز تلك العقبات ولم يقف عندها، فعندما تريد شيئًا حسنًا، فاستمرَّ، ولو وحدك؛ فسيُيَسِّر الله تعالى أمرك، ولا يتوقَّف مشروعك على الآخرين، فمَنْ توكَّل على الله كفاه وأعانه وسدَّدَه.

الدرس السادس: عندما قدم خالد بن الوليد على النبي صلى الله عليه وسلم يريد الإسلام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام عندما رأى خالدًا من بعد ابتسم وبشَّ في وجهه حتى وصله ورحَّب به؛ ولهذا ذكر خالد بن الوليد هذا وأعجبه، وصار لهذا الفعل البسيط؛ وهو الابتسامة والبشاشة مكانٌ كبيرٌ في نفس خالد بن الوليد، فعلينا جميعًا أيها الكرام حال لقاءاتنا بمن نعرف ومن لا نعرف البشاشة والابتسامة؛ فهي صدقة جليلة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة))، ولم يقيد بالمعرفة أو القرابة والصداقة ونحوهما، وذلك بخلاف من يعبس حتى في وجه من يعرفه حال اللقاء، فالابتسامة سلوك تربوي بديع، يشرق في وجه صاحبك ووجهك أكثر من إشراق الكهرباء، وهو دليل على المحبَّة وسلامة الصدر وطيب النفس.

الدرس السابع: تأمَّل كيف كانت استجابة الصحابة رضي الله عنهم عندما حرمت الخمر مع أنها كانت مشروبًا مفضلًا عند الكثيرين منهم؟! ولكن بعد تحريمها كان مكانها الإهراق في السكك والطرق تخليًا عنها واستجابة لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام، فعلينا أن ننظر ما اعتدناه من سلوكنا ممَّا لا يرضي الله تعالى ورسوله، فلنتخلَّى عنه؛ كالغيبة والإسبال والقطيعة والهجر نحوها، فهي سلوكيات سلبية تهدم ولا تبني، ففكِّر أخي الكريم في ساعتك تلك عمَّا وقعت به مما لا يرضي الله تعالى ولا رسوله عليه الصلاة والسلام محاولًا التخلِّي عنه، وأبشر بعد ذلك بالخير العظيم والعميم من الله تعالى الكريم بالإعانة والسداد والرشاد.

الدرس الثامن: في إجلال عمرو بن العاص رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه أثرٌ عظيمٌ من آثار الإيمان، وإن كان ذلك من عمرو رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فلنعمل نحن على إجلال سُنَّته بعد وفاته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فعندما تعمل صالحًا أو تترك محرَّمًا ليصحب ذلك العمل والترك إجلال وتعظيم للآمر والناهي، فإن هذا من أسباب الثبات على الإيمان ورسوخ القدم والرغبة في العمل الصالح، وهذا قد لا يحتاج إلى جهد كبير منك إنما هو شعور داخلي يسري في ذهنك وفكرك وقلبك بتعظيم الشعيرة والشارع، فيا بُشْراك إن كان ذلك سجية لك.

الدرس التاسع: إنَّ من المبشِّرات الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، فإنَّ خالد بن الوليد رضي الله عنه رأى تلك الرؤيا، فكان تأويلُها مِفْتاحَ خيرٍ له، وموقف المسلم من الرؤى أنه قد ورد في الشرع أنها إن كانت صالحةً؛ فإنه يحمد الله تعالى عليها، ويسأل عنها، ويُخبِر بها مَن يحب، وأمَّا إن كانت سيئة فإنه يستعيذ بالله من شرِّها ومن الشيطان، وينفث عن شماله ثلاثًا، ولا يخبر بها أحدًا، فإنَّها بعد ذلك لا تضرُّه بإذن الله تعالى، وإنَّنا لنعتب على بعض إخواننا وأخواتنا أن كل ما كان في منامهم من الخير أو الشر فهو على ألسنتهم للناس سؤالًا وإخبارًا، وهذا مسلك خاطئ وهو من الجهل، فعلى المسلم أن يسلك المسلك الصحيح حفظًا لنفسه ولغيره.

وفي الختام أيها الكرام، هذه هي السيرة النبوية ملأى من الدروس والعِبَر والأحكام والحكم، فهي منهج قويم يسير عليه المسلم في دينه ودنياه، فما أجمل أن نجعل لنا مع أولادنا وأنفسنا جلسات مع تلك السيرة المباركة! علمًا وعملًا واستخراجًا لكنوزها من الدروس والعبر ورسمها على أرض الواقع لنا ولأولادنا حتى تتصحح مفاهيمنا وتصوُّراتنا وتحسن أيضًا سلوكيَّاتنا وأقوالنا وأفعالنا، وهي أيضًا باب كبير من أبواب طلب العلم الموصل إلى الجنة بإذن الله تبارك وتعالى، فلنجعل ذلك واقعًا عمليًّا لنا في بيوتنا، فسنعرف أثر ذلك بعد وقت يسير من هذه المُدارسة والمناقشة بيننا وبين أولادنا حول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلا بُدَّ أن يظهر لها أثر؛ لأنها هي المعجزة الخالدة.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المفلحين الذين لا خوف ولا هم يحزنون، اللهُمَّ أوصلنا دار السلام بسلام، واجعلنا ممَّن يُؤتى الحكمة، واغفر لنا ولوالدينا والمسلمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابوالوليد المسلم 01-03-2023 09:33 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (36)
الشيخ خالد بن علي الجريش




أحداث غزوة مؤتة


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، وقد أسلفنا أيها الأكارم في حلقتنا الماضية قصة إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، وهما مَن هما في الشجاعة والفطنة والذكاء والدهاء، وذكرنا كذلك الدروس المستفادة من إسلامهما.

وفي حلقتنا هذه نتعرَّض لأحداث غزوة مؤتة، ومؤتة هي قرية شرقي الأردن كما ذكر ذلك أهل العلم، وقد حدثت تلك الغزوة في السنة الثامنة من الهجرة، وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه بكتاب إلى ملك بصرى، ولما كان في طريقه اعترض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وكان أميرًا على البلقاء، فقال: أين تريد? فقال الحارث: نريد الشام، فعرف شرحبيل أن الحارث من رُسُل محمد، فأمر به فأوثقه وضرب عنقه ولم يقتل غيره من رُسُل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قتل السُّفراء والرُّسُل من أشنع الجرائم، فقد جرت العادة أن الرُّسُل والسُّفراء لا يُقتَلون ولا يُؤذَون، فكانت هذه الحادثة بمثابة إعلان الحرب على المسلمين، فلما بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتدَّ عليه ذلك، وندب الناس لقتال العدوِّ، فتجهَّز الناس وتهيَّأوا للخروج، فكان قوام الجيش ثلاثة آلاف مقاتل بينما كان عدد العدوِّ مائتي ألف مقاتل؛ مئة ألف من الروم، ومئة ألف من النصارى، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم على جيش المسلمين ثلاثة من الأمراء، فقال: ))عليكم زيد بن حارثة، فإن أُصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة((؛ رواه البخاري في صحيحه.

وقد ودَّعهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأوْصاهم بتقوى الله عز وجل، وأيضًا أوْصاهم ألَّا يقتلوا امرأةً ولا صغيرًا ولا كبيرًا فانيًا، وألَّا يقطعوا شجرًا ولا نخلًا، ولا يهدموا بيتًا، وعندما قرب المسلمون منهم وعلموا بعددهم الكبير والكثير تشاوروا؛ هل نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدد عدوِّنا فيمُدنا برجال أو يأمرنا بأمره؟ فقال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه: ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة؛ إنما نقاتلهم بهذا الدين، فانطلقوا فإنما هي الشهادة أو النصر، فمَضَوا بقوةٍ وعزيمةٍ، وهذه الغزوة شارك فيها سيف الله المسلول خالد بن الوليد، وهي أول غزوة يُشارك فيها بعد إسلامه، فتحرَّك جيش المسلمين نحو العدوِّ فلقيهم عدوُّهم بعددهم الكبير في قرية يُقال لها مشارف، ثم قرب منهم العدوُّ، ثم انحاز المسلمون إلى قرية يُقال لها مؤتة فعسكروا فيها، فجعلوا يتجهَّزون للقتال، فجعل أميرهم زيد بن حارثة على الميمنة قطبة بن قتادة، وجعل على الميسرة عباية بن مالك، وخطَّطوا أمرهم، وتكامل توزيع مهامِّ الجيش، وهناك في مؤتة بدأ القتال المرير بين الجيشين ثلاثة آلاف مقاتل في مقابل مائتي ألف، فأخذ الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه وقاتل هو والمسلمون بضراوة وبسالة وشجاعة حتى أدركته الرِّماح وتوالَتْ عليه الطعنات، فمات شهيدًا رضي الله عنه، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتل قِتالًا شديدًا ليس له مثيل حتى إذا تزاحَمَ بالقتال نزل من فرسه، وبدأ يُقاتِل راجِلًا، وهو يقول:
يا حبَّذا الجنَّةُ واقترابُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
طَيِّبةً وباردًا شرابُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والرومُ رومٌ قد دنا عذابُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كافرةٌ بعيدةٌ أنسابُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عليَّ إن لاقيتُها ضِرابُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وكانت معه الراية بيمينه، فقُطِعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، فلمَّا قُطِعت شمالُه احتضن رضي الله عنه الراية بين عضديه حتى استشهد رضي الله عنه، فعوَّضه الله عز وجل بدلهما بجناحين في الجنة؛ ولذلك يُسمَّى جعفر الطيَّار.

وفي البخاري قال ابن عمر: وجدنا في جعفر بضعًا وتسعين ما بين طعنة ورمية، ثم أخذ الراية بعد زيد وجعفر عبدُالله بن رواحة رضي الله عنه، وتقدَّم على فرسه، ثم تردَّد لما رأى شدة المعركة وقوَّتها، ثم أخذ يقول:
يا نفس إلا تُقْتَلي تموتي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هذا حِمام المَوْت قد صَليتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وما تمنَّيتِ قد أُعْطِيتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إن تفعلي فِعْلهما هُدِيتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ثم دخل في زحمة القتال بفرسه، وقاتل قتالًا شديدًا ببسالة وضراوة حتى قُتِل رضي الله عنه، فلمَّا سقطت الراية تشاوَر المسلمون فيمن يأخُذُها، فاستقرَّ الأمر أن يأخذها خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أخبر الصحابة رضي الله عنهم بقتل الأمراء الثلاثة في يومها، فقد نَعَاهم عليه الصلاة والسلام وعيناه تذرفان، ثم قال: ((أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله))، ثم قال قتادة بعد ذلك: فمن يومئذٍ كان لقب خالد بن الوليد سيف الله المسلول، ولما حمل خالد الراية قاتل بقية يومه، ثم في اليوم التالي أحدث تغييرًا في أعمال الجيش، فجعل المُقدِّمة في المُؤخِّرة، وجعل المُؤخِّرة في المُقدِّمة، وجعل الميمنة في الميسرة، وجعل الميسرة في الميمنة، فلمَّا التقوا بالعدوِّ في اليوم الثاني استنكر العدوُّ حالَهم التي عرَفوها بالأمس، فظنُّوا أنهم جاءهم مَدَدٌ، وأيضًا كان لهذا التغيير تأثير إيجابي على نفوس المقاتلين، ثم حملوا على عدوِّهم حملةً شديدةً ببسالةٍ وقوَّةٍ، فهزم الله تعالى العدوَّ أسوأ هزيمة، وقتل المسلمون من عدوِّهم أعدادًا كبيرة وكثيرة، ثم بعد ذلك انحاز خالد وسحب جيشه شيئًا فشيئًا ليسلم الجيش، وانصرف بهم إلى المدينة حيث أثخنوا القتل في عدوِّهم، وخلال ذلك الانسحاب لم يُصَبْ أحدٌ من المسلمين، أما خلال الغزوة كلها فقد استشهد من المسلمين اثنا عشر رجلًا، أمَّا العدوُّ فلم يُعرَف عدد قتلاهم من كثرتهم؛ ولكنهم كثير جدًّا، ويدلُّ على هذا أن خالد بن الوليد رضي الله عنه وحده استعمل في هذه الغزوة تسعة أسياف كُلُّها يقاتل بها المشركين؛ ولهذا يقول خالد رضي الله عنه: لقد اندقَّت في يدي يومئذٍ تسعة أسياف، فماذا يا ترى قتل خالد وحده بهذه الأسياف التسعة? وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خالد رضي الله عنه: ((اللهُمَّ هو سيف من سيوفِك فانْصُره))؛ رواه أحمد وابن حبان، وقال بعضهم بأن انحياز خالد للجيش شيئًا فشيئًا ظنَّ العدوُّ أن هذه خدعة من المسلمين تجاههم، فانحازوا هم أيضًا؛ فانحاز كل فريق إلى بلاده، فلم يقم العَدُوُّ بمطاردة المسلمين حتى وصلوا المدينة، وقال ابن إسحاق: لما دنا الجيش من المدينة تلقَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وجعل بعض الناس يقول: يا فرار فررتم في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليسوا بالفُرَّار ولكنهم الكُرَّار إن شاء الله))، وقال بعض أهل السِّيَر: ليس هذا لكل الجيش، وإنما هو للذين فرُّوا فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه))؛ رواه البخاري.

