ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الشعر والخواطر (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=30)
-   -   الرثاء في شعر باشراحيل (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=263140)

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:23 AM

الرثاء في شعر باشراحيل
 
الرثاء في شعر باشراحيل (1)
محيي الدين صالح


الرثاء في شعر باشراحيل "دراسة أدبية"


مقدمة الدراسة




يَمتاز الأدبُ العربي بكَثْرة الرَّوافد وغزارَتِها، وفي الوقت نفسِه بصفاء المتوارث منه ونقائه، برغم تدفُّقه عَبْرَ مئات السنين، حتى وإن شابَه أو اعتراه ما يكدِّره، فمن اليسيرِ نقده وإظهاره وتفنيده.



وما دام الشعرُ ديوانَ العرب - كان كذلك وما زال - فإنَّ الدراساتِ التي تصبُّ حول الإبداعات الشعرية ينبغي أن تَحرصَ تمامًا على العُمق الإنساني، ويَجب عدمُ تسطيح الدَّوافع التي جعلتِ المبدعَ يتفاعل مع أمورٍ بعَيْنِها، ويُعرِض عن أمور... أو أن يُجيدَ إجادةً تامَّة في جوانبَ من إبداعاتِه، رُبَّما لا يصل إلى مُستواها في الجوانب الأخرى.



ونظريَّة (مفتاح الشخصية) التي أورثها لنا الأديبُ العملاق: عباس العقاد، من خلال عبقرِيَّاته الخالدة - أرى ألاَّ نُهملها كلما أردنا الغوصَ في أعماقِ الرِّجال، الذين ألقت بِهِم أقدارُهم في دائرة الضَّوء عُرْضَةً للتناوُل والتمحيص طوعًا أو كرهًا.



وإذا كان حديثُ المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((المرءُ بأصغريه: قلبه، ولسانه))، وعلى اعتبارِ أنَّ (اللسان هو ترجمان القلب)، كما جاء في الأثر، فإنَّ صُعوبةَ مُتابعة القلب وما حوى باعتباره في منطقةِ شبه المغيبات - يَجعلنا نُقيمُ لحصائدِ الألسنة اعتبارًا ووَزنًا، ونقدره حَقَّ قدره، ونُحاول ذلك ما أمكن، خاصَّة إذا كان صاحبُ هذا اللسان مِمَّن نحسبهم على خير في صدق روايتهم ورُؤاهم.



وعندما يكون الكلامُ عن أولئك الذين لا يَرْتجي منهم المتحدثُ أو الكاتب نَفْعًا، ولا يَخْشى منهم ضَرَرًا، فإنَّ المشاعِرَ تتدفق منه أو عنه بصِدْقٍ وعفوية، خاليةً من التملُّق والنِّفاق، وهذه هي حالُ الرِّثاء في الشُّعر العربي في أكثرِ حالاتِه، وليس معنى ذلك أنَّ الكلامَ عن الأحياء مرذولٌ جُملةً وتفصيلاً، ولكنَّ الموازين النَّقْدِيَّة ترجح بكفة المراثي عند المقارنة، فتكون أصدقَ قيلاً، وأفصح تأويلاً لمن أراد أن يدرس النصَّ الإبداعِيَّ من كلِّ جوانبه، إضافةً إلى صاحب النص وإيحاءاتِه وتلميحاتِه بجانب تصريحاته.



وهذا هو السببُ الذي جعلني أميلُ إلى دراسةِ المراثي في شعر عبدالله باشراحيل، من بين إبداعاتِه الكثيرة في كُلِّ الأغراض الشِّعْرِيَّة قديمها وحديثها، وثَمَّة سببٌ آخر لهذا التوجُّه الأدبي عندي، وهو أنَّ الوجدانِيَّات المتناثرة في كلِّ قصائده تَمتاز بشفافية الرِّثاء ومُفرداته ونفحاته، ورُبَّما آلامه وأحزانه.



أمَّا لماذا باشراحيل بالذَّات، في هذا العصر الذي كاد يَئِنُّ من كثرة الشُّعراء؟ فهذا لا تفسيرَ له عندي، إلا أنْ أعزُوَه إلى تقارُب الاهتمامات والانفعالات الوجدانية بيني وبينه كشعراءَ من جيلٍ واحد، رَغْمَ التباعُد المكاني بين وادي النيل (موطني)، وجزيرة العرب (موطن باشراحيل)، ورُبَّما يُعزى هذا الأمر إلى قولِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الأرواح جنود مُجَنَّدَة، فما تعارف منها ائتلف...)).



وباشراحيل لا يكتفي برثاءِ الأحباب الذين رحلوا عنه، بل يَرثي البلادَ، والقيمَ، والآمالَ، والمعاني، والفضائلَ، وكل غائب يفتقده، كما أنَّه يرثي الزمانَ أحيانًا، ولا يستنكف من أنْ يرثيَ نفسَه إنْ لَزِم، واتجاهات الرِّثاء عنده تستحقُّ التأمُّل، ولا أقول التوقُّف عند كل جزئية، والعاطفة الصادقة والحس الديني عند الشاعر لهما حضورٌ قويٌّ يَجعلك تحترم أطروحاتِه ورُؤاه.



أمَّا الشخصياتُ التي يَرثيها باشراحيل، وتوجُّهاتُهم الفكرية أو الأدبية، ومكانتُهم في المجتمع، فذلك أمرٌ له مدلولٌ راقٍ، ويَجب توضيحُه في تفصيلٍ مُناسب، وكذلك هناك أثرُ البيئة، والتنوُّع الأسلوبي، وخصوصية المضامين، والقاموس اللُّغوي، والبحور المُنتقاة، والقوافي المناسبة لجوِّ القصيدة... فكُلُّ هذه جوانبُ لا نَمُرُّ عليها مُرُورَ الكرام، خاصَّة أنَّنا أمام شاعر جعل (الوفاء) حجرَ الزَّاوية في كلِّ إبداعاته، وتعلَّق قلبُه بكُلِّ مَن رأى أنَّه يتصف بالوفاء، وفي ذلك يقول:



إِنَّ الْوَفَاءَ رِدَائِي كَيْفَ أَخْلَعُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَقَدْ كَفَانِي وَإِنْ ذَمُّوا وَإِنْ مَدَحُوا [1]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وأنا في هذه الدراسة لست ذامًّا ولا مادحًا، ولكنَّها جولة أدبية بين القوافي أجوس خلالَها، وأغوص فيها إلى الأعماق، عبر خيالاته، وبواسطة كلماته المجدولة؛ لأستخرجَ ما قد يخفى على مَن لا يُجيدون الغوص، فأقدمها لهم زادًا في رحلتهم نحو دُروب الأدب العربي.



هذا، وقد اطَّلعت على ثلاثِ دراسات في شعر باشراحيل اتَّسمت بالموضوعية والجدية والحيدة: الأولى للدكتورة/ إيمان بقاعي، بعنوان: "الالتزام الإنساني في شعر باشراحيل" 300 صفحة، ركَّزت فيها الكاتبة على الوطن عند الشاعر، أمَّا الدكتور/ محمد بن مريسي الحارثي، فقدَّم دراستَه بعنوان: "جدلية الواقع والتخيُّل"، وأشار فيها إلى لوعة الرِّثاء عند باشراحيل، وحِدَّة العاطفة وقُوتِها، ورَكَّز خلالَها على رثائه لأبيه ولعمته، وعَرَّج على بعضِ النماذج الأخرى، إلاَّ أنَّ الدراسة شَمِلت كل قصائد ديوان "قناديل الريح".



