ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=84)
-   -   تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=273185)

ابوالوليد المسلم 20-01-2022 03:41 PM

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 


https://islamweb.net/ar/library/books/50.jpg
الطبري - محمد بن جرير الطبري
الأجزاء: أربعة وعشرون جزءا
سنة الطباعة: -
الناشر: دار المعارف

تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 311 هو أفضل التفاسير، وأوسعها، وأطولها باعًا في العلوم المتعلقة بالقرآن؛ لاهتمامه بما يتعلق بالقراءات القرآنية، وبوجوه اللغة، إضافة إلى أنه يروي الروايات في التفسير بأسانيده عن السلف -رحمهم الله تعالى-.
ترجمة الطبرى
محمد بن جرير

ابن يزيد بن كثير ، الإمام العلم المجتهد ، عالم العصر أبو جعفر الطبري ، صاحب التصانيف البديعة ، من أهل آمل طبرستان .

مولده سنة أربع وعشرين ومائتين وطلب العلم بعد الأربعين ومائتين ، وأكثر الترحال ، ولقي نبلاء الرجال ، وكان من أفراد الدهر علما ، وذكاء ، وكثرة تصانيف . قل أن ترى العيون مثله .

أخبرنا أحمد بن هبة الله ، عن أبي روح الهروي : أخبرنا زاهر [ ص: 268 ] المستملي ، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن ، أخبرنا أبو عمرو بن حمدان ، حدثنا محمد بن جرير الفقيه ، ومحمد بن إسحاق الثقفي قالا : حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لضباعة : حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني حديث حسن غريب من أعلى ما عندي عن ابن جرير .

سمع محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، وإسماعيل بن موسى السدي ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، ومحمد بن أبي معشر ، حدثه بالمغازي عن أبيه ، ومحمد بن حميد الرازي ، وأحمد بن منيع ، وأبا كريب محمد بن العلاء ، وهناد بن السري ، وأبا همام السكوني ، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، وبندارا ، ومحمد بن المثنى ، وسفيان بن وكيع ، والفضل بن الصباح ، وعبدة بن عبد الله الصفار ، وسلم بن جنادة ، ويونس بن عبد الأعلى ، ويعقوب الدورقي . وأحمد بن المقدام العجلي ، وبشر بن معاذ العقدي ، وسوار بن عبد الله العنبري ، وعمرو بن علي الفلاس ، ومجاهد بن موسى ، وتميم بن المنتصر ، والحسن بن عرفة ، ومهنا بن يحيى ، وعلي بن سهل الرملي ، وهارون بن إسحاق الهمداني ، والعباس بن الوليد العذري ، وسعيد بن عمرو السكوني ، وأحمد بن أخي ابن وهب ، [ ص: 269 ] ومحمد بن معمر القيسي ، وإبراهيم بن سعيد الجوهري ، ونصر بن علي الجهضمي ، ومحمد بن عبد الله بن بزيع ، وصالح بن مسمار المروزي ، وسعيد بن يحيى الأموي ، ونصر بن عبد الرحمن الأودي ، وعبد الحميد بن بيان السكري ، وأحمد بن أبي سريج الرازي ، والحسن بن الصباح البزار ، وأبا عمار الحسين بن حريث ، وأمما سواهم .

واستقر في أواخر أمره ببغداد . وكان من كبار أئمة الاجتهاد .

حدث عنه : أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني -وهو أكبر منه - وأبو القاسم الطبراني ، وأحمد بن كامل القاضي ، وأبو بكر الشافعي ، وأبو أحمد بن عدي ، ومخلد بن جعفر الباقرحي ، والقاضي أبو محمد بن زبر ، وأحمد بن القاسم الخشاب ، وأبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان ، وأبو جعفر أحمد بن علي الكاتب ، وعبد الغفار بن عبيد الله الحضيني ، وأبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني ، والمعلى بن سعيد ، وخلق كثير .

قال أبو سعيد بن يونس : محمد بن جرير من أهل آمل ، كتب بمصر ، ورجع إلى بغداد ، وصنف تصانيف حسنة تدل على سعة علمه .

وقال الخطيب محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب : كان أحد أئمة العلماء ، يحكم بقوله ، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، فكان حافظا لكتاب الله ، عارفا بالقراءات ، بصيرا بالمعاني ، فقيها في أحكام القرآن ، عالما بالسنن وطرقها ، صحيحها وسقيمها ، وناسخها ومنسوخها ، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ، عارفا بأيام الناس وأخبارهم ، وله الكتاب المشهور في [ ص: 270 ] " أخبار الأمم وتاريخهم " ، وله كتاب : " التفسير " لم يصنف مثله ، وكتاب سماه : " تهذيب الآثار " لم أر سواه في معناه ، لكن لم يتمه ، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء ، وتفرد بمسائل حفظت عنه .

قلت : كان ثقة ، صادقا ، حافظا ، رأسا في التفسير ، إماما في الفقه والإجماع والاختلاف ، علامة في التاريخ وأيام الناس ، عارفا بالقراءات وباللغة ، وغير ذلك .

قرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد .

ذكر أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني : أن مولده بآمل .

وقيل : إن المكتفي أراد أن يحبس وقفا تجتمع عليه أقاويل العلماء ، فأحضر له ابن جرير ، فأملى عليهم كتابا لذلك ، فأخرجت له جائزة ، فامتنع من قبولها ، فقيل له : لا بد من قضاء حاجة . قال : أسأل أمير المؤمنين أن يمنع السؤال يوم الجمعة ، ففعل ذلك .

وكذا التمس منه الوزير أن يعمل له كتابا في الفقه ، فألف له كتاب : " الخفيف " ، فوجه إليه بألف دينار ، فردها . الخطيب : حدثني أبو الفرج محمد بن عبيد الله الشيرازي الخرجوشي : سمعت أحمد بن منصور الشيرازي ، سمعت محمد بن أحمد الصحاف السجستاني ، سمعت أبا العباس البكري يقول : جمعت الرحلة بين ابن جرير ، وابن خزيمة ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن هارون الروياني بمصر ، فأرملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم ، وأضر بهم الجوع ، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه ، فاتفق رأيهم على أن يستهموا [ ص: 271 ] ويضربوا القرعة ، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام ، فخرجت القرعة على ابن خزيمة ، فقال لأصحابه : أمهلوني حتى أصلي صلاة الخيرة . قال : فاندفع في الصلاة ، فإذا هم بالشموع وخصي من قبل والي مصر يدق الباب ، ففتحوا ، فقال : أيكم محمد بن نصر ؟ فقيل : هو ذا . فأخرج صرة فيها خمسون دينارا ، فدفعها إليه ، ثم قال : وأيكم محمد بن جرير ؟ فأعطاه خمسين دينارا ، وكذلك للروياني ، وابن خزيمة ، ثم قال : إن الأمير كان قائلا بالأمس ، فرأى في المنام أن المحامد جياع قد طووا كشحهم ، فأنفذ إليكم هذه الصرر ، وأقسم عليكم : إذا نفدت ، فابعثوا إلي أحدكم .

وقال أبو محمد الفرغاني في " ذيل تاريخه " على تاريخ الطبري ، قال : حدثني أبو علي هارون بن عبد العزيز ; أن أبا جعفر لما دخل بغداد ، وكانت معه بضاعة يتقوت منها ، فسرقت فأفضى به الحال إلى بيع ثيابه وكمي قميصه ، فقال له بعض أصدقائه : تنشط لتأديب بعض ولد الوزير أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان ؟ قال : نعم . فمضى الرجل ، فأحكم له أمره ، وعاد فأوصله إلى الوزير بعد أن أعاره ما يلبسه ، فقربه الوزير ورفع مجلسه ، وأجرى عليه عشرة دنانير في الشهر ، فاشترط عليه أوقات طلبه للعلم والصلوات والراحة ، وسأل إسلافه رزق شهر ، ففعل ، وأدخل في [ ص: 272 ] حجرة التأديب ، وخرج إليه الصبي -وهو أبو يحيى - ، فلما كتبه أخذ الخادم اللوح ، ودخلوا مستبشرين ، فلم تبق جارية إلا أهدت إليه صينية فيها دراهم ودنانير ، فرد الجميع وقال : قد شورطت على شيء ، فلا آخذ سواه . فدرى الوزير ذلك ، فأدخلته إليه وسأله ، فقال : هؤلاء عبيد وهم لا يملكون . فعظم ذلك في نفسه .

وكان ربما أهدى إليه بعض أصدقائه الشيء فيقبله ، ويكافئه أضعافا لعظم مروءته .

قال الفرغاني : وكتب إلي المراغي يذكر أن المكتفي قال للوزير : أريد أن أقف وقفا . فذكر القصة وزاد : فرد الألف على الوزير ولم يقبلها ، فقيل له : تصدق بها . فلم يفعل ، وقال : أنتم أولى بأموالكم وأعرف بمن تصدقون عليه .

قال الخطيب : سمعت علي بن عبيد الله اللغوي يحكي : أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة .

قال الخطيب : وبلغني عن أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني الفقيه أنه قال : لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا .

قال الحاكم : سمعت حسينك بن علي يقول : أول ما سألني ابن خزيمة فقال لي : كتبت عن محمد بن جرير الطبري ؟ قلت : لا ، قال : ولم ؟ قلت : لأنه كان لا يظهر ، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه ، قال : بئس ما فعلت ، ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم ، وسمعت من أبي جعفر .

قال الحاكم : وسمعت أبا بكر بن بالويه يقول : قال لي أبو بكر بن [ ص: 273 ] خزيمة : بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير ؟ قلت : بلى ، كتبته عنه إملاء ، قال : كله ؟ قلت : نعم . قال : في أي سنة ؟ قلت : من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين ومائتين . قال : فاستعاره مني أبو بكر ، ثم رده بعد سنين ، ثم قال : لقد نظرت فيه من أوله إلى آخره ، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير ، ولقد ظلمته الحنابلة .

قال أبو محمد الفرغاني : تم من كتب محمد بن جرير كتاب : " التفسير " الذي لو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب ، كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد مستقصى لفعل .

وتم من كتبه كتاب : " التاريخ " إلى عصره ، وتم أيضا كتاب : " تاريخ الرجال " من الصحابة والتابعين ، وإلى شيوخه الذين لقيهم ، وتم له كتاب : " لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام " ، وهو مذهبه الذي اختاره ، وجوده ، واحتج له ، وهو ثلاثة وثمانون كتابا ، وتم له كتاب " القراءات والتنزيل والعدد " وتم له كتاب : " اختلاف علماء الأمصار " ، وتم له كتاب : " الخفيف في أحكام شرائع الإسلام " ، وهو مختصر لطيف ، وتم له كتاب : " التبصير " ، وهو رسالة إلى أهل طبرستان ، يشرح فيها ما تقلده من أصول الدين ، وابتدأ بتصنيف كتاب : " تهذيب الآثار " وهو من عجائب كتبه ، ابتداء بما أسنده الصديق مما صح عنده سنده ، وتكلم على كل حديث منه بعلله وطرقه ، ثم فقهه ، واختلاف العلماء وحججهم ، وما فيه من المعاني والغريب ، والرد على الملحدين ، فتم منه مسند العشرة وأهل البيت والموالي ، وبعض مسند ابن عباس ، فمات قبل تمامه .

قلت : هذا لو تم لكان يجيء في مائة مجلد .

قال : وابتدأ بكتابه " البسيط " فخرج منه كتاب الطهارة ، فجاء في نحو من ألف وخمس مائة ورقة ; لأنه ذكر في كل باب منه اختلاف الصحابة [ ص: 274 ] والتابعين ، وحجة كل قول ، وخرج منه أيضا أكثر كتاب الصلاة ، وخرج منه آداب الحكام . وكتاب : " المحاضر والسجلات " وكتاب : " ترتيب العلماء " وهو من كتبه النفيسة ، ابتدأه بآداب النفوس وأقوال الصوفية ، ولم يتمه ، وكتاب " المناسك " وكتاب : " شرح السنة " وهو لطيف ، بين فيه مذهبه واعتقاده ، وكتابه : " المسند " المخرج ، يأتي فيه على جميع ما رواه الصحابي من صحيح وسقيم ، ولم يتمه ، ولما بلغه أن أبا بكر بن أبي داود تكلم في حديث غدير خم عمل كتاب : " الفضائل " فبدأ بفضل أبي بكر ، ثم عمر ، وتكلم على تصحيح حديث غدير خم ، واحتج لتصحيحه ، ولم يتم الكتاب .

وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات ، من جاهل ، وحاسد ، وملحد ، فأما أهل الدين والعلم فغير منكرين علمه ، وزهده في الدنيا ، ورفضه لها ، وقناعته -رحمه الله- بما كان يرد عليه من حصة من ضيعة خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة . وحدثني هارون بن عبد العزيز قال : قال أبو جعفر : استخرت الله وسألته العون على ما نويته من تصنيف التفسير قبل أن أعمله ثلاث سنين ، فأعانني .

القاضي أبو عبد الله القضاعي : حدثنا علي بن نصر بن الصباح ، حدثنا أبو عمر عبيد الله بن أحمد السمسار ، وأبو القاسم بن عقيل الوراق : أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه : هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا ؟ قالوا : كم قدره ؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة ، فقالوا : هذا مما تفنى [ ص: 275 ] الأعمار قبل تمامه ! فقال : إنا لله ! ماتت الهمم . فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة ، ولما أن أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوا من ذلك ، ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ . قال أحمد بن كامل القاضي : أربعة كنت أحب بقاءهم : أبو جعفر بن جرير ، والبربري ، وأبو عبد الله بن أبي خيثمة ، والمعمري ، فما رأيت أفهم منهم ولا أحفظ .

قال الفرغاني : وحدثني هارون بن عبد العزيز : قال لي أبو جعفر الطبري : أظهرت مذهب الشافعي ، واقتديت به ببغداد عشر سنين ، وتلقاه مني ابن بشار الأحول أستاذ ابن سريج . قال هارون : فلما اتسع علمه أداه اجتهاده وبحثه إلى ما اختاره في كتبه .

قال الفرغاني : وكتب إلي المراغي قال : لما تقلد الخاقاني الوزارة وجه إلى أبي جعفر الطبري بمال كثير ، فامتنع من قبوله ، فعرض عليه القضاء فامتنع ، فعرض عليه المظالم فأبى ، فعاتبه أصحابه وقالوا : لك في هذا ثواب ، وتحيي سنة قد درست . وطمعوا في قبوله المظالم ، فباكروه ليركب معهم لقبول ذلك ، فانتهرهم وقال : قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه . قال : فانصرفنا خجلين . أبو الفتح بن أبي الفوارس : أخبرنا محمد بن علي بن سهل بن الإمام -صاحب محمد بن جرير - : سمعت محمد بن جرير وهو يكلم ابن صالح الأعلم ، وجرى ذكر علي -رضي الله عنه- ، ثم قال محمد بن جرير : من قال : إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى ، أيش هو ؟ قال : مبتدع . فقال ابن جرير إنكارا عليه : مبتدع مبتدع ! هذا يقتل .

وقال مخلد الباقرحي : أنشدنا محمد بن جرير لنفسه : [ ص: 276 ] إذا أعسرت لم يعلم رفيقي وأستغني فيستغني صديقي حيائي حافظ لي ماء وجهي ورفقي في مطالبتي رفيقي ولو أني سمحت بماء وجهي لكنت إلى العلا سهل الطريق وله : خلقان لا أرضى فعالهما بطر الغنى ومذلة الفقر فإذا غنيت فلا تكن بطرا وإذا افتقرت فته على الدهر قال أبو محمد الفرغاني : حدثني أبو بكر الدينوري قال : لما كان وقت صلاة الظهر من يوم الاثنين الذي توفي فيه -في آخره- ابن جرير طلب ماء ليجدد وضوءه ، فقيل له : تؤخر الظهر تجمع بينها وبين العصر . فأبى وصلى الظهر مفردة ، والعصر في وقتها أتم صلاة وأحسنها . وحضر وقت موته جماعة منهم : أبو بكر بن كامل ، فقيل له قبل خروج روحه : يا أبا جعفر ، أنت الحجة فيما بيننا وبين الله فيما ندين به ، فهل من شيء توصينا به من أمر ديننا ، وبينة لنا نرجو بها السلامة في معادنا ؟ فقال : الذي أدين الله به وأوصيكم هو ما ثبت في كتبي ، فاعملوا به وعليه . وكلاما هذا معناه ، وأكثر من التشهد وذكر الله -عز وجل- ، ومسح يده على وجهه ، وغمض بصره بيده ، وبسطها وقد فارقت روحه الدنيا . وكان مولده سنة أربع وعشرين ومائتين ورحل من آمل لما ترعرع وحفظ القرآن ، وسمح له أبوه في أسفاره ، وكان طول حياته يمده بالشيء بعد [ ص: 277 ] الشيء إلى البلدان ، فيقتات به ، ويقول فيما سمعته : أبطأت عني نفقة والدي ، واضطررت إلى أن فتقت كمي قميصي فبعتهما .

قلت : جمع طرق حديث : غدير خم ، في أربعة أجزاء ، رأيت شطره ، فبهرني سعة رواياته ، وجزمت بوقوع ذلك .

قيل لابن جرير : إن أبا بكر بن أبي داود يملي في مناقب علي . فقال : تكبيرة من حارس . وقد وقع بين ابن جرير وبين ابن أبي داود ، وكان كل منهما لا ينصف الآخر ، وكانت الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود ، فكثروا وشغبوا على ابن جرير ، وناله أذى ، ولزم بيته ، نعوذ بالله من الهوى .

وكان ابن جرير من رجال الكمال ، وشنع عليه بيسير تشيع ، وما رأينا إلا الخير ، وبعضهم ينقل عنه أنه كان يجيز مسح الرجلين في الوضوء ، ولم نر ذلك في كتبه . ولأبي جعفر في تآليفه عبارة وبلاغة ، فمما قاله في كتاب : " الآداب النفيسة والأخلاق الحميدة " : القول في البيان عن الحال الذي يجب على العبد مراعاة حاله فيما يصدر من عمله لله عن نفسه ، قال : ( إنه لا حالة من أحوال المؤمن يغفل عدوه الموكل به عن دعائه إلى سبيله ، والقعود له رصدا بطرق ربه المستقيمة ، صادا له عنها ، كما قال لربه -عز ذكره- إذ جعله من المنظرين : لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم طمعا منه في تصديق ظنه عليه إذ قال لربه : لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا .

فحق على كل ذي حجى أن يجهد نفسه في تكذيب ظنه ، وتخييبه منه أمله وسعيه فيما أرغمه ، ولا شيء من فعل العبد أبلغ في مكروهه من طاعته ربه ، وعصيانه أمره ، ولا شيء أسر إليه من عصيانه ربه ، واتباعه أمره . [ ص: 278 ] فكلام أبي جعفر من هذا النمط ، وهو كثير مفيد .

وقد حكى أبو علي التنوخي في " النشوار " له ، عن عثمان بن محمد السلمي قال : حدثني ابن منجو القائد ، قال : حدثني غلام لابن المزوق ، قال : اشترى مولاي جارية ، فزوجنيها ، فأحببتها وأبغضتني حتى ضجرت ، فقلت لها : أنت طالق ثلاثا ، لا تخاطبيني بشيء إلا قلت لك مثله ، فكم أحتملك ؟ فقالت في الحال : أنت طالق ثلاثا . فأبلست ، فدللت على محمد بن جرير ، فقال لي : أقم معها بعد أن تقول لها : أنت طالق ثلاثا إن طلقتك .

فاستحسن هذا الجواب . وذكره شيخ الحنابلة ابن عقيل ، وقال : وله جواب آخر : أن يقول كقولها سواء : أنت طالق . ثلاثا -بفتح التاء- فلا يحنث . وقال أبو الفرج ابن الجوزي : وما كان يلزمه أن يقول لها ذاك على الفور ، فله التمادي إلى قبل الموت .

قلت : ولو قال : أنت طالق ثلاثا ، وقصد الاستفهام أو عنى أنها طالق من وثاق ، أو عنى الطلق لم يقع طلاق في باطن الأمر .

وله جواب آخر على قاعدة مراعاة سبب اليمين ونية الحالف ، فما كان عليه أن يقول لها ما قالته ، إذ من المعلوم بقرينة الحال استثناء ذلك قطعا ; لأنه ما قصد إلا أنها إذا قالت له ما يؤذيه أن يؤذيها بمثله ، ولو جاوبها بالطلاق لسرت هي ، ولتأذى هو ، كما استثني من عموم قوله تعالى : وأوتيت من كل شيء بقرينة الحال أنها لم تؤت لحية ولا إحليلا .

ومن المعلوم استثناؤه بالضرورة التي لم يقصدها الحالف قط لو حلف : لا تقولي لي شيئا إلا قلت لك مثله ، أنها لو كفرت وسبت الأنبياء فلم يجاوبها بمثل ذلك لأحسن .

ثم يقول طائفة من الفقهاء : إنه لم يحنث إلا أن يكون -والعياذ بالله- [ ص: 279 ] قصد دخول ذلك في يمينه .

وأما على مذهب داود بن علي ، وابن حزم ، والشيعة ، وغيرهم ، فلا شيء عليه ، ورأوا الحلف والأيمان بالطلاق من أيمان اللغو ، وأن اليمين لا تنعقد إلا بالله .

وذهب إمام في زماننا إلى أن من حلف على حض أو منع بالطلاق ، أو العتاق ، أو الحج ونحو ذلك فكفارته كفارة يمين ، ولا طلاق عليه . قال ابن جرير في كتاب " التبصير في معالم الدين " : القول فيما أدرك علمه من الصفات خبرا ، وذلك نحو إخباره تعالى أنه سميع بصير ، وأن له يدين بقوله : بل يداه مبسوطتان وأن له وجها بقوله : ويبقى وجه ربك وأنه يضحك بقوله في الحديث : لقي الله وهو يضحك إليه و أنه ينزل إلى سماء الدنيا لخبر رسوله بذلك وقال [ ص: 280 ] -عليه السلام- : ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن .

إلى أن قال : فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله نفسه ورسوله ما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية ، لا نكفر بالجهل بها أحدا إلا بعد انتهائها إليه .

أخبرنا أحمد بن هبة الله : أخبرنا زين الأمناء الحسن بن محمد ، أخبرنا أبو القاسم الأسدي ، أخبرنا أبو القاسم بن أبي العلاء ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر التميمي ، أخبرنا أبو سعيد الدينوري مستملي ابن جرير ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بعقيدته ، فمن ذلك : وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى ، فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر . وهذا " تفسير " هذا الإمام مشحون في آيات الصفات بأقوال السلف على الإثبات لها ، لا على النفي والتأويل ، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين أبدا .

أخبرنا أبو الفضل أحمد بن هبة الله ، أخبرنا المسلم بن أحمد المازني ، أخبرنا علي بن الحسن الحافظ ببعلبك سنة إحدى وخمسين وخمس مائة ، أخبرنا علي بن إبراهيم الحسيني ، أخبرنا أبو بكر الحافظ ، قال : قرأت على أبي الحسن هبة الله بن الحسن الأديب لابن دريد . قلت : يرثي ابن جرير : [ ص: 281 ] لن تستطيع لأمر الله تعقيبا فاستنجد الصبر أو فاستشعر الحوبا وافزع إلى كنف التسليم وارض بما قضى المهيمن مكروها ومحبوبا إن الرزية لا وفر تزعزعه أيدي الحوادث تشتيتا وتشذيبا ولا تفرق ألاف يفوت بهم بين يغادر حبل الوصل مقضوبا لكن فقدان من أضحى بمصرعه نور الهدى وبهاء العلم مسلوبا إن المنية لم تتلف به رجلا بل أتلفت علما للدين منصوبا أهدى الردى للثرى إذ نال مهجته نجما على من يعادي الحق مصبوبا كان الزمان به تصفو مشاربه فالآن أصبح بالتكدير مقطوبا كلا وأيامه الغر التي جعلت للعلم نورا وللتقوى محاريبا لا ينسري الدهر عن شبه له أبدا ما استوقف الحج بالأنصاب أركوبا إذا انتضى الرأي في إيضاح مشكلة أعاد منهجها المطموس ملحوبا لا يولج اللغو والعوراء مسمعه ولا يقارف ما يغشيه تأنيبا تجلو مواعظه رين القلوب كما يجلو ضياء سنا الصبح الغياهيبا لا يأمن العجز والتقصير مادحه ولا يخاف على الإطناب تكذيبا ودت بقاع بلاد الله لو جعلت قبرا له لحباها جسمه طيبا كانت حياتك للدنيا وساكنها نورا فأصبح عنها النور محجوبا لو تعلم الأرض من وارت لقد خشعت أقطارها لك إجلالا وترحيبا إن يندبوك فقد ثلت عروشهم وأصبح العلم مرثيا ومندوبا ومن أعاجيب ما جاء الزمان به وقد يبين لنا الدهر الأعاجيبا أن قد طوتك غموض الأرض في لحف وكنت تملأ منها السهل واللوبا [ ص: 282 ] قال أحمد بن كامل : توفي ابن جرير عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة ودفن في داره برحبة يعقوب -يعني ببغداد .

قال : ولم يغير شيبه ، وكان السواد فيه كثيرا ، وكان أسمر إلى الأدمة ، أعين ، نحيف الجسم ، طويلا ، فصحيا . وشيعه من لا يحصيهم إلا الله تعالى ، وصلي على قبره عدة شهور ليلا ونهارا . إلى أن قال : ورثاه خلق من الأدباء وأهل الدين ، ومن ذلك قول أبي سعيد بن الأعرابي : حدث مفظع وخطب جليل دق عن مثله اصطبار الصبور قام ناعي العلوم أجمع لما قام ناعي محمد بن جرير
منقول





ابوالوليد المسلم 20-01-2022 03:42 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (2)
صــ 1إلى صــ 12

بسم الله الرحمن الرحيم بركة من الله وأمر

قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ست وثلاثمائة ، قال : الحمد لله الذي حجت الألباب بدائع حكمه ، وخصمت العقول لطائف حججه وقطعت عذر الملحدين عجائب صنعه ، وهتفت في أسماع العالمين ألسن أدلته ، شاهدة أنه الله الذي لا إله إلا هو ، الذي لا عدل له معادل ولا مثل له مماثل ، ولا شريك له مظاهر ، ولا ولد له ولا والد ، ولم يكن له صاحبة ولا كفوا أحد; وأنه الجبار الذي خضعت لجبروته الجبابرة ، والعزيز الذي ذلت لعزته الملوك الأعزة ، وخشعت لمهابة سطوته ذوو المهابة ، وأذعن له جميع الخلق بالطاعة طوعا وكرها ، كما قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) [ سورة الرعد : 15 . فكل موجود إلى وحدانيته داع ، وكل محسوس إلى ربوبيته هاد ، بما وسمهم به من آثار الصنعة ، من نقص وزيادة ، وعجز وحاجة ، وتصرف في عاهات عارضة ، ومقارنة أحداث لازمة ، لتكون له الحجة البالغة .

ثم أردف ما شهدت به من ذلك أدلته ، وأكد ما استنارت في القلوب منه بهجته ، برسل ابتعثهم إلى من يشاء من عباده ، دعاة إلى ما اتضحت لديهم صحته ، وثبتت في العقول حجته ، ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ سورة النساء : 165 ] [ ص: 4 ]

وليذكر أولو النهى والحلم . فأمدهم بعونه ، وأبانهم من سائر خلقه ، بما دل به على صدقهم من الأدلة ، وأيدهم به من الحجج البالغة والآي المعجزة ، لئلا يقول القائل منهم ( ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) [ سورة المؤمنون : 33 - 34 ] فجعلهم سفراء بينه وبين خلقه ، وأمناءه على وحيه ، واختصهم بفضله ، واصطفاهم برسالته ، ثم جعلهم - فيما خصهم به من مواهبه ، ومن به عليهم من كراماته - مراتب مختلفة ، ومنازل مفترقة ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ، متفاضلات متباينات . فكرم بعضهم بالتكليم والنجوى ، وأيد بعضهم بروح القدس ، وخصه بإحياء الموتى ، وإبراء أولي العاهة والعمى ، وفضل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، من الدرجات بالعليا ، ومن المراتب بالعظمى . فحباه من أقسام كرامته بالقسم الأفضل وخصه من درجات النبوة بالحظ الأجزل ، ومن الأتباع والأصحاب بالنصيب الأوفر . وابتعثه بالدعوة التامة ، والرسالة العامة ، وحاطه وحيدا ، وعصمه فريدا ، من كل جبار عاند ، وكل شيطان مارد حتى أظهر به الدين ، وأوضح به السبيل ، وأنهج به معالم الحق ، ومحق به منار الشرك . وزهق به الباطل ، واضمحل به الضلال وخدع الشيطان وعبادة الأصنام والأوثان ، مؤيدا بدلالة على الأيام باقية ، وعلى الدهور والأزمان ثابتة ، وعلى مر الشهور والسنين دائمة ، يزداد ضياؤها على كر الدهور إشراقا ، وعلى مر الليالي والأيام [ ص: 5 ] ائتلاقا ، خصيصى من الله له بها دون سائر رسله - الذين قهرتهم الجبابرة ، واستذلتهم الأمم الفاجرة ، فتعفت بعدهم منهم الآثار ، وأخملت ذكرهم الليالي والأيام - ودون من كان منهم مرسلا إلى أمة دون أمة ، وخاصة دون عامة ، وجماعة دون كافة .

فالحمد لله الذي كرمنا بتصديقه ، وشرفنا باتباعه ، وجعلنا من أهل الإقرار والإيمان به وبما دعا إليه وجاء به ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أزكى صلواته ، وأفضل سلامه ، وأتم تحياته .

ثم أما بعد فإن من جسيم ما خص الله به أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة ، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة ، وحباهم به من الكرامة السنية ، حفظه ما حفظ عليهم - جل ذكره وتقدست أسماؤه - من وحيه وتنزيله ، الذي جعله على حقيقة نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم دلالة ، وعلى ما خصه به من الكرامة علامة واضحة ، وحجة بالغة ، أبانه به من كل كاذب ومفتر ، وفصل به بينهم وبين كل جاحد وملحد ، وفرق به بينهم وبين كل كافر ومشرك; الذي لو اجتمع جميع من بين أقطارها ، من جنها وإنسها وصغيرها وكبيرها ، على أن يأتوا بسورة من مثله لم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . فجعله لهم في دجى الظلم نورا ساطعا ، وفي سدف الشبه شهابا لامعا وفي مضلة المسالك دليلا هاديا ، وإلى سبل النجاة والحق حاديا ، ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) [ سورة المائدة : 16 . حرسه بعين [ ص: 6 ] منه لا تنام ، وحاطه بركن منه لا يضام ، لا تهي على الأيام دعائمه ، ولا تبيد على طول الأزمان معالمه ، ولا يجوز عن قصد المحجة تابعه ولا يضل عن سبل الهدى مصاحبه . من اتبعه فاز وهدي ، ومن حاد عنه ضل وغوى ، فهو موئلهم الذي إليه عند الاختلاف يئلون ، ومعقلهم الذي إليه في النوازل يعقلون وحصنهم الذي به من وساوس الشيطان يتحصنون ، وحكمة ربهم التي إليها يحتكمون ، وفصل قضائه بينهم الذي إليه ينتهون ، وعن الرضى به يصدرون ، وحبله الذي بالتمسك به من الهلكة يعتصمون .

اللهم فوفقنا لإصابة صواب القول في محكمه ومتشابهه ، وحلاله وحرامه ، وعامه وخاصه ، ومجمله ومفسره ، وناسخه ومنسوخه ، وظاهره وباطنه ، وتأويل آيه وتفسير مشكله . وألهمنا التمسك به والاعتصام بمحكمه ، والثبات على التسليم لمتشابهه . وأوزعنا الشكر على ما أنعمت به علينا من حفظه والعلم بحدوده . إنك سميع الدعاء قريب الإجابة . وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما .

اعلموا عباد الله ، رحمكم الله ، أن أحق ما صرفت إلى علمه العناية ، وبلغت في معرفته الغاية ، ما كان لله في العلم به رضى ، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى ، وأن أجمع ذلك لباغيه كتاب الله الذي لا ريب فيه ، وتنزيله الذي لا مرية فيه ، الفائز بجزيل الذخر وسني الأجر تاليه ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد .

ونحن - في شرح تأويله ، وبيان ما فيه من معانيه - منشئون إن شاء الله ذلك ، كتابا مستوعبا لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعا ، ومن سائر الكتب [ ص: 7 ] غيره في ذلك كافيا . ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه واختلافها فيما اختلفت فيه منه . ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم ، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك ، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك ، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه .

والله نسأل عونه وتوفيقه لما يقرب من محابه ، ويبعد من مساخطه . وصلى الله على صفوته من خلقه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .

وأول ما نبدأ به من القيل في ذلك : الإبانة عن الأسباب التي البداية بها أولى ، وتقديمها قبل ما عداها أحرى . وذلك : البيان عما في آي القرآن من المعاني التي من قبلها يدخل اللبس على من لم يعان رياضة العلوم العربية ، ولم تستحكم معرفته بتصاريف وجوه منطق الألسن السليقية الطبيعية .
[ ص: 8 ]

( القول في البيان عن اتفاق معاني آي القرآن ، ومعاني منطق من نزل بلسانه القرآن من وجه البيان - والدلالة على أن ذلك من الله تعالى ذكره هو الحكمة البالغة - مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام )

قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، رحمه الله :

إن من أعظم نعم الله تعالى ذكره على عباده ، وجسيم منته على خلقه ، ما منحهم من فضل البيان الذي به عن ضمائر صدورهم يبينون ، وبه على عزائم نفوسهم يدلون ، فذلل به منهم الألسن وسهل به عليهم المستصعب فبه إياه يوحدون ، وإياه به يسبحون ويقدسون ، وإلى حاجاتهم به يتوصلون ، وبه بينهم يتحاورون ، فيتعارفون ويتعاملون .

ثم جعلهم ، جل ذكره - فيما منحهم من ذلك - طبقات ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات : فبين خطيب مسهب ، وذلق اللسان مهذب ، ومفحم عن نفسه لا يبين ، وعي عن ضمير قلبه لا يعبر . وجعل أعلاهم فيه رتبة ، وأرفعهم فيه درجة ، أبلغهم فيما أراد به بلاغا ، وأبينهم عن نفسه به بيانا . ثم عرفهم في تنزيله ومحكم آي كتابه فضل ما حباهم به من البيان ، على من [ ص: 9 ] فضلهم به عليه من ذي البكم والمستعجم اللسان فقال تعالى ذكره : ( أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) [ سورة الزخرف : 18 . فقد وضح إذا لذوي الأفهام ، وتبين لأولي الألباب ، أن فضل أهل البيان على أهل البكم والمستعجم اللسان ، بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه ببيانه ، واستعجام لسان هذا عما حاول إبانته بلسانه .

فإذا كان ذلك كذلك - وكان المعنى الذي به باين الفاضل المفضول في ذلك ، فصار به فاضلا والآخر مفضولا ، هو ما وصفنا من فضل إبانة ذي البيان ، عما قصر عنه المستعجم اللسان ، وكان ذلك مختلف الأقدار ، متفاوت الغايات والنهايات - فلا شك أن أعلى منازل البيان درجة ، وأسنى مراتبه مرتبة ، أبلغه في حاجة المبين عن نفسه ، وأبينه عن مراد قائله ، وأقربه من فهم سامعه . فإن تجاوز ذلك المقدار ، وارتفع عن وسع الأنام ، وعجز عن أن يأتي بمثله جميع العباد ، كان حجة وعلما لرسل الواحد القهار - كما كان حجة وعلما لها إحياء الموتى وإبراء الأبرص وذوي العمى ، بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طب المتطببين وأرفع مراتب علاج المعالجين ، إلى ما يعجز عنه جميع العالمين . وكالذي كان لها حجة وعلما قطع مسافة شهرين في الليلة الواحدة ، بارتفاع ذلك عن وسع الأنام ، وتعذر مثله على جميع العباد ، وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين ، ولليسير منه فاعلين .

فإذا كان ما وصفنا من ذلك كالذي وصفنا ، فبين أن لا بيان أبين ، ولا حكمة أبلغ ، ولا منطق أعلى ، ولا كلام أشرف - من بيان ومنطق تحدى به [ ص: 10 ] امرؤ قوما في زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة وقيل الشعر والفصاحة ، والسجع والكهانة ، على كل خطيب منهم وبليغ ، وشاعر منهم وفصيح ، وكل ذي سجع وكهانة - فسفه أحلامهم ، وقصر بعقولهم وتبرأ من دينهم ، ودعا جميعهم إلى اتباعه والقبول منه والتصديق به ، والإقرار بأنه رسول إليهم من ربهم . وأخبرهم أن دلالته على صدق مقالته ، وحجته على حقيقة نبوته - ما أتاهم به من البيان ، والحكمة والفرقان ، بلسان مثل ألسنتهم ، ومنطق موافقة معانيه معاني منطقهم . ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عجزة ، ومن القدرة عليه نقصة . فأقر جميعهم بالعجز ، وأذعنوا له بالتصديق ، وشهدوا على أنفسهم بالنقص . إلا من تجاهل منهم وتعامى ، واستكبر وتعاشى ، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز ، ورام ما قد تيقن أنه عليه غير قادر . فأبدى من ضعف عقله ما كان مستترا ، ومن عي لسانه ما كان مصونا ، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق ، والجاهل الأحمق ، فقال : "والطاحنات طحنا ، والعاجنات عجنا ، فالخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، واللاقمات لقما "! ونحو ذلك من الحماقات المشبهة دعواه الكاذبة .

فإذ كان تفاضل مراتب البيان ، وتباين منازل درجات الكلام ، بما وصفنا قبل - وكان الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه ، أحكم الحكماء ، وأحلم الحلماء ، [ ص: 11 ] - كان معلوما أن أبين البيان بيانه ، وأفضل الكلام كلامه ، وأن قدر فضل بيانه ، جل ذكره ، على بيان جميع خلقه ، كفضله على جميع عباده .

فإذ كان كذلك - وكان غير مبين منا عن نفسه من خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب - كان معلوما أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب ، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه . لأن المخاطب والمرسل إليه ، إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه ، فحاله - قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده - سواء ، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئا كان به قبل ذلك جاهلا . والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطابا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه ، لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث ، والله تعالى عن ذلك متعال . ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) [ سورة إبراهيم : 4 ] . وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) [ سورة النحل : 64 . فغير جائز أن يكون به مهتديا ، من كان بما يهدى إليه جاهلا .

فقد تبين إذا - بما عليه دللنا من الدلالة - أن كل رسول لله جل ثناؤه أرسله إلى قوم ، فإنما أرسله بلسان من أرسله إليه ، وكل كتاب أنزله على نبي ، ورسالة أرسلها إلى أمة ، فإنما أنزله بلسان من أنزله أو أرسله إليه . فاتضح بما قلنا ووصفنا ، أن كتاب الله الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، بلسان محمد صلى الله عليه وسلم . وإذ كان لسان محمد صلى الله عليه وسلم عربيا ، فبين أن القرآن عربي . وبذلك أيضا نطق محكم تنزيل ربنا ، فقال جل ذكره : ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) [ سورة يوسف : 2 . [ ص: 12 ] وقال : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) [ سورة الشعراء : 192 - 195 ] .

وإذ كانت واضحة صحة ما قلنا - بما عليه استشهدنا من الشواهد ، ودللنا عليه من الدلائل - فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، لمعاني كلام العرب موافقة ، وظاهره لظاهر كلامها ملائما ، وإن باينه كتاب الله بالفضيلة التي فضل بها سائر الكلام والبيان ، بما قد تقدم وصفناه .

فإذ كان ذلك كذلك ، فبين - إذ كان موجودا في كلام العرب الإيجاز والاختصار ، والاجتزاء بالإخفاء من الإظهار ، وبالقلة من الإكثار في بعض الأحوال ، واستعمال الإطالة والإكثار ، والترداد والتكرار ، وإظهار المعاني بالأسماء دون الكناية عنها ، والإسرار في بعض الأوقات ، والخبر عن الخاص في المراد بالعام الظاهر ، وعن العام في المراد بالخاص الظاهر ، وعن الكناية والمراد منه المصرح ، وعن الصفة والمراد الموصوف ، وعن الموصوف والمراد الصفة ، وتقديم ما هو في المعنى مؤخر ، وتأخير ما هو في المعنى مقدم ، والاكتفاء ببعض من بعض ، وبما يظهر عما يحذف ، وإظهار ما حظه الحذف - أن يكون ما في كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ، في كل ذلك له نظيرا ، وله مثلا وشبيها .

ونحن مبينو جميع ذلك في أماكنه ، إن شاء الله ذلك وأمد منه بعون وقوة .




ابوالوليد المسلم 20-01-2022 03:45 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (3)
صــ 13إلى صــ 42

القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم

قال أبو جعفر : إن سألنا سائل فقال : إنك ذكرت أنه غير جائز أن يخاطب الله تعالى ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه ، وأن يرسل إليه رسالة إلا باللسان الذي يفقهه . . . . .

1 - فما أنت قائل فيما حدثكم به محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عن أبي موسى : ( يؤتكم كفلين من رحمته ) [ سورة الحديد : 28 ] ، قال : الكفلان : ضعفان من الأجر ، بلسان الحبشة .

2 - وفيما حدثكم به ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( إن ناشئة الليل ) [ سورة المزمل : 6 ] قال : بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل قالوا : نشأ .

3 - وفيما حدثكم به ابن حميد قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة : ( يا جبال أوبي معه ) قال : سبحي ، بلسان الحبشة ؟

قال أبو جعفر : وكل ما قلنا في هذا الكتاب "حدثكم " فقد حدثونا به . [ ص: 14 ]

4 - وفيما حدثكم به محمد بن خالد بن خداش الأزدي ، قال : حدثنا سلم بن قتيبة ، قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عن قوله : ( فرت من قسورة ) [ سورة المدثر : 51 ] قال : هو بالعربية الأسد ، وبالفارسية شار ، وبالنبطية أريا ، وبالحبشية قسورة .

5 - وفيما حدثكم به ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : قالت قريش : لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : ( لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) [ سورة فصلت : 44 ] فأنزل الله بعد هذه الآية في القرآن بكل لسان فيه . ( حجارة من سجيل ) [ سورة هود : 82 ، وسورة الحجر : 74 ] قال : فارسية أعربت سنك وكل .

6 - وفيما حدثكم به محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : في القرآن من كل لسان .

وفيما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكرها الكتاب ، مما يدل على أن فيه من غير لسان العرب ؟

قيل له : إن الذي قالوه من ذلك غير خارج من معنى ما قلنا - من أجل أنهم لم يقولوا : هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلاما ، ولا كان ذاك [ ص: 15 ] لها منطقا قبل نزول القرآن ، ولا كانت بها العرب عارفة قبل مجيء الفرقان - فيكون ذلك قولا لقولنا خلافا . وإنما قال بعضهم : حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا ، وحرف كذا بلسان العجم معناه كذا . ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد ، فكيف بجنسين منها ؟ كما وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة ، وذلك كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرطاس ، وغير ذلك - مما يتعب إحصاؤه ويمل تعداده ، كرهنا إطالة الكتاب بذكره - مما اتفقت فيه الفارسية والعربية باللفظ والمعنى . ولعل ذلك كذلك في سائر الألسن التي نجهل منطقها ولا نعرف كلامها .

فلو أن قائلا قال - فيما ذكرنا من الأشياء التي عددنا وأخبرنا اتفاقه في اللفظ والمعنى بالفارسية والعربية ، وما أشبه ذلك مما سكتنا عن ذكره - : ذلك كله فارسي لا عربي ، أو ذلك كله عربي لا فارسي ، أو قال : بعضه عربي وبعضه فارسي ، أو قال : كان مخرج أصله من عند العرب فوقع إلى العجم فنطقوا به ، أو قال : كان مخرج أصله من عند الفرس فوقع إلى العرب فأعربته - كان مستجهلا ، لأن العرب ليست بأولى أن تكون كان مخرج أصل ذلك منها إلى العجم ، ولا العجم أحق أن تكون كان مخرج أصل ذلك منها إلى العرب ، إذ كان استعمال ذلك بلفظ واحد ومعنى واحد موجودا في الجنسين .

وإذ كان ذلك موجودا على ما وصفنا في الجنسين ، فليس أحد الجنسين أولى بأن يكون أصل ذلك كان من عنده من الجنس الآخر . والمدعي أن مخرج أصل ذلك إنما كان من أحد الجنسين إلى الآخر ، مدع أمرا لا يوصل إلى حقيقة صحته إلا بخبر يوجب العلم ، ويزيل الشك ، ويقطع العذر صحته . [ ص: 16 ]

بل الصواب في ذلك عندنا : أن يسمى : عربيا أعجميا ، أو حبشيا عربيا ، إذ كانت الأمتان له مستعملتين - في بيانها ومنطقها - استعمال سائر منطقها وبيانها . فليس غير ذلك من كلام كل أمة منهما ، بأولى أن يكون إليها منسوبا - منه .

فكذلك سبيل كل كلمة واسم اتفقت ألفاظ أجناس أمم فيها وفي معناها ، ووجد ذلك مستعملا في كل جنس منها استعمال سائر منطقهم ، فسبيل إضافته إلى كل جنس منها ، سبيل ما وصفنا - من الدرهم والدينار والدواة والقلم ، التي اتفقت ألسن الفرس والعرب فيها بالألفاظ الواحدة والمعنى الواحد ، في أنه مستحق إضافته إلى كل جنس من تلك الأجناس - اجتماع واقتران .

وذلك هو معنى من روينا عنه القول في الأحرف التي مضت في صدر هذا الباب ، من نسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الحبشة ، ونسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الفرس ، ونسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الروم . لأن من نسب شيئا من ذلك إلى ما نسبه إليه ، لم ينف - بنسبته إياه إلى ما نسبه إليه - أن يكون عربيا ، ولا من قال منهم : هو عربي ، نفى ذلك أن يكون مستحقا النسبة إلى من هو من كلامه من سائر أجناس الأمم غيرها . وإنما يكون الإثبات دليلا على النفي ، فيما لا يجوز اجتماعه من المعاني ، كقول القائل : فلان قائم ، فيكون بذلك من قوله دالا على أنه غير قاعد ، ونحو ذلك مما يمتنع اجتماعه لتنافيهما . فأما ما جاز اجتماعه فهو خارج من هذا المعنى . وذلك كقول القائل فلان قائم مكلم فلانا ، فليس في تثبيت القيام له ما دل على نفي كلام آخر ، [ ص: 17 ] لجواز اجتماع ذلك في حال واحد من شخص واحد . فقائل ذلك صادق إذا كان صاحبه على ما وصفه به .

فكذلك ما قلنا - في الأحرف التي ذكرنا وما أشبهها - غير مستحيل أن يكون عربيا بعضها أعجميا ، وحبشيا بعضها عربيا ، إذ كان موجودا استعمال ذلك في كلتا الأمتين . فناسب ما نسب من ذلك إلى إحدى الأمتين أو كلتيهما محق غير مبطل .

فإن ظن ذو غباء أن اجتماع ذلك في الكلام مستحيل - كما هو مستحيل في أنساب بني آدم - فقد ظن جهلا . وذلك أن أنساب بني آدم محصورة على أحد الطرفين دون الآخر ، لقول الله تعالى ذكره : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) [ سورة الأحزاب : 5 ] . وليس ذلك كذلك في المنطق والبيان ، لأن المنطق إنما هو منسوب إلى من كان به معروفا استعماله . فلو عرف استعمال بعض الكلام في أجناس من الأمم - جنسين أو أكثر - بلفظ واحد ومعنى واحد ، كان ذلك منسوبا إلى كل جنس من تلك الأجناس ، لا يستحق جنس منها أن يكون به أولى من سائر الأجناس غيره . كما لو أن أرضا بين سهل وجبل ، لها هواء السهل وهواء الجبل ، أو بين بر وبحر ، لها هواء البر وهواء البحر - لم يمتنع ذو عقل صحيح أن يصفها بأنها سهلية جبلية . أو بأنها برية بحرية ، إذ لم تكن نسبتها إلى إحدى صفتيها نافية حقها من النسبة إلى الأخرى . ولو أفرد لها مفرد إحدى صفتيها ولم يسلبها صفتها الأخرى ، كان صادقا محقا .

وكذلك القول في الأحرف التي تقدم ذكرناها في أول هذا الباب .

وهذا المعنى الذي قلناه في ذلك ، هو معنى قول من قال : في القرآن من كل لسان - عندنا بمعنى ، والله أعلم : أن فيه من كل لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرها من الأمم التي تنطق به ، نظير ما وصفنا من القول فيما مضى . [ ص: 18 ]

وذلك أنه غير جائز أن يتوهم على ذي فطرة صحيحة ، مقر بكتاب الله ، ممن قد قرأ القرآن وعرف حدود الله - أن يعتقد أن بعض القرآن فارسي لا عربي ، وبعضه نبطي لا عربي ، وبعضه رومي لا عربي ، وبعضه حبشي لا عربي ، بعدما أخبر الله تعالى ذكره عنه أنه جعله قرآنا عربيا . لأن ذلك إن كان كذلك ، فليس قول القائل : القرآن حبشي أو فارسي ، ولا نسبة من نسبه إلى بعض ألسن الأمم التي بعضه بلسانه دون العرب - بأولى بالتطويل من قول القائل : هو عربي . ولا قول القائل : هو عربي بأولى بالصحة والصواب من [ ص: 19 ] قول ناسبه إلى بعض الأجناس التي ذكرنا . إذ كان الذي بلسان غير العرب من سائر ألسن أجناس الأمم فيه ، نظير الذي فيه من لسان العرب .

وإذا كان ذلك كذلك ، فبين إذا خطأ من زعم أن القائل من السلف : في القرآن من كل لسان ، إنما عني بقيله ذلك ، أن فيه من البيان ما ليس بعربي ، ولا جائز نسبته إلى لسان العرب .

ويقال لمن أبى ما قلنا - ممن زعم أن الأحرف التي قدمنا ذكرها في أول الباب وما أشبهها ، إنما هي كلام أجناس من الأمم سوى العرب ، وقعت إلى العرب فعربته - : ما برهانك على صحة ما قلت في ذلك ، من الوجه الذي يجب التسليم له ، فقد علمت من خالفك في ذلك ، فقال فيه خلاف قولك ؟ وما الفرق بينك وبين من عارضك في ذلك فقال : هذه الأحرف ، وما أشبهها من الأحرف غيرها ، أصلها عربي ، غير أنها وقعت إلى سائر أجناس الأمم غيرها فنطقت كل أمة منها ببعض ذلك بألسنتها - من الوجه الذي يجب التسليم له ؟

فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله .

فإن اعتل في ذلك بأقوال السلف التي قد ذكرنا بعضها وما أشبهها ، طولب [ ص: 20 ] - مطالبتنا من تأول عليهم في ذلك تأويله - بالذي قد تقدم بيانه . وقيل له : ما أنكرت أن يكون من نسب شيئا من ذلك منهم إلى من نسبه من أجناس الأمم سوى العرب ، إنما نسبه إلى إحدى نسبتيه التي هو لها مستحق ، من غير نفي منه عنه النسبة الأخرى ؟ ثم يقال له : أرأيت من قال لأرض سهلية جبلية : هي سهلية ، ولم ينكر أن تكون جبلية ، أو قال : هي جبلية ، ولم يدفع أن تكون سهلية ، أناف عنها أن تكون لها الصفة الأخرى بقيله ذلك ؟

فإن قال : نعم! كابر عقله . وإن قال : لا قيل له : فما أنكرت أن يكون قول من قال في سجيل : هي فارسية ، وفي القسطاس : هي رومية - نظير ذلك ؟ وسأل الفرق بين ذلك ، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله .
[ ص: 21 ] القول في اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب

قال أبو جعفر :

قد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه ، على أن الله جل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الأمم ، وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب ولغاتها .

فنقول الآن - إذ كان ذلك صحيحا - في الدلالة عليه بأي ألسن العرب أنزل : أبألسن جميعها أم بألسن بعضها ؟ إذ كانت العرب ، وإن جمع جميعها اسم أنهم عرب ، فهم مختلفو الألسن بالبيان ، متباينو المنطق والكلام . وإذ كان ذلك كذلك - وكان الله جل ذكره قد أخبر عباده أنه قد جعل القرآن عربيا وأنه أنزل بلسان عربي مبين ، ثم كان ظاهره محتملا خصوصا وعموما - لم يكن لنا السبيل إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه ، إلا ببيان من جعل إليه بيان القرآن ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فإذ كان ذلك كذلك - وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه صلى الله عليه وسلم

7 - بما حدثنا به خلاد بن أسلم ، قال : حدثنا أنس بن عياض ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة ، قال - : لا أعلمه إلا عن أبي هريرة - : أن رسول الله [ ص: 22 ] صلى الله عليه وسلم قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، فالمراء في القرآن كفر - ثلاث مرات - فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه .

8 - حدثني عبيد بن أسباط بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف : عليم حكيم ، غفور رحيم .

9 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثني عبدة بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

10 - حدثنا محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة ، عن واصل بن حيان ، عمن ذكره ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، لكل حرف منها ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ، ولكل حد مطلع . [ ص: 23 ]

11 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

12 - حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا عاصم ، عن زر ، عن عبد الله ، قال : اختلف رجلان في سورة ، فقال هذا : أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم . وقال هذا : أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك ، قال فتغير وجهه ، وعنده رجل فقال : اقرءوا كما علمتم - فلا أدري أبشيء أمر أم شيء ابتدعه من قبل نفسه - فإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم . قال : فقام كل رجل منا وهو لا يقرأ على قراءة صاحبه . نحو هذا ومعناه

13 - حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأعمش - وحدثني أحمد بن منيع ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن الأعمش - عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، قال : قال عبد الله بن مسعود : تمارينا في سورة من القرآن ، فقلنا : خمس وثلاثون أو ست وثلاثون آية . قال : فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدنا عليا يناجيه ، [ ص: 24 ] قال : فقلنا : إنا اختلفنا في القراءة . قال : فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم . قال : ثم أسر إلى علي شيئا ، فقال لنا علي : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كما علمتم .

14 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن عيسى بن قرطاس ، عن زيد القصار ، عن زيد بن أرقم ، قال : كنا معه في المسجد فحدثنا ساعة ثم قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أقرأني عبد الله بن مسعود سورة ، أقرأنيها زيد وأقرأنيها أبي بن كعب ، فاختلفت قراءتهم ، فبقراءة أيهم آخذ ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وعلي إلى جنبه ، فقال علي : ليقرأ كل إنسان كما علم ، كل حسن جميل .

15 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير : أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القاري أخبراه : أنهما سمعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستمعت لقراءته ، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكدت أساوره في الصلاة ، فتصبرت حتى سلم ، فلما سلم [ ص: 25 ] لببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت : كذبت ، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها! فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، وأنت أقرأتني سورة الفرقان! قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسله يا عمر ، اقرأ يا هشام . فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا أنزلت . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ يا عمر . فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا أنزلت . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسر منها .

16 - حدثني أحمد بن منصور ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا حرب بن ثابت من بني سليم ، قال : حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قرأ رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فغير عليه ، فقال : لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يغير علي . قال : فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ألم تقرئني آية كذا وكذا ؟ قال : بلى! قال : فوقع في صدر عمر شيء ، فعرف [ ص: 26 ] النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وجهه ، قال : فضرب صدره وقال : ابعد شيطانا - قالها ثلاثا - ثم قال : يا عمر ، إن القرآن كله صواب ، ما لم تجعل رحمة عذابا أو عذابا رحمة . [ ص: 27 ]

17 - حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي ، قال : حدثنا عبد الله بن ميمون ، قال : حدثنا عبيد الله - يعني ابن عمر - عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ القرآن ، فسمع آية على غير ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتى به عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن هذا قرأ آية كذا وكذا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف . [ ص: 28 ]

18 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن علي بن أبي علي ، عن زبيد ، عن علقمة النخعي ، قال : لما خرج عبد الله بن مسعود من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم ، ثم قال : لا تنازعوا في القرآن ، فإنه لا يختلف ولا يتلاشى ، ولا يتغير لكثرة الرد . وإن شريعة الإسلام وحدوده وفرائضه فيه واحدة ، ولو كان شيء من الحرفين ينهى عن شيء يأمر به الآخر ، كان ذلك الاختلاف . ولكنه جامع ذلك كله ، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض ، ولا شيء من شرائع الإسلام . ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأمرنا فنقرأ عليه ، فيخبرنا أن كلنا محسن . ولو أعلم أحدا أعلم بما أنزل الله على رسوله مني لطلبته ، حتى أزداد علمه إلى علمي . ولقد قرأت من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة ، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان ، حتى كان عام قبض ، فعرض عليه مرتين ، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أني محسن . فمن قرأ على قراءتي فلا يدعنها رغبة عنها ، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعنه رغبة عنه ، فإنه من جحد بآية جحد به كله . [ ص: 29 ]

19 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا رشدين بن سعد ، عن عقيل بن خالد - جميعا عن ابن شهاب ، قال : حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أقرأني جبريل على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيده فيزيدني ، حتى انتهى إلى سبعة أحرف . قال ابن شهاب : بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا ، لا يختلف في حلال ولا حرام . [ ص: 30 ]

20 - حدثني محمد بن عبد الله بن أبي مخلد الواسطي ، ويونس بن عبد الأعلى الصدفي ، قالا حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله ، أخبره أبوه : أن أم أيوب أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، أيها قرأت أصبت .

21 - حدثنا إسماعيل بن موسى السدي ، قال : أنبأنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن سليمان بن صرد ، يرفعه ، قال : أتاني ملكان ، فقال أحدهما : اقرأ . قال : على كم ؟ قال : على حرف ، قال : زده . حتى انتهى به إلى سبعة أحرف [ ص: 31 ]

22 - حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا نافع بن يزيد ، قال : حدثني عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أقرأني جبريل القرآن على حرف ، فاستزدته فزادني ، ثم استزدته فزادني ، حتى انتهى إلى سبعة أحرف .

23 - حدثني الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه ، أنه سمع أم أيوب تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه - يعني نحو حديث ابن أبي مخلد . [ ص: 32 ]

24 - حدثنا الربيع ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا أبو الربيع السمان ، قال : حدثني عبيد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه ، عن أم أيوب ، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : نزل القرآن على سبعة أحرف ، فما قرأت أصبت .

25 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثني يحيى بن آدم ، قال : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن فلان العبدي - قال أبو جعفر : ذهب عني اسمه - ، عن سليمان بن صرد ، عن أبي بن كعب ، قال : رحت إلى المسجد ، فسمعت رجلا يقرأ ، فقلت : من أقرأك ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : استقرئ هذا . قال : فقرأ ، فقال : أحسنت . قال فقلت : إنك أقرأتني كذا وكذا! فقال : وأنت قد أحسنت . قال : فقلت : قد أحسنت! قد أحسنت! قال : فضرب بيده على صدري ، ثم قال : اللهم أذهب عن أبي الشك . قال : ففضت عرقا ، وامتلأ جوفي فرقا - ثم قال : إن الملكين أتياني ، فقال أحدهما اقرأ القرآن على حرف . وقال الآخر : زده . قال : فقلت : زدني . قال : اقرأه على حرفين . حتى بلغ سبعة أحرف ، فقال : اقرأ على سبعة أحرف . [ ص: 33 ]

26 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن ميمون الزعفراني - جميعا عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، قال : ما حاك في صدري شيء منذ أسلمت ، إلا أني قرأت آية ، فقرأها رجل غير قراءتي ، فقلت : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الرجل : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : أقرأتني آية كذا وكذا ؟ قال : بلى . قال الرجل : ألم تقرئني آية كذا وكذا ؟ قال : بلى ، إن جبريل وميكائيل عليهما السلام أتياني ، فقعد جبريل عن يميني ، وميكائيل عن يساري ، فقال جبريل : اقرأ القرآن على حرف واحد . وقال ميكائيل : استزده ، قال جبريل : اقرأ القرآن على حرفين . فقال ميكائيل : [ ص: 34 ] استزده . حتى بلغ ستة أو سبعة - الشك من أبي كريب - وقال ابن بشار في حديثه : حتى بلغ سبعة أحرف - ولم يشك فيه - وكل شاف كاف . ولفظ الحديث لأبي كريب .