وقد واسى النبي صلى الله عليه وسلم آل جعفر وأمر بأن يُصنَع لهم الطعام، فقال: ((اصنعوا لآل جعفر طعامًا؛ فقد أتاهم ما يشغلهم))؛ إسناده حسن.

هذه هي الغزوة بإجمال واختصار، ونختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر من تلك الغزوة:
الدرس الأول: يتَّضح من خلال وصية النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين في مؤتة رحمة الإسلام وعدله حتى مع غير المسلمين، فقد نهاهم أن يقتلوا امرأةً ولا صغيرًا ولا كبيرًا فانيًا ونحوهم، وهذا مظهر حسن من محاسن الإسلام، قد يكون سببًا في إسلام غير المسلمين مع أن هؤلاء المستثنين ليسوا بمسلمين، ومع ذلك نهى عن قتلهم، وهذا غاية في العدل والرحمة والشفقة وبُعْد النظر، ولنعلم أيها الأفاضل أن ذكر محاسن الإسلام لغير المسلمين هو سبب كبير في إسلامهم، وهذا واقع وكثير بحمد الله؛ سواء كان في الأخلاق والمعاملات أو في التشريعات والأحكام، فلنعمل على توعيتهم ودعوتهم؛ حيث إنهم بيننا من خدم وعمالة وشخصيات إدارية وطبية ومهندسين وغيرهم، فيا بشراك أخي الكريم عندما تكون مِفْتاحًا لشخص أسلم عن طريقك، فاعمل على تحصيل ذلك ولا تملَّ.

الدرس الثاني: إن الجيش الإسلامي في مؤتة في يومهم الثاني أخذوا باستراتيجية الاستشارة، وعقدوا مجلسًا يستشيرُ فيه بعضُهم بعضًا، وهذه الاستشارة هي مربح عظيم على مستوى الأشخاص، وكذلك أيضًا على مستوى الهيئات والمنظَّمات، فإن الاستنارة بعقول الآخرين واستثمارها مربح عظيم وكبير، وربَّما انتظمت مصالح عديدة من خلال الاستشارة، فإنَّ الجيش في مؤتة رأوا إحداث التغييرات في ترتيب الأماكن للمقاتلين، واستحداث بعض الاستراتيجيات؛ مما حدا بجيش الروم أن يضع الاستفهام حيال ذلك، وكانت نتيجته أن الروم انحازوا وظنُّوا أن مددًا جاء إلى جيش المسلمين، وكان ذلك سببًا كبيرًا في نصر المسلمين بعد توفيق الله تعالى، فيا أخي الكريم، إن الاستشارة للآخرين كل في مجاله هي غاية في الأهمية، وإنَّ من المتفق عليه أنك عندما تعمل بخلاصة آراء وعقول أوْلَى وأحْرَى في النجاح من كونك تعمل بعقلك فقط، علمًا بأن استشارة الآخرين ليس فيها جهد كبير ولا مال مدفوع، فإذا عزمت على أمر ما فلا تستقل برأيك؛ فلربَّما حضر في ذهنك شيء وغابت عنك أشياء كثيرة، وحتى على مستوى العوائل والأُسَر في رحلاتهم أو أسفارهم العائلية أو نحوها من الجميل مناقشة ذلك معهم تدريبًا لهم واستفادة منهم، وإن وسائل التواصُل تُسهِّل استراتيجية الاستشارة فخلال وقت محدود تستطيع أن تستخلص آراء الآخرين، فكم من شخص عمل برأيه فقط فندم؛ سواء في البناء أو السفر أو العلاج أو الأثاث أو المركوب أو غيرها، فكن مستشيرًا بارعًا.

الدرس الثالث: في غزوة مؤتة حصلت معجزة عظيمة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة في المدينة عن واقع الأمراء الثلاثة وهم في مؤتة، فأخبرهم باستشهادهم في اليوم نفسه، إن هذه المعجزات للنبي عليه الصلاة والسلام هي علم عظيم يكون سببًا في تقوية الإيمان والثبات على الحق؛ لأنها خوارق للعادة، فيحسُن بنا جميعًا الاطِّلاع والتعرُّف على تلك المعجزات تقوية لإيماننا وتثبيتًا لنا، وكم هو جميل أن تجتمع الأسرة على دراسة ذلك بالأسلوب المناسب حتى تتصحح المفاهيم والتصوُّرات، ونحن في زمن أحوج ما نكون لذلك، فاعقد العزم على استحداث ذلك لك ولأسرتك مع ما في ذلك من الآداب والأحكام المصاحبة لتلك المعجزة، فيستفيد الجميع ويتربون على مائدة النبوَّة والحكمة.

الدرس الرابع: ظهرت في الغزوة شجاعة خالد بن الوليد وحكمته وحنكته؛ فهو لما استلم الراية عمل على التجديد الإيجابي في الخطة المتبعة بعد استشارة الصحابة رضي الله عنهم، فإنَّ انحيازه بالمسلمين بعد أن أثخنوا القتل في جيش الروم هو نوع من النصر؛ إذ إن القوة ليست متكافئة كما ذكر ذلك ابن إسحاق، وهذا يحكي تاريخًا عاشه خالد بن الوليد رضي الله عنه مع الحروب ودروب القتال، ومما يدلُّ على شجاعته رضي الله عنه أنه قال: لقد اندقَّت في يدي يومئذٍ تسعة أسياف، فيا ترى ماذا وكم قتل بهذه الأسياف التسعة من جيش الروم؟ ويقول علماء السير: فأخذ خالد اللواء ثم حمل على القوم فهزموهم أسوأ هزيمة؛ حيث وضع المسلمون أسيافهم حيث شاؤوا، وتُؤكِّد رواية في صحيح مسلم أن المسلمين غنموا من الروم شيئًا كثيرًا بعد ولاية خالد حتى إن خالدًا أحيانًا يستكثر سلب القاتل كما حدث ذلك لعوف بن مالك رضي الله عنهما جميعًا، وفي رواية البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حتى أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله حتى فتح الله عليه))؛ رواه البخاري، وهذا شاهدٌ كبيرٌ على انتصار المسلمين في مؤتة مع عدم المقارنة في العدد والعتاد بين الجيشين.

الدرس الخامس: في تلك الغزوة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع لآل جعفر طعام؛ حيث إنهم جاءهم ما يشغلهم، وفي مسألة صنع الطعام لأهل الميت ينبغي للمسلم أن يعرف فقهها، وألَّا يتجاوز حدَّها، فصنع الطعام لأهل الميت مشروع، أمَّا صنع أهل الميت الطعام للناس من أجل الميت فهذا من عمل الجاهلية، وعلى مَن صنع الطعام الاحتساب في ذلك وليس المباهاة والإسراف، ولربَّما إذا كان فيه مزيد من الولائم فإن أهل الميت قد ينشغلون بأشياء فوق مصيبتهم، فإن هذا الطعام هو لأهل الميت ولمن نزل عليهم من ضيوف مقربين، وعلى المعزِّين أن يكونوا خفيفين في تعزيتهم؛ ليُخفِّفوا على أهل الميت، وهذا الطعام هو وقت انشغال أهل الميت بمصيبتهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((فقد أتاهم ما يشغلهم))، أما إذا ذهب انشغالهم فليرجع الأمر إلى طبيعته، ولا ينبغي أن يكون بيت العزاء موردًا ومصدرًا للولائم.

الدرس السادس: إن من ينظر إلى المقارنة بين عدد كل من جيش المسلمين والروم، فإنه يعلم بيقين كيف ينصر الله تعالى أولياءه على أعدائه، فإن ثلاثة آلاف وهو عدد المسلمين لا يُقارن بمئتي ألف وهو عدد الروم، فإن قسمة هذا على هذا تعني أن مقابل رجل من المسلمين هو ستة وستون رجلًا من الروم؛ ولكن لنعلم جميعًا أن القضية سماويَّة وليست أرضيةً، وأن هؤلاء المسلمين على الفطرة، وأن الله عز وجل مع المؤمنين يؤيدهم وينصرهم وإن كان هذا في الحرب، فإن الله عز وجل يوفق عباده المؤمنين في السلم؛ فيبارك في أعمالهم ويسددهم ويعينهم، ومما يزيد المسلم سدادًا وإعانةً ومعيةً وتوفيقًا أن يكون ذاكرًا لله تعالى ومُكْثرًا من ذلك؛ لأنه ورد في الحديث القدسي كما رواه البخاري: ((وأنا معه إذا ذكرني))، ففي أشغالك أخي الكريم وظروفك وحاجاتك وذهابك وإيابك، لا تنس الإكثار من ذكر الله عز وجل من خلالها، فأبشر حينها أن الله عز وجل معك معينًا ومسددًا، واستشعر هذا وتذكَّره لتعلم حقيقته عن قرب، فإن بعض الناس قد تتوقَّف حاجاته مدة من الزمن وقد تصعب عليه بعض أموره، فعليه مع القيام بهذه الظروف والأشغال عليه أن يكون مكثرًا من ذكر الله عز وجل من التسبيح أو التهليل أو التحميد أو التكبير، أو أن يكون مكثرًا من الحوقلة، أو من كتاب الله تبارك وتعالى، فإن ما ورد في البخاري هو صحيح وواقعي على من جرَّبَه؛ حيث يقول في الحديث القدسي: ((وأنا معه إذا ذَكَرني)).

الدرس السابع: في هذه الغزوة نموذج عظيم للصبر، فإن هؤلاء الصحابة سواء القادة أو غيرهم صبروا وصابروا، وبإذن الله عز وجل أثخنوا القتل في أدائهم، فإن النتائج الطيبة والمخرجات الحسنة لا تحصل إلا بالصبر، وهذا في شؤون الدنيا وأعمال الآخرة، فإن الصبر مُرُّ المذاق؛ ولكن عاقبته أحلى من العسل، فاصبر على شؤونك الدينية والدنيوية؛ ليحصل لك ما تريد، وتُحقِّق ما تصبو إليه، وتذكَّر دائمًا تلك القاعدة التي تقول: "فكِّرْ في المكاسب قبل أن تُفكِّر في المتاعب"؛ إذ إن هذه القاعدة هي صالحة أن تكون سلوكًا لك في أمور دينك ودنياك، فإذا ما فكَّرت في المكاسب أولًا، فإنك تقدم على هذا العمل سواء كان من عمل الدنيا أو من أعمال الآخرة، وأمَّا إذا فكَّرت في المتاعب أولًا فالغالب أنك لا تُقدِم على هذا العمل، ففكِّر في المكاسب قبل أن تُفكِّر في المتاعب، وجرِّب هذه القاعدة واجعلها سجيةً وسلوكًا لك، فستجد بإذن الله تعالى من خلالها خيرًا كثيرًا، واعلم أيضًا أن المشقة تزول ويبقى الأثر "وعند الصباح يحمد القوم السرى" أمَّا من لم يصبر فستجد أمره ذهب فرطًا؛ ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].