أمَّا الأستاذة/ غريد الشيخ، فقدمت دراسة مستفيضة بعنوان: "الدلالات الفنية والإنسانية في شعر باشراحيل" في أكثرَ من أربعمائة صفحة، طافت - بل حلقت - في آفاق الشاعر، وحطت عند كل مرفأ من مرافئه، وحلَّلت كلَّ الجوانب الإبداعية عنده، إلا أن الرثاء عند باشراحيل لم يستهلكْ من هذه الدراسة الشائقة سوى (اثنتي عشرة صفحة) فقط؛ رُبَّما لأنَّ الكاتبة كانت تدور في آفاقٍ شاسعة بين قصائدَ مُتنوعةٍ كثيرة جدًّا من إبداعات باشراحيل.



ومن المؤكد أنَّ هناك دراساتٍ أخرى في شعر باشراحيل لم أطلع عليها... كما أنَّ هناك دواوين أخرى للشاعر لم تصل إلَيَّ، وبرغم ذلك، فإنَّ ما بين يديَّ من إبداعاتٍ ودراسات أعتبرها كافيةً لتسويغ ما ذهبتُ إليه من ضرورةِ الدِّراسة المتخصصة، أو المخصصة للرثاء عند باشراحيل.



وإذا سَلَّمنا بالمقولة التي ترى أنَّ "الرجُل صندوقٌ مُغلق، لا يُعرَف ما بداخله إلاَّ إذا تكلَّم، أو تحرَّك، أو تصرَّف"، فإنَّ باشراحيل في قصائده المتنوِّعة تكلم، وتحرك، وتصرف، فأصبح كتابًا مَفتوحًا يقرؤه الجميع، وكلٌّ يتفاعل مع الأُطروحات التي يجد فيها مبتغاه، أو توافق هواه.



ومن خلال الرُّؤى المكثفة في الأغراض الشعرية المتنوعة، يتَّضِح أنَّ باشراحيل إنسانٌ مرهف الحس إلى مدًى بعيد، وفي الوقت نفسه شديدُ الاعتداد بالنفس، مع ما يبدو من تبايُن بين الصِّفَتين، وفي نظرته للأمور فإنَّه يغوص إلى الأعماقِ؛ ليقفَ بقُرَّائه عند بعضِ الجوانب الخافية في أثناءِ الأمر، فلا يكتفي بمدلولاتِ السَّرْدِ للحدث، ولا بظواهر المعاني، وهذا التوجُّه عنده مؤصَّل أكثر ما يكون في قصائد الرثاء، والشواهد على ذلك كثيرةٌ، عرضت بعضَها في فصل (الرمزية في الرثاء) بقليلٍ من التفصيل، وأيضًا في فصل (الرثاء وإسقاطات الألم).



ولم يتحفَّظ باشراحيل في عرض مكنوناته من مشاعر ومَخاوف، حتى الهواجس التي راودته بسبب غيابِ رُموز فكرية عن الساحة الإسلامية، لم يُحاول أنْ يحجمها أو يصادِرَها، فهو صريح مع النفس ومع الآخرين، والبُعد الذَّاتي عنده ينال حظَّه كاملاً، كما في رثائه لوالده أو عمته، فهو يوفيهما حَقَّهما بأسلوبٍ يَشي بمدى التقارُب الذي كان بينهما في عَصرٍ ذهل فيه ذوو الأرحام، وتاهوا في معترك الحياة، مع أنَّ باشراحيل ربَّما لا يقصد ذلك؛ حيث لم يصرح به "تأدبًا".



وجدير بالذِّكر أنَّ باشراحيل لم يصدر ديوانًا خاصًّا بالمراثي، ولكنَّها قصائد متفرِّقة في مجموعة دواوينه، وهذه المجموعة حوَتْ كلَّ الأغراض الشِّعرية، التي أبْحر من خلالها إلى مَرافئ القُرَّاء، أما ديوان "قلائد الشمس" الذي صدر عام 2002م، فقد خصَّصه كلَّه لقصيدة مطوَّلة يوجِّهها إلى مُثقَّفي أمريكا مُترجمة إلى الإنجليزية والفَرَنسِيَّة، والقصيدة بترجمتَيْهما بين دفتي الديوان، إذًا هي رسالة عبر القوافي تُخاطب الوجدانِيَّات، التي يظن باشراحيل أنَّها قد تتجاوب معه من الأحياء الذين يشاركوننا في التفاعُل مع الأطروحات الأدبيَّة، ومِنْ ثَمَّ لا مكان لأيِّ معانٍ رثائيَّة في هذا الدِّيوان، أمَّا ديوان "وحشة الروح"، إضافةً إلى مجموعة "الأعمال الشعرية" التي تحوي مجموعة من الدواوين التي صدرت في أوقاتٍ مُتفرِّقة خلال رحلته الشعرية، فهي التي تَتناثر فيها كلُّ معاني الرثاء التي تنضح بها وجدانيَّات باشراحيل، سواء كانت قصائد رثاء أم قصائد أخرى.



وكأنَّ "باشراحيل" لم يكتفِ بقصائد الرثاء، فقام بإهداء ديوان "وحشة الروح" بما نصه: "إلى شهداء الأمة... من ثورة الجزائر إلى انتفاضة فلسطين"، كما أَهدَى الدواوين الأخرى إلى ذاتِ الرُّموز التي يُكِنُّ لها كلَّ الحب والتقدير (الوالدين، والوطن، والأحباب)، وصاغَ بعض الإهداءات نَثْرًا، وبعضها نظمها شعرًا، وهذا الأسلوب المتنوع في الإهداء دليلٌ على تغلب مَلَكة الشعر على الشاعر.



وبالنسبة لقصائد الرثاء، نجد ثلاثَ عشرة قصيدة في ديوان "قناديل الريح"، وقصيدتين في ديوان "وحشة الروح"، وقصيدة واحدة في كلٍّ من ديوان "الهوى قدري" وديوان "الخوف"، بإجمالي سبع عشرة قصيدة، إضافةً إلى بعض الرثائيَّات المبثوثة بين طيَّات قصائد أخرى، أمَّا الشخصيات التي يرثيها باشراحيل، فإنَّها صاحبة مكانة في قلبه بعيدًا عن المجاملات أو الرسْمِيَّات، وهذا واضح في صفاتِهم، ومواقفهم، وتوجُّهاتهم الفكرية والأدبية، وصلاتهم بالشاعر.



ولو تحدَّثنا عن الأعمال الشعرية بلُغة أهل الرواية ونقادها، فإنَّ أبطالَ باشراحيل وشخوصه كثيرةٌ جدًّا، وأنا أعتبر أنَّ كثرة الشخوص في العمل الشعري لا يعيبه، ولكنَّه يوضح اتِّساعَ دائرة المبدع، وعلاقاته الوجدانيَّة، وتفاعلاته الاجتماعيَّة.