27 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وقال في حديثه : حتى بلغ ستة أحرف ، قال : اقرأه على سبعة أحرف ، كل شاف كاف .

28 - حدثنا محمد بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد [ ص: 35 ] بن سلمة ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ، عن عبادة بن الصامت ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف .

29 - حدثنا أبو كريب قال حدثنا حسين بن علي ، وأبو أسامة ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن زر ، عن أبي ، قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء فقال : إني بعثت إلى أمة أميين ، منهم الغلام والخادم والشيخ العاسي والعجوز ، فقال جبريل : فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف . ولفظ الحديث لأبي أسامة . [ ص: 36 ]

30 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن نمير ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد - وحدثنا عبد الحميد بن بيان القناد ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن إسماعيل - عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن جده ، عن أبي بن كعب ، قال : كنت في المسجد ، فدخل رجل يصلي ، فقرأ قراءة أنكرتها عليه ، ثم دخل رجل آخر ، فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه ، فدخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فقلت : يا رسول الله ، إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ، ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه . فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ ، فحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهما ، فوقع في نفسي من التكذيب ، ولا إذ كنت في الجاهلية! فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غشيني ، ضرب في صدري ، ففضت عرقا ، كأنما أنظر إلى الله فرقا . فقال لي : يا أبي ، أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف ، [ ص: 37 ] فرددت عليه أن هون على أمتي ، فرد علي في الثانية أن اقرأ القرآن على حرف . فرددت عليه أن هون على أمتي ، فرد علي في الثالثة ، أن اقرأه على سبعة أحرف ، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت : اللهم اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم . إلا أن ابن بيان قال في حديثه : فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : قد أصبتم وأحسنتم . وقال أيضا : فارفضضت عرقا .

31 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وقال : قال لي : أعيذك بالله من الشك والتكذيب . وقال أيضا : إن الله أمرني أقرأ القرآن على حرف ، فقلت : اللهم رب خفف عن أمتي . قال : اقرأه على حرفين . فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف ، من سبعة أبواب من الجنة ، كلها شاف كاف .

32 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى - وعن ابن أبي ليلى عن الحكم - عن ابن أبي ليلى ، عن أبي قال : دخلت المسجد فصليت ، فقرأت النحل ، [ ص: 38 ] ثم جاء رجل آخر فقرأها على غير قراءتي ، ثم جاء رجل آخر فقرأ خلاف قراءتنا ، فدخل نفسي من الشك والتكذيب أشد مما كنت في الجاهلية ، فأخذت بأيديهما فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، استقرئ هذين . فقرأ أحدهما ، فقال : أصبت . ثم استقرأ الآخر ، فقال : أصبت . فدخل قلبي أشد مما كان في الجاهلية من الشك والتكذيب ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ، وقال : أعاذك الله من الشك ، وأخسأ عنك الشيطان . قال إسماعيل : ففضت عرقا - ولم يقله ابن أبي ليلى - قال : فقال : أتاني جبريل فقال : اقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : إن أمتي لا تستطيع . حتى قال سبع مرات ، فقال لي : اقرأ على سبعة أحرف ، ولك بكل ردة رددتها مسألة . قال : فاحتاج إلي فيها الخلائق ، حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم . [ ص: 39 ]

33 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

34 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا محمد بن جحادة ، عن الحكم - هو ابن عتيبة - عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب ، قال : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أضاة بني غفار فقال : إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فمن قرأ منها حرفا فهو كما قرأ . [ ص: 40 ]

35 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار ، قال : فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف . قال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك . قال : ثم أتاه الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين . قال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم جاءه الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف . قال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا .

36 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، قال : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عند أضاة بني غفار - فذكر نحوه .

37 - حدثنا أبو كريب ، قال حدثنا موسى بن داود ، قال : حدثنا شعبة - وحدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا شعبة - عن الحكم ، [ ص: 41 ] عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

38 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني هشام بن سعد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب أنه قال : سمعت رجلا يقرأ في سورة النحل قراءة تخالف قراءتي ، ثم سمعت آخر يقرؤها قراءة تخالف ذلك ، فانطلقت بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : إني سمعت هذين يقرآن في سورة النحل ، فسألتهما : من أقرأهما ؟ فقالا : رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : لأذهبن بكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ خالفتما ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدهما : اقرأ . فقرأ ، فقال : أحسنت . ثم قال للآخر : اقرأ . فقرأ ، فقال : أحسنت . قال أبي : فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان ، حتى احمر وجهي ، فعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي ، فضرب بيده في صدري ، ثم قال : اللهم أخسئ الشيطان عنه! يا أبي ، أتاني آت من ربي فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : رب خفف عني . ثم أتاني الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : رب خفف عن أمتي . ثم أتاني الثالثة فقال مثل ذلك ، وقلت مثله . ثم أتاني الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ، ولك بكل ردة مسألة . فقلت : يا رب اغفر لأمتي ، يا رب اغفر لأمتي . واختبأت الثالثة شفاعة لأمتي يوم القيامة . [ ص: 42 ]




ابوالوليد المسلم 20-01-2022 03:50 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (4)
صــ 43إلى صــ 67




39 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عبيد الله بن عمر ، عن سيار أبي الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ذكر أن رجلين اختصما في آية من القرآن ، وكل يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه ، فتقارآ إلىأبي ، فخالفهما أبي ، فتقارءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا نبي الله ، اختلفنا في آية من القرآن ، وكلنا يزعم أنك أقرأته . فقال لأحدهما : اقرأ . قال : فقرأ ، فقال : أصبت . وقال للآخر : اقرأ . فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه ، فقال : أصبت . وقال لأبي : اقرأ . فقرأ فخالفهما ، فقال : أصبت . قال أبي : فدخلني من الشك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دخل في من أمر الجاهلية ، قال : فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في وجهي ، فرفع يده فضرب صدري ، وقال : استعذ بالله من الشيطان الرجيم ، قال : ففضت عرقا ، وكأني أنظر إلى الله فرقا . وقال : إنه أتاني آت من ربي فقال : إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : رب خفف عن أمتي . قال : ثم جاء فقال : إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : رب خفف عن أمتي . قال : ثم جاء الثالثة فقال : إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد . فقلت : رب خفف عن أمتي . قال : ثم جاءني الرابعة فقال : إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ، ولك بكل ردة مسألة . قال : قلت : رب اغفر لأمتي ، رب اغفر لأمتي ، واختبأت الثالثة شفاعة [ ص: 43 ] لأمتي ، حتى إن إبراهيم خليل الرحمن ليرغب فيها .





40 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال جبريل : اقرءوا القرآن على حرف . فقال ميكائيل : استزده . فقال : على حرفين . حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف ، فقال : كلها شاف كاف ، ما لم يختم آية عذاب برحمة ، أو آية رحمة بعذاب . كقولك : هلم وتعال .

41 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد : أن أبا جهيم الأنصاري أخبره : أن رجلين اختلفا في آية من القرآن ، فقال هذا : تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الآخر : تلقيتها من رسول الله صلى الله [ ص: 44 ] عليه وسلم ، فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فلا تماروا في القرآن ، فإن المراء فيه كفر .

42 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، قال : قال [ ص: 45 ] النبي صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف .

43 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن أبي عيسى بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف ، كل كاف شاف .

44 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو خلدة ، قال : حدثني أبو العالية ، قال : قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خمس رجل ، فاختلفوا في اللغة ، فرضي قراءتهم كلهم ، فكان بنو تميم أعرب القوم .

45 - حدثنا عمرو بن عثمان العثماني ، قال : حدثنا ابن أبي أويس ، قال : حدثنا أخي ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن عجلان ، عن المقبري ، عن أبي [ ص: 46 ] هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ولا حرج ، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ، ولا ذكر عذاب برحمة .

46 - حدثنا محمد بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ، قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا محمد بن جحادة عن الحكم بن عتيبة ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي بن كعب ، قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل ، وهو بأضاة بني غفار ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد . قال : فقال : أسأل الله مغفرته ومعافاته - أو قال : ومغفرته - سل الله لهم التخفيف ، فإنهم لا يطيقون ذلك . فانطلق ثم رجع ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين . قال : أسأل الله مغفرته ومعافاته - أو قال : معافاته ومغفرته - إنهم لا يطيقون ذلك ، فسل الله لهم التخفيف . فانطلق ثم رجع ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف . فقال : أسأل الله مغفرته ومعافاته - أو قال : معافاته ومغفرته - إنهم لا يطيقون ذلك ، سل الله لهم التخفيف . فانطلق ثم رجع ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فمن قرأ منها بحرف فهو كما قرأ .

قال أبو جعفر صح وثبت أن الذي نزل به القرآن من ألسن العرب [ ص: 47 ] البعض منها دون الجميع ، إذ كان معلوما أن ألسنتها ولغاتها أكثر من سبعة ، بما يعجز عن إحصائه .

فإن قال : وما برهانك على أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : "نزل القرآن على سبعة أحرف " ، وقوله : "أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف " ، هو ما ادعيت - من أنه نزل بسبع لغات ، وأمر بقراءته على سبعة ألسن - دون أن يكون معناه ما قاله مخالفوك ، من أنه نزل بأمر وزجر وترغيب وترهيب وقصص ومثل ونحو ذلك من الأقوال ؟ فقد علمت قائل ذلك من سلف الأمة وخيار الأئمة .

قيل له : إن الذين قالوا ذلك لم يدعوا أن تأويل الأخبار التي تقدم ذكرناها ، هو ما زعمت أنهم قالوه في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن دون غيره ، فيكون ذلك لقولنا مخالفا ، وإنما أخبروا أن القرآن نزل على سبعة أحرف ، يعنون بذلك أنه نزل على سبعة أوجه . والذي قالوه من ذلك كما قالوا .

وقد روينا - بمثل الذي قالوا من ذلك - عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن جماعة من أصحابه ، أخبارا قد تقدم ذكرنا بعضها ، ونستقصي ذكر باقيها ببيانه ، إذا انتهينا إليه ، إن شاء الله .

فأما الذي تقدم ذكرناه من ذلك ، فخبر أبي بن كعب ، من رواية أبي كريب ، عن ابن فضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، الذي ذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف ، من سبعة أبواب من الجنة " .

والسبعة الأحرف : هو ما قلنا من أنه الألسن السبعة . والأبواب السبعة من الجنة : هي المعاني التي فيها ، من الأمر والنهي والترغيب والترهيب والقصص والمثل ، التي إذا عمل بها العامل ، وانتهى إلى حدودها المنتهي ، استوجب به الجنة . وليس والحمد لله في قول من قال ذلك من المتقدمين ، خلاف لشيء مما قلناه . [ ص: 48 ]

والدلالة على صحة ما قلناه - من أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "نزل القرآن على سبعة أحرف " ، إنما هو أنه نزل بسبع لغات ، كما تقدم ذكرناه من الروايات الثابتة عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسائر من قدمنا الرواية عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في أول هذا الباب - أنهم تماروا في القرآن ، فخالف بعضهم بعضا في نفس التلاوة ، دون ما في ذلك من المعاني ، وأنهم احتكموا فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرأ كل رجل منهم ، ثم صوب جميعهم في قراءتهم على اختلافها ، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم ، فقال صلى الله عليه وسلم للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم : "إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف " .

ومعلوم أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك ، لو كان تماريا واختلافا فيما دلت عليه تلاواتهم من التحليل والتحريم والوعد والوعيد وما أشبه ذلك ، لكان مستحيلا أن يصوب جميعهم ، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه . لأن ذلك لو جاز أن يكون صحيحا ، وجب أن يكون الله جل ثناؤه قد أمر بفعل شيء بعينه وفرضه ، في تلاوة من دلت تلاوته على فرضه - ونهى عن فعل ذلك الشيء بعينه وزجر عنه ، في تلاوة الذي دلت تلاوته على النهي والزجر عنه ، وأباح وأطلق فعل ذلك الشيء بعينه ، وجعل لمن شاء من عباده أن يفعله فعله ، ولمن شاء منهم أن يتركه تركه في تلاوة من دلت تلاوته على التخيير!

وذلك من قائله إن قاله ، إثبات ما قد نفى الله جل ثناؤه عن تنزيله وحكم كتابه فقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) [ سورة النساء : 82 ] . [ ص: 49 ]

وفي نفي الله جل ثناؤه ذلك عن حكم كتابه ، أوضح الدليل على أنه لم ينزل كتابه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلا بحكم واحد متفق في جميع خلقه ، لا بأحكام فيهم مختلفة .

وفي صحة كون ذلك كذلك ، ما يبطل دعوى من ادعى خلاف قولنا في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " للذين تخاصموا إليه عند اختلافهم في قراءتهم . لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمر جميعهم بالثبوت على قراءته ، ورضي قراءة كل قارئ منهم - على خلافها قراءة خصومه ومنازعيه فيها - وصوبها . ولو كان ذلك منه تصويبا فيما اختلفت فيه المعاني ، وكان قوله صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " إعلاما منه لهم أنه نزل بسبعة أوجه مختلفة ، وسبعة معان مفترقة - كان ذلك إثباتا لما قد نفى الله عن كتابه من الاختلاف ، ونفيا لما قد أوجب له من الائتلاف . مع أن في قيام الحجة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض في شيء واحد في وقت واحد بحكمين مختلفين ، ولا أذن بذلك لأمته - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على أن ذلك منفي عن كتاب الله .

وفي انتفاء ذلك عن كتاب الله ، وجوب صحة القول الذي قلناه ، في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " ، عند اختصام المختصمين إليه فيما اختلفوا فيه من تلاوة ما تلوه من القرآن ، وفساد تأويل قول من خالف قولنا في ذلك .

وأحرى أن الذين تماروا فيما تماروا فيه من قراءتهم فاحتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يكن منكرا عند أحد منهم أن يأمر الله عباده جل ثناؤه في كتابه وتنزيله بما شاء ، وينهى عما شاء ، ويعد فيما أحب من طاعاته ، ويوعد على معاصيه ، ويحتم لنبيه ويعظه فيه ويضرب فيه لعباده الأمثال - فيخاصم [ ص: 50 ] غيره على إنكاره سماع ذلك من قارئه . بل على الإقرار بذلك كله كان إسلام من أسلم منهم . فما الوجه الذي أوجب له إنكار ما أنكر ، إن لم يكن كان ذلك اختلافا منهم في الألفاظ واللغات ؟

وبعد ، فقد أبان صحة ما قلنا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا . وذلك الخبر الذي ذكرنا :

47 - أن أبا كريب حدثنا قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال جبريل : اقرأ القرآن على حرف . قال ميكائيل عليه السلام : استزده . فقال : على حرفين . حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف ، فقال : كلها شاف كاف ، ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة ، أو آية رحمة بآية عذاب ، كقولك : هلم وتعال .

فقد أوضح نص هذا الخبر أن اختلاف الأحرف السبعة ، إنما هو اختلاف ألفاظ ، كقولك "هلم وتعال " باتفاق المعاني ، لا باختلاف معان موجبة اختلاف أحكام .

وبمثل الذي قلنا في ذلك صحت الأخبار عن جماعة من السلف والخلف .

48 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي ، قال : حدثنا أبو معاوية - وحدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة - جميعا عن الأعمش ، عن شقيق ، قال : قال عبد الله : إني قد سمعت إلى القرأة ، فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم ، وإياكم والتنطع ، فإنما هو كقول أحدكم : هلم وتعال . [ ص: 51 ]

49 - وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عمن سمع ابن مسعود يقول : من قرأ منكم على حرف فلا يتحولن ، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله لأتيته .

50 - وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن عابس ، عن رجل من أصحاب عبد الله ، عن [ ص: 52 ] عبد الله بن مسعود ، قال : من قرأ على حرف فلا يتحولن منه إلى غيره .

فمعلوم أن عبد الله لم يعن بقوله هذا : من قرأ ما في القرآن من الأمر والنهي فلا يتحولن منه إلى قراءة ما فيه من الوعد والوعيد ، ومن قرأ ما فيه من الوعد والوعيد فلا يتحولن منه إلى قراءة ما فيه من القصص والمثل . وإنما عنى رحمة الله عليه أن من قرأ بحرفه - وحرفه : قراءته ، وكذلك تقول العرب لقراءة رجل : حرف فلان ، وتقول للحرف من حروف الهجاء المقطعة : حرف ، كما تقول لقصيدة من قصائد الشاعر : كلمة فلان - فلا يتحولن عنه إلى غيره رغبة عنه . ومن قرأ بحرف أبي ، أو بحرف زيد ، أو بحرف بعض من قرأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الأحرف السبعة - فلا يتحولن عنه إلى غيره رغبة عنه ، فإن الكفر ببعضه كفر بجميعه ، والكفر بحرف من ذلك كفر بجميعه يعني بالحرف ما وصفنا من قراءة بعض من قرأ ببعض الأحرف السبعة .

51 - وقد حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، قال : قرأ أنس هذه الآية : ( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا ) فقال له بعض القوم : يا أبا حمزة ، إنما هي "وأقوم " فقال : أقوم وأصوب وأهيأ ، واحد . [ ص: 53 ]

52 - حدثني محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : أنه كان يقرأ القرآن على خمسة أحرف .

53 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن سالم : أن سعيد بن جبير كان يقرأ القرآن على حرفين .

54 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : كان يزيد بن الوليد يقرأ القرآن على ثلاثة أحرف .

أفترى الزاعم أن تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : "أنزل القرآن على سبعة أحرف " ، إنما هو أنه أنزل على الأوجه السبعة التي ذكرنا ، من الأمر والنهي والوعد والوعيد والجدل والقصص والمثل - كان يرى أن مجاهدا وسعيد بن جبير لم يقرآ من القرآن إلا ما كان من وجهيه أو وجوهه الخمسة دون سائر معانيه ؟ لئن كان ظن ذلك بهما ، لقد ظن بهما غير الذي يعرفان به من منازلهما من القرآن ، ومعرفتهما بآي الفرقان!

55 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال حدثنا أيوب ، عن محمد ، قال : نبئت أن جبرائيل وميكائيل أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له جبرائيل : اقرأ القرآن على حرفين . فقال له ميكائيل : استزده . فقال : اقرأ القرآن على ثلاثة أحرف . فقال له ميكائيل : استزده . قال : حتى بلغ سبعة أحرف ، قال محمد : لا تختلف في حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي ، [ ص: 54 ] هو كقولك : تعال وهلم وأقبل ، قال : وفي قراءتنا ( إن كانت إلا صيحة واحدة ) [ سورة يس : 29 53 ، ] ، في قراءة ابن مسعود ( إن كانت إلا زقية واحدة ) .

56 - وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا شعيب - يعني ابن الحبحاب - قال : كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل : "ليس كما يقرأ " وإنما يقول : أما أنا فأقرأ كذا وكذا . قال : فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : أرى صاحبك قد سمع : "أن من كفر بحرف منه فقد كفر به كله " .

57 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثنا يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب : أن الذي ذكر الله تعالى ذكره [ أنه قال ] ( إنما يعلمه بشر ) [ سورة النحل : 103 ] إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي ، فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : سميع عليم ، أو عزيز حكيم ، أو غير ذلك من خواتم الآي ، ثم يشتغل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الوحي ، فيستفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : أعزيز حكيم ، أو سميع عليم أو عزيز عليم ؟ فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي ذلك كتبت فهو كذلك . ففتنه ذلك ، فقال : إن محمدا وكل ذلك إلي ، فأكتب ما شئت . وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة . [ ص: 55 ]

58 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : من كفر بحرف من القرآن ، أو بآية منه ، فقد كفر به كله .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فإذ كان تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : "أنزل القرآن على سبعة أحرف " عندك ، ما وصفت ، بما عليه استشهدت ، فأوجدنا حرفا في كتاب الله مقروءا بسبع لغات ، فنحقق بذلك قولك . وإلا فإن لم تجد ذلك كذلك : كان معلوما بعدمكه - صحة قول من زعم أن تأويل ذلك : أنه نزل بسبعة معان ، وهو الأمر والنهي والوعد والوعيد والجدل والقصص والمثل - وفساد قولك . أو تقول في ذلك : إن الأحرف السبعة لغات في القرآن سبع ، متفرقة في جميعه ، من لغات أحياء من قبائل العرب مختلفة الألسن - كما كان يقوله بعض من لم ينعم النظر في ذلك . فتصير بذلك إلى القول بما لا يجهل فساده ذو عقل ، ولا يلتبس خطؤه على ذي لب .

وذلك أن الأخبار التي بها احتججت لتصحيح مقالتك في تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : "نزل القرآن على سبعة أحرف " ، هي الأخبار التي رويتها عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، رحمة الله عليهم ، وعمن رويت ذلك عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأنهم تماروا في تلاوة [ ص: 56 ] بعض القرآن ، فاختلفوا في قراءته دون تأويله ، وأنكر بعض قراءة بعض ، مع دعوى كل قارئ منهم قراءة منها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه ما قرأ بالصفة التي قرأ . ثم احتكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، أن صوب قراءة كل قارئ منهم ، على خلافها قراءة أصحابه الذين نازعوه فيها ، وأمر كل امرئ منهم أن يقرأ كما علم ، حتى خالط قلب بعضهم الشك في الإسلام ، لما رأى من تصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة كل قارئ منهم على اختلافها . ثم جلاه الله عنه ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له : أن القرآن أنزل على سبعة أحرف .

فإن كانت الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، عندك - كما قال هذا القائل - متفرقة في القرآن ، مثبتة اليوم في مصاحف أهل الإسلام ، فقد بطلت معاني الأخبار التي رويتها عمن رويتها عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنهم اختلفوا في قراءة سورة من القرآن ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر كلا أن يقرأ كما علم . لأن الأحرف السبعة إذا كانت لغات متفرقة في جميع القرآن ، فغير موجب حرف من ذلك اختلافا بين تاليه لأن كل تال فإنما يتلو ذلك الحرف تلاوة واحدة على ما هو به في المصحف ، وعلى ما أنزل .

وإذ كان ذلك كذلك ، بطل وجه اختلاف الذين روي عنهم أنهم اختلفوا في قراءة سورة ، وفسد معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل قارئ منهم أن يقرأه على ما علم . إذ كان لا معنى هنالك يوجب اختلافا في لفظ ، ولا افتراقا في معنى . وكيف يجوز أن يكون هنالك اختلاف بين القوم ، والمعلم واحد ، والعلم واحد غير ذي أوجه ؟ وفي صحة الخبر عن الذين روي عنهم الاختلاف في حروف القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأنهم اختلفوا وتحاكموا إلى [ ص: 57 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، على ما تقدم وصفناه - أبين الدلالة على فساد القول بأن الأحرف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في سور القرآن ، لا أنها لغات مختلفة في كلمة واحدة باتفاق المعاني .

مع أن المتدبر إذا تدبر قول هذا القائل - في تأويله قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " ، وادعائه أن معنى ذلك أنها سبع لغات متفرقة في جميع القرآن ، ثم جمع بين قيله ذلك ، واعتلاله لقيله ذلك بالأخبار التي رويت عمن روى ذلك عنه من الصحابة والتابعين أنه قال : هو بمنزلة قولك تعال وهلم وأقبل; وأن بعضهم قال : هو بمنزلة قراءة عبد الله "إلا زقية " ، وهي في قراءتنا "إلا صيحة " وما أشبه ذلك من حججه - علم أن حججه مفسدة في ذلك مقالته ، وأن مقالته فيه مضادة حججه .

لأن الذي نزل به القرآن عنده إحدى القراءتين - : إما "صيحة " ، وإما "زقية " وإما "تعال " أو "أقبل " أو "هلم " - لا جميع ذلك . لأن كل لغة من اللغات السبع عنده في كلمة أو حرف من القرآن ، غير الكلمة أو الحرف الذي فيه اللغة الأخرى .

وإذ كان ذلك كذلك ، بطل اعتلاله لقوله بقول من قال : ذلك بمنزلة "هلم " و "تعال " و " أقبل " ، لأن هذه الكلمات هي ألفاظ مختلفة ، يجمعها في التأويل معنى واحد . وقد أبطل قائل هذا القول الذي حكينا قوله ، اجتماع اللغات السبع في حرف واحد من القرآن . فقد تبين بذلك إفساد حجته لقوله بقوله ، وإفساد قوله لحجته .

قيل له : ليس القول في ذلك بواحد من الوجهين اللذين وصفت . بل الأحرف السبعة التي أنزل الله بها القرآن ، هن لغات سبع ، في حرف واحد ، وكلمة واحدة ، [ ص: 58 ] باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني ، كقول القائل : هلم ، وأقبل ، وتعال ، وإلي ، وقصدي ، ونحوي ، وقربي ، ونحو ذلك ، مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه المعاني ، وإن اختلفت بالبيان به الألسن ، كالذي روينا آنفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعمن روينا ذلك عنه من الصحابة ، أن ذلك بمنزلة قولك : "هلم وتعال وأقبل " ، وقوله "ما ينظرون إلا زقية " ، و "إلا صيحة " .

فإن قال : ففي أي كتاب الله نجد حرفا واحدا مقروءا بلغات سبع مختلفات الألفاظ ، متفقات المعنى ، فنسلم لك صحة ما ادعيت من التأويل في ذلك ؟

قيل : إنا لم ندع أن ذلك موجود اليوم ، وإنما أخبرنا أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن على سبعة أحرف " ، على نحو ما جاءت به الأخبار التي تقدم ذكرناها . وهو ما وصفنا ، دون ما ادعاه مخالفونا في ذلك ، للعلل التي قد بينا .

فإن قال : فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة ، إن كان الأمر في ذلك على ما وصفت ، وقد أقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، وأمر بالقراءة بهن ، وأنزلهن الله من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ أنسخت فرفعت ، فما الدلالة على نسخها ورفعها ؟ أم نسيتهن الأمة ، فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه ؟ أم ما القصة في ذلك ؟

قيل له : لم تنسخ فترفع ، ولا ضيعتها الأمة وهي مأمورة بحفظها . ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن ، وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت . كما أمرت ، إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة ، أن تكفر بأي الكفارات الثلاث شاءت : إما بعتق ، أو إطعام ، أو كسوة . فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث ، دون حظرها التكفير بأي الثلاث شاء المكفر ، كانت مصيبة حكم الله ، مؤدية في ذلك الواجب عليها من حق الله . فكذلك الأمة ، أمرت بحفظ القرآن وقراءته ، وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت : فرأت [ ص: 59 ] - لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد - قراءته بحرف واحد ، ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية ، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه ، بما أذن له في قراءته به .

فإن قال : وما العلة التي أوجبت عليها الثبات على حرف واحد دون سائر الأحرف الستة الباقية ؟

59 - قيل : حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عمارة بن غزية ، عن ابن شهاب ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه زيد ، قال : لما قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة ، دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر رحمه الله فقال : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة تهافتوا تهافت الفراش في النار ، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا - وهم حملة القرآن - فيضيع القرآن وينسى . فلو جمعته وكتبته ! فنفر منها أبو بكر وقال : أفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم! فتراجعا في ذلك . ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت ، قال زيد : فدخلت عليه وعمر محزئل فقال أبو بكر : إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه ، وأنت كاتب الوحي . فإن تكن معه اتبعتكما ، وإن توافقني لا أفعل . قال : فاقتص أبو بكر قول عمر ، وعمر ساكت ، فنفرت من ذلك وقلت : نفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم! إلى أن قال عمر كلمة : "وما عليكما لو فعلتما ذلك ؟ " قال : فذهبنا ننظر ، فقلنا : لا شيء والله! ما علينا في ذلك شيء! قال زيد : فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب . [ ص: 60 ]

فلما هلك أبو بكر وكان عمر كتب ذلك في صحيفة واحدة ، فكانت عنده . فلما هلك ، كانت الصحيفة عند حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة كان غزاها بمرج أرمينية فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان فقال : "يا أمير المؤمنين : أدرك الناس! فقال عثمان : "وما ذاك ؟ " قال غزوت مرج أرمينية ، فحضرها أهل العراق وأهل الشام ، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب ، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق ، فتكفرهم أهل العراق . وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود ، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام ، فتكفرهم أهل الشام . قال زيد : فأمرني عثمان بن عفان أكتب له مصحفا ، وقال : إني مدخل معك رجلا لبيبا فصيحا ، فما اجتمعتما عليه فاكتباه ، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلي . فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص ، قال : فلما بلغنا ( إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ) [ سورة البقرة : 248 ] قال : زيد فقلت : "التابوه " وقال أبان بن سعيد : "التابوت " ، فرفعنا ذلك إلى عثمان فكتب : "التابوت " قال : فلما فرغت عرضته عرضة ، فلم أجد فيه هذه الآية : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) [ سورة الأحزاب : 23 ] قال : فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها ، فلم أجدها عند أحد منهم ، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها ، فلم أجدها عند أحد منهم ، ، حتى وجدتها عند خزيمة بن ثابت ، فكتبتها ، ثم عرضته عرضة أخرى ، فلم أجد فيه هاتين الآيتين : [ ص: 61 ] ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ) [ سورة التوبة : 128 129 ، 129 فاستعرضت المهاجرين ، فلم أجدها عند أحد منهم ، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم ، حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضا ، فأثبتها في آخر "براءة " ، ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة . ثم عرضته عرضة أخرى ، فلم أجد فيه شيئا ، ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة ، وحلف لها ليردنها إليها فأعطته إياها ، فعرض المصحف عليها ، فلم يختلفا في شيء . فردها إليها ، وطابت نفسه ، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف . فلما ماتت حفصة أرسل إلى عبد الله بن عمر في الصحيفة بعزمة ، فأعطاهم إياها فغسلت غسلا .

60 - وحدثني أيضا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن عمارة بن غزية ، عن ابن شهاب ، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه زيد بن ثابت ، بنحوه سواء .

61 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : لما كان في خلافة عثمان ، جعل المعلم يعلم قراءة [ ص: 62 ] الرجل ، والمعلم يعلم قراءة الرجل ، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون ، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين - قال أيوب : فلا أعلمه إلا قال - : حتى كفر بعضهم بقراءة بعض . فبلغ ذلك عثمان ، فقام خطيبا فقال : "أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون ، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا . اجتمعوا يا أصحاب محمد ، فاكتبوا للناس إماما " . قال أبو قلابة ، فحدثني أنس بن مالك قال : كنت فيمن يملى عليهم ، قال : فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي ، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ، ويدعون موضعها ، حتى يجيء أو يرسل إليه . فلما فرغ من المصحف ، كتب عثمان إلى أهل الأمصار : "إني قد صنعت كذا وكذا ، ومحوت ما عندي ، فامحوا ما عندكم " .

62 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس قال : قال ابن شهاب : أخبرني أنس بن مالك الأنصاري : أنه اجتمع في غزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق ، فتذاكروا القرآن ، واختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة . فركب حذيفة بن اليمان - لما رأى اختلافهم في القرآن - إلى عثمان ، فقال : "إن الناس قد اختلفوا في القرآن ، حتى إني والله لأخشى أن يصيبهم مثل ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف " . قال : ففزع لذلك فزعا شديدا ، فأرسل إلى حفصة فاستخرج الصحف التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها ، فنسخ منها مصاحف ، فبعث بها إلى الآفاق . [ ص: 63 ]

63 - حدثني سعيد بن الربيع ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، قال : قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع ، وإنما كان في الكرانيف والعسب .

64 - حدثنا سعيد بن الربيع قال : حدثنا سفيان ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن صعصعة أن أبا بكر أول من ورث الكلالة وجمع المصحف .

قال أبو جعفر : وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب جميعها الكتاب ، والآثار الدالة على أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رحمة الله عليه ، جمع المسلمين - نظرا منه لهم ، وإشفاقا منه عليهم ، ورأفة منه بهم ، حذار الردة من بعضهم بعد الإسلام ، والدخول في الكفر بعد الإيمان ، إذ ظهر من بعضهم بمحضره وفي عصره التكذيب ببعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن ، مع سماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن التكذيب بشيء منها ، وإخباره إياهم أن المراء فيها كفر - فحملهم رحمة الله عليه ، إذ رأى ذلك ظاهرا بينهم في عصره ، ولحداثة عهدهم بنزول القرآن ، وفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بما أمن عليهم معه عظيم البلاء في الدين من تلاوة القرآن - على حرف واحد .

وجمعهم على مصحف واحد ، وحرف واحد ، وخرق ما عدا المصحف الذي [ ص: 64 ] جمعهم عليه . وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذي جمعهم عليه ، أن يخرقه . فاستوسقت له الأمة على ذلك بالطاعة ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية ، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها ، طاعة منها له ، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها ، حتى درست من الأمة معرفتها ، وتعفت آثارها ، فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها ، لدثورها وعفو آثارها ، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها ، من غير جحود منها صحتها وصحة شيء منها ولكن نظرا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها . فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية .

فإن قال بعض من ضعفت معرفته : وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بقراءتها ؟

قيل : إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض ، وإنما كان أمر إباحة ورخصة . لأن القراءة بها لو كانت فرضا عليهم ، لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة ، عند من تقوم بنقله الحجة ، ويقطع خبره العذر ، ويزيل الشك من قرأة الأمة . وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين ، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة . [ ص: 65 ]

وإذ كان ذلك كذلك ، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع ، تاركين ما كان عليهم نقله ، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا . إذ كان الذي فعلوا من ذلك ، كان هو النظر للإسلام وأهله . فكان القيام بفعل الواجب عليهم ، بهم أولى من فعل ما لو فعلوه ، كانوا إلى الجناية على الإسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة ، من ذلك .



ابوالوليد المسلم 20-01-2022 03:51 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (5)
صــ 68إلى صــ 79


66 - وحدثني بعض أصحابنا ، قال : حدثنا صالح بن نصر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي الأسود الدؤلي ، قال : نزل القرآن بلسان الكعبين : كعب بن عمرو وكعب بن لؤي . فقال خالد بن سلمة لسعد بن إبراهيم : ألا تعجب من هذا الأعمى! يزعم أن القرآن نزل بلسان الكعبين; وإنما أنزل بلسان قريش! [ ص: 67 ]

قال أبو جعفر : والعجز من هوازن : سعد بن بكر ، وجشم بن بكر ، ونصر بن معاوية ، وثقيف .

وأما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ ذكر نزول القرآن على سبعة أحرف : إن كلها شاف كاف - فإنه كما قال جل ثناؤه في صفة القرآن : ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [ سورة يونس : 57 ، جعله الله للمؤمنين شفاء ، يستشفون بمواعظه من الأدواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان وخطراته ، فيكفيهم ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته .



القول في البيان عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة " ، وذكر الأخبار الواردة بذلك

قال أبو جعفر : اختلفت النقلة في ألفاظ الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

67 - فروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان الكتاب الأول نزل من باب واحد وعلى حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف : زاجر وآمر وحلال وحرام ، ومحكم ومتشابه ، وأمثال ، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا : آمنا به كل من عند ربنا .

حدثني بذلك يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني حيوة بن شريح ، عن عقيل بن خالد ، عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 69 ] وروي عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا غير ذلك :

68 - حدثنا محمد بن بشار ، قال حدثنا عباد بن زكريا ، عن عوف ، عن أبي قلابة ، قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل .

69 - وروي عن أبي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ما حدثني به أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي بن كعب ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت : رب خفف عن أمتي . قال : اقرأه على حرفين . فقلت : رب خفف عن أمتي . فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنة ، كلها شاف كاف .

وروي عن ابن مسعود من قيله خلاف ذلك كله .

70 - وهو ما حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن الأحوص بن حكيم ، عن ضمرة بن حبيب ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إن الله أنزل القرآن على خمسة أحرف : حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال . فأحل الحلال ، وحرم الحرام ، واعمل بالمحكم ، وآمن بالمتشابه ، واعتبر بالأمثال . [ ص: 70 ]

وكل هذه الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، متقاربة المعاني ، لأن قول القائل : فلان مقيم على باب من أبواب هذا الأمر ، وفلان مقيم على وجه من وجوه هذا الأمر ، وفلان مقيم على حرف من هذا الأمر - سواء . ألا ترى أن الله جل ثناؤه وصف قوما عبدوه على وجه من وجوه العبادات ، فأخبر عنهم أنهم عبدوه على حرف فقال : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) [ سورة الحج : 11 ] ، يعني أنهم عبدوه على وجه الشك ، لا على اليقين والتسليم لأمره .

فكذلك رواية من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نزل القرآن من سبعة أبواب " و " نزل على سبعة أحرف " سواء ، معناهما مؤتلف ، وتأويلهما غير مختلف في هذا الوجه .

ومعنى ذلك كله ، الخبر منه صلى الله عليه وسلم عما خصه الله به وأمته ، من الفضيلة والكرامة التي لم يؤتها أحدا في تنزيله .

وذلك أن كل كتاب تقدم كتابنا نزوله على نبي من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم ، فإنما نزل بلسان واحد ، متى حول إلى غير اللسان الذي نزل به ، كان ذلك له ترجمة وتفسيرا لا تلاوة له على ما أنزله الله .

وأنزل كتابنا بألسن سبعة ، بأي تلك الألسن السبعة تلاه التالي ، كان له تاليا على ما أنزله الله لا مترجما ولا مفسرا ، حتى يحوله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها ، فيصير فاعل ذلك حينئذ - إذا أصاب معناه - مترجما له . كما كان التالي [ ص: 71 ] لبعض الكتب التي أنزلها الله بلسان واحد - إذا تلاه بغير اللسان الذي نزل به - له مترجما ، لا تاليا على ما أنزله الله به .

فذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : كان الكتاب الأول ، نزل على حرف واحد ، ونزل القرآن على سبعة أحرف .

وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الكتاب الأول نزل من باب واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب " ، فإنه صلى الله عليه وسلم عنى بقوله : " نزل الكتاب الأول من باب واحد " ، والله أعلم ، ما نزل من كتب الله على من أنزله من أنبيائه ، خاليا من الحدود والأحكام والحلال والحرام ، كزبور داود ، الذي إنما هو تذكير ومواعظ ، وإنجيل عيسى ، الذي هو تمجيد ومحامد وحض على الصفح والإعراض - دون غيرها من الأحكام والشرائع - وما أشبه ذلك من الكتب التي نزلت ببعض المعاني السبعة التي يحوي جميعها كتابنا ، الذي خص الله به نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته . فلم يكن المتعبدون بإقامته يجدون لرضى الله تعالى ذكره مطلبا ينالون به الجنة ، ويستوجبون به منه القربة ، إلا من الوجه الواحد الذي أنزل به كتابهم ، وذلك هو الباب الواحد من أبواب الجنة الذي نزل منه ذلك الكتاب .

وخص الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته ، بأن أنزل عليهم كتابه على أوجه سبعة من الوجوه التي ينالون بها رضوان الله ، ويدركون بها الفوز بالجنة ، إذا أقاموها فكل وجه من أوجهه السبعة باب من أبواب الجنة التي نزل منها القرآن . لأن العامل بكل وجه من أوجهه السبعة ، عامل في باب من أبواب الجنة ، وطالب من قبله الفوز بها . والعمل بما أمر الله جل ذكره في كتابه ، باب من أبواب الجنة ، وترك ما نهى الله عنه فيه; باب آخر ثان من أبوابها; وتحليل ما أحل الله فيه ، باب ثالث من أبوابها; وتحريم ما حرم الله فيه ، باب رابع من أبوابها; [ ص: 72 ] والإيمان بمحكمه المبين ، باب خامس من أبوابها; والتسليم لمتشابهه الذي استأثر الله بعلمه وحجب علمه عن خلقه والإقرار بأن كل ذلك من عند ربه ، باب سادس من أبوابها; والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بعظاته ، باب سابع من أبوابها .

فجميع ما في القرآن - من حروفه السبعة ، وأبوابه السبعة التي نزل منها - جعله الله لعباده إلى رضوانه هاديا ، ولهم إلى الجنة قائدا . فذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " نزل القرآن من سبعة أبواب الجنة " .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في القرآن : " إن لكل حرف منه حدا " ، يعني لكل وجه من أوجهه السبعة حد حده الله جل ثناؤه ، لا يجوز لأحد أن يتجاوزه .

وقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن لكل حرف منها ظهرا وبطنا " ، فظهره : الظاهر في التلاوة ، وبطنه : ما بطن من تأويله .

وقوله : " وإن لكل حد من ذلك مطلعا " ، فإنه يعني أن لكل حد من حدود الله التي حدها فيه - من حلال وحرام ، وسائر شرائعه - مقدارا من ثواب الله وعقابه ، يعاينه في الآخرة ، ويطلع عليه ويلاقيه في القيامة . كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع " ، يعني بذلك ما يطلع عليه ويهجم عليه من أمر الله بعد وفاته .
[ ص: 73 ]

( القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن )

قال أبو جعفر : قد قلنا في الدلالة على أن القرآن كله عربي ، وأنه نزل بألسن بعض العرب دون ألسن جميعها ، وأن قراءة المسلمين اليوم - ومصاحفهم التي هي بين أظهرهم - ببعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها . وقلنا - في البيان عما يحويه القرآن من النور والبرهان ، والحكمة والتبيان التي أودعها الله إياه : من أمره ونهيه ، وحلاله وحرامه ، ووعده ووعيده ، ومحكمه ومتشابهه ، ولطائف حكمه - ما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه .

ونحن قائلون في البيان عن وجوه مطالب تأويله :

قال الله جل ذكره وتقدست أسماؤه ، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) [ سورة النحل : 44 ] ، وقال أيضا جل ذكره : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) [ سورة النحل : 64 ، ] وقال : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ) [ سورة آل عمران : 7 ] .

فقد تبين ببيان الله جل ذكره : [ ص: 74 ]

أن مما أنزل الله من القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم . وذلك تأويل جميع ما فيه : من وجوه أمره - واجبه وندبه وإرشاده - ، وصنوف نهيه ، ووظائف حقوقه وحدوده ، ومبالغ فرائضه ، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض ، وما أشبه ذلك من أحكام آيه ، التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته . وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه ، إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم له تأويله بنص منه عليه ، أو بدلالة قد نصبها ، دالة أمته على تأويله .

وأن منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار . وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة ، وأوقات آتية ، كوقت قيام الساعة ، والنفخ في الصور ، ونزول عيسى ابن مريم ، وما أشبه ذلك : فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها ، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها ، لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه . وبذلك أنزل ربنا محكم كتابه فقال : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [ سورة الأعراف : 187 . وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئا من ذلك ، لم يدل عليه إلا بأشراطه دون تحديده بوقته كالذي روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه ، إذ ذكر الدجال : إن يخرج وأنا فيكم ، فأنا حجيجه ، وإن يخرج بعدي ، فالله خليفتي عليكم " وما أشبه [ ص: 75 ] ذلك من الأخبار - التي يطول باستيعابها الكتاب - الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده علم أوقات شيء منه بمقادير السنين والأيام ، وأن الله جل ثناؤه إنما كان عرفه مجيئه بأشراطه ، ووقته بأدلته .

وأن منه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن . وذلك : إقامة إعرابه ، ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها ، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها ، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم . وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا يتلو : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) [ سورة البقرة : 11 ، 12 ، لم يجهل أن معنى الإفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة ، وأن الإصلاح هو ما ينبغي فعله مما فعله منفعة ، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا ، والمعاني التي جعلها الله إصلاحا . فالذي يعلمه ذو اللسان - الذي بلسانه نزل القرآن - من تأويل القرآن ، هو ما وصفت : من معرفة أعيان المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها ، والموصوفات بصفاتها الخاصة ، دون الواجب من أحكامها وصفاتها وهيآتها التي خص الله بعلمها نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلا يدرك علمه إلا ببيانه ، دون ما استأثر الله بعلمه دون خلقه .

وبمثل ما قلنا من ذلك روي الخبر عن ابن عباس :

71 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، قال : قال ابن عباس : التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره .

قال أبو جعفر : وهذا الوجه الرابع الذي ذكره ابن عباس : من أن أحدا [ ص: 76 ] لا يعذر بجهالته ، معنى غير الإبانة عن وجوه مطالب تأويله . وإنما هو خبر عن أن من تأويله ما لا يجوز لأحد الجهل به . وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر في إسناده نظر .

72 - حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت عمرو بن الحارث يحدث ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، مولى أم هانئ ، عن عبد الله بن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به ، وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره ، ومن ادعى علمه سوى الله تعالى ذكره فهو كاذب .
[ ص: 77 ] ذكر بعض الأخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي

73 - حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا شريك ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن النبي [ ص: 78 ] صلى الله عليه وسلم قال : من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار .

74 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبد الأعلى - هو ابن عامر الثعلبي - ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من قال في القرآن برأيه - أو بما لا يعلم - فليتبوأ مقعده من النار .

75 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، وقبيصة ، عن سفيان ، عن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار .

76 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار .

77 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن بكر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : من تكلم في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار .

78 - وحدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أي أرض تقلني ، وأي سماء تظلني ، إذا قلت في القرآن ما لا أعلم !

79 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرة ، عن أبي معمر ، قال : قال أبو بكر الصديق : أي أرض تقلني ، وأي سماء تظلني ، إذا قلت في القرآن برأيي - أو : بما لا أعلم .

قال أبو جعفر : وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحة ما قلنا : من أن ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلا بنص بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بنصبه الدلالة عليه - فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه . بل القائل في ذلك برأيه - وإن أصاب الحق فيه - فمخطئ فيما كان من فعله ، بقيله فيه برأيه ، لأن إصابته ليست إصابة موقن أنه محق ، وإنما هو إصابة خارص وظان . والقائل [ ص: 79 ] في دين الله بالظن ، قائل على الله ما لم يعلم . وقد حرم الله جل ثناؤه ذلك في كتابه على عباده ، فقال : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) [ سورة الأعراف : 33 . ] فالقائل في تأويل كتاب الله ، الذي لا يدرك علمه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي جعل الله إليه بيانه - قائل بما لا يعلم وإن وافق قيله ذلك في تأويله ، ما أراد الله به من معناه . لأن القائل فيه بغير علم ، قائل على الله ما لا علم له به . وهذا هو معنى الخبر الذي : -

80 - حدثنا به العباس بن عبد العظيم العبري ، قال : حدثنا حبان بن هلال ، قال : حدثنا سهيل أخو حزم ، قال : حدثنا أبو عمران الجوني عن جندب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من قال في القرآن برأيه فأصاب ، فقد أخطأ .

يعني صلى الله عليه وسلم أنه أخطأ في فعله ، بقيله فيه برأيه ، وإن وافق قيله ذلك عين الصواب عند الله . لأن قيله فيه برأيه ، ليس بقيل عالم أن الذي قال فيه من قول حق وصواب . فهو قائل على الله ما لا يعلم ، آثم بفعله ما قد نهي عنه وحظر عليه .








ابوالوليد المسلم 20-01-2022 03:52 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (6)
صــ 80إلى صــ 94

ذكر الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن ، ومن كان يفسره من الصحابة

81 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق المروزي ، قال سمعت أبي يقول : حدثنا الحسين بن واقد ، قال : حدثنا الأعمش ، عن شقيق ، عن ابن مسعود ، قال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ، والعمل بهن .

82 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن ، قال : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا : أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا .

83 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : والذي لا إله غيره ، ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت ؟ وأين أنزلت ؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته . [ ص: 81 ]

84 - وحدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : كان عبد الله يقرأ علينا السورة ، ثم يحدثنا فيها ويفسرها عامة النهار .

85 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق ، قال : استعمل علي ابن عباس على الحج ، قال : فخطب الناس خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا ، ثم قرأ عليهم سورة النور ، فجعل يفسرها .

86 - وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، قال : قرأ ابن عباس سورة البقرة ، فجعل يفسرها ، فقال رجل : لو سمعت هذا الديلم لأسلمت .

87 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو يمان : عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن ابن جبير ، قال : من قرأ القرآن ثم لم يفسره ، كان كالأعمى أو كالأعرابي . [ ص: 82 ]

88 - وحدثنا أبو كريب ، قال : ذكر أبو بكر بن عياش عن : الأعمش ، قال : قال أبو وائل : ولي ابن عباس الموسم; فخطبهم ، فقرأ على المنبر سورة النور ، والله لو سمعها الترك لأسلموا . فقيل له : حدثنا به عن عاصم ؟ فسكت .

89 - وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت الأعمش ، عن شقيق ، قال : شهدت ابن عباس وولي الموسم ، فقرأ سورة النور على المنبر ، وفسرها ، لو سمعت الروم لأسلمت !

قال أبو جعفر : وفي حث الله عز وجل عباده على الاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ والبينات - بقوله جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) [ سورة ص : 29 ] وقوله : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ) [ سورة الزمر : 27 28 ، ] وما أشبه ذلك من آي القرآن ، التي أمر الله عباده وحثهم فيها على الاعتبار بأمثال آي القرآن ، والاتعاظ بمواعظه - ما يدل على أن عليهم معرفة تأويل ما لم يحجب عنهم تأويله من آيه .

لأنه محال أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له ولا يعقل تأويله : "اعتبر بما لا فهم لك به ولا معرفة من القيل والبيان والكلام " - إلا على معنى الأمر بأن يفهمه ويفقهه ، ثم يتدبره ويعتبر به . فأما قبل ذلك ، فمستحيل أمره بتدبره وهو بمعناه جاهل . كما محال أن يقال لبعض أصناف الأمم الذين لا يعقلون كلام العرب ولا يفهمونه ، [ ص: 83 ] لو أنشد قصيدة شعر من أشعار بعض العرب ذات أمثال ومواعظ وحكم : "اعتبر بما فيها من الأمثال ، وادكر بما فيها من المواعظ " - إلا بمعنى الأمر لها بفهم كلام العرب ومعرفته ، ثم الاعتبار بما نبهها عليه ما فيها من الحكم . فأما وهي جاهلة بمعاني ما فيها من الكلام والمنطق ، فمحال أمرها بما دلت عليه معاني ما حوته من الأمثال والعبر . بل سواء أمرها بذلك وأمر بعض البهائم به ، إلا بعد العلم بمعاني المنطق والبيان الذي فيها .

فكذلك ما في آي كتاب الله من العبر والحكم والأمثال والمواعظ ، لا يجوز أن يقال : "اعتبر بها " إلا لمن كان بمعاني بيانه عالما ، وبكلام العرب عارفا; وإلا بمعنى الأمر - لمن كان بذلك منه جاهلا - أن يعلم معاني كلام العرب ، ثم يتدبره بعد ، ويتعظ بحكمه وصنوف عبره .

فإذ كان ذلك كذلك - وكان الله جل ثناؤه قد أمر عباده بتدبره وحثهم على الاعتبار بأمثاله - كان معلوما أنه لم يأمر بذلك من كان بما يدل عليه آيه جاهلا . وإذ لم يجز أن يأمرهم بذلك إلا وهم بما يدلهم عليه عالمون ، صح أنهم - بتأويل ما لم يحجب عنهم علمه من آيه الذي استأثر الله بعلمه منه دون خلقه ، الذي قد قدمنا صفته آنفا - عارفون . وإذ صح ذلك فسد قول من أنكر تفسير المفسرين - من كتاب الله وتنزيله - ما لم يحجب عن خلقه تأويله .
[ ص: 84 ] ذكر الأخبار التي غلط في تأويلها منكرو القول في تأويل القرآن

فإن قال لنا قائل : فما أنت قائل فيما : -

90 - حدثكم به العباس بن عبد العظيم ، قال : حدثنا محمد بن خالد بن عثمة ، قال : حدثني جعفر بن محمد الزبيري ، قال : حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئا من القرآن إلا آيا بعدد ، علمهن إياه جبريل .

91 - حدثنا أبو بكر محمد بن يزيد الطرسوسي ، قال : أخبرنا معن ، عن جعفر بن خالد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئا من القرآن ، إلا آيا بعدد ، علمهن إياه جبريل عليه السلام . [ ص: 85 ]

92 - وحدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، قال : لقد أدركت فقهاء المدينة ، وإنهم ليغلظون القول في التفسير منهم : سالم بن عبد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن المسيب ، ونافع .

93 - وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا بشر بن عمر ، قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت رجلا يسأل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن ، فقال : لا أقول في القرآن شيئا .

94 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن ، قال : أنا لا أقول في القرآن شيئا . [ ص: 86 ]

95 - حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت الليث يحدث ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب : أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن .

96 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة السلماني عن آية ، قال : عليك بالسداد ، فقد ذهب الذين علموا فيم أنزل القرآن .

97 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب وابن عون ، عن محمد ، قال : سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال : ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن ، اتق الله وعليك بالسداد .

98 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة : أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها ، فأبى أن يقول فيها .

99 - حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن مهدي بن ميمون ، عن الوليد بن مسلم ، قال : جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله ، فسأله عن آية من القرآن ، فقال له : أحرج عليك إن كنت مسلما ، لما قمت عني - أو قال : أن تجالسني .

100 - حدثني عباس بن الوليد ، قال : أخبرني أبي ، قال : حدثنا عبد الله بن شوذب ، قال : حدثني يزيد بن أبي يزيد ، قال : كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام ، وكان أعلم الناس ، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع .

101 - وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن ، [ ص: 87 ] فقال : لا تسألني عن القرآن ، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه - يعني عكرمة .

102 - وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن عبد الله بن أبي السفر ، قال : قال الشعبي : والله ما من آية إلا قد سألت عنها ، ولكنها الرواية عن الله .

103 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن صالح - يعني ابن مسلم - قال : حدثني رجل ، عن الشعبي ، قال : ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت : القرآن ، والروح ، والرأي .

وما أشبه ذلك من الأخبار ؟

قيل له : أما الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئا إلا آيا بعدد ، فإن ذلك مصحح ما قلنا من القول في الباب الماضي قبل ، وهو : أن من تأويل القرآن ما لا يدرك علمه إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم . وذلك تفصيل جمل ما في آيه من أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه ، وحدوده وفرائضه ، وسائر معاني شرائع دينه ، الذي هو مجمل في ظاهر التنزيل ، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة - لا يدرك علم تأويله إلا ببيان من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما أشبه ذلك مما تحويه آي القرآن ، من سائر حكمه الذي جعل الله بيانه لخلقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلا يعلم أحد من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يعلمه رسول الله [ ص: 88 ]

صلى الله عليه وسلم إلا بتعليم الله إياه ذلك بوحيه إليه ، إما مع جبريل ، أو مع من شاء من رسله إليه . فذلك هو الآي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسرها لأصحابه بتعليم جبريل إياه ، وهن لا شك آي ذوات عدد .

ومن آي القرآن ما قد ذكرنا أن الله جل ثناؤه استأثر بعلم تأويله ، فلم يطلع على علمه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولكنهم يؤمنون بأنه من عنده ، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله .

فأما ما لا بد للعباد من علم تأويله ، فقد بين لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ببيان الله ذلك له بوحيه مع جبريل . وذلك هو المعنى الذي أمره الله ببيانه لهم فقال له جل ذكره : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) [ سورة النحل : 44 ] .

ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا [ ص: 89 ] يفسر من القرآن شيئا إلا آيا بعدد - هو ما يسبق إليه أوهام أهل الغباء ، من أنه لم يكن يفسر من القرآن إلا القليل من آيه واليسير من حروفه ، كان إنما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم الذكر ليترك للناس بيان ما أنزل إليهم ، لا ليبين لهم ما أنزل إليهم .

وفي أمر الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم ببلاغ ما أنزل إليه ، وإعلامه إياه أنه إنما نزل إليه ما أنزل ليبين للناس ما نزل إليهم ، وقيام الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ وأدى ما أمره الله ببلاغه وأدائه على ما أمره به ، وصحة الخبر عن عبد الله بن مسعود بقيله : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن - ما ينبئ عن جهل من ظن أو توهم أن معنى الخبر الذي ذكرنا عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئا إلا آيا بعدد ، هو أنه لم يكن يبين لأمته من تأويله إلا اليسير القليل منه .

هذا مع ما في الخبر الذي روي عن عائشة من العلة التي في إسناده ، التي لا يجوز معها الاحتجاج به لأحد ممن علم صحيح سند الآثار وفاسدها في الدين . لأن راويه ممن لا يعرف في أهل الآثار ، وهو : جعفر بن محمد الزبيري .

وأما الأخبار التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه من التابعين ، بإحجامه عن التأويل ، فإن فعل من فعل ذلك منهم ، كفعل من أحجم منهم عن الفتيا في النوازل والحوادث ، مع إقراره بأن الله جل ثناؤه لم يقبض نبيه إليه ، إلا بعد إكمال الدين به لعباده ، وعلمه بأن لله في كل نازلة وحادثة حكما موجودا بنص أو دلالة . فلم يكن إحجامه عن القول في ذلك إحجام جاحد أن يكون لله فيه حكم موجود بين أظهر عباده ، ولكن إحجام خائف أن لا يبلغ في اجتهاده ما كلف الله العلماء من عباده فيه .

فكذلك معنى إحجام من أحجم عن القيل في تأويل القرآن وتفسيره من العلماء السلف ، إنما كان إحجامه عنه حذارا أن لا يبلغ أداء ما كلف من إصابة صواب القول فيه ، لا على أن تأويل ذلك محجوب عن علماء الأمة ، غير موجود بين أظهرهم .
[ ص: 90 ] ( ذكر الأخبار ) ( عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودا علمه بالتفسير ) ( ومن كان منهم مذموما علمه به )

104 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان ، عن مسلم ، قال : قال عبد الله : نعم ترجمان القرآن ابن عباس .

105 - حدثني يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : نعم ترجمان القرآن ابن عباس .

106 - وحدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق عن عبد الله ، بنحوه .

107 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا طلق بن غنام ، عن عثمان المكي ، عن ابن أبي مليكة قال : رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ، ومعه ألواحه ، فيقول له ابن عباس : "اكتب " ، قال : حتى سأله عن التفسير كله .

108 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، ويونس بن بكير قالا حدثنا محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات ، من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها . [ ص: 91 ]

109 - وحدثني عبيد الله بن يوسف الجبيري ، عن أبي بكر الحنفي ، قال : سمعت سفيان الثوري يقول : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .

110 - وحدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا سليمان أبو داود ، عن شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة ، قال : لم يلق الضحاك ابن عباس ، وإنما لقي سعيد بن جبير بالري ، وأخذ عنه التفسير

111 - حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن مشاش ، قال : قلت للضحاك : سمعت من ابن عباس شيئا ؟ قال : لا

112 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال حدثنا زكريا ، قال : كان الشعبي يمر بأبي صالح باذان ، فيأخذ بأذنه فيعركها ويقول : تفسر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن!

113 - حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه ، قال : حدثنا علي بن الحسين بن واقد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : حدثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( والله يقضي بالحق ) [ سورة غافر : 20 ] قال : قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة ( إن الله هو السميع البصير ) [ سورة غافر : 20 ] ، قال الحسين : فقلت للأعمش : حدثني به الكلبي ، إلا أنه قال : إن الله قادر أن يجزي بالسيئة السيئة وبالحسنة عشرا ، فقال الأعمش : لو أن الذي عند الكلبي عندي ما خرج مني إلا بخفير . [ ص: 92 ]

114 - حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا علي بن حكيم الأودي ، قال : حدثنا عبد الله بن بكير ، عن صالح بن مسلم ، قال : مر الشعبي على السدي وهو يفسر ، فقال : لأن يضرب على استك بالطبل ، خير لك من مجلسك هذا .

115 - حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثني علي بن حكيم ، قال : حدثنا شريك ، عن مسلم بن عبد الرحمن النخعي ، قال : كنت مع إبراهيم ، فرأى السدي ، فقال : أما إنه يفسر تفسير القوم .

116 - حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سمعت سعيد بن بشير ، يقول عن قتادة ، قال : ما أرى أحدا يجري مع الكلبي في التفسير في عنان .

قال أبو جعفر : قد قلنا فيما مضى من كتابنا هذا في وجوه تأويل القرآن ، وأن تأويل جميع القرآن على أوجه ثلاثة :

أحدها لا سبيل إلى الوصول إليه ، وهو الذي استأثر الله بعلمه ، وحجب علمه عن جميع خلقه ، وهو أوقات ما كان من آجال الأمور الحادثة ، التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة ، مثل : وقت قيام الساعة ، ووقت نزول عيسى ابن مريم ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، والنفخ في الصور ، وما أشبه ذلك .