أيها الكرام، ما أجمل أن نجلس مع أنفسنا، وأن نجعل لنا مع أولادنا برنامجًا في قراءة هذه السيرة النبوية العطرة! فكم ستستفيد فيها من الأحكام وتستفيد فيها من الحكم، وكم ستصحح فيها من السلوك، وكم ستعرف فيها من الآراء التي لربما كانت عندنا خاطئة، فتصححت من خلال قراءة السيرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام، فأقترح أخي الكريم أن تستحدث مجلسًا في بيتك لك ولأولادك، وأيضًا كذلك مجلسًا مع زملائك في رحلاتكم وذهابكم وإيابكم حتى تستخلصوا ما كتبه أهل العلم وأهل السير عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وتتعرَّف عليها عن قرب، وتعيش الأحداث وتُصحِّح المفاهيم والتصوُّرات؛ ومن ثم يجتمع العقل ويتصحَّح الفكر ويعمق التفكير، وهذه نتائج عظيمة وكبيرة.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المُفْلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهُمَّ إنَّا نسألك الهدى والتُّقى والسداد والرشاد والعفو والعافية لنا ولجميع المسلمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


ابوالوليد المسلم 01-03-2023 09:36 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (37)
الشيخ خالد بن علي الجريش






بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيُّها الكِرام، في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الكِرام كان حديثنا في الحلقة الماضية عن غزوة مؤتة في تاريخها وسببها، وأيضًا كيف تجهَّز المسلمون لها، وأيضًا تحدَّثْنا عن قوَّادِها الثلاثة، وعن عدد كل من المسلمين والكُفَّار، وأيضًا تطرَّقْنا إلى شجاعة القوَّاد الثلاثة رضي الله عنهم، ثم أتبعنا ذلك بشجاعة خالد بن الوليد رضي الله عنه بعدهم، وكيف كانت نتيجة تلك الغزوة، مع ذكرنا للدروس والعِبَر منها، وفي حلقتنا لهذا الأسبوع نتطرَّق لعددٍ من السرايا التي حدثت في هذه السنة الثامنة، فمن ذلك سرية ذات السلاسل، والسلاسل هو موقع ماء بأرض يُسمَّى السلاسل، فسُمِّيت السرية به، وقد وقعت في شهر جُمادَى الأولى من السنة الثامنة من الهجرة، وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن جموعًا من العرب قد أجمعوا رأيَهم أنْ يُغيرُوا على المدينة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص، وكان حديثَ عَهْدٍ بإسلام؛ إذ إنه أسلم قبل أربعة أشهر، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عمرو، اشدد عليك سلاحَك ثم ائتني))، قال عمرو فأتيته وهو يتوضَّأ، فنظر إليَّ وقال: ((يا عمرو، إني أريد أنْ أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأزعب لك من المال زعبةً صالحةً))؛ أي: أمدُّك بالمال، فقال عمرو رضي الله عنه: يا رسول الله، ما أسلمت رغبة في المال؛ ولكن في الجهاد معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعْمَ المالُ الصالحُ للرجُلِ الصالِحِ))؛ أخرجه أحمد بإسناد صحيح.


ثم عقد لواءه وبعثه في ثلاثمائة رجل ومعهم ثلاثون فرسًا، فخرج بهم عمرو رضي الله عنه يسير بالليل، ويكمن في النهار، فلمَّا قرب من القوم بلَغَه أن عددَهم كبيرٌ وكثيرٌ، فبعث رافع بن مكيث الجهني رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمدُّه بمدَدٍ من الرجال، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجرَّاح في مئتين من الصحابة، فيهم: أبو بكر، وعمر رضي الله عنه، وعن الجميع، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يجتمعا ولا يختلفا، فلحق أبو عبيدة رضي الله عنه ومَنْ مَعَه، فلمَّا وصلوا إليهم حصل خلافٌ يسيرٌ بين عمرو وأبي عبيدة، فتذكَّر أبو عبيدة كلامَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فانقاد لعمرو، فسار الجيش حتى وطئ أرض العدوِّ، فترامَوا بالنَّبْل فترةً، ثُمَّ حمل عليهم المسلمون، فهرب الأعداء وتفرَّقُوا في البلاد، وأمر عمرو ألَّا يُوقِدَ نارًا في الجيش، وكذلك لقوا العدوَّ من الغد فهزموهم، فأراد بعض الجيش أن يتبعوهم حتى يثخنوا فيهم، فنهاهم عمرو عن ذلك، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة، فناموا في ليلتهم فاحتلم عمرو في ليلة باردةٍ شديدةِ البرودةِ، فخرج إلى أصحابه وأخبرهم بذلك، فغَسَل فَرْجَه وتوضَّأ وضوءه للصلاة، وفي رواية أنه تيمَّم، وفي رواية أخرى أنه توضَّأ وتيمَّم عن الباقي من الغسل، ثم صلَّى بهم، فلمَّا وصلوا المدينة ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكروا تلك الثلاثة كلها، وهي عدم إيقاد النيران مع شدة البرد، وعدم اتباع العدو، وكذلك صلاته بهم وهو جُنُب، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال عمرو رضي الله عنه: خشيت إن أوقدوا نارًا أن يرى العدوُّ قِلَّتَهم، ونهيتهم عن اتباع العدوِّ خشيةَ أن يعطف العدوُّ عليهم من ورائهم، وأمَّا عدم غسلي، فخشيت أن أهلك وتذكَّرْتُ قولَ الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأقرَّه ولم يقل شيئًا، ومن السرايا أيضًا سرية عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه إلى الغابة، وكان سببها أنَّ رجلًا من بني جشم، يُقال له: رفاعة ابن قيس، قد نزل في جَمْع عظيم من قومه في الغابة، يريد حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليه عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي، وكان عبدالله قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعينه على مَهْرِ زوجتِه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ((كم أصدقتها?))، فقال: أصدقتُها مئتي درهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كنتم تغرفون الدراهم من واديكم هذا ما زدتم، ما عندي ما أعطيك))، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله ورجلين معه من المسلمين، فخرجوا إليهم هؤلاء الثلاثة، فتمكَّن عبدالله رضي الله عنه من قتل رفاعة ابن قيس، فلما قتل رئيسهم؛ هربوا وتفرَّقُوا وضعفوا فسَبَوا منهم نساءً، وأخذوا منهم إبلًا وغنمًا كثيرة، وجاؤوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد تلك السرايا والأحداث في تلك السنة الثامنة جاء الفتح العظيم المبين، وهو فتح مكة، وهو الفتح الذي أعَزَّ الله تعالى به دينَه ورسولَه وحزبه المؤمنين، ودخل الناس في دين الله تعالى أفواجًا، وقد طَهَّر الله تعالى بهذا الفتح بيتَه من أدران المشركين؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3]، وقال الله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10].


إن هذا الفتح هو كما سمَّاه الله تعالى فتحًا، فقد كان سببًا كبيرًا للتفريج عن المسلمين، وانتشار الإسلام، وكبت الكافرين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا هِجْرةَ بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استنفرتم فانفروا))؛ رواه البخاري ومسلم.


ومعنى الحديث: لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها كانت بعد الفتح دار إسلام.


وفي هذا الحديث دليلٌ على أن مكة ستبقى إلى قيام الساعة دار إسلام، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم.


إن فتح مكة حدثٌ عظيمٌ وجسيمٌ وكبيرٌ، وتغيَّرت الأحوالُ بسبب هذا الفتح، فأعزَّ الله عباده وجنده؛ ولكن تبقى بعض الأسئلة عن هذا الفتح؛ في سببه، وكيف كان التعامل مع هذا السبب? وما هو موقف قريش من هذا الفتح? وما هي الأحداث الإيجابية للمسلمين التي صاحبت هذا الحدث? وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش? وما هي نتائج هذا الفتح المبين؟ وما مقدمات هذا الفتح؟


إن الإجابة عن تلك الأسئلة هو ما سنعرفه بإذن الله تعالى في خلال الحلقة القادمة بإذن الله عز وجل، ونختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر مما تم ذكره، فمن ذلك ما يلي:
الدرس الأول: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قد أسلم في شهر صفر، ثم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم قائدًا في شهر جُمادى الأولى، فكان بينهما قرابة أربعة أشهر، فتأمَّل حسن استجابة عمرو لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث عهد، وهكذا شأن المؤمن إذا عرَف الحقَّ، فإنه يملأ قلبه منه، ويحمد الله تعالى أنْ هَداهُ إليه، ولا يكون مُتذبذِبًا ولا مُتأرجِحًا؛ وإنما تراه في ازدياد من الخير، فيا أخي الكريم، إذا وفَّقَك الله تعالى وهداك إلى حسن بعد سوء، وهدًى بعد ضلالة، فاثبت ولا تتزعزع، واحرص على ما يقوِّيك على ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرسل عَمْرًا قائدًا لتلك السريَّة إلا وقد رأى كفاءته وصلابة دينه وتمسُّكه؛ فحريٌّ بنا جميعًا أن نكون كذلك؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [مريم: 12]، وذلك بخلاف من يعرف الهدى بعد الضلال ويهديه الله تعالى إلى سواء الصراط، ثم يبقى مُتمسِّكًا ببعض واقعه السابق السلبي من رفقة أو صحبة سيئة وأفعال وأقوال يزعم المشقة بالتخلي عنها ونحو ذلك؛ بل عليه أن يستثمر تلك الفرصة العظيمة وهي الهداية، فهكذا كان عمرو بن العاص رضي الله عنه يزداد إيمانه يومًا بعد يوم حتى أقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقود عددًا من الصحابة فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة رضي الله عن الجميع.


الدرس الثاني: في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو: ((نِعْمَ المالُ الصالحُ للرجل الصالح))، في هذا درس عظيم في معرفة فقه المال الصالح والمراد به.


إن كلمة "نِعْمَ" هي كلمة مدح، وإن الممدوح في الحديث هو المال الصالح الطيب النقي، ويقتضي هذا ذمَّ المال السيئ الذي يكتسبه المرء من طرق غير مشروعة، وإن هذا المال الصالح هو ممدوح للرجل الصالح الذي ينفقه في الخير، وذلك بخلاف الرجل السوء الذي قد يكتسب مالًا صالحًا ثم ينفقه في سوء، فإن هذا الحديث أوضح المدخل والمخرج للمال بحيث يكونان صالحينِ، فإنه ممدوح، أمَّا إذا تخلَّف أحد الوصفين فإنه لا يستحقُّ المدح والثناء؛ فقد يكون المال صالحًا ومصروفًا في سوء؛ فهذا مذموم، وقد يكون المال سيئًا ومصروفًا في صلاح؛ فهذا مذموم؛ ولكن الممدوح الكامل هو المال الصالح في المصرف الصالح، فهذا المال بهذا الوصف سينجو صاحبُه عندما يسأل عن مالِه من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنْفَقَه? فتأمَّل أخي الكريم أموالك في مورِدِها ومصرفها، فإنه لا يرد عليك شيء أو يصدر منك شيء إلا وأنت مسؤول عنه، فقبل أن تستلم ما يرد عليك أو تصرف ما يصدر منك تأمَّل المورد والمصدر، وكونه موافقًا لأمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، أمَّا السعي الحثيث اللاهث وراء المتشابهات موردًا ومصدرًا، فإنَّ صاحبَه على خطرٍ عظيمٍ، فتأمَّل قبل أن يفوت الأوان فلا تستلم شيئًا أو تصرف شيئًا من تلك الأموال إلا وعندك حُجَّة لك تكون وقايةً أمامَ الله تعالى، فإنَّ المال السوء عليك غُرْمُه، ولغيرك غُنْمه، وليس الحلال ما حلَّ في الجيب واليد؛ وإنما هو ما وافَقَ الكتاب والسُّنَّة.


الدرس الثالث: في غزوة ذات السلاسل عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة ومن معه مددًا لجيش عمرو، أمره أن يجتمعا ولا يختلفا؛ إن الاختلاف والخلاف ممَّا يُضيِّع الجهود ويُمزِّق الكلمة، ولا يربح من ورائه أحد؛ ولذلك يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: الخلافُ شَرٌّ، فإذا تنازع اثنانِ في أمرٍ ما فليتأمَّل كُلٌّ منهما رأي صاحبه، فقد يكون أرشد من رأيه، وليكن طرحُه لرأيِه أيضًا بهدوء، فقد يكون خاطئًا من حيث لا يشعُر؛ لأنه ليس معصومًا، وليكن شِعارُه رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأيُ غيري خطأ يحتمل الصواب.


والمشكلة تكمن في أن بعض الناس في خلافاتهم لا يتأمَّلون إلا آراءهم، ولا يتأمَّلون جليًّا بوضوح في آراء الآخرين، ويعتبرون آراءهم صوابًا لا تحتمل الخطأ وآراء غيرهم خطأ لا تحتمل الصواب، وهذا خلل في التفكير، ثم إنَّ التنازل من أحدهما للآخر إذا لم يكن ثمة مضرَّة ظاهرة هو حسم للخلاف كما تنازل أبو عبيدة رضي الله عنه لرأي عمرو رضي الله عنه؛ بل قال أبو بكر رضي الله عنه: اتبعوا عَمْرًا؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسلمه الراية إلا وهو أعلم به منكم، فعلينا بتقليل دائرة الخلاف والاختلاف ما أمكن، وتوسيع دائرة الاتفاق ما أمكن، سواء على مستوى الأسرة أو الزملاء أو الوظيفة أو غيرها، وليَكُنْ النقاش هادئًا ومتَّزنًا ومرِنًا مع احترام صاحب الرأي، فإذا كنا كذلك ربح الجميع، وإن كنا لسنا كذلك فقد يخسر الجميع.