ولعدم معرفتي ببعض الشخصيَّات التي رثاها باشراحيل، فقد استعنت بالأستاذ/ صلاح رشيد؛ لإلقاء حزمة ضوء على هذه الشخصيات ومآثرهم؛ للوقوف على مدى صدق التجربة الشعورية عند الشاعر، وذلك عند صياغة الفصل الخامس من هذه الدراسة تحت عنوان: "شخصيات الشاعر في الرثاء".



أمَّا "الرثاء" كمصطلح في الأدب العربي، فإنه تبلور عبر مراحلَ عديدة، بَدءًا من العصر الجاهلي، مرورًا بالعصور الإسلامية المتعاقبة وحتى الآن، وسيأتي تفصيلٌ لذلك في التمهيد، مقرونًا ببعض الشواهد والأسانيد.



وإذا سلَّمنا أنَّ من فنون البلاغة والبيان ما يقال عنه "مدح في صورة ذم، أو ذم في صورة مدح"، فهل يُمكن أن نطبقَ النظريةَ نفسَها على الأغراض الشعرية؟ فنقول: إنَّ قصائد الرثاء رُبَّما تأتي في طيَّات الأغراض الأخرى أو العكس؟



أطرح هذا التساؤل؛ لأنَّ قصائدَ باشراحيل المتنوعة نجد فيها الرثاءَ قاسمًا مُشتركًا بنسبة ولو قليلة، وكان الرثاء هو (الغائب الحاضر) في كثيرٍ من القصائد التي صِيغَت في أغراض شعرية أخرى، وهذا قد يُسْتَشَفُّ من حساسِيَّته المفرطة في علاقاتِه ووجدانِيَّاته ومشاعره نحو الآخَرين، كما أنَّ ذلك يوحي به التداخُل غير المذموم بين الأغراض الشعرية عند باشراحيل، الذي يُذكِّرنا بالشعر العربي الأصيل في أزهى عُصورِه، سواء كان الشعر الجاهلي أم الإسلامي.



ولقد استَطاع باشراحيل من خِلال كلماته المجنَّحة، وقوافيه المحكمة أنْ يفرضَ نفسه على وجدانياتي، كما فرضها من قبل على السَّاحة الأدبية العربية، وإذا أردت أن أقدمَ عنه موجزًا في هذه الدراسة على سبيل التذكير وليس التعريف، فهو:

الأديب الشاعر الدكتور/ عبدالله محمد صالح باشراحيل، من شعراء المملكة العربية السعودية المعروفين والمتميزين، رئيس مجلس إدارة مستشفى محمد صالح باشراحيل بالمملكة.



عضو في كثير من الهيئات والاتحادات والرَّوابط الأدبية والاجتماعية والإنمائية والعلمية في كثيرٍ من أقطار العالم العربي، وعضو مؤسِّس لمؤسسة الفكر العربي.



أنشأ جائزةً سنوية لتشجيع وإثراء حركة الإبداع العربي، وذلك باسم: "جائزة باشراحيل للإبداع الثقافي".



له أكثر من اثني عشر ديوانَ شعر، (جمع بعض هذه الدواوين في مجلدين كبيرين)، كما أصدر بعض الدراسات الأدبية والمقالات النقدية المتنوعة.



قدَّم أعمالَه للقراء كثيرٌ من الشعراء العرب الكبار، كما كتب عنه كثيرٌ من الدارسين والباحثين.



ترجم بعضَ أشعاره إلى اللغة الفرنسية واللغة اليونانية.



وسواء كان الرد على التساؤل الذي طرحته من قبل عن تداخُل الأغراض الشعرية بالإيجاب أو بالنفي، فإنَّني سأسلك بكم طريقًا في بحور باشراحيل حسب قناعاتي النَّقدية (لا أخاف دَرَكًا ولا أخشى)؛ لأن كثرةَ الأودية التي تمرُّ خلالها دروب المبدع باشراحيل لا تُغني عن وادٍ مؤصل أثير لديه، وهذا الوادي يحطُّ باشراحيل عنده رحالَه كلما غدا أو راح بين أغراضه المتنوِّعة، ومن أراد أن يرتويَ من عذب منهله "فليتبعني وراء هذا الوادي".






تمهيد



"المرثية والرثاء في اللغة والاصطلاح":

يرتبط المدلولُ اللغوي للمرثية والرثاء بالميت والبكاء، وهما في الأصل مصدر للفعل (رثى)، فيقال: رثيت الميت رثيًا ورثاءً ومرثاة ومرثية، ويدلُّ "رثى" في أصله اللغوي على التوجع والإشفاق؛ يقول ابن فارس: إنَّ اجتماع الراء والثاء والحرف المعتل أصلي في الثلاثي يدلُّ على رقة وإشفاق، يقال: رثيت لفلان؛ أي: رققت، وجاء في اللسان: رثى له؛ أي: رقَّ له... وتوجع، ويقال: ما يرثي فلان لي؛ أي: ما يتوجع ولا يبالي[2].



والمرثية والرثاء في اللغة: بكاء الميت، وتَعداد مَحاسنه، فيقال: رثى فلان فلانًا يرثيه رثيًا ومرثية، إذا بكاه بعد موته، ورثوت الميت أيضًا إذا بكيته وعدَّدت محاسنه.



وينطوي الرثاء في دلالة أخرى على النُّواح، فكان يقال للنَّائحة: إنَّها تترثى[3]، ورثاء المرأة: النياحة، والمرأة الرثاء، والرثاية: النَّوَّاحة، فالرثاء هو: النواح.



ولا نجد ذكرًا للشعر في مدلولهما عند اللغويين المتقدِّمين، أمثال الخليل وابن دريد والأزهري، لكنَّا نراه بدأ بالظهور عند الجوهري، ويتابعه بعد ذلك بقيَّة اللُّغويين؛ يقول الجوهري: "رثيت الميتَ مرثية، ورثوته أيضًا: بكيته، وعددت مَحاسنه، (وكذلك إذا نظمت فيه شعرًا)"[4]، إضافةً من الجوهري على القدماء تلك العبارة الأخيرة، كما أنَّ ابن فارس يضيف أيضًا عبارة: "ومن الباب قولهم: رُثِي الميت بشعر"[5].



ولعلَّ هذا الاستدراكَ جاء نتيجةً للحركة النقدية، التي برزت في القرنين الثاني والثالث للهجرة، وأسهمت في تَخصيص مدلول الرِّثاء بالموضوع الشعري؛ أي: إنَّ للرثاء مدلولاً واسعًا هو التوجُّع والإشفاق، أخَذ يتخصص أكثر بالشِّعر وموضوعاته.



وقد أخَذ مدلولُ المرثية يرتبط بالقصيدة، أو القطعة الشِّعرية من خلال ارتباطه بالعدد، فيقال: "رثيت الميت بشعر: قلت فيه مَرْثِيَّة، وقد ورَد جمع المرثية على "مراثي"، ولم يرد جمع للرثاء"[6].