والوجه الثاني : ما خص الله بعلم تأويله نبيه صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته ، وهو ما فيه مما بعباده إلى [ ص: 93 ] علم تأويله الحاجة ، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تأويله .

والثالث منها : ما كان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن ، وذلك علم تأويل عربيته وإعرابه ، لا يوصل إلى علم ذلك إلا من قبلهم .

فإذ كان ذلك كذلك ، فأحق المفسرين بإصابة الحق - في تأويل القرآن الذي إلى علم تأويله للعباد السبيل - أوضحهم حجة فيما تأول وفسر ، مما كان تأويله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه : إما من جهة النقل المستفيض ، فيما وجد فيه من ذلك عنه النقل المستفيض ، وإما من جهة نقل العدول الأثبات ، فيما لم يكن فيه عنه النقل المستفيض ، أو من جهة الدلالة المنصوبة على صحته; وأصحهم برهانا - فيما ترجم وبين من ذلك - مما كان مدركا علمه من جهة اللسان : إما بالشواهد من أشعارهم السائرة ، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة ، كائنا من كان ذلك المتأول والمفسر ، بعد أن لا يكون خارجا تأويله وتفسيره ما تأول وفسر من ذلك ، عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة ، والخلف من التابعين وعلماء الأمة .



ابوالوليد المسلم 20-01-2022 03:53 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (7)
صــ 94إلى صــ 107


القول في تأويل أسماء القرآن وسوره وآيه

قال أبو جعفر : إن الله تعالى ذكره سمى تنزيله الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم أسماء أربعة :

منهن : "القرآن " ، فقال في تسميته إياه بذلك في تنزيله : ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) [ سورة يوسف : 3 ] ، وقال : ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) [ سورة النمل : 76 ] .

ومنهن : "الفرقان" ، قال جل ثناؤه في وحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم يسميه بذلك : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) [ سورة الفرقان : 1 .

ومنهن : "الكتاب" : قال تبارك اسمه في تسميته إياه به : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ) [ سورة الكهف : 1 ] .

ومنهن : "الذكر" ، قال تعالى ذكره في تسميته إياه به : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ سورة الحجر : 9 ] .

ولكل اسم من أسمائه الأربعة في كلام العرب ، معنى ووجه غير معنى الآخر ووجهه .

فأما "القرآن" ، فإن المفسرين اختلفوا في تأويله . والواجب أن يكون تأويله على قول ابن عباس : من التلاوة والقراءة ، وأن يكون مصدرا من قول القائل : [ ص: 95 ] قرأت ، كقولك "الخسران" من "خسرت" ، و "الغفران" من "غفر الله لك" ، و "الكفران" من "كفرتك" ، "والفرقان" من "فرق الله بين الحق والباطل " .

117 - وذلك أن يحيى بن عثمان بن صالح السهمي حدثني ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( فإذا قرأناه ) يقول : بيناه ، ( فاتبع قرآنه ) [ سورة القيامة : 18 ] يقول : اعمل به .

ومعنى قول ابن عباس هذا : فإذا بيناه بالقراءة ، فاعمل بما بيناه لك بالقراءة . ومما يوضح صحة ما قلنا في تأويل حديث ابن عباس هذا ، ما : -

118 - حدثني به محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس : ( إن علينا جمعه وقرآنه ) [ سورة القيامة : 17 ] قال : أن نقرئك فلا تنسى ( فإذا قرأناه ) عليك ( فاتبع قرآنه ) يقول : إذا تلي عليك فاتبع ما فيه .

قال أبو جعفر : فقد صرح هذا الخبر عن ابن عباس : أن معنى "القرآن " عنده القراءة ، فإنه مصدر من قول القائل : قرأت ، على ما بيناه .

وأما على قول قتادة ، فإن الواجب أن يكون مصدرا ، من قول القائل : قرأت الشيء ، إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض ، كقولك : "ما قرأت هذه الناقة سلى قط" تريد بذلك أنها لم تضمم رحما على ولد ، كما قال عمرو بن كلثوم التغلبي : [ ص: 96 ]


تريك - إذا دخلت على خلاء ، وقد أمنت عيون الكاشحينا - ذراعي عيطل أدماء بكر ،
هجان اللون ، لم تقرأ جنينا


يعني بقوله : "لم تقرأ جنينا " ، لم تضمم رحما على ولد .

119 - وذلك أن بشر بن معاذ العقدي حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله تعالى : ( إن علينا جمعه وقرآنه ) يقول : حفظه وتأليفه ، ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) اتبع حلاله ، واجتنب حرامه .

120 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة بمثله .

فرأي قتادة أن تأويل "القرآن" : التأليف .

قال أبو جعفر : ولكلا القولين - أعني قول ابن عباس وقول قتادة - اللذين حكيناهما ، وجه صحيح في كلام العرب . غير أن أولى قوليهما بتأويل قول الله تعالى : ( إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ( قول ابن عباس . لأن الله جل ثناؤه أمر نبيه في غير آية من تنزيله باتباع ما أوحى إليه ، ولم يرخص له في ترك اتباع شيء من أمره إلى وقت تأليفه القرآن له . فكذلك قوله : ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) نظير سائر ما في آي القرآن التي أمره الله فيها باتباع ما أوحى إليه في تنزيله . [ ص: 97 ]

ولو وجب أن يكون معنى قوله : ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) فإذا ألفناه فاتبع ما ألفنا لك فيه : لوجب أن لا يكون كان لزمه فرض ) اقرأ باسم ربك الذي خلق ( ولا فرض ) يا أيها المدثر قم فأنذر ( [ سورة المدثر : 1 2 ، قبل أن يؤلف إلى ذلك غيره من القرآن . وذلك ، إن قاله قائل ، خروج من قول أهل الملة .

وإذ صح أن حكم كل آية من آي القرآن كان لازما النبي صلى الله عليه وسلم اتباعه والعمل به ، مؤلفة كانت إلى غيرها أو غير مؤلفة - صح ما قال ابن عباس في تأويل قوله : ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) أنه يعني به : فإذا بيناه لك بقراءتنا ، فاتبع ما بيناه لك بقراءتنا - دون قول من قال : معناه ، فإذا ألفناه فاتبع ما ألفناه .

وقد قيل إن قول الشاعر :


ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآنا


يعني به قائله : تسبيحا وقراءة .

فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يسمى "قرآنا " بمعنى القراءة ، وإنما هو مقروء ؟

قيل : كما جاز أن يسمى المكتوب "كتابا" ، بمعنى : كتاب الكاتب ، كما قال الشاعر في صفة كتاب طلاق كتبه لامرأته :


تؤمل رجعة مني ، وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء
[ ص: 98 ]

يريد : طلاقا مكتوبا ، فجعل "المكتوب" كتابا .

وأما تأويل اسمه الذي هو "فرقان" ، فإن تفسير أهل التفسير جاء في ذلك بألفاظ مختلفة ، هي في المعاني مؤتلفة .

121 - فقال عكرمة ، فيما حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن عكرمة : أنه كان يقول : هو النجاة .

وكذلك كان السدي يتأوله .

122 - حدثنا بذلك محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي - وهو قول جماعة غيرهما .

وكان ابن عباس يقول : "الفرقان " : المخرج .

123 - حدثني بذلك يحيى بن عثمان بن صالح ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .

وكذلك كان مجاهد يقول في تأويله بذلك .

124 - حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن مجاهد .

وكان مجاهد يقول في قول الله عز وجل : ( يوم الفرقان ) [ سورة الأنفال : 41 ] يوم فرق الله فيه بين الحق والباطل .

125 - حدثني بذلك محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثني أبو عاصم عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .

وكل هذه التأويلات في معنى "الفرقان " - على اختلاف ألفاظها - متقاربات المعاني . وذلك أن من جعل له مخرج من أمر كان فيه ، فقد جعل [ ص: 99 ] له ذلك المخرج منه نجاة . وكذلك إذا نجي منه ، فقد نصر على من بغاه فيه سوءا ، وفرق بينه وبين باغيه السوء .

فجميع ما روينا - عمن روينا عنه - في معنى "الفرقان" ، قول صحيح المعاني ، لاتفاق معاني ألفاظهم في ذلك .

وأصل "الفرقان " عندنا : الفرق بين الشيئين والفصل بينهما . وقد يكون ذلك بقضاء ، واستنقاذ ، وإظهار حجة ، ونصر وغير ذلك من المعاني المفرقة بين المحق والمبطل . فقد تبين بذلك أن القرآن سمي "فرقانا " ، لفصله - بحججه وأدلته وحدود فرائضه وسائر معاني حكمه - بين المحق والمبطل . وفرقانه بينهما : بنصره المحق ، وتخذيله المبطل ، حكما وقضاء .

وأما تأويل اسمه الذي هو "كتاب " : فهو مصدر من قولك "كتبت كتابا " كما تقول : قمت قياما ، وحسبت الشيء حسابا . والكتاب : هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة ومفترقة . وسمي "كتابا " ، وإنما هو مكتوب ، كما قال الشاعر في البيت الذي استشهدنا به :


وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء


يعني به مكتوبا .

وأما تأويل اسمه الذي هو "ذكر " ، فإنه محتمل معنيين : أحدهما : أنه ذكر من الله جل ذكره ، ذكر به عباده ، فعرفهم فيه حدوده وفرائضه ، وسائر ما أودعه من حكمه . والآخر : أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به وصدق بما فيه ، كما قال جل ثناؤه : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) [ سورة الزخرف : 44 ] ، يعني به أنه شرف له ولقومه . [ ص: 100 ]

ثم لسور القرآن أسماء سماها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم :

126 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا أبو العوام - وحدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا رواد بن الجراح ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، جميعا - عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة بن الأسقع : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعطيت مكان التوراة السبع الطول ، وأعطيت مكان الزبور المئين ، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني ، وفضلت بالمفصل .

127 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيت السبع الطول مكان التوراة ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وفضلت بالمفصل . قال خالد : كانوا يسمون المفصل : العربي . قال خالد : قال بعضهم : ليس في العربي سجدة . [ ص: 101 ]

128 - وحدثنا محمد بن حميد ، قال حدثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عاصم ، عن المسيب ، عن ابن مسعود قال : الطول كالتوراة ، والمئون كالإنجيل ، والمثاني كالزبور ، وسائر القرآن بعد فضل على الكتب .

129 - حدثني أبو عبيد الوصابي ، قال : حدثنا محمد بن حفص ، قال : أنبأنا أبو حميد ، حدثنا الفزاري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن أبي بردة ، عن أبي المليح ، عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال أعطاني ربي مكان التوراة السبع الطول ، ومكان الإنجيل المثاني ، ومكان الزبور المئين ، وفضلني ربي بالمفصل .

قال أبو جعفر : والسبع الطول : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، [ ص: 102 ]

والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، في قول سعيد بن جبير .

130 - حدثني بذلك يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير .

وقد روي عن ابن عباس قول يدل على موافقته قول سعيد هذا .

131 - وذلك ما حدثنا به محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، ويحيى بن سعيد ، ومحمد بن جعفر ، وسهل بن يوسف ، قالوا : حدثنا عوف ، قال : حدثني يزيد الفارسي ، قال : حدثني ابن عباس : قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطرا : "بسم الله الرحمن الرحيم " ، ووضعتموهما في السبع الطول ؟ ما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا ببعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا . وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فظننت أنها منها . فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر : "بسم الله الرحمن الرحيم " ، ووضعتهما في السبع الطول " .

فهذا الخبر ينبئ عن عثمان بن عفان رحمة الله عليه ، أنه لم يكن تبين له أن [ ص: 103 ] الأنفال وبراءة من السبع الطول ، ويصرح عن ابن عباس أنه لم يكن يرى ذلك منها .

وإنما سميت هذه السور السبع الطول ، لطولها على سائر سور القرآن .

وأما "المئون : فهي ما كان من سور القرآن عدد آيه مائة آية ، أو تزيد عليها شيئا أو تنقص منها شيئا يسيرا .

وأما "المثاني : فإنها ما ثنى المئين فتلاها ، وكان المئون لها أوائل ، وكان المثاني لها ثواني . وقد قيل : إن المثاني سميت مثاني ، لتثنية الله جل ذكره فيها الأمثال والخبر والعبر ، وهو قول ابن عباس .

132 - حدثنا بذلك أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عبد الله بن عثمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

وروي عن سعيد بن جبير ، أنه كان يقول : إنما سميت مثاني لأنها ثنيت فيها الفرائض والحدود .

133 - حدثنا بذلك محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير .

وقد قال جماعة يكثر تعدادهم : القرآن كله مثان .

وقال جماعة أخرى : بل المثاني فاتحة الكتاب ، لأنها تثنى قراءتها في كل صلاة .

وسنذكر أسماء قائلي ذلك وعللهم ، والصواب من القول فيما اختلفوا فيه من ذلك ، إذا انتهينا إلى تأويل قوله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) [ سورة الحجر : 87 ] إن شاء الله ذلك .

وبمثل ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء سور القرآن التي ذكرت ، جاء شعر الشعراء . فقال بعضهم : [ ص: 104 ]


حلفت بالسبع اللواتي طولت وبمئين بعدها قد أمئيت
وبمثان ثنيت فكررت وبالطواسين التي قد ثلثت
وبالحواميم اللواتي سبعت وبالمفصل اللواتي فصلت


قال أبو جعفر رحمة الله عليه : وهذه الأبيات تدل على صحة التأويل الذي تأولناه في هذه الأسماء .

وأما "المفصل " : فإنها سميت مفصلا لكثرة الفصول التي بين سورها ب "بسم الله الرحمن الرحيم " .

قال أبو جعفر : ثم تسمى كل سورة من سور القرآن "سورة " ، وتجمع سورا " ، على تقدير "خطبة وخطب " ، "وغرفة وغرف " .

والسورة ، بغير همز : المنزلة من منازل الارتفاع . ومن ذلك سور المدينة ، سمي بذلك الحائط الذي يحويها ، لارتفاعه على ما يحويه . غير أن السورة من سور المدينة لم يسمع في جمعها "سور" ، كما سمع في جمع سورة من القرآن "سور" . قال العجاج في جمع السورة من البناء :


فرب ذي سرادق محجور سرت إليه في أعالي السور


فخرج تقدير جمعها على تقدير جمع برة وبسرة ، لأن ذلك يجمع برا وبسرا . وكذلك لم يسمع في جمع سورة من القرآن سور ، ولو جمعت كذلك لم يكن خطأ في القياس ، إذا أريد به جميع القرآن . وإنما تركوا - فيما نرى - جمعه كذلك ، لأن كل جمع كان بلفظ الواحد المذكر مثل : بر وشعير وقصب وما أشبه ذلك ، فإن [ ص: 105 ] جماعه يجري مجرى الواحد من الأشياء غيره . لأن حكم الواحد منه منفردا قلما يصاب ، فجرى جماعه مجرى الواحد من الأشياء غيره ثم جعلت الواحدة منه كالقطعة من جميعه ، فقيل : برة وشعيرة وقصبة ، يراد به قطعة منه . ولم تكن سور القرآن موجودة مجتمعة اجتماع البر والشعير وسور المدينة ، بل كل سورة منها موجودة منفردة بنفسها ، انفراد كل غرفة من الغرف وخطبة من الخطب ، فجعل جمعها جمع الغرف والخطب ، المبني جمعها من واحدها .

ومن الدلالة على أن معنى السورة المنزلة من الارتفاع ، قول نابغة بني ذبيان :


ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب


يعني بذلك : أن الله أعطاه منزلة من منازل الشرف التي قصرت عنها منازل الملوك .

وقد همز بعضهم السورة من القرآن . وتأويلها ، في لغة من همزها ، القطعة التي قد أفضلت من القرآن عما سواها وأبقيت . وذلك أن سؤر كل شيء : البقية منه تبقى بعد الذي يؤخذ منه ، ولذلك سميت الفضلة من شراب الرجل - يشربه ثم يفضلها فيبقيها في الإناء - سؤرا . ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة ، يصف امرأة فارقته فأبقت في قلبه من وجدها بقية :


فبانت وقد أسأرت في الفؤاد صدعا على نأيها مستطيرا
[ ص: 106 ]

وقال الأعشى في مثل ذلك :


بانت ، وقد أسأرت في النفس حاجتها ، بعد ائتلاف; وخير الود ما نفعا


وأما الآية من آي القرآن ، فإنها تحتمل وجهين في كلام العرب :

أحدهما : أن تكون سميت آية ، لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها ، كالآية التي تكون دلالة على الشيء يستدل بها عليه ، كقول الشاعر :


ألكني إليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا


يعني : بعلامة ذلك . ومنه قوله جل ذكره : ( ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك ) [ سورة المائدة : 114 ] أي علامة منك لإجابتك دعاءنا وإعطائك إيانا سؤلنا .

والآخر منهما : القصة ، كما قال كعب بن زهير بن أبي سلمى :


ألا أبلغا هذا المعرض آية : أيقظان قال القول إذ قال أم حلم


يعني بقوله "آية " : رسالة مني وخبرا عني .

فيكون معنى الآيات : القصص ، قصة تتلو قصة ، بفصول ووصول .







ابوالوليد المسلم 20-01-2022 03:55 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (8)
صــ 107إلى صــ 112


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ أَسْمَاءِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا : -

134 - حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : هِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ ، وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي .

فَهَذِهِ أَسْمَاءُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ .


وَسُمِّيَتْ "فَاتِحَةَ الْكِتَابِ " ، لِأَنَّهَا يُفْتَتَحُ بِكِتَابَتِهَا الْمَصَاحِفُ ، وَيُقْرَأُ بِهَا فِي الصَّلَوَاتِ ، فَهِيَ فَوَاتِحُ لِمَا يَتْلُوهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ .

وَسُمِّيَتْ "أُمَّ الْقُرْآنِ " لِتُقَدِّمِهَا عَلَى سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ غَيْرِهَا ، وَتَأَخُّرِ مَا سِوَاهَا خَلْفَهَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ . وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَاهَا شَبِيهٌ بِمَعْنَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ . وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا - بِكَوْنِهَا كَذَلِكَ - أُمُّ الْقُرْآنِ ، لِتَسْمِيَةِ الْعَرَبِ كُلَّ جَامِعٍ أَمْرًا - أَوْ مُقَدِّمٍ لِأَمْرٍ إِذَا كَانَتْ لَهُ تَوَابِعُ تَتْبَعُهُ ، هُوَ لَهَا إِمَامٌ جَامِعٌ - "أُمًّا" . فَتَقُولُ لِلْجِلْدَةِ الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ : "أُمُّ الرَّأْسِ " . وَتُسَمِّي لِوَاءَ الْجَيْشِ وَرَايَتَهُمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ تَحْتَهَا لِلْجَيْشِ - "أُمًّا " . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ ، يَصِفُ رَايَةً مَعْقُودَةً عَلَى قَنَاةٍ يَجْتَمِعُ تَحْتَهَا هُوَ وَصَحْبُهُ : [ ص: 108 ]


وَأَسَمْرَ قَوَّامٍ إِذَا نَامَ صُحْبَتِي خَفِيفِ الثِّيَابِ لَا تُوَارِي لَهُ أَزْرَا عَلَى رَأْسِهِ أُمٌّ لَنَا نَقْتَدِي بِهَا ،
جِمَاعُ أُمُورٍ لَا نُعَاصِي لَهَا أَمْرَا إِذَا نَزَلَتْ قِيلَ انْزِلُوا وَإِذَا غَدَتْ
غَدَتْ ذَاتَ بِرْزِيقٍ نَنَالُ بِهَا فَخْرَا


يَعْنِي بِقَوْلِهِ : "عَلَى رَأْسِهِ أُمٌّ لَنَا " ، أَيْ عَلَى رَأْسِ الرُّمْحِ رَايَةٌ يَجْتَمِعُونَ لَهَا فِي النُّزُولِ وَالرَّحِيلِ وَعِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَكَّةَ سُمِّيَتْ "أُمَّ الْقُرَى " ، لِتَقَدُّمِهَا أَمَامَ جَمِيعِهَا ، وَجَمْعِهَا مَا سِوَاهَا . وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ، لِأَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْهَا فَصَارَتْ لِجَمِيعِهَا أُمًّا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ الْهِلَالِيِّ :


إِذَا كَانَتِ الْخَمْسُونَ أُمَّكَ ، لَمْ يَكُنْ لِدَائِكَ إِلَّا أَنْ تَمُوتَ طَبِيبُ


لِأَنَّ الْخَمْسِينَ جَامِعَةٌ مَا دُونَهَا مِنَ الْعَدَدِ ، فَسَمَّاهَا أُمًّا لِلَّذِي قَدْ بَلَغَهَا . [ ص: 109 ]

وَأَمَّا تَأْوِيلُ اسْمِهَا أَنَّهَا "السَّبْعُ " ، فَإِنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ ، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْجَمِيعِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ .

وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْآيِ الَّتِي صَارَتْ بِهَا سَبْعَ آيَاتٍ . فَقَالَ عُظْمُ أَهْلِ الْكُوفَةِ : صَارَتْ سَبْعَ آيَاتٍ بِ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينِ . وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ سَبْعُ آيَاتٍ ، وَلَيْسَ مِنْهُنَّ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وَلَكِنَّ السَّابِعَةَ " أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " . وَذَلِكَ قَوْلُ عُظْمِ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمُتْقِنِيهِمْ .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَقَدْ بَيَّنَا الصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا : ( اللَّطِيفُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ) بِوَجِيزٍ مِنَ الْقَوْلِ ، وَنَسْتَقْصِي بَيَانَ ذَلِكَ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ وَالْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي كِتَابِنَا : ( الْأَكْبَرُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ .

وَأَمَّا وَصْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتِهَا السَّبْعَ بِأَنَّهُنَّ مَثَانٍ ، فَلِأَنَّهَا تُثْنَى قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَتَطَوُّعٍ وَمَكْتُوبَةٍ . وَكَذَلِكَ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ .

135 - حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ ، قَالَ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ : ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) [ ص: 110 ] [ سُورَةُ الْحِجْرِ : 87 ] قَالَ : هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ . ثُمَّ سُئِلَ عَنْهَا وَأَنَا أَسْمَعُ فَقَرَأَهَا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا ، فَقَالَ : تُثْنَى فِي كُلِّ قِرَاءَةٍ - أَوْ قَالَ - فِي كُلِّ صَلَاةٍ . الشَّكُّ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ .

وَالْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَصَدَ أَبُو النَّجْمِ الْعِجْلِيُّ بِقَوْلِهِ :


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي وَكُلَّ خَيْرٍ بَعْدَهُ أَعْطَانِي



مِنَ الْقُرَآنِ وَمِنَ الْمَثَانِي


وَكَذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزِ الْآخَرِ :


نَشَدْتُكُمْ بِمُنْزِلِ الْفُرْقَانِ أُمِّ الْكِتَابِ السَّبْعِ مِنْ مَثَانِي
ثُنِّينَ مِنْ آيٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعِ سَبْعِ الطُّوَلِ الدَّوَانِي


وَلَيْسَ فِي وُجُوبِ اسْمِ "السَّبْعِ الْمَثَانِي " لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، مَا يَدْفَعُ صِحَّةَ وُجُوبِ اسْمِ "الْمَثَانِي " لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ ، وَلِمَا ثَنَّى الْمِئِينَ مِنَ السُّوَرِ . لِأَنَّ لِكُلٍّ وَجْهًا وَمَعْنًى مَفْهُومًا ، لَا يَفْسَدُ - بِتَسْمِيَتِهِ بَعْضَ ذَلِكَ بِالْمَثَانِي - تَسْمِيَةُ غَيْرِهِ بِهَا .

فَأَمَّا وَجْهُ تَسْمِيَةِ مَا ثَنَّى الْمِئِينَ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْمَثَانِي ، فَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّتَهُ ، وَسَنَدُّلُّ عَلَى صِحَّةِ وَجْهِ تَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ بِهِ عِنْدَ انْتِهَائِنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
[ ص: 111 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ الِاسْتِعَاذَةِ

تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : ( أَعُوذُ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالِاسْتِعَاذَةُ : الِاسْتِجَارَةُ . وَتَأْوِيلُ قَوْلِ الْقَائِلِ : ( أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) أَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ - دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ - مِنَ الشَّيْطَانِ أَنْ يَضُرَّنِي فِي دِينِي ، أَوْ يَصُدَّنِي عَنْ حَقٍّ يَلْزَمُنِي لِرَبِّي .
تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : ( مِنَ الشَّيْطَانِ )

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالشَّيْطَانُ ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ : كُلُّ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ وَكُلِّ شَيْءٍ . وَكَذَلِكَ قَالَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ) [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 112 ] ، فَجَعَلَ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ ، مِثْلَ الَّذِي جَعَلَ مِنَ الْجِنِّ .

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَرَكِبَ بِرْذَوْنًا فَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بِهِ ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ فَلَا يَزْدَادُ إِلَّا تَبَخْتُرًا ، فَنَزَلَ عَنْهُ ، وَقَالَ : مَا حَمَلْتُمُونِي إِلَّا عَلَى شَيْطَانٍ! مَا نَزَلْتُ عَنْهُ حَتَّى أَنْكَرْتُ نَفْسِي .

136 - حَدَّثَنَا بِذَلِكَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُمَرَ .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُتَمَرِّدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ شَيْطَانًا ، لِمُفَارَقَةِ أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ أَخْلَاقَ سَائِرِ جِنْسِهِ وَأَفْعَالِهِ ، وَبُعْدِهِ مِنَ الْخَيْرِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ أُخِذَ مِنْ [ ص: 112 ] قَوْلِ الْقَائِلِ : شَطَنَتْ دَارِي مِنْ دَارِكَ - يُرِيدُ بِذَلِكَ : بَعُدَتْ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ :


نَأَتْ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوًى شَطُونُ فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا رَهِينُ


وَالنَّوَى : الْوَجْهُ الَّذِي نَوَتْهُ وَقَصَدَتْهُ . وَالشَّطُونُ : الْبَعِيدُ . فَكَأَنَّ الشَّيْطَانَ - عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ - فَيْعَالُ مِنْ شَطَنَ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ :


أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالْأَكْبَالِ


وَلَوْ كَانَ فَعْلَانَ ، مَنْ شَاطَ يَشِيطُ ، لَقَالَ : أَيُّمَا شَائِطٍ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : أَيُّمَا شَاطِنٍ ، لِأَنَّهُ مِنْ "شَطَنٍ يَشْطُنُ ، فَهُوَ شَاطِنٌ" .









ابوالوليد المسلم 20-01-2022 03:56 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (9)
صــ 113إلى صــ 122


تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : ( الرَّجِيمِ ) .

وَأَمَّا الرَّجِيمُ فَهُوَ : فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ : كَفٌّ خَضِيبٌ ، وَلِحْيَةٌ دَهِينٌ ، وَرَجُلٌ لَعِينٌ ، يُرِيدُ بِذَلِكَ : مَخْضُوبَةٌ وَمَدْهُونَةٌ وَمَلْعُونٌ . وَتَأْوِيلُ الرَّجِيمِ : الْمَلْعُونُ الْمَشْتُومُ . وَكُلُّ مَشْتُومٍ بِقَوْلٍ رَدِيءٍ أَوْ سَبٍّ فَهُوَ مَرْجُومٌ . وَأَصْلُ الرَّجْمِ الرَّمْيُ ، بِقَوْلٍ كَانَ أَوْ بِفِعْلٍ . وَمِنَ الرَّجْمِ بِالْقَوْلِ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : ( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ) [ سُورَةُ مَرْيَمَ : 46 ] .

وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيلَ لِلشَّيْطَانِ رَجِيمٌ ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ طَرَدَهُ مِنْ سَمَاوَاتِهِ ، وَرَجَمَهُ بِالشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ [ ص: 113 ]

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ الِاسْتِعَاذَةَ .

137 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : أَوَّلُ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ قَالَ : "يَا مُحَمَّدُ اسْتَعِذْ ، قُلْ : أَسْتَعِيذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " ، ثُمَّ قَالَ : قُلْ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، ثُمَّ قَالَ : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) [ الْعَلَقُ : 1 ] . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ .

فَأَمْرَهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ دُونَ خَلْقِهِ .
[ ص: 114 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : ( بِسْمِ )

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ أَدَّبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْلِيمِهِ تَقْدِيمَ ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَمَامَ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ ، ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِي وَصْفِهِ بِهَا قَبْلَ جَمِيعِ مُهِمَّاتِهِ ، وَجَعَلَ مَا أَدَّبَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ ، مِنْهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ سُنَّةً يَسْتَنُّونَ بِهَا ، وَسَبِيلًا يَتَّبِعُونَهُ عَلَيْهَا ، فَبِهِ افْتِتَاحُ أَوَائِلِ مَنْطِقِهِمْ ، وَصُدُورُ رَسَائِلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَحَاجَاتِهِمْ ، حَتَّى أَغْنَتْ دَلَالَةُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : "بِسْمِ اللَّهِ " ، عَلَى مَا بَطَنَ مِنْ مُرَادِهِ الَّذِي هُوَ مَحْذُوفٌ .

وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاءَ مَنْ "بِسْمِ اللَّهِ " مُقْتَضِيَةٌ فِعْلًا يَكُونُ لَهَا جَالِبًا ، وَلَا فِعْلَ مَعَهَا ظَاهِرٌ ، فَأَغْنَتْ سَامِعَ الْقَائِلِ "بِسْمِ اللَّهِ " مَعْرِفَتُهُ بِمُرَادِ قَائِلِهِ ، عَنْ إِظْهَارِ قَائِلِ ذَلِكَ مُرَادَهُ قَوْلًا إِذْ كَانَ كُلُّ نَاطِقٍ بِهِ عِنْدَ افْتِتَاحِهِ أَمْرًا ، قَدْ أُحْضِرَ مَنْطِقُهُ بِهِ - إِمَّا مَعَهُ ، وَإِمَّا قَبْلَهُ بِلَا فَصْلٍ - مَا قَدْ أَغْنَى سَامِعَهُ عَنْ دَلَالَةٍ شَاهِدَةٍ عَلَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ افْتَتَحَ قِيلَهُ بِهِ . فَصَارَ اسْتِغْنَاءُ سَامِعِ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ إِظْهَارِ مَا حَذَفَ مِنْهُ ، نَظِيرَ اسْتِغْنَائِهِ - إِذَا سَمِعَ قَائِلًا قِيلَ لَهُ : مَا أَكَلْتَ الْيَوْمَ ؟ فَقَالَ : "طَعَامًا " - عَنْ أَنْ يُكَرِّرَ الْمَسْئُولُ مَعَ قَوْلِهِ "طَعَامًا " ، أَكَلْتُ ، لِمَا قَدْ ظَهَرَ لَدَيْهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ ، بِتَقَدُّمِ مَسْأَلَةِ السَّائِلِ إِيَّاهُ عَمَّا أَكَلَ . فَمَعْقُولٌ إِذًا أَنَّ قَوْلَ [ ص: 115 ] الْقَائِلِ إِذَا قَالَ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ثُمَّ افْتَتَحَ تَالِيًا سُورَةً ، أَنَّ إِتْبَاعَهُ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " تِلَاوَةَ السُّورَةِ ، يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَمَفْهُومٌ بِهِ أَنَّهُ مُرِيدٌ بِذَلِكَ : أَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . وَكَذَلِكَ قَوْلِهِ : "بِسْمِ اللَّهِ " عِنْدَ نُهُوضِهِ لِلْقِيَامِ أَوْ عِنْدَ قُعُودِهِ وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ ، يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِقِيلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " ، أَقُومُ بِاسْمِ اللَّهِ ، وَأَقْعُدُ بِاسْمِ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ سَائِرِ الْأَفْعَالِ .

وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي : -

138 - حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : إِنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ ، قَالَ : "يَا مُحَمَّدُ ، قُلْ : أَسْتَعِيذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " ثُمَّ قَالَ : "قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " . قَالَ : قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : قُلْ بِسْمِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ ، يَقُولُ : اقْرَأْ بِذِكْرِ اللَّهِ رَبِّكَ ، وَقُمْ وَاقْعُدْ بِذِكْرِ اللَّهِ .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " مَا وَصَفْتَ ، وَالْجَالِبُ الْبَاءَ فِي "بِسْمِ اللَّهِ " مَا ذَكَرْتَ ، فَكَيْفَ قِيلَ "بِسْمِ اللَّهِ " ، بِمَعْنَى أَقْرَأُ بِاسْمِ اللَّهِ " ، أَوْ أَقُومُ أَوْ أَقْعُدُ بِاسْمِ اللَّهِ ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَ قَارِئٍ كِتَابَ اللَّهِ ، فَبِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ قِرَاءَتُهُ ، وَأَنَّ كُلَّ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ أَوْ فَاعِلٍ فِعْلًا فَبِاللَّهِ قِيَامُهُ وَقُعُودُهُ وَفِعْلُهُ . وَهَلَّا - إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - قِيلَ " بِاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَلَمْ يَقُلْ "بِسْمِ اللَّهِ " ؟ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : أَقُومُ وَأَقْعُدُ بِاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، أَوْ أَقْرَأُ بِاللَّهِ - أَوْضَحُ مَعْنًى لِسَامِعِهِ مِنْ قَوْلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " ، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ أَقُومُ "أَقُومُ أَوْ أَقْعُدُ بِاسْمِ اللَّهِ " ، يُوهِمُ سَامِعَهُ أَنَّ قِيَامَهُ وَقُعُودَهُ بِمَعْنَى غَيْرِ اللَّهِ .

قِيلَ لَهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ : إِنَّ الْمَقْصُودَ إِلَيْهِ مِنْ مَعْنَى ذَلِكَ غَيْرُ مَا تَوَهَّمْتَهُ فِي نَفْسِكَ . وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ "باِسْمِ اللَّهِ " : أَبْدَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ، [ ص: 116 ] أَوْ أَقْرَأُ بِتَسْمِيَتِي اللَّهَ ، أَوْ أَقُومُ وَأَقْعُدُ بِتَسْمِيَتِي اللَّهَ وَذِكْرِهِ - لَا أَنَّهُ يَعْنِي بِقِيلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " : أَقُومُ بِاللَّهِ ، أَوْ أَقْرَأُ بِاللَّهِ ، فَيَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ : أَقْرَأُ بِاللَّهِ ، أَوْ أَقُومُ أَوْ أَقْعُدُ بِاللَّهِ - أَوْلَى بِوَجْهِ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " .

فَإِنْ قَالَ : فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتَ ، فَكَيْفَ قِيلَ : "بِسْمِ اللَّهِ " وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الِاسْمَ اسْمٌ ، وَأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ سَمَّيْتُ ؟

قِيلَ : إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُخْرِجُ الْمَصَادِرَ مُبْهَمَةً عَلَى أَسْمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ ، كَقَوْلِهِمْ : أَكْرَمْتُ فُلَانًا كَرَامَةً ، وَإِنَّمَا بِنَاءُ مَصْدَرِ "أَفَعَلْتُ " - إِذَا أُخْرِجَ عَلَى فِعْلِهِ - "الْإِفْعَالُ " . وَكَقَوْلِهِمْ : أَهَنْتُ فُلَانًا هَوَانًا ، وَكَلَّمْتُهُ كَلَامًا . وَبِنَاءُ مَصْدَرِ : "فَعَّلَتُ " التَّفْعِيلُ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ :


أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا


يُرِيدُ : إِعْطَائِكَ . وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ :


وَإِنْ كَانَ هَذَا الْبُخْلُ مِنْكَ سَجِيَّةً لَقَدْ كُنْتُ فِي طُولِي رَجَاءَكَ أَشْعَبَا


يُرِيدُ : فِي إِطَالَتِي رَجَاءَكَ . وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ :


أَظُلَيْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلًا أَهْدَى السَّلَامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ


يُرِيدُ : إِصَابَتَكُمْ . وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَكْثُرُ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ ، لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ . [ ص: 117 ]

فَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ - عَلَى مَا وَصَفْنَا ، مِنْ إِخْرَاجِ الْعَرَبِ مَصَادِرَ الْأَفْعَالِ عَلَى غَيْرِ بِنَاءِ أَفْعَالِهَا - كَثِيرًا ، وَكَانَ تَصْدِيرُهَا إِيَّاهَا عَلَى مَخَارِجِ الْأَسْمَاءِ مَوْجُودًا فَاشِيًا ، فَبَيِّنٌ بِذَلِكَ صَوَابُ مَا قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ "بِسْمِ اللَّهِ " ، أَنَّ مَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ فِي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ : أَبْدَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ ، قَبْلَ فِعْلِي ، أَوْ قَبْلَ قَوْلِي .

وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ : أَقْرَأُ مُبْتَدِئًا بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ ، أَوْ أَبْتَدِئُ قِرَاءَتِي بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ . فَجُعِلَ "الِاسْمُ " مَكَانَ التَّسْمِيَةِ ، كَمَا جُعِلَ الْكَلَامُ مَكَانَ التَّكْلِيمِ ، وَالْعَطَاءُ مَكَانَ الْإِعْطَاءِ .

وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ .

139 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : أَوَّلُ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "يَا مُحَمَّدُ ، قُلْ : أَسْتَعِيذُ بِالسَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " ، ثُمَّ قَالَ : "قُلْ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : "بِسْمِ اللَّهِ " ، يَقُولُ لَهُ جِبْرِيلُ : يَا مُحَمَّدُ ، اقْرَأْ بِذِكْرِ اللَّهِ رَبِّكَ ، وَقُمْ وَاقْعُدْ بِذِكْرِ اللَّهِ .

وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا - مِنْ أَنَّهُ يُرَادُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ مُفْتَتِحًا قِرَاءَتَهُ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " : أَقْرَأُ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ ، وَأَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ ، بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى - وَيُوَضِّحُ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ قَائِلِهِ : بِاللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَوَّلِ كُلِ شَيْءٍ ، مَعَ أَنَّ الْعِبَادَ [ ص: 118 ] إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يَبْتَدِئُوا عِنْدَ فَوَاتِحِ أُمُورِهِمْ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ ، لَا بِالْخَبَرِ عَنْ عَظْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ ، كَالَّذِي أُمِرُوا بِهِ مِنَ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ ، وَعِنْدَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ ، وَسَائِرِ أَفْعَالِهِمْ . وَكَذَلِكَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ تِلَاوَةِ تَنْزِيلِ اللَّهِ ، وَصُدُورِ رَسَائِلِهِمْ وَكُتُبِهِمْ .

وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْجَمِيعِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ ، أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ عِنْدَ تَذْكِيَتِهِ بَعْضَ بَهَائِمِ الْأَنْعَامِ "بِاللَّهِ " ، وَلَمْ يَقُلْ "بِسْمِ اللَّهِ " ، أَنَّهُ مُخَالِفٌ - بِتَرْكِهِ قِيلَ : "بِسْمِ اللَّهِ " مَا سُنَّ لَهُ عِنْدَ التَّذْكِيَةِ مِنَ الْقَوْلِ . وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ "بِسْمِ اللَّهِ " "بِاللَّهِ " ، كَمَا قَالَ الزَّاعِمُ أَنَّ اسْمَ اللَّهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " هُوَ اللَّهُ . لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ عِنْدَ تَذْكِيَتِهِ ذَبِيحَتَهُ "بِاللَّهِ " ، قَائِلًا مَا سُنَّ لَهُ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى الذَّبِيحَةِ . وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ تَارِكٌ مَا سُنَّ لَهُ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى ذَبِيحَتِهِ - إِذْ لَمْ يَقُلْ "بِسْمِ اللَّهِ " - دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى فَسَادِ مَا ادَّعَى مِنَ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ : "بِسْمِ اللَّهِ " ، أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ "بِاللَّهِ " ، وَأَنَّ اسْمَ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ .

وَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِكْثَارِ فِي الْإِبَانَةِ عَنِ الِاسْمِ : أَهُوَ الْمُسَمَّى ، أَمْ غَيْرُهُ ، أَمْ هُوَ صِفَةٌ لَهُ ؟ فَنُطِيلُ الْكِتَابَ بِهِ ، وَإِنَّمَا هَذَا مَوْضِعٌ مِنْ مَوَاضِعِ الْإِبَانَةِ عَنِ الِاسْمِ الْمُضَافِ إِلَى اللَّهِ : أَهْوَ اسْمٌ ، أَمْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ ؟ [ ص: 119 ] فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِي بَيْتِ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ :


إِلَى الْحَوْلِ ، ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا ، وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ


فَقَدْ تَأَوَّلَهُ مُقَدَّمٌ فِي الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ، أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ : ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا ، وَأَنَّ اسْمَ السَّلَامِ هُوَ السَّلَامُ ؟

قِيلَ لَهُ : لَوْ جَازَ ذَلِكَ وَصَحَّ تَأْوِيلُهُ فِيهِ عَلَى مَا تَأَوَّلَ ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : رَأَيْتُ اسْمَ زَيْدٍ ، وَأَكَلْتُ اسْمَ الطَّعَامِ ، وَشَرِبْتُ اسْمَ الشَّرَابِ; وَفِي إِجْمَاعِ جَمِيعِ الْعَرَبِ عَلَى إِحَالَةِ ذَلِكَ مَا يُنْبِئُ عَنْ فَسَادِ تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَ لَبِيدٍ : "ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ [ ص: 120 ] عَلَيْكُمَا " ، أَنَّهُ أَرَادَ : ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا ، وَادِّعَائِهِ أَنَّ إِدْخَالَ الِاسْمِ فِي ذَلِكَ وَإِضَافَتَهُ إِلَى السَّلَامِ إِنَّمَا جَازَ ، إِذْ كَانَ اسْمُ الْمُسَمَّى هُوَ الْمُسَمَّى بِعَيْنِهِ .

وَيُسْأَلُ الْقَائِلُونَ قَوْلَ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ هَذَا ، فَيُقَالُ لَهُمْ : أَتَسْتَجِيزُونَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ : "أَكَلْتُ اسْمَ الْعَسَلِ " ، يَعْنِي بِذَلِكَ : أَكَلْتُ الْعَسَلَ ، كَمَا جَازَ عِنْدَكُمْ : اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكَ ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ ؟

فَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ ! خَرَجُوا مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ ، وَأَجَازُوا فِي لُغَتِهَا مَا تُخَطِّئُهُ جَمِيعُ الْعَرَبِ فِي لُغَتِهَا . وَإِنْ قَالُوا : لَا ؛ سُئِلُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا . فَلَنْ يَقُولُوا فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمُوا فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ .

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِ لَبِيدٍ هَذَا عِنْدَكَ ؟

قِيلَ لَهُ : يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ ، كِلَاهُمَا غَيْرُ الَّذِي قَالَهُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ .

أَحَدُهُمَا : أَنْ "السَّلَامَ " اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَبِيدٌ عَنَى بِقَوْلِهِ : "ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا " ، ثُمَّ الْزَمَا اسْمَ اللَّهِ وَذِكْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَدَعَا ذِكْرِي وَالْبُكَاءَ عَلَيَّ; عَلَى وَجْهِ الْإِغْرَاءِ . فَرَفَعَ الِاسْمَ ، إِذْ أَخَّرَ الْحَرْفَ الَّذِي يَأْتِي بِمَعْنَى الْإِغْرَاءِ . وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ ، إِذَا أَخَّرَتِ الْإِغْرَاءَ وَقَدَّمَتِ الْمُغْرَى بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَنْصِبُ بِهِ وَهُوَ مُؤَخَّرٌ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ :


يَا أَيُّهَا الْمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا! إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ يَحْمَدُونَكَا!


فَأَغْرَى بِ "دُونَكَ " ، وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : دُونَكَ دَلْوِي . فَذَلِكَ قَوْلُ لَبِيدٍ :


إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا


يَعْنِي : عَلَيْكُمَا اسْمَ السَّلَامِ ، أَيْ : الْزَمَا ذِكْرَ اللَّهِ وَدَعَا ذِكْرِي وَالْوَجْدُ بِي ، لِأَنَّ مَنْ بَكَى حَوْلًا عَلَى امْرِئٍ مَيِّتٍ فَقَدِ اعْتَذَرَ . فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْهِ . [ ص: 121 ]

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْهُمَا : ثُمَّ تَسْمِيَتِي اللَّهَ عَلَيْكُمَا ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِلشَّيْءِ يَرَاهُ فَيُعْجِبُهُ : "اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكَ " يُعَوِّذُهُ بِذَلِكَ مِنَ السُّوءِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : ثُمَّ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكُمَا مِنَ السُّوءِ ، وَكَأَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِ لَبِيدٍ .

وَيُقَالُ لِمَنْ وَجَّهَ بَيْتَ لَبِيدٍ هَذَا إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ : ثُمَّ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا ، أَتَرَى مَا قُلْنَا - مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ - جَائِزًا ، أَوْ أَحَدُهُمَا ، أَوْ غَيْرَ مَا قُلْتَ فِيهِ ؟

فَإِنْ قَالَ : لَا ! أَبَانَ مِقْدَارَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِتَصَارِيفَ وُجُوهِ كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَأَغْنَى خَصْمِهِ عَنْ مُنَاظَرَتِهِ .

وَإِنْ قَالَ : بَلَى !

قِيلَ لَهُ : فَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْتَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَنَّهُ الصَّوَابُ ، دُونَ الَّذِي ذَكَرْتَ أَنَّهُ مُحْتَمِلُهُ - مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَلْزَمُنَا تَسْلِيمُهُ لَكَ ؟ وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ .

وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي : -

140 - حَدَّثَنَا بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ الضَّحَّاكِ وَهُوَ يُلَقَّبُ بِزِبْرِيقَ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ ، عَنْ عَطِيَّةَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الْكُتَّابِ لِيُعَلِّمَهُ ، فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ : اكْتُبْ "بِسْمِ " فَقَالَ لَهُ عِيسَى : وَمَا "بِسْمِ " ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ : مَا أَدْرِي ! فَقَالَ عِيسَى : الْبَاءُ بَهَاءُ اللَّهِ ، وَالسِّينُ : سَنَاؤُهُ ، وَالْمِيمُ : مَمْلَكَتُهُ . [ ص: 122 ]

فَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ غَلَطًا مِنَ الْمُحَدِّثِ ، وَأَنْ يَكُونَ أَرَادَ ب س م ، عَلَى سَبِيلِ مَا يُعَلَّمُ الْمُبْتَدِئُ مِنَ الصِّبْيَانِ فِي الْكُتَّابِ حُرُوفَ أَبِي جَادٍ ، فَغَلِطَ بِذَلِكَ ، فَوَصَلَهُ ، فَقَالَ : "بِسْمِ " ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِهَذَا التَّأْوِيلِ إِذَا تُلِيَ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، عَلَى مَا يَتْلُوهُ الْقَارِئُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَاهُ عَلَى الْمَفْهُومِ بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ وَأَهْلِ لِسَانِهَا ، إِذَا حُمِلَ تَأْوِيلُهُ عَلَى ذَلِكَ .









ابوالوليد المسلم 20-01-2022 03:58 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (10)
صــ 123إلى صــ 134

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( اللَّهِ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ "اللَّهِ " ، فَإِنَّهُ عَلَى مَعْنَى مَا رُوِيَ لَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - : هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَيَعْبُدُهُ كُلُّ خَلْقٍ . [ ص: 123 ]

141 - وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : "اللَّهِ " ذُو الْأُلُوهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ .

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : فَهَلْ لِذَلِكَ فِي "فَعَلَ وَيَفْعَلُ " أَصْلٌ كَانَ مِنْهُ بِنَاءُ هَذَا الِاسْمِ ؟

قِيلَ : أَمَّا سَمَاعًا مِنْ الْعَرَبِ فَلَا وَلَكِنِ اسْتِدْلَالًا .

فَإِنْ قَالَ : وَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ هِيَ الْعِبَادَةُ ، وَأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ ، وَأَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي "فَعَلَ وَيَفْعَلُ " .

قِيلَ : لَا تَمَانُعَ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي الْحُكْمِ لِقَوْلِ الْقَائِلِ - يَصِفُ رَجُلًا بِعِبَادَةٍ ، وَبِطَلَبِ مَا عِنْدَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ : "تَأَلَّهَ فَلَانٌ " - بِالصِّحَّةِ وَلَا خِلَافَ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ :


لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ الْمُدَّهِ سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهِي


يَعْنِي : مِنْ تَعَبُّدِي وَطَلَبِي اللَّهَ بِعَمَلِي .

وَلَا شَكَّ أَنَّ "التَّأَلُّهَ " ، التَّفَعُّلَ مِنْ : "أَلَهَ يَأْلَهُ " ، وَأَنَّ مَعْنَى "أَلَهَ " - إِذَا نُطِقَ بِهِ : - عَبَدَ اللَّهَ . وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ مَصْدَرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ نَطَقَتْ مِنْهُ بِ "فَعَلَ يَفْعَلُ " بِغَيْرِ زِيَادَةٍ .

142 - وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَرَأَ " وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ " سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 127 قَالَ : عِبَادَتَكَ ، وَيُقَالُ : إِنَّهُ كَانَ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ . [ ص: 124 ]

143 - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) ، قَالَ : إِنَّمَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ

وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا وَمُجَاهِدٌ .

144 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : قَوْلُهُ " وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ " قَالَ : وَعِبَادَتَكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِلَاهَةَ - عَلَى مَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ - مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : أَلَهَ اللَّهَ فُلَانٌ إِلَاهَةً ، كَمَا يُقَالُ : عَبَدَ اللَّهَ فُلَانٌ عِبَادَةً ، وَعَبَرَ الرُّؤْيَا عِبَارَةً . فَقَدْ بَيَّنَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ هَذَا : أَنَّ "أَلَهَ " عَبَدَ ، وَأَنَّ "الْإِلَاهَةَ " مَصْدَرُهُ .

فَإِنْ قَالَ : فَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَبَدَ اللَّهَ : أَلَهَهُ - عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ - فَكَيْفَ الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ ، إِذَا أَرَادَ الْمُخْبِرُ الْخَبَرَ عَنِ اسْتِيجَابِ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِهِ ؟ [ ص: 125 ]

قِيلَ : أَمَّا الرِّوَايَةُ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ - عَلَى قِيَاسِ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي : -

145 - حَدَّثَنَا بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ عِيسَى أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الْكُتَّابِ لِيُعَلِّمَهُ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ اكْتُبْ "اللَّهَ " فَقَالَ لَهُ عِيسَى : "أَتَدْرِي مَا اللَّهُ ؟ اللَّهُ إِلَهُ الْآلِهَةِ " .

- أَنْ يُقَالَ ، اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ أَلَهَ الْعَبْدَ ، وَالْعَبْدُ أَلَهَهُ . وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ "اللَّهِ " - مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَصْلُهُ "الْإِلَهُ " .

فَإِنْ قَالَ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، مَعَ اخْتِلَافِ لَفْظَيْهِمَا ؟

قِيلَ : كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : ( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 38 ] أَصْلُهُ : لَكِنَّ أَنَا ، هُوَ اللَّهُ رَبِّي ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :


وَتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ ، أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ وَتَقْلِينَنِي ، لَكِنَّ إِيَّاكِ لَا أَقْلِي


يُرِيدُ : لَكِنَّ أَنَا إِيَّاكِ لَا أَقْلِي ، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ مِنْ "أَنَا " فَالْتَقَتْ نُونُ "أَنَا " "وَنُونُ "لَكِنْ " وَهِيَ سَاكِنَةٌ ، فَأُدْغِمَتْ فِي نُونِ "أَنَا " فَصَارَتَا نُونًا مُشَدَّدَةً . فَكَذَلِكَ "اللَّهُ " أَصْلُهُ "الْإِلَهُ " ، أُسْقِطَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الِاسْمِ ، فَالْتَقَتِ اللَّامُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الِاسْمِ ، وَاللَّامُ الزَّائِدَةُ الَّتِي دَخَلَتْ مَعَ الْأَلِفِ الزَّائِدَةِ وَهِيَ سَاكِنَةٌ ، فَأُدْغِمَتْ فِي [ ص: 126 ] الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ عَيْنُ الِاسْمِ ، فَصَارَتَا فِي اللَّفْظِ لَامًا وَاحِدَةً مُشَدَّدَةً ، كَمَا وَصَفْنَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ ( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَأَمَّا " الرَّحْمَنُ " ، فَهُوَ فَعْلَانُ ، مِنْ رَحِمَ ، وَ "الرَّحِيمُ " فَعِيلٌ مِنْهُ . وَالْعَرَبُ كَثِيرًا مَا تَبْنِي الْأَسْمَاءَ مَنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " عَلَى "فَعْلَانِ " ، كَقَوْلِهِمْ مِنْ غَضِبَ : غَضْبَانُ ، وَمَنْ سَكِرَ : سَكْرَانُ ، وَمِنْ عَطِشَ : عَطْشَانُ . فَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ "رَحْمَنُ " مِنْ رَحِمَ ، لِأَنَّ "فَعِلَ " مِنْهُ : رَحِمَ يَرْحَمُ . وَقِيلَ "رَحِيمٌ " ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُ "فَعِلَ " مِنْهَا مَكْسُورَةً ، لِأَنَّهُ مَدْحٌ . وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يَحْمِلُوا أَبْنِيَةَ الْأَسْمَاءِ - إِذَا كَانَ فِيهَا مَدْحٌ أَوْ ذَمٌّ - عَلَى "فَعِيلٍ " ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُ "فَعِلَ " مِنْهَا مَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً ، كَمَا قَالُوا مِنْ "عَلِمَ " عَالِمٌ وَعَلِيمٌ ، وَمِنْ "قَدَرَ " قَادِرٌ وَقَدِيرٌ . وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهَا بِنَاءً عَلَى أَفْعَالِهَا ، لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " وَ "فَعَلَ يَفْعِلُ " فَاعِلٌ . فَلَوْ كَانَ "الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ " خَارِجَيْنِ عَلَى بِنَاءِ أَفْعَالِهِمَا لَكَانَتْ صُورَتُهُمَا "الرَّاحِمَ " .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا كَانَ الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ اسْمَيْنِ مُشْتَقَّيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ ، فَمَا وَجْهُ تَكْرِيرِ ذَلِكَ ، وَأَحَدُهُمَا مُؤَدٍّ عَنْ مَعْنَى الْآخَرِ ؟

قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْتَ ، بَلْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهُمَا مَعْنًى لَا تُؤَدِّي الْأُخْرَى مِنْهُمَا عَنْهَا .

فَإِنْ قَالَ : وَمَا الْمَعْنَى الَّذِي انْفَرَدَتْ بِهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَصَارَتْ إِحْدَاهُمَا غَيْرَ مُؤَدِّيَةٍ الْمَعْنَى عَنِ الْأُخْرَى ؟

قِيلَ : أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَلَا تَمَانُعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ ، أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : "الرَّحْمَنُ " - عَنْ أَبْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ [ ص: 127 ] مِنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " - أَشَدُّ عُدُولًا مِنْ قَوْلِهِ "الرَّحِيمُ " . وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ، أَنَّ كُلَّ اسْمٍ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي "فَعِلَ يَفْعَلُ " - ثُمَّ كَانَ عَنْ أَصْلِهِ مَنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " أَشَدَّ عُدُولًا - أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ مُفَضَّلٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِالِاسْمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى أَصْلِهِ مَنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " ، إِذَا كَانَتِ التَّسْمِيَةُ بِهِ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا . فَهَذَا مَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ "الرَّحْمَنُ " ، مِنْ زِيَادَةِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ "الرَّحِيمُ " فِي اللُّغَةِ .

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ وَالْخَبَرِ ، فَفِيهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ اخْتِلَافٌ : -

146 - فَحَدَّثَنِي السُّرِّيُّ بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ زُفَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْعَرْزَمِيَّ يَقُولُ : "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، قَالَ : الرَّحْمَنُ بِجَمِيعِ الْخَلْقِ ، "الرَّحِيمُ" قَالَ : بِالْمُؤْمِنِينَ .

147 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - يَعْنِي الْخُدْرِيَّ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ : الرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا ، وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ " .

فَهَذَانِ الْخَبِرَانِ قَدْ أَنْبَآ عَنْ فَرْقٍ مَا بَيْنَ تَسْمِيَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "رَحْمَنُ " ، وَتَسْمِيَتُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "رَحِيمٌ " ، وَاخْتِلَافُ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ - وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ الْفَرْقِ ، فَدَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ، وَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ .

فَإِنْ قَالَ : فَأَيُّ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ أَوْلَى عِنْدَكَ بِالصِّحَّةِ ؟ [ ص: 128 ]

قِيلَ : لِجَمِيعِهِمَا عِنْدَنَا فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ قَائِلٍ : أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ بِالرَّحْمَنِ ، دُونَ الَّذِي فِي تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحِيمِ : هُوَ أَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحْمَنِ مَوْصُوفٌ بِعُمُومِ الرَّحْمَةِ جَمِيعَ خَلْقِهِ ، وَأَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحِيمِ مَوْصُوفٌ بِخُصُوصِ الرَّحْمَةِ بَعْضَ خَلْقِهِ ، إِمَّا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ ، وَإِمَّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ . فَلَا شَكَّ - إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - أَنَّ ذَلِكَ الْخُصُوصَ الَّذِي فِي وَصْفِهِ بِالرَّحِيمِ لَا يَسْتَحِيلُ عَنْ مَعْنَاهُ ، فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ أَوْ فِي الْآخِرَةِ ، أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا .

فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ - وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ خَصَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِمَا لَطَفَ بِهِمْ مِنْ تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لِطَاعَتِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ ، مِمَّا خُذِلَ عَنْهُ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ ، وَكَفَرَ وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَرَكِبَ مَعَاصِيَهُ; وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، مَا أَعَدَّ فِي آجِلِ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْفَوْزِ الْمُبِينِ ، لِمَنْ آمَنَ بِهِ ، وَصَدَّقَ رُسُلَهُ ، وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ ، خَالِصًا ، دُونَ مَنْ أَشْرَكَ وَكَفَرَ بِهِ - كَانَ بَيِّنًا أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، مَعَ مَا قَدْ عَمَّهُمْ بِهِ وَالْكُفَّارَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى جَمِيعِهِمْ ، فِي الْبَسْطِ فِي الرِّزْقِ ، وَتَسْخِيرِ السَّحَابِ بِالْغَيْثِ ، وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ ، وَصِحَّةِ الْأَجْسَامِ وَالْعُقُولِ ، وَسَائِرِ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى ، الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ .

فَرَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ رَحْمَنُ جَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَرَحِيمُ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَأَمَّا الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ فَكَانَ رَحْمَانًا لَهُمْ بِهِ ، فَمَا ذَكَرْنَا مَعَ نَظَائِرِهِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَى إِحْصَائِهَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) [ سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ : 34 ، وَسُورَةُ النَّحْلِ : 18 ] .

وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ ، فَالَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِيهَا مِنْ رَحْمَتِهِ ، فَكَانَ لَهُمْ رَحْمَانًا ، تَسْوِيَتُهُ [ ص: 129 ] بَيْنَ جَمِيعِهِمْ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي عَدْلِهِ وَقَضَائِهِ ، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ . فَذَلِكَ مَعْنَى عُمُومِهِ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعَهُمْ بِرَحْمَتِهِ ، الَّذِي كَانَ بِهِ رَحْمَانًا فِي الْآخِرَةِ .

وَأَمَّا مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ ، الَّذِي كَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ فِيهَا ، كَمَا قَالَ جُلَّ ذِكْرِهِ : ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) [ سُورَةُ الْأَحْزَابِ : 43 ] فَمَا وَصَفْنَا مِنَ اللُّطْفِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ ، فَخَصَّهُمْ بِهِ ، دُونَ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ .

وَأَمَّا مَا خَصَّهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ ، فَكَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ دُونَ الْكَافِرِينَ ، فَمَا وَصَفْنَا آنِفًا مِمَّا أَعَدَّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّعِيمِ ، وَالْكَرَامَةِ الَّتِي تَقْصُرُ عَنْهَا الْأَمَانِيُّ .

وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي تَأْوِيلِهِ فَهُوَ مَا : -

148 - حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : الرَّحْمَنُ ، الْفِعْلَانُ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ . قَالَ : الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ : الرَّقِيقُ الرَّفِيقُ بِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْحَمَهُ ، وَالْبَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْنُفَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا .

وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي بِهِ رَبُّنَا رَحْمَنُ ، هُوَ الَّذِي بِهِ رَحِيمٌ ، وَإِنْ كَانَ لِقَوْلِهِ "الرَّحْمَنِ " مِنَ الْمَعْنَى ، مَا لَيْسَ لِقَوْلِهِ "الرَّحِيمِ " . لِأَنَّهُ جَعَلَ مَعْنَى "الرَّحْمَنِ " بِمَعْنَى الرَّقِيقِ عَلَى مَنْ رَقَّ عَلَيْهِ ، وَمَعْنَى "الرَّحِيمِ " بِمَعْنَى الرَّفِيقِ بِمَنْ رَفُقَ بِهِ .

وَالْقَوْلُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْنَاهُ عَنِ الْعَرْزَمِيِّ ، أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَإِنْ [ ص: 130 ] كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقًا مَعْنَاهُ مَعْنَى ذَلِكَ ، فِي أَنَّ لِلرَّحْمَنِ مِنَ الْمَعْنَى مَا لَيْسَ لِلرَّحِيمِ ، وَأَنَّ لِلرَّحِيمِ تَأْوِيلًا غَيْرَ تَأْوِيلِ الرَّحْمَنِ .

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا : -

149 - حَدَّثَنِي بِهِ عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَزْهَرِ نَصْرُ بْنُ عَمْرٍو اللَّخْمِيُّ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ يَقُولُ : كَانَ الرَّحْمَنُ ، فَلَمَّا اخْتَزَلَ الرَّحْمَنُ مِنِ اسْمِهِ كَانَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ .

وَالَّذِي أَرَادَ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، عَطَاءٌ بِقَوْلِهِ هَذَا : أَنَّ الرَّحْمَنَ كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَتَسَمَّى بِهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ، فَلَمَّا تَسَمَّى بِهِ الْكَذَّابُ مُسَيْلِمَةُ - وَهُوَ اخْتِزَالُهُ إِيَّاهُ ، يَعْنِي اقْتِطَاعَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ لِنَفْسِهِ - أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ اسْمَهُ "الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ " لِيَفْصِلَ بِذَلِكَ لِعِبَادِهِ اسْمَهُ مِنِ اسْمِ مَنْ قَدْ تَسَمَّى بِأَسْمَائِهِ ، إِذْ كَانَ لَا يُسَمَّى أَحَدٌ "الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ " ، فَيُجْمَعُ لَهُ هَذَانِ الِاسْمَانِ ، غَيْرَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ . وَإِنَّمَا يَتَسَمَّى بَعْضُ خَلْقِهِ إِمَّا رَحِيمًا ، أَوْ يَتَسَمَّى رَحْمَنَ . فَأَمَّا "رَحْمَنُ رَحِيمٌ " ، فَلَمْ يَجْتَمِعَا قَطُّ لِأَحَدٍ سِوَاهُ ، وَلَا يُجْمَعَانِ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ . فَكَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ هَذَا : أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا فَصَلَ بِتَكْرِيرِ الرَّحِيمِ عَلَى الرَّحْمَنِ ، بَيْنَ اسْمِهِ وَاسْمِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ ، اخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا أَوِ اتَّفَقَا .

وَالَّذِي قَالَ عَطَاءٌ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ فَاسِدِ الْمَعْنَى ، بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَصَّ نَفْسَهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِهِمَا مَعًا مُجْتَمِعَيْنَ ، إِبَانَةً لَهَا مِنْ خَلْقِهِ ، لِيَعْرِفَ عِبَادُهُ بِذِكْرِهِمَا مَجْمُوعَيْنِ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِهِمَا دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ ، مَعَ مَا فِي تَأْوِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي لَيْسَ فِي الْآخَرِ مِنْهُمَا . [ ص: 131 ]

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْغَبَاءِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ "الرَّحْمَنَ " ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي لُغَتِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ) [ سُورَةُ الْفُرْقَانِ : 60 ] ، إِنْكَارًا مِنْهُمْ لِهَذَا الِاسْمِ ، كَأَنَّهُ كَانَ مُحَالًا عِنْدَهُ أَنْ يُنْكِرَ أَهْلُ الشِّرْكِ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِصِحَّتِهِ ، أَوْ : لَا ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَتْلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَوْلَ اللَّهِ ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ ) - يَعْنِي مُحَمَّدًا - ( كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 146 ] وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِهِ مُكَذِّبُونَ ، وَلِنُبُوَّتِهِ جَاحِدُونَ! فَيَعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يُدَافِعُونَ حَقِيقَةً مَا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ ، وَاسْتَحْكَمَتْ لَدَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ . وَقَدْ أُنْشِدَ لِبَعْضِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءِ :


أَلَا ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا أَلَا قَضَبَ الرَّحْمَنُ رَبِّي يَمِينَهَا


وَقَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ السَّعْدِيُّ :


عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجْلَتَيْنَا عَلَيْكُمُ وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدْ وَيُطْلِقُ
[ ص: 132 ]

وَقَدْ زَعَمَ أَيْضًا بَعْضُ مَنْ ضَعُفَتْ مَعْرِفَتُهُ بِتَأْوِيلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ، وَقَلَّتْ رِوَايَتُهُ لِأَقْوَالِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ ، أَنَّ "الرَّحْمَنَ " مَجَازُهُ : ذُو الرَّحْمَةِ ، وَ "الرَّحِيمَ " مَجَازُهُ : الرَّاحِمُ ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ يُقَدِّرُونَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ، وَذَلِكَ لِاتِّسَاعِ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ . قَالَ : وَقَدْ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالُوا : نَدْمَانُ وَنَدِيمٌ ، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ بِبَيْتِ بُرْجِ بْنِ مُسْهِرٍ الطَّائِيِّ :


وَنَدْمَانٍ يَزِيدُ الْكَأَسَ طِيبًا ، سَقَيْتُ وَقَدْ تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ


وَاسْتَشْهَدَ بِأَبْيَاتِ نَظَائِرِهِ فِي النَّدِيمِ وَالنَّدْمَانِ ، فَفَرَّقَ بَيْنَ مَعْنَى الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ فِي التَّأْوِيلِ لِقَوْلِهِ : الرَّحْمَنُ ذُو الرَّحْمَةِ ، وَالرَّحِيمُ الرَّاحِمُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ بَيَانَ تَأْوِيلِ مَعْنَيَيْهِمَا عَلَى صِحَّتِهِ . ثُمَّ مَثَّلَ ذَلِكَ بِاللَّفْظَيْنِ يَأْتِيَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، فَعَادَ إِلَى مَا قَدْ جَعَلَهُ بِمَعْنَيَيْنِ ، فَجَعَلَهُ مِثَالَ مَا هُوَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ .

وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَا الرَّحْمَةِ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّ لَهُ الرَّحْمَةَ ، وَصَحَّ أَنَّهَا لَهُ صِفَةٌ; وَأَنَّ الرَّاحِمَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ سَيَرْحَمُ ، أَوْ قَدْ رَحِمَ فَانْقَضَى ذَلِكَ مِنْهُ ، أَوْ هُوَ فِيهِ .

وَلَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنَّ الرَّحْمَةَ لَهُ صِفَةٌ ، كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا لَهُ صِفَةٌ ، إِذَا وُصِفَ بِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ . فَأَيْنَ مَعْنَى "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " عَلَى تَأْوِيلِهِ ، مِنْ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ تَأْتِيَانِ مُقَدَّرَتَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَاتِّفَاقِ الْمَعَانِي ؟ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ إِذَا كَانَ غَيْرَ أَصْلٍ مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ ، كَانَ وَاضِحًا عَوَارُهُ .

وَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَلِمَ قَدَّمَ اسْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ "اللَّهُ " ، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنُ " ، وَاسْمَهُ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنُ " ، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحِيمُ " ؟

قِيلَ : لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ ، إِذَا أَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْ مُخْبَرٍ عَنْهُ ، أَنْ يُقَدِّمُوا اسْمَهُ ، ثُمَّ يُتْبِعُوهُ صِفَاتِهِ وَنُعُوتَهُ . وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الْحُكْمِ : أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مُقَدَّمًا قَبْلَ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ ، لِيَعْلَمَ السَّامِعُ الْخَبَرَ ، عَمَّنِ الْخَبَرُ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - [ ص: 133 ] وَكَانَ لِلَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَسْمَاءٌ قَدْ حَرَّمَ عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يَتَسَمَّوْا بِهَا ، خَصَّ بِهَا نَفْسَهُ دُونَهُمْ ، وَذَلِكَ مِثْلُ "اللَّهِ " وَ "الرَّحْمَنِ " وَ "الْخَالِقِ "; وَأَسْمَاءٌ أَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يُسَمِّيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَا ، وَذَلِكَ : كَالرَّحِيمِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَالْكَرِيمِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ - كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تُقَدَّمَ أَسْمَاؤُهُ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ ، لِيَعْرِفَ السَّامِعُ ذَلِكَ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحَمْدُ وَالتَّمْجِيدُ ، ثُمَّ يُتْبِعُ ذَلِكَ بِأَسْمَائِهِ الَّتِي قَدْ تَسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ ، بَعْدَ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَوِ السَّامِعِ مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ مَا يَتْلُو ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي . فَبَدَأَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ لِأَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، لَا مِنْ جِهَةِ التَّسَمِّي بِهِ ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى . وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى "اللَّهِ " تَعَالَى ذِكْرُهُ الْمَعْبُودُ ، وَلَا مَعْبُودَ غَيْرُهُ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَأَنَّ التَّسَمِّيَ بِهِ قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَإِنْ قَصَدَ الْمُتَسَمِّي بِهِ مَا يَقْصِدُ الْمُتَسَمِّي بِسَعِيدٍ وَهُوَ شَقِيٌّ ، وَبِحَسَنٍ وَهُوَ قَبِيحٌ .

أَوَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ قَالَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ : ( أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) فَاسْتَكْبَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُقِرِّ بِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى فِي خُصُوصِهِ نَفْسَهُ بِاللَّهِ وَبِالرَّحْمَنِ : ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوَا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) [ سُورَةُ الْإِسْرَاءِ : 110 ] . ثُمَّ ثَنَّى بِاسْمِهِ ، الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ ، إِذْ كَانَ قَدْ مَنَعَ أَيْضًا خَلْقَهُ التَّسَمِّيَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ قَدْ يَسْتَحِقُّ تَسْمِيَتَهُ بِبَعْضِ مَعَانِيهِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ وَصْفُ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُوَ دُونَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ ، بِبَعْضِ صِفَاتِ الرَّحْمَةِ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَ الْأُلُوهِيَّةِ أَحَدٌ دُونَهُ . فَلِذَلِكَ جَاءَ الرَّحْمَنُ ثَانِيًا لِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "اللَّهِ " .

وَأَمَّا اسْمُهُ الَّذِي هُوَ "الرَّحِيمِ " فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِمَّا هُوَ جَائِزٌ وَصْفُ غَيْرِهِ بِهِ . وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ، فَكَانَ - إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا - وَاقِعًا مَوَاقِعَ نُعُوتِ الْأَسْمَاءِ اللَّوَاتِي هُنَّ تَوَابِعُهَا ، بَعْدَ تَقَدُّمِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهَا . فَهَذَا وَجْهُ تَقْدِيمِ اسْمِ اللَّهِ [ ص: 133 ] الَّذِي هُوَ "اللَّهِ " ، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنِ " ، وَاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنِ " عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحِيمِ " .

وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ فِي "الرَّحْمَنِ " مِثْلَ مَا قُلْنَا ، أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي مَنَعَ التَّسَمِّيَ بِهَا الْعِبَادَ .

150 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ ، عَنْ عَوْفٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : "الرَّحْمَنِ " اسْمٌ مَمْنُوعٌ .

مَعَ أَنَّ فِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ مَنْعِ التَّسَمِّي بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ ، مَا يُغْنِي عَنِ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ









ابوالوليد المسلم 05-02-2022 01:49 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة
الحلقة (11)
صــ 135إلى صــ 146

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ

( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) :

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَمَعْنَى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) : الشُّكْرُ خَالِصًا لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ ، وَدُونَ كُلِّ مَا بَرَأَ مِنْ خَلْقِهِ ، بِمَا أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا الْعَدَدُ ، وَلَا يُحِيطُ بِعَدَدِهَا غَيْرُهُ أَحَدٌ ، فِي تَصْحِيحِ الْآلَاتِ لِطَاعَتِهِ ، وَتَمْكِينِ جَوَارِحِ أَجْسَامِ الْمُكَلَّفِينَ لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ ، مَعَ مَا بَسَطَ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ مِنَ الرِّزْقِ ، وَغَذَّاهُمْ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الْعَيْشِ ، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَمَعَ مَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ ، مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى دَوَامِ الْخُلُودِ فِي دَارِ الْمُقَامِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ . فَلِرَبِّنَا الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا .

وَبِمَا ذَكَرَنَا مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِ رَبِّنَا جَلَّ ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) ، جَاءَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : -

151 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا : قُلْ يَا مُحَمَّدُ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ " : هُوَ الشُّكْرُ لِلَّهِ ، وَالِاسْتِخْذَا ءُ لِلَّهِ ، وَالْإِقْرَارُ بِنِعْمَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَابْتِدَائِهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ . [ ص: 136 ]

152 - وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا قُلْتَ "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، فَقَدْ شَكَرْتَ اللَّهَ ، فَزَادَكَ . [ ص: 137 ]

قَالَ : وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ، ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْحُسْنَى ، وَقَوْلُهُ : "الشُّكْرُ لِلَّهِ " ، ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ وَأَيَادِيهِ .

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ، ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ ، مِنْ أَيِّ مَعْنَيَيِ الثَّنَاءِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا ذَلِكَ .

153 - حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي السَّلُولِيُّ ، عَنْ كَعْبٍ ، قَالَ : مَنْ قَالَ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ، فَذَلِكَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ .

154 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْخَرَّازُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَرْمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ الْقُرْقُسَانِي ُّ ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنِ الْأُسُودِ بْنِ سَرِيعٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْحَمْدُ ، مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ " . [ ص: 138 ]

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَلَا تَمَانُعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ مِنَ الْحُكْمِ ، لِقَوْلِ الْقَائِلِ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا " - بِالصِّحَّةِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ - إِذْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ صَحِيحًا - أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ قَدْ يُنْطَقُ بِهِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ ، وَأَنَّ الشُّكْرَ قَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْحَمْدِ . لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ "الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا " ، فَيَخْرُجُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " مَصْدَرُ : "أَشْكُرُ " ، لِأَنَّ الشُّكْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى الْحَمْدِ ، كَانَ خَطَأً أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْحَمْدِ غَيْرُ مَعْنَاهُ وَغَيْرُ لَفْظِهِ .

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَمَا وَجْهُ إِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْحَمْدِ ؟ وَهَلَّا قِيلَ : حَمْدًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟

قِيلَ : إِنَّ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْحَمْدِ ، مَعْنًى لَا يُؤَدِّيهِ قَوْلُ الْقَائِلِ "حَمْدًا " ، بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ . وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَهُمَا فِي الْحَمْدِ مُنْبِئٌ عَنْ أَنَّ مَعْنَاهُ : جَمِيعُ الْمَحَامِدِ وَالشُّكْرُ الْكَامِلُ لِلَّهِ . وَلَوْ أُسْقِطَتَا مِنْهُ لَمَا دَلَّ إِلَّا عَلَى أَنَّ حَمْدَ قَائِلِ ذَلِكَ لِلَّهِ ، دُونَ الْمَحَامِدِ كُلِّهَا . إِذْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ : "حَمْدًا لِلَّهِ " أَوْ "حَمْدٌ لِلَّهِ " : [ ص: 139 ] أَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا ، وَلَيْسَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ الْعَالَمِينَ ) ، تَالِيًا سُورَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ : أَحْمَدُ اللَّهَ ، بَلِ التَّأْوِيلُ فِي ذَلِكَ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ ، مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ لِلَّهِ بِأُلُوهِيَّتِه ِ وَإِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا كِفَاءَ لَهَا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَالْعَاجِلِ وَالْآجِلِ .

وَلِذَلِكَ مِنَ الْمَعْنَى ، تَتَابَعَتْ قِرَاءَةُ الْقُرَّاءِ وَعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَمْدِ مِنَ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) دُونَ نَصْبِهَا ، الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى تَالِيهِ كَذَلِكَ : أَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا . وَلَوْ قَرَأَ قَارِئُ ذَلِكَ بِالنَّصْبِ ، لَكَانَ عِنْدِي مُحِيلًا مَعْنَاهُ ، وَمُسْتَحِقًّا الْعُقُوبَةَ عَلَى قِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ كَذَلِكَ ، إِذَا تَعَمَّدَ قِرَاءَتَهُ كَذَلِكَ ، وَهُوَ عَالِمٌ بِخَطَئِهِ وَفَسَادِ تَأْوِيلِهِ .

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ؟ أَحَمِدَ اللَّهُ نَفْسَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَأَثْنَى عَلَيْهَا ، ثُمَّ عَلَّمْنَاهُ لِنَقُولَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِذًا ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وَهُوَ عَزَّ ذِكْرُهُ مَعْبُودٌ لَا عَابِدٌ ؟ أَمْ ذَلِكَ مِنْ قِيلِ جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلَّهِ كَلَامًا .

قِيلَ : بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ حَمِدَ نَفْسَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهَا بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ ، ثُمَّ عَلَّمَ ذَلِكَ عِبَادَهُ ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ تِلَاوَتَهُ ، اخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ وَابْتِلَاءً ، فَقَالَ لَهُمْ قُولُوا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وَقُولُوا : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) . فَقَوْلُهُ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) مِمَّا عَلَّمَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنْ يَقُولُوهُ وَيَدِينُوا لَهُ بِمَعْنَاهُ ، وَذَلِكَ مَوْصُولٌ بِقَوْلِهِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وَكَأَنَّهُ قَالَ : قُولُوا هَذَا وَهَذَا .

فَإِنْ قَالَ : وَأَيْنَ قَوْلُهُ : "قُولُوا " ، فَيَكُونَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ مَا ادَّعَيْتَ ؟

قِيلَ : قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ الْعَرَبَ مِنْ شَأْنِهَا - إِذَا عَرَفَتْ مَكَانَ الْكَلِمَةِ ، [ ص: 140 ] وَلَمْ تَشُكَّ أَنَّ سَامِعَهَا يَعْرِفُ ، بِمَا أَظْهَرَتْ مِنْ مَنْطِقِهَا ، مَا حَذَفَتْ - حَذْفُ مَا كَفَى مِنْهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْطِقِهَا ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي حُذِفَتْ ، قَوْلًا أَوْ تَأْوِيلَ قَوْلٍ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :


وَأَعْلَمُ أَنَّنِي سَأَكُونُ رَمْسًا إِذَا سَارَ النَّوَاعِجُ لَا يَسِيرُ



فَقَالَ السَّائِلُونَ لِمَنْ حَفَرْتُمْ ؟ فَقَالَ الْمُخْبِرُونَ لَهُمْ : وَزِيرُ


قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : يُرِيدُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ الْمُخْبِرُونَ لَهُمْ : الْمَيِّتُ وَزِيرٌ ، فَأَسْقَطَ الْمَيِّتَ ، إِذْ كَانَ قَدْ أَتَى مِنَ الْكَلَامِ بِمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ :


وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا


وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الرُّمْحَ لَا يُتَقَلَّدُ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ : وَحَامِلًا رُمْحًا ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ ، اكْتُفِيَ بِمَا قَدْ ظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ ، عَنْ إِظْهَارِ مَا حُذِفَ مِنْهُ . وَقَدْ يَقُولُونَ لِلْمُسَافِرِ إِذَا وَدَّعُوهُ : "مُصَاحَبًا مُعَافًى " ، يَحْذِفُونَ "سِرْ ، وَاخْرُجْ " ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ ، وَإِنْ أَسْقَطَ ذِكْرَهُ .

فَكَذَلِكَ مَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، لَمَّا عُلِمَ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، [ ص: 141 ] مِنْ مَعْنَى أَمْرِهِ عِبَادَهُ ، أَغْنَتْ دَلَالَةُ مَا ظُهِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ عَنْ إِبْدَاءٍ مَا حُذِفَ .

وَقَدْ رَوَيْنَا الْخَبَرَ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مُبْتَدَأً فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِمُحَمَّدٍ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، وَبَيَّنَا أَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا عَلَّمَ مُحَمَّدًا مَا أُمِرَ بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ . وَهَذَا الْخَبَرُ يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( رَبِّ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنْ تَأْوِيلِ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ "اللَّهِ " ، فِي " بِسْمِ اللَّهِ " ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى تِكْرَارِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ ( رَبِّ ) ، فَإِنَّ الرَّبَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُنْصَرِفٌ عَلَى مَعَانٍ : فَالسَّيِّدُ الْمُطَاعُ فِيهَا يُدْعَى رَبًّا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ :


وَأَهْلَكْنَ يَوْمًا رَبَّ كِنْدَةَ وَابْنَهُ وَرَبَّ مَعَدٍّ ، بَيْنَ خَبْتٍ وعَرْعَرِ


يَعْنِي بِرَبِّ كِنْدَةَ : سَيِّدَ كِنْدَةَ . وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ :


تَخُبُّ إِلَى النُّعْمَانِ حَتَّى تَنَالَهُ فِدًى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي


وَالرَّجُلُ الْمُصْلِحُ لِلشَّيْءِ يُدْعَى رَبًّا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ بْنِ غَالِبٍ : [ ص: 142 ]


كَانُوا كَسَالِئَةٍ حَمْقَاءَ إِذْ حَقَنَتْ سِلَاءَهَا فِي أَدِيمٍ غَيْرِ مَرْبُوبِ


يَعْنِي بِذَلِكَ : فِي أَدِيمٍ غَيْرِ مُصْلَحٍ . وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ : إِنَّ فُلَانًا يَرُبُّ صَنِيعَتَهُ عِنْدَ فُلَانٍ; إِذَا كَانَ يُحَاوِلُ إِصْلَاحَهَا وَإِدَامَتَهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبَدَةَ :


فَكُنْتَ امْرَأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي ، فَضِعْتُ ، رُبُوبُ


يَعْنِي بِقَوْلِهِ : "أَفْضَتْ إِلَيْكَ " أَيْ وَصَلَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي ، فَصِرْتَ أَنْتَ الَّذِي تَرُبُّ أَمْرِي فَتُصْلِحُهُ ، لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ رَبَابَةِ غَيْرِكَ مِنَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكَ عَلَيَّ ، فَضَيَّعُوا أَمْرِي وَتَرَكُوا تَفَقُّدَهُ - وَهُمُ الرُّبُوبُ : وَاحِدُهُمْ رَبٌّ . وَالْمَالِكُ لِلشَّيْءِ يُدْعَى رَبَّهُ . وَقَدْ يَتَصَرَّفُ أَيْضًا مَعْنَى "الرَّبِّ " فِي وُجُوهٍ غَيْرِ ذَلِكَ ، غَيْرَ أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى بَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ .

فَرَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ : السَّيِّدُ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ ، وَلَا مِثْلَ فِي سُؤْدُدِهِ ، وَالْمُصْلِحُ أَمْرَ خَلْقِهِ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ ، وَالْمَالِكُ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ .

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، جَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : -

155 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا [ ص: 143 ] بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ : "يَا مُحَمَّدُ قُلْ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) " ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَقُولُ : قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ كُلُّهُ - السَّمَوَاتُ كُلُّهُنَّ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَالْأَرَضُونَ كُلُّهُنَّ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ ، مِمَّا يُعْلَمُ وَمِمَّا لَا يُعْلَمُ . يَقُولُ : اعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ رَبَّكَ هَذَا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( الْعَالَمِينَ ) .

قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالْعَالَمُونَ جَمْعُ عَالَمٍ ، وَالْعَالَمُ : جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ ، كَالْأَنَامِ وَالرَّهْطِ وَالْجَيْشِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعَاتٌ عَلَى جِمَاعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ .

وَالْعَالَمُ اسْمٌ لِأَصْنَافِ الْأُمَمِ ، وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا عَالَمٌ ، وَأَهْلُ كُلِّ قَرْنٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا عَالَمُ ذَلِكَ الْقَرْنِ وَذَلِكَ الزَّمَانِ . فَالْإِنْسُ عَالَمٌ ، وَكُلُّ أَهْلِ زَمَانٍ مِنْهُمْ عَالَمُ ذَلِكَ الزَّمَانِ . وَالْجِنُّ عَالَمٌ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ ، كُلُّ جِنْسٍ مِنْهَا عَالَمُ زَمَانِهِ . وَلِذَلِكَ جُمِعَ فَقِيلَ : عَالَمُونَ ، وَوَاحِدُهُ جَمْعٌ ، لِكَوْنِ عَالَمِ كُلِّ زَمَانٍ مِنْ ذَلِكَ عَالَمَ ذَلِكَ الزَّمَانِ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَجَّاجِ :


فَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا الْعَالَمِ


فَجَعْلَهُمْ عَالَمَ زَمَانِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قُلْنَاهُ ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ . [ ص: 144 ]

156 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضِّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ كُلُّهُ : السَّمَوَاتُ وَالْأَرَضُونَ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَمَا بَيْنَهُنَّ ، مِمَّا يُعْلَمُ وَلَا يُعْلَمُ .

157 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ ، عَنْ شَبِيبٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) : الْجِنُّ وَالْإِنْسُ .

158 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قَالَ : رَبِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ .

159 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا قَيْسٌ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : قَوْلُهُ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قَالَ : الْجِنُّ وَالْإِنْسُ . [ ص: 145 ]

160 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَوْلُهُ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قَالَ : ابْنِ آدَمَ ، وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ عَالَمٌ عَلَى حِدَتِهِ .

161 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مِهْرَانُ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قَالَ : الْإِنْسُ وَالْجِنُّ .

162 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِمَثَلِهِ .

163 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَقَدِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ قَتَادَةَ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قَالَ : كُلُّ صِنْفٍ عَالَمٌ . [ ص: 146 ]

164 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ ، فِي قَوْلِهِ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قَالَ : الْإِنْسُ عَالَمٌ ، وَالْجِنُّ عَالَمٌ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفِ عَالَمٍ ، أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفِ عَالَمٍ - هُوَ يَشُكُّ - مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَرْضِ ، وَلِلْأَرْضِ أَرْبَعُ زَوَايَا ، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ ثَلَاثَةُ آلَافِ عَالَمٍ وَخَمْسُمِائَةِ عَالَمٍ ، خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ .

165 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاجُ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، فِي قَوْلِهِ : ( رَبِّ الَعَالَمِينَ ) قَالَ : الْجِنُّ وَالْإِنْسُ .
https://i.imgur.com/4ONJhpH.gif



ابوالوليد المسلم 05-02-2022 01:50 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة (2)
الحلقة (12)
صــ 147إلى صــ 154

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنْ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ، فِي تَأْوِيلِ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَلَمْ نَحْتَجْ إِلَى الْإِبَانَةِ عَنْ وَجْهِ تَكْرِيرِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، إِذْ كُنَّا لَا نَرَى أَنَّ [ ص: 147 ] "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ - آيَةٌ ، فَيَكُونَ عَلَيْنَا لِسَائِلٍ مَسْأَلَةٌ بِأَنْ يَقُولَ : مَا وَجْهُ تَكْرِيرِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَقَدْ مَضَى وَصْفُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، مَعَ قُرْبِ مَكَانِ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ مِنَ الْأُخْرَى ، وَمُجَاوَرَتِهَ ا صَاحِبَتَهَا ؟ بَلْ ذَلِكَ لَنَا حُجَّةٌ عَلَى خَطَأِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ آيَةٌ . إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، لَكَانَ ذَلِكَ إِعَادَةَ آيَةٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَفْظٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا . وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آيَتَانِ مُتَجَاوِرَتَان ِ مُكَرَّرَتَانِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَعْنًى وَاحِدٍ ، لَا فَصْلَ بَيْنِهِمَا مِنْ كَلَامٍ يُخَالِفُ مَعْنَاهُ مَعْنَاهُمَا . وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِتَكْرِيرِ آيَةٍ بِكَمَالِهَا فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ ، مَعَ فُصُولٍ تَفْصِلُ بَيْنَ ذَلِكَ ، وَكَلَامٍ يُعْتَرَضُ بِهِ مَعْنَى الْآيَاتِ الْمُكَرَّرَاتِ أَوْ غَيْرَ أَلْفَاظِهَا ، وَلَا فَاصِلَ بَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " مِنْ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، وَقَوْلِ اللَّهِ : " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، مِنْ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " .

فَإِنْ قَالَ : فَإِنَّ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " فَاصِلٌ مِنْ ذَلِكَ .

قِيلَ : قَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ، وَقَالُوا : إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ ، وَإِنَّمَا هُوَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ . وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : "مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " ، فَقَالُوا : إِنَّ قَوْلَهُ "مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَبْدَهُ أَنْ يَصِفَهُ بِالْمُلْكِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَلِكِ ، وَبِالْمِلْكِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ " مَالِكِ " . قَالُوا : فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُجَاوِرَ وَصَفِّهِ بِالْمُلْكِ أَوِ الْمِلْكِ ، مَا كَانَ نَظِيرَ ذَلِكَ مِنَ الْوَصْفِ; وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ : "رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، الَّذِي هُوَ خَبَرٌ عَنْ مِلْكِهِ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ; وَأَنْ يَكُونَ مُجَاوِرَ وَصْفِهِ بِالْعَظَمَةِ وَالْأُلُوهَةِ مَا كَانَ لَهُ نَظِيرًا فِي الْمَعْنَى مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .

فَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ قَبْلَ " رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُؤَخَّرًا . وَقَالُوا : نَظَائِرُ ذَلِكَ - مِنَ التَّقْدِيمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ ، وَالْمُؤَخَّرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ - فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَفْشَى ، وَفِي مَنْطِقِهَا أَكْثَرُ ، مِنْ أَنْ يُحْصَى . مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرِ بْنِ عَطِيَّةَ : [ ص: 148 ]


طَافَ الْخَيَالُ - وَأَيْنَ مِنْكَ ؟ - لِمَامَا فَارْجِعْ لِزَوْرِكَ بِالسَّلَامِ سَلَامًا


بِمَعْنَى طَافَ الْخَيَالُ لِمَامًا ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْكَ ؟ وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي كِتَابِهِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا ) سُورَةُ الْكَهْفِ : 1 بِمَعْنَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ شَاهِدٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ - ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ - آيَةً
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : الْقُرَّاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي تِلَاوَةِ ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) . فَبَعْضُهُمْ يَتْلُوهُ " مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " ، وَبَعْضُهُمْ يَتْلُوهُ ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) وَبَعْضُهُمْ يَتْلُوهُ ( مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ ) بِنَصْبِ الْكَافِ . وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا حِكَايَةَ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةٌ فِي " كِتَابٍ الْقِرَاءَاتِ " ، وَأَخْبَرَنَا بِالَّذِي نَخْتَارُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ ، وَالْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ صِحَّةَ مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ ، فَكَرِهْنَا إِعَادَةَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، إِذْ كَانَ الَّذِي قَصَدْنَا لَهُ ، فِي كِتَابِنَا هَذَا ، الْبَيَانَ عَنْ وُجُوهِ تَأْوِيلِ آيِ الْقُرْآنِ ، دُونَ وُجُوهِ قِرَاءَتِهَا .

وَلَا خِلَافَ بَيْنِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ ، أَنَّ الْمَلِكَ مِنْ "الْمُلْكِ " [ ص: 149 ] مُشْتَقٌّ ، وَأَنَّ الْمَالِكَ مِنْ "الْمِلْكِ " مَأْخُوذٌ . فَتَأْوِيلُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ : ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، أَنَّ لِلَّهِ الْمُلْكَ يَوْمَ الدِّينِ خَالِصًا دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ ، الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مُلُوكًا جَبَابِرَةً يُنَازِعُونَهُ الْمُلْكَ ، وَيُدَافِعُونَه ُ الِانْفِرَادَ بِالْكِبْرِيَاء ِ وَالْعَظَمَةِ وَالسُّلْطَانِ وَالْجَبْرِيَّة ِ . فَأَيْقَنُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ يَوْمَ الدِّينِ أَنَّهُمُ الصَّغَرَةُ الْأَذِلَّةُ ، وَأَنَّ لَهُ - مِنْ دُونِهِمْ ، وَدُونَ غَيْرِهِمْ - الْمُلْكَ وَالْكِبْرِيَاء َ ، وَالْعِزَّةَ وَالْبَهَاءَ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ فِي تَنْزِيلِهِ : ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) سُورَةُ غَافِرٍ : 16 . فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ يَوْمَئِذٍ بِالْمُلْكِ دُونَ مُلُوكِ الدُّنْيَا ، الَّذِينَ صَارُوا يَوْمَ الدِّينِ مِنْ مُلْكِهِمْ إِلَى ذِلَّةٍ وَصَغَارٍ ، وَمِنْ دُنْيَاهُمْ فِي الْمَعَادِ إِلَى خَسَارٍ .

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، فَمَا : -

166 - حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، يَقُولُ : لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَهُ حُكْمًا كَمِلْكِهِمْ فِي الدُّنْيَا . ثُمَّ قَالَ : ( لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ) سُورَةُ النَّبَأِ : 38 وَقَالَ : ( وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ) سُورَةُ طَهَ : 108 . وَقَالَ : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ : 28 .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْن ِ بِالْآيَةِ ، وَأَصَحُّ الْقِرَاءَتَيْن ِ فِي التِّلَاوَةِ عِنْدِي ، [ ص: 150 ] التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ "مَلِكِ " بِمَعْنَى "الْمُلْكِ " . لِأَنَّ فِي الْإِقْرَارِ لَهُ بِالِانْفِرَادِ بِالْمُلْكِ ، إِيجَابًا لِانْفِرَادِهِ بِالْمِلْكِ ، وَفَضِيلَةَ زِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَى الْمَالِكِ ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنْ لَا مَلِكَ إِلَّا وَهُوَ مَالِكٌ ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَالِكُ لَا مَلِكًا .

وَبَعْدُ ، فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ ، قَدْ أَخْبَرَ عِبَادَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ قَوْلِهِ ( مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ ) أَنَّهُ مَالِكُ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ وَسَيِّدُهُمْ ، وَمُصْلِحِهِمْ ، وَالنَّاظِرُ لَهُمْ ، وَالرَّحِيمُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، بِقَوْلِهِ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .

وَإِذْ كَانَ جَلَّ ذِكْرُهُ قَدْ أَنْبَأَهُمْ عَنْ مِلْكِهِ [ ص: 151 ] إِيَّاهُمْ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، فَأُولَى الصِّفَاتِ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنْ يَتْبَعَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَحْوِهِ قَوْلُهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ، مَعَ قُرْبِ مَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ الْمُوَاصَلَةِ وَالْمُجَاوَرَة ِ ، إِذْ كَانَتْ حِكْمَتُهُ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَا تُشْبِهُهَا حِكْمَةٌ ، وَكَانَ فِي إِعَادَةِ وَصْفِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِأَنَّهُ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، إِعَادَةُ مَا قَدْ مَضَى مِنْ وَصْفِهِ بِهِ فِي قَوْلِهِ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، مَعَ تَقَارُبِ الْآيَتَيْنِ وَتَجَاوُزِ الصِّفَتَيْنِ . وَكَانَ فِي إِعَادَةِ ذَلِكَ تَكْرَارُ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ بِمَعَانٍ مُتَّفِقَةٍ ، لَا تُفِيدُ سَامِعَ مَا كُرِّرَ مِنْهُ فَائِدَةً بِهِ إِلَيْهَا حَاجَةٌ . وَالَّذِي لَمَّ يَحْوِهِ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ مَا قَبْلَ قَوْلِهِ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ : ( مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ ) ، وَهُوَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ الْمَلِكُ .

فَبَيِّنٌ إِذًا أَنَّ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْن ِ بِالصَّوَابِ ، وَأَحَقُّ التَّأْوِيلَيْن ِ بِالْكِتَابِ ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، بِمَعْنَى إِخْلَاصُ الْمُلْكِ لَهُ يَوْمَ الدِّينِ ، دُونَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) الَّذِي بِمَعْنَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ وَفَصْلَ الْقَضَاءِ ، مُتَفَرِّدًا بِهِ دُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ .

فَإِنَّ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) نَبَّأَ عَنْ مِلْكِهِ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ ، يُوجِبُ وَصْلَ ذَلِكَ بِالنَّبَأِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ : مَنْ مَلَكَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ مِلْكِهِ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) - فَقَدْ أَغْفَلَ وَظَنَّ خَطَأً .

وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِظَانٍّ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ قَوْلَهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) مَحْصُورٌ مَعْنَاهُ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ رُبُوبِيَّةِ عَالَمِ الدُّنْيَا دُونَ عَالَمِ الْآخِرَةِ ، مَعَ عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنًى ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ ، أَوْ فِي خَبَرٍ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ مَنْقُولٍ ، أَوْ بِحُجَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْمَعْقُولِ - لَجَازَ لِآخَرَ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ مَحْصُورٌ عَلَى عَالَمِ الزَّمَانِ الَّذِي فِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، دُونَ سَائِرِ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْعَالَمِينَ . إِذْ كَانَ صَحِيحًا بِمَا قَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الْبَيَانِ ، أَنَّ عَالَمَ كُلِّ زَمَانٍ غَيْرَ عَالَمِ الزَّمَانِ الَّذِي بَعْدَهُ .

فَإِنْ غَبِيَ - عَنْ عِلْمِ صِحَّةِ ذَلِكَ بِمَا قَدْ قَدَّمْنَا - ذُو غَبَاءٍ ، فَإِنَّ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) سُورَةُ الْجَاثِيَةِ : 16 دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ عَالَمَ كُلِّ زَمَانٍ ، غَيْرُ عَالِمِ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ، وَعَالَمِ الزَّمَانِ الَّذِي بَعْدَهُ ، إِذْ كَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ فَضَّلَ أُمَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ ، وَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) الْآيَةُ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 110 . فَمَعْلُومٌ بِذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عَصْرِ نَبِيِّنَا لَمْ يَكُونُوا - مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلَ الْعَالَمِينَ ، بَلْ كَانَ أَفْضَلَ الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَبَعْدَهُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ، الْمُؤْمِنُونَ بِهِ الْمُتَّبِعُونَ مِنْهَاجَهُ ، دُونَ مِنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ الضَّالَّةِ عَنْ مِنْهَاجِهِ .

وَإِذْ كَانَ بَيِّنًا فَسَادُ تَأْوِيلِ مُتَأَوِّلٍ لَوْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ [ ص: 152 ] أَنَّ اللَّهَ رَبُّ عَالَمَيْ زَمَنِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، دُونَ عَالَمَيْ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ غَيْرِهِ - كَانَ وَاضِحًا فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَأْوِيلَهُ : رَبُّ عَالَمِ الدُّنْيَا دُونَ عَالَمِ الْآخِرَةِ ، وَأَنَّ "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " اسْتَحَقَّ الْوَصْلَ بِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ مِلْكِهِمْ وَرُبُوبِيَّتِه ِمْ بِمِثْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا .

وَيُسْأَلُ زَاعِمُ ذَلِكَ ، الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُتَحَكِّمٍ مِثْلِهِ - فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، تَحَكَّمَ فَقَالَ : إِنَّهُ إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ رَبُّ عَالَمَيْ زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، دُونَ عَالَمَيْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَهُ ، وَالْحَادِثَةِ بَعْدَهُ ، كَالَّذِي زَعَمَ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّهُ عَنَى بِهِ عَالَمَيِ الدُّنْيَا دُونَ عَالَمَيِ الْآخِرَةِ - مِنْ أَصْلٍ أَوْ دَلَالَةٍ . فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا شَيْئًا إِلَّا أَلْزَمَ فِي الْآخَرِ مَثَلَهُ .

وَأَمَّا الزَّاعِمُ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) أَنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ إِقَامَةَ يَوْمِ الدِّينِ ، فَإِنَّ الَّذِي أَلْزَمْنَا قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ - لَهُ لَازِمٌ . إِذْ كَانَتْ إِقَامَةُ الْقِيَامَةِ ، إِنَّمَا هِيَ إِعَادَةُ الْخَلْقِ الَّذِينَ قَدْ بَادُوا لِهَيْئَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ الْهَلَاكِ ، فِي الدَّارِ الَّتِي أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِيهَا مَا أَعَدَّ . وُهُمُ الْعَالَمُونَ الَّذِينَ قَدْ أَخْبَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ رَبُّهُمْ فِي قَوْلِهِ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .

وَأَمَّا تَأْوِيلُ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، فَإِنَّهُ أَرَادَ : يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ ، فَنَصَبَهُ بِنِيَّةِ النِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) سُورَةُ يُوسُفَ : 29 بِتَأْوِيلِ : يَا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ مِنْ بَنِي أَسَدٍ ، وَهُوَ شِعْرٌ - فِيمَا يُقَالُ - جَاهِلِيٌّ :


إِنْ كُنْتَ أَزْنَنْتَنِي بِهَا كَذِبًا جَزْءُ ، فَلَاقَيْتَ مِثْلَهَا عَجِلَا
[ ص: 153 ]

يُرِيدُ : يَا جَزْءُ ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ :


كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ لَا تَنْكِحُونَهَا بَنِي شَابَ قَرْنَاهَا تَصُرُّ وتَحْلُبُ


يُرِيدُ : يَا بَنِي شَابَ قَرْنَاهَا . وَإِنَّمَا أَوْرَطَهُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ - بِنَصْبِ الْكَافِ مِنْ "مَالِكَ " ، عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ - حَيْرَتُهُ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وِجْهَتَهُ ، مَعَ جَرِّ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) وَخَفْضِهِ . فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعْنَى ذَلِكَ بَعْدَ جَرِّهِ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، فَنَصَبَ : "مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ " لِيَكُونَ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) لَهُ خِطَابًا . كَأَنَّهُ أَرَادَ : يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . وَلَوْ كَانَ عَلِمَ تَأْوِيلِ أَوَّلِ السُّورَةِ ، وَأَنْ "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَبْدَهُ بِقِيلٍ ذَلِكَ - كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنْ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ ، ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، وَقُلْ أَيْضًا يَا مُحَمَّدُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) - وَكَانَ عَقَلَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّ مِنْ شَأْنِهَا إِذَا حَكَتْ أَوْ أَمَرَتْ بِحِكَايَةِ خَبَرٍ يَتْلُو الْقَوْلَ ، أَنْ تُخَاطِبَ ثُمَّ تُخْبِرَ عَنْ غَائِبٍ ، وَتُخْبِرَ عَنِ الْغَائِبِ ثُمَّ تَعُودَ إِلَى الْخِطَابِ ، لِمَا فِي الْحِكَايَةِ بِالْقَوْلِ مِنْ مَعْنَى الْغَائِبِ وَالْمُخَاطَبِ ، كَقَوْلِهِمْ لِلرَّجُلِ : قَدْ قُلْتُ لِأَخِيكَ : لَوْ قُمْتَ لَقُمْتُ ، وَقَدْ قُلْتُ لِأَخِيكَ : لَوْ قَامَ لَقُمْتُ - لَسَهُلَ عَلَيْهِ مَخْرَجُ مَا اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ وُجْهَتُهُ مِنْ جَرِّ "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " . [ ص: 154 ]

وَمِنْ نَظِيرِ "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " مَجْرُورًا ، ثُمَّ عَوْدِهِ إِلَى الْخِطَابِ بِ "إِيَّاكَ نَعْبُدُ " ، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ - الْبَيْتُ السَّائِرُ مِنْ شِعْرِ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ :


يَا لَهْفَ نَفْسِي كَانَ جِدَّةُ خَالِدٍ وَبَيَاضُ وَجْهِكَ لِلتُّرَابِ الْأَعْفَرِ


فَرَجْعَ إِلَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ : " وَبَيَاضُ وَجْهِكَ " ، بَعْدَ مَا قَدْ مَضَى الْخَبَرُ عَنْ خَالِدٍ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ .

وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ :


بَاتَتْ تَشَكَّى إِلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً وَقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعًا بَعْدَ سَبْعِينَا


فَرَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَةِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخَبَرُ عَنْهَا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ .

وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ ، وَهُوَ أَصْدَقُ قِيلٍ وَأَثْبَتُ حُجَّةٍ : ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) سُورَةُ يُونُسَ : 22 ، فَخَاطَبَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ ، وَلَمْ يَقُلْ : وَجَرَيْنَ بِكُمْ . وَالشَّوَاهِدُ مِنَ الشِّعْرِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ .

فَقِرَاءَةُ : " مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ " مَحْظُورَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ ، لِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى رَفْضِ الْقِرَاءَةِ بِهَا .

https://i.imgur.com/4ONJhpH.gif

ابوالوليد المسلم 05-02-2022 01:52 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة (3)
الحلقة (13)
صــ 155إلى صــ 166


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( يَوْمِ الدِّينِ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالدِّينُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، بِتَأْوِيلِ الْحِسَابِ وَالْمُجَازَاةِ بِالْأَعْمَالِ ، كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ :


إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُمْ وَدِنَّاهُمُ مِثْلَ مَا يُقْرِضُونَا


وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ :


وَاعْلَمْ وأَيْقِنْ أَنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مَا تَدِينُ تُدَانُ


يَعْنِي : مَا تَجْزِي تُجَازَى .

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) - يَعْنِي : بِالْجَزَاءِ - ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ) سُورَةُ الِانْفِطَارِ : 9 ، 10 يُحْصُونَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ( فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) سُورَةُ الْوَاقِعَةِ : 86 ، يَعْنِي غَيْرَ مَجْزِيِّينَ بِأَعْمَالِكُمْ وَلَا مُحَاسَبِينَ .

وَلِلدِّينِ مَعَانٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، غَيْرُ مَعْنَى الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ ، سَنَذْكُرُهَا فِي أَمَاكِنِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ . [ ص: 156 ]

وَبِمَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( يَوْمِ الدِّينِ ) جَاءَتِ الْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ، مَعَ تَصْحِيحِ الشَّوَاهِدِ تَأْوِيلَهُمُ الَّذِي تَأَوَّلُوهُ فِي ذَلِكَ .

167 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : ( يَوْمِ الدِّينِ ) ، قَالَ : يَوْمِ حِسَابِ الْخَلَائِقِ ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، يُدِينُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرًّا ، إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْهُ ، فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ . ثُمَّ قَالَ : ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 54 .

168 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ الْقَنَّادِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( " مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " ) ، هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ .

169 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا [ ص: 157 ] [ ص: 158 ] [ ص: 159 ] [ ص: 160 ] مَعْمَرُ ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قَالَ : يَوْمَ يَدِينُ اللَّهُ الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ .

170 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قَالَ : يَوْمَ يُدَانُ النَّاسُ بِالْحِسَابِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) : لَكَ اللَّهُمَّ نَخْشَعُ وَنَذِلُّ وَنَسْتَكِينُ ، إِقْرَارًا لَكَ يَا رَبَّنَا بِالرُّبُوبِيَّ ةِ لَا لِغَيْرِكَ .

171 - كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) ، إِيَّاكَ نُوَحِّدُ وَنَخَافُ وَنَرْجُو يَا رَبَّنَا لَا غَيْرُكَ . [ ص: 161 ]

وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا . وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْبَيَانَ عَنْ تَأْوِيلِهِ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَخْشَعُ وَنَذِلُّ وَنَسْتَكِينُ ، دُونَ الْبَيَانِ عَنْهُ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَرْجُو وَنَخَافُ - وَإِنْ كَانَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مَعَ ذِلَّةٍ - لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ ، عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ أَصِلُهَا الذِّلَّةُ ، وَأَنَّهَا تُسَمَّى الطَّرِيقَ الْمُذَلَّلَ الَّذِي قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ ، وَذَلَّلَتْهُ السَّابِلَةُ : مُعَبَّدًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ :


تُبَارِي عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ وَأَتْبَعَتْ وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ


يَعْنِي بِالْمَوْرِ : الطَّرِيقَ . وَبِالْمُعَبَّد ِ : الْمُذَلَّلَ الْمَوْطُوءَ . وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْبَعِيرِ الْمُذَلَّلِ بِالرُّكُوبِ فِي الْحَوَائِجِ : مُعَبَّدٌ . وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَبْدُ عَبْدًا لِذِلَّتِهِ لِمَوْلَاهُ . وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ - مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَكَلَامِهَا - أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) : وَإِيَّاكَ رَبَّنَا نَسْتَعِينُ عَلَى عِبَادَتِنَا إِيَّاكَ وَطَاعَتِنَا لَكَ وَفِي أُمُورِنَا كُلِّهَا - لَا أَحَدًا سِوَاكَ ، إِذْ كَانَ مَنْ يَكْفُرُ بِكَ يَسْتَعِينُ فِي أُمُورِهِ مَعْبُودَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ مِنَ الْأَوْثَانِ دُونَكَ ، وَنَحْنُ بِكَ نَسْتَعِينُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مُخْلِصِينَ لَكَ الْعِبَادَةَ .

172 - كَالَّذِي حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، [ ص: 162 ] قَالَ : حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، قَالَ : إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى طَاعَتِكَ وَعَلَى أُمُورِنَا كُلِّهَا .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَمَا مَعْنَى أَمْرِ اللَّهِ عِبَادَهُ بِأَنْ يَسْأَلُوهُ الْمَعُونَةَ عَلَى طَاعَتِهِ ؟ أَوَجَائِزٌ ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ ، أَنْ لَا يُعِينُهُمْ عَلَيْهَا ؟ أَمْ هَلْ يَقُولُ قَائِلٌ لِرَبِّهِ : إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى طَاعَتِكَ ، إِلَّا وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ مُعَانٌ ، وَذَلِكَ هُوَ الطَّاعَةُ . فَمَا وَجْهُ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ مَا قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ؟

قِيلَ : إِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الدَّاعِي رَبَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ إِيَّاهُ ، دَاعٍ أَنْ يُعِينَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ عَلَى مَا كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ ، دُونَ مَا قَدْ تَقَضَّى وَمَضَى مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فِيمَا خَلَا مِنْ عُمْرِهِ . وَجَازَتْ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ إِعْطَاءَ اللَّهِ عَبْدَهُ ذَلِكَ - مَعَ تَمْكِينِهِ جَوَارِحَهُ لِأَدَاءٍ مَا كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِهِ ، فَضْلٌ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَلُطْفٌ مِنْهُ لَطَفَ لَهُ فِيهِ . وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ التَّفَضُّلَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ بِالتَّوْفِيقِ - مَعَ اشْتِغَالِ عَبْدِهِ بِمَعْصِيَتِهِ ، وَانْصِرَافِهِ عَنْ مَحَبَّتِهِ ، وَلَا فِي بَسْطِهِ فَضْلَهُ عَلَى بَعْضِهِمْ ، مَعَ إِجْهَادِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي مَحَبَّتِهِ ، وَمُسَارَعَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ - فَسَادٌ فِي تَدْبِيرٍ ، وَلَا جَوْرٌ فِي حُكْمٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ جَاهِلٌ مَوْضِعَ حُكْمِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ عَبْدَهُ بِمَسْأَلَتِهِ عَوْنَهُ عَلَى طَاعَتِهِ .

وَفِي أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ أَنْ يَقُولُوا : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، بِمَعْنَى مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ الْمَعُونَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ ، أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالتَّفْوِيضِ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ ، الَّذِينَ أَحَالُوا أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ عَبِيدِهِ بِأَمْرٍ ، أَوْ يُكَلِّفَهُ [ ص: 163 ] فَرْضَ عَمَلٍ ، إِلَّا بَعْدَ إِعْطَائِهِ الْمَعُونَةَ عَلَى فِعْلِهِ وَعَلَى تَرْكِهِ . وَلَوْ كَانَ الَّذِي قَالُوا مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا ، لَبَطَلَتِ الرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ فِي الْمَعُونَةِ عَلَى طَاعَتِهِ . إِذْ كَانَ - عَلَى قَوْلِهِمْ ، مَعَ وُجُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّكْلِيفِ - حَقًّا وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ لِلْعَبْدِ إِعْطَاؤُهُ الْمَعُونَةَ عَلَيْهِ ، سَأَلَهُ عَبْدُهُ أَوْ تَرَكَ مَسْأَلَةَ ذَلِكَ . بَلْ تَرْكُ إِعْطَائِهِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ جَوْرٌ . وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالُوا ، لَكَانَ الْقَائِلُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، إِنَّمَا يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ لَا يَجُورَ .

وَفِي إِجْمَاعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ جَمِيعًا - عَلَى تَصْوِيبِ قَوْلِ الْقَائِلِ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ " ، وَتَخْطِئَتِهِم ْ قَوْلَ الْقَائِلِ : "اللَّهُمَّ لَا تَجُرْ عَلَيْنَا " - دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى خَطَأِ مَا قَالَ الَّذِينَ وَصَفْتُ قَوْلَهُمْ . إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِ الْقَائِلِ عِنْدَهُمْ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ - اللَّهُمَّ لَا تَتْرُكْ مَعُونَتَنَا الَّتِي تَرْكُكَها جَوْرٌ مِنْكَ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَكَيْفَ قِيلَ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، فَقُدِّمَ الْخَبَرُ عَنِ الْعِبَادَةِ ، وَأُخِّرَتْ مَسْأَلَةُ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا بَعْدَهَا ؟ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْعِبَادَةُ بِالْمَعُونَةِ ، فَمَسْأَلَةُ الْمَعُونَةِ كَانَتْ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ قَبْلَ الْمُعَانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ ، وَالْعِبَادَةُ بِهَا .

قِيلَ : لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنْ الْعِبَادَةَ لَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ إِلَيْهَا إِلَّا بِمَعُونَةٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَكَانَ مُحَالًا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَابِدًا إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْعِبَادَةِ مُعَانٌ ، وَأَنْ يَكُونَ مُعَانًا عَلَيْهَا إِلَّا وَهُوَ لَهَا فَاعِلٌ - كَانَ سَوَاءً تَقْدِيمُ مَا قُدِّمَ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ . كَمَا سَوَاءٌ قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ إِذَا قَضَى حَاجَتَكَ فَأَحْسَنَ إِلَيْكَ فِي قَضَائِهَا : "قَضَيْتَ حَاجَتِي فَأَحْسَنْتَ إِلَيَّ " ، فَقَدَّمْتَ ذِكْرَ قَضَائِهِ حَاجَتَكَ ، أَوْ قُلْتَ : أَحْسَنْتَ إِلَيَّ فَقَضَيْتَ حَاجَتِي " ، فَقَدَّمْتَ ذِكْرَ الْإِحْسَانِ عَلَى ذِكْرِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ . لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَاضِيًا حَاجَتَكَ إِلَّا وَهُوَ إِلَيْكَ مُحْسِنٌ ، وَلَا مُحْسِنًا إِلَيْكَ إِلَّا وَهُوَ لِحَاجَتِكَ قَاضٍ . فَكَذَلِكَ سَوَاءٌ قَوْلُ الْقَائِلِ : اللَّهُمَّ إِنَّا إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَأَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ ، وَقَوْلُهُ : اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ فَإِنَّا إِيَّاكَ نَعْبُدُ . [ ص: 164 ]

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَهْلِ الْغَفْلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُقَدَّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :


ولَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي ، وَلَمْ أَطْلُبْ ، قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ


يُرِيدُ بِذَلِكَ : كَفَانِي قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ وَلَمْ أَطْلُبْ كَثِيرًا . وَذَلِكَ - مِنْ مَعْنَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَمِنْ مُشَابَهَةِ بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ - بِمَعْزِلٍ . مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ يَكْفِيهِ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَالِ وَيَطْلُبُ الْكَثِيرَ ، فَلَيْسَ وُجُودُ مَا يَكْفِيهِ مِنْهُ بِمُوجِبٍ لَهُ تَرْكَ طَلَبِ الْكَثِيرِ ، فَيَكُونَ نَظِيرَ الْعِبَادَةِ الَّتِي بِوُجُودِهَا وُجُودُ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا ، وَبِوُجُودِ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا وُجُودُهَا ، فَيَكُونَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا دَالًّا عَلَى الْآخَرِ ، فَيَعْتَدِلَ فِي صِحَّةِ الْكَلَامِ تَقْدِيمُ مَا قُدِّمَ مِنْهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ ، أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا فِي دَرَجَتِهِ وَمُرَتَّبًا فِي مَرْتَبَتِهِ .

فَإِنْ قَالَ : فَمَا وَجْهُ تَكْرَارِهِ : "إِيَّاكَ " مَعَ قَوْلِهِ : "نَسْتَعِينُ " ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ قَبْلَ "نَعْبُدُ " ؟ وَهَلَّا قِيلَ : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ " ، إِذْ كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ ، هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَنَّهُ الْمُسْتَعَانُ ؟

قِيلَ لَهُ : إِنَّ الْكَافَ الَّتِي مَعَ " إِيَّا " ، هِيَ الْكَافُ الَّتِي كَانَتْ تَتَصِلُ بِالْفِعْلِ - أَعْنِي بِقَوْلِهِ : "نَعْبُدُ " - لَوْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً بَعْدَ الْفِعْلِ . وَهِيَ كِنَايَةُ اسْمِ الْمُخَاطِبِ الْمَنْصُوبِ بِالْفِعْلِ ، فَكُثِّرَتْ بِ "إِيّا " مُتَقَدِّمَةً ، إِذْ كَانَتِ الْأَسْمَاءُ إِذَا انْفَرَدَتْ بِأَنْفُسِهَا لَا تَكُونُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ .

فَلَمَّا كَانَتِ الْكَافُ مِنْ " إِيَّاكَ " هِيَ كِنَايَةَ اسْمِ الْمُخَاطَبِ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ كَافًا وَحْدَهَا مُتَّصِلَةً بِالْفِعْلِ إِذَا كَانَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ ، ثُمَّ كَانَ حَظُّهَا أَنْ تُعَادَ مَعَ كُلِّ فِعْلٍ اتَّصَلَتْ بِهِ ، فَيُقَالُ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَعْبُدُكَ وَنَسْتَعِينُكَ وَنَحْمَدُكَ وَنَشْكُرُكَ " ، وَكَانَ ذَلِكَ أَفْصَحَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَنْ يُقَالَ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَعْبُدُكَ وَنَسْتَعِينُ وَنَحْمَدُ " - كَانَ كَذَلِكَ ، إِذَا قُدِّمَتْ كِنَايَةُ اسْمِ الْمُخَاطَبِ قَبْلَ الْفِعْلِ مَوْصُولَةً بِ "إِيَّا " ، كَانَ الْأَفْصَحُ إِعَادَتَهَا مَعَ كُلِّ فِعْلٍ . كَمَا كَانَ الْفَصِيحُ مِنَ الْكَلَامِ إِعَادَتَهَا مَعَ [ ص: 165 ] كُلِّ فِعْلٍ ، إِذَا كَانَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ مُتَّصِلَةً بِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُ إِعَادَتِهَا جَائِزًا .