الدرس الرابع: في هذه الغزوة أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بأنه لم يغتسل من الجنابة في تلك الليلة الباردة؛ حيث لو فعل ذلك لتضرَّر، وهذا من رحمةِ الله بعباده؛ ولكن على من احتلم في ليلة شاتية وباردة فإن وجد شيئًا يستره عن البرد وماءً دافئًا فليغتسل بالماء، فإنَّ هذا هو الواجب، وليحرص عليه، أمَّا إن لم يجد ذلك ويلحقه ضررٌ في غسله، فليتيمَّم، وليكن حكيمًا في تدبير أموره، ولا يستعجل في التيمُّم ما دام الغسل ممكنًا ومحتملًا؛ حيث خفة البرودة وتدفئة الماء والسعي في طلبه هذا أمر واجب.


وهذا إذا كان في البراري والفلوات، أما من كان في البيوت والاستراحات ونحوها فإن الأمور مُهيَّأةٌ بحمد الله، فليحرص عليها، وليغتسل كما أمره الله عز وجل، ولا يعدل إلى التيمُّم.


الدرس الخامس: في قصة عبدالله بن حدرد أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم كثرة المهر، وفي هذا دَرْسٌ عظيمٌ للأُمَّة بأن يعلموا أنَّ أعظمَ النساء بركةً أيسرُهُنَّ مؤونةً، فيا معاشر الآباء والأزواج، لا تجعلوا كثرة المهور مانعًا لشبابنا ورجالنا من الزواج.


وهذه الزوجة ليست سلعةً تُباع وتُشترى حتى يُغالى في مهرها؛ وإنما ذلك المهر هو لتكاليف الزواج، فلتكن تكاليفُه بحكمةٍ واقتداء، وانبذوا الإسراف في المقتنيات والمأكولات والملبوسات، فكم من شابٍّ عجز عن كثرة المهور فأضلَّه الشيطان! وكم من عانسٍ مكثت وقتًا طويلًا بسبب المهر وكثرته! فيا ترى مَن يعلق الجرس في تقليل المهور? وتفعيل ذلك ليكون ذلك صدقةً جاريةً له، إن ممَّن يبتدئ بذلك هم الخطباء في منابرهم والإعلاميُّون في إذاعاتهم، والآباء في مجالسهم ومع أهلهم وذويهم، وأيضًا الجمعيات الأسرية في وسائل تواصُلهم، وأيضًا كذلك الكُتَّاب بأقلامهم وصحفهم، ولنكن بذلك عمليين وواقعيين حتى نُكوِّن مجتمعًا أُسَريًّا ناجحًا مُباركًا صالحًا ومُصْلِحًا.


الدرس السادس: اتَّضَح في تلك السريَّة حنكة عمرو وحكمته رضي الله عنه؛ حيث كان مشهورًا بذلك قبل إسلامه، فقد نهاهم عن إيقاد النار مع أن الليلة باردة حتى لا يعلم عدوُّهم قِلَّتَهم، ونهاهم عن اتِّباع عدوِّهم حتى لا ينعطف عليهم العدوُّ، فيكون خدعةً على المسلمين، وثمة درس آخر وهو استجابة هؤلاء الصحابة الكِرام الأجلَّاء رضي الله عنهم لأميرهم مع حاجتهم لما أرادوا؛ ولكن أمر الأمير فوق حاجتهم الشخصية، ويدركون أنهم لو عملوا ما أرادوا لتنازعوا، وهكذا يجب أن يكون المسلم في سلمه وحربه وفي سفره وإقامته تحت أمر أميره ونهيه ما دام أمرُه ونهيُه تبعًا لأمر الله تعالى ورسوله، وإن من الحكمة عند الأصحاب التنازُل عن الأمور الشخصية لتحقيق المصالح العامة، وهكذا إذا سافرت رفقة فجعلوا عليهم أميرًا فإنهم إن أطاعوه أمنوا الخلاف والاختلاف في سفرهم هذا، وحسنت أمورهم، ففي تلك الغزوة ظهرت بعض قدرات عمرو الحربية وحكمته وحنكته رضي الله عنه.


الدرس السابع: أنَّ الله عز وجل حافظ دينه وعباده وذلك من خلال تيسير الله تعالى لهذا الفتح المبين لفتح مكة؛ حيث إن الله عز وجل أراد ذلك السبب فحصل، فلمَّا أراد حصول هذا السبب المذكور أتبعه بهذا الفتح المبين والذي سنتعرض له بإذن الله تعالى في حلقتنا القادمة.


ما أجمل أيها الكرام أن يكون للإنسان وقفات مع هذه السيرة النبوية! يعرف أحكامها وحكمتها، ويعرف خطى النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف كيف كان تعامُله مع أصحابه، ويقيس عليها حالته مع أهله وأصحابه وجيرانه ومجتمعه، ويكسب بذلك علمًا غزيرًا وعملًا صالحًا بإذن الله تبارك وتعالى، سواء في المعاملات أو في الأخلاق أو في العبادات أو في غيرها مما يحتاجه من تعامل مع هذا المجتمع.


إن قراءتنا في السيرة ومناقشتنا فيها، وأن نعمر مجالسنا عليها، إن هذا عمل جميل وجليل، وينبغي لنا الحرص عليه سواء في رحلاتنا أو في سفرنا أو في مكثنا في بيوتنا أو في اجتماعاتنا أو ما إلى ذلك؛ لأن حياتنا إنما هي مقتضبة ومختصرة، فعلينا أن نملأها من هذا الخير العظيم الذي في سيرة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم حتى تصحَّ أعمالنا، وتسلم صدورنا، وتتنقَّى قلوبُنا، ونكون بإذن الله تعالى على خطى هؤلاء الأصحاب الأفذاذ الأجِلَّاء رضي الله عنهم.


أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا الهُدى والسَّداد والتُّقَى والرشاد، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابوالوليد المسلم 01-03-2023 09:37 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (38)
الشيخ خالد بن علي الجريش





بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين وقد تمَّ أيها الكِرام في الحلقة الماضية الحديث عن بعض السرايا التي حدثت في السنة الثامنة، ومنها سرية ذات السلاسل وغيرها، وذكرنا أيضًا كذلك مقدمة عن الفتح المبين فتح مكة، وأيضًا الدروس والعبر من ذلك، ونستكمل في تلك الحلقة خلفيات ذلك الفتح وتفاصيله وخيراته العظيمة، وكان سبب فتح مكة أن خزاعة دخلت في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، وكان بين القبيلتين خزاعة وبني بكر حروب وعداوات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمِن كل فريق من الآخر، فبنو بكر لم ينظروا إلى هذا، وأرادوا الأخذ بثأرهم من خزاعة، فخرج من بني بكر نوفل بن معاوية، وخرج معه رجال حتى قدموا على خزاعة ليلًا وهم آمنون، على ماء لهم يُسمَّى الوتير أسفل مكة، وكان منهم المصلي ومنهم النائم، فأصابوا منهم رجالًا، فاقتتلوا حتى بلغوا الحرم، وانطلق رجال من خزاعة هاربين إلى سيد خزاعة بديل بن ورقاء في داره، فتبعهم بنو بكر حتى قتلوا منهم عشرين رجلًا عند باب الدار، وشارك في ذلك أناسٌ من قريش، وكان ذلك في شهر شعبان من السنة الثامنة؛ فندمت قريش على ذلك وذهبوا إلى زعيمهم أبي سفيان يُخبِرونه الخبر، فقال أبو سفيان: إن هذا لشَرٌّ، ووالله ليغزونا محمد؛ لأن خزاعة قد دخلت في عقده وعهده.


ولما انتهى بنو بكر من الأخذ بالثأر، وذلك بقتل هؤلاء من خزاعة خرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فوقف على رأسه وهو جالس بين الصحابة رضي الله عنهم، فقال عمرو قصيدته المشهورة:
يا ربِّ إنِّي ناشِدٌ محمدًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حِلْفَ أَبِيهِ وَأَبِينَا الْأَتْلَدَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


إلى أن قال:
هُمْ بَيَّتُونا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقَتَّلُونا رُكَّعًا وَسُجَّدَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نصرت يا عمرو بن سالم))، ثم لحق به أيضًا سيد خزاعة بديل بن ورقاء متجهًا إلى المدينة ومعه رجال، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه تفاصيل الحدث والثأر، ثم رجع وفد خزاعة إلى مكة وفي خروجهم إلى المدينة ورجوعهم حصل عند قريش خوف ووجل، وخافوا من سوء صنيعهم فعقدوا مجلسًا استشاريًّا قرروا فيه أن يبعثوا أبا سفيان ليقوم بالاعتذار والصلح، وكان النبي الله عليه وسلم حينها قد قال لأصحابه: ((كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشد العقد)) وفعلًا خرج أبو سفيان إلى المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها، فلمَّا أراد أن يجلس على فِراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته أم حبيبة، فسألها عن طي الفراش، فقالت: هو فِراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس، فلا أحب أن تجلس عليه، فقال لها: والله، لقد أصابك يا بنية بعدي شرٌّ، ثم خرج أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، اشدد العقد بيننا وبينك، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل كان من حدث قبلكم؟))، قال أبو سفيان: معاذ الله، لم يحصل شيء، ونحن على عهدنا وصلحنا، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فلمَّا علم أنه لن يحصل على شيء من النبي عليه الصلاة والسلام ذهب إلى أبي بكر فكَلَّمه أن يشفع عند النبي عليه الصلاة والسلام، فأبى أبو بكر ذلك، ثم كلَّم عُمَرَ، فقال عمر: أأنا أشفع؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به، ثم كلَّم عثمان بن عفان فأبى، ثم كلَّم عليًّا، فقال له علي رضي الله عنه: ويحك يا أبا سفيان! إن النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أمر لا نقدر أن نُكلِّمه فيه؛ فحينئذٍ أظلمت الدنيا في عيني أبي سفيان، ثم ركب واتجه إلى مكة، فلمَّا وصل إلى مكة اجتمعت إليه كِبار قريش، فسألوه، فقال: إن محمدًا أبى أن يقبل شفاعتي، وتتبعت أصحابه بعده فلم أجد أحدًا أطوعَ منهم له، فلم يجز منهم أحد، ثم بعد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها أن تُهيِّئ له جهازه، ولا تعلم أين يريد، فدخل عليها أبوها أبو بكر رضي الله عنه فسألها: أين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصمتت ولم تُجِبْه حتى دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهما، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لعلَّك تريد قريشًا يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم))، فقال أبو بكر: أليس بيننا وبينهم صلح؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألم يبلغك ما صنع بنو كعب؟)) ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه سائر إلى مكة، وأمر بالجد والتهيُّؤ، فتجهَّز الناس وتجهَّز أصحاب البوادي حول المدينة حتى قدموا على المدينة، فاجتمع لديه عشرة آلاف مقاتل، وبعد التجهُّز والتهيُّؤ أجمَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المسير إلى مكة لقِتال قريش وفتح مكة، فحينها كتب حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كتابًا إلى قريش يُخبِرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة من مزينة، وجعل لها مالًا على أن تبلغه قريشًا، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فعل حاطب، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا والزبير وأبا مرثد، وكلهم فوارس، فقال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ؛ فإن بها امرأة من المشركين معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأتوني بها))، قال علي رضي الله عنه: فانطلقنا حتى أدركناها حيث قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسير على بعير لها، فقلنا لها: أين الكِتاب الذي معك؟ قالت: ما معي كتاب، فأنخنا بعيرها ونظرنا في رحلها فلم نجد شيئًا، فقال صاحباي: ما نرى معها كتابًا؟ فقال علي رضي الله عنه لهما: لقد علمتما ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليٌّ للمرأة: لئن لم تُخرجي الكِتاب لاجردَّنك، فأهوت المرأة إلى حجزتها- وهي معقد الإزار- فأخرجت الكتاب، وقيل: أخرجته من ضفائر رأسها، فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لحاطب: ((يا حاطِبُ، ما حملك على ما صنعت؟))، فقال حاطب رضي الله عنه: لا تعجل عليَّ يا رسول الله، والله ما فعلته رِضًا بالكُفْر أو ارتدادًا؛ ولكن من كان معك من المهاجرين لهم نسب يحمون به قرباتهم في مكة، وأمَّا أنا فليس لي أحد يحميهم، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَا أنه قد صدقكم)) فقال حينها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، دَعْني اضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْريك لعَلَّ الله اطَّلَع على أهل بَدْر))، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر رضي الله عنه، وقال: الله ورسوله أعلم، وأنزل الله عز وجل قوله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ إلى قوله تعالى: ﴿ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ؛ الآية الأولى من سورة الممتحنة.