أمَّا الرثاء، فقد بَقِيَ على دلالته العامَّة، وهي البُكاء على الميت، والإشفاق عليه، ونظم الشعر فيه، فالمرثية إذًا هي القصيدةُ أو القطعةُ الشعرية، أمَّا الرثاء فهو الإشفاق والحزن، وهو أمر معنوي.



ولم نجد لدى النقَّاد القدامى تحديدًا وتَمييزًا اصطلاحيًّا واضحًا لمفهوم (المرثية) و(الرثاء)، لكنَّنا يُمكن أن نستشفَّ من خلال الاستعمال الأدبي لهما من قبل النقَّاد أنَّ المقصودَ بالمرثية هو القصيدة، وأنَّ الرثاء هو الموضوع الشعري، فلقد اهتمَّ النقادُ القدماء بالمرثية بوصفها قصيدةً شعريَّة، فاختاروا أجودَها، وجعلوا لأصحابها طبقةً بين طبقات الشعراء، وأشاروا إلى الضَّعيف منها، وبيَّنوا أسبابَ هذا الضعف، كما أنَّهم استَجادوا عددًا من مقدماتِها، وعابوا الأخرى، وتحدَّثوا عن الأساليب والمعاني والأوزان اللاَّئقة بها، واهتمُّوا كذلك بالرثاء بوصْفه موضوعًا شعريًّا بين الموضوعات الشعريَّة الأخرى، وتَحدثوا عن درجة الحزن وعلاقتها بالرثاء، وعن طبيعة المرثي ودَوْره في التأثير على موضوع الرثاء، وعلى معاني الحزن العامة[7].



إنَّ المدلول اللغويَّ للرثاء الذي تَعارَف عليه القدماء، أصبح بمرور الزمن يمثِّل المدلول الاصطلاحي له، وهكذا يرى مؤلفُ كتاب "المراثي الشعرية" أنَّ مصطلح الرثاء في الدراسات المعاصرة يعني بكاء الميت وتَعداد مَحاسنه بالشعر والنثر، أو هو موضوع أدبي يقوم في بنيته الأساسِيَّة على الحزن على الميت.



وعلى هذا، تكون المرثية هي الأثرَ الأدبي الذي يتَّخذ الرثاء موضوعًا له.



ولما للتأبين من علاقة بالرِّثاء؛ نشير هنا إلى معنى التأبين، فقد جاء تحت مادة أبن: وأبَّن الرجل تأبينًا، وأبَّنه: مدحه بعد موته وبكاه، وقال شمر: التأبين: الثناءُ على الرجل في الموت والحياة[8].



وجاء أيضًا: وندب الميت؛ أي: بكى عليه وعدَّد محاسنه، يندبه ندبًا، والاسم النُّدبة بالضم، وندب الميت بعد موته من غير أن يقيد ببكاء، وأن تذكر النائحةُ الميتَ بأحسن أوصافه وأقواله[9].



وكما نلاحظ، فهذه الألفاظ وإن تباينت طبيعةُ حروفها، فإنَّ معانيها في مُعظمها واحدة، تطلق ويراد بها تَعداد شمائل المرثي وتأبينه، وإظهار اللوعة والأسى والتحسُّر على رحيله عن الحياة، تَحسُّرًا يَملؤه التفجُّع الصادق، النابع من قلب الراثي الوفي لمن يؤبنه.



ولا غروَ في هذا، فالرِّثاء غرض قديم وجديد أيضًا؛ لأنه متعلق بوجدان الإنسان، والإنسان الحساس غير مقفرِ الوجدان ولا جافِي الطبع، والأحزان تفجر في الإنسان ينابيعَ ثَرَّة من الفن الصادق.



والرثاء يعدُّ من أصدقِ الأغراض الشعرية؛ لأنَّه يخلو من الطمع والحاجة إلى المكافأة، بل ينبع من الإخلاصِ والصدق، إنه لمحة وفاء تشرق في الرُّوح، وتنهمر مع الدموع، وتنساب من الشفاه نشيدًا مثخنًا بالجراح موسومًا بالصدق[10].



إذًا الرثاء في الحقيقة: فنُّ تصوير العواطف الملتهبة والقلوب المكلومة، والنفس البشرية إذا كُلِمَت، نَفَّست عمَّا بداخلها من حزن على فقيدها، الذي كان يملأ عليها الدنيا.



وقد راجَ هذا الفن رواجًا عظيمًا في شعرنا العربي؛ لأنَّه وثيقُ الصلة بنهاية المخلوق في هذه الحياة.



"الرثاء: فلسفة بكاء الذَّات باستدعاء مواقف الراحلين، وتمثل ما بعد الحياة الدنيا، والتحسُّر هو التحسُّر نفسه على فَقْدِ الفرص السانحة للاستعداد من خلال تأمُّل مواكب الآفلين"[11].



ولذا كان الرثاء مُقترنًا بالموت، وليس هناك أمة لم تعرفه؛ وعلى ذلك فهو موجود عند كل الأمم، وفي كل العصور، كذلك هو الفن الذي لم يخلُ منه ديوان شاعر ولا شاعرة، حتى اشتهر بعضُ الشعراء والشواعر به، وعُدَّ علامةً بارزة في أشعارهم، أمثال: الخنساء، وجليلة بنت مرة، وليلى الأخيلية، وغيرهن كثير من الرِّجال والنساء، وقد سجَّل مُؤرخو الأدب على مَرِّ العصور تراثًا أدبيًّا ضخمًا من هذا الفن، فأضافوا إلى التراث الإنساني تراثًا تليدًا وطريفًا أثرى الصفحات الأدبية بكمٍّ هائل من القصائد، بل من عيونها.



يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:23 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
وقد أهمل كثيرٌ من النقَّاد - خاصة القدامى منهم - فَنَّ "الرثاء"، ولم يعدوه فنًّا مستقلاًّ من فنون الشعر، وإنَّما عدوه من باب المديح، فابن رشيق يقول: "أكثر ما يجري عليه أغراضُ الشعر خمسة: النسيب، والمديح، والهجاء، والفخر، والوصف"[12]، ومرة أخرى يعدُّه ركنًا من أركان الشعر، فيقول: "إنَّ الشعر بُنِيَ على أربعة: المدح، والهجاء، والنسيب، والرثاء"[13].



ومنهم مَن أهدره جملةً، فقال: "قواعد الشعر أربع: الرهبة، والرغبة، والطرب، والغضب، فمع الرغبة يكون المديح والشُّكر، ومع الرهبة يكون الاعتذارُ، ومع الطرب يكون الشوق، ومع الغضب يكون التوعُّد"[14].



وقال ابن سلام: "إنَّ التأبين مدح الميت، والثناء عليه، والمدح للحي"[15].



وقال قدامة: "ليس بين المرثية والمدحة فصلٌ، إلاَّ أن يذكر في اللفظ ما يدُلُّ على أنَّها لهالك، مثل: كان، وقضى نحبه، وما أشبه ذلك، وهذا ليس يزيد في المعنى أو ينتقص منه؛ لأن تأبين الميت إنَّما هو بمثل ما كان يمدح به في حياته"[16].



وهذه نظرة بلا شك تُغْفِل العنصرَ الوجداني إغفالاً واضحًا، وتَنْسَى الجوَّ النفسي المسيطر على الراثي، وهو بعيدٌ كل البُعد عن جوِّ المدح.