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُنْعِمِ النَّظَرَ أَنَّ إِعَادَةَ " إِيَّاكَ " مَعَ " نَسْتَعِينُ " ، بَعْدَ تَقَدُّمِهَا فِي قَوْلِهِ : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ " ، بِمَعْنَى قَوْلِ عُدَيِّ بْنِ زَيْدٍ الْعَبَّادِيِّ :


وجَاعِلِ الشَّمسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ بَيْنَ النَّهَارِ وَبيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلَا


وَكَقَوْلِ أَعْشَى هَمْدَانَ :


بَيْنَ الْأشَجِّ وبَيْنَ قَيْسٍ بَاذِخٌ بَخْ بَخْ لوَالِدِهِ وَلِلْمَولُودِ


وَذَلِكَ مِنْ قَائِلِهِ جَهْلٌ ، مِنْ أَجْلِ أَنْ حَظَّ "إِيَّاكَ " أَنْ تَكُونَ مُكَرِّرَةٌ مَعَ كُلِّ فِعْلٍ ، لِمَا وَصَفَنَا آنِفًا مِنَ الْعِلَّةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمَ " بَيْنَ " لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ - إِذِ اقْتَضَتِ اثْنَيْنِ - إِلَّا تَكْرِيرًا إِذَا أُعِيدَتْ ، إِذْ كَانَتْ لَا تَنْفَرِدُ بِالْوَاحِدِ . وَأَنَّهَا لَوْ أُفْرِدَتْ بِأَحَدِ الِاسْمَيْنِ ، فِي حَالِ اقْتِضَائِهَا اثْنَيْنِ ، كَانَ الْكَلَامُ كَالْمُسْتَحِيل ِ . وَذَلِكَ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ : "الشَّمْسُ قَدْ فَصَلَتْ بَيْنَ النَّهَارِ " ، لَكَانَ مِنَ الْكَلَامِ خَلْفًا لِنُقْصَانِ الْكَلَامِ عَمَّا بِهِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ ، مِنْ تَمَامِهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ " بَيْنَ " .

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : " اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ " ، لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا تَامًّا . فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ حَاجَةَ كُلِّ كَلِمَةٍ - كَانَتْ نَظِيرَةَ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " - إِلَى " إِيَّاكَ " كَحَاجَةِ [ ص: 166 ] " نَعْبُدُ " إِلَيْهَا وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ تَكُونَ مَعَهَا " إِيَّاكَ " ، إِذْ كَانَتْ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهَا جُمْلَةَ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ ، وَبَيَّنَّا حُكْمَ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ حُكْمَ " بَيْنَ " فِيمَا وَفَّقَ بَيْنَهُمَا الَّذِي وَصَفْنَا قَوْلَهُ .

https://i.imgur.com/4ONJhpH.gif

ابوالوليد المسلم 05-02-2022 01:54 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

  1. https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif
    تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
    الإمام محمد بن جرير الطبري
    الجزء الاول
    تفسير سورة الفاتحة (4)
    الحلقة (14)
    صــ 167إلى صــ 177


    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( اهْدِنَا ) .

    قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَنَا : وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَيْهِ ، كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : -

    173 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَة ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ : " قُلْ ، يَا مُحَمَّدُ ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " . يَقُولُ : أَلْهِمْنَا الطَّرِيقَ الْهَادِيَ .

    وَإِلْهَامُهُ إِيَّاهُ ذَلِكَ ، هُوَ تَوْفِيقُهُ لَهُ ، كَالَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِهِ . وَمَعْنَاهُ نَظِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ : " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " ، فِي أَنَّهُ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ التَّوْفِيقَ لِلثَّبَاتِ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ ، وَإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ ، فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمُرِهِ ، دُونَ مَا قَدْ مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِ ، وَتَقَضَّى فِيمَا سَلَفَ مِنْ عُمُرِهِ . كَمَا فِي قَوْلِهِ : "إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " ، مَسْأَلَةٌ مِنْهُ رَبَّهُ الْمَعُونَةَ عَلَى أَدَاءِ مَا قَدْ كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ ، فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ .

    فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ : اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ، مُخْلِصِينَ لَكَ الْعِبَادَةَ دُونَ مَا سِوَاكَ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ ، فَأَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ ، وَوَفِّقْنَا لِمَا [ ص: 167 ] وَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْبِيَائِكَ وَأَهْلِ طَاعَتِكَ ، مِنَ السَّبِيلِ وَالْمِنْهَاجِ .

    فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَأَنَّى وَجَدْتَ الْهِدَايَةَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ ؟

    قِيلَ لَهُ : ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا أَكْثَرُ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى عَدَدُ مَا جَاءَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ . فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ :


    لَا تَحْرِمَنِّي ، هَدَاكَ اللَّهُ ، مَسْأَلَتِي وَلَا أكُونَنْ كَمَنْ أَوْدَى بِهِ السَّفَرُ


    يَعْنِي بِهِ : وَفَّقَكَ اللَّهُ لِقَضَاءِ حَاجَتِي . وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ :


    وَلَا تُعْجِلَنِّي هَدَاكَ الْمَلِيكُ فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالَا


    فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ : وَفَّقَكَ اللَّهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ فِي أَمْرِي .

    وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ تَنْزِيلِهِ . وَقَدْ عُلِمَ بِذَلِكَ ، أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ أَنَّهُ لَا يُبَيِّنُ لِلظَّالِمِينَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرَائِضِهِ . وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ ، وَقَدْ عَمَّ بِالْبَيَانِ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مَنْ خَلْقِهِ ؟ وَلَكِنَّهُ عَنَى جَلَّ وَعَزَّ أَنَّهُ لَا يُوَفِّقُهُمْ ، وَلَا يَشْرَحُ لِلْحَقِّ وَالْإِيمَانِ صُدُورَهُمْ .

    وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا ) : زِدْنَا هِدَايَةً .

    وَلَيْسَ يَخْلُو هَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَنَّ قَائِلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ فِي الْبَيَانِ ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِي الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ .

    فَإِنْ كَانَ ظَنَّ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ رَبِّهِ الزِّيَادَةَ فِي الْبَيَانِ ، فَذَلِكَ مَا لَا وَجْهَ لَهُ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يُكَلِّفُ عَبْدًا فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِهِ ، إِلَّا بَعْدَ تَبْيِينِهِ لَهُ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِهِ . وَلَوْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ مَعْنَى مَسْأَلَتِهِ الْبَيَانَ ، لَكَانَ قَدْ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا فَرَضَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ خَلْفٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَفْرِضُ فَرْضًا إِلَّا مُبَيَّنًا [ ص: 168 ] لِمَنْ فَرَضَهُ عَلَيْهِ . أَوْ يَكُونُ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِ الْفَرَائِضَ الَّتِي لَمْ يَفْرِضْهَا .

    وَفِي فَسَادِ وَجْهِ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ ذَلِكَ ، مَا يُوَضِّحُ عَنْ أَنَّ مَعْنَى : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، غَيْرُ مَعْنَى : بَيِّنْ لَنَا فَرَائِضَكَ وَحُدُودَكَ .

    أَوْ يَكُونُ ظَنَّ أَنَّهُ أُمِرَ بِمَسْأَلَةِ رَبِّهِ الزِّيَادَةَ فِي الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَلَنْ تَخْلُوَ مَسْأَلَتُهُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةً لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَعُونَةِ عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ عَمَلِهِ ، أَوْ عَلَى مَا يَحْدُثُ .

    وَفِي ارْتِفَاعِ حَاجَةِ الْعَبْدِ إِلَى الْمَعُونَةِ عَلَى مَا قَدْ تَقَضَّى مِنْ عَمَلِهِ ، مَا يُعْلِمُ أَنَّ مَعْنَى مَسْأَلَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ إِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَتُهُ الزِّيَادَةَ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ عَمَلِهِ . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، صَارَ الْأَمْرُ إِلَى مَا وَصَفْنَا وَقُلْنَا فِي ذَلِكَ : مِنْ أَنَّهُ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ التَّوْفِيقَ لِأَدَاءِ مَا كُلِّفَ مِنْ فَرَائِضِهِ ، فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمُرِهِ .

    وَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ ، فَسَادُ قَوْلِ أَهْلِ الْقَدَرِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِأَمْرٍ أَوْ مُكَلَّفٍ فَرْضًا ، فَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْمَعُونَةِ عَلَيْهِ ، مَا قَدِ ارْتَفَعَتْ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ حَاجَتُهُ إِلَى رَبِّهِ . لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ ، لَبَطَلَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) . وَفِي صِحَّةِ مَعْنَى ذَلِكَ ، عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَسَادُ قَوْلِهِمْ .

    وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) : أَسْلِكْنَا طَرِيقَ الْجَنَّةِ فِي الْمَعَادِ ، أَيْ قَدِّمْنَا لَهُ وَامْضِ بِنَا إِلَيْهِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) سُورَةُ الصَّافَّاتِ : 23 ، أَيْ أَدْخِلُوهُمُ النَّارَ ، كَمَا تُهْدَى الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا ، يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهَا تُدْخَلُ إِلَيْهِ ، وَكَمَا تُهْدَى الْهَدِيَّةُ إِلَى الرَّجُلِ ، وَكَمَا تَهْدِي السَّاقَ الْقَدَمُ ، نَظِيرَ قَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ : [ ص: 169 ]


    لَعِبَتْ بَعْدِي السُّيُولُ بِهِ وجَرَى فِي رَوْنَقٍ رِهْمُهْ



    لِلْفَتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ حَيْثُ تَهْدِي سَاقَهُ قَدَمُهْ


    أَيْ تَرِدُ بِهِ الْمَوَارِدُ .

    وَفِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) مَا يُنْبِئُ عَنْ خَطَأِ هَذَا التَّأْوِيلِ ، مَعَ شَهَادَةِ الْحُجَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى تَخْطِئَتِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى " الصِّرَاطَ " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي تَأَوَّلَهُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ : " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ الْمَعُونَةَ عَلَى عِبَادَتِهِ . فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " اهْدِنَا " إِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ الثَّبَاتِ عَلَى الْهُدَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ .

    وَالْعَرَبُ تَقُولُ : هَدَيْتُ فُلَانًا الطَّرِيقَ ، وهَدَيْتُهُ لِلطَّرِيقِ ، وهَدَيْتُهُ إِلَى الطَّرِيقِ ، إِذَا أَرْشَدْتَهُ إِلَيْهِ وَسَدَّدْتَهُ لَهُ . وَبِكُلِّ ذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ) سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 43 ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : ( اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) سُورَةُ النَّحْلِ : 121 ، وَقَالَ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .

    وَكُلُّ ذَلِكَ فَاشٍ فِي مَنْطِقِهَا ، مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهَا ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ :


    أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ، رَبَّ الْعِبَادِ ، إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
    [ ص: 170 ]

    يُرِيدُ : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَنْبٍ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) سُورَةُ غَافِرٍ : 55 .

    وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةَ بَنِي ذُبْيانَ :


    فَيَصِيدُنَا الْعَيْرَ الْمُدِلَّ بِحُضْرِهِ قَبْلَ الْوَنَى وَالأَشْعَبَ النَبَّاحَا


    يُرِيدُ : فَيَصِيدُ لَنَا . وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ وَكَلَامِهِمْ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْهُ كِفَايَةٌ .
    الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .

    قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ "الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " ، هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي لُغَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرِ بْنِ عَطِيَّةَ الْخَطَفِيِّ :


    أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقيمِ


    يُرِيدُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ . وَمِنْهُ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ أَبِي ذُؤَيْبٍ :


    صَبَحْنَا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى تَرَكْنَاهَا أَدَقَّ مِنَ الصِّرَاطِ
    [ ص: 171 ]

    وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ :


    فَصُدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّرَاطِ الْقَاصِدِ


    وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا غِنًى عَمَّا تَرَكْنَا .

    ثُمَّ تَسْتَعِيرُ الْعَرَبُ "الصِّرَاطَ " فَتَسْتَعْمِلُه ُ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وُصِفَ بِاسْتِقَامَةٍ أَوِ اعْوِجَاجٍ ، فَتَصِفُ الْمُسْتَقِيمَ بِاسْتِقَامَتِه ِ ، وَالْمُعْوَجَّ بِاعْوِجَاجِهِ .

    وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدِي ، أَعْنِي : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ : وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا ارْتَضَيْتَهُ وَوَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِكَ ، مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ ، وَذَلِكَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ . لِأَنَّ مَنْ وُفِّقَ لِمَا وُفِّقَ لَهُ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ ، فَقَدْ وُفِّقَ لِلْإِسْلَامِ ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ ، وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، وَالِانْزِجَارِ عَمَّا زَجَرَهُ عَنْهُ ، وَاتِّبَاعِ مَنْهَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِنْهَاجِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ . وَكُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ ، وَكُلِّ ذَلِكَ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ .

    وَقَدِ اخْتَلَفَتْ تَرَاجِمَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمَعْنِيِّ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . يَشْمَلُ مَعَانِيَ جَمِيعِهِمْ فِي ذَلِكَ ، مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِيهِ .

    وَمِمَّا قَالَتْهُ فِي ذَلِكَ ، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ ، وَذَكَرَ الْقُرْآنَ ، فَقَالَ : هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ .

    174 - حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ ، قَال : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ الْجُعْفِيُّ ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ ، عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ الطَّائِيِّ ، عَنِ ابْنِ أَخِي الْحَارِثِ ، عَنِ الْحَارِثِ ، عَنْ عَلَيٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . [ ص: 172 ]

    175 - وحُدِّثْتُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، عَنِ الْحَارِثِ ، عَنْ عَلَيٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِثْلَهُ . [ ص: 173 ]

    176 - وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ ، عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ الطَّائِيِّ ، عَنِ ابْنِ أَخِي الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ ، عَنِ الْحَارِثِ ، عَنْ عَلَيٍّ ، قَالَ : " الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ : كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ " .

    177 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ - ح - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ . حَدَّثَنَا مِهْرَانُ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ " كِتَابُ اللَّهِ " .

    178 - حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ الطَّالْقَانِيّ ُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَلَيٌّ وَالْحَسَنُ ابْنَا صَالِحٍ ، جَمِيعًا ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قَالَ : الْإِسْلَامُ ، قَالَ : هُوَ أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . [ ص: 174 ]

    179 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ : [ ص: 175 ] ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) يَقُولُ : أَلْهِمْنَا الطَّرِيقَ الْهَادِيَ ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا عِوَجَ لَهُ .

    180 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَوْفٍ ، عَنِ الْفُرَاتِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قَالَ : ذَلِكَ الْإِسْلَامُ .

    181 - حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ الْكِلَابِيُّ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ ، عَنْ أَبِي عُمَرَ الْبَزَّارِ ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ ، فِي قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قَالَ : هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعِبَادِ غَيْرَهُ .

    182 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثْنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ الْقَنَّادِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيُّ - فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ - عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قَالَ : هُوَ الْإِسْلَامُ

    183 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قَالَ : الطَّرِيقُ .

    184 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ أَبُو صُدَيْفٍ الآمُلِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ ، فِي قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، قَالَ : هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَصَاحِبَاهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ . قَالَ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْحَسَنِ ، فَقَالَ : صَدَقَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصَحَ [ ص: 176 ]

    185 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ : " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " ، قَالَ : الْإِسْلَامُ .

    186 - حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرٍ ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ نَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيُّ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا " . وَالصِّرَاطُ : الْإِسْلَامُ .

    187 - حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا آدَمُ الْعَسْقَلَانِي ُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ نَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِمِثْلِهِ . [ ص: 177 ]

    قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَإِنَّمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِقَامَ ةِ ، لِأَنَّهُ صَوَابٌ لَا خَطَأَ فِيهِ . وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْغَبَاءِ ، أَنَّهُ سَمَّاهُ مُسْتَقِيمًا ، لِاسْتِقَامَتِه ِ بِأَهْلِهِ إِلَى الْجَنَّةِ . وَذَلِكَ تَأْوِيلٌ لِتَأْوِيلِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ خِلَافٌ ، وَكَفَى بِإِجْمَاعٍ جَمِيعِهِمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلًا عَلَى خَطَئِهِ .



https://i.imgur.com/4ONJhpH.gif

ابوالوليد المسلم 05-02-2022 01:56 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة (5)
الحلقة (15)
صــ 178إلى صــ 177


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) .

وَقَوْلُهُ ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) ، إِبَانَةٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، أَيُّ الصِّرَاطِ هُوَ ؟ إِذْ كَانَ كُلُّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَقِّ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . فَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ : اهْدِنَا يَا رَبَّنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ ، بِطَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ ، مِنْ مَلَائِكَتِكَ وَأَنْبِيَائِكَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ .

وَذَلِكَ نَظِيرَ مَا قَالَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنزِيلِهِ : [ ص: 178 ] ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُ مْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ) سُورَةُ النِّسَاءِ : 66 - 69 .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَالَّذِي أُمِرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ أَنْ يَسْأَلُوا رَبَّهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ لِلطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ ، هِيَ الْهِدَايَةُ لِلطَّرِيقِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُ . وَذَلِكَ الطَّرِيقُ ، هُوَ طَرِيقُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ فِي تَنزِيلِهِ ، وَوَعَدَ مَنْ سَلَكَهُ فَاسْتَقَامَ فِيهِ طَائِعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنْ يُورِدَهُ مَوَارِدَهُمْ ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ .

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ .

188 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " يَقُولُ : طَرِيقَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بِطَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، الَّذِينَ أَطَاعُوكَ وَعَبَدُوكَ .

189 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ رَبِيعٍ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، قَالَ : النَّبِيُّونَ .

190 - حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " قَالَ : الْمُؤْمِنِينَ .

191 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : قَالَ وَكِيعٍ : " أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، الْمُسْلِمِينَ . [ ص: 179 ]

192 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ مَعَهُ .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يَنَالُهَا الْمُطِيعُونَ إِلَّا بِإِنْعَامِ اللَّهِ بِهَا عَلَيْهِمْ ، وَتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لَهَا . أَوَ لَا يَسْمَعُونَهُ يَقُولُ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، فَأَضَافَ كُلِّ مَا كَانَ مِنْهُمْ مَنِ اهْتِدَاءٍ وَطَاعَةٍ وَعِبَادَةٍ إِلَى أَنَّهُ إِنْعَامٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ ؟

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَأَيْنَ تَمَامُ هَذَا الْخَبَرِ ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِآخَرَ : "أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ " ، مُقْتَضٍ الْخَبَرَ عَمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ ، فَأَيْنَ ذَلِكَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ؟ وَمَا تِلْكَ النِّعْمَةُ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ ؟

قِيلَ لَهُ : قَدْ قَدَّمْنَا الْبَيَانَ - فِيمَا مَضَى مِنْ كُتَّابِنَا هَذَا - عَنْ إِجْرَاءِ الْعَرَبِ فِي مَنْطِقِهَا بِبَعْضٍ مِنْ بَعْضٍ ، إِذَا كَانَ الْبَعْضُ الظَّاهِرُ دَالًّا عَلَى الْبَعْضِ الْبَاطِنِ وَكَافِيًا مِنْهُ . فَقَوْلُهُ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " مِنْ ذَلِكَ . لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ بِمَسْأَلَتِهِ الْمَعُونَةَ ، وَطَلَبِهِمْ مِنْهُ الْهِدَايَةَ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، لِمَا كَانَ مُتَقَدِّمًا قَوْلَهُ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، الَّذِي هُوَ إِبَانَةٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَإِبْدَالٌ مِنْهُ - كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ النِّعْمَةَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى مَنْ أَمَرْنَا بِمَسْأَلَتِهِ الْهِدَايَةَ لِطَرِيقِهِمْ ، هُوَ الْمِنْهَاجُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ ، الَّذِي قَدْ قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْ تَأْوِيلِهِ آنِفًا ، فَكَانَ ظَاهِرٌ مَا ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ - مَعَ قُرْبِ تَجَاوُرِ الْكَلِمَتَيْنِ - مُغْنِيًا عَنْ تَكْرَارِهِ .

كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ :


كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ
[ ص: 180 ]

يُرِيدُ : كَأَنَّكَ مِنْ جَمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ، جَمَلٌ يُقَعْقِعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ ، فَاكْتَفَى بِمَا ظَهَرَ مِنْ ذِكْرِ "الْجِمَالِ " الدَّالِّ عَلَى الْمَحْذُوفِ ، مِنْ إِظْهَارِ مَا حُذِفَ . وَكَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ بْنُ غَالِبٍ :


تَرَى أَرْبَاقَهُمْ مُتَقَلِّدِيهَا إِذَا صَدِئَ الْحَدِيدُ عَلَى الْكُمَاةِ


يُرِيدُ : مُتَقَلَّدِيهَا هُمْ ، فَحَذَفَ "هُمْ " ، إِذْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ أَرْبَاقَهُمْ ، دَالًّا عَلَيْهَا .

وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ شِعْرِ الْعَرَبِ وَكَلَامِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : " صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالْقَرَأَةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ " غَيْرِ " بِجَرِّ الرَّاءِ مِنْهَا . وَالْخَفْضُ يَأْتِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ "غَيْرِ " صِفَةً لِ "الَّذِينَ " وَنَعْتًا لَهُمْ فَتَخْفِضَهَا . إِذْ كَانَ " الَّذِينَ " خَفْضًا ، وَهِيَ لَهُمْ نَعْتٌ وَصِفَةٌ . وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ " غَيْرِ " نَعْتًا لِ " الَّذِينَ " ، وَ " الَّذِينَ " مَعْرِفَةً وَ "غَيْرِ " نَكِرَةٌ ، لِأَنَّ " الَّذِينَ " بِصِلَتِهَا لَيْسَتْ بِالْمَعْرِفَةِ الْمُؤَقَّتَةِ كَالْأَسْمَاءِ [ ص: 181 ] الَّتِي هِيَ أَمَارَاتٌ بَيْنَ النَّاسِ ، مِثْلُ : زَيْدٍ وَعَمْرٍو ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; وَإِنَّمَا هِيَ كَالنَّكِرَاتِ الْمَجْهُولَاتِ ، مِثْلُ : الرَّجُلُ وَالْبَعِيرُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . فَلَمَّا كَانَ " الَّذِينَ " كَذَلِكَ صِفَتُهَا ، وَكَانَتْ "غَيْرَ " مُضَافَةٍ إِلَى مَجْهُولٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ ، نَظِيرَ " الَّذِينَ " ، فِي أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ غَيْرُ مُوَقَّتَةٍ ، كَمَا " الَّذِينَ " مَعْرِفَةٌ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ - جَازَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " نَعْتًا لِ " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " كَمَا يُقَالُ : " لَا أَجْلِسُ إِلَّا إِلَى الْعَالِمِ غَيْرِ الْجَاهِلِ " ، يُرَادُ : لَا أَجْلِسُ إِلَّا إِلَى مَنْ يَعْلَمُ ، لَا إِلَى مَنْ يَجْهَلُ .

وَلَوْ كَانَ " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " مَعْرِفَةٌ مُوَقَّتَةٌ . كَانَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " لَهَا نَعْتًا . وَذَلِكَ أَنَّهُ خَطَأٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ - إِذَا وَصَفْتَ مَعْرِفَةً مُؤَقَّتَةً بِنَكِرَةٍ - أَنْ تُلْزِمَ نَعْتَهَا النَّكِرَةَ إِعْرَابَ الْمَعْرِفَةِ الْمَنْعُوتِ بِهَا ، إِلَّا عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيرِ مَا أُعْرِبَ الْمَنْعُوتُ بِهَا . خَطَأٌ فِي كَلَامِهِمْ أَنْ يُقَالَ : "مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ غَيْرِ الْعَالِمِ " ، فَتَخْفِضُ " غَيْرِ " ، إِلَّا عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيرِ الْبَاءِ الَّتِي أَعْرَبَتْ عَبْدَ اللَّهِ . فَكَانَ مَعْنًى ذَلِكَ لَوْ قِيلَ كَذَلِكَ : مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ ، مَرَرْتُ بِغَيْرِ الْعَالَمِ . فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيِ الْخَفْضِ فِي : "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " .

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ وَجْهَيِ الْخَفْضِ فِيهَا : أَنْ يَكُونَ " الَّذِينَ " بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ الْمُؤَقَّتَةِ . وَإِذَا وُجِّهَ إِلَى ذَلِكَ ، كَانَتْ "غَيْرَ " مَخْفُوضَةٍ بِنِيَّةِ تَكْرِيرِ "الصِّرَاطِ " الَّذِي خُفِضَ "الَّذِينَ " عَلَيْهَا ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ : صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ ، صِرَاطَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ .

وَهَذَانَ التَّأْوِيلَانِ فِي " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، وَإِنِ اخْتَلَفَا بِاخْتِلَافِ مُعْرِبِيهِمَا ، فَإِنَّهُمَا يَتَقَارَبُ مَعْنَاهُمَا . مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهَدَاهُ لِدِينِهِ الْحَقِّ ، فَقَدْ سَلِمَ مَنْ غَضَبِ رَبِّهِ وَنَجَا مِنَ الضَّلَالِ فِي دِينِهِ .

فَسَوَاءٌ - إِذَا كَانَ سَبَبُ قَوْلِهِ : " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " [ ص: 182 ] غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَرْتَابَ ، مَعَ سَمَاعِهِ ذَلِكَ مِنْ تَالِيهِ ، فِي أَنَّ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ لِلصِّرَاطِ غَيْرُ غَاضِبٍ رَبُّهُمْ عَلَيْهِمْ ، مَعَ النِّعْمَةِ الَّتِي قَدْ عَظُمَتْ مِنَّتُهُ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ; وَلَا أَنْ يَكُونُوا ضُلَّالًا وَقَدْ هَدَاهُمُ الْحَقَّ رَبُّهُمْ . إِذْ كَانَ مُسْتَحِيلًا فِي فِطَرِهِمُ اجْتِمَاعُ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ شَخْصٍ وَالْغَضَبُ عَلَيْهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَاجْتِمَاعُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ لَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ - أَوُصِفَ الْقَوْمُ; مَعَ وَصْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ وَهِدَايَتِهِ لَهُمْ ، وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ ، بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ ضَالُّونَ; أَمْ لَمْ يُوصَفُوا بِذَلِكَ . لِأَنَّ الصِّفَةَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا ، قَدْ أَنْبَأَتْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ وَصْفُهُمْ بِهِ .

هَذَا ، إِذَا وَجَّهْنَا " غَيْرَ " إِلَى أَنَّهَا مَخْفُوضَةٌ عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيرِ "الصِّرَاطِ " الْخَافِضِ "الَّذِينَ " ، وَلَمْ نَجْعَلْ " غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ " مِنْ صِفَةِ " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، بَلْ إِذَا حَمَّلْنَاهُمْ غَيْرَهُمْ . وَإِنْ كَانَ الْفَرِيقَانِ لَا شَكَّ مُنْعَمًا عَلَيْهِمَا فِي أَدْيَانِهِمْ .

فَأَمَّا إِذَا وَجَّهْنَا " غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ " إِلَى أَنَّهَا مِنْ نَعْتِ ، " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " . فَلَا حَاجَةَ بِسَامِعِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ ، إِذْ كَانَ الصَّرِيحُ مِنْ مَعْنَاهُ قَدْ أَغْنَى عَنِ الدَّلِيلِ .

وَقَدْ يَجُوزُ نَصْبُ " غَيْرَ " فِي " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، وَإِنْ كُنْتُ لِلْقِرَاءَةِ بِهَا كَارِهًا لِشُذُوذِهَا عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ . وَإِنَّ مَا شَذَّ مِنَ الْقِرَاءَاتِ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأُمَّةُ نَقْلًا ظَاهِرًا مُسْتَفِيضًا ، فَرَأْيٌ لِلْحَقِّ مُخَالِفٌ . وَعَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَسَبِيلِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِيلِ الْمُسْلِمِينَ مُتَجَانِفٌ . وَإِنْ كَانَ لَهُ - لَوْ كَانَ جَائِزًا الْقِرَاءَةُ بِهِ - فِي الصَّوَابِ مَخْرَجٌ . [ ص: 183 ]

وَتَأْوِيلُ وَجْهِ صَوَابِهِ إِذَا نَصَبْتَ : أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْهَاءِ وَالْمِيمِ اللَّتَيْنِ فِي " عَلَيْهِمْ " الْعَائِدَةِ عَلَى " الَّذِينَ " . لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَخْفُوضَةً بِ " عَلَى " ، فَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِقَوْلِهِ : " أَنْعَمْتَ " . فَكَأَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ - إِذَا نَصَبْتَ " غَيْرَ " الَّتِي مَعَ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " - : صِرَاطَ الَّذِينَ هَدَيْتَهُمْ إِنْعَامًا مِنْكَ عَلَيْهِمْ ، غَيْرَ مَغَضُوبٍ عَلَيْهِمْ ، أَيْ لَا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ وَلَا ضَالِّينَ . فَيَكُونُ النَّصْبُ فِي ذَلِكَ حِينَئِذٍ ، كَالنَّصْبِ فِي " غَيْرَ " فِي قَوْلِكَ : مَرَرْتُ بِعَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ الْكَرِيمِ وَلَا الرَّشِيدِ ، فَتَقْطَعُ "غَيْرَ الْكَرِيمِ " مِنْ "عَبْدِ اللَّهِ " ، إِذْ كَانَ "عَبْدُ اللَّهِ " مَعْرِفَةً مُؤَقَّتَةً ، وَ "غَيْرُ الْكَرِيمِ " نَكِرَةٌ مَجْهُولَةٌ .

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيَّ الْبَصْرِيِّينَ يَزْعُمُ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ نَصَبَ " غَيْرَ " فِي "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، عَلَى وَجْهِ اسْتِثْنَاءِ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " مِنْ مَعَانِي صِفَةِ " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، كَأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ مَعْنَى الَّذِينَ قَرَأُوا ذَلِكَ نَصْبًا : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، إِلَّا الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ - الَّذِينَ لَمْ تُنْعِمْ عَلَيْهِمْ فِي أَدْيَانِهِمْ وَلَمْ تَهْدِهِمْ لِلْحَقِّ - فَلَا تَجْعَلْنَا مِنْهُمْ . كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ :


وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا ، وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إِلَّا أَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا
وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَة ِ الْجَلَدِ
[ ص: 184 ]

وَالْأَوَارِيُّ مَعْلُومٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عِدَادِ "أَحَدٍ " فِي شَيْءٍ . فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ ، اسْتَثْنَى " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " مِنَ " الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ مَعَانِيهِمْ فِي الدِّينِ فِي شَيْءٍ .

وَأَمَّا نَحْوِيُّو الْكُوفِيِّينَ ، فَأَنْكَرُوا هَذَا التَّأْوِيلَ وَاسْتَخَفُّوهُ ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَهُ الزَّاعِمُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، لَكَانَ خَطَأً أَنْ يُقَالَ : " وَلَا الضَّالِّينَ " .

لِأَنَّ " لَا " نَفِيٌ وَجَحْدٌ ، وَلَا يُعْطَفُ بِجَحْدٍ إِلَّا عَلَى جَحْدٍ . وَقَالُوا : لَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ اسْتِثْنَاءً يُعْطَفُ عَلَيْهِ بِجَحْدٍ ، وَإِنَّمَا وَجَدْنَاهُمْ يَعْطِفُونَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ بِالِاسْتِثْنَا ءِ ، وَبِالْجَحْدِ عَلَى الْجَحْدِ ، فَيَقُولُونَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ : قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا أَخَاكَ وَإِلَّا أَبَاكَ .

وَفِي الْجَحْدِ : مَا قَامَ أَخُوكَ وَلَا أَبُوكَ . وَأَمَّا : قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا أَبَاكَ وَلَا أَخَاكَ . فَلَمْ نَجِدْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ . قَالُوا : فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْدُومًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَكَانَ الْقُرْآنُ بِأَفْصَحِ لِسَانِ الْعَرَبِ نُزُولُهُ ، عَلِمْنَا - إِذْ كَانَ قَوْلُهُ " وَلَا الضَّالِّينَ " مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " - أَنَّ " غَيْرَ " بِمَعْنَى الْجَحْدِ لَا بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ ، وَأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ وَجَّهَهَا إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ خَطَأٌ .

فَهَذِهِ أَوْجُهُ تَأْوِيلِ " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، بِاخْتِلَافِ أَوْجُهِ إِعْرَابِ ذَلِكَ .

وَإِنَّمَا اعْتَرَضْنَا بِمَا اعْتَرَضْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ إِعْرَابِهِ - وَإِنْ كَانَ قَصْدُنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَشْفُ عَنْ تَأْوِيلِ آيِ الْقُرْآنِ - لِمَا فِي اخْتِلَافِ وُجُوهِ إِعْرَابِ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَافِ وُجُوهِ تَأْوِيلِهِ . فَاضْطَرَّتْنَا الْحَاجَةُ إِلَى كَشْفِ وُجُوهِ إِعْرَابِهِ ، لِتَنْكَشِفَ لِطَالِبِ تَأْوِيلِهِ وُجُوهُ تَأْوِيلِهِ ، عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي تَأْوِيلِهِ وَقِرَاءَتِهِ .

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِهِ وَقِرَاءَتِهِ عِنْدَنَا ، الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ قِرَاءَةُ ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) بِخَفْضِ الرَّاءِ مِنْ " غَيْرِ " . بِتَأْوِيلِ أَنَّهَا صِفَةٌ لِ "الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " وَنَعْتٌ لَهُمْ - لِمَا قَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الْبَيَانِ - إِنْ شِئْتَ ، وَإِنْ شِئْتَ فَبِتَأْوِيلِ تَكْرَارِ " صِرَاطَ " . كُلُّ ذَلِكَ صَوَابٌ حَسَنٌ . [ ص: 185 ]

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : فَمَنْ هَؤُلَاءِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ ، الَّذِينَ أَمَرَنَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَسْأَلَتِهِ أَنْ لَا يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ ؟

قِيلَ : هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنْزِيلِهِ فَقَالَ : ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) سُورَةَ الْمَائِدَةِ : 60 . فَأَعْلَمْنَا جَلَّ ذِكْرُهُ ثَمَّةَ ، مَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنْ عُقُوبَتِهِ بِمَعْصِيَتِهِم ْ إِيَّاهُ . ثُمَّ عَلِمْنَا ، مِنْهُ مَنَّهُ عَلَيْنَا ، وَجْهَ السَّبِيلَ إِلَى النَّجَاةِ مِنْ أَنْ يَحِلَ بِنَا مِثْلُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ ، وَرَأْفَةً مِنْهُ بِنَا .

فَإِنْ قِيلَ : وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ أُولَاءِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ وَذَكَرَ نَبَأَهُمْ فِي تَنْزِيلِهِ عَلَى مَا وَصَفْتُ ؟ قِيلَ :

193 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ ، الْيَهُودُ .

194 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ . [ ص: 186 ]

195 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ مُرِّيِّ بْنِ قَطَرِيٍّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : سَأَلَتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " قَالَ : هُمُ الْيَهُودُ .

196 - حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ السَّامِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ : أَنَّ رُجْلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ وَادِيَ الْقُرَى ، فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُحَاصِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ ، الْيَهُودُ

. [ ص: 187 ] 197 - حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ : أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ .

198 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ : أَخْبَرْنَا مَعْمَرُ ، عَنْ بُدَيْلٍ الْعُقَيْلِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ : أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى ، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ - قَالَ : الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ . وَأَشَارَ إِلَىالْيَهُودِ .

199 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْوَاسِطِيُّ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ

200 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . [ ص: 188 ]

201 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، هُمُ الْيَهُودُ .

202 - حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مِهْرَانُ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، قَالَ : هُمْ الْيَهُودُ .

203 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ رَبِيعٍ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، قَالَ : الْيَهُودُ .

204 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " قَالَ : الْيَهُودُ .

205 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، الْيَهُودُ .

206 - حَدَّثَنِي يُونُسُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي ابْنُ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، الْيَهُودُ .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَاخْتُلِفَ فِي صِفَةِ الْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ :

فَقَالَ بَعْضُهُمْ : غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ ، إِحْلَالُ عُقُوبَتِهِ بِمَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ ، إِمَّا فِي دُنْيَاهُ ، وَإِمَّا فِي آخِرَتِهِ ، كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ ) سُورَةَ الزُّخْرُفِ : 55 .

وَكَمَا قَالَ : ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ) [ ص: 189 ] سُورَةَ الْمَائِدَةِ : 60 .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ ، ذَمٌّ مِنْهُ لَهُمْ وَلِأَفْعَالِهِ مْ ، وَشَتْمٌ لَهُمْ مِنْهُ بِالْقَوْلِ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْغَضَبُ مِنْهُ مَعْنًى مَفْهُومٌ ، كَالَّذِي يُعْرَفُ مِنْ مَعَانِي الْغَضَبِ ، غَيْرَ أَنَّهُ - وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْإِثْبَاتِ - فَمُخَالِفٌ مَعْنَاهُ مِنْهُ مَعْنَى مَا يَكُونُ مِنْ غَضَبِ الْآدَمِيِّينَ الَّذِينَ يُزْعِجُهُمْ وَيُحَرِّكُهُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيُؤْذِيهِمْ .

لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا تَحِلُّ ذَاتَهُ الْآفَاتُ ، وَلَكِنَّهُ لَهُ صِفَةٌ ، كَمَا الْعِلْمُ لَهُ صِفَةٌ ، وَالْقُدْرَةُ لَهُ صِفَةٌ ، عَلَى مَا يُعْقَلُ مِنْ جِهَةِ الْإِثْبَاتِ ، وَإِنْ خَالَفَتْ مَعَانِي ذَلِكَ مَعَانِي عُلُومِ الْعِبَادِ ، الَّتِي هِيَ مَعَارِفُ الْقُلُوبِ ، وَقُوَاهُمُ الَّتِي تُوجَدُ مَعَ وُجُودِ الْأَفْعَالِ وَتُعْدَمُ مَعَ عَدَمِهَا .
https://i.imgur.com/4ONJhpH.gif



ابوالوليد المسلم 05-02-2022 01:58 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة (6)
الحلقة (16)
صــ 178إلى صــ 201


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَلَا الضَّالِّينَ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّ " لَا " مَعَ " الضَّالِّينَ " أُدْخِلَتْ تَتْمِيمًا لِلْكَلَامِ ، وَالْمَعْنَى إِلْغَاؤُهَا ، يَسْتَشْهِدُ عَلَى قِيلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ الْعَجَاجِ : [ ص: 190 ]


فِي بِئْرِ حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرَ


وَيَتَأَوَّلُهُ بِمَعْنَى : فِي بِئْرِ حُورٍ سَرَى ، أَيْ فِي بِئْرِ هِلْكَةٍ ، وَأَنَّ " لَا " بِمَعْنَى الْإِلْغَاءِ وَالصِّلَةِ . وَيَعْتَلُ أَيْضًا لِذَلِكَ بِقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ :


فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لَا تَسْخَرَا لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمِطَ الْقَفَنْدَرَا


وَهُوَ يُرِيدُ : فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ تَسْخَرَ وَبُقُولِ الْأَحْوَصِ :


وَيَلْحِيِنَنِي فِي اللَّهْوِ أَنْ لَا أُحِبَّهُ وَلِلَّهْوُ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ


يُرِيدُ : وَيَلْحِينَنِي فِي اللَّهْوِ أَنْ أُحِبَّهُ ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ ) سُورَةَ الْأَعْرَافِ : 12 ، يُرِيدُ أَنْ تَسْجُدَ . وَحُكِيَ عَنْ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ " غَيْرَ " الَّتِي " مَعَ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، أَنَّهَا بِمَعْنَى " سِوَى . فَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ كَانَ عِنْدَهُ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، الَّذِينَ هُمْ سِوَى الْمَغْضُوبِ وَالضَّالِّينَ .

وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَسْتَنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ ، وَيَزْعُمُ أَنَّ " غَيْرَ " [ ص: 191 ] الَّتِي " مَعَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى سِوَى ، لَكَانَ خَطَأً أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا بِ " لَا " ، إِذْ كَانَتْ " لَا " لَا يُعْطَفُ بِهَا إِلَّا عَلَى جَحْدٍ قَدْ تُقَدَّمَهَا . كَمَا كَانَ خَطَأً قَوْلُ الْقَائِلِ : "عِنْدِي سِوَى أَخِيكَ وَلَا أَبِيكَ " ، لِأَنَّ سِوَى لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ النَّفْيِ وَالْجُحُودِ . وَيَقُولُ : لَمَّا كَانَ ذَلِكَ خَطَأٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَكَانَ الْقُرْآنُ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الَّذِي زَعَمَهُ الْقَائِلُ : أَنَّ "غَيْرِ " مَعَ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " بِمَعْنَى : سِوَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، خَطَأٌ . إِذْ كَانَ قَدْ كَرَّ عَلَيْهِ الْكَلَامَ بِ " لَا " . وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ " غَيْرِ " هُنَالِكَ إِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْجَحْدِ . إِذْ كَانَ صَحِيحًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَفَاشِيًا ظَاهِرًا فِي مَنْطِقِهَا تَوْجِيهُ " غَيْرِ " إِلَى مَعْنَى النَّفْيِ وَمُسْتَعْمِلًا فِيهِمْ : "أَخُوكَ غَيْرُ مُحْسِنٍ وَلَا مُجَمِّلٍ " ، يُرَادُ بِذَلِكَ أَخُوكَ لَا مُحْسِنٌ ، وَلَا مُجَمِّلٍ ، وَيُسْتَنْكَرُ أَنْ تَأْتِيَ " لَا " بِمَعْنَى الْحَذْفِ فِي الْكَلَامِ مُبْتَدَأً ، وَلَمَّا يَتَقَدَّمُهَا جَحْدٌ . وَيَقُولُ : لَوْ جَازَ مَجِيئُهَا بِمَعْنَى الْحَذْفِ مُبْتَدَأٌ ، قَبْلَ دَلَالَةٍ تَدُلُّ ذَلِكَ مِنْ جَحْدٍ سَابِقٍ ، لَصَحَّ قَوْلُ قَائِلٍ قَالَ : "أَرَدْتُ أَنْ لَا أُكْرِمَ أَخَاكَ " ، بِمَعْنَى : أَرَدْتُ أَنْ أُكْرِمَ أَخَاكَ . وَكَانَ يَقُولُ : فَفِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى تَخْطِئَةِ قَائِلِ ذَلِكَ ، دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ " لَا " لَا تَأْتِي مُبْتَدَأَةً بِمَعْنَى الْحَذْفِ ، وَلَمَّا يَتَقَدَّمْهَا جَحْدٌ . وَكَانَ يَتَأَوَّلُ فِي " لَا " الَّتِي فِي بَيْتِ الْعَجَّاجِ ، الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَصْرِيَّ اسْتَشْهَدَ بِهِ ، بِقَوْلِهِ : إِنَّهَا جَحْدٌ صَحِيحٌ ، وَأَنَّ مَعْنَى الْبَيْتِ : سَرَى فِي بِئْرٍ لَا تُحِيرُ عَلَيْهِ خَيْرًا ، وَلَا يَتَبَيَّنُ لَهُ فِيهَا أَثَرُ عَمَلٍ ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ وَلَا يَدْرِي بِهِ . مِنْ قَوْلِهِمْ : "طَحَنَتِ الطَّاحِنَةُ فَمَا أَحَارَتْ شَيْئًا " ، أَيْ لَمْ يُتَبَيَّنْ لَهَا أَثَرُ عَمَلٍ . وَيَقُولُ فِي سَائِرِ الْأَبْيَاتِ الْأُخَرِ ، أَعْنِي مِثْلَ بَيْتِ أَبِي النَّجْمِ : :


فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لَا تَسْخَرَا


إِنَّمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ " لَا " بِمَعْنَى الْحَذْفِ ، لِأَنَّ الْجَحْدَ قَدْ تَقَدَّمَهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ ، فَكَانَ الْكَلَامُ الْآخَرُ مُوَاصِلًا لِلْأَوَّلِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : [ ص: 192 ]


مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ


فَجَازَ ذَلِكَ ، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْجَحْدُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْأَوَّلِ ، إِذْ كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ جَحْدٍ تَقَدَّمَهُ بِ " لَا " الَّتِي مَعْنَاهَا الْحَذْفُ ، وَلَا جَائِزٌ الْعَطْفُ بِهَا عَلَى " سِوَى " ، وَلَا عَلَى حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ . وَإِنَّمَا لِ " غَيْرَ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا الِاسْتِثْنَاءُ ، وَالْآخِرُ الْجَحْدُ ، وَالثَّالِثُ سِوَى . فَإِذَا ثَبَتَ خَطَأُ " لَا " أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِلْغَاءِ مُبْتَدَأٌ ، وَفَسَدَ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى " غَيْرِ " الَّتِي مَعَ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى " إِلَّا " الَّتِي هِيَ اسْتِثْنَاءٌ ، وَلَمْ يَجُزْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَيْهَا لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى " سِوَى " ، وَكَانَتْ " لَا " مَوْجُودَةً عَطْفًا بِالْوَاوِ الَّتِي هِيَ عَاطِفَةٌ لَهَا عَلَى مَا قَبِلَهَا - صَحَّ وَثَبَتَ أَنْ لَا وَجْهَ لِ " غَيْرِ " ، الَّتِي مَعَ " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " ، يَجُوزُ تَوْجِيهُهَا إِلَيْهِ عَلَى صِحَّةِ إِلَّا بِمَعْنَى الْجَحْدِ وَالنَّفْيِ ، وَأَنْ لَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ : " وَلَا الضَّالِّينَ " ، إِلَّا الْعَطْفُ عَلَى " غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " .

فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا - إِذْ كَانَ صَحِيحًا مَا قُلْنَا بِالَّذِي عَلَيْهِ اسْتَشْهَدْنَا - اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، لَا الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَمَنْ هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ الَّذِينَ أَمَرَنَا اللَّهُ بِالِاسْتِعَاذَ ةِ بِاللَّهِ أَنْ يَسْلُكَ بِنَا سَبِيلَهُمْ ، أَوْ نَضِلَّ ضَلَالَهُمْ ؟

قِيلَ : هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ فِي تَنْزِيلِهِ فَقَالَ : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) [ ص: 193 ] سُورَةَ الْمَائِدَةِ : 77 .

فَإِنْ قَالَ : وَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى أَنَّهُمْ أُولَاءِ ؟

قِيلَ :

207 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلَا الضَّالِّينَ " قَالَ : النَّصَارَى .

208 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ سِمَاكٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إِنَّ الضَّالِّينَ : النَّصَارَى " .

209 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ مُرِّيِّ بْنِ قُطْرِيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ : " وَلَا الضَّالِّينَ " ، قَالَ : النَّصَارَى هُمُ الضَّالُّونَ .

210 - حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ السَّامِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْجَرِيرِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ : أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ وَادِيَ الْقُرَى قَالَ : قُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ : النَّصَارَى .

211 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ . [ ص: 194 ]

212 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ ، عَنْ بُدَيْلٍ الْعُقَيْلِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ - قَالَ : هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ " ، يَعْنِي النَّصَارَى .

213 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدُ الْوَاسِطِيُّ ، عَنْ خَالِدٍ الْحِذَاءِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ مُحَاصِرٌ وَادِيَ الْقُرَى وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : الضَّالُّونَ . يَعْنِي النَّصَارَى .

214 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مِهْرَانُ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : " وَلَا الضَّالِّينَ " قَالَ : النَّصَارَى .

215 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " وَلَا الضَّالِّينَ " قَالَ : وَغَيْرِ طَرِيقِ النَّصَارَى الَّذِينَ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ بِفِرْيَتِهِمْ عَلَيْهِ . قَالَ : يَقُولُ : فَأَلْهِمْنَا دِينَكَ الْحَقَّ ، وَهُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، حَتَّى لَا تَغْضَبَ عَلَيْنَا كَمَا غَضِبْتَ عَلَى الْيَهُودِ ، وَلَا تُضِلَّنَا كَمَا أَضْلَلْتَ النَّصَارَى فَتُعَذِّبَنَا بِمَا تُعَذِّبُهُمْ بِهِ . يَقُولُ امْنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ بِرِفْقِكَ وَرَحْمَتِكَ وَقُدْرَتِكَ .

216 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الضَّالِّينَ النَّصَارَى . [ ص: 195 ]

217 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلَا الضَّالِّينَ " ، هُمُ النَّصَارَى .

218 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : أَخْبَرْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ رَبِيعٍ : "وَلَا الضَّالِّينَ " ، النَّصَارَى .

219 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : "وَلَا الضَّالِّينَ " ، النَّصَارَى .

220 - حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ . قَالَ : الضَّالِّينَ ، النَّصَارَى .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَكُلُّ حَائِدٍ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ ، وَسَالِكٍ غَيْرَ الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ ، فَضَالٌّ عِنْدَ الْعَرَبِ ، لِإِضْلَالِهِ وَجْهَ الطَّرِيقِ . فَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ النَّصَارَى ضُلَّالًا لِخَطَئِهِمْ فِي الْحَقِّ مَنْهَجَ السَّبِيلِ ، وَأَخْذِهِمْ مِنَ الدِّينِ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَوَلَيْسَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ صِفَةِ الْيَهُودِ ؟

قِيلَ : بَلَى!

فَإِنْ قَالَ : كَيْفَ خَصَّ النَّصَارَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَخَصَّ الْيَهُودَ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ؟

قِيلَ : كِلَّا الْفَرِيقَيْنِ ضُلَّالٌ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَسَمَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَنْ صِفَتِهِ لِعِبَادِهِ بِمَا يَعْرِفُونَهُ بِهِ ، إِذَا ذَكَرَهُ لَهُمْ أَوْ أَخْبَرَهُمْ عَنْهُ . وَلَمْ يُسَمِّ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا بِمَا هُوَ لَهُ صِفَةٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّمِّ زِيَادَاتٌ عَلَيْهِ .

فَيَظُنُّ بَعْضُ أَهْلِ الْغَبَاءِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ فِي وَصْفِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ النَّصَارَى [ ص: 196 ] بِالضَّلَالِ ، بِقَوْلِهِ : " وَلَا الضَّالِّينَ " ، وَإِضَافَتِهِ الضَّلَالَ إِلَيْهِمْ دُونَ إِضَافَةِ إِضْلَالِهِمْ إِلَى نَفْسِهِ ، وَتَرْكِهِ وَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمُ الْمُضَلَّلُونَ ، كَالَّذِي وَصَفَ بِهِ الْيَهُودَ أَنَّهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ - دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ إِخْوَانُهُ مِنْ جَهَلَةِ الْقَدَرِيَّةِ ، جَهْلًا مِنْهُ بِسَعَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَتَصَارِيفَ وُجُوهِهِ .

وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنَّهُ الْغَبِيُّ الَّذِي وَصَفْنَا شَأْنَهُ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ أَوْ مُضَافٍ إِلَيْهِ فِعْلٌ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ سَبَبٌ لِغَيْرِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ سَبَبٌ ، فَالْحَقُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى مُسَبِّبِهِ ، وَلَوْ وَجَبَ ذَلِكَ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَطَأً قَوْلُ الْقَائِلِ : " تَحَرَّكَتِ الشَّجَرَةُ " ، إِذْ حَرَّكَتْهَا الرِّيَاحُ; وَ " اضْطَرَبَتِ الْأَرْضُ " ، إِذْ حَرَّكَتْهَا الزَّلْزَلَةُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يَطُولُ بِإِحْصَائِهِ الْكِتَابَ .

وَفِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ) سُورَةَ يُونُسَ : 22 - بِإِضَافَتِهِ الْجَرْيَ إِلَى الْفُلْكِ ، وَإِنْ كَانَ جَرْيُهَا بِإِجْرَاءِ غَيْرِهَا إِيَّاهَا - مَا دَلَّ عَلَى خَطَأِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ مِنْ وَصَفْنَا قَوْلَهُ فِي قَوْلِهِ : " وَلَا الضَّالِّينَ " ، وَادِّعَائِهِ أَنَّ فِي نِسْبَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الضَّلَالَةَ إِلَى مَنْ نَسَبَهَا إِلَيْهِ مِنَ النَّصَارَى ، تَصْحِيحًا لِمَا ادَّعَى الْمُنْكِرُونَ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَفْعَالِ خَلْقِهِ سَبَبٌ مِنْ أَجْلِهِ وُجِدَتْ أَفْعَالُهُمْ ، مَعَ إِبَانَةِ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ نَصًّا فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِنْ تَنْزِيلِهِ ، أَنَّهُ الْمُضِلُّ الْهَادِي ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) سُورَةَ الْجَاثِيَةِ : 23 . فَأَنْبَأَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ الْمُضِلُّ الْهَادِي دُونَ غَيْرِهِ .

وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ - وَإِنْ كَانَ مُسَبِّبُهُ غَيْرَ الَّذِي وُجِدَ [ ص: 197 ] مِنْهُ - أَحْيَانًا ، وَأَحْيَانًا إِلَى مُسَبِّبِهِ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ غَيْرَهُ . فَكَيْفَ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ كَسْبًا ، وَيُوجِدُهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَيْنًا مُنْشَأَةً ؟ بَلْ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يُضَافَ إِلَى مُكْتَسِبِهِ; كَسْبًا لَهُ ، بِالْقُوَّةِ مِنْهُ عَلَيْهِ ، وَالِاخْتِيَارِ مِنْهُ لَهُ - وَإِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، بِإِيجَادِ عَيْنِهِ وَإِنْشَائِهَا تَدْبِيرًا .
[ ص: 198 ] ( مَسْأَلَةٌ يَسْأَلُ عَنْهَا أَهْلُ الْإِلْحَادِ الطَّاعِنُونَ فِي الْقُرْآنِ )

إِنْ سَأَلَنَا مِنْهُمْ سَائِلٌ فَقَالَ : إِنَّكَ قَدْ قَدَّمْتَ فِي أَوَّلِ كِتَابِكَ هَذَا فِي وَصْفِ الْبَيَانِ : بِأَنَّ أَعْلَاهُ دَرَجَةً وَأَشْرَفَهُ مَرْتَبَةً ، أَبْلَغَهُ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ حَاجَةِ الْمُبِينِ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَبْيَنَهُ عَنْ مُرَادِ قَائِلِهِ ، وَأَقْرَبَهُ مِنْ فَهْمِ سَامِعِهِ . وَقُلْتَ ، مَعَ ذَلِكَ : إِنَّ أَوْلَى الْبَيَانِ بِأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ، كَلَامُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، لِفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ وَبِارْتِفَاعِ دَرَجَتِهِ عَلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْبَيَانِ ، فَمَا الْوَجْهُ - إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُ - فِي إِطَالَةِ الْكَلَامِ بِمِثْلِ سُورَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ بِسَبْعِ آيَاتٍ ؟ وَقَدْ حَوَتْ مَعَانِيَ جَمِيعَهَا مِنْهَا آيَتَانِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، إِذْ كَانَ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ عَرَفَ : مَلِكَ يَوْمِ الدِّينِ ، فَقَدْ عَرَفَهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى . وَأَنَّ مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لِسَبِيلِ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ مُتَّبَعٌ ، وَعَنْ سَبِيلِ مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ وَضَلَّ مُنْعَدِلٌ . فَمَا فِي زِيَادَةِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ الْبَاقِيَةِ ، مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي لَمْ تَحْوِهَا الْآيَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرْنَا ؟

قِيلَ لَهُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ جَمَعَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ - بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ - مَعَانِيَ لَمْ يَجْمَعْهُنَّ بِكِتَابٍ أَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيٍّ قَبْلَهُ ، وَلَا لِأُمَّةِ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ قَبْلَهُ ، فَإِنَّمَا أُنْزِلَ بِبَعْضِ الْمَعَانِي الَّتِي يَحْوِي جَمِيعَهَا كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَالتَّوْرَاةِ الَّتِي هِيَ مَوَاعِظُ وَتَفْصِيلٌ ، وَالزَّبُورِ الَّذِي هُوَ تَحْمِيدٌ وَتَمْجِيدٌ ، وَالْإِنْجِيلِ الَّذِي هُوَ مَوَاعِظُ وَتَذْكِيرٌ - لَا مُعْجِزَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا تَشْهَدُ لِمَنْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ بِالتَّصْدِيقِ . وَالْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَحْوِي مَعَانِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي سَائِرُ الْكُتُبِ غَيْرُهُ مِنْهَا خَالٍ . [ ص: 199 ] وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِيمَا مَضَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ .

وَمِنْ أَشْرَفِ تِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي فَضُلَ بِهَا كِتَابُنَا سَائِرَ الْكُتُبِ قَبْلَهُ ، نَظْمُهُ الْعَجِيبُ وَرَصْفُهُ الْغَرِيبُ وَتَأْلِيفُهُ الْبَدِيعُ; الَّذِي عَجَزَتْ عَنْ نَظْمِ مِثْلِ أَصْغَرِ سُورَةٍ مِنْهُ الْخُطَبَاءُ ، وَكَلَّتْ عَنْ وَصْفِ شَكْلِ بَعْضِهِ الْبُلَغَاءُ ، وَتَحَيَّرَتْ فِي تَأْلِيفِهِ الشُّعَرَاءُ ، وَتَبَلَّدَتْ - قُصُورًا عَنْ أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِهِ - لَدَيْهِ أَفْهَامُ الْفُهَمَاءُ ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلَّا التَّسْلِيمَ وَالْإِقْرَارَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ . مَعَ مَا يَحْوِي ، مَعَ ذَلِكَ ، مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ ، وَأَمْرٌ وَزَجْرٌ ، وَقَصَصٌ وَجَدَلٌ وَمَثَلٌ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَمْ تَجْتَمِعْ فِي كِتَابٍ أُنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ .

فَمَهْمَا يَكُنْ فِيهِ مِنْ إِطَالَةٍ ، عَلَى نَحْوِ مَا فِي أُمِّ الْقُرْآنِ ، فَلِمَا وَصَفْتُ قَبْلُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ - بِرَصْفِهِ الْعَجِيبِ وَنَظْمِهِ الْغَرِيبِ ، الْمُنْعَدِلِ عَنْ أَوْزَانِ الْأَشْعَارِ ، وَسَجْعِ الْكُهَّانِ وَخُطَبِ الْخُطَبَاءِ وَرَسَائِلِ الْبُلَغَاءِ ، الْعَاجِزِ عَنْ رَصْفِ مِثْلِهِ جَمِيعُ الْأَنَامِ ، وَعَنْ نَظْمِ نَظِيرِهِ كُلُّ الْعِبَادِ - الدَّلَالَةَ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَبِمَا فِيهِ مِنْ تَحْمِيدٍ وَتَمْجِيدٍ وَثَنَاءٍ عَلَيْهِ ، تَنْبِيهَ الْعِبَادِ عَلَى عَظْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِظَمِ مَمْلَكَتِهِ ، لِيَذْكُرُوهُ بِآلَائِهِ ، وَيَحْمَدُوهُ عَلَى نَعْمَائِهِ ، فَيَسْتَحِقُّوا بِهِ مِنْهُ الْمَزِيدَ ، وَيَسْتَوْجِبُو ا عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ; وَبِمَا فِيهِ مِنْ نَعْتِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَتِهِ ، وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ لِطَاعَتِهِ ، تَعْرِيفُ عِبَادِهِ أَنَّ كُلَّ مَا بِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ ، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، فَمِنْهُ ، لِيَصْرِفُوا رَغْبَتَهُمْ إِلَيْهِ ، وَيَبْتَغُوا حَاجَاتِهِمْ مِنْ عِنْدِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ ، وَبِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِهِ مَا أَحَلَّ بِمَنْ عَصَاهُ مِنْ مَثُلَاتِهِ ، وَأَنْزَلَ بِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ مِنْ عُقُوبَاتِهِ - تَرْهِيبُ عِبَادِهِ عَنْ رُكُوبِ [ ص: 200 ] مَعَاصِيهِ ، وَالتَّعَرُّضِ لِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ مِنْ سَخَطِهِ ، فَيَسْلُكَ بِهِمْ فِي النَّكَالِ وَالنِّقِمَاتِ سَبِيلَ مَنْ رَكِبَ ذَلِكَ مِنَ الْهُلَّاكِ .

فَذَلِكَ وَجْهُ إِطَالَةِ الْبَيَانِ فِي سُورَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ ، وَفِيمَا كَانَ نَظِيرًا لَهَا مِنْ سَائِرِ سُوَرِ الْفُرْقَانِ . وَذَلِكَ هُوَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الْكَامِلَةُ .

221 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى زُهْرَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا قَالَ الْعَبْدُ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، قَالَ اللَّهُ : "حَمِدَنِي عَبْدِي " . وَإِذَا قَالَ : "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، قَالَ : "أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي " . وَإِذَا قَالَ : "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " ، قَالَ : "مَجَّدَنِي عَبْدِي . فَهَذَا لِي " . وَإِذَا قَالَ : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " إِلَى أَنْ يَخْتِمَ السُّورَةَ ، قَالَ : "فَذَاكَ لَهُ .