ثم بعد نزول تلك الآية وحصول هذه الحادثة أجمع النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج إلى قريش ومقاتلتهم، فمتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما الذي حصل له في طريقه من أحداث؟ وكيف أسلم بعض الزعماء قبل وصوله إلى مكة؟ هذا وغيره ما سنعرفه بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة، ونختتم حلقتنا هذه بالدروس والعِبَر التالية:
الدرس الأول: في قتل بني بكر لخزاعة شرٌّ كبيرٌ، وهو أمر تكرهه أنفس المسلمين؛ ولكنه كان سببًا لخير عظيم، وهو فتح مكة وما تبعها؛ حيث أسلم كثيرٌ من أهلها ومن حولهم، ولنعلم جميعًا أيها الكِرام أن المقادير التي تحصل لنا وتكرهها نفوسُنا قد يوجد في ثناياها خيرٌ عظيمٌ، والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19]، فإذا حصل لك أخي الكريم ما تكره فلا تجزع وقل في نفسك: لعل فيه خيرًا لا أعلمه؛ فستهدأ نفسُك، ويطيب خاطرُك، ويزداد إيمانُك بقدر الله عز وجل، وتأمَّل أيضًا وجوه الخير فيه، ولو كان وجهًا واحدًا، فهذا ممَّا يُسلِّيك ويدفع عنك الاستعجال بأقوال وأفعال غير مشروعة.


الدرس الثاني: عندما ذهبت خزاعة إلى المدينة تستنجد بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم دخلوا في عقده، وكانت قريش قد علمت بذلك، حصل لقريش من الرعب والخوف والارتباك الشيء الكثير، وهكذا صاحب الباطل يخشى كل دائرة عليه، ولا يهدأ قلبه، وقد قال الله تعالى في المنافقين: ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4] فصاحبُ الحقِّ ثابتٌ بتثبيت الله تعالى له، وأمَّا صاحبُ الباطل فهو متذبذب؛ لأنه ليس على الفطرة، وليس له أساس يصونه ويؤوي إليه.


الدرس الثالث: عندما جاء أبو سفيان إلى المدينة ليُقابِل النبي صلى الله عليه وسلم في تمديد مدة الصُّلْح دخل على ابنته أم حبيبة رضي الله عنها وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان حينها كان مُشْرِكًا، فرفعت أم حبيبة رضي الله عنها فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يجلس عليه أبوها، فلمَّا سألها قالت: إنك رجل مشرك نجس، وإن هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأمَّل أخي الكريم كيف عاملت أم حبيبة رضي الله عنها أباها أبا سفيان بهذه البراءة؟ مع أنه أبوها، فلم تتسامح معه وقد جاء مسافرًا، وقد غاب عنها مدة من الزمن لم يلتقيا، فلم تجامله وترِقَّ له، فإذا استقرَّ الإيمان في القلب عَظُمَ الولاء والبراء، وصارت المحبَّة والمودَّة مبنيةً على أساس الدين، ولا مجاملة في ذلك حتى ولو كان أبًا أو غيره، فرضي الله عن أم حبيبة رضي الله عنها، فقد ضربت بهذا مثلًا رائعًا، فإن موقف المسلم من الكافر هو البراء التام إلَّا في دعوته إلى الإسلام، فليعمل على المداراة معه لعله أن يسلم، وأمَّا مع المسلم العاصي فيُواليه على ما عنده من الطاعة ويبغضه على ما عنده من المعصية مع أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفي قول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] هذا نهيٌ كبيرٌ عن موالاة الكُفَّار، وهذا خطر عظيم وجسيم وإن كان ظاهره كُفْر مَن تولاهم؛ لكن أقل درجاته التحريم كما قال ذلك أهل العلم، فلنتأمَّل ذلك كثيرًا لتصلُح أحوالُنا وقلوبُنا وتثبت أقدامُنا.


الدرس الرابع: سوء مغبَّة الخيانة وضررها، فماذا لو وصلت تلك المرأة إلى قريش؟ وعلمت قريش بما معها من الكِتاب؛ لحصل على المسلمين ما لا تُحْمَد عُقْباه، فالخيانة في كل أصنافها وأشكالها هي سلبية، ومن ذلك الفساد المالي والوظيفي، وأخذ الرشاوى، وأكل المال بالباطل، وتسريب المعلومات للأعداء، ونحو ذلك، فإن هذا كله مضرته قد تكون الجماعة كلها، فيا ليت ذلك الخائن للجماعة في أي مجال كان يعلم أن ما يأخذه من مال أو نحوه إنما هو سُحْتٌ ينبت به جسمه، وأنه محاسب عليه، فإن كان المال المأخوذ لبيت المال فإن كل من يستفيد من بيت المال سيكون خصمه يوم القيامة، وأمَّا إن كان المال المأخوذ شخصيًّا فإن هذا المال لشخص سيُلاقيه عند الله تعالى، ويُخاصمه في يوم لا معاملة فيه إلا الحسنة والسيئة، فمتى يفيق أولئك الذين يأكلون الأموال العامة والخاصة بغير حقٍّ خيانةً في أعمالهم؛ ولكن لعلهم يتذكَّرون، ولعلهم يرجعون، ولعلهم يتُوبُون.


الدرس الخامس: في قصة حاطب رضي الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في مكان المرأة، وهذا معجزةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم أخبر اللهُ بها نبيَّه، وهذا من حفظ الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم وأوليائه ونصرتهم، فلم يأتِ بخبرِها أحدٌ من البشر؛ بل إن خبر السماء نزل على محمد عليه الصلاة والسلام، وهذه المعجزات هي مقويات ومثبتات للمؤمن.


الدرس السادس: بيان غيرة عمر رضي الله عنه ورِقَّة قلبه؛ فمن غيرته أنه طلب أن يؤذن له بضرب عنق حاطب؛ لأجل فعله هذا، وكذلك رقة قلبه عندما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل بَدْر دمعت عيناه، فسبحان من جمع فيه هاتين الخصلتين، وهما الغيرة والرقة!


وهذا شأن المؤمن يغار لدين الله عز وجل؛ ولكن إذا عرف الحق التزمه ولزمه، إن الغيرة هي أمر يمكن أن يكتسبه المسلم، فعندما يرى منكرًا يعلم أنه مسؤول عن هذا المنكر، ولا ينبغي أن يكون في حالة من الجمود عند رؤيته للمنكر، فإذا علم أنه مسؤول عن هذا المنكر فإن هذا العلم والإحساس يزرع عنده الغيرة على المحارم؛ إذ إنه إذا أنكر سلم وبرأت ذمته، وإذا لم ينكر فهو مسؤول عن ذلك أمام الله تعالى، فلا بُدَّ له من أحد الموقفين، فإذا جعل الإنكار سجيةً له أورثه ذلك الغيرة على محارم الله عز وجل؛ ولكن هذا الإنكار يجب أن يكون مُتَّصفًا بالعلم والحلم والحكمة والرِّفْق؛ حتى يتحقَّق الهدف وليس المقصود من الإنكار هو براءة الذمة فقط، وإنما المراد هو الصلاح والإصلاح.


الدرس السابع: في قصة حاطب قوة إيمان علي رضي الله عنه، فعندما أنكرت المرأة عندما نظروا في متاعها ولم يجدوا شيئًا، قال عليٌّ قولتَه المشهورة: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، لتخرجن الكِتاب أو لنجردَن الثياب، فلما رأت الجد منهم أخرجته، فعليٌّ رضي الله عنه كان يحمل يقينًا لا شَكَّ فيه.


الدرس الثامن: أنه على من فعل خطأ ثم عُوتِب فيه عليه ألا ينكر؛ حتى لا يجمع على نفسه سيئتين وخطيئتين، فالبعض يبرر لنفسه فعل الخطأ إذا أخطأ، وكأنه لم يخطئ، فالاعتراف بالخطأ هو طريق لسلامة الأنفس وغفرانها لهذا الخطأ، وهو أيضًا تنازُل من صاحب الخطأ إلى تعديل سلوكه إلى الصواب، وأمَّا واقع بعض الناس يحاول أن يجعل الصواب معه دائمًا بتبرير أخطائه، فإن الناس تنفر عنه حينئذٍ ولا تثق به، وربما ابتعدت عنه، وعلى مَن اعتذر عن خطئه أن يقبل الناس عذره، وأن يُشجِّعُوه على التزامه الصواب واجتناب الخطأ.


الدرس التاسع: إنَّ حاطبًا ممَّن شهد بَدْرًا، وهو من المهاجرين الأوَّلين، وهو ممَّن اطَّلَع على الأسرار؛ ولكن فعله هذا يدل على ضعف النفس البشرية مهما كان كمالها وقوَّتُها، ولا عاصم من ذلك الضعف إلا الله عز وجل، فلا نطالب أنفسنا بعدم الخطأ؛ لأن الخطأ من طبيعة النفس البشرية؛ لكن إذا أخطأوا لنشعرهم بذلك الخطأ لنجعل ذلك الشعور سلوكًا مع من نتعامل معهم كثيرًا؛ كالأولاد والزوجات والأقارب والجيران وزملاء العمل ونحوهم، فنشعرهم بخطئهم إذا أخطأوا، ونقبل عذرهم إذا صدقوا واعتذروا.


الدرس العاشر: لم يستعجل النبي صلى الله عليه وسلم مع حاطب بعقوبة أو بتأديب حتى استفهم منه وسأله عن فعله ذلك، فإذا أخطأ أحد على أحد فلنستفهم عن الخطأ ولنستفسر قبل أي إجراء نتخذه سواء كان الإجراء قوليًّا أو عمليًّا أو حتى كان قلبيًّا، فإن الأخطاء يكون وراءها أشياء كثيرة من سوء الفهم أو الجهل أو الندم بعدها مباشرة.


إن هذا التفاهُم مع المخطئ يبني المجتمع على سلوك وتفاهم راقٍ وعدم تكرار للخطأ، فما أحوجنا إلى هذا التعامل حتى نختصر الكثير على أنفسنا! وعلى المخطئين فنسلم وأيضًا كذلك يسلمون.


الدرس الحادي عشر: فضيلة أهل بَدْر حيث ورد فيهم ((اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) فهذه منقبة للبَدْريِّين شفعت لحاطب على تلك السيئة التي فعلها، وهذا فيما ليس فيه حَدٌّ في الشريعة، أمَّا ما كان فيه في الشريعة فإنه يقام كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحَدَّ على مِسْطح وجلَدَه عندما قذف عائشة رضي الله عنها مع أن مِسْطحًا ممَّن شهِدَ بَدْرًا.


الدرس الثاني عشر: التوجيه القرآني للأحداث التي تحدُث في عصر النبوة، فإنَّ الله عز وجل يرشد نبيَّه صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين في شتَّى أحوالهم التي يحتاجون فيها إلى ذلك، فيأتي القرآن مُبينًا القضية وملابساتها وحكمها، وذلك كحالة الظِّهار وحالة اللِّعان ونحوهما، وذلك لتكون الأُمَّة المسلمة تسير على خُطًى ثابتة بشريعة محكمة معصومة من عند الله عز وجل، وكما قد سمعتم معاشر الكِرام هذه هي السيرة، كلها دروس، وكلها عِبَرٌ، وكُلُّها أيضًا حِكَمٌ وأحكامٌ، فما أجمل أن يكون لكل واحدٍ مِنَّا نصيبٌ من هذه السيرة قراءةً ومناقشةً وكتابةً حتى ولو كانت عن طريق السؤال والجواب والمسابقات للأولاد وغيرهم، لنتعرَّف جليًّا على سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وذلك علم نتقرَّب به إلى الله تبارك وتعالى فسنعلم من خلال هذه الدراسة وتلك المناقشة، سنعلم الأحكام الفقهية، ونعلم الأمور التربوية، ونُصحِّح المسارات السلوكية، ونعلم المعجزات النبوية، وهكذا نعلم العلم الكثير من خلال دراسة هذه السيرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، اللهم علِّمْنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمْتنا، واجعل يا رحمن ما وهَبْتَنا من عِلْمٍ وحفظ وفَهْم حُجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابوالوليد المسلم 01-03-2023 09:39 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (39)
الشيخ خالد بن علي الجريش





الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير النبيين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم أيها الكِرام في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأفاضل كان الحديث في الحلقة الماضية عن المسير إلى فتح مكة وخروج الجيش الإسلامي من المدينة، وأيضًا ما هي الأحداث التي حدثت حينها? وذكرنا أيضًا عددًا من المسلمين الذين أسلموا من أهل مكة عندما علموا بذلك، فخرجوا مهاجرين، وأيضًا كذلك أسلفنا الحديث عن زعيم مكة أبي سفيان وكيف تعامَلَ معه النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضًا ذكرنا كيف كان الحال في دخول مكة، وماذا حصل بعد دخولها، إلى غير ذلك من الدروس والعِبَر من ذلك كله.