تلك على أيَّةِ حال نظرةٌ غير متعمقة، مَبنيَّة على غير تَحليل واستقصاء، يستوي بها أنْ ترثي فقيدًا والقلب مُوجع حزين، وأن تَمدح حيًّا والنفس تفيض بهجةً وسُرورًا، ولا يستوي الأمران؛ ولذا جعلوا فَنَّ الرثاء أصعبَ فنون الشعر؛ لأنَّه أولاً: لا يعمل على رهبة أو رغبة، وثانيًا: لأنَّه يقوم على الصدق والإخلاص، وما أندرهما!



وحَصْرُ أسبابِ الانفعال الوجداني - كما هو عند النُّقاد القدامى - في الرغبة والرهبة، يَجعل الشاعر حين ينقطع رجاؤه في الميت أو خوفه منه، يشق عليه أن يرثيه، وهم هنا يُلغون من حسابهم الانفِعالَ بالأسى أو الحزن لفقد عزيز، أو الصدمة التي تهزُّ وجدانَ الشاعر حين يواجه مأساةً بشرية في موت ابنٍ وحيد، أو ابنةٍ، أو أمٍّ... إلخ.



ذلك لأنَّ الرغبةَ عندهم كانت تعني الطمعَ في عَطاء حاكم أو أمير، بدليلِ أنَّهم حصروا الرهبةَ في الاعتذار والاستعطاف، وفاتهم أنْ ينتبهوا إلى مُثيراتٍ أخرى للرهبة، كالشجن؛ شجن الفراق، الذي لا لقاءَ بعده، والخوف من وحشة الفراغ الذي يتركه موتُ عزيز، بل رُبَّما فاتهم أن يتلفتوا إلى رهبةِ الموت نفسه[17].



ويُروى أنَّ أحمدَ بن يوسف قال لأبي يعقوب الحزيمي: أنت في مديحك لفلان... أشعرُ منك في مراثيك له، فقال أبو يعقوب: كنَّا يومئذ نعمل على الرَّجاء... ونَحن اليومَ نعمل على الوفاء[18].



ولقد قالوا أيضًا: "ومن أشدِّ الرثاء صُعوبة على الشاعر أنْ يرثِيَ طفلاً أو امرأة؛ لضيق الكلام فيهما، وقلة الصفات"[19].



وهو قولٌ جِدُّ غريب؛ إذ لا نستطيع أن نتصورَ ما هو أفدح على الشاعر وأقسى من انطفاء الحياة في الولد، طفلاً يتفتح للحياة أبعد ما يكون الظن به - في المخلوق الضعيف قاصر النظر - أن يَموت، أو موت امرأة لا تعدو أن تكون أمًّا أو أختًا أو بنتًا أو زوجة.



وهذه النظرة قد مُحِيَت تمامًا في الرثاء في العصر الحديث، فنجد الآباء تنقطع نِياط قلوبهم لموت الأبناء، والأزواج لموت الزَّوجات، بل أصبح من هول الفجيعة أنْ خصت المرأة زوجًا بديوان خاصٍّ في رثائها، كما هو عند الشعراء عبدالرحمن صدقي، وعزيز أباظة، والدكتور رجب البيومي، وكذلك خصَّ الابن بديوان رثاءٍ خاصٍّ، كما هو عند الشاعرة سعادة الصباح، وغير أولئك كثير.



تطور الرثاء عبر العصور:

كان الرِّثاء عند شعراء الجاهلية من الموضوعات التي تتَّصل اتِّصالاً مُباشرًا وواضحًا بالحماسة، فقد كانوا يرثون أبطالَهم في قصائدَ حماسيَّةٍ يريدون بها أنْ يُثيروا قبائلَهم؛ لتأخذَ بثأرهم، فكانوا يُمجِّدون خلالَهم، ويصِفون مناقبهم، التي فقدتْها القبيلة فيهم؛ حتى تنفر إلى حرب مَن قتلوهم، وكان يُشاركُ الرجالَ في ذلك النساءُ، فقد كُنَّ ما يزلن ينُحن على القتيل؛ حتى تثأر القبيلة له، وقُمنَ بالقسط الأكبر من ندب الميت وبكائه، وكُنَّ يشققن الجيوبَ عليه، ويلطمن وجوهَهن، ويقرعن صدورَهن، ويعقدن عليه مَأتَمًا من العويل والبُكاء، ومن خير ما يُصوِّر ذلك كتاب "مراثي شواعر العرب"؛ للويس شيخو[20].



ومن الطريف عند شعراء الجاهلية أنَّ بعضَهم كان إذا أحسَّ داعيَ الموت، ندَب نفسه، ووصَف ما يَصنعه به أهله بعد الموت؛ من ترجيل شعره، ووضعه في مدارج الكفن، ثم لحده ودفنه، وتنسب للمخرق العبدي أو ليزيد بن الخذاق قطعةٌ يُصَوِّر فيها هذا المصير الذي ينتظره، يقول فيها:



هَلْ لِلْفَتَى مِنْ بَنَاتِ الدَّهْرِ مِنْ وَاقِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَمْ هَلْ لَهُ مِنْ حِمَامِ الْمَوْتِ مِنْ رَاقِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




قَدْ رَجَّلُونِي وَمَا رُجِّلْتُ مِنْ شَعَثٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَأَلْبَسُونِي ثِيَابًا غَيْرَ أَخْلاَقِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَأَرْسَلُوا فِتْيَةً مِنْ خَيْرِهِمْ حَسَبًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لِيَسْنِدُوا فِي ضَرِيحِ التُّرْبِ أَطْبَاقِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وكانوا يكثرون من تأبين مَن يَموتون في ميادين الحرب، وقد يُضمِّنون هذا التأبين هجاءً لاذعًا لخصومهم، وفخرًا بعشيرتهم ومآثرها وأيامها[21].



ولم يؤبنوا أبطالَهم من القتلى فحسب، بل فسَحوا في مراثيهم لتأبين أشرافهم، وإنْ ماتوا حتف أنوفهم؛ فخرًا بهم، واعتزازًا بمناقبهم وأعمالهم ومآثرهم، ونجدهم قد يستنزلون لهم الغيثَ من السماء حتى تصبحَ قبورُهم رياضًا عطرة، ومن رائع تأبينهم مرثية أوس بن حجر لفضالة بن كلدة الأسدي، وأولها[22]:



أَيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلِي جَزَعًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِنَّ الَّذِي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




إِنَّ الَّذِي جَمَّعَ السَّمَاحَةَ وَالنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نَجْدَةَ وَالْحَزْمَ وَالْقُوَى جُمَعَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




الْأَلْمَعِيَّ الَّذِي يَظُنُّ لَكَ الظْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ظَنَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وكانوا أحيانًا حين يذكُرون الموتَ، يتأَسَّون ويتعَزَّون عنه بأنَّه حوضٌ لا بُدَّ من وُروده، وقد سبقَتْهم إليه الأجيالُ الماضية من ملوك وغير ملوك.



وعلى هذا النحو ألَمَّ الشاعر الجاهلي بجوانبِ الرثاء الثلاثة من الندب، والتأبين، والعزاء، وكان رثاؤه غالبًا يتعلَّق بأفراد، وقلما تعلَّق بمجموعة من الفرسان.