222 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبَدَةُ ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : إِذَا قَالَ الْعَبْدُ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ " ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ .

223 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى الْحُرَقَةِ ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِثْلَهُ .

224 - حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ الْمِرْوَزِيَّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ ، [ ص: 201 ] قَالَ : حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : "قَسَمَتِ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، وَلَهُ مَا سَأَلَ " . فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " قَالَ اللَّهُ : "حَمِدَنِي عَبْدِي " ، وَإِذَا قَالَ : "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، قَالَ : "أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي " ، وَإِذَا قَالَ : "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ " قَالَ : "مَجَّدَنِي عَبْدِي " قَالَ : "هَذَا لِي ، وَمَا بَقِيَ " . "آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ " .

https://i.imgur.com/4ONJhpH.gif

ابوالوليد المسلم 05-02-2022 02:06 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(1)
الحلقة (17)
صــ 202إلى صــ 224


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ أَعِنْ ( الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ )

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( الم ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : اخْتَلَفَتْ تَرَاجِمَةُ الْقُرْآنِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ "الم " فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

225 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ ، أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ : "الم " ، قَالَ : اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .

226 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْآمُلُيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْلٌ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .

227 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : "الم " ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ فَوَاتِحُ يَفْتَحُ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

228 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ الْكُوفِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، فَوَاتِحُ يَفْتَحُ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ . [ ص: 206 ]

229 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو نَعِيمٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، فَوَاتِحُ .

230 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، عَنْ يَحْيَى بْنُ آدَمَ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : "الم " ، وَ "حم " ، وَ "المص " ، وَ "ص " ، فَوَاتِحُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا .

231 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، مِثْلَ حَدِيثِ هَارُونَ بْنِ إِدْرِيسَ .

وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

232 - حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهَبٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ : "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " وَ "الم تَنْزِيلُ " ، وَ "المر تِلْكَ " ، فَقَالَ : قَالَ أَبِي : إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ السُّوَرِ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

233 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، قَالَ : سَأَلْتُ السُّدِّيَّ عَنْ "حم " وَ "طسم " وَ "الم " ، فَقَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ .

234 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو النُّعْمَانِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَذِكْرَ نَحْوَهُ .

235 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : فَوَاتِحُ السُّوَرِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ : [ ص: 207 ]

236 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ .

237 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ : "الم " ، قَسَمٌ . [ ص: 208 ]

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ مِنْ أَسْمَاءٍ وَأَفْعَالٍ ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَعْنَى غَيْرِ مَعْنَى الْحَرْفِ الْآخَرِ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

238 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ - وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ شَرِيكٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي الضُّحَى ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "الم " قَالَ : أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ .

239 - حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَقْظَانِ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : قَوْلُهُ : "الم " ، قَالَ : أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ .

240 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ الْقَنَّادُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الم " قَالَ : أَمَّا "الم " فَهُوَ حَرْفٌ اشْتُقَّ مِنْ حُرُوفِ هِجَاءِ أَسْمَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ .

241 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ زِيَادٍ الْبَاهِلِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : "الم " وَ "حم " وَ "ن " ، قَالَ : اسْمٌ مُقَطَّعٌ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ حُرُوفُ هِجَاءٍ مَوْضُوعٍ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

242 - حُدِّثْتُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي نُوَيْرَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبُ ، عَنْ خُصَيْفٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : فَوَاتِحُ السُّوَرِ كُلُّهَا "ق " وَ "ص " وَ "حم " وَ "طسم " وَ "الر " وَغَيْرُ ذَلِكَ ، هِجَاءٌ مَوْضُوعٌ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ حُرُوفٌ يَشْتَمِلُ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ شَتَّى مُخْتَلِفَةٍ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

243 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَّبَرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ : "الم " ، قَالَ : هَذِهِ الْأَحْرُفُ ، مِنَ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا ، دَارَتْ فِيهَا الْأَلْسُنُ كُلُّهَا . لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي آلَائِهِ وَبَلَائِهِ ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّةِ قَوْمِ وَآجَالِهِمْ . وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : "وَعَجِيبٌ يَنْطِقُونَ فِي أَسْمَائِهِ ، وَيَعِيشُونَ فِي رِزْقِهِ ، فَكَيْفَ يَكْفُرُونَ ؟ " . قَالَ : الْأَلْفُ : مِفْتَاحُ اسْمِهِ : "اللَّهُ " ، وَاللَّامُ : مِفْتَاحُ اسْمِهِ : "لَطِيفٌ " ، وَالْمِيمُ : مِفْتَاحُ اسْمِهِ : "مَجِيدٌ " . وَالْأَلْفُ آلَاءُ اللَّهِ ، وَاللَّامُ لُطْفُهُ ، وَالْمِيمُ : مَجَّدُهُ . الْأَلْفُ سَنَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ سَنَةً ، وَالْمِيمَ أَرْبَعُونَ سَنَةً .

244 - حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَكَّامٌ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنِ الرَّبِيعِ بِنَحْوِهِ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ حُرُوفٌ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ - كَرِهْنَا ذِكْرَ الَّذِي حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ ، إِذْ كَانَ الَّذِي رَوَاهُ مِمَّنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ وَنَقْلِهِ . وَقَدْ مَضَتِ الرِّوَايَةُ بِنَظِيرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ . [ ص: 209 ]

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِكُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ ، وَسِرُ الْقُرْآنِ فَوَاتِحُهُ .

وَأَمَّا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ حُرُوفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، اسْتُغْنِيَ بِذِكْرٍ مَا ذُكِرَ مِنْهَا فِي أَوَائِلِ السُّورِ عَنْ ذِكْرِ بَوَاقِيهَا ، الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا; كَمَا اسْتَغْنَى الْمُخْبَرُ - عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا - بِذِكْرِ "أ ب ت ث " ، عَنْ ذِكْرِ بَوَاقِي حُرُوفِهَا الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ : قَالَ . وَلِذَلِكَ رُفِعَ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ : الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ مِنْ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ ، ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ مَجْمُوعًا لَا رَيْبَ فِيهِ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ "أ ب ت ث " ، قَدْ صَارَتْ كَالِاسْمِ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ ، كَمَا كَانَ "الْحَمْدُ " اسْمًا لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ .

قِيلَ لَهُ : لِمَا كَانَ جَائِزًا أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : ابْنِي فِي "ط ظ " ، وَكَانَ مَعْلُومًا بِقِيلِهِ ذَلِكَ لَوْ قَالَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخَبَرَ عَنِ ابْنِهِ أَنَّهُ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ - عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ "أ ب ت ث " لَيْسَ لَهَا بِاسْمٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ آثَرَ فِي الذَّكَرِ مِنْ سَائِرِهَا . قَالَ : وَإِنَّمَا خُولِفَ بَيْنَ ذِكْرِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ ، فَذُكِرَتْ فِي أَوَائِلِهَا مُخْتَلِفَةً ، وَذِكْرِهَا إِذَا ذُكِّرَتْ بِأَوَائِلِهَا الَّتِي هِيَ "أ ب ت ث " ، مُؤْتَلِفَةً ، لِيَفْصِلَ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنْهَا إِذَا أُرِيدَ - بِذِكْرٍ مَا ذَكَرَ مِنْهَا مُخْتَلِفًا - الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ; وَإِذَا أُرِيدَ - بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا مُؤْتَلِفًا - الدَّلَالَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ بِأَعْيَانِهَا . وَاسْتَشْهَدُوا - لِإِجَازَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ : ابْنِي فِي "ط ظ " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، مِنَ الْخَبَرِ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ فِي الْبَيَانِ يَقُومُ مَقَامَ قَوْلِهِ : ابْنِي فِي "أ ب ت ث " - بِرَجَزِ بَعْضِ الرُّجَّازِ مِنْ بَنِي أَسَدٍ :


لَمَّا رَأَيْتُ أَمْرَهَا فِي حُطِّي وفَنَكَتْ فِي كَذِبٍ ولَطِّ أَخذْتُ مِنْهَا بِقُرُونٍ [ ص: 210 ] شُمْطٍ
فَلَمْ يَزَلْ صَوْبِي بِهَا ومَعْطِي

حَتَّى عَلَا الرَّأْسَ دَمٌ يُغَطِّي


فَزَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْخَبَرِ عَنِ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا فِي "أَبِي جَادٍ " ، فَأَقَامَ قَوْلَهُ : "لِمَا رَأَيْتُ أَمْرَهَا فِي حُطِّي " مَقَامَ خَبَرِهِ عَنْهَا أَنَّهَا فِي "أَبِي جَادٍ " ، إِذْ كَانَ ذَاكَ مِنْ قَوْلِهِ ، يَدُلُّ سَامِعَهُ عَلَى مَا يَدُلُّهُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : لِمَا رَأَيْتُ أَمْرَهَا فِي "أَبِي جَادٍ " .

وَقَالَ آخَرُونَ : بَلِ ابْتُدِئَتْ بِذَلِكَ أَوَائِلُ السُّورِ لِيَفْتَحَ لِاسْتِمَاعِهِ أَسْمَاعَ الْمُشْرِكِينَ - إِذْ تَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ - حَتَّى إِذَا اسْتَمَعُوا لَهُ ، تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْمُؤَلَّفُ مِنْهُ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْحُرُوفُ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ السُّوَرِ حُرُوفٌ يَسْتَفْتِحُ اللَّهُ بِهَا كَلَامَهُ .

فَإِنْ قِيلَ : هَلْ يَكُونُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ لَهُ مَعْنَى ؟

قِيلَ : مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ افْتَتَحَ بِهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ السُّورَةَ الَّتِي قَبِلَهَا قَدِ انْقَضَتْ ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي أُخْرَى ، فَجَعَلَ هَذَا عَلَّامَةَ انْقِطَاعٍ مَا بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، يُنْشِدُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الشِّعْرَ فَيَقُولُ :


بَلْ وَبَلْدَةٍ مَا الْإِنْسُ مِنْ آهَالِهَا


وَيَقُولُ :


لَا بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا


وَ "بَلْ " لَيْسَتْ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا تُعَدُّ فِي وَزْنِهِ ، وَلَكِنْ يَقْطَعُ بِهَا كَلَامًا وَيَسْتَأْنِفُ الْآخَرَ . [ ص: 211 ]

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَالَهَا الَّذِينَ وَصَفْنَا قَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَجْهٌ مَعْرُوفٌ .

فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : "الم " ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ ، فَلِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَجْهَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنْ "الم " اسْمٌ لِلْقُرْآنِ ، كَمَا الْفُرْقَانُ اسْمٌ لَهُ . وَإِذَا كَانَ مَعْنَى قَائِلِ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ . كَأَنَّهُ قَالَ : وَالْقُرْآنِ ، هَذَا الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ .

وَالْآخَرُ مِنْهُمَا : أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ السُّورَةِ الَّتِي تُعَرَفُ بِهِ ، كَمَا تُعْرَفُ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ بِأَسْمَائِهَا الَّتِي هِيَ لَهَا أَمَارَاتٌ تُعَرَفُ بِهَا ، فَيَفْهَمُ السَّامِعُ مِنَ الْقَائِلِ يَقُولُ : - قَرَأْتُ الْيَوْمَ "المص " وَ "ن " - ، أَيِ السُّوَرِ الَّتِي قَرَأَهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ ، كَمَا يَفْهَمُ عَنْهُ - إِذَا قَالَ : لَقِيتُ الْيَوْمَ عَمْرًا وَزَيْدًا ، وَهَمَّا بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو عَارِفَانِ - مَنِ الَّذِي لَقِيَ مِنَ النَّاسِ .

وَإِنْ أَشْكَلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى امْرِئٍ فَقَالَ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، وَنَظَائِرُ "الم " "الر " فِي الْقُرْآنِ جَمَاعَةٌ مِنَ السُّورِ ؟ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْأَسْمَاءُ أَمَارَاتٍ إِذَا كَانَتْ مُمَيِّزَةً بَيْنَ الْأَشْخَاصِ ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُمَيَّزَةٍ فَلَيْسَتْ أَمَارَاتٍ .

قِيلَ : إِنَّ الْأَسْمَاءَ - وَإِنْ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ ، لِاشْتِرَاكِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا ، غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ إِلَّا بِمَعَانَ أُخَرَ مَعَهَا مِنْ ضَمِّ نِسْبَةِ الْمُسَمَّى بِهَا إِلَيْهَا أَوْ نَعْتِهِ أَوْ صِفَتِهِ ، بِمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ أَشْكَالِهَا - فَإِنَّهَا وُضِعَتِ ابْتِدَاءً لِلتَّمْيِيزِ لَا شَكَ . ثُمَّ احْتِيجَ ، عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ ، إِلَى الْمَعَانِي الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْن ِ بِهَا . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي أَسْمَاءِ السُّوَرِ . جُعِلَ كُلُّ اسْمٍ - فِي قَوْلٍ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ - أَمَارَةً لِلْمُسَمَّى بِهِ مِنَ السُّورِ . فَلَمَّا شَارَكَ الْمُسَمَّى بِهِ فِيهِ غَيْرَهُ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ ، احْتَاجَ الْمُخْبِرُ عَنْ [ ص: 212 ] سُورَةٍ مِنْهَا أَنْ يَضُمَّ إِلَى اسْمِهَا الْمُسَمَّى بِهِ مِنْ ذَلِكَ ، مَا يُفَرِّقُ بِهِ السَّامِعُ بَيْنَ الْخَبَرِ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا ، مِنْ نَعْتٍ وَصِفَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَيَقُولُ الْمُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّهُ تَلَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، إِذَا سَمَّاهَا بِاسْمِهَا الَّذِي هُوَ "الم " : قَرَأْتُ "الم الْبَقَرَةَ " ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ : قَرَأْتُ "الم آلَ عِمْرَانَ " ، وَ "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وَ "الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " . كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخَبَرَ عَنْ رَجُلَيْنِ ، اسْمُ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا "عَمْرٌو " ، غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَمِيمِيٌّ وَالْآخِرَ أَزْدِيٌّ ، لَلَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَرَادَ إِخْبَارَهُ عَنْهُمَا : لَقِيتُ عَمْرًا التَّمِيمِيَّ وَعَمْرًا الْأَزْدِيَّ ، إِذْ كَانَ لَا يَفْرُقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يُشَارِكُهُمَا فِي أَسْمَائِهِمَا ، إِلَّا بِنِسْبَتِهِمَا كَذَلِكَ . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّورِ .

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : ذَلِكَ فَوَاتِحُ يَفْتَتِحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا كَلَامَهُ ، فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى نَحْوِ الْمَعْنَى الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ حَكَيْنَا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، أَنَّهُ قَالَ : ذَلِكَ أَدِلَّةٌ عَلَى انْقِضَاءٍ سُورَةٍ وَابْتِدَاءٍ فِي أُخْرَى ، وَعَلَامَةٌ لِانْقِطَاعٍ مَا بَيْنَهُمَا ، كَمَا جُعِلَتْ "بَلْ " فِي ابْتِدَاءِ قَصِيدَةٍ دَلَالَةً عَلَى ابْتِدَاءٍ فِيهَا ، وَانْقِضَاءِ أُخْرَى قَبْلَهَا كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادُوا الِابْتِدَاءَ فِي إِنْشَادِ قَصِيدَةٍ ، قَالُوا :


بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا


وَ "بَلْ " لَيْسَتْ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا دَاخِلَةً فِي وَزْنِهِ ، وَلَكِنْ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى قَطْعِ كَلَامٍ وَابْتِدَاءِ آخَرَ .

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : ذَلِكَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ بَعْضُهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَبَعْضُهَا مِنْ صِفَاتِهِ ، وَلِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنَى الْحَرْفِ الْآخَرِ ، فَإِنَّهُمْ نَحَوْا بِتَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ :


قُلْنَا لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَافْ لَا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الْإِيجَافْ
[ ص: 213 ]

يَعْنِي بِقَوْلِهِ : "قَالَتْ قَافٌ " ، قَالَتْ : قَدْ وَقَفْتُ . فَدَلَّتْ بِإِظْهَارِ الْقَافِ مَنْ "وَقَفَتْ " ، عَلَى مُرَادِهَا مِنْ تَمَامِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ "وَقَفْتُ" . فَصَرَفُوا قَوْلَهُ : "الم " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، إِلَى نَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى . فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَلِفُ أَلِفُ "أَنَا " ، وَاللَّامُ لَامُ "اللَّهُ " ، وَالْمِيمُ مِيمُ "أَعْلَمُ " ، وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى كَلِمَةٍ تَامَّةٍ . قَالُوا : فَجُمْلَةُ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ إِذَا ظَهَرَ مَعَ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهُنَّ تَمَامُ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ ، "أَنَا " اللَّهُ أَعْلَمُ " . قَالُوا : وَكَذَلِكَ سَائِرُ جَمِيعِ مَا فِي أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ ، فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ . قَالُوا : وَمُسْتَفِيضٌ ظَاهِرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُنْقِصَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ مَنَ الْكَلِمَةِ الْأَحْرُفَ ، إِذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا حَذَفَ مِنْهَا - وَيَزِيدَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا ، إِذَا لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُلَبِّسَةً مَعْنَاهَا عَلَى سَامِعِهَا - كَحَذْفِهِمْ فِي النَّقْصِ فِي التَّرْخِيمِ مِنْ "حَارِثٍ " الثَّاءَ ، فَيَقُولُونَ : يَا حَارِ ، وَمِنْ "مَالِكٍ " الْكَافَ ، فَيَقُولُونَ : يَا مَالِ ، وَأَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ ، وَكَقَوْلِ رَاجِزِهِمْ :


مَا لِلظَلِيمِ عَالَ ؟ كَيْفَ لَا يَا يَنْقَدُّ عَنْهُ جِلْدُهُ إِذَا يَا


كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ : إِذَا يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا ، فَاكْتَفَى بِالْيَاءِ مَنْ "يَفْعَلُ " ، وَكَمَا قَالَ آخَرُ مِنْهُمْ :


بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإِنْ شَرًّا فَا


يُرِيدُ : فَشَرًّا .


وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا


.

يُرِيدُ : إِلَّا أَنْ تَشَاءَ ، فَاكْتَفَى بِالتَّاءِ وَالْفَاءِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ جَمِيعًا ، مِنْ سَائِرِ حُرُوفِهِمَا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ الَّتِي يَطُولُ الْكِتَابُ بِاسْتِيعَابِهِ . [ ص: 214 ]

245 - وَكَمَا حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، وَابْنُ عَوْنٍ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِي عَبْدَةُ : إِنِّي لَا أَرَاهَا إِلَّا كَائِنَةً فِتْنَةً ، فَافْزَعْ مِنْ ضَيْعَتِكَ وَالْحَقْ بِأَهْلِكَ . قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : أَحَبُّ إِلَيَّ لَكَ أَنْ تَا - قَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ بَيْدِهِ تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ ، يَصِفُ الِاضْطِجَاعَ - حَتَّى تَرَى أَمْرًا تَعْرِفُهُ .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : يَعْنِي بِ "تَا " تَضْطَجِعُ ، فَاجْتَزَأَ بِالتَّاءِ مَنْ تَضْطَجِعُ . وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي وَصَفْتُ :


أَقُولُ إِذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ يَا نَاقَتِي مَا جُلْتِ مِنْ مَجَالِ


يُرِيدُ : الْكَلْكَلُ ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ :


إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَكَ شَتَّى فَالْزَمِي الْخُصَّ وَاخْفِضِي تَبْيَضِّضِي


.

فَزَادَ ضَادًا ، وَلَيْسَتْ فِي الْكَلِمَةِ .

قَالُوا : فَكَذَلِكَ مَا نَقَصَ مِنْ تَمَامِ حُرُوفِ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَتِمَّةُ حُرُوفِ "الم " وَنَظَائِرُهَا - نَظِيرُ مَا نَقَصَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنِ الْعَرَبِ فِي أَشْعَارِهَا وَكَلَامِهَا .

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : كُلُّ حَرْفٍ مِنْ "الم " وَنَظَائِرُهَا ، دَالٌّ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى - [ ص: 215 ] نَحْوَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ - فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى مِثْلِ الَّذِي وَجَّهَهُ إِلَيْهِ مَنْ قَالَ : هُوَ بِتَأْوِيلِ "أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ " ، فِي أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهُ بَعْضُ حُرُوفِ كَلِمَةٍ تَامَّةٍ ، اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَتِهِ عَلَى تَمَامِهِ عَنْ ذِكْرِ تَمَامِهِ - وَإِنْ كَانُوا لَهُ مُخَالِفِينَ فِي كُلِّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ : أَهْوَ مِنَ الْكَلِمَةِ الَّتِي ادَّعَى أَنَّهُ مِنْهَا قَائِلُو الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، أَمْ مِنْ غَيْرِهَا ؟ فَقَالُوا : بَلِ الْأَلْفُ مِنْ "الم " مِنْ كَلِمَاتٍ شَتَّى ، هِيَ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَعَلَى تَمَامِهِ . قَالُوا : وَإِنَّمَا أَفْرَدَ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَصَّرَ بِهِ عَنْ تَمَامِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ ، أَنَّ جَمِيعَ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ لَوْ أُظْهِرَتْ ، لَمْ تَدُلَّ الْكَلِمَةُ الَّتِي تُظْهَرُ - الَّتِي بَعْضُ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ بَعْضٌ لَهَا - إِلَّا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ لَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْهُمَا . قَالُوا : وَإِذْ كَانَ لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ ، لَوْ أَظْهَرَ جَمِيعَهَا ، إِلَّا عَلَى مَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ ، وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَرَادَ الدَّلَالَةَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ - لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُفْرَدَ الْحَرْفُ الدَّالُّ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي ، لِيَعْلَمَ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْصِدْ قَصْدَ مَعْنًى وَاحِدٍ وَدَلَّالَةٍ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الدَّلَالَةَ بِهِ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ . قَالُوا : فَالْأَلِفُ مِنْ "الم " مُقْتَضِيَةٌ مَعَانِيَ كَثِيرَةً ، مِنْهَا تَمَامُ اسْمِ الرَّبِّ الَّذِي هُوَ "اللَّهُ " ، وَتَمَامُ اسْمِ نَعْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ آلَاءُ اللَّهِ ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ سَنَةٌ ، إِذَا كَانَتِ الْأَلِفُ فِي حِسَابِ الْجُمَّلِ وَاحِدًا . وَاللَّامُ مُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ لَطِيفٌ ، وَتَمَامَ اسْمَ فَضْلِهِ الَّذِي هُوَ لُطْفٌ ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً . وَالْمِيمُ مُقْتَضِيَةٌ تَمَامَ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ مَجِيدٌ ، وَتَمَامَ اسْمِ عَظَمَتِهِ الَّتِي هِيَ مَجْدٌ ، وَالدَّلَالَةَ عَلَى أَجَلِ قَوْمٍ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً . فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ - فِي تَأْوِيلِ قَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ - أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ افْتَتَحَ كَلَامَهُ بِوَصْفِ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ مَنْهَجًا يَسْلُكُونَهُ فِي مُفْتَتَحِ خُطَبِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ وَمُهِمِّ أُمُورِهِمْ ، وَابْتِلَاءً مِنْهُ لَهُمْ لِيَسْتَوْجِبُو ا بِهِ عَظِيمَ الثَّوَابِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ ، .

كَمَا افْتَتَحَ بِ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، وَ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ) ، سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 1 [ ص: 216 ] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ السُّوَرِ الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِحَهَا الْحَمْدَ لِنَفْسِهِ ، وَكَمَا جَعَلَ مَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَعْظِيمَ نَفْسِهِ وَإِجْلَالَهَا بِالتَّسْبِيحِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ) سُورَةُ الْإِسْرَاءِ : 1 ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ ، الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَحْمِيدَ نَفْسِهِ ، وَمَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَمْجِيدَهَا ، وَمَفَاتِحَ بَعْضِهَا تَعْظِيمَهَا وَتَنْزِيهَهَا . فَكَذَلِكَ جَعَلَ مَفَاتِحَ السُّورِ الْأُخَرِ الَّتِي أَوَائِلُهَا بَعْضُ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، مَدَائِحَ نَفْسِهِ ، أَحْيَانًا بِالْعِلْمِ ، وَأَحْيَانًا بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، وَأَحْيَانًا بِالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ ، بِإِيجَازٍ وَاخْتِصَارٍ ، ثُمَّ اقْتِصَاصَ الْأُمُورِ بَعْدَ ذَلِكَ .

وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَالْمِيمُ فِي أَمَاكِنِ الرَّفْعِ ، مَرْفُوعًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ، دُونَ قَوْلِهِ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، وَيَكُونُ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " خَبَرًا مُبْتَدَأً مُنْقَطِعًا عَنْ مَعْنَى "الم " . وَكَذَلِكَ "ذَلِكَ " فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي ، مَرْفُوعٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِ قَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ .

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : هُنَّ حُرُوفٌ مِنْ حُرُوفِ حِسَابِ الْجُمَلِ دُونَ مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَا نَعْرِفُ لِلْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ مَعْنًى يُفْهَمُ سِوَى حِسَابِ الْجُمَلِ ، وَسِوَى تَهَجِّي قَوْلِ الْقَائِلِ : "الم " . وَقَالُوا : غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُونَهُ وَيَعْقِلُونَهُ عَنْهُ . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - وَكَانَ قَوْلُهُ "الم " لَا يُعْقَلُ لَهَا وَجْهٌ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ ، إِلَّا أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا ، فَبَطَلَ أَحَدُ وَجْهَيْهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا تَهَجِّي "الم " - صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي ، وَهُوَ حِسَابُ الْجُمَلِ; لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : "الم " لَا يَجُوزُ أَنْ يَلِيَهُ مِنَ الْكَلَامِ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَخُرُوجِهِ عَنِ الْمَعْقُولِ ، إِنْ وَلِيَ "الم " "ذَلِكَ الْكِتَابُ " .

وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا : -

https://i.imgur.com/4ONJhpH.gif



ابوالوليد المسلم 05-02-2022 02:08 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(2)
الحلقة (18)
صــ 225إلى صــ 229



246 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ ، قَالَ : مَرَّ [ ص: 217 ] أَبُو يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ) ، فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ مِنْ يَهُودَ فَقَالَ : تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ ، لَقَدْ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَتْلُو فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ ) فَقَالُوا : أَنْتَ سَمِعْتَهُ ؟ قَالَ : نَعِمَ! قَالَ : فَمَشَى حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ يَهُودَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ، أَلَمْ يُذْكَرْ لَنَا أَنَّكَ تَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلَى! فَقَالُوا : أَجَاءَكَ بِهَذَا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعِمَ! قَالُوا : لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءُ ، مَا نَعْلَمُهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مِنْهُمْ ، مَا مُدَّةَ مِلْكِهِ وَمَا أَكْلَ أُمَّتَهُ غَيْرَكَ! فَقَالَ : حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ : الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً . أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِينِ نَبِيٍّ إِنَّمَا مُدَّةُ مُلْكِهِ وَأَكْلِ أُمَّتِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً ؟ قَالَ : ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ ؟ قَالَ : نَعِمَ ! قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : ( المص ) . قَالَ : هَذِهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ ، الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ ، وَالصَّادُ تِسْعُونَ ، فَهَذِهِ مِائَةٌ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً . هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ غَيْرُهُ ؟ قَالَ : نَعِمَ ! قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : ( الر ) . قَالَ : هَذِهِ [ ص: 218 ] [ ص: 219 ] وَاللَّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ . الْأَلْفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالرَّاءُ مِائَتَانِ ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ ، فَقَالَ : هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ : نَعِمَ ، ( المر ) ، قَالَ : فَهَذِهِ وَاللَّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ ، وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ ، وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ ، وَالرَّاءُ مِائَتَانِ ، فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ . ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ يَا مُحَمَّدُ ، حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلَا أَعْطَيْتَ أَمْ كَثِيرًا ؟ ثُمَّ قَامُوا عَنْهُ . فَقَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ حُيِّيَ بُنِ أَخْطَبَ ، وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْبَارِ : مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا كُلُّهُ لِمُحَمَّدٍ ، إِحْدَى وَسَبْعُونَ ، وَإِحْدَى وَسِتُّونَ وَمِائَةٌ ، وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ ، وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ ، فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ! فَقَالُوا : لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ! وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) . [ ص: 220 ]

قَالُوا : فَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الْخَبَرُ بِصِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ ، وَفَسَادِ مَا قَالَهُ مُخَالِفُونَا فِيهِ .

وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي فِي تَأْوِيلِ مَفَاتِحِ السُّورِ ، الَّتِي هِيَ حُرُوفُ الْمُعْجَمِ : أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَهَا حُرُوفًا مُقَطَّعَةً وَلَمْ يَصِلْ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ - فَيَجْعَلُهَا كَسَائِرِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ الْحُرُوفُ - لِأَنَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ أَرَادَ بِلَفْظِهِ الدَّلَالَةَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ ، لَا عَلَى مَعْنَى وَاحِدٍ ، كَمَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ . وَإِنْ كَانَ الرَّبِيعُ قَدِ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ ، دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا .

وَالصَّوَابُ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ عِنْدِي : أَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهُ يَحْوِي مَا قَالَهُ الرَّبِيعُ ، وَمَا قَالَهُ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ غَيْرُهُ فِيهِ - سِوَى مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْقَوْلِ عَمَّنْ ذَكَرَتْ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ : أَنَّهُ كَانَ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ حُرُوفُ هِجَاءٍ ، اسْتُغْنِيَ [ ص: 221 ] بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهُ فِي مَفَاتِيحِ السُّورِ ، عَنْ ذِكْرِ تَتِمَّةِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، بِتَأْوِيلِ : أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ ، ذَلِكَ الْكِتَابُ ، مَجْمُوعَةٌ ، لَا رَيْبَ فِيهِ - فَإِنَّهُ قَوْلٌ خَطَّأٌ فَاسِدٌ ، لِخُرُوجِهِ عَنْ أَقْوَالِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخَالِفِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ . فَكَفَى دَلَالَةً عَلَى خَطَئِهِ ، شَهَادَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالْخَطَأِ ، مَعَ إِبْطَالِ قَائِلِ ذَلِكَ قَوْلَهُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ - إِذْ صَارَ إِلَى الْبَيَانِ عَنْ رَفْعِ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " - بِقَوْلِهِ مَرَّةً إِنَّهُ مَرْفُوعٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ ، وَمَرَّةً أُخْرَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِالرَّاجِعِ مِنْ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ " لَا رَيْبَ فِيهِ " وَمَرَّةً بِقَوْلِهِ " هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " . وَذَلِكَ تَرْكٌ مِنْهُ لِقَوْلِهِ : إِنَّ "الم " رَافِعَةٌ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وَخُرُوجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي ادَّعَاهُ فِي تَأْوِيلِ " الم ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وَأَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ : هَذِهِ الْحُرُوفُ ذَلِكَ الْكِتَابُ .

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَرْفٌ وَاحِدٌ شَامِلًا الدَّلَالَةَ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ ؟

قِيلَ : كَمَا جَازَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ ، كَقَوْلِهِمْ لِلْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ : أُمَّةٌ ، وَلِلْحِينِ مِنَ الزَّمَانِ : أُمَّةٌ ، وَلِلرَّجُلِ الْمُتَعَبِّدِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ : أُمَّةٌ ، وَلِلدِّينِ وَالْمِلَّةِ : أُمَّةٌ . وَكَقَوْلِهِمْ لِلْجَزَاءِ وَالْقِصَاصِ : دِينٌ ، وَلِلسُّلْطَانِ وَالطَّاعَةِ : دِينٌ ، وَلِلتَّذَلُّلِ : دِينٌ ، وَلِلْحِسَابِ : دِينٌ ، فِي أَشْبَاهٍ لِذَلِكَ كَثِيرَةٍ يَطُولُ الْكِتَابُ بِإِحْصَائِهَا - مِمَّا يَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : "الم " وَ "الر " ، وَ "المص " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ أَوَائِلِ السُّوَرِ ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَالٌّ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى ، شَامِلٌ جَمِيعَهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتِهِ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ . وَهُنَّ ، مَعَ ذَلِكَ ، فَوَاتِحُ السُّوَرِ ، كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ . [ ص: 222 ] وَلَيْسَ كَوْنٌ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ أَسْمَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصِفَاتِهِ ، بِمَانِعِهَا أَنْ تَكُونَ لِلسُّورِ فَوَاتِحَ . لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدِ افْتَتَحَ كَثِيرًا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْحَمْدِ لِنَفْسِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهَا ، وَكَثِيرًا مِنْهَا بِتَمْجِيدِهَا وَتَعْظِيمِهَا ، فَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَبْتَدِئَ بَعْضَ ذَلِكَ بِالْقَسَمِ بِهَا .

فَالَّتِي ابْتُدِئَ أَوَائِلُهَا بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، أَحَدُ مَعَانِي أَوَائِلِهَا : أَنَّهُنَّ فَوَاتِحُ مَا افْتَتَحَ بِهِنَّ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ . وَهُنَّ مِمَّا أَقْسَمَ بِهِنَّ ، لِأَنَّ أَحَدَ مَعَانِيهِنَّ أَنَّهُنَّ مِنْ حُرُوفِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَصِفَاتِهِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْهَا ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ مَعْنَى الْقَسَمِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . وَهُنَّ مَنَّ حُرُوفِ حِسَابِ الْجُمَّلِ . وَهُنَّ لِلسُّوَرِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهِنَّ شِعَارٌ وَأَسْمَاءٌ . فَذَلِكَ يُحْوَى مَعَانِيَ جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا ، مِمَّا بَيَّنَا ، مِنْ وُجُوهِهِ . لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، الدَّلَالَةَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ ذَلِكَ ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي غَيْرِهِ ، لَأَبَانَ ذَلِكَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبَانَةً غَيْرَ مُشْكِلَةٍ . إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ كِتَابَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَفِي تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبَانَةَ ذَلِكَ - أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ مِنْ وُجُوهِ تَأْوِيلِهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ - أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ وُجُوهِهِ الَّتِي هُوَ لَهَا مُحْتَمَلٌ . إِذْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا فِي الْعَقْلِ وَجْهٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَمَعْنَاهُ ، كَمَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ اجْتِمَاعُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ ، بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ ، فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ .

وَمِنْ أَبَى مَا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ ، سُئِلَ الْفَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْحُرُوفِ الَّتِي تَأْتِي بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ ، كَالْأُمَّةِ وَالدِّينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ . فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مَثْلَهُ .

وَكَذَلِكَ يُسْأَلُ كُلُّ مَنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ - عَلَى وَجْهٍ دُونَ الْأَوْجُهِ الْأُخَرِ [ ص: 223 ] الَّتِي وَصَفْنَا - عَنِ الْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَاهُ ، مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ . ثُمَّ يُعَارَضُ بِقَوْلِ مُخَالِفِهِ فِي ذَلِكَ ، وَيُسْأَلُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ : مِنْ أَصْلٍ ، أَوْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلٌ . فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مَثْلَهُ .

وَأَمَّا الَّذِي زَعَمَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ : أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ "بَلْ " فِي قَوْلِ الْمُنْشِدِ شِعْرًا :


بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا


وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْكَلَامِ مَعْنَاهُ الطَّرْحُ - فَإِنَّهُ أَخْطَأَ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى

أَحَدُهَا : أَنَّهُ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَنَّهُ خَاطَبَ الْعَرَبَ بِغَيْرِ مَا هُوَ مِنْ لُغَتِهَا ، وَغَيْرِ مَا هُوَ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ . إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ - وَإِنْ كَانَتْ قَدْ كَانَتْ تَفْتَتِحُ أَوَائِلَ إِنْشَادِهَا مَا أَنْشَدَتْ مِنَ الشِّعْرِ بِ "بَلْ " - فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَبْتَدِئُ شَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ بِ "الم " وَ "الر " وَ "المص " ، بِمَعْنَى ابْتِدَائِهَا ذَلِكَ بِ "بَلْ " . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنِ ابْتِدَائِهَا - وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ ، بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَاتِهِمْ ، وَيَسْتَعْمِلُو نَ بَيْنَهُمْ مِنْ مَنْطِقِهِمْ ، فِي جَمِيعِ آيِهِ - فَلَا شَكَّ أَنَّ سَبِيلَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا أَوَائِلُ السُّوَرِ ، الَّتِي هُنَّ لَهَا فَوَاتِحُ ، سَبِيلُ سَائِرِ الْقُرْآنِ ، فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بِهَا عَنْ لُغَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا بِهَا عَارِفِينَ ، وَلَهَا بَيْنُهُمْ فِي مَنْطِقِهِمْ مُسْتَعْمِلِينِ . لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ سَبِيلِ لُغَاتِهِمْ وَمَنْطِقِهِمْ ، كَانَ خَارِجًا عَنْ مَعْنَى الْإِبَانَةِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا الْقُرْآنَ ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) . وَأَنَّى يَكُونُ مُبِينًا مَا لَا يَعْقِلُهُ وَلَا يَفْقَهُهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ ، فِي قَوْلِ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ، وَلَا يُعْرَفُ فِي مَنْطِقِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ ، فِي قَوْلِهِ ؟ وَفِي إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ، مَا يُكَذِّبُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ، وَيُنْبِئُ عَنْهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا بِهِ [ ص: 224 ] عَالِمِينَ ، وَهُوَ لَهَا مُسْتَبِينٌ . فَذَلِكَ أَحَدُ أَوْجُهِ خَطَئِهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ خَطَئِهِ فِي ذَلِكَ : إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ خَاطَبَ عِبَادَهُ بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا مَعْنَى لَهُ ، مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي سَوَاءٌ الْخِطَابُ فِيهِ بِهِ وَتَرْكُ الْخَطَّابِ بِهِ . وَذَلِكَ إِضَافَةُ الْعَبَثِ الَّذِي هُوَ مَنْفِيٌّ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ عَنِ اللَّهِ - إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ .

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ خَطَئِهِ : أَنْ "بَلْ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَفْهُومٌ تَأْوِيلِهَا وَمَعْنَاهَا ، وَأَنَّهَا تُدْخِلُهَا فِي كَلَامِهَا رُجُوعًا عَنْ كَلَامٍ لَهَا قَدْ تَقَضَّى كَقَوْلِهِمْ : مَا جَاءَنِي أَخُوكَ بَلْ أَبُوكَ ; وَمَا رَأَيْتُ عَمْرًا بَلْ عَبْدَ اللَّهِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ ، كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ :


وَلَأَشْرَبَنَّ ثَمَانِيًا وَثَمَانِيًا وَثَلَاثَ عَشْرَةَ وَاثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعَا


وَمَضَى فِي كَلِمَتِهِ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ :


بِالْجُلَّسَانِ ، وَطَيِّبٌ أَرْدَانُهُ بِالْوَنِّ يَضْرِبُ لِي يَكُرُّ الْإِصْبَعَا


ثُمَّ قَالَ :


بَلْ عَدِّ هَذَا فِي قَرِيضٍ غَيْرِهِ وَاذْكُرْ فَتًى سَمْحَ الْخَلِيقَةِ أَرْوَعَا


فَكَأَنَّهُ قَالَ : دَعْ هَذَا وَخُذْ فِي قَرِيضِ غَيْرِهِ . فَ "بَلْ " إِنَّمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْكَلَامِ ، فَأَمَّا افْتِتَاحًا لِكَلَامِهَا مُبْتَدَأً بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ وَالْحَذْفِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنَى ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ادَّعَاهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَنْطِقِهَا ، سِوَى الَّذِي ذَكَرْتُ قَوْلَهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَصْلًا يُشَبَّهُ بِهِ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ الَّتِي هِيَ فَوَاتِحُ سُوَرِ الْقُرْآنِ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا - لَوْ كَانَتْ لَهُ مُشْبِهَةً - فَكَيْفَ وَهِيَ مِنَ الشَّبَهِ بِهِ بَعِيدَةٌ ؟


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) .

قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ : تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) : هَذَا الْكِتَابُ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

247 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ الْكُوفِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : "ذَلِكَ الْكِتَابُ " قَالَ : هُوَ هَذَا الْكِتَابُ .

248 - حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا خَالِدُ الْحَذَّاءِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ : "ذَلِكَ الْكِتَابُ " : هَذَا الْكِتَابُ .

249 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ ، عَنِ السُّدِّيِّ ، فِي قَوْلِهِ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " قَالَ : هَذَا الْكِتَابُ .

250 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ . قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجُ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَوْلُهُ : "ذَلِكَ الْكِتَابُ " : هَذَا الْكِتَابُ . قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : "ذَلِكَ الْكِتَابُ " : هَذَا الْكِتَابُ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنَّ يَكُونَ "ذَلِكَ " بِمَعْنَى "هَذَا " ؟ وَ "هَذَا " لَا شَكَّ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ مُعَايَنٍ ، وَ "ذَلِكَ " إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ غَيْرِ حَاضِرٍ وَلَا مُعَايَنٍ ؟ [ ص: 226 ]

قِيلَ : جَازَ ذَلِكَ ، لِأَنَّ كُلَّ مَا تَقَضَّى ، بِقُرْبِ تَقَضِّيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ ، فَهُوَ - وَإِنْ صَارَ بِمَعْنَى غَيْرِ الْحَاضِرِ - فَكَالْحَاضِرِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ . وَذَلِكَ كَالرَّجُلِ يُحَدِّثُ الرَّجُلَ الْحَدِيثَ فَيَقُولُ السَّامِعُ : "إِنَّ ذَلِكَ وَاللَّهِ لَكُمَا قُلْتَ " ، وَ "هَذَا وَاللَّهِ كَمَا قُلْتَ " ، وَ "هُوَ وَاللَّهِ كَمَا ذَكَرْتَ " ، فَيُخْبِرُ عَنْهُ مَرَّةً بِمَعْنَى الْغَائِبَ ، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَضَّى وَمَضَى ، وَمَرَّةً بِمَعْنَى الْحَاضِرِ ، لِقُرْبِ جَوَابِهِ مِنْ كَلَامِ مُخْبِرِهِ ، كَأَنَّهُ غَيْرُ مُنْقَضٍ . فَكَذَلِكَ "ذَلِكَ " فِي قَوْلِهِ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ لَمَّا قَدَّمَ قَبْلَ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " "الم" ، الَّتِي ذَكَرْنَا تَصَرُّفَهَا فِي وُجُوهِهَا مِنَ الْمَعَانِي عَلَى مَا وَصَفْنَا ، قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مُحَمَّدُ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ وَبَيَّنْتُهُ لَكَ ، الْكِتَابُ . وَلِذَلِكَ حَسُنَ وَضْعُ "ذَلِكَ " فِي مَكَانِ "هَذَا " ، لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الْخَبَرِ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ "الم" مِنَ الْمَعَانِي ، بَعْدَ تَقَضِّي الْخَبَرِ عَنْهُ بِ "الم" ، فَصَارَ لِقُرْبِ الْخَبَرِ عَنْهُ مَنْ تَقَضِّيهِ ، كَالْحَاضِرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ ، فَأَخْبَرَ بِهِ بِ "ذَلِكَ " لِانْقِضَائِهِ ، وَمَصِيرُ الْخَبَرِ عَنْهُ كَالْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ ، وَتَرْجَمَهُ الْمُفَسِّرُونَ : أَنَّهُ بِمَعْنَى "هَذَا " ، لِقُرْبِ الْخَبَرِ عَنْهُ مِنِ انْقِضَائِهِ ، فَكَانَ كَالْمُشَاهَدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِ "هَذَا " ، نَحْوَ الَّذِي وَصَفْنَا مِنَ الْكَلَامِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ فِي مُحَاوَرَاتِهِم ْ ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ : ( وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ ) سُورَةُ ص : 48 ، 49 فَهَذَا مَا فِي "ذَلِكَ " إِذَا عَنَى بِهَا "هَذَا " .

وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ السُّوَرُ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مُحَمَّدُ ، اعْلَمْ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُوَرُ الْكِتَابِ الَّتِي قَدْ أَنْزَلْتُهَا إِلَيْكَ ، هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ . ثُمَّ تَرْجَمَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِأَنَّ مَعْنَى "ذَلِكَ " "هَذَا الْكِتَابُ " ، [ ص: 227 ] إِذْ كَانَتْ تِلْكَ السُّوَرُ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، مِنْ جُمْلَةِ جَمِيعِ كِتَابِنَا هَذَا ، الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَكَانَ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ مَعَانِي قَوْلِهِمُ الَّذِي قَالُوهُ فِي "ذَلِكَ " .

وَقَدْ وَجَّهَ مَعْنَى "ذَلِكَ " بَعْضُهُمْ ، إِلَى نَظِيرِ مَعْنَى بَيْتِ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ السُّلَّمِيِّ :


فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا فَعَمْدًا عَلَى عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا

أَقُولُ لَهُ ، وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ : تَأَمَّلْ خُفَافًا ، إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا


كَأَنَّهُ أَرَادَ : تَأَمَّلْنِي أَنَا ذَلِكَ . فَزَعَمَ أَنَّ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " بِمَعْنَى "هَذَا " ، نَظِيرُهُ . أَظْهَرُ خِفَافٌ مِنِ اسْمِهِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ ، وَهُوَ مُخْبِرٌ عَنْ نَفْسِهِ . فَكَذَلِكَ أَظْهَرَ "ذَلِكَ " بِمَعْنَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ .

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْكِتَابِ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَلِ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، يَعْنِي بِهِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ، وَإِذَا وُجِّهَ [ ص: 228 ] تَأْوِيلُ "ذَلِكَ " إِلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَلَا مَؤُونَةَ فِيهِ عَلَى مُتَأَوِّلِهِ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ "ذَلِكَ " يَكُونُ حِينَئِذٍ إِخْبَارًا عَنْ غَائِبٍ عَلَى صِحَّةٍ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( لَا رَيْبَ فِيهِ ) .

وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " " لَا شَكَّ فِيهِ " . كَمَا : -

251 - حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : لَا رَيْبَ فِيهِ ، قَالَ : لَا شَكَّ فِيهِ .

252 - حَدَّثَنِي سَلَّامُ بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ يَاسِينَ الْكُوفِيُّ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، " لَا رَيْبَ فِيهِ " : قَالَ : لَا شَكَّ فِيهِ .

253 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ ، عَنِ السُّدِّيِّ ، قَالَ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، لَا شَكَّ فِيهِ .

254 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيُّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، لَا شَكَّ فِيهِ .

255 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، [ ص: 229 ] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، قَالَ : لَا شَكَّ فِيهِ .

256 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجُ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، يَقُولُ : لَا شَكَّ فِيهِ .

257 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ ، عَنْ قَتَادَةَ : " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، يَقُولُ : لَا شَكَّ فِيهِ .

258 - حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ : قَوْلُهُ " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، يَقُولُ : لَا شَكَّ فِيهِ .

وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : رَابَنِي الشَّيْءُ يَرِيبُنِي رَيْبًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّةَ الْهُذَلِيِّ :


فَقَالُوا : تَرَكْنَا الْحَيَّ قَدْ حَصِرُوا بِهِ ، فَلَا رَيْبَ أَنْ قَدْ كَانَ ثَمَّ لَحِيمُ


وَيُرْوَى : "حَصَرُوا " وَ "حَصِرُوا " وَالْفَتْحُ أَكْثَرُ ، وَالْكَسْرُ جَائِزٌ . يَعْنِي بِقَوْلِهِ "حَصَرُوا بِهِ " : أَطَافُوا بِهِ . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ " لَا رَيْبَ " . لَا شَكَّ فِيهِ . وَبِقَوْلِهِ "أَنَّ قَدْ كَانَ ثَمَّ لَحِيمُ " ، يَعْنِي قَتِيلًا يُقَالُ : قَدْ لُحِمَ ، إِذَا قُتِلَ .

وَالْهَاءُ الَّتِي فِي "فِيهِ " عَائِدَةٌ عَلَى الْكِتَابِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .
https://i.imgur.com/4ONJhpH.gif


ابوالوليد المسلم 05-02-2022 02:11 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(3)
الحلقة (19)
صــ 230إلى صــ 236

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( هُدًى )

259 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا [ ص: 230 ] سُفْيَانُ ، عَنْ بَيَانٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، "هُدًى " قَالَ : هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ .

260 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيُّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، "هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " ، يَقُولُ : نُورٌ لِلْمُتَّقِينَ .

وَالْهُدَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ : هَدَيْتُ فُلَانًا الطَّرِيقَ - إِذَا أَرْشَدْتَهُ إِلَيْهِ ، وَدَلَلَتْهُ عَلَيْهِ ، وَبَيَّنْتَهُ لَهُ - أَهْدِيهِ هُدًى وَهِدَايَةً .

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : أَوَ مَا كِتَابُ اللَّهِ نُورًا إِلَّا لِلْمُتَّقِينَ ، وَلَا رَشَادًا إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ ؟ قِيلَ : ذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ . وَلَوْ كَانَ نُورًا لِغَيْرِ الْمُتَّقِينَ ، وَرَشَادًا لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ ، لَمْ يَخْصُصِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُ لَهُمْ هُدًى ، بَلْ كَانَ يَعُمُّ بِهِ جَمِيعَ الْمُنْذَرِينَ . وَلَكِنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، وَشِفَاءٌ لِمَا فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَوَقْرٌ فِي آذَانِ الْمُكَذِّبِينَ ، وَعَمًى لِأَبْصَارِ الْجَاحِدِينَ ، وَحُجَّةٌ لِلَّهِ بَالِغَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ . فَالْمُؤْمِنُ بِهِ مُهْتَدٍ ، وَالْكَافِرُ بِهِ مَحْجُوجٌ .

وَقَوْلُهُ "هُدًى " يَحْتَمِلُ أَوْجُهًا مِنَ الْمَعَانِي :

أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ نَصْبًا ، لِمَعْنَى الْقَطْعِ مِنَ الْكِتَابِ ، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ وَالْكِتَابُ مَعْرِفَةٌ . فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ حِينَئِذٍ : الم ذَلِكَ الْكِتَابُ هَادِيًا لِلْمُتَّقِينَ . وَ"ذَلِكَ " مَرْفُوعٌ بِ "الم " ، وَ " الم " بِهِ ، وَالْكِتَابُ نَعَتٌ لِ "ذَلِكَ " .

وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا ، عَلَى الْقَطْعِ مِنْ رَاجِعِ ذِكْرِ الْكِتَابِ الَّذِي فِي [ ص: 231 ] "فِيهِ " ، فَيَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ حِينَئِذٍ : الم الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ هَادِيًا .

وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا نَصْبًا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، أَعْنِي عَلَى وَجْهَ الْقَطْعِ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي "فِيهِ " ، وَمِنْ "الْكِتَابِ " ، عَلَى أَنْ "الم " كَلَامٌ تَامٌّ ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ مَعْنَاهُ : أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ . ثُمَّ يَكُونُ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا ، فَيُرْفَعُ حِينَئِذٍ "الْكِتَابُ " بِ "ذَلِكَ " ، وَ "ذَلِكَ " بِ "الْكِتَابُ " ، وَيَكُونُ "هُدًى " قَطْعًا مِنْ "الْكِتَابِ " ، وَعَلَى أَنْ يُرْفَعَ "ذَلِكَ " بِالْهَاءِ الْعَائِدَةِ عَلَيْهِ الَّتِي فِي "فِيهِ " ، وَ "الْكِتَابُ " نَعْتٌ لَهُ; وَالْهُدَى قَطْعٌ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي " فِيهِ " . وَإِنْ جُعِلَ الْهُدَى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ "ذَلِكَ الْكِتَابُ " إِلَّا خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا ، وَ "الم " كَلَامًا تَامًّا مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ ، إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنْ يُرْفَعَ حِينَئِذٍ "هُدًى " بِمَعْنَى الْمَدْحِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ : ( الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ ) سُورَةُ لُقْمَانَ : 1 - 3 فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ "رَحْمَةٌ " . بِالرَّفْعِ ، عَلَى الْمَدْحِ لِلْآيَاتِ .

وَالرَّفْعُ فِي "هُدًى " حِينَئِذٍ يَجُوزُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مَدْحٌ مُسْتَأْنَفٌ . وَالْآخَرُ : عَلَى أَنْ يُجْعَلَ مُرَافِعَ " ذَلِكَ " ، وَ "الْكِتَابُ " نَعْتٌ "لِذَلِكَ " . وَالثَّالِثُ : أَنْ يُجْعَلَ تَابِعًا لِمَوْضِعِ " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، وَيَكُونُ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " مَرْفُوعًا بِالْعَائِدِ فِي "فِيهِ " . فَيَكُونُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ : ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 92 .

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِي نَ فِي الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّة ِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ ، أَنَّ "الم " مُرَافِعُ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " بِمَعْنَى : هَذِهِ الْحُرُوفُ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدْتُكَ أَنْ أُوحِيهِ إِلَيْكَ . ثُمَّ نَقَضَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فَأَسْرَعَ نَقْضَهُ ، وَهَدَمَ مَا بَنَى فَأَسْرَعَ هَدْمَهُ ، فَزَعَمَ أَنَّ الرَّفْعَ فِي "هُدًى " مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَالنَّصْبَ مِنْ وَجْهَيْنِ . وَأَنَّ أَحَدَ وَجْهَيِ الرَّفْعِ : أَنْ يَكُونَ "الْكِتَابُ " نَعْتًا لِ "ذَلِكَ " وَ "الْهُدَى " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرٌ لِ "ذَلِكَ " . [ ص: 232 ] كَأَنَّكَ قُلْتَ : ذَلِكَ هُدًى لَا شَكَّ فِيهِ . قَالَ : وَإِنْ جَعَلْتَ " لَا رَيْبَ فِيهِ " خَبَّرَهُ ، رَفَعْتَ أَيْضًا "هُدًى " ، بِجَعْلِهِ تَابِعًا لِمَوْضِعِ " لَا رَيْبَ فِيهِ " ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) ، كَأَنَّهُ قَالَ : وَهَذَا كِتَابٌ هُدًى مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا . قَالَ : وَأَمَّا أَحَدُ وَجْهَيِ النَّصْبِ فَأَنْ تَجْعَلَ الْكِتَابَ خَبَرًا لِ "ذَلِكَ " ، وَتَنْصِبَ "هُدًى " عَلَى الْقَطْعِ ، لِأَنَّ "هُدًى " نَكِرَةٌ اتَّصَلَتْ بِمَعْرِفَةٍ ، وَقَدْ تَمَّ خَبَرُهَا فَنَصَبْتَهَا لِأَنَّ النَّكِرَةَ لَا تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَعْرِفَةٍ . وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَ "هُدًى " عَلَى الْقَطْعِ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي "فِيهِ " كَأَنَّكَ قُلْتَ : لَا شَكَّ فِيهِ هَادِيًا .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : فَتَرْكُ الْأَصْلِ الَّذِي أَصَّلَهُ فِي "الم " وَأَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ بِ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ . وَاللَّازِمُ كَانَ لَهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَصَّلَهُ ، أَنْ لَا يُجِيزَ الرَّفْعَ فِي "هُدًى " بِحَالٍ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ مِنْ قِبْلِ الِاسْتِئْنَافِ ، إِذْ كَانَ مَدْحًا . فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ "لِذَلِكَ " ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِتْبَاعِ لِمَوْضِعِ "لَا رَيْبَ فِيهِ " ، فَكَانَ اللَّازِمُ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ خَطَأً . وَذَلِكَ أَنْ "الم " إِذَا رَافَعَتْ " ذَلِكَ الْكِتَابُ " ، فَلَا شَكَّ أَنْ "هُدًى " غَيْرُ جَائِزٍ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا "لِذَلِكَ " ، بِمَعْنَى الْمُرَافِعِ لَهُ ، أَوْ تَابِعًا لِمَوْضِعِ "لَا رَيْبَ فِيهِ " ، لِأَنَّ مَوْضِعَهُ حِينَئِذٍ نَصْبٌ ، لِتَمَامِ الْخَبَرِ قَبْلَهُ ، وَانْقِطَاعِهِ - بِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ - عَنْهُ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( لِلْمُتَّقِينَ ( 2 ) )

261 - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَوْلُهُ : "لِلْمتقين " قَالَ : اتَّقَوْا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ ، وَأَدَّوْا مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ . [ ص: 233 ]

262 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "لِلْمتقين " ، أَيِ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ .

263 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " ، قَالَ : هُمُ الْمُؤْمِنُونَ .

264 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، قَالَ : سَأَلَنِي الْأَعْمَشُ عَنِ "الْمتقين " ، قَالَ : فَأَجَبْتُهُ ، فَقَالَ لِي : سُئِلَ عَنْهَا الْكَلْبَيُّ . فَسَأَلْتُهُ ، فَقَالَ : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ . قَالَ : فَرَجَعْتُ إِلَى الْأَعْمَشِ ، فَقَالَ : نُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ . وَلَمْ يُنْكِرْهُ .

265 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَّبَرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ أَبُو حَفْصٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ : "هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " ، هُمْ مَنْ نَعَتَهُمْ وَوَصَفَهُمْ فَأَثْبَتَ صِفَتَهُمْ ، فَقَالَ : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

266 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "لِلْمتقين " قَالَ : الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِي ، وَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِي .

وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) ، تَأْوِيلُ مَنْ وَصَفَ الْقَوْمَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي رُكُوبِ مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبِهِ ، فَتَجَنَّبُوا [ ص: 234 ] مَعَاصِيَهُ ، وَاتَّقَوْهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ ، فَأَطَاعُوهُ بِأَدَائِهَا . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَهُمْ بِالتَّقْوَى ، فَلَمْ يَحْصُرْ تَقْوَاهُمْ إِيَّاهُ عَلَى بَعْضِ مَا هُوَ أَهْلٌ لَهُ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ . فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحْصُرَ مَعْنَى ذَلِكَ ، عَلَى وَصْفِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ شَيْءٍ ، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا . لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْقَوْمِ - لَوْ كَانَ مَحْصُورًا عَلَى خَاصٍّ مِنْ مَعَانِي التَّقْوَى دُونَ الْعَامِّ مِنْهَا - لَمْ يَدَعِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَيَانَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ : إِمَّا فِي كِتَابِهِ ، وَإِمَّا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ وَصْفِهِمْ بِعُمُومِ التَّقْوَى .

فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ : الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَبَرِئُوا مِنَ النِّفَاقِ . لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَهُوَ فَاسِقٌ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ أَنَّ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ - عِنْدِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلُ - مَعْنَى النِّفَاقِ : رُكُوبُ الْفَوَاحِشِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَتَضْيِيعُ فَرَائِضِهِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْهِ . فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ كَانَتْ تُسَمِّي مَنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُنَافِقًا . فَيَكُونُ - وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي تَسْمِيَتِهِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ بِهَذَا الِاسْمِ - مُصِيبًا تَأْوِيلَ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "لِلْمتقين " .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ )

267 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ " ، قَالَ : يُصَدِّقُونَ .

268 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ ، [ ص: 235 ] قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "يُؤْمِنُونَ " : يُصَدِّقُونَ .

269 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرَّبِيعِ : "يُؤْمِنُونَ " : يَخْشَوْنَ .

270 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، قَالَ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : الْإِيمَانُ الْعَمَلُ .

271 - حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : الْإِيمَانُ : التَّصْدِيقُ .