ونكمل في حلقتنا هذه أعماله عليه الصلاة والسلام عندما أقام بمكة، فقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يَقْصُر الصلاة، فقد روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم تسعةَ عشرَ يومًا يَقْصُر الصلاة) وأرسل النبي عليه الصلاة والسلام الدُّعاة إلى البوادي للدعوة وكسر الأصنام، وقد بعث سعد بن زيد رضي الله عنه في سريَّة تبلغ عشرين رجلًا ليهدم الصنم مناة، وذلك في منتصف العشر الأواخر من رمضان، فهدموه ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبروه بذلك، وبعث أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في سريَّة في ثلاثين فارسًا لهدم العُزَّى، وكانت العُزَّى ثلاث شجرات عليها بيت، فهدموا البيت وقطعوا الشجر، وقتلوا الشيطانة التي فيه.


وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا عمرو بن العاص إلى سواع ليهدمه، فلمَّا وصل إليه قال له السادن: ماذا تريد? قال له عمرو: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدم سواع، قال له السادن: إنك لا تقدر؛ سيمنعك سواع من ذلك، قال عمرو: فبادرت فهدمته، وكسرتُ الصَّنَم، فلمَّا رأى السادن أن سواعًا لم يعمل شيئًا أسلم ذلك السادن.


وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا للبوادي حول مكة، فقد كان لذلك الفتح المبين الأثر الكبير في إسلام الكثير والكثير من الناس، فقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة الجرمي قال: (كانت العرب ينتظرون بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوا محمدًا وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيٌّ صادق)، فلما كان الفتح وحصل بادر الناس بالإسلام، ثم بعد فتح مكة حدثت غزوة حنين في العام الثامن نفسه في شهر شوال، ويُقال لها: أوطاس وهوازن، وكان سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خاف أشراف هوازن وثقيف أن يغزوهم، فحشدوا له وعزمُوا على قِتاله، فاجتمع إلى هوازن وثقيف عدد من القبائل حتى بلغ جيشهم عشرين ألف مُقاتِل، فساروا إلى قتاله، وأخذوا معهم أيضًا كذلك نساءهم وأموالهم وأبناءهم، وأراد أميرُهم من هؤلاء وحضورهم أن يُقاتِل كل رجل ولا يفر من الميدان؛ وذلك ليُدافِع عن نسائه وماله وأبنائه، وقد كانوا عارضوه على ذلك فعزم على هذا الفعل، وعندما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عبدالله بن أبي حدرد إلى هوازن خفيةً ليدخل فيهم، ويعرف خبرهم ويأتيه به، ففعل رضي الله عنه، فاستعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لغزوة حنين، في اثني عشر ألف مقاتل؛ عشرة آلاف مقاتل هم جيش فتح مكة، وألفان ممن أسلموا في الفتح وخرجوا من مكة إلى حنين، وفي الطريق جاء فارس من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هوازن خرجت بنسائها وأموالها لقتالنا يا رسول الله، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((تلك غنيمةُ المسلمين غدًا إن شاء الله))، ووصل جيش المسلمين إلى حنين في العاشر من شوال، ولمَّا كان في السحر تجهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال؛ فلبس درعينِ والمِغْفر، واستقبل الصفوف، وحثَّهم على القتال، وبشَّرهم بالفتح إن صبروا وصدقوا، وعندما انحدر المسلمون مع وادي حنين في بداية المعركة، وكان منحدرًا شديدًا فُوجِئوا بالكمائن من ثقيف، تنحدر عليهم حتى فرَّ بعضُهم، وقد وجدوا من هوازن رُماةً لا يكادون يخطئون رميهم، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذات اليمين وثبَتَ معه نفرٌ من المهاجرين والأنصار، وأخذ يُناديهم: ((أيُّها الناس، هلمُّوا إليَّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبدالله))؛ لكن لم يلتفتوا إليه من شدة ما وجدوا، وانطلق عليه الصلاة والسلام على بغلته نحو المشركين، وهو يقول: ((أنا النبيُّ لا كَذِب أنا ابن عبد المطلب))، ثم نزل عن بغلته فاستنصر ربَّه عزَّ وجلَّ قائلًا: ((اللهُمَّ أنزل نصْرَك، اللهُمَّ بِكَ أُحاولُ، وبِكَ أصاوُلُ، وبِكَ أُقاتِلُ))، ثم أخذ يُقاتِلهم ومن معه من الصحابة الذين ثبتوا، وكانوا يتَّقون به عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك يقول البراء: كُنَّا والله إذا احمَرَّ البأس اتَّقَيْنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أدنى إلى القوم منه، فقاتلوا قتالًا شديدًا حتى انهزم المشركون وقذف رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات، فرمى بها وجوه الكُفَّار، وقال: ((شاهت الوجوه))، فلم يبق منهم أحدٌ إلا وأصابته ثم قال: ((انهزموا ورب الكعبة))، ونزلت الملائكة لإرهاب الكُفَّار وتخويفهم؛ ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾ [التوبة: 25] إلى قوله عزَّ وجل: ﴿ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: 26]، فالملائكة عليهم السلام نزلوا تخويفًا وتخذيلًا للكُفَّار، ولم يقاتلوا في حنين؛ بل لم يقاتلوا إلا في بَدْر، كما ذكر ذلك ابن عباس رضي الله عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة: ((مَن قتل كافرًا فله سلبه)) فقتل أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه عشرين رجلًا وأخذ أسلابهم، فالمسلمون أُصيبوا في أول المعركة بسبب تلك الكمائن التي وضعها الكُفَّار؛ لكن الله عز وجل برحمته وفضله أيَّدهم بالملائكة، فاستعادوا قوَّتَهم،وضعف أمرُ الكافرين، فهُزِمُوا هزيمةً منكرةً حتى إن بعض الطلقاء الذين هم من أهل مكة ولم يسلموا بعد عندما رأوا هذا الواقع كان سببًا في إسلامهم، وعندما انهزمت هوازن تفرَّقوا، فبعضهم ذهب إلى الطائف، وبعضهم ذهب إلى أماكن أخرى، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعض السرايا على إثرهم، فقاتلوهم وكان السبي والغنائم من حنين شيء كثير، فقد بلغ ما يُقارِب الستة آلاف من النساء والصبيان؛ لأنهم حضروا بنسائهم وأبنائهم وأيضًا بلغ من الإبل أربعة وعشرين ألفًا، وأيضًا كذلك بلغ أكثر من أربعين ألف شاة، وبلغ أيضًا أربعة آلاف أوقية، وأشياء أخرى كثيرة، ولم يستشهد من المسلمين إلا أربعة رجال فقط.


وعندما تحصَّن كبار هوازن وثقيف ومن معهم في حصونهم في الطائف سار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فعسكر جيش المسلمين قرب الطائف، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم الحصار ليالي عديدة قد تصل إلى بضع وعشرين ليلة، فبدأوا يرمون المسلمين بالنِّبَال، وبدأ جيش المسلمين يرميهم بالمنجنيق، ويقذف عليهم القذائف، ونادى مُنادٍ النبي صلى الله عليه وسلم: أن من نزل واستسلم فهو حُرٌّ، فنزل حينها ثلاثة وعشرون رجلًا، فلما أسلموا أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما صعب على المسلمين فتح الحصن وكثرت عليهم النِّبَال، قال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ادْعُ الله عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهُمَّ اهْدِ ثقيفًا، وائْتِ بهم))، وقد استجاب الله عز وجل دعوة نبيِّه عليه الصلاة والسلام، فجاء كثير منهم في عام الوفود وهو العام التاسع، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعد ذلك إلى الجعرانة، فأقام فيها ثلاث عشرة ليلة، ثم قام عليه الصلاة والسلام بتقسيم الغنائم، وبدأ بالمؤلَّفة قلوبُهم يتألَّفهم لتقوية إسلامهم، وعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الجعرانة جاءت إليه أُمُّه من الرَّضاع وهي حليمة السعدية، فأكرمها النبي عليه الصلاة والسلام، وبسط لها رداءه وجلست عليه، وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الناس كلهم من الغنائم؛ لكنه لم يُعْطِ الأنصار شيئًا، فكأنَّهم وجدوا بأنفسهم شيئًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا علم ذلك النبي عليه الصلاة والسلام جمعهم، وقال لهم: ((ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاةِ والبعيرِ وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالِكم؟)) إلى آخر الحديث، فبكى الأنصار وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًّا، وذكرنا آنفًا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أن تسلم ثقيف، وكان هذا هو الواقع، فقد جاء وفْدٌ منهم وجاء بعد ذلك رئيسهم فأسلموا وبدأوا يقاتلون من لم يسلم من قومهم من ثقيف، وبعد أن قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم أحرم بالعمرة من الجعرانة وأكمل عمرته.


وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات كلهُنَّ في شهر ذي القعدة؛ وهي: عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، والعمرة التي كانت مع حجته عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك رجع إلى المدينة واستخلف على مكة عتاب بن أسيد، وهو أول أمير على مكة في الإسلام، وفي طريقه في الرجوع إلى المدينة حان وقت الأذان فأذَّن المؤذِّن وكان قريبًا من المؤذِّن بعضُ القوم من العرب غير المسلمين، فيهم أبو محذورة، فيقول أبو محذورة: كُنَّا نحاكيهم بالأذان استهزاءً وسخريةً بهم، وكانوا غير مسلمين، فلمَّا سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت أبي محذورة واستحسنه ناداه، ثم مسح على ناصيته، ومرت يده الشريفة على وجه أبي محذورة حتى بلغت سُرَّتَه، وقال له: بارك الله فيك، فيقول أبو محذورة: ذهبت كل الكراهية التي كانت في قلبي اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وامتلأ قلبي من حبِّه عليه الصلاة والسلام فأسلمت حينها، وعلمني الأذان فأذَّنْتُ، وطلبتُ أن يجعلني مؤذِّنًا في مكة، فكان ذلك، وكان عمر أبي محذورة آنذاك ستةَ عشرَ عامًا، فأذَّنَ بعدها خمسين سنةً، وتوارث الأذان في المسجد بعده أولادُه وأحفادُه، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في الرابع والعشرين من ذي القعدة.


أيها الكرام، نختم حلقتنا هذه ببعض الدروس والعِبَر المستفادة ممَّا تم ذِكْرُه ومنها:
الدرس الأول: في قصر النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة وهو في مكة تسعة عشر يومًا دليلٌ على أن المسافر يقصُر الصلاة إذا مكث في مكان معين تلك المدة المذكورة، وقد اختلفت آراء أهل العلم رحمهم الله في ذلك على أقوال عديدة؛ فمنهم من قال: أربعة أيام فقط وبعدها يُتِمُّ صلاته، وقال آخرون بأقوال تزيد على الأربعة أيام بأقوال مختلفة في حين أنه قال آخرون بأكثر من تسعةَ عشرَ يومًا، ولعل هذا العدد وهو تسعة عشر يومًا يُرجِّحه عدد من العلماء المعاصرين وهو قد ورد في صحيح البخاري من كلام ابن عباس رضي الله عنه، ومن أخذ بالأحوط وهو أربعة أيام فقد أخذ بما أجمع عليه أهل العلم.


الدرس الثاني: لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة بادر بإنكار الشرك، فأرسل مَن يهدم الأصنام؛ مثل: مَناة والعُزَّى وسواع واللات والأصنام التي على الكعبة، ولم يؤخِّر ذلك، فعلى المسلم إذا رأى المنكر فلا يسوِّف في تأخير إنكاره وهو يستطيع الإنكار؛ حتى لا تحصل أمامه عقبات، وقد تكون وهمية في كثير من الأحيان، وهذا أبرأ للذِّمَّة، ففي مجالسك وأهل بيتك وطريقك ومسجدك ونحوها قد ترى أو تسمع شيئًا من المنكر، فبادِرْ برفق وحلم وعلم بدرء المفسدة وجلب المصلحة وفي الزمن المناسب أيضًا بادر بالإنكار وادعُ بعد إنكارك بهداية ذلك الفاعل.


الدرس الثالث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش التفاؤل حتى في أصعب الظروف وهي ظروف الحرب؛ فعندما أخرجت ثقيف أموالهم ونساءهم للحرب قال حينها النبي صلى الله عليه وسلم: ((تلك غنيمة المسلمين غدًا))، فكم هو جميل أن تعيش التفاؤل أخي الكريم في جميع أمورك وظروفك؛ لأن هذا التفاؤل يزيد طاقتك ويزيدك أيضًا اطمئنانًا وسكينةً، وتعمل العمل أيضًا بارتياح وإن استصحبت مع التفاؤل الدعاء بقضاء حاجتك تلك، فهو نورٌ على نورٍ، وخيرٌ على خيرٍ.