ولما جاء الإسلام بما يحمله من عقائدَ وتشريعاتٍ، كان له أثرُه الواضح في تطوُّر السلوك الإنساني وسُمُوِّه، وبصورة خاصَّة عقيدته في اليوم الآخر، التي أكسبت المؤمنين صفاتٍ كان الناس يفتقدونها قبلَهم، لعلَّ من أبرزها الفاعلِيَّة بطبيعتها الشُّمولية والأخلاقية، فقد أيقن الإنسانُ بالدَّوْر الذي خُلِق من أجله، وكشف له القرآن سر الحياة والكون، وعلَّمه كيف يسخِّر الطاقات الكونية لتحقيقٍ أمثلَ لواجبِ الخلافة في الأرض، فيتحوَّل المؤمن إلى طاقة فَذَّة في ميدان الفعل والإنجاز... قدرة مذهلة في مجال العطاء والإبداع... شُعلة مُتوهجة يَمتد إشعاعها إلى أعماقِ التُّراث، فيُضيئها ويدفعها إلى آفاقِ العلم، فالمعرفةُ باليوم الآخر هي أقوى باعث على فعل الخير وتَرْكِ الشر، ولم يكن الإسلام ليحركَ الفاعليَّة في الإنسان دون أن يَمنحه الشعور بالسعادة والاطمئنان والأمان؛ ولذا كان المؤمنون دائمًا سعداء قبل أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة؛ ليضاعفَ لهم الجزاء، ويكتسب صفة الدوام والخلود، فقد تغيَّر لون الحياة وطعمها بعد أن عرف الإنسانُ غايتها وجدواها؛ إذ كان يظنها خلقت عبثًا؛ ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [ص: 27]، فهي ذاتُ قيمة عالية إذا ما استغلت الاستغلال الأمثل في طاعة الله.



ولذا أصبح الإنسانُ المؤمن لا يَخشى الموت ولا يقلق بشأنه، بل يُقدِم عليه إقدامًا إنْ كان في سبيل الله، غير مُبالٍ بزينةِ الدُّنيا وبهرجتها، لقد بدأ تغيُّر مفهوم الموت يؤتي ثمارَه في مراثي صدر الإسلام، فنرى الاطمئنان إلى مصير المرثي والرِّضا بقضاء الله - عزَّ وجلَّ - حَلَّ محل الجزع والولولة عليه، والتشاكي من الدَّهر وسبه، والدُّعاء على النفس بالويل والثُّبور، وبدا الشاعر الإسلامي يتحدث عن مصير المرثي وما يتلقاه من تَرحاب وتَكريم في الجنة، ويلتمس الشاعر من الله - عزَّ وجلَّ - أن يُثيبه ويَجمعه مع من يُحب سَوِيَّةً في الجنة.



وقد اكتسبت المرثية الإسلامية بذلك حُلَّةً جديدة، تزهو ألوانُها بالمعاني الإسلامية التي تشعُّ رضا وسعادة وأملاً، وأكثر ما يتَّضح ذلك في مراثي شهداء المسلمين.



وإدراكًا من الشاعر الإسلامي بخُطورة الشعر وأهميَّة دَوْرِه ودور الشاعر في الإسهام الحضاري، أخَذ هذا الشاعر يسلك مَسلكًا آخَر في مراثيه غير الذي كان متبعًا قبل الإسلام، والذي كان يقوم على إرضاء الدَّوافع الذاتيَّة للشاعر، وخدمة العصبيَّة القبليَّة؛ حيث خرج من دائرته، وأخذ يُسهم من خلال مراثيه في المشاركة في الدفاع عن الإسلام والمسلمين، والخوض في المعضلات التي يتعرَّضون لها، كما أخَذ يسهم في نشر تعاليم الدِّين الإسلامي ومَفاهيمه، وأكثر ما يتضح ذلك فيه مراثي الخلفاء الراشدين، والشهداء، وقسم من مراثي الأهل والأقارب[23].



وفي عصر بني أميَّة والعباسيين تطوَّر فَنُّ الرثاء، كما يقول ابن رشيق: "كان من عادة العرب القُدامى أن يضربوا الأمثالَ في المراثي بالملوك الأعِزَّة، والأمم السالفة، والوعول الممتنعة في قلل الجبال، والأسود الخادرة في الغياض، وبحُمُر الوحش المتصرِّفة بين القفار، والنُّسور والعقبان والحَيَّات لبأسها وطولِ أعمارها، وذلك في أشعارهم كثيرٌ موجود لا يكاد يخلو منه شعر، فأما المحدثون فهم إلى غير هذه الطريق أميل"[24].



ومع ذلك فقد استمرَّت بعض مظاهر الرثاء واتِّجاهاته القديمة، وإنْ كانت قد أخذت في التضاؤُل والانكماش؛ لتُخلي السبيلَ للمظاهر والاتِّجاهات الجديدة.



ومن الاتجاهات الجديدة في الرِّثاء - خاصَّة في العصر العباسي وإنْ كان معظمه في عصر بني أمية رثاءً تقليديًّا - إخراج الرثاء مخرج الفكاهة والضحك؛ حيث اتجهوا بالشعر وجهات جديدة، فخرجوا به عن دائرة الأشخاص إلى آفاق أخرى معنويَّة أو حسيَّة، فإذا بنا نجد مطبع بن إياس يرثي شبابه لا في بيت أو أبيات عابرة ضمن قصيدة، كما كان يحدث في القديم، ولكن في قصيدة كاملة قصرها على هذا الرثاء، ومنها:



إِنِّي لَبَاكٍ عَلَى الشَّبَابِ وَمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَعْرِفُ مِنْ شِرَّتِي وَمِنْ طَرَبِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَمِنْ تَصَابِيَّ إِنْ صَبَوْتُ وَمِنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نَارِي إِذَا مَا اسْتَعَرْتُ فِي لَهَبِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أَبْكِي خَلِيلاً وَلَّى بِبَهْجَتِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَانَ بِأَثْوَابٍ جِدَّةٍ قُشُبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ثم يتطرَّق الشاعرُ إلى بكاء شيء عزيز كان يَملكه، ويستشعر نحوه الوفاء والمحبة، فيرثيه من مثل رثاء محمد بن أبي كريمة لقميصه الذي بَلِيَ، بل رثوا الحيوانات الأليفة وغيرها، كما فعل أبو نواس في رثاء كلب صيدٍ له لَسَعَتْه حيَّة فمات، في قصيدة طويلة أولها:



يَا بُؤْسَ كَلْبِي سَيِّدِ الْكِلاَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قَدْ كَانَ أَغْنَانِي عَنِ الْعُقَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








كما بدأ الشعراء بدايةَ القرن الثاني الهجري في رِثاء الأوطان؛ حيث زاد وعيُهم بالرِّباط الذي يشدُّهم إليها، ولعلَّ أطولَ قصيدةِ رثاء في المدن في شعرنا العربي قصيدة الحزيمي في رثاء بغداد، وقد روى الطبري منها مائةً وخمسة وثلاثين بيتًا أتى فيها على تاريخ بغداد كله، وصوَّر منها نكبةَ بغداد أيامَ الفتنة بين الأمين والمأمون.



ومِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ شعر الرثاء الذي كان يدعو منذ الجاهلية إلى التفكُّر والتدبُّر والنظر في حكمة الكون، أصبحَ أكثرَ انشغالاً بهذه الأمور، وأكثرَ تعمُّقًا بعد انتشار العلوم والمعارف فيما بعد، كما أنَّ الرثاءَ عامة قد أصبح في أيدي الشعراء الزُّهَّاد وسيلةً للتذكير بالموت، وتنبيه الغافلين عن اليوم الآخر[25].



ويظلُّ الرثاء فنًّا يستوعب مشاعرَ الحزن والتحسُّر على من مات، قِوَامُه الصدق، ولُحمته الإخلاص، ودافعه الوفاء، حتى غدا من أرقِّ أنواع التعبير، وأعمق ما يُترجِم عن الأحاسيس البشرية حتى اليوم.







[1] من قصيدة "فارس الشعر" قناديل الريح، ج2.




[2] مقبول بشير النعمة: "المراثي الشعرية في عصر صدر الإسلام"، ص13.




[3] الزمخشري: "أساس البلاغة"، ص221.




[4] انظر: الجوهري: "الصحاح".




[5] ابن فارس: "معجم مقاييس اللغة"، ص488/2.




[6] مقبول بشير النعمة: مرجع سابق، ص14.




[7] مقبول بشير النعمة: المرجع السابق، ص15.




[8] ابن منظور، ت: عبدالله علي الكبير وآخرين، لسان العرب، دار المعارف، ص1582/3.




[9] ابن منظور: المرجع السابق، ص4380/6.




[10] د. صابر عبدالدايم: "محمود حسن إسماعيل بين الأصالة والمعاصرة"، دار المعارف، ص118.




[11] د. زهران جبر: "آراء في الحياة والموت".




[12] ابن رشيق: "العمدة"، ص77/1.




[13] ابن رشيق: المرجع السابق، ص78/1.




[14] أبو تمام: "ديوان الحماسة"، ص458.




[15] ابن سلام: "طبقات فحول الشعراء"، ص50/1.




[16] قدامة بن جعفر: "نقد الشعر"، ص59.




[17] د. طه عبدالحميد زيد: "فن الرثاء بين الرجال والنساء في العصر الحديث"، ص7.




[18] ابن رشيق: مرجع سابق، ص79/1.




[19] ابن رشيق: مرجع سابق، ص24/2.




[20] شوقي ضيف: "العصر الجاهلي"، ص207، 208.




[21] شوقي ضيف: "العصر الجاهلي"، ص209.




[22] أوس بن حجر: "ديوانه"، ص53.




[23] مقبول بشير النعمة: مرجع سابق، ص31.




[24] ابن رشيق: مرجع سابق، ص131/2.




[25] د. محمد مصط






ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:25 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
الرثاء في شعر باشراحيل (2)
محيي الدين صالح




اتجاهات الرثاء عند باشراحيل


عَشِقَ اللاَّهُونَ أَسْمَارَ الْعَشَايَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَعَشِقْنَا نَحْنُ مَا بَعْدَ الْمَنُونْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِنَّمَا الْأَرْضُ عَدَاوَاتٌ وَشَكْوَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَخُطًى تَلْهَثُ فِي إِثْرِ الشُّجُونْ [1]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



في هذه الكلمات الموجزة المكثَّفة المعبِّرة، يُوضِّح لنا باشراحيل فلسفةَ الإبداع عنده ورُؤيته فيما يَجب أنْ يقال شعرًا، وكأنه عائد لتوِّه من رحلةٍ زمنية بعيدة، بعد أن ضرب على أذنيه في كهفِ البشرية سنين عددًا، ثم بعث بقناعات وخبرات اجتماعية جديدة تُناسِب هذا العصر الذي تحوَّلنا فيه إلى تروس صغيرة في آلة ضخمة مُعقدة، وهذا يذكِّرنا بما فعله المتنبي من قبلُ حينما خرج على الناسِ بقصيدته الشهيرة:
صَحِبَ النَّاسُ قَبْلَنَا ذَا الزَّمَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَعَنَاهُمْ مِنْ شَأْنِهِ مَا عَنَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَتَوَلَّوْا بِغُصَّةٍ كُلُّهُمْ مِنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هُ وَإِنْ سَرَّ بَعْضَهُمْ أَحْيَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وبناءً على هذه الخبرة المكتسبة، قسم باشراحيل الناسَ فئتين: الأولى فئة (اللاهون)، والفئة الثانية هي التي تشمله ضمنًا، وعبَّر عنها في المقابل بقوله (نحن) في الشطر الثاني من البيت، وبين الفئتين بعدٌ شاسع، ولَم يعد الناسُ فيما يعشقون مذاهب، كما كان من قبل، بل صاروا مذهبين اثنين فقط حسب رُؤية شاعرنا، وكلُّ مذهب له مُريدون وعُشَّاق، وهو في تقسيمه هذا أفضلُ مني حالاً ومآلاً، فقد سبق أن قسمت الناس أيضًا إلى فئتين، ولكني وضعت كلَّ الناس في جانب، ووضعت نفسي وحيدًا في الجانب الآخر، وذلك عندما كتبت قصيدة: "بيني وبين العالمين"[2] سنة 1995، وقلت فيها:
وَاهِمٌ مَنْ ظَنَّ أَنَّا فِي الرُّؤَى مُتَّفِقُونْ
فَجَمِيعُ النَّاسِ نَوْعٌ وَأَنَا خَصْمٌ مُبِينْ
قِسْمَةٌ ضِيزَى، سِبَاقٌ قَاتِلٌ، أَمْرٌ مَشِينْ
وَتَبَارَيْنَا لِيَعْدُو الْكُلُّ فِي عَكْسِ اتِّجَاهِ الْآخَرِينْ
وَانْزَعَجْنَا مِنْ غِيابِ الْعَدْلِ عِنْدِ الْحَاكِمِينْ
فَذَهَبْنَا نَتَسَوَّرُ حُرْمَةَ الْمِحْرَابِ لَكِنْ
لَيْتَ عِنْدِي نَعْجَةً وَاحِدَةً أَكْفُلُهَا لِلطَّامِعِينْ

ونعود إلى تقسيم باشراحيل وأبياته، فاللاَّهون عشقوا السَّمَر في عَشِيَّات أخَّاذة... لا بُدَّ أن تكون قد أتت بعد ضحوات هادئة، وأمسيات هانئة، وهذه "العشايا" - كما يسميها الشاعر - احتضنت كثيرًا من الغافلين، الذين لا ينظرون أبعدَ من تحت أرجلهم، أمَّا الشاعر ورفاقه، فقد عشقوا ما هو أبعد من ذلك بكثير، ورحلوا بعُقولِهم وقلوبهم إلى ما بعد الضحوات والعشيات والدنيا كلها.