وَمَعْنَى الْإِيمَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ : التَّصْدِيقُ ، فَيُدْعَى الْمُصَدِّقُ بِالشَّيْءِ قَوْلًا مُؤْمِنًا بِهِ ، وَيُدْعَى الْمُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ ، مُؤْمِنًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) سُورَةُ يُوسُفَ : 17 ، يَعْنِي : وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا فِي قَوْلِنَا . وَقَدْ تَدْخُلُ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ ، الَّذِي هُوَ تَصْدِيقُ الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ . وَالْإِيمَانُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ الْإِقْرَارَ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَتَصْدِيقَ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ ، وَأَشْبَهُ بِصِفَةِ الْقَوْمِ : أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالتَّصْدِيقِ بِالْغَيْبِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا وَعَمَلًا إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَحْصُرْهُمْ مِنْ مَعْنَى الْإِيمَانِ عَلَى مَعْنًى دُونَ مَعْنًى ، بَلْ أَجْمَلَ وَصْفَهُمْ بِهِ ، مِنْ غَيْرِ خُصُوصِ شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهِ أَخْرَجَهُ مِنْ صِفَتْهِمْ بِخَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ .
https://i.imgur.com/4ONJhpH.gif


ابوالوليد المسلم 05-02-2022 02:12 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...f1799045e6.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(4)
الحلقة (20)
صــ 237إلى صــ 242


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( بِالْغَيْبِ )

272 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : "بِالْغَيْبِ " ، قَالَ : بِمَا جَاءَ مِنْهُ ، يَعْنِي : مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ .

273 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، "بِالْغَيْبِ " : أَمَّا الْغَيْبُ فَمَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَأَمْرِ النَّارِ ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْقُرْآنِ . لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهُمْ بِذَلِكَ - يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ - مِنْ قِبَلِ أَصْلِ كِتَابٍ أَوْ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُمْ .

274 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزَّبِيرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنْ زِرٍّ ، قَالَ : الْغَيْبُ الْقُرْآنُ .

275 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَقَدِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " ، قَالَ : آمَنُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَبِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَكُلُّ هَذَا غَيْبٌ .

276 - حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، [ ص: 237 ] عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " : آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ وَلِقَائِهِ ، وَآمَنُوا بِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ . فَهَذَا كُلُّهُ غَيْبٌ .

وَأَصْلُ الْغَيْبِ : كُلُّ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْ شَيْءٍ . وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ : غَابَ فُلَانٌ يَغِيبُ غَيْبًا .

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي أَعْيَانِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِيهِمْ ، وَفِي نَعْتِهِمْ وَصِفَتِهِمُ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا ، مِنْ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ ، وَسَائِرِ الْمَعَانِي الَّتِي حَوَتْهَا الْآيَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِمْ غَيْرَهُ .

فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُمْ مُؤْمِنُو الْعَرَبِ خَاصَّةً ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَحَقِيقَةِ تَأْوِيلِهِمْ ، بِالْآيَةِ الَّتِي تَتْلُو هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) . قَالُوا : فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ كِتَابٌ قَبْلَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، تَدِينُ بِتَصْدِيقِهِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ بِهِ . وَإِنَّمَا كَانَ الْكِتَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ غَيْرِهَا . قَالُوا : فَلَمَّا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبَّأَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ - بَعْدَ اقْتِصَاصِهِ نَبَّأَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ - عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ غَيْرُ الصِّنْفِ الْآخَرِ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الْمُصَدِّقِ بِالْكِتَابَيْن ِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا مُنَزَّلٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى مَنْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ . [ ص: 238 ]

قَالُوا : وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، صَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا غَابَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْبَعْثِ ، وَالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَجَمِيعِ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَدِينُ بِهِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا ، مِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ الدَّيْنُونَةَ بِهِ - دُونَ غَيْرِهِمْ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

277 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ ، ( وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) . أَمَّا الْغَيْبُ فَمَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ . لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَصْلِ كِتَابٍ أَوْ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُمْ . ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً ، لِإِيمَانِهِمْ بِالْقُرْآنِ عِنْدَ إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِيَّاهُمْ فِيهِ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي كَانُوا يُخْفُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيُسِرُّونَهَا ، فَعَلِمُوا عِنْدَ إِظْهَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي تَنْزِيلِهِ ، أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ، فَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَصَدَّقُوا بِالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهَا ، لِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ - بِالْحُجَّةِ الَّتِي احْتَجَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ ، مِنَ الْإِخْبَارِ فِيهِ عَمَّا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ - أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . [ ص: 239 ]

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ، أُنْزِلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ذَلِكَ صِفَتُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، وَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَسِوَاهُمْ . وَإِنَّمَا هَذِهِ صِفَةُ صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ ، وَالْمُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا أَنْزَلَ مِنْ قَبْلِهِ ، هُوَ الْمُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ .

قَالُوا : وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ ، بَعْدَ تَقْضِّي وَصْفِهِ إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ ، لِأَنَّ وَصْفَهُ إِيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ ، كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي كَلَّفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْإِيمَانَ بِهَا ، مِمَّا لَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِمَّا هُوَ آتٍ ، دُونَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَمِنَ الْكُتُبِ .

قَالُوا : فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي قَوْلِهِ ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) - كَانَتِ الْحَاجَةُ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى مَعْرِفَةِ صِفَتِهِمْ بِذَلِكَ لِيَعْرِفُوهُمْ ، نَظِيرَ حَاجَتِهِمْ إِلَى مَعْرِفَتِهِمْ بِالصِّفَةِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا مِنْ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ لِيَعْلَمُوا مَا يَرْضَى اللَّهُ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ وَيُحِبُّهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ ، فَيَكُونُوا بِهِ - إِنْ وَفَّقَهُمْ لَهُ رَبُّهُمْ - مُؤْمِنِينَ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

278 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرُو بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَاهِلِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ الْمَكِّيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، قَالَ : أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ ، [ ص: 240 ] وَآيَتَانِ فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ .

279 - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، بِمِثْلِهِ .

280 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْلٌ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، مِثْلَهُ .

281 - حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، قَالَ : أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ - يَعْنِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ - فِي الَّذِينَ آمَنُوا ، وَآيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ .

وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ ، وَأَشْبَهَهُمَا بِتَأْوِيلِ الْكِتَابِ ، الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ : أَنَّ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ ، وَبِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الْآيَتَيْنِ الَأَوَّلَتَيْن ِ ، غَيْرُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ ، لِمَا ذَكَرْتُ مِنَ الْعِلَلِ قَبْلُ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ .

وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ ، أَنَّهُ جَنَّسَ - بَعْدَ وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَصَفَ ، وَبَعْدَ تَصْنِيفِهِ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا صَنَّفَ الْكُفَّارَ - [ ص: 241 ] جِنْسَيْنِ فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا مَطْبُوعًا عَلَى قَلْبِهِ ، مَخْتُومًا عَلَيْهِ ، مَأْيُوسًا مِنْ إِيَابِهِ ، وَالْآخَرَ مُنَافِقًا ، يُرَائِي بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ فِي الظَّاهِرِ ، وَيَسْتَسِرُّ النِّفَاقَ فِي الْبَاطِنِ . فَصَيَّرَ الْكُفَّارَ جِنْسَيْنِ ، كَمَا صَيَّرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ جِنْسَيْنِ . ثُمَّ عَرَّفَ عِبَادُهُ نَعْتَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ وَصِفَتَهُمْ ، وَمَا أَعَدَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ ، وَذَمَّ أَهَّلَ الذَّمِّ مِنْهُمْ ، وَشَكَرَ سَعْيَ أَهَّلَ الطَّاعَةِ مِنْهُمْ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَيُقِيمُونَ )

وَإِقَامَتُهَا : أَدَاؤُهَا - بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَالْوَاجِبِ فِيهَا - عَلَى مَا فُرِضَتْ عَلَيْهِ . كَمَا يُقَالُ : أَقَامَ الْقَوْمُ سُوقَهُمْ ، إِذَا لَمْ يُعَطِّلُوهَا مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهَا ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :


أَقَمْنَا لِأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوقَ ال ضِّرَابِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعَا


282 - وَكَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " ، قَالَ : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهَا .

283 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " قَالَ : إِقَامَةُ [ ص: 242 ] الصَّلَاةِ تَمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَالتِّلَاوَةُ وَالْخُشُوعُ ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهَا فِيهَا .
https://i.imgur.com/4ONJhpH.gif



ابوالوليد المسلم 14-02-2022 04:39 AM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(5)
الحلقة (21)
صــ 243إلى صــ 250


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( الصَّلَاةَ )

284 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا جُوَيْبَرٌ ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ : " الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " : يَعْنِي الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ .

وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدُّعَاءُ ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى :


لَهَا حَارِسٌ لَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا


يَعْنِي بِذَلِكَ : دَعَا لَهَا ، وَكَقَوْلِ الْأَعْشَى أَيْضًا .


وَقَابَلَهَا الرِّيحَ فِي دَنِّهَا وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ [ ص: 243 ]


وَأَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ سُمِّيَتْ "صَلَاةً " ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مُتَعَرِّضٌ لِاسْتِنْجَاحِ طَلِبَتِهِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ ، مَعَ مَا يَسْأَلُ رَبَّهُ مِنْ حَاجَاتِهِ ، تَعَرُّضَ الدَّاعِي بِدُعَائِهِ رَبَّهُ اسْتِنْجَاحَ حَاجَاتِهِ وَسُؤْلَهُ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 ) )

اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا : -

285 - حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ، قَالَ : يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ احْتِسَابًا بِهَا .

286 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ، قَالَ : زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ .

287 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " ، قَالَ : كَانَتِ النَّفَقَاتُ قُرُبَاتٌ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَلَى قَدْرِ مَيْسُورِهِمْ وَجُهْدِهِمْ ، حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ : سَبْعُ آيَاتٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ ، مِمَّا يَذْكُرُ فِيهِنَّ الصَّدَقَاتِ ، هُنَّ الْمُثْبَتِاتُ النَّاسِخَاتُ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا : -

288 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ [ ص: 244 ] النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " : هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ . وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ .

وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ وَأَحَقُّهَا بِصِفَةِ الْقَوْمِ : أَنْ يَكُونُوا كَانُوا لِجَمِيعِ اللَّازِمِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ ، مُؤَدِّينَ ، زَكَاةً كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَفَقَةَ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ ، مِنْ أَهْلٍ وَعِيَالٍ وَغَيْرُهُمْ ، مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّ وَصَفَهُمْ إِذْ وَصَفَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ ، فَمَدَحَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ . فَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ إِذْ لَمْ يَخْصُصْ مَدْحَهُمْ وَوَصْفَهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ النَّفَقَاتِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا دُونَ نَوْعٍ بِخَبَرٍ وَلَا غَيْرِهِ - أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِجَمِيعِ مَعَانِي النَّفَقَاتِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا مَنْ طِيبِ مَا رَزَقَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ ، وَذَلِكَ الْحَلَالُ مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَشُبْهُ حَرَامٌ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ )

قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنِ الْمَنْعُوتِينَ بِهَذَا النَّعْتِ ، وَأَيُّ أَجْنَاسِ النَّاسِ هُمْ . غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلٌ :

289 - فَحَدَّثْنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ " : أَيْ يُصَدِّقُونَكَ [ ص: 245 ] بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ ، وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ .

290 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ " : هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 ) )

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : أَمَّا الْآخِرَةُ فَإِنَّهَا صِفَةٌ لِلدَّارِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ : 64 . وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِذَلِكَ لِمَصِيرِهَا آخِرَةً لِأُولَى كَانَتْ قَبْلَهَا ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ : "أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، فَلَمْ تَشْكُرْ لِيَ الْأُولَى وَلَا الْآخِرَةَ " ، وَإِنَّمَا صَارَتْ آخِرَةً لِلْأُولَى ، لِتَقَدُّمِ الْأُولَى أَمَامَهَا . فَكَذَلِكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ، سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَقَدُّمِ الدَّارِ الْأُولَى أَمَامَهَا ، فَصَارَتِ التَّالِيَةُ لَهَا آخِرَةً . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْخَلْقِ ، كَمَا سُمِّيَتِ الدُّنْيَا "دُنْيَا " لِدُنُوِّهَا مِنَ الْخَلْقِ . [ ص: 246 ]

وَأَمَّا الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ - بِمَا أَنْزَلَ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَنْزَلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ - مِنْ إِيقَانِهِمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ ، فَهُوَ إِيقَانُهُمْ بِمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِهِ جَاحِدِينَ : مِنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِخَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . كَمَا : -

291 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) : أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ ، أَيْ ، لَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا كَانَ قَبْلَكَ ، وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ .

وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ صَرَّحَ عَنْ أَنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا - وَإِنْ كَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا مِنْ نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ - تَعْرِيضٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذَمِّ كَفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ - بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ - مُصَدِّقُونَ ، وَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مُكَذِّبُونَ ، وَلِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّنْزِيلِ جَاحِدُونَ ، وَيَدَّعُونَ مَعَ جُحُودِهِمْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى . فَأَكْذَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ بِقَوْلِهِ : ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) . وَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ : أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ هَدًى لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ ، الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ رُسُلِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى - خَاصَّةً ، دُونَ مَنْ كَذَّبَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ ، وَادَّعَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الرُّسُلِ [ ص: 247 ] وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكُتُبِ . ثُمَّ أَكَّدَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُصَدِّقِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ - بِقَوْلِهِ : ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ هُمْ أَهْلُ الضَّلَالِ وَالْخَسَارِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ )

اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ " : فَقَالَ بَعْضُهُمْ : عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ ، أَعْنِي : الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ مِنَ الْعَرَبِ ، وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ . وَإِيَّاهُمْ جَمِيعًا وَصَفَ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى مِنْهُ ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ :

292 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مَرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَمَّا " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " ، فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ ، " وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ " ، الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . ثُمَّ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ : " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [ ص: 248 ] بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ .

وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ ، وَهُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلُ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ .

وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْآخَرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) فِي مَحَلِّ خَفْضٍ ، وَمَحَلِّ رَفْعٍ .

فَأَمَّا الرَّفْعُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَأْتِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مِنْ قِبَلِ الْعَطْفِ عَلَى مَا فِي " يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " مِنْ ذِكْرِ "الَّذِينَ " ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ ، أَوْ يَكُونَ " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ " ، مُرَافِعُهَا .

وَأَمَّا الْخَفْضُ فَعَلَى الْعَطْفِ عَلَى "الْمُتَّقِينَ " ، وَإِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى "الَّذِينَ " اتَّجَهَ لَهَا وَجْهَانِ مِنَ الْمَعْنَى : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ هِيَ وَ "الَّذِينَ " الْأُولَى ، مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ . وَذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ بَعْدَ "الم " ، نَزَلَتْ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمُؤْمِنِينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ " الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةً فِي الْإِعْرَابِ عَلَى "الْمُتَّقِينَ " بِمَعْنَى الْخَفْضِ ، وَهُمْ فِي الْمَعْنَى صِنْفٌ غَيْرُ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ . وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ رَأَى أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَتَانِ الْأُولَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ "الم " ، غَيْرُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَتَانِ الْآخِرَتَانِ اللَّتَانِ تَلِيَانِ الْأُولَتَيْنِ .

وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ " الثَّانِيَةُ مَرْفُوعَةً فِي هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى الِائْتِنَافِ ، إِذْ كَانَتْ مُبْتَدَأً بِهَا بَعْدَ تَمَامِ آيَةٍ وَانْقِضَاءِ قِصَّةٍ . وَقَدْ يَجُوزُ الرَّفْعُ فِيهَا أَيْضًا بِنْيَةِ الِائْتِنَافِ ، إِذْ كَانَتْ فِي مُبْتَدَأِ آيَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ .

فَالرَّفْعُ إِذًا يَصِحُّ فِيهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ، وَالْخَفْضُ مِنْ وَجْهَيْنِ .

وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ عِنْدِي بِقَوْلِهِ ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) مَا ذَكَرْتُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنْ تَكُونَ "أُولَئِكَ " إِشَارَةً إِلَى الْفَرِيقَيْنِ ، أَعْنِي : [ ص: 249 ] الْمُتَّقِينَ ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وَتَكُونُ "أُولَئِكَ " مَرْفُوعَةً بِالْعَائِدِ مِنْ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ " عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ "; وَأَنْ تَكُونَ "الَّذِينَ " الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلُ مِنَ الْكَلَامِ ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَاهُ .

وَإِنَّمَا رَأَيْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَعَتَ الْفَرِيقَيْنِ بِنَعْتِهِمُ الْمَحْمُودِ ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ . فَلَمْ يَكُنْ عَزَّ وَجَلَّ لِيَخُصَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالثَّنَاءِ ، مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِيمَا اسْتَحَقَّا بِهِ الثَّنَاءَ مِنَ الصِّفَاتِ . كَمَا غَيْرُ جَائِزٍ فِي عَدْلِهِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ بِهِ الْجَزَاءَ مِنَ الْأَعْمَالِ ، فَيَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِالْجَزَاءِ دُونَ الْآخَرِ ، وَيَحْرِمُ الْآخَرَ جَزَاءَ عَمَلِهِ . فَكَذَلِكَ سَبِيلُ الثَّنَاءِ بِالْأَعْمَالِ ، لِأَنَّ الثَّنَاءَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْجَزَاءِ .

وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : أَنَّهُمْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَبُرْهَانٍ وَاسْتِقَامَةٍ وَسَدَادٍ ، بِتَسْدِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ ، وَتَوْفِيقِهِ لَهُمْ . كَمَا : -

293 - حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، [ ص: 250 ] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، " أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ " : أَيْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَاسْتِقَامَةٍ عَلَى مَا جَاءَهُمْ .


https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif



ابوالوليد المسلم 14-02-2022 04:40 AM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(6)
الحلقة (22)
صــ 251إلى صــ 256


القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وأولئك هم المفلحون ( 5 ) )

وتأويل قوله : " وأولئك هم المفلحون " أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنان ، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب . كما : -

294 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وأولئك هم المفلحون ) أي الذين أدركوا ما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا .

ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح ، إدراك الطلبة والظفر بالحاجة ، قول لبيد بن ربيعة :


اعقلي ، إن كنت لما تعقلي ، ولقد أفلح من كان عقل


يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرا ، ومنه قول الراجز :


عدمت أما ولدت رياحا جاءت به مفركحا فركاحا
تحسب أن قد ولدت نجاحا! أشهد لا يزيدها فلاحا


يعني : خيرا وقربا من حاجتها . والفلاح مصدر من قولك : أفلح فلان يفلح إفلاحا وفلاحا وفلحا . والفلاح أيضا : البقاء ، ومنه قول لبيد :


نحل بلادا ، كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير


يريد البقاء ، ومنه أيضا قول عبيد :


أفلح بما شئت ، فقد يدرك بالض عف ، وقد يخدع الأريب


يريد : عش وابق بما شئت ، وكذلك قول نابغة بني ذبيان :


وكل فتى ستشعبه شعوب وإن أثرى ، وإن لاقى فلاحا


أي نجاحا بحاجته وبقاء .
القول في تأويل قوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 6 ) )

اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية ، وفيمن نزلت . فكان ابن عباس يقول ، كما : -

295 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " إن الذين كفروا " ، أي بما أنزل إليك من ربك ، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك .

وكان ابن عباس يرى أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توبيخا لهم في جحودهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به ، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله إليهم وإلى الناس كافة .

296 - وقد حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها ، نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ، من المنافقين من الأوس والخزرج . كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم . [ ص: 252 ]

وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر ، وهو ما : -

297 - حدثنا به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول .

وقال آخرون بما : -

298 - حدثت به عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : آيتان في قادة الأحزاب : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ) ، قال : وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ) سورة إبراهيم : 28 ، 29 ، قال : فهم الذين قتلوا يوم بدر .

وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير عنه . وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب . [ ص: 253 ]

فأما مذهب من تأول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس ، فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون ، وأن الإنذار غير نافعهم ، ثم كان من الكفار من قد نفعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة - لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادة الأحزاب لا شك أنهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدر - علم أنهم ممن عنى الله جل ثناؤه بهذه الآية .

وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك ، فهي أن قول الله جل ثناؤه ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب ، وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله . فأولى الأمور بحكمة الله ، أن يتلي ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم ، وذم أسبابهم وأحوالهم ، وإظهار شتمهم والبراءة منهم . لأن مؤمنيهم ومشركيهم - وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم - فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو إسرائيل .

وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل ، الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته - بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الأحبار منهم وتكتمه ، فيجهله عظم اليهود وتعلمه الأحبار منهم - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك ، هو الذي أنزل الكتاب على موسى . إذ كان ذلك من الأمور التي لم يكن محمد [ ص: 254 ] صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم ، فيمكنهم ادعاء اللبس في أمره عليه السلام أنه نبي ، وأن ما جاء به فمن عند الله . وأنى يمكن ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ، ولا يحسب ، فيقال قرأ الكتب فعلم ، أو حسب فنجم ؟ وانبعث على أحبار قراء كتبة - قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم - يخبرهم عن مستور عيوبهم ، ومصون علومهم ، ومكتوم أخبارهم ، وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم . إن أمر من كان كذلك لغير مشكل ، وإن صدقه لبين .

ومما ينبئ عن صحة ما قلنا - من أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه - اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم ، وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمد عليه السلام ، بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين ، واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم - في قوله : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) سورة البقرة : 40 وما بعدها ، واحتجاجه لنبيه عليهم ، بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته . فإذ كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب ، وآخرا عن مشركيهم ، فأولى أن يكون وسطا : - عنهم . إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع ، إلا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدأ به من معانيه ، فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه . [ ص: 255 ]

وأما معنى الكفر في قوله " إن الذين كفروا " فإنه الجحود . وذلك أن الأحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وستروه عن الناس وكتموا أمره ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .

وأصل الكفر عند العرب : تغطية الشيء ، ولذلك سموا الليل "كافرا " ، لتغطية ظلمته ما لبسته ، كما قال الشاعر :


فتذكرا ثقلا رثيدا ، بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر


وقال لبيد بن ربيعة :


في ليلة كفر النجوم غمامها


يعني غطاها . فكذلك الأحبار من اليهود غطوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتموه الناس - مع علمهم بنبوته ، ووجودهم صفته في كتبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) سورة البقرة : 159 ، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) .
[ ص: 256 ]

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 6 ) )

وتأويل "سواء " : معتدل . مأخوذ من التساوي ، كقولك : "متساو هذان الأمران عندي " ، و "هما عندي سواء " ، أي هما متعادلان عندي ، ومنه قول الله جل ثناؤه : ( فانبذ إليهم على سواء ) سورة الأنفال : 58 ، يعني : أعلمهم وآذنهم بالحرب ، حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر . فكذلك قوله " سواء عليهم " : معتدل عندهم أي الأمرين كان منك إليهم ، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون ، وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم . ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات :


تغذ بي الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها ونهارها


يعني بذلك : معتدل عندها في السير الليل والنهار ، لأنه لا فتور فيه . ومنه قول الآخر


وليل يقول المرء من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها


لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرا ضعيفا من ظلمته .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif





ابوالوليد المسلم 14-02-2022 04:41 AM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(7)
الحلقة (23)
صــ 257إلى صــ 262

وأما قوله : ( أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، فإنه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبر ; لأنه وقع موقع "أي " كما تقول : "لا نبالي أقمت أم [ ص: 257 ] قعدت " ، وأنت مخبر لا مستفهم ، لوقوع ذلك موقع "أي " . وذلك أن معناه إذا قلت ذلك : ما نبالي أي هذين كان منك . فكذلك ذلك في قوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ، لما كان معنى الكلام : سواء عليهم أي هذين كان منك إليهم - حسن في موضعه مع سواء : "أفعلت أم لم تفعل " .

وكان بعض نحويي البصرة يزعم أن حرف الاستفهام إنما دخل مع "سواء " ، وليس باستفهام ، لأن المستفهم إذا استفهم غيره فقال : "أزيد عندك أم عمرو ؟ " مستثبت صاحبه أيهما عنده . فليس أحدهما أحق بالاستفهام من الآخر . فلما كان قوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " بمعنى التسوية ، أشبه ذلك الاستفهام ، إذ أشبهه في التسوية . وقد بينا الصواب في ذلك .

فتأويل الكلام إذا : معتدل يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها ، وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي ، وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك ، وأن يبينوه للناس ، ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، فإنهم لا يؤمنون ، ولا يرجعون إلى الحق ، ولا يصدقون بك وبما جئتهم به . كما : -

299 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك ، فقد كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ .
[ ص: 258 ]

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم )

قال أبو جعفر : وأصل الختم : الطبع . والخاتم هو الطابع . يقال منه : ختمت الكتاب ، إذا طبعته .

فإن قال لنا قائل : وكيف يختم على القلوب ، وإنما الختم طبع على الأوعية والظروف والغلف ؟

قيل : فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم ، وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور . فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تدرك المسموعات ، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المغيبات - نظير معنى الختم على سائر الأوعية والظروف .

فإن قال : فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها ؟ أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للأبصار ، أم هي بخلاف ذلك ؟

قيل : قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك ، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم :

300 - فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، قال : أرانا مجاهد بيده فقال : كانوا يرون أن القلب في مثل هذا - يعني الكف - فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه - وقال بإصبعه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى هكذا ، حتى ضم أصابعه كلها ، قال : ثم يطبع عليه بطابع . قال [ ص: 259 ] مجاهد : وكانوا يرون أن ذلك : الرين .

301 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : القلب مثل الكف ، فإذا أذنب ذنبا قبض أصبعا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يرون أنه الران .

302 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قال مجاهد : نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه ، فالتقاؤها عليه الطبع ، والطبع : الختم . قال ابن جريج : الختم ، الختم على القلب والسمع .

303 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثني عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول : الران أيسر من الطبع ، والطبع أيسر من الأقفال ، والأقفال أشد ذلك كله . [ ص: 260 ]

وقال بعضهم : إنما معنى قوله " ختم الله على قلوبهم " إخبار من الله جل ثناؤه عن تكبرهم ، وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق ، كما يقال : "إن فلانا لأصم عن هذا الكلام " ، إذا امتنع من سماعه ، ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا .

قال أبو جعفر : والحق في ذلك عندي ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما : -

304 - حدثنا به محمد بن بشار قال : حدثنا صفوان بن عيسى ، قال : حدثنا ابن عجلان ، عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر ، صقلت قلبه ، فإن زاد زادت حتى تغلق قلبه ، فذلك "الران " الذي قال الله جل ثناؤه : ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) سورة المطففين : 14 . [ ص: 261 ]

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ، ولا للكفر منها مخلص ، فذلك هو الطبع . والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) ، نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف ، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها . فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم ، إلا بعد فضه خاتمه وحله رباطه عنها .

ويقال لقائلي القول الثاني ، الزاعمين أن معنى قوله جل ثناؤه " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " ، هو وصفهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دعوا إليه من الإقرار بالحق تكبرا : أخبرونا عن استكبار الذين وصفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة ، وإعراضهم عن الإقرار بما دعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللواحق به - أفعل منهم ، أم فعل من الله تعالى ذكره بهم ؟

فإن زعموا أن ذلك فعل منهم - وذلك قولهم - قيل لهم : فإن الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وسمعهم . وكيف يجوز أن يكون إعراض الكافر عن الإيمان ، وتكبره عن الإقرار به - وهو فعله عندكم - ختما من الله على قلبه وسمعه ، وختمه على قلبه وسمعه ، فعل الله عز وجل دون الكافر ؟

فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبره وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه ، فلما كان الختم سببا لذلك ، جاز أن يسمى مسببه به - تركوا قولهم ، وأوجبوا أن الختم من الله على قلوب الكفار وأسماعهم ، معنى غير كفر الكافر ، وغير تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به . وذلك دخول فيما أنكروه . [ ص: 262 ]

وهذه الآية من أوضح الدليل على فساد قول المنكرين تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله ، لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه ختم على قلوب صنف من كفار عباده وأسماعهم ، ثم لم يسقط التكليف عنهم ، ولم يضع عن أحد منهم فرائضه ، ولم يعذره في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بل أخبر أن لجميعهم منه عذابا عظيما على تركهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه ، مع حتمه القضاء عليهم مع ذلك ، بأنهم لا يؤمنون .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وعلى أبصارهم غشاوة )

قال أبو جعفر : وقوله ( وعلى أبصارهم غشاوة ) خبر مبتدأ بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه عليه من جوارح الكفار الذين مضت قصصهم . وذلك أن "غشاوة " مرفوعة بقوله " وعلى أبصارهم " ، فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ ، وأن قوله " ختم الله على قلوبهم " ، قد تناهى عند قوله " وعلى سمعهم " .

وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين :

أحدهما : اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها ، وانفراد المخالف لهم في ذلك ، وشذوذه عما هم على تخطئته مجمعون . وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدا على خطئها .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif


ابوالوليد المسلم 14-02-2022 04:41 AM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(8)
الحلقة (24)
صــ 263إلى صــ 268

والثاني : أن الختم غير موصوفة به العيون في شيء من كتاب الله ، ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا موجود في لغة أحد من العرب . وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى : ( وختم على سمعه وقلبه ) ، ثم قال : ( وجعل على بصره غشاوة ) [ ص: 263 ] سورة الجاثية : 23 ، فلم يدخل البصر في معنى الختم . وذلك هو المعروف في كلام العرب ، فلم يجز لنا ، ولا لأحد من الناس ، القراءة بنصب الغشاوة ، لما وصفت من العلتين اللتين ذكرت ، وإن كان لنصبها مخرج معروف في العربية .

وبما قلنا في ذلك من القول والتأويل ، روي الخبر عن ابن عباس :

305 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي الحسين بن الحسن ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " ، والغشاوة على أبصارهم . [ ص: 264 ]

فإن قال قائل : وما وجه مخرج النصب فيها ؟

قيل له : أن تنصبها بإضمار "جعل " ، كأنه قال : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ثم أسقط "جعل " ، إذ كان في أول الكلام ما يدل عليه . وقد يحتمل نصبها على إتباعها موضع السمع ، إذ كان موضعه نصبا ، وإن لم يكن حسنا إعادة العامل فيه على "غشاوة " ، ولكن على إتباع الكلام بعضه بعضا ، كما قال تعالى ذكره : ( يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق ) ، ثم قال : ( وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين ) ، سورة الواقعة : 17 - 22 ، فخفض اللحم والحور على العطف به على الفاكهة ، إتباعا لآخر الكلام أوله . ومعلوم أن اللحم لا يطاف به ولا بالحور العين ، ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه :


علفتها تبنا وماء باردا حتى شتت همالة عيناها
[ ص: 265 ]

ومعلوم أن الماء يشرب ولا يعلف به ، ولكنه نصب ذلك على ما وصفت قبل ، وكما قال الآخر :


ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا


وكان ابن جريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله " وعلى سمعهم " ، وابتداء الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه ، ويتأول فيه من كتاب الله ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) سورة الشورى : 24 .

306 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى ذكره : ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) ، وقال : ( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) [ سورة الجاثية : 23 ] .

والغشاوة في كلام العرب : الغطاء ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص :


تبعتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها


ومنه يقال : تغشاه الهم : إذا تجلله وركبه ، ومنه قول نابغة بني ذبيان : [ ص: 266 ]


هلا سألت بني ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الأشمط البرما


يعني بذلك : تجلله وخالطه .

وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود ، أنه قد ختم على قلوبهم وطبع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظة وعظهم بها ، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كتبه ، وفيما حدد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى سمعهم ، فلا يسمعون من محمد صلى الله عليه وسلم نبي الله تحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها عليهم بنبوته ، فيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل في تكذيبهم إياه ، مع علمهم بصدقه وصحة أمره . وأعلمه مع ذلك أن على أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبيل الهدى ، فيعلموا قبح ما هم عليه من الضلالة والردى .

وبنحو ما قلنا في ذلك ، روي الخبر عن جماعة من أهل التأويل :

307 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) ، أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك ، حتى يؤمنوا به ، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك .

308 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول [ ص: 267 ] الله صلى الله عليه وسلم : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " يقول : فلا يعقلون ولا يسمعون . ويقول : "وجعل على أبصارهم غشاوة " يقول : على أعينهم فلا يبصرون .

وأما آخرون ، فإنهم كانوا يتأولون أن الذين أخبر الله عنهم من الكفار أنه فعل ذلك بهم ، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر .

309 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : هاتان الآيتان إلى ( ولهم عذاب عظيم ) هم ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ) سورة إبراهيم : 28 ، وهم الذين قتلوا يوم بدر ، فلم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان : أبو سفيان بن حرب ، والحكم بن أبي العاص .

310 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن ، قال : أما القادة فليس فيهم مجيب ولا ناج ولا مهتد .

وقد دللنا فيما مضى على أولى هذين التأويلين بالصواب ، فكرهنا إعادته .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ولهم عذاب عظيم ( 7 ) )

وتأويل ذلك عندي ، كما قاله ابن عباس وتأوله : [ ص: 268 ]

311 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ولهم بما هم عليه من خلافك عذاب عظيم . قال : فهذا في الأحبار من يهود ، فيما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم .
" القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( 8 ) )

قال أبو جعفر : أما قوله : " ومن الناس " ، فإن في "الناس " وجهين :

أحدهما : أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه ، وإنما واحدهم "إنسان " ، وواحدتهم "إنسانة " .

والوجه الآخر : أن يكون أصله "أناس " أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها ، ثم دخلتها الألف واللام المعرفتان ، فأدغمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون ، كما قيل في ( لكنا هو الله ربي ) سورة الكهف : 38 ، على ما قد بينا في "اسم الله " الذي هو الله . وقد زعم بعضهم أن "الناس " لغة غير "أناس " ، وأنه سمع العرب تصغره "نويس " من الناس ، وأن الأصل لو كان "أناس" لقيل في التصغير : "أنيس" ، فرد إلى أصله .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif

ابوالوليد المسلم 14-02-2022 04:42 AM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(9)
الحلقة (25)
صــ 269إلى صــ 274

وأجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق ، وأن هذه الصفة صفتهم . [ ص: 269 ]

ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم :

312 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم .

وقد سمي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبي بن كعب ، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم .

313 - حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، حتى بلغ : ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) قال : هذه في المنافقين .

314 - حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : هذه الآية إلى ثلاث عشرة ، في نعت المنافقين .

315 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

316 حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله . [ ص: 270 ]

317 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) هم المنافقون .

318 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) إلى ( فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم ) ، قال : هؤلاء أهل النفاق .

319 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) قال : هذا المنافق ، يخالف قوله فعله ، وسره علانيته ومدخله مخرجه ، ومشهده مغيبه .

وتأويل ذلك : أن الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمره في دار هجرته ، واستقر بها قراره ، وأظهر الله بها كلمته ، وفشا في دور أهلها الإسلام ، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان ، وذل بها من فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن ، وأبدوا له العداوة والشنآن ، حسدا وبغيا ، إلا نفرا منهم هداهم الله للإسلام فأسلموا ، كما قال جل ثناؤه : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) سورة البقرة : 109 ، وطابقهم سرا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه [ ص: 271 ] وبغيهم الغوائل ، قوم - من أراهط الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه - وكانوا قد عسوا في شركهم وجاهليتهم قد سموا لنا بأسمائهم ، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم ، وظاهروهم على ذلك في خفاء غير جهار ، حذار القتل على أنفسهم ، والسباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وركونا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام . فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم - حذارا على أنفسهم - : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث ، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحق ، ليدرءوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك ، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم . وإذا لقوا إخوانهم من اليهود وأهل الشرك والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، فخلوا بهم قالوا : ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) . فإياهم عنى جل ذكره بقوله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، يعني بقوله تعالى خبرا عنهم : آمنا بالله - : وصدقنا بالله .

وقد دللنا على أن معنى الإيمان : التصديق ، فيما مضى قبل من كتابنا هذا .

وقوله : ( وباليوم الآخر ) ، يعني : بالبعث يوم القيامة ، وإنما سمي يوم القيامة " اليوم الآخر " ، لأنه آخر يوم ، لا يوم بعده سواه .

فإن قال قائل : وكيف لا يكون بعده يوم ، ولا انقطاع للآخرة ولا فناء ، ولا زوال ؟ [ ص: 272 ]

قيل : إن اليوم عند العرب إنما سمي يوما بليلته التي قبله ، فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسم يوما . فيوم القيامة يوم لا ليل بعده ، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة ، فذلك اليوم هو آخر الأيام . ولذلك سماه الله جل ثناؤه "اليوم الآخر " ، ونعته بالعقيم . ووصفه بأنه يوم عقيم ، لأنه لا ليل بعده .

وأما تأويل قوله : " وما هم بمؤمنين " ، ونفيه عنهم جل ذكره اسم الإيمان ، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث ، وإعلام منه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم ، وضد ما في عزائم نفوسهم .

وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية : من أن الإيمان هو التصديق بالقول ، دون سائر المعاني غيره . وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق ، أنهم قالوا بألسنتهم : " آمنا بالله وباليوم الآخر " ، ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك .

وقوله " وما هم بمؤمنين " ، يعني بمصدقين " فيما يزعمون أنهم به مصدقون .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( يخادعون الله والذين آمنوا )

قال أبو جعفر : وخداع المنافق ربه والمؤمنين ، إظهاره [ ص: 273 ] بلسانه من القول والتصديق ، خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب ، ليدرأ عن نفسه ، بما أظهر بلسانه ، حكم الله عز وجل - اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب ، لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار - من القتل والسباء . فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله .

فإن قال قائل : وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا ، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟

قيل : لا تمتنع العرب من أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف ، فنجا بذلك مما خافه - مخادعا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية . فكذلك المنافق ، سمي مخادعا لله وللمؤمنين ، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية ، مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر مستبطن . وذلك من فعله - وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها ، أنه يعطيها أمنيتها ، ويسقيها كأس سرورها ، وهو موردها به حياض عطبها ، ومجرعها به كأس عذابها ، ومزيرها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به . فذلك خديعته نفسه ، ظنا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن ، كما قال جل ثناؤه : " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " ، إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم - غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون .

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك ، كان ابن زيد يقول .

320 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت عبد الرحمن بن زيد عن قول الله جل ذكره : ( يخادعون الله والذين آمنوا ) إلى [ ص: 274 ] آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون ، يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا ، أنهم مؤمنون بما أظهروا .

وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه الزاعمين : أن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عنادا ، بعد علمه بوحدانيته ، وبعد تقرر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده ، والإقرار بكتبه ورسله - عنده . لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق ، وخداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون ، وأنهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به - مخدوعون . ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذابا أليما بتكذيبهم بما كانوا يكذبون من نبوة نبيه ، واعتقاد الكفر به ، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنهم مؤمنون ، وهم على الكفر مصرون .

فإن قال لنا قائل : قد علمت أن "المفاعلة " لا تكون إلا من فاعلين ، كقولك : ضاربت أخاك ، وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صاحبه ومضاربه . فأما إذا كان الفعل من أحدهما ، فإنما يقال : ضربت أخاك ، وجلست إلى أبيك ، فمن خادع المنافق فجاز أن يقال فيه : خادع الله والمؤمنين ؟

قيل : قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب : إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة أعني "يخادع " بصورة "يفاعل " ، وهو بمعنى "يفعل " ، في حروف أمثالها شاذة من منطق العرب ، نظير قولهم : قاتلك الله ، بمعنى قتلك الله .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 14-02-2022 04:42 AM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(10)
الحلقة (26)
صــ 275إلى صــ 280


وليس القول في ذلك عندي كالذي قال ، بل ذلك من "التفاعل " الذي لا يكون إلا من اثنين ، كسائر ما يعرف من معنى "يفاعل ومفاعل " في كل كلام العرب . وذلك : أن المنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه - على ما قد تقدم [ ص: 275 ] وصفه - والله تبارك اسمه خادعه ، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده ، كالذي أخبر في قوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) سورة آل عمران : 178 ، وبالمعنى الذي أخبر أنه فاعل به في الآخرة بقوله : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) سورة الحديد : 13 ، فذلك نظير سائر ما يأتي من معاني الكلام ب "يفاعل ومفاعل " . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول : لا تكون المفاعلة إلا من شيئين ، ولكنه إنما قيل : " يخادعون الله " عند أنفسهم ، بظنهم أن لا يعاقبوا ، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم ، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته ، وما يخدعون إلا أنفسهم . قال : وقد قال بعضهم : " وما يخدعون " يقول : يخدعون أنفسهم بالتخلية بها . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وما يخدعون إلا أنفسهم )

إن قال قائل : أو ليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين - بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتى سلمت لهم دنياهم ، وإن [ ص: 276 ] كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم ؟

قيل : خطأ أن يقال إنهم خدعوا المؤمنين . لأنا إذا قلنا ذلك ، أوجبنا لهم حقيقة خدعة جازت لهم على المؤمنين . كما أنا لو قلنا : قتل فلان فلانا ، أوجبنا له حقيقة قتل كان منه لفلان . ولكنا نقول : خادع المنافقون ربهم والمؤمنين ، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم ، كما قال جل ثناؤه ، دون غيرها ، نظير ما تقول في رجل قاتل آخر ، فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه : قاتل فلان فلانا فلم يقتل إلا نفسه ، فتوجب له مقاتلة صاحبه ، وتنفي عنه قتله صاحبه ، وتوجب له قتل نفسه . فكذلك تقول : "خادع المنافق ربه والمؤمنين فلم يخدع إلا نفسه " ، فتثبت منه مخادعة ربه والمؤمنين ، وتنفي عنه أن يكون خدع غير نفسه ، لأن الخادع هو الذي قد صحت الخديعة له ، ووقع منه فعلها . فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم ، لأن ما كان لهم من مال وأهل ، فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم - في حال خداعهم إياهم عنه بنفاقهم ولا قبلها - فيستنقذوه بخداعهم منهم ، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم ، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة ، والله بما يخفون من أمورهم عالم . وإنما الخادع من ختل غيره عن شيئه ، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه . فأما والمخادع عارف بخداع صاحبه إياه غير لاحقه من خداعه إياه مكروه ، بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع استدراجا ، ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو بها موقع عند بلوغه إياها ، والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه ، ولا عارف باطلاعه على ضميره ، وأن إمهال مستدرجه إياه ، تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع - من استحقاقه عقوبة مستدرجه ، [ ص: 277 ] بكثرة إساءته ، وطول عصيانه إياه ، وكثرة صفح المستدرج ، وطول عفوه عنه أقصى غاية فإنما هو خادع نفسه لا شك ، دون من حدثته نفسه أنه له مخادع . ولذلك نفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه ، إذ كانت الصفة التي وصفنا صفته .

وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خداع المنافق ربه وأهل الإيمان به ، وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها ، لما يورطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ) دون ( وما يخادعون ) لأن لفظ "المخادع " غير موجب تثبيت خديعة على صحة ، ولفظ "خادع " موجب تثبيت خديعة على صحة . ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بما ركب من خداعه ربه ورسوله والمؤمنين - بنفاقه ، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ) .

ومن الدلالة أيضا على أن قراءة من قرأ : ( وما يخدعون ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ : ( وما يخادعون ) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية ، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ، لأن ذلك تضاد في المعنى ، وذلك غير جائز من الله جل وعز .
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( وما يشعرون ( 9 ) )

يعني بقوله جل ثناؤه " وما يشعرون " ، وما يدرون . يقال : ما شعر فلان بهذا الأمر ، وهو لا يشعر به - إذا لم يدر ولم يعلم - شعرا وشعورا . وقال الشاعر : [ ص: 278 ]


عقوا بسهم ولم يشعر به أحد ثم استفاءوا وقالوا : حبذا الوضح


يعني بقوله : لم يشعر به ، لم يدر به أحد ولم يعلم . فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين : أنهم لا يشعرون بأن الله خادعهم ، بإملائه لهم واستدراجه إياهم ، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغ إليهم في الحجة والمعذرة ، ومنهم لأنفسهم خديعة ، ولها في الآجل مضرة . كالذي - :

321 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت ابن زيد عن قوله : ( وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) ، قال : ما يشعرون أنهم ضروا أنفسهم ، بما أسروا من الكفر والنفاق . وقرأ قول الله تعالى ذكره : ( يوم يبعثهم الله جميعا ) ، قال : هم المنافقون حتى بلغ ( ويحسبون أنهم على شيء ) سورة المجادلة : 18 ، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( في قلوبهم مرض )

قال أبو جعفر : وأصل المرض : السقم ، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان . فأخبر الله جل ثناؤه أن في قلوب المنافقين مرضا ، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره [ ص: 279 ] عن مرض قلوبهم ، الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لما كان معلوما بالخبر عن مرض القلب ، أنه معني به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد - استغنى بالخبر عن القلب بذلك والكفاية عن تصريح الخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لجأ :


وسبحت المدينة ، لا تلمها ، رأت قمرا بسوقهم نهارا


يريد : وسبح أهل المدينة ، فاستغنى بمعرفة السامعين خبره بالخبر عن المدينة ، عن الخبر عن أهلها . ومثله قول عنترة العبسي :


هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ؟ إن كنت جاهلة بما لم تعلمي


يريد : هلا سألت أصحاب الخيل ؟ ومنه قولهم : "يا خيل الله اركبي " ، يراد : يا أصحاب خيل الله اركبوا . والشواهد على ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .

فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : ( في قلوبهم مرض ) إنما يعني : في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين ، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله - مرض وسقم . فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه ، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم .

والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه : هو شكهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله ، وتحيرهم فيه ، فلا هم به موقنون إيقان إيمان ، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ، ولكنهم ، كما وصفهم الله عز وجل ، مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما يقال : فلان يمرض في هذا الأمر [ ص: 280 ] أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فيه .

وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك ، تظاهر القول في تفسيره من المفسرين .

ذكر من قال ذلك :

322 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " في قلوبهم مرض " أي شك .

323 - وحدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : المرض : النفاق .

324 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " في قلوبهم مرض " يقول : في قلوبهم شك .

325 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " في قلوبهم مرض " قال : هذا مرض في الدين ، وليس مرضا في الأجساد ، قال : وهم المنافقون .

326 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله " في قلوبهم مرض " قال : في قلوبهم ريبة وشك في أمر الله جل ثناؤه .

327 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " في قلوبهم مرض " قال : هؤلاء أهل النفاق ، والمرض الذي في قلوبهم : الشك في أمر الله تعالى ذكره .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif

ابوالوليد المسلم 14-02-2022 04:43 AM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(11)
الحلقة (27)
صــ 281إلى صــ 286

328 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) حتى بلغ ( في قلوبهم مرض ) [ ص: 281 ] قال : المرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( فزادهم الله مرضا )

قد دللنا آنفا على أن تأويل المرض الذي وصف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين ، هو الشك في اعتقادات قلوبهم وأديانهم ، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون .

فالمرض الذي أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنه زادهم على مرضهم ، نظير ما كان في قلوبهم من الشك والحيرة قبل الزيادة ، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضه - التي لم يكن فرضها قبل الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة ، إذ شكوا وارتابوا في الذي أحدث لهم من ذلك - إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السالف ، من حدوده وفرائضه التي كان فرضها قبل ذلك . كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك ، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذ آمنوا به ، إلى إيمانهم بالسالف من حدوده وفرائضه - إيمانا . كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) [ ص: 282 ] [ سورة التوبة : 124 ، 125 ] . فالزيادة التي زيدها المنافقون من الرجاسة إلى رجاستهم ، هو ما وصفنا . والتي زيدها المؤمنون إلى إيمانهم ، هو ما بينا . وذلك هو التأويل المجمع عليه .

ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل :

329 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فزادهم الله مرضا " قال : شكا .

330 - حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فزادهم الله مرضا " يقول : فزادهم الله ريبة وشكا .

331 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة ، عن سعيد ، عن قتادة : " فزادهم الله مرضا " يقول : فزادهم الله ريبة وشكا في أمر الله .

332 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا " قال : زادهم رجسا ، وقرأ قول الله عز وجل : ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) قال : شرا إلى شرهم ، وضلالة إلى ضلالتهم .

333 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فزادهم الله مرضا " قال : زادهم الله شكا .
[ ص: 283 ]

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ولهم عذاب أليم )

قال أبو جعفر : والأليم : هو الموجع . ومعناه : ولهم عذاب مؤلم . بصرف " مؤلم " إلى " أليم " كما يقال : ضرب وجيع بمعنى موجع ، والله بديع السماوات والأرض ، بمعنى مبدع . ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :


أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع


بمعنى المسمع . ومنه قول ذي الرمة :


وترفع من صدور شمردلات يصد وجوهها وهج أليم


ويروى " يصك " وإنما الأليم صفة للعذاب ، كأنه قال : ولهم عذاب مؤلم . وهو مأخوذ من الألم ، والألم : الوجع . كما :

334 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : الأليم ، الموجع .

335 - حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قال : الأليم ، الموجع . [ ص: 284 ]

336 - وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله " أليم " قال : هو العذاب الموجع . وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( بما كانوا يكذبون ( 10 ) )

اختلفت القرأة في قراءة ذلك فقرأه بعضهم : ( بما كانوا يكذبون ) مخففة الذال مفتوحة الياء ، وهي قراءة عظم قرأة أهل الكوفة . وقرأه آخرون : " يكذبون " بضم الياء وتشديد الذال ، وهي قراءة عظم أهل المدينة والحجاز والبصرة .

وكأن الذين قرءوا ذلك ، بتشديد الذال وضم الياء ، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذاب الأليم بتكذيبهم نبيه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لأحد اليسير من العذاب ، فكيف بالأليم منه ؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا . وذلك : أن الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة ، بأنهم يكذبون بدعواهم الإيمان ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم ، خداعا لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين ، فقال : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا ) [ ص: 285 ] بذلك من قيلهم ، مع استسرارهم الشك والريبة ، ( وما يخدعون ) بصنيعهم ذلك ( إلا أنفسهم ) دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ( وما يشعرون ) بموضع خديعتهم أنفسهم ، واستدراج الله عز وجل إياهم بإملائه لهم ، ( في قلوبهم ) شك النفاق وريبته والله زائدهم شكا وريبة بما كانوا يكذبون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم بألسنتهم آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم في قيلهم ذلك كذبة ، لاستسرارهم الشك والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم . فأولى في حكمة الله جل جلاله ، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم ، دون ما لم يجر له ذكر من أفعالهم . إذ كان سائر آيات تنزيله بذلك نزل ، وهو : أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قوم ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم ، ويفتتح ذكر مساوئ أفعال آخرين ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم .

فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذكر بعض مساوئ أفعال المنافقين - أن يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من قبائح أفعالهم . فهذا هذا ، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا ، وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا ، وأن الصواب من التأويل ما تأولنا ، من أن وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذاب الأليم على الكذب الجامع معنى الشك والتكذيب ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ) [ سورة المنافقون : 1 ، 2 ] . والآية [ ص: 286 ] الأخرى في المجادلة : ( اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ) [ سورة المجادلة : 16 ] . فأخبر جل ثناؤه أن المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون . ثم أخبر تعالى ذكره أن العذاب المهين لهم ، على ذلك من كذبهم . ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارئون في سورة البقرة : " ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " لكانت القراءة في السورة الأخرى : " والله يشهد إن المنافقين " لمكذبون ، ليكون الوعيد لهم الذي هو عقيب ذلك وعيدا على التكذيب لا على الكذب . وفي إجماع المسلمين على أن الصواب من القراءة في قوله : " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذاب الأليم على ذلك من كذبهم - أوضح الدلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة : " بما كانوا يكذبون " بمعنى الكذب ، وأن الوعيد من الله تعالى ذكره للمنافقين فيها على الكذب - حق - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذكر - نظير الذي في سورة المنافقين سواء .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif

ابوالوليد المسلم 14-02-2022 04:44 AM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(12)
الحلقة (28)
صــ 287إلى صــ 292

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن " ما " من قول الله تبارك اسمه " بما كانوا يكذبون " اسم للمصدر ، كما أن " أن " و " الفعل " اسمان للمصدر في قولك : أحب أن تأتيني ، وأن المعنى إنما هو بكذبهم وتكذيبهم . قال : وأدخل " كان " ليخبر أنه كان فيما مضى ، كما يقال : ما أحسن ما كان عبد الله ، فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه ، وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه . وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستخطئه ، ويقول : إنما ألغيت " كان " في التعجب ، لأن الفعل قد تقدمها ، فكأنه قال : " حسنا كان زيد " و " حسن كان زيد " يبطل " كان " ويعمل مع الأسماء والصفات التي بألفاظ الأسماء ، إذا جاءت قبل " كان " ووقعت " كان " بينها وبين الأسماء . وأما العلة في إبطالها إذا أبطلت في هذه الحال ، فلشبه الصفات والأسماء ب " فعل " و " يفعل " اللتين لا يظهر عمل [ ص: 287 ] " كان " فيهما . ألا ترى أنك تقول : " يقوم كان زيد " ولا يظهر عمل " كان " في " يقوم " وكذلك " قام كان زيد " فلذلك أبطل عملها مع " فاعل " تمثيلا ب " فعل " و " يفعل " وأعملت مع " فاعل " أحيانا لأنه اسم ، كما تعمل في الأسماء . فأما إذا تقدمت " كان " الأسماء والأفعال ، وكان الاسم والفعل بعدها ، فخطأ عنده أن تكون " كان " مبطلة . فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه ، وتأول قول الله عز وجل بما كانوا يكذبون أنه بمعنى : الذي يكذبونه .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض )

اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية :

فروي عن سلمان الفارسي أنه كان يقول : لم يجئ هؤلاء بعد .

337 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن علي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : سمعت المنهال بن عمرو يحدث ، عن عباد بن عبد الله ، عن سلمان ، قال : ما جاء هؤلاء بعد ، الذين ( إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) . [ ص: 288 ]

338 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني الأعمش ، عن زيد بن وهب وغيره ، عن سلمان ، أنه قال في هذه الآية : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، قال : ما جاء هؤلاء بعد .

وقال آخرون بما :

339 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، هم المنافقون . أما " لا تفسدوا في الأرض " فإن الفساد ، هو الكفر والعمل بالمعصية .

340 - وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) يقول : لا تعصوا في الأرض ( قالوا إنما نحن مصلحون ) ، قال : فكان فسادهم ذلك معصية الله جل ثناؤه ، لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته ، فقد أفسد في الأرض ، لأن إصلاح الأرض والسماء بالطاعة . [ ص: 289 ]

وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : إن قول الله تبارك اسمه : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ، نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان معنيا بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة .

وقد يحتمل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية : " ما جاء هؤلاء بعد " أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خبرا منه عمن هو جاء منهم بعدهم ولما يجئ بعد ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن هذه صفته أحد .

وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك صفة من كان بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المنافقين ، وأن هذه الآيات فيهم نزلت . والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن ، من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير .

والإفساد في الأرض ، العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه ، وتضييع ما أمر الله بحفظه ، فذلك جملة الإفساد ، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرا عن قيل ملائكته : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) [ سورة البقرة : 30 ] ، يعنون بذلك : أتجعل في الأرض من يعصيك ويخالف أمرك ؟ فكذلك صفة أهل النفاق : مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملا إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله ، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا . فذلك إفساد المنافقين في أرض الله ، وهم [ ص: 290 ] يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها . فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته ، ولا خفف عنهم أليم ما أعد من عقابه لأهل معصيته - بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون - بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره ، والأليم من عذابه ، والعار العاجل بسب الله إياهم وشتمه لهم ، فقال تعالى : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) . وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم ، أدل الدليل على تكذيبه تعالى قول القائلين : إن عقوبات الله لا يستحقها إلا المعاند ربه فيما لزمه من حقوقه وفروضه ، بعد علمه وثبوت الحجة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إياه .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( قالوا إنما نحن مصلحون ( 11 ) )

وتأويل ذلك كالذي قاله ابن عباس ، الذي :

341 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : ( إنما نحن مصلحون ) ، أي قالوا : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب .

وخالفه في ذلك غيره .

342 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) ، قال : إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا ، قالوا : إنما نحن على الهدى مصلحون . [ ص: 291 ]

قال أبو جعفر : وأي الأمرين كان منهم في ذلك ، أعني في دعواهم أنهم مصلحون ، فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون . فسواء بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاح ، أو في أديانهم ، وفيما ركبوا من معصية الله ، وكذبهم المؤمنين فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهروا مستبطنون ، لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين ، وهم عند الله مسيئون ، ولأمر الله مخالفون . لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوة اليهود وحربهم مع المسلمين ، وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله ، كالذي ألزم من ذلك المؤمنين . فكان لقاؤهم اليهود - على وجه الولاية منهم لهم - ، وشكهم في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله - أعظم الفساد ، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحا وهدى : في أديانهم أو فيما بين المؤمنين واليهود ، فقال جل ثناؤه فيهم : ( ألا إنهم هم المفسدون ) دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض ، ( ولكن لا يشعرون )
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ( 12 ) )

وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيب للمنافقين في دعواهم . إذا أمروا بطاعة الله فيما أمرهم الله به ، ونهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه ، قالوا : إنما نحن مصلحون لا مفسدون ، ونحن على رشد وهدى - فيما أنكرتموه علينا - دونكم لا ضالون . فكذبهم الله عز وجل في ذلك من قيلهم فقال : ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمر الله عز وجل ، المتعدون حدوده ، الراكبون معصيته ، التاركون فروضه ، وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين ، [ ص: 292 ] وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين .
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس )

قال أبو جعفر : وتأويل قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) يعني : وإذا قيل لهؤلاء الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم يقولون : ( آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) : صدقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله ، كما صدق به الناس . ويعني ب " الناس " المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله . كما :

343 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) ، يقول : وإذا قيل لهم صدقوا كما صدق أصحاب محمد ، قولوا : إنه نبي ورسول ، وإن ما أنزل عليه حق ، وصدقوا بالآخرة ، وأنكم مبعوثون من بعد الموت .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 14-02-2022 04:44 AM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(13)
الحلقة (29)
صــ 293إلى صــ 298

وإنما أدخلت الألف واللام في " الناس " وهم بعض الناس لا جميعهم ، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم ، وإنما معناه : آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر . فلذلك أدخلت الألف واللام فيه ، كما أدخلتا في قوله : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) [ ص: 293 ] [ سورة آل عمران : 173 ] ، لأنه أشير بدخولها إلى ناس معروفين عند من خوطب بذلك .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء )

قال أبو جعفر : والسفهاء جمع سفيه ، كما العلماء جمع عليم ، والحكماء جمع حكيم . والسفيه : الجاهل ، الضعيف الرأي ، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار . ولذلك سمى الله عز وجل النساء والصبيان سفهاء ، فقال تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) [ سورة النساء : 5 ] ، فقال عامة أهل التأويل : هم النساء والصبيان ، لضعف آرائهم ، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضار التي تصرف إليها الأموال .

وإنما عنى المنافقون بقيلهم : أنؤمن كما آمن السفهاء - إذ دعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله ، والإقرار بالبعث فقيل لهم : آمنوا كما آمن [ الناس ] - أصحاب محمد وأتباعه من المؤمنين المصدقين به ، من أهل الإيمان واليقين ، والتصديق بالله ، وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي كتابه ، وباليوم الآخر . فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم : أنؤمن كما آمن أهل الجهل ، ونصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام ؟ كالذي :

344 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن [ ص: 294 ] عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) ، يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

345 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

346 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : " قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء " قال : هذا قول المنافقين ، يريدون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

347 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) يقولون : أنقول كما تقول السفهاء ؟ يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، لخلافهم لدينهم .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ( 13 ) )

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعته لهم ، ووصفه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب - أنهم هم الجهال في أديانهم ، [ ص: 295 ] الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم ، من الشك والريب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوته ، وفيما جاء به من عند الله ، وأمر البعث ، لإساءتهم إلى أنفسهم بما أتوا من ذلك وهم يحسبون أنهم إليها يحسنون . وذلك هو عين السفه ، لأن السفيه إنما يفسد من حيث يرى أنه يصلح ، ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ ، فكذلك المنافق : يعصي ربه من حيث يرى أنه يطيعه ، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به ، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إليها ، كما وصفهم به ربنا جل ذكره ، فقال : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) ، وقال : ( ألا إنهم هم السفهاء ) - دون المؤمنين المصدقين بالله وبكتابه ، وبرسوله وثوابه وعقابه - ( ولكن لا يعلمون ) . وكذلك كان ابن عباس يتأول هذه الآية .

348 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه : ( ألا إنهم هم السفهاء ) ، يقول : الجهال ، ( ولكن لا يعلمون ) ، يقول : ولكن لا يعقلون .