فإذا أتم الله تعالى لك أمرك وظرفك، حمدته وشكرته ليزيدك من ذلك، فأنت بهذا على خيرٍ عظيمٍ، واجعل هذا منهجًا لك أمَّا من يعيش التشاؤم فإنه يعمل العمل بتعب وحرقة، وربما كان واقعه ونتيجته هو ما تشاءم به، فاحرص على فتح أسارير وجهك وقلبك عند أعمالك متفائلًا بنجاحها.


الدرس الرابع: عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تلك غنيمة المسلمين غدًا))، قال بعدها: ((إنْ شاءَ الله))، وهذا منهج كبير ومُهِمٌّ أن يُعلِّق المسلم أعمالَه ونتائجه بمشيئة الله تعالى، والله عز وجل يقول: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 23، 24]، فلا تنْسَ أخي الكريم، أنك إذا قلت: سأعمل كذا، أو سيكون كذا، أن تقول: إن شاء الله.


وفي الحديث المتفق عليه أن سليمان بن داود عليه السلام قال: لأطوفَنَّ الليلة على سبعين امرأة، تلد كل امرأة منهن غلامًا يُقاتِل في سبيل، فقيل له: قل إن شاء الله، فلم يقل، فلم تلد منهن إلَّا امرأةٌ واحدةٌ، ولدت نصف إنسان، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركًا لحاجته))؛ ولذلك الحالف إذا قال: إن شاء الله، فإنه لا يحنث إذا لم يفعل، فلو قال مثلًا: والله، لأدخُلَنَّ هذا البيت إن شاء الله، فلو لم يدخل، لم يحنث في يمينه، فلنستمسك بتلك الكلمة (إن شاء الله) فهي مباركة.


الدرس الخامس: في تلك الغزوة تظهر وتتجلَّى معية الله تعالى لأوليائه بنصرتهم وتسديدهم؛ حيث أنزل الله تعالى هؤلاء الملائكة الكِرام يُرعبون الكُفَّار ويخذلونهم وتتقوَّى بالله، ثم بهم عزيمة المؤمنين؛ ولذلك كانوا عاملًا مُهِمًّا في نصر المسلمين في تلك الغزوة، فذلك من نصر الله تعالى لعباده وأوليائه الذي لا يتخلَّف؛ ولكن قد يتأخَّر، وهذا لحكمة يعلمها الله عز وجل.


الدرس السادس: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل قتيلًا فله سلبه)) هذا تشجيع على الخير وفعله، وفي هذا دليل على تحفيز العاملين في المجالات الخيرية بشيء من المكافآت المالية تعزيزًا لهم؛ ولكن ليكن المقصد الأول هو العمل الخيري، ثم يأتي المال تبعًا، وذلك كالمعلمين في الحلقات القرآنية والجمعيات الدعويَّة ونحوها، ولهم مِنَّا الدعاء والسداد والإعانة، فهم بذلك جمعوا خيري الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل.


الدرس السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أُمِّه ثم استأذن بالاستغفار لها، فلم يُؤذَن له، فما حالنا نحن والوالدان مسلمان شبَّا وشابا على الإسلام؟! كيف استغفارنا لهما? فإنه قد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا ربي، من أين لي هذا? فيقول: باستغفار ولدك لك))؛ إسناده صحيح.


فلنعمل على دعواتنا لوالدينا بالاستغفار، فإننا إن فعلنا ذلك ربحوا هم وربحنا نحن أكثر منهم، فأما ربحهم هم فهو المغفرة، وأما ربحنا نحن فهو دعوة الملك، بقوله: "آمين، ولك بمثل"، وأيضًا هو بِرٌّ منا بوالدينا، فيا أخي، لا تنس والديك من استغفارك ودعواتك، فهم ينتظرونك أحياءً وأمواتًا.


الدرس الثامن: في قصة أبي محذورة درسٌ عظيمٌ وهو تشجيع وتحفيز لأصحاب المواهب والمخرجات الطيبة، فإنَّ أبا محذورة رضي الله عنه قد وهَبَه الله تعالى صوتًا حسنًا ونديًّا، فلما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه وإنما ناداه وعزَّزه وشجَّعَه ودعا له بالبركة، فكانت النتيجة أنه كان مُؤذِّنًا خمسين سنةً، فعلينا جميعًا إذا رأينا أصحاب المواهب من أولادنا أو أقاربنا أو جيراننا أو غيرهم من المسلمين إذا رأيت منه ما يعجبك فعزِّزْه وشجِّعه وافتح له آفاقًا أخرى في تنمية تلك الموهبة، فإن أحدُهم صلَّى بالمسجد إمامًا، وكان صوتُه نديًّا حسنًا، فقال له بعضهم: صوتك حسن ونديٌّ ولم يبق عليك إلا أن تحفظ القرآن كاملًا، فأرشده إلى الحفظ، فعزم صاحبنا هذا الإمام على حفظ القرآن، فحفظ القرآن بحمد الله؛ فصار ذلك التعزيز والتحفيز صدقةً جاريةً لذلك المُعزِّز والمُحفِّز، فما أكثر المواقف والتصرُّفات التي نراها! وهي متميزة، فلنتحدَّث مع أصحابها، وأحيلك أخي الكريم إلى حلقة إذاعية في النت بعنوان (التربية بالمواقف نماذج وتعليق) فقد ذكرت من خلالها عددًا من المواقف المتميزة مع التعليق اللطيف عليها، فارجع إليها فلربَّما وجدت فيها ما يُعزِّز هذا الجانب لديك، فكثيرًا ما نحتاج في أولادنا أو أقاربنا أو أولاد المسلمين نحتاج أن نُعزِّزَهم؛ لأننا إذا عزَّزْناهم وحفَّزْناهم وشجَّعْناهم، فإن نتيجة هذا التعزيز والتحفيز إنما هي صدقة جارية لنا ولهم بإذن الله عز وجل، وهكذا السيرة أيها الأخوة الكِرام مملوءة من الدروس والعِبَر والحكم والأحكام التي يضطر المسلم لمعرفتها وتدارسها وتطبيقها، وأن تكون سجيةً من سجاياه، وصفةً من صفاته، فعلينا أن نعمل ذلك، وأن نحصد ذلك من خلال قراءة السيرة.


أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهُمَّ وفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رضاك، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ابوالوليد المسلم 01-03-2023 09:41 PM

رد: خاتم النبيين
 
خاتم النبيين (40)
الشيخ خالد بن علي الجريش





الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فأهلًا وسهلًا، ومرحبًا بكم أيها الكرام في برنامجكم خاتم النبيين، أيها الأكارم، قد أسلفنا الحديث في الحلقة الماضية عن بدايات فتح مكة، وما حدث بين خزاعة وبني بكر، وماذا كان تصرف النبي صلى الله عليه وسلم عندما علم بذلك، وأيضًا كذلك ذكرنا ما فعله كفار قريش تجاه هذا الحدث، وأتبعنا هذا أيضًا بما فعله حاطب رضي الله عنه، وكيف قُوبِل هذا العمل إلى غير ذلك مما تم ذكره، وختمنا الحلقة بالدروس المستفادة.


والآن في حلقتنا لهذا الأسبوع نستأنف أحداث ذلك الفتح العظيم المبين؛ وهو فتح مكة، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ومعه جيش جرار، تعداده عشرة آلاف مقاتل من أصحابه رضي الله عنهم، من المهاجرين والأنصار، ومن بوادي المدينة، وكانوا رضي الله عنهم صائمين؛ حيث كان الفتح في شهر رمضان المبارك، وقد اختلف أهل العلم في تحديد اليوم؛ لكن يترجح عند الأكثر أنه خرج في اليوم العاشر من رمضان، ودخل مكة في اليوم التاسع عشر منه، كما ذكر ذلك ابن حجر، وابن هشام، وغيرهما، ولما مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالأبواء زار قبر أمه، وقد أقبل على الصحابة بعد زيارته وعيناه تذرفان، فسأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فداك أبي وأمي! ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني سألت ربي في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمةً لها من النار))، وكانت أمه قد ماتت على غير الإسلام، وأكمل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم طريقهم إلى مكة، فلما كان في مكان يقال له نقيب العقاب لقيه أبو سفيان بن الحارث -وهو ابن عمه- وكذلك لقيه عبدالله بن أمية، أما أبو سفيان فكان محبًّا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فلما كان بعد النبوة عاداه وهجاه، وأبغضه وآذاه، وأما عبدالله بن أمية فقد كان مؤذيًا أشد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذان الرجلان لقيا النبي صلى الله عليه وسلم ليسلما، فأعرض عنهما النبي عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لما كان عليه من الأذى له صلى الله عليه وسلم، فلما رأى منهما الجد والرغبة، والحرص على الإسلام رقَّ لهما، وأذن لهما بالدخول عليه، وقالا له: تالله، لقد آثرك الله، وإنا كنا لخاطئين، فقال لهما: ((لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين))، فأسلما، وحسن إسلامهما، وشهدا غزوة حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم.


وعندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من مكة صائمين حتى بلغوا الكديد -وهو مكان قريب من عسفان- أفطروا؛ أخرجه البخاري.


وقد روى مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أطوى لكم))، فأفطر بعضهم، وصام آخرون، فلما قربوا من عدوهم أمرهم بالفطر، قال الراوي: فأفطرنا أجمعين، ولما كانوا بمر الظهران أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإشعال النيران، فأوقدوها في كل مكان، حتى صار منظرًا مهيبًا، ولما بلغ الجحفة لقيه العباس مهاجرًا بأهله، فكان العباس آخر من هاجر؛ لأن بعده فُتحت مكة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح))؛ متفق عليه.


وأخذت قريش تتحسس أخبار المسلمين، فأرسلوا أبا سفيان بن حرب ورجالًا معه، وقالوا له: إن لقيت محمدًا؛ فخذ لنا منه أمانًا، فخرجوا يتحسسون الأخبار، فرأوا تلك النيران العظيمة، فأخذوا يتحدثون عنها وهم قريبون منهم، ولا يعلمون أنهم جيش المسلمين، وكان العباس حينها يبحث عن أحد يخبر قريشًا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تستسلم قريش ولا تقاتل، فاقترب أبو سفيان من العباس وهو قرب جيش المسلمين، فعرفه العباس فقال: ويحك! لأن ظفر بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربن عنقك؛ ولكن اركب معي على هذه البغلة حتى أستأمن لك من النبي صلى الله عليه وسلم، فركب معه أبو سفيان، ورجع البقية إلى مكة، فذهب العباس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما رآه عمر قال: يا رسول الله، دعني أضرب عنقه –يعني: أبا سفيان- فقال العباس رضي الله عنه: إني أجرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟))، قال أبو سفيان: بلى، علمت ذلك، ولو كان معه غيره لأغنى عني ذلك الغير، فأسلم أبو سفيان، وشهد الشهادة، وكان أبو سفيان يحب الفخر قبل إسلامه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن))؛ الحديث.


ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل أبا سفيان في مضيق الوادي؛ لأنه في أول إسلامه، فأمره أن يجعله في مضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها؛ وذلك ليعرف الحقيقة للمسلمين عن قرب؛ لأنه زعيم من زعماء مكة، وكلما مرت قبيلة سأل أبو سفيان العباس عنهم، فمرت القبائل أمامه كتيبة كتيبة، فقال أبو سفيان للعباس: ما لأحد بهؤلاء طاقة، ثم قال أبو سفيان للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا، وأشار العباس على أبي سفيان أن يسرع الذهاب إلى مكة، ويخبر قومه، ويأمرهم بالاستسلام وعدم القتال، فذهب أبو سفيان إلى مكة مسرعًا، فقال: يا معشر قريش، قد جاءكم محمد بما لا طاقة لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، فعاتبه بعضهم ومنهم زوجته، وتفرَّق كثير من الناس إلى دورهم حيث سمعوا زعيمهم يقول ذلك.