عشقوا ما بعد المنون، وكأنَّهم برموا بالحياة، ولَم يستَسِيغوا منها زمانًا ولا مكانًا؛ حيث يرى باشراحيل أنَّ الأرضَ عداواتٌ وشكوى، وخُطًى لاهثة خلف الآلام والمواجع، وليس خلف الآمال والأحلام، ومن الواضح أنَّ الشاعر في هذه الرُّؤية مُتأثرٌ جدًّا بقوله - تعالى -: ï´؟ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ï´¾ [البلد: 4].

وحقيق على مَن يرى الأرض ويَصفها بهذه الصفات، أنْ يتطلعَ إلى المرحلة التالية، التي ستكون بعيدًا عن الأرض، التي لَم يخلد إليها الشاعر ورفاقه، ومن العجيب أنَّ هذه الأبيات لباشراحيل لم تكن ضمن قصيدة رثاء، ولا كانت من مجموعة "مرافئ الدمع"، التي تتقاطر فيها دموع الشاعر على أحبابه الذين سبقوه إلى دار البقاء، ولكنَّها أبيات في قصيدة (مئوية الحب) من مجموعة (منابر الفجر).

وهذا هو ما جعلني أشيرُ في مُقدمة الدراسة إلى تداخُل الأغراض الشعرية ومَشروعيَّتها وجمالها، إذا أُحسِن التداوُل والتداخُل.

وهذه الرؤية تذكرنا بأديبنا الكبير عباس العقاد حين يقول:
حَيْرَانُ حَيْرَانُ لاَ نَجْمُ السَّمَاءِ وَلاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَعَالِمُ الْأَرْضِ فِي الْغَمَّاءِ تَهْدِينِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَقْظَانُ يَقْظَانُ لاَ طِيبُ الرُّقَادِ يُدَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نِينِي وَلاَ سَمَرُ السُّمَّارِ يُلْهِينِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وبرغم المسافة الزمانية والمكانية التي بين باشراحيل والعقاد، فقد اتَّفق الشاعران وأبْدَيَا آراءً مشابهة عن الحياة الدنيا، وكأنهما في ذلك يستقيان من نبع واحد.

ولا نستطيع أن ندَّعي أن للشاعر باشراحيل نظرةً تشاؤميَّة؛ لأنَّ كلَّ قصائده تقريبًا تنتهي بالدُّعاء، أو الابتهال، أو الرجاء من الله - سبحانه - أن يخفف ما يُعاني ويجد، أو أن يزيل الهمَّ والكرب، كما يقول في رثاء الأديب/ حمد الجاسر في نهاية القصيدة[3]:
فَاغْفِرْ لَهُ يَا إِلَهَ الْكَوْنِ فِي كَرَمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَإِنَّنَا وَجَمِيعَ الْخَلْقِ خَطَّاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وكذلك في قصيدة رثاء الشاعر/ حسين سرحان[4]:
نَدْعُو لَكَ اللَّهَ الَّذِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَدْ حَفَّ بِالْإِحْسَانِ عَبْدَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



أمَّا القصيدة التي يرثي فيها أباه، فإنه يُظهر الجلد والتصبر والعزاء، بأسلوب الأديب الإسلامي الواثق، ويقول في نهاية القصيدة:
لَمْ تَزِدْنِي الْحَيَاةُ غَيْرَ يَقِينٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَنَّ لِلَّهِ رَجْعَتِي وَسُكُونِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَهْوَ بِالْخَلْقِ رَاحِمٌ وَكَرِيمٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَهْوَ مَوْلاَكَ بَيْنَ دُنْيَا وَدِينِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ولو استعرضنا كلَّ قصائد باشراحيل، سنجد فيها هذه الخاصية، فالحس الديني الإيماني - ولا نزكي أحدًا على الله - مع عدم الاكتراث بهموم الدُّنيا وفتنها وزينتها، إضافةً إلى إحسان الظنِّ بالناس، كل ذلك ملامح واضحة لا تُخطئها العين، وهذا هو المدخل الطبيعي الذي يستطيع الدارس أو القارئ أنْ يَعْبُر من خلالِه إلى آفاقِ وأعماق الشاعر المرهف (باشراحيل)، إذا أراد أن يعرفَ اتجاهاتِ الرِّثاء عنده، فهو شاعر يقول صراحةً: إنَّ أحزانه أكثر من أفراحه - وهكذا كل الشعراء الصادقين - وهو في ذلك يتَّفق مع الشاعر، الذي قال (ولعله عباس العقاد):
إِنَّ حُزْنًا فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلاَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فهو ليس من أهل اللهو والعبث، وإن تناثر من أعماقه بعضُ قصائد الغزل والشوق والهيام، كما أنَّه ليس من أهل الأرض والغَفْلة مهما كانت الخُطى التي مشاها عندما كتبت عليه.

ولاستيضاح اتِّجاهات الرثاء عند باشراحيل لا بُدَّ من تناوُل بعض إبداعاته في هذا الغرض على سبيل الاستشهاد والاستنباط.

والنموذج الأول الذي سنجوب في عرصاتِه هو قصيدة "لله درك يا عمر"، التي كتبت في رثاء المغفور له بإذن الله الشيخ: عمر بن محمد بن سبيل (إمام المسجد الحرام)[5]، يستهل الشاعر مرثيته قائلاً:
لِلَّهِ مَا أَقْسَى الْخَبَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
الْيَوْمَ وَدَّعَنَا عُمَرْ

يتبع


ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:26 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ الْإِمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مُ وَأَيُّهَا الْقَلْبُ النَّضِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَبْكِيكَ مَنْ بِالْبَيْتِ طَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَ وَحَجَّ مَكَّةَ وَاعْتَمَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فالشاعر يبدأ أوَّلَ كلمة في القصيدة باسم "الله" (لله)، وعنوان القصيدة مبدوء كذلك، ونهاية القصيدة (يا رب)... وقد وصَلت الرسالة التي يريد الشاعر أن يَبُثَّها عبر قصيدته، فالأحزان مهما كانت، والمصائب مهما عظمت، فإنَّها لا تطيح برزانة الرجل، ومرارةُ الوداع، وقسوة الخبر، لا يخففهما إلاَّ اللجوء إلى الله مُحتسبين، خاصَّة في مثل هذه الأمور، ويبدو مدى تأثُّر باشراحيل بما قاله عبيد بن الأبرص:
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَؤُوبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَغَائِبُ الْمَوْتِ لاَ يَؤُوبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وتحليل القصيدة من حيث المفردات تكشف عن أمورٍ كثيرة، ففيها (القسوة، والبكاء، والحزن، والدموع، والمنية، والوداع)، وهي مفردات لها وقعها عند الرثاء.

ولكن هناك مفردات أخرى وظَّفها الشاعرُ لخدمة أغراضِه في هذا الحيز، فالقصيدةُ فيها من "النضارة، والخير، وحبات الندى، وعين القمر، والنسائم، والسراج، والسقي، والعطر، والمطر"، كما نجد فيها ذِكْرَ المكان (مكة) وذكر الزمان، والحركة، والصوت، والعطر، والضوء؛ أي: إنَّ القصيدةَ لوحةٌ متكاملة من الصور.

والبيان في أبيات القصيدة له مَذاق خاصٌّ، فالنسائمُ لها دموع، والأسحار لها مُقل، والقمر