وأما وجه دخول الألف واللام في " السفهاء " فشبيه بوجه دخولهما في " الناس " في قوله : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) ، وقد بينا العلة في دخولهما هنالك ، والعلة في دخولهما في " السفهاء " نظيرتها في دخولهما في " الناس " هنالك ، سواء .

والدلالة التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبة من الله لا يستحقها إلا المعاند ربه ، بعد علمه بصحة ما عانده فيه - نظير دلالة الآيات الأخر التي قد تقدم ذكرنا تأويلها في قوله " ولكن لا يشعرون " ونظائر ذلك .
[ ص: 296 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم )

قال أبو جعفر : وهذه الآية نظيرة الآية الأخرى التي أخبر الله جل ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسوله والمؤمنين ، فقال تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) . ثم أكذبهم تعالى ذكره بقوله : ( وما هم بمؤمنين ) ، وأنهم بقيلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا . وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون - للمؤمنين المصدقين بالله وكتابه ورسوله - بألسنتهم : آمنا وصدقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله ، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم ، ودرءا لهم عنها ، وأنهم إذا خلوا إلى مردتهم وأهل العتو والشر والخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله وبكتابه ورسوله - وهم شياطينهم ، وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطين كل شيء مردته - قالوا لهم : " إنا معكم " أي إنا معكم على دينكم ، وظهراؤكم على من خالفكم فيه ، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، " إنما نحن مستهزئون " بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه ، كالذي :

349 - حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم ، قالوا : إنا على دينكم . وإذا خلوا إلى أصحابهم ، وهم شياطينهم ، قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون . [ ص: 397 ]

350 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم ) قال : إذا خلوا إلى شياطينهم من يهود ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول ( قالوا إنا معكم ) ، أي إنا على مثل ما أنتم عليه ( إنما نحن مستهزئون ) .

351 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، أما شياطينهم ، فهم رءوسهم في الكفر .

352 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) أي رؤسائهم في الشر ( قالوا إنما نحن مستهزئون ) .

353 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر عن قتادة في قوله : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : المشركون .

354 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفار .

355 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن شبل بن عباد ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : أصحابهم من المنافقين والمشركين .

356 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي [ ص: 198 ] جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : إخوانهم من المشركين ، ( قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) .

357 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال : إذا أصاب المؤمنين رخاء قالوا : إنا نحن معكم ، إنما نحن إخوانكم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين .

358 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وقال مجاهد : شياطينهم : أصحابهم من المنافقين والمشركين .

فإن قال لنا قائل : أرأيت قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ؟ فكيف قيل : ( خلوا إلى شياطينهم ) ، ولم يقل خلوا بشياطينهم ؟ فقد علمت أن الجاري بين الناس في كلامهم : " خلوت بفلان " أكثر وأفشى من : " خلوت إلى فلان " ومن قولك : إن القرآن أفصح البيان!

قيل : قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب . فكان بعض نحويي البصرة يقول : يقال " خلوت إلى فلان " إذا أريد به : خلوت إليه في حاجة خاصة . لا يحتمل - إذا قيل كذلك - إلا الخلاء إليه في قضاء الحاجة . فأما إذا قيل : " خلوت به " احتمل معنيين : أحدهما الخلاء به في الحاجة ، والآخر في السخرية به . فعلى هذا القول ، ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، لا شك أفصح منه لو قيل " وإذا خلوا بشياطينهم " لما في قول القائل : " إذا خلوا بشياطينهم " من التباس المعنى على سامعيه ، الذي هو منتف عن قوله : " وإذا خلوا إلى شياطينهم " فهذا أحد الأقوال .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 14-02-2022 04:45 AM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(14)
الحلقة (30)
صــ 299إلى صــ 304

والقول الآخر : فأن توجه معنى قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، " وإذا [ ص: 299 ] خلوا مع شياطينهم " إذ كانت حروف الصفات يعاقب بعضها بعضا ، كما قال الله مخبرا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين : ( من أنصاري إلى الله ) [ سورة الصف : 14 ] ، يريد : مع الله . وكما توضع " على " في موضع " من " و " في " و " عن " و " الباء " كما قال الشاعر :


إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها


بمعنى عني .

وأما بعض نحويي أهل الكوفة ، فإنه كان يتأول أن ذلك بمعنى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب ل " إلى " المعنى الذي دل عليه الكلام : من انصراف المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم ، لا قوله " خلوا " وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع " إلى " غيرها ، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها .

وهذا القول عندي أولى بالصواب ، لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أولى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها . ول " إلى " في كل موضع دخلت من الكلام حكم ، وغير جائز سلبها معانيها في أماكنها .
[ ص: 300 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( إنما نحن مستهزئون ( 14 ) )

أجمع أهل التأويل جميعا - لا خلاف بينهم - على أن معنى قوله : ( إنما نحن مستهزئون ) : إنما نحن ساخرون . فمعنى الكلام إذا : وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مردتهم من المنافقين والمشركين قالوا : إنا معكم على ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، ومعاداته ومعاداة أتباعه ، إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، بقيلنا لهم إذا لقيناهم : آمنا بالله وباليوم الآخر كما :

359 - حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا : ( إنما نحن مستهزئون ) ، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

360 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي : إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم .

361 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : ( إنما نحن مستهزئون ) ، إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونسخر بهم .

362 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 301 ] القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( الله يستهزئ بهم )

قال أبو جعفر : اختلف في صفة استهزاء الله جل جلاله ، الذي ذكر أنه فاعله بالمنافقين ، الذين وصف صفتهم . فقال بعضهم : استهزاؤه بهم ، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعل بهم يوم القيامة في قوله تعالى : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ) [ سورة الحديد : 13 ، 14 ] . الآية . وكالذي أخبرنا أنه فعل بالكفار بقوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) [ سورة آل عمران : 178 ] . فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول ، ومتأولي هذا التأويل .

وقال آخرون : بل استهزاؤه بهم ، توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصي الله والكفر به ، كما يقال : " إن فلانا ليهزأ منه منذ اليوم ، ويسخر منه " يراد به توبيخ الناس إياه ولومهم له ، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم ، كما قال عبيد بن الأبرص :


سائل بنا حجر ابن أم قطام ، إذ ظلت به السمر النواهل تلعب
[ ص: 302 ]

فزعموا أن السمر - وهي القنا - لا لعب منها ، ولكنها لما قتلتهم وشردتهم ، جعل ذلك من فعلها لعبا بمن فعلت ذلك به . قالوا : فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بمن استهزأ به من أهل النفاق والكفر به : إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم ، وإما إملاؤه لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتة ، أو توبيخه لهم ولائمته إياهم . قالوا : وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسخرية .

وقال آخرون قوله : ( يخادعون الله وهو خادعهم ) [ سورة النساء : 142 ] على الجواب ، كقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به : " أنا الذي خدعتك " ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه . قالوا : وكذلك قوله : ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) [ سورة آل عمران : 54 ] ، و " الله يستهزئ بهم " على الجواب . والله لا يكون منه المكر ولا الهزء ، والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم .

وقال آخرون : قوله : ( إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ) ، وقوله : ( يخادعون الله وهو خادعهم ) [ سورة النساء : 142 ] ، وقوله : ( فيسخرون منهم سخر الله منهم ) [ سورة التوبة : 79 ] ، ( نسوا الله فنسيهم ) [ سورة التوبة : 67 ] ، وما أشبه ذلك ، إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ، ومعاقبهم عقوبة الخداع . فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم ، مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ، وإن اختلف المعنيان . كما قال جل ثناؤه : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ سورة الشورى : 40 ] ، ومعلوم أن الأولى من صاحبها سيئة ، إذ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية ، وأن الأخرى عدل ، لأنها من الله جزاء [ ص: 303 ] للعاصي على المعصية ، فهما - وإن اتفق لفظاهما - مختلفا المعنى . وكذلك قوله : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) [ سورة البقرة : 194 ] ، فالعدوان الأول ظلم ، والثاني جزاء لا ظلم ، بل هو عدل ، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه ، وإن وافق لفظه لفظ الأول .

وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك ، مما هو خبر عن مكر الله جل وعز بقوم ، وما أشبه ذلك .

وقال آخرون : إن معنى ذلك : أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا : إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإنما نحن بما نظهر لهم - من قولنا لهم : صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون . يعنون : إنا نظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حق ولا هدى . قالوا : وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء ، فأخبر الله أنه " يستهزئ بهم " فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي لهم عنده في الآخرة ، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم .

والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا : أن معنى الاستهزاء في كلام العرب : إظهار المستهزئ للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهرا ، وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطنا . وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 06-03-2022 08:36 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 

https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(15)
الحلقة (31)
صــ 305إلى صــ 310

فإذا كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم ، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله ، المدخلهم في عداد من يشمله اسم الإسلام ، وإن كانوا لغير ذلك [ ص: 304 ] مستبطنين - أحكام المسلمين المصدقين إقرارهم بألسنتهم بذلك ، بضمائر قلوبهم ، وصحائح عزائمهم ، وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - مع علم الله عز وجل بكذبهم ، واطلاعه على خبث اعتقادهم ، وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم أنهم به مصدقون ، حتى ظنوا في الآخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا ، أنهم واردون موردهم . وداخلون مدخلهم . والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الملحقتهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه ، وتفريقه بينهم وبينهم - معد لهم من أليم عقابه ونكال عذابه ، ما أعد منه لأعدى أعدائه وشر عباده ، حتى ميز بينهم وبين أوليائه ، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الأسفل كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم - وإن كان جزاء لهم على أفعالهم ، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له - كان بهم - بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم : من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء ، وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين - إلى أن ميز بينهم وبينهم - مستهزئا ، وبهم ساخرا ، ولهم خادعا ، وبهم ماكرا . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل ، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم ، أو عليه فيها غير عادل ، بل ذلك معناه في كل أحواله ، إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره . [ ص: 305 ]

وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس :

363 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " الله يستهزئ بهم " قال : يسخر بهم للنقمة منهم .

وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره : الله يستهزئ بهم " إنما هو على وجه الجواب ، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة ، فنافون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه ، وأوجبه لها . وسواء قال قائل : لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به ، أو قال : لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم ، ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم .

ويقال لقائل ذلك : إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم ، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم ، وعن آخرين أنه أغرقهم ، فصدقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك ، ولم نفرق بين شيء منه . فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه ، بزعمك : أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به ، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به ؟

ثم نعكس القول عليه في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله .

فإن لجأ إلى أن يقول : إن الاستهزاء عبث ولعب ، وذلك عن الله عز وجل منفي .

قيل له : إن كان الأمر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء ، أفلست [ ص: 306 ] تقول : " الله يستهزئ بهم " و " سخر الله منهم " و " مكر الله بهم " وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية ؟

فإن قال : " لا " كذب بالقرآن ، وخرج عن ملة الإسلام .

وإن قال : " بلى " قيل له : أفنقول من الوجه الذي قلت : " الله يستهزئ بهم " و " سخر الله منهم " - " يلعب الله بهم " و " يعبث " - ولا لعب من الله ولا عبث ؟

فإن قال : " نعم " ! وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه ، وعلى تخطئة واصفه به ، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه .

وإن قال : لا أقول : " يلعب الله بهم " ولا " يعبث " وقد أقول " يستهزئ بهم " و " يسخر منهم "

قيل : فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث ، والهزء والسخرية ، والمكر والخديعة . ومن الوجه الذي جاز قيل هذا ، ولم يجز قيل هذا ، افترق معنياهما . فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر .

وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا ، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه . وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ويمدهم )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ويمدهم ) ، فقال بعضهم بما :

364 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - [ ص: 307 ] وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يمدهم " يملي لهم .

وقال آخرون بما :

365 - حدثني به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة عن مجاهد : " يمدهم " قال : يزيدهم .

وكان بعض نحويي البصرة يتأول ذلك أنه بمعنى : يمد لهم ، ويزعم أن ذلك نظير قول العرب : الغلام يلعب الكعاب ، يراد به يلعب بالكعاب . قال : وذلك أنهم قد يقولون : " قد مددت له وأمددت له " في غير هذا المعنى ، وهو قول الله تعالى ذكره : ( وأمددناهم ) [ سورة الطور : 22 ] ، وهذا من : " مددناهم " قال : ويقال : قد " مد البحر فهو ماد " و " أمد الجرح فهو ممد " وحكي عن يونس الجرمي أنه كان يقول : ما كان من الشر فهو " مددت " وما كان من الخير فهو " أمددت " ثم قال : وهو كما فسرت لك ، إذا أردت أنك تركته فهو " مددت له " وإذا أردت أنك أعطيته قلت : " أمددت "

وأما بعض نحويي الكوفة فإنه كان يقول : كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو " مددت " بغير ألف ، كما تقول : " مد النهر ، ومده نهر آخر غيره " إذا اتصل به فصار منه ، وكل زيادة أحدثت في الشيء من غيره فهو بألف ، كقولك : " أمد الجرح " لأن المدة من غير الجرح ، وأمددت الجيش بمدد .

وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله : " ويمدهم " : أن يكون بمعنى يزيدهم ، على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم ، كما وصف ربنا أنه فعل بنظرائهم في قوله [ ص: 308 ] ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ سورة الأنعام : 110 ] ، يعني نذرهم ونتركهم فيه ، ونملي لهم ليزدادوا إثما إلى إثمهم .

ولا وجه لقول من قال : ذلك بمعنى " يمد لهم " لأنه لا تدافع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها أن يستجيزوا قول القائل : " مد النهر نهر آخر " بمعنى : اتصل به فصار زائدا ماء المتصل به بماء المتصل - من غير تأول منهم . ذلك أن معناه : مد النهر نهر آخر . فكذلك ذلك في قول الله : ( ويمدهم في طغيانهم يعمهون )
القول في تأويل قوله : ( في طغيانهم )

قال أبو جعفر : و " الطغيان " " الفعلان " من قولك : " طغى فلان يطغى طغيانا " إذا تجاوز في الأمر حده فبغى . ومنه قول الله : ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ سورة العلق : 6 ، 7 ] ، أي يتجاوز حده . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :


ودعا الله دعوة لات هنا بعد طغيانه ، فظل مشيرا


وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله ( ويمدهم في طغيانهم ) ، [ ص: 309 ] أنه يملي لهم ، ويذرهم يبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون . كما :

366 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( في طغيانهم يعمهون ) ، قال : في كفرهم يترددون .

367 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " في طغيانهم " في كفرهم .

368 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، ( في طغيانهم يعمهون ) ، أي في ضلالتهم يعمهون .

369 - حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " في طغيانهم " في ضلالتهم .

370 - وحدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله " في طغيانهم " قال : طغيانهم كفرهم وضلالتهم .
القول في تأويل قوله : ( يعمهون ( 15 ) )

قال أبو جعفر : والعمه نفسه : الضلال . يقال منه : عمه فلان يعمه عمهانا وعموها ، إذا ضل . ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مضلة من المهامه :


ومخفق من لهله ولهله من مهمه يجتبنه في مهمه
[ ص: 310 ]
أعمى الهدى بالجاهلين العمه


و " العمه " جمع عامه ، وهم الذين يضلون فيه فيتحيرون . فمعنى قوله إذا : ( في طغيانهم يعمهون ) : في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه ، وعلاهم رجسه ، يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا .

وبنحو ما قلنا في " العمه " جاء تأويل المتأولين .

371 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يعمهون " يتمادون في كفرهم .

372 - وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يعمهون " قال : يتمادون .

373 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " يعمهون " قال : يترددون .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 06-03-2022 08:36 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(17)
الحلقة (32)
صــ 311إلى صــ 315


374 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " يعمهون " : المتلدد . [ ص: 311 ]

375 - حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( في طغيانهم يعمهون ) ، قال : يترددون .

376 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

377 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .

378 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة ، عن مجاهد ، مثله .

379 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، " يعمهون " قال : يترددون .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى )

قال أبو جعفر : إن قال قائل : وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بالهدى ، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم إيمان فيقال فيهم : باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه ؟ وقد علمت أن معنى الشراء المفهوم : اعتياض شيء ببذل شيء مكانه عوضا منه ، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة ، لم يكونوا قط على هدى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفاقا ؟ [ ص: 312 ]

قيل : قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فنذكر ما قالوا فيه ، ثم نبين الصحيح من التأويل في ذلك إن شاء الله :

380 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، أي الكفر بالإيمان .

381 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، يقول : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى .

382 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، استحبوا الضلالة على الهدى .

383 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، آمنوا ثم كفروا .

384 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

قال أبو جعفر : فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك : " أخذوا الضلالة وتركوا الهدى " - وجهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترى مكان الثمن المشترى به ، فقالوا : كذلك المنافق والكافر ، قد أخذا مكان الإيمان الكفر ، فكان ذلك منهما شراء [ ص: 313 ] للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى ، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التي أخذاها .

وأما الذين تأولوا أن معنى قوله " اشتروا " : " استحبوا " فإنهم لما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفار في موضع آخر ، فنسبهم إلى استحبابهم الكفر على الهدى ، فقال : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) [ سورة فصلت : 17 ] ، صرفوا قوله : ( اشتروا الضلالة بالهدى ) إلى ذلك . وقالوا : قد تدخل " الباء " مكان " على " و " على " مكان " الباء " كما يقال : مررت بفلان ، ومررت على فلان ، بمعنى واحد ، وكقول الله جل ثناؤه : ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) [ سورة آل عمران : 75 ] ، أي على قنطار . فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء : أولئك الذين اختاروا الضلالة على الهدى . وأراهم وجهوا معنى قول الله جل ثناؤه " اشتروا " إلى معنى اختاروا ، لأن العرب تقول : اشتريت كذا على كذا ، واستريته - يعنون اخترته عليه .

ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة


فقد أخرج الكاعب المسترا ة من خدرها وأشيع القمار


يعني بالمستراة : المختارة .

وقال ذو الرمة ، في الاشتراء بمعنى الاختيار :


يذب القصايا عن شراة كأنها جماهير تحت المدجنات الهواضب


.

يعني بالشراة : المختارة . [ ص: 314 ]

وقال آخر في مثل ذلك :


إن الشراة روقة الأموال وحزرة القلب خيار المال


قال أبو جعفر : وهذا ، وإن كان وجها من التأويل ، فلست له بمختار . لأن الله جل ثناؤه قال : ( فما ربحت تجارتهم ) ، فدل بذلك على أن معنى قوله ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) معنى الشراء الذي يتعارفه الناس ، من استبدال شيء مكان شيء ، وأخذ عوض على عوض .

وأما الذين قالوا : إن القوم كانوا مؤمنين وكفروا ، فإنه لا مئونة عليهم ، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم . لأن الأمر إذا كان كذلك ، فقد تركوا الإيمان ، واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى . وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع ، ولكن دلائل أول الآيات في نعوتهم إلى آخرها ، دالة على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان ، ولا دخلوا في ملة الإسلام ، أوما تسمع الله جل ثناؤه من لدن ابتدأ في نعتهم ، إلى أن أتى على صفتهم ، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم : بدعواهم التصديق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، خداعا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم ، واستهزاء في نفوسهم بالمؤمنين ، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون . يقول الله جل جلاله : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، ثم اقتص قصصهم إلى قوله : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ؟ [ ص: 315 ] فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا ؟

فإن كان قائل هذه المقالة ظن أن قوله : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " هو الدليل على أن القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر ، فلذلك قيل لهم " اشتروا " - فإن ذلك تأويل غير مسلم له ، إذ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره ، وقد يكون بمعنى الاختيار ، وبغير ذلك من المعاني . والكلمة إذا احتملت وجوها ، لم يكن لأحد صرف معناها إلى بعض وجوهها دون بعض ، إلا بحجة يجب التسليم لها .

قال أبو جعفر : والذي هو أولى عندي بتأويل الآية ، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله : ( اشتروا الضلالة بالهدى ) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى . وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدل بالإيمان كفرا ، باكتسابه الكفر الذي وجد منه ، بدلا من الإيمان الذي أمر به . أوما تسمع الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرا به مكان الإيمان به وبرسوله : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) [ سورة البقرة : 108 ] وذلك هو معنى الشراء ، لأن كل مشتر شيئا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بديلا منه . فكذلك المنافق والكافر ، استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق ، فأضلهما الله ، وسلبهما نور الهدى ، فترك جميعهم في ظلمات لا يبصرون .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 06-03-2022 08:37 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(18)
الحلقة (33)
صــ 316إلى صــ 320


القول في تأويل قوله : ( فما ربحت تجارتهم )

قال أبو جعفر : وتأويل ذلك أن المنافقين - بشرائهم الضلالة بالهدى - خسروا ولم يربحوا ، لأن الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه [ ص: 316 ] بدلا هو أنفس من سلعته المملوكة أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به . فأما المستبدل من سلعته بدلا دونها ودون الثمن الذي ابتاعها به ، فهو الخاسر في تجارته لا شك . فكذلك الكافر والمنافق ، لأنهما اختارا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى ، والخوف والرعب على الحفظ والأمن ، واستبدلا في العاجل : بالرشاد الحيرة ، وبالهدى الضلالة ، وبالحفظ الخوف ، وبالأمن الرعب - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب ، فخابا وخسرا ، ذلك هو الخسران المبين .

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول .

385 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) [ ص: 317 ] : قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه قوله : ( فما ربحت تجارتهم ) ؟ وهل التجارة مما تربح أو توكس ، فيقال : ربحت أو وضعت ؟

قيل : إن وجه ذلك على غير ما ظننت . وإنما معنى ذلك : فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشتروا ، ولا فيما شروا . ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربا فسلك في خطابه إياهم وبيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا ، وبيانهم المستعمل بينهم . فلما كان فصيحا لديهم قول القائل لآخر : خاب سعيك ، ونام ليلك ، وخسر بيعك ، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام ، فقال : ( فما ربحت تجارتهم ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة ، كما النوم في الليل . فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك ، عن أن يقال : فما ربحوا في تجارتهم ، وإن كان ذلك معناه ، كما قال الشاعر :


وشر المنايا ميت وسط أهله كهلك الفتاة أسلم الحي حاضره


يعني بذلك : وشر المنايا منية ميت وسط أهله ، فاكتفى بفهم سامع قيله مراده من ذلك ، عن إظهار ما ترك إظهاره ، وكما قال رؤبة بن العجاج :


حارث! قد فرجت عني همي فنام ليلي وتجلى غمي


فوصف بالنوم الليل ، ومعناه أنه هو الذي نام ، وكما قال جرير بن الخطفى :


وأعور من نبهان أما نهاره فأعمى ، وأما ليله فبصير


فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار ، ومراده وصف النبهاني بذلك .
القول في تأويل قوله : ( وما كانوا مهتدين ( 16 ) )

يعني بقوله جل ثناؤه ( وما كانوا مهتدين ) : ما كانوا رشداء في اختيارهم الضلالة على الهدى ، واستبدالهم الكفر بالإيمان ، واشترائهم النفاق بالتصديق والإقرار .
[ ص: 318 ] القول في تأويل قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ( 17 ) )

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ، وقد علمت أن " الهاء والميم " من قوله " مثلهم " كناية جماع - من الرجال أو الرجال والنساء - و " الذي " دلالة على واحد من الذكور ؟ فكيف جعل الخبر عن واحد مثلا لجماعة ؟ وهلا قيل : مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا ؟ وإن جاز عندك أن تمثل الجماعة بالواحد ، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبته صورهم وتمام خلقهم وأجسامهم ، أن يقول : كأن هؤلاء ، أو كأن أجسام هؤلاء ، نخ لة ؟

قيل : أما في الموضع الذي مثل ربنا جل ثناؤه جماعة من المنافقين ، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسن ، وفي نظائره كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك : ( تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) [ سورة الأحزاب : 19 ] ، يعني كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت - وكقوله : ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) [ سورة لقمان : 28 ] بمعنى : إلا كبعث نفس واحدة .

وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال ، في الطول وتمام الخلق ، بالواحدة من النخيل ، فغير جائز ، ولا في نظائره ، لفرق بينهما .

فأما تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد ، فإنما جاز ، لأن المراد من [ ص: 319 ] الخبر عن مثل المنافقين ، الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرديئة ، وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر . والاستضاءة - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنى واحد ، لا معان مختلفة . فالمثل لها في معنى المثل للشخص الواحد ، من الأشياء المختلفة الأشخاص .

وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، قولا وهم به مكذبون اعتقادا ، كمثل استضاءة الموقد نارا . ثم أسقط ذكر الاستضاءة ، وأضيف المثل إليهم ، كما قال نابغة بني جعدة :


وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب


يريد : كخلالة أبي مرحب ، فأسقط " خلالة " إذ كان فيما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه على ما حذف منه . فكذلك القول في قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ، لما كان معلوما عند سامعيه بما أظهر من الكلام ، أن المثل إنما ضرب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حسن حذف ذكر الاستضاءة ، وإضافة المثل إلى أهله . والمقصود بالمثل ما ذكرنا . فلما وصفنا ، جاز وحسن قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) ، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد ، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى .

وأما إذا أريد تشبيه الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام ، بشيء - فالصواب من الكلام تشبيه الجماعة بالجماعة ، والواحد بالواحد ، لأن عين كل واحد منهم غير أعيان الآخرين .

ولذلك من المعنى ، افترق القول في تشبيه الأفعال والأسماء . فجاز تشبيه أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحد - بفعل الواحد ، [ ص: 320 ] ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل . فيقال : ما أفعالكم إلا كفعل الكلب ، ثم يحذف فيقال : ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب ، وأنت تعني : إلا كفعل الكلب ، وإلا كفعل الكلاب . ولم يجز أن تقول : ما هم إلا نخلة ، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطول والتمام .

وأما قوله : ( استوقد نارا ) ، فإنه في تأويل : أوقد ، كما قال الشاعر :


وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب


يريد : فلم يجبه . فكان معنى الكلام إذا مثل استضاءة هؤلاء المنافقين في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم ، من قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وصدقنا بمحمد وبما جاء به ، وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم مثل استضاءة موقد نار بناره ، حتى أضاءت له النار ما حوله ، يعني : ما حول المستوقد .

وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة : أن " الذي " في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " بمعنى الذين ، كما قال جل ثناؤه : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) [ سورة الزمر : 33 ] ، وكما قال الشاعر :


فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد

https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 06-03-2022 08:38 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(19)
الحلقة (34)
صــ 321إلى صــ 325

قال أبو جعفر : والقول الأول هو القول ، لما وصفنا من العلة . وقد أغفل قائل [ ص: 321 ] ذلك فرق ما بين " الذي " في الآيتين وفي البيت . لأن " الذي " في قوله : " والذي جاء بالصدق " قد جاءت الدلالة على أن معناها الجمع ، وهو قوله : ( أولئك هم المتقون ) ، وكذلك " الذي " في البيت ، وهو قوله " دماؤهم " وليست هذه الدلالة في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " فذلك فرق ما بين " الذي " في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " وسائر شواهده التي استشهد بها على أن معنى " الذي " في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " بمعنى الجماع . وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره ، إلا بحجة يجب التسليم لها .

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فروي عن ابن عباس فيه أقوال :

أحدها ما :

386 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ضرب الله للمنافقين مثلا فقال : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) أي يبصرون الحق ويقولون به ، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه ، فتركهم في ظلمات الكفر ، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق . والآخر ما :

387 - حدثنا به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) إلى آخر الآية : هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز ، كما سلب صاحب النار ضوءه . ( وتركهم في ظلمات ) يقول : في عذاب . [ ص: 322 ]

والثالث : ما

388 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) ، زعم أن أناسا دخلوا في الإسلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ثم إنهم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي ، فبينا هو كذلك ، إذ طفئت ناره ، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى . فكذلك المنافق : كان في ظلمة الشرك فأسلم ، فعرف الحلال من الحرام ، والخير من الشر ، فبينا هو كذلك إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ، ولا الخير من الشر . وأما النور ، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وكانت الظلمة نفاقهم . والآخر : ما

389 - حدثني به محمد بن سعيد ، قال : حدثني أبي سعيد بن محمد قال : حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) إلى " فهم لا يرجعون " ضربه الله مثلا للمنافق . وقوله : ( ذهب الله بنورهم ) قال : أما النور ، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به . وأما الظلمة ، فهي ضلالتهم وكفرهم يتكلمون به ، وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم ، فعتوا بعد ذلك .

وقال آخرون : بما

390 - حدثني به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) ، وإن المنافق تكلم [ ص: 323 ] بلا إله إلا الله ، فأضاءت له في الدنيا ، فناكح بها المسلمين ، وغازى بها المسلمين ، ووارث بها المسلمين ، وحقن بها دمه وماله . فلما كان عند الموت ، سلبها المنافق ، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في علمه .

391 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " هي : لا إله إلا الله ، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا ، وأمنوا في الدنيا ، ونكحوا النساء ، وحقنوا بها دماءهم ، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون .

392 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم ، قوله : " كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " قال : أما النور ، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به ، وأما الظلمات ، فهي ضلالتهم وكفرهم .

وقال آخرون بما :

393 - حدثني به محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " قال : أما إضاءة النار ، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى ، وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة . [ ص: 324 ]

394 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى ، وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة .

395 - حدثني القاسم ، قال : حدثني الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

396 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ضرب مثل أهل النفاق فقال : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " قال : إنما ضوء النار ونورها ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها . كذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له ، فإذا شك وقع في الظلمة .

397 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " إلى آخر الآية ، قال : هذه صفة المنافقين . كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم ، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه ، كما ذهب بضوء هذه النار ، فتركهم في ظلمات لا يبصرون .

وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة ، والضحاك ، وما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وذلك : أن الله جل ثناؤه إنما ضرب هذا المثل للمنافقين - الذين وصف صفتهم وقص قصصهم ، من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " لا المعلنين بالكفر المجاهرين [ ص: 325 ] بالشرك ، ولو كان المثل لمن آمن إيمانا صحيحا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحا - على ما ظن المتأول قول الله جل ثناؤه : ( كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) : أن ضوء النار مثل لإيمانهم الذي كان منهم عنده على صحة ، وأن ذهاب نورهم مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن هناك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفاق . وأنى يكون خداع ونفاق ممن لم يبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجب لك العلم بحاله التي هو لك عليها ، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها ؟ إن هذا بغير شك من النفاق بعيد ، ومن الخداع بريء . وإذ كان القوم لم تكن لهم إلا حالتان : حال إيمان ظاهر ، وحال كفر ظاهر ، فقد سقط عن القوم اسم النفاق ؛ لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين ، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين . ولا حالة هناك ثالثة كانوا بها منافقين .

وفي وصف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق ، ما ينبئ عن أن القول غير القول الذي زعمه من زعم : أن القوم كانوا مؤمنين ، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه ، إلى الكفر الذي هو نفاق . وذلك قول إن قاله ، لم تدرك صحته إلا بخبر مستفيض ، أو ببعض المعاني الموجبة صحته . فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته ، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 06-03-2022 08:38 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(20)
الحلقة (35)
صــ 326إلى صــ 330

فإذ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك ، فأولى تأويلات الآية بالآية : مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به ، وقولهم له وللمؤمنين : آمنا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، حتى حكم لهم بذلك [ ص: 326 ] في عاجل الدنيا بحكم المسلمين : في حقن الدماء والأموال ، والأمن على الذرية من السباء ، وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقد النار بالنار ، حتى إذا ارتفق بضيائها ، وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلمة ، خمدت النار وانطفأت ، فذهب نوره ، وعاد المستضيء به في ظلمة وحيرة .

وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه في حياته القتل والسباء ، مع استبطانه ما كان مستوجبا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه - تخيل إليه بذلك نفسه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادع ، حتى سولت له نفسه - إذ ورد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق . أوما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ، ثم أخبر خبرهم عند ورودهم عليه : ( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ) [ سورة المجادلة : 18 ] ، ظنا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة ، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا : من الكذب والإفك ، وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم في الدنيا ، حتى عاينوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال ، واستهزاء بأنفسهم وخداع ، إذ أطفأ الله نورهم يوم القيامة ، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا واصلوا سعيرا . فذلك حين ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، كما انطفأت نار المستوقد النار بعد إضاءتها له ، فبقي في ظلمته حيران تائها ، يقول الله جل ثناؤه : [ ص: 327 ] ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ) [ سورة الحديد : 13 - 15 ] .

فإن قال لنا قائل : إنك ذكرت أن معنى قول الله تعالى ذكره " كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " : خمدت وانطفأت ، وليس ذلك بموجود في القرآن . فما دلالتك على أن ذلك معناه ؟

قيل : قد قلنا إن من شأن العرب الإيجاز والاختصار ، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفت وتركت ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي :


عصيت إليها القلب ، إني لأمرها سميع ، فما أدري أرشد طلابها!


يعني بذلك : فما أدري أرشد طلابها أم غي ، فحذف ذكر " أم غي " إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها ، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير :


فلما لبسن الليل ، أو حين ، نصبت له من خذا آذانها وهو جانح
[ ص: 328 ]

يعني : أو حين أقبل الليل ، في نظائر لذلك كثيرة ، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها . فكذلك قوله : " كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " لما كان فيه وفيما بعده من قوله : " ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون " [ ص: 329 ] دلالة على المتروك كافية من ذكره - اختصر الكلام طلب الإيجاز .

وكذلك حذف ما حذف واختصار ما اختصر من الخبر عن مثل المنافقين بعده ، نظير ما اختصر من الخبر عن مثل المستوقد النار . لأن معنى الكلام : فكذلك المنافقون ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضوء نار هذا المستوقد ، بانطفاء ناره وخمودها ، فبقي في ظلمة لا يبصر .

و " الهاء والميم " في قوله " ذهب الله بنورهم " عائدة على " الهاء والميم " في قوله " مثلهم "
القول في تأويل قول الله : ( صم بكم عمي فهم لا يرجعون ( 18 ) )

قال أبو جعفر : وإذ كان تأويل قول الله جل ثناؤه : " ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون " هو ما وصفنا - من أن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة ، عند هتك أستارهم ، وإظهاره فضائح أسرارهم ، وسلبه ضياء أنوارهم ، من تركهم في ظلم أهوال يوم القيامة يترددون ، وفي حنادسها لا يبصرون ، فبين أن قوله جل ثناؤه : " صم بكم عمي فهم لا يرجعون " من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، صم بكم عمي فهم لا يرجعون ، مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، أو كمثل صيب من السماء .

وإذ كان ذلك معنى الكلام : فمعلوم أن قوله : " صم بكم عمي " يأتيه الرفع من وجهين ، والنصب من وجهين :

فأما أحد وجهي الرفع : فعلى الاستئناف ، لما فيه من الذم . وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم ، فتنصب وترفع ، وإن كان خبرا عن معرفة ، كما قال الشاعر :


لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك
والطيبين معاقد الأزر


فيروى : " النازلون " و " النازلين " وكذلك " الطيبون " و " الطيبين " على ما وصفت من المدح . [ ص: 330 ]

والوجه الآخر : على نية التكرير من " أولئك " فيكون المعني حينئذ : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، أولئك صم بكم عمي فهم لا يرجعون .

وأما أحد وجهي النصب : فأن يكون قطعا مما في " مهتدين " من ذكر " أولئك " لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة ، والصم نكرة .

والآخر : أن يكون قطعا من " الذين " لأن " الذين " معرفة و " الصم " نكرة .

وقد يجوز النصب فيه أيضا على وجه الذم ، فيكون ذلك وجها من النصب ثالثا .

فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وجه رواية علي بن أبي طلحة عنه ، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد ، وهو الاستئناف .

وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين : أحدهما : الذم ، والآخر : القطع من " الهاء والميم " اللتين في " تركهم " أو من ذكرهم في " لا يبصرون "

وقد بينا القول الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك . والقراءة التي هي القراءة ، الرفع دون النصب؛ لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين . وإذا قرئ نصبا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم .

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين : أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحق مهتدين ، بل هم صم عنهما فلا يسمعونهما ، لغلبة خذلان الله عليهم ، بكم عن القيل بهما فلا ينطقون بهما ، والبكم : الخرس ، وهو جماع أبكم ، عمي عن أن يبصروهما فيعقلوهما ، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون .


https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif



ابوالوليد المسلم 06-03-2022 08:39 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(21)
الحلقة (36)
صــ 331إلى صــ 335


وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل :

398 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، [ ص: 331 ] عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " صم بكم عمي " عن الخير .

399 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " صم بكم عمي " يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه .

400 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " بكم " هم الخرس .

401 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله " صم بكم عمي " : صم عن الحق فلا يسمعونه ، عمي عن الحق فلا يبصرونه ، بكم عن الحق فلا ينطقون به .
القول في تأويل قوله : ( فهم لا يرجعون ( 18 ) )

قال أبو جعفر : وقوله " فهم لا يرجعون " إخبار من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدى ، وصممهم عن سماع الخير والحق ، وبكمهم عن القيل بهما ، وعماهم عن إبصارهما ، أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم ، ولا يتوبون إلى الإنابة من نفاقهم . فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدا ، أو يقولوا حقا ، أو يسمعوا داعيا إلى الهدى ، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم ، كما آيس من توبة قادة كفار أهل الكتاب [ ص: 332 ] والمشركين وأحبارهم الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغشى على أبصارهم .

وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

402 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " فهم لا يرجعون " أي : لا يتوبون ولا يذكرون .

403 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فهم لا يرجعون " : فهم لا يرجعون إلى الإسلام .

وقد روي عن ابن عباس قول يخالف معناه معنى هذا الخبر ، وهو ما :

404 - حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فهم لا يرجعون " أي : فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خير ، فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه .

وهذا تأويل ظاهر التلاوة بخلافه . وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن القوم أنهم لا يرجعون - عن اشترائهم الضلالة بالهدى - إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق ، من غير حصر منه جل ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت وحال دون حال . وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس ، ينبئ أن ذلك من صفتهم محصور على وقت وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين ، وأن لهم السبيل إلى الرجوع [ ص: 333 ] عنه . وذلك من التأويل دعوى باطلة ، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبر تقوم بمثله الحجة فيسلم لها .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره : ( أو كصيب من السماء )

قال أبو جعفر : والصيب الفيعل من قولك : صاب المطر يصوب صوبا ، إذا انحدر ونزل ، كما قال الشاعر :


فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب


وكما قال علقمة بن عبدة :


كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب
[ ص: 334 ] فلا تعدلي بيني وبين مغمر ، سقيت روايا المزن حين تصوب


يعني : حين تنحدر . وهو في الأصل " صيوب " ولكن الواو لما سبقتها ياء ساكنة ، صيرتا جميعا ياء مشددة ، كما قيل : سيد ، من ساد يسود ، وجيد ، من جاد يجود . وكذلك تفعل العرب بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة ، تصيرهما جميعا ياء مشددة .

وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

405 - حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله " أو كصيب من السماء " قال : القطر .

406 - حدثني عباس بن محمد ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال لي عطاء : الصيب ، المطر .

407 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قال : الصيب ، المطر .

408 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن [ ص: 335 ] السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الصيب ، المطر .

409 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي سعد ، قال : حدثني عمي الحسين ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس ، مثله .

410 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " أو كصيب " يقول : المطر .

411 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة ، مثله .

412 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، وعمرو بن علي ، قالا حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الصيب الربيع .

413 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الصيب ، المطر .

414 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : الصيب ، المطر .

415 - حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الصيب المطر .

416 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : " أو كصيب من السماء " قال : أو كغيث من السماء .

417 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : قال سفيان : الصيب ، الذي فيه المطر . [ ص: 336 ]

418 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، في قوله : " أو كصيب من السماء " قال : المطر .

قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر مثل إضاءة موقد نار بضوء ناره ، على ما وصف جل ثناؤه من صفته ، أو كمثل مطر مظلم ودقه تحدر من السماء ، تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة . وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه .

فإن قال لنا قائل : أخبرنا عن هذين المثلين : أهما مثلان للمنافقين ، أو أحدهما ؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين ، فكيف قيل : " أو كصيب " و " أو " تأتي بمعنى الشك في الكلام ، ولم يقل " وكصيب " بالواو التي تلحق المثل الثاني بالمثل الأول ؟ أو يكون مثل القوم أحدهما ، فما وجه ذكر الآخر ب " أو " ؟ وقد علمت أن " أو " إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشك من المخبر فيما أخبر عنه ، كقول القائل : " لقيني أخوك أو أبوك " وإنما لقيه أحدهما ، ولكنه جهل عين الذي لقيه منهما ، مع علمه أن أحدهما قد لقيه . وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يضاف إليه الشك في شيء ، أو عزوب علم شيء عنه ، فيما أخبر أو ترك الخبر عنه .

قيل له : إن الأمر في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه . و " أو " - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشك - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدل عليه الواو ، إما بسابق من الكلام قبلها ، وإما بما يأتي بعدها ، كقول توبة بن الحمير :


وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
[ ص: 337 ]

ومعلوم أن ذلك من توبة على غير وجه الشك فيما قال ، ولكن لما كانت " أو " في هذا الموضع دالة على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها ، وضعها موضعها ، وكذلك قول جرير :


نال الخلافة أو كانت له قدرا ، كما أتى ربه موسى على قدر


وكما قال الآخر :


فلو كان البكاء يرد شيئا بكيت على بجير أو عفاق
على المرأين إذ مضيا جميعا لشأنهما ، بحزن واشتياق


فقد دل بقوله " على المرأين إذ مضيا جميعا " أن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر ، بل أراد أن يبكيهما جميعا . فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه " أو كصيب من السماء " لما كان معلوما أن " أو " دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب " أو " أو ب " الواو " وكذلك وجه حذف " المثل " من قوله " أو كصيب " لما كان قوله : [ ص: 338 ] " كمثل الذي استوقد نارا " دالا على أن معناه : كمثل صيب ، حذف " المثل " واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " على أن معناه : أو كمثل صيب ، من إعادة ذكر المثل ؛ طلب الإيجاز والاختصار .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif





ابوالوليد المسلم 06-03-2022 08:39 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(22)
الحلقة (37)
صــ 336إلى صــ 340


417 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : قال سفيان : الصيب ، الذي فيه المطر . [ ص: 336 ]

418 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، في قوله : " أو كصيب من السماء " قال : المطر .

قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر مثل إضاءة موقد نار بضوء ناره ، على ما وصف جل ثناؤه من صفته ، أو كمثل مطر مظلم ودقه تحدر من السماء ، تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة . وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه .

فإن قال لنا قائل : أخبرنا عن هذين المثلين : أهما مثلان للمنافقين ، أو أحدهما ؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين ، فكيف قيل : " أو كصيب " و " أو " تأتي بمعنى الشك في الكلام ، ولم يقل " وكصيب " بالواو التي تلحق المثل الثاني بالمثل الأول ؟ أو يكون مثل القوم أحدهما ، فما وجه ذكر الآخر ب " أو " ؟ وقد علمت أن " أو " إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشك من المخبر فيما أخبر عنه ، كقول القائل : " لقيني أخوك أو أبوك " وإنما لقيه أحدهما ، ولكنه جهل عين الذي لقيه منهما ، مع علمه أن أحدهما قد لقيه . وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يضاف إليه الشك في شيء ، أو عزوب علم شيء عنه ، فيما أخبر أو ترك الخبر عنه .

قيل له : إن الأمر في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه . و " أو " - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشك - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدل عليه الواو ، إما بسابق من الكلام قبلها ، وإما بما يأتي بعدها ، كقول توبة بن الحمير :


وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
[ ص: 337 ]

ومعلوم أن ذلك من توبة على غير وجه الشك فيما قال ، ولكن لما كانت " أو " في هذا الموضع دالة على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها ، وضعها موضعها ، وكذلك قول جرير :


نال الخلافة أو كانت له قدرا ، كما أتى ربه موسى على قدر


وكما قال الآخر :


فلو كان البكاء يرد شيئا بكيت على بجير أو عفاق
على المرأين إذ مضيا جميعا لشأنهما ، بحزن واشتياق


فقد دل بقوله " على المرأين إذ مضيا جميعا " أن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر ، بل أراد أن يبكيهما جميعا . فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه " أو كصيب من السماء " لما كان معلوما أن " أو " دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب " أو " أو ب " الواو " وكذلك وجه حذف " المثل " من قوله " أو كصيب " لما كان قوله : [ ص: 338 ] " كمثل الذي استوقد نارا " دالا على أن معناه : كمثل صيب ، حذف " المثل " واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله : " كمثل الذي استوقد نارا " على أن معناه : أو كمثل صيب ، من إعادة ذكر المثل ؛ طلب الإيجاز والاختصار .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ( 19 ) )

قال أبو جعفر : فأما الظلمات ، فجمع ، واحدها ظلمة .

أما الرعد ، فإن أهل العلم اختلفوا فيه :

فقال بعضهم : هو ملك يزجر السحاب .

ذكر من قال ذلك :

419 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : الرعد ، ملك يزجر السحاب بصوته .

420 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .

421 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .

422 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم قال : أنبأنا إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، قال : الرعد ، ملك من الملائكة يسبح . [ ص: 339 ]

423 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي ، قال : حدثنا محمد بن يعلى ، عن أبي الخطاب البصري ، عن شهر بن حوشب ، قال : الرعد ، ملك موكل بالسحاب يسوقه ، كما يسوق الحادي الإبل ، يسبح . كلما خالفت سحابة سحابة صاح بها ، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه ، فهي الصواعق التي رأيتم .

424 - حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الرعد ، ملك من الملائكة اسمه الرعد ، وهو الذي تسمعون صوته .

425 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبد الملك بن حسين ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس ، قال : الرعد ، ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير .

426 - وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : الرعد اسم ملك ، وصوته هذا تسبيحه ، فإذا اشتد زجره السحاب ، اضطرب السحاب واحتك . فتخرج الصواعق من بينه .

427 - حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عفان . قال : حدثنا أبو عوانة ، عن [ ص: 340 ] موسى البزار ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، قال : الرعد ملك يسوق السحاب بالتسبيح ، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه .

428 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، وشبابة ، قالا حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : الرعد ملك يزجر السحاب .

429 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عتاب بن زياد ، عن عكرمة ، قال : الرعد ملك في السحاب ، يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل .

430 - وحدثنا بشر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الرعد خلق من خلق الله جل وعز ، سامع مطيع لله جل وعز .

431 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : إن الرعد ملك يؤمر بإزجاء السحاب فيؤلف بينه ، فذلك الصوت تسبيحه .

432 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : الرعد ملك .

433 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن المغيرة بن سالم ، عن أبيه ، أو غيره ، أن علي بن أبي طالب قال : الرعد ملك .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif

ابوالوليد المسلم 06-03-2022 08:40 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(23)
الحلقة (38)
صــ 341إلى صــ 345



434 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم ، مولى ابن عباس ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد ، فقال : الرعد ملك . [ ص: 341 ]

435 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا عمر بن الوليد الشني ، عن عكرمة ، قال : الرعد ملك يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل .

436 - حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قال : كان ابن عباس إذا سمع الرعد ، قال : سبحان الذي سبحت له ، قال : وكان يقول : إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه .

وقال آخرون : إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصاعد ، فيكون منه ذلك الصوت .

ذكر من قال ذلك :

437 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بشر بن إسماعيل ، عن أبي كثير ، قال : كنت عند أبي الجلد ، إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه ، فكتب إليه : " كتبت تسألني عن الرعد ، فالرعد الريح .

438 - حدثني إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدثنا عمران بن ميسرة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات ، عن أبيه قال : كتب ابن عباس [ ص: 342 ] إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد ، فقال : الرعد ريح .

قال أبو جعفر : فإن كان الرعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد ، فمعنى الآية : أو كصيب من السماء فيه ظلمات وصوت رعد . لأن الرعد إن كان ملكا يسوق السحاب ، فغير كائن في الصيب ، لأن الصيب إنما هو ما تحدر من صوب السحاب ، والرعد إنما هو في جو السماء يسوق السحاب . على أنه لو كان فيه ثم لم يكن له صوت مسموع ، فلم يكن هنالك رعب يرعب به أحد ، لأنه قد قيل : إن مع كل قطرة من قطر المطر ملكا ، فلا يعدو الملك الذي اسمه " الرعد " لو كان مع الصيب ، إذا لم يكن مسموعا صوته ، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الأرض ، في أن لا رعب على أحد بكونه فيه . فقد علم - إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس - أن معنى الآية : أو كمثل غيث تحدر من السماء فيه ظلمات وصوت رعد ، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس ، وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام من ذكر صوته . وإن كان الرعد ما قاله أبو الجلد فلا شيء في قوله : " فيه ظلمات ورعد " متروك . لأن معنى الكلام حينئذ : فيه ظلمات ورعد الذي هو ما وصفنا صفته .

وأما البرق ، فإن أهل العلم اختلفوا فيه : فقال بعضهم بما :

439 - حدثنا مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، - ح - وحدثني محمد بن بشار ، قال : حدثني عبد الرحمن بن مهدي ، - ح - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قالوا جميعا : حدثنا سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن أشوع ، عن ربيعة [ ص: 343 ] بن الأبيض ، عن علي ، قال : البرق مخاريق الملائكة .

440 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عبد الملك بن الحسين ، عن أبي مالك ، عن السدي ، عن ابن عباس : البرق مخاريق بأيدي الملائكة ، يزجرون بها السحاب .

441 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن المغيرة بن سالم ، عن أبيه ، أو غيره ، أن علي بن أبي طالب قال : الرعد الملك ، والبرق ضربه السحاب بمخراق من حديد .

وقال آخرون : هو سوط من نور يزجي به الملك السحاب .

ذكر من قال ذلك :

442 - حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، بذلك .

وقال آخرون : هو ماء .

ذكر من قال ذلك :

443 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بشر بن إسماعيل ، عن أبي كثير ، قال : كنت عند أبي الجلد ، إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه ، فكتب إليه : " كتبت إلي تسألني عن البرق ، فالبرق الماء "

444 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدثنا عمران بن ميسرة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات ، عن أبيه ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق ، فقال : البرق ماء . [ ص: 344 ]

445 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن رجل ، من أهل البصرة من قرائهم ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد - رجل من أهل هجر - يسأله عن البرق ، فكتب إليه : " كتبت إلي تسألني عن البرق ، وإنه من الماء "

وقال آخرون : هو مصع ملك .

446 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : البرق ، مصع ملك .

447 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، قال : بلغني أن البرق ملك له أربعة أوجه ، وجه إنسان ، ووجه ثور ، ووجه نسر ، ووجه أسد ، فإذا مصع بأجنحته فذلك البرق .

448 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي قال : في كتاب الله : الملائكة حملة العرش ، لكل ملك منهم وجه إنسان وثور وأسد ، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق [ ص: 345 ] . وقال أمية بن أبي الصلت :


رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى ، وليث مرصد


449 - حدثنا الحسين بن محمد ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : البرق ملك .

450 - وقد حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : الصواعق ملك يضرب السحاب بالمخاريق ، يصيب منه من يشاء .

قال أبو جعفر : وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد . وذلك أن تكون المخاريق التي ذكر علي رضي الله عنه أنها هي البرق ، هي السياط التي هي من نور ، التي يزجي بها الملك السحاب ، كما قال ابن عباس . ويكون إزجاء الملك بها السحاب مصعه إياه . وذلك أن المصاع عند العرب أصله : المجالدة بالسيوف ، ثم تستعمله في كل شيء جولد به في حرب وغير حرب ، كما قال أعشى بني ثعلبة ، وهو يصف جواري يلعبن بحليهن ويجالدن به .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif

ابوالوليد المسلم 06-03-2022 08:40 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(24)
الحلقة (39)
صــ 346إلى صــ 350



إذا هن نازلن أقرانهن
وكان المصاع بما في الجون

يقال منه : ماصعه مصاعا . وكأن مجاهدا إنما قال : " مصع ملك " إذ كان السحاب لا يماصع الملك ، وإنما الرعد هو المماصع له ، فجعله مصدرا من مصعه يمصعه مصعا .

وقد ذكرنا ما في معنى " الصاعقة " ما قال شهر بن حوشب فيما مضى .

وأما تأويل الآية ، فإن أهل التأويل مختلفون فيه :

فروي عن ابن عباس في ذلك أقوال : أحدها ما

451 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت " : أي هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم - على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب ، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت ، يكاد البرق يخطف أبصارهم - أي لشدة ضوء الحق - كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ، أي يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة ، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين .

والآخر ما [ ص: 347 ]

452 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق " إلى " إن الله على كل شيء قدير " أما الصيب فالمطر . كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله ، فيه رعد شديد وصواعق وبرق ، فجعلا كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما ، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصرا وقاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده ، وحسن إسلامهما ، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة ، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا ، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه ، فإذا كثرت أموالهم ، وولد لهم الغلمان ، وأصابوا غنيمة أو فتحا ، مشوا فيه ، وقالوا : إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دين صدق . فاستقاموا عليه ، كما كان ذانك المنافقان يمشيان ، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا . فكانوا [ ص: 348 ] إذا هلكت أموالهم ، وولد لهم الجواري ، وأصابهم البلاء ، قالوا : هذا من أجل دين محمد ، فارتدوا كفارا ، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما .

والثالث ما

453 - حدثني به محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : " أو كصيب من السماء " كمطر ، " فيه ظلمات ورعد وبرق " إلى آخر الآية ، هو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل مراءاة للناس ، فإذا خلا وحده عمل بغيره ، فهو في ظلمة ما أقام على ذلك . وأما الظلمات فالضلالة ، وأما البرق فالإيمان ، وهم أهل الكتاب . [ ص: 349 ]

وإذا أظلم عليهم ، فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه .

والرابع ما

454 - حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " أو كصيب من السماء " وهو المطر ، ضرب مثله في القرآن يقول : " فيه ظلمات " يقول : ابتلاء ، " ورعد " يقول فيه تخويف " وبرق يكاد البرق يخطف أبصارهم " يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين ، " كلما أضاء لهم مشوا فيه " يقول : كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزا اطمأنوا ، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر يقول : " وإذا أظلم عليهم قاموا " كقوله : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) [ سورة الحج : 11 ] .

ثم اختلف سائر أهل التأويل بعد في ذلك ، نظير ما روي عن ابن عباس من الاختلاف :

455 - فحدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إضاءة البرق وإظلامه ، على نحو ذلك المثل .

456 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله . [ ص: 350 ]

457 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

458 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قول الله : " فيه ظلمات ورعد وبرق " إلى قوله " وإذا أظلم عليهم قاموا " فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاء أو طمأنينة أو سلوة من عيش ، قال : أنا معكم وأنا منكم ، وإذا أصابته شديدة حقحق والله عندها ، فانقطع به ، فلم يصبر على بلائها ، ولم يحتسب أجرها ، ولم يرج عاقبتها .

459 - وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " فيه ظلمات ورعد وبرق " يقول : أجبن قوم لا يسمعون شيئا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت والله محيط بالكافرين ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال : " يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه " يقول : هذا المنافق ، إذا كثر ماله ، وكثرت ماشيته ، وأصابته عافية قال : لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير " وإذا أظلم عليهم قاموا " يقول : إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء ، قاموا متحيرين .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 06-03-2022 08:41 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(25)
الحلقة (40)
صــ 351إلى صــ 355





460 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فيه ظلمات ورعد وبرق " قال : مثلهم [ ص: 351 ] كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة ، ولها مطر ورعد وبرق على جادة ، فلما أبرقت أبصروا الجادة فمضوا فيها ، وإذا ذهب البرق تحيروا . وكذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له ، فإذا شك تحير ووقع في الظلمة ، فكذلك قوله : " كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " ثم قال : في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس ، " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم "

قال أبو جعفر :

461 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان الباهلي ، عن الضحاك بن مزاحم ، " فيه ظلمات " قال : أما الظلمات فالضلالة ، والبرق الإيمان .

462 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله : " فيه ظلمات ورعد وبرق " فقرأ حتى بلغ : " إن الله على كل شيء قدير " قال : هذا أيضا مثل ضربه الله للمنافقين ، كانوا قد استناروا بالإسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق .

463 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظن أنه يراد به ، وأنه الموت ، كراهية له ، والمنافق أكره خلق الله للموت - كما إذا كانوا بالبراز في المطر ، فروا من الصواعق .

464 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء في قوله : " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق " قال : مثل ضرب للكافر . [ ص: 352 ]

وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه ، فإنها - وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها - متقاربات المعاني ، لأنها جميعا تنبئ عن أن الله ضرب الصيب لظاهر إيمان المنافق مثلا ومثل ما فيه من ظلمات لضلالته ، وما فيه من ضياء برق لنور إيمانه ، واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه ، لضعف جنانه ونخب فؤاده من حلول عقوبة الله بساحته ، ومشيه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه ، وقيامه في الظلام ، لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عمهه .

فتأويل الآية إذا - إذ كان الأمر على ما وصفنا - أو مثل ما استضاء به المنافقون من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به ، حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكام المؤمنين ، وهم - مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون - بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر ، مكذبون ، ولخلاف ما يظهرون بالألسن في قلوبهم معتقدون ، على عمى منهم ، وجهالة بما هم عليه من الضلالة لا يدرون أي الأمرين اللذين قد شرعا لهم [ فيه ] الهداية ، أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم ، أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم ؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وجلون ، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكون ، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا . كمثل غيث سرى ليلا في مزنة ظلماء [ ص: 353 ] وليلة مظلمة يحدوها رعد ، ويستطير في حافاتها برق شديد لمعانه ، كثير خطرانه ، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه ، وينهبط منها تارات صواعق ، تكاد تدع النفوس من شدة أهوالها زواهق .

فالصيب مثل لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق ، والظلمات التي هي فيه لظلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب . وأما الرعد والصواعق ، فلما هم عليه من الوجل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه ، إما في العاجل وإما في الآجل ، أن يحل بهم ، مع شكهم في ذلك : هل هو كائن أم غير كائن ؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذب وباطل ؟ مثل . فهم من وجلهم ، أن يكون ذلك حقا ، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم ، مخافة على أنفسهم من الهلاك ونزول النقمات ، وذلك تأويل قوله جل ثناؤه " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت " يعني بذلك : يتقون وعيد الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار ، كما يتقي الخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها ، حذرا على نفسه منها .

وقد ذكرنا الخبر الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان : إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم [ ص: 354 ] في آذانهم فرقا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء ، أو يذكروا بشيء فيقتلوا . فإن كان ذلك صحيحا - ولست أعلمه صحيحا إذ كنت بإسناده مرتابا - فإن القول الذي روي عنهما هو القول ، وإن يكن غير صحيح ، فأولى بتأويل الآية ما قلنا ، لأن الله إنما قص علينا من خبرهم في أول مبتدأ قصتهم ، أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون ، مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم . وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن التي ذكر فيها صفتهم . فكذلك ذلك في هذه الآية .

وإنما جعل الله إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يتقونهم به ، كما يتقي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه ، وذلك من المثل نظير تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق . وكذلك قوله " حذر الموت " جعله جل ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلكهم الذي توعدوه بساحتهم كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه في أذنيه ، حذر العطب والموت على نفسه ، أن تزهق من شدتها .

وإنما نصب قوله " حذر الموت " على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك : " زرتك تكرمة لك " تريد بذلك : من أجل تكرمتك ، وكما قال جل ثناؤه ، ( ويدعوننا رغبا ورهبا ) [ سورة الأنبياء : 90 ] على التفسير للفعل .

وقد روي عن قتادة أنه كان يتأول قوله : " حذر الموت " حذرا من الموت . [ ص: 355 ]

465 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عنه .

وذلك مذهب من التأويل ضعيف ، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حذرا من الموت ، فيكون معناه ما قال إنه يراد به ، حذرا من الموت ، وإنما جعلوها من حذار الموت في آذانهم .

وكان قتادة وابن جريج يتأولان قوله : " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت " أن ذلك من الله جل ثناؤه صفة للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت ، ويتأولان في ذلك قوله : ( يحسبون كل صيحة عليهم ) [ سورة المنافقون ] .
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif


الساعة الآن : 03:25 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 777.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 775.89 كيلو بايت... تم توفير 1.77 كيلو بايت...بمعدل (0.23%)]