وقرب الجيش من مكة، ومكثوا قليلًا للتنظيم الأخير للجيش، ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتلوا النساء والصبيان، ولا يتبعوا من أدبر، واستثنى النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من قريش أمر بقتلهم، وإن كانوا متعلقين بأستار الكعبة، ذكرهم أهل السير؛ وذلك لشدة عداوتهم للإسلام، فلما علمت قريش بذلك جمعت جموعًا من القبائل؛ وهم الأوباش، وجعلتهم يتلقون الجيش ويدافعون، فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعض الكتائب أن يتجهوا إلى تلك الجموع المدافعة، فأمرهم أن يحصدوهم ويقتلوهم، ويأتوا إليه عند الصفا، فتحركت تلك الكتائب حتى قابلت تلك الجموع والأوباش، فلم يلقوا منهم مقاومة تُذكَر، فحصدوهم، وقتلوا منهم كثيرًا حتى قتل خالد بن الوليد عشرين رجلًا منهم، فلما بلغوا باب المسجد أخذ أبو سفيان يصيح على قريش: من أغلق عليه بابه فهو آمن، فأخذوا يقتحمون الدور، ويغلقون على أنفسهم، وفي هذه الأثناء انكسرت قريش، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، فلا قريش بعد اليوم، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن الوليد يأمره أن يرفع يده عن القتال، وأمر الصحابة رضي الله عنهم أن يكفُّوا عن القتال، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها في كتيبته، وبين يديه المهاجرون والأنصار، وذلك في صباح يوم الجمعة عشرين من رمضان، وهو على ناقته القصواء، ومردفًا أسامة بن زيد، واضعًا رأسه الشريف على راحلته تواضعًا لله تعالى، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح المبين وهو يقرأ سورة الفتح؛ فقد أخرجوه منها مطاردًا، واليوم يدخلها عزيزًا منصورًا مؤيدًا.


ولما ارتفع النهار أتى النبي صلى الله عليه وسلم دار أم هانئ، فاغتسل، وصلى ثماني ركعات، قال ابن القيم: وكانت هذه تُسمَّى صلاة الفتح، وكان الأمراء إذا فتحوا حصنًا أو بلدًا صلَّوا تلك الصلاة، ثم أتى المسجد الحرام، والأنصار والمهاجرون حوله يُكبِّرون ويُهلِّلُون، فأقبل على الحجر فاستلمه، ثم طاف سبعة أشواط، وكان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، فكلما دنا من صنم ضربه بمحجنه عليه الصلاة والسلام حتى سقط، فما انتهى من الطواف إلا وتلك الأصنام قد سقطت كلها، وهو يقرأ قول الله تعالى:﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81]، ثم دخل الكعبة، وصلى فيها، ثم خرج، ووقف عند باب الكعبة، وخطب الناس وفيهم قريش، وقال في خطبته: ((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟))، قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: ((لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء))، فعفا عنهم جميعًا، فدخلوا في الإسلام، ثم جلس في المسجد، فقال: ((أين عثمان بن أبي طلحة؟))، فجاءه عثمان، فسلمه مفتاح الكعبة، وقال عليه الصلاة والسلام: ((خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم))، ولا يزال مفتاح الكعبة مع بني شيبة إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة.


ثم أذن بلال فوق الكعبة، وكان قريبًا منه عتاب بن أسيد، والحارث بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، فقال عتاب والحارث -وهما لم يسلما- قالا كلامًا سيئًا بينهما، فقال أبو سفيان: أنا لا أقول شيئًا؛ لأنني لو قلت شيئًا لأخبرته هذه الحصى، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد علمت الذي قلتم))، فأخبرهم بما قالوا، وهم قد تخافتوا فيما بينهم، فلما ذكر ذلك لهم علموا صدق نبوَّته عليه الصلاة والسلام، فكان ذلك سببًا في إسلامهما.


وعندما جلس النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبو بكر رضي الله عنه بأبيه أبي قحافة، فأسلم أبو قحافة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتابع الناس يسلمون، ويشهدون شهادة الحق، وهو على الصفا، ثم لما انتهى الرجال بايع نساء قريش النبي عليه الصلاة والسلام، بايعوه على الإسلام، حيث يقول الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ [الممتحنة: 12] الآية، فقالت هند: نصافحك يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أصافح النساء))؛ متفق عليه.


وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أيامًا، فماذا عمل في تلك الأيام؟ هذا ما سنعرفه بإذن الله تعالى في حلقة الأسبوع القادم، ونختم حلقتنا تلك بشيء من الدروس والعبر مما سبق ذكره.


الدرس الأول: النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه من المدينة زار قبر أمه وهي مشركة، فلو أن المسلم زار قبور والديه المسلمين من غير شد الرحل لهما فلا جناح عليه، وإن كان الأصل في ذلك الدعاء لهما، والإكثار منه، والصدقة عنهما؛ لكنه لو زار المقبرة، فجاء قبور والديه وسلم ودعا؛ فهو من البر بهما؛ لكن لا يطيل؛ لأن الأصل هو السلام.


الدرس الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه وكانت مشركة، فلم يأذن له، وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة: 113]، فقد نزلت تلك الآية في منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبي طالب، فكل هذا يمنع من الدعاء أو الاستغفار لغير المسلم، سواء كان حيًّا أو ميتًا؛ لأن هذا لا ينفعه؛ لأن غير المسلم لا يُصلَّى عليه، ولا يُدعى له، فهو بمثابة الجيفة التي لا احترام لها، نعوذ بالله من ذلك؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنفال: 55]، ولا يدفنون في مقابر المسلمين؛ بل يدفنون بعيدًا عنهم في فلاة من الأرض، وقد يكون بعض أولاد هذا الكافر، أو بعض جلسائه عطفوا عليه بعد موته، فيرغبون بالدعاء له، أو الاستغفار له جهلًا منهم، فيُقال بأن هذا لا ينفعه، ولا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، وأيضًا بفعلهم هذا يكونوا خالفوا القرآن والسنة، ولو كان هذا العطف في حياته، وفي دعوته إلى الإسلام لكان خيرًا، أما إن مات على الكفر؛ فإن الحبل قد انقطع، ولا ينفعه صدقة، ولا صلاة عليه، ولا دعاء، ولا غيرها.


الدرس الثالث: النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل خلق الله تعالى وأشرفهم، ومع ذلك مات والداه على الكُفْر، فسبحان من يخرج الحي من الميت؛ ومن هذا يستفيد المسلم أن يسأل الله تعالى دائمًا الثبات على دين الله، ويعمل على ما يكون سببًا لذلك، ولا يتساهل، ولا يتنازل؛ وإنما يستمسك بعُرى الإيمان، ويخشى الزيغ؛ لأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فلا يشمت بأحد؛ وإنما يسأل الله تعالى العافية.


الدرس الرابع: إن أبا سفيان بن الحارث، وعبدالله بن أمية لما رغبا في الإسلام، واتضح لهما الحق ذهبا ليسلما؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ردهما؛ وذلك لشدة عداوتهما للإسلام، ولنبيه عليه الصلاة والسلام، فما كان منهما إلا أنهما قاما بالإلحاح على النبي صلى الله عليه وسلم، وطلبوا الشفاعة عنده، فَرَقَّ لهما وقبلهما، وهذا يعطينا درسًا أن المسلم إذا تبين له الحق في شيء؛ فليثبت على طلبه وحصوله، ويحاول أن يتجاوز العقبات، ولا يتنازل عن الحق؛ بل يطلبه قدر استطاعته، فاعرف مصالح دينك ودنياك، واطلبها بجد وإصرار لتفوز وتفلح.


الدرس الخامس: أيهما أفضل للصائم في حال سفره الفطر أم الصيام؟ قال بعض أهل العلم بأن الأفضل هو الفطر، وقال آخرون بأن الأفضل هو الصيام، ولكل دليله؛ لكن الذي يرجحه الأكثر من أهل العلم أنه إن كان في السفر مشقة؛ فالأفضل الفطر، وإن كان السفر ليس فيه مشقة؛ فالأفضل الصيام، جمعًا بين القولين.


الدرس السادس: إذا أراد الله تعالى أمرًا هيَّأ له أسبابه، فانظر إلى فتح مكة كان في الأصل أنه شاق على المسلمين؛ ولذلك جهزوا له جيشًا جرَّارًا تعداده عشرة آلاف مقاتل؛ ولكن الله عز وجل أراد أن يفتحوها بكل يسر وسهولة، فعندما أرسلوا أحد زعمائهم الكبار -وهو أبو سفيان بن حرب- ليطلب الأمن لهم، فإذا هو بأمر الله تعالى يرجع مسلمًا، ورجع أيضًا كذلك محذرًا لهم ومخوفًا من جيش محمد، فأصيب أهل مكة بالرعب والخوف، فما كان هناك مقاومة تُذكَر، فتمَّ فتحُها بيسر ولله الحمد، فإذا أراد الله تعالى أن يتم أمرًا فإنه يُهيِّئ أسبابه، فأكثروا من دعاء الله تعالى أن ييسر أموركم وظروفكم، وربما انتهت مشاكل وظروف بدعوة خالصة، فاستمسكوا بذلك فإنه سلاح.


الدرس السابع: حكمة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عندما رأى أبا سفيان، فإنه دعاه إلى دين الله تعالى، وأشار عليه بالإسلام، ورغَّبَه في ذلك ولم يبادره بقتل أو أذى، مع أن أبا سفيان في تلك الحال من الأعداء، وحكمة أخرى عند العباس أيضًا أنه عندما أسلم أبو سفيان أشار عليه أن يذهب إلى مكة ويخذلهم، ويدخل الرعب في قلوبهم، ففعل، فهذه الأعمال للعباس هي حكمة حباه الله إيَّاها، فنتج منها خير كثير؛ وهو إسلام أبي سفيان، وتخذيل قريش؛ مما كان له الأثر الكبير بعد توفيق الله تعالى في فتح مكة بيسر وسهولة، ودون قتال كبير وكثير.


الدرس الثامن: لقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الذين قدموا إليه ليسلموا، مع أنه لقي منهم الأذى الكبير، وأخرجوه من بلده، وهجوه، وآذوه، ومع ذلك عفا عنهم، فكيف بمسلم يخطئ في حق آخر، ثم يعتذر ذلك المخطئ فلا يقبل اعتذاره، مع أنه ما أتاه من الأذى ولا معشار معشار ما أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يفيدنا أننا عندنا ضعف في النظر في عواقب الأمور ومآلاتها، فعندما لم يصطلحا، فسيستمر الهجر، وقد يتعدَّى إلى الأولاد والأحفاد، وتتكاثر الأحقاد، فلو كان هؤلاء عندهم نظر في المآلات وعواقب الأمور لاصطلحوا وعفوا، وليتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا))؛ رواه مسلم.


فهل يرضى عاقل أن تتوقف عنه المغفرة بسبب الهجر؟ قد يكون الحق مع أحدهما بشكل كامل؛ لكن من أين الاحتساب في العفو؟ أين خلق التسامح؟ أين النظر في عواقب الأمور؟ فلو نظر المتهاجران للمفاسد التي تلحق بهما جميعًا لأسرعا إلى الصلح، وليتذكرا أنهما مسئولان في الدنيا والآخرة عن ذلك الهجر، حتى على صاحب الحق عليه أن يطلب الأجر من الله تعالى بالتنازل والصفح حتى لا تتسع رقعة الشقاق والخلاف، وإذا طلب الإصلاح والصلح والعفو أحدُهما فأبى الآخر؛ فقد باء بها ذلك الآخر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)).


الدرس التاسع: في قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا أصافح النساء)) فيه نهي صريح أن يصافح الرجل المرأة الأجنبية عنه التي ليست من محارمه، قالت عائشة رضي الله عنها: ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا تحل له؛ إنما كان يبايعهن بالكلام، فأين من يصافحونهن ويضاحكونهن؟! والله عز وجل نهاهم عن ذلك، وهو يراهم ويسمعهم، ألا يخافون سطوته وعذابه؟! ألا يرجعون؟! ألا يتذكرون؟! ألا يعقلون أن الجوارح التي تفعل ما يخالف الشرع هي التي ستشهد يوم القيامة على صاحبها؟! قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون [النور: 24]، والذكرى تنفع المؤمنين.


الدرس العاشر: كثيرة هي المعجزات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ومنها: إخباره عليه الصلاة والسلام لعتاب وإخباره للحارث بكلامهما السيئ الذي قالاه خفية بينهما، فهذه المعجزات للنبي صلى الله عليه وسلم هي مقويات للإيمان، ومثبتات عليه، فاقرأ أخي الكريم فيها، وتعرف عليها، فهي قصص ومواقف مفيدة؛ لتستفيد منها الدروس والعبر، ولتستقيم أيضًا على صراط الله المستقيم؛ لأنها خوارق وآيات تدل على صدق نبوَّة النبي صلى الله عليه وسلم، واجعل لك ولأسرتك نصيبًا وافرًا حتى يتفقَّهوا ويتعلَّموا، ويعرفوا السيرة عن قرب، وتثبت أقدامُهم على صراط الله المستقيم، اللهمَّ فقِّهْنا في الدين، وعلِّمْنا العلم النافع، وارزقنا العمل الصالح، ووفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


الساعة الآن : 11:26 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 674.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 672.47 كيلو بايت... تم توفير 1.77 كيلو بايت...بمعدل (0.26%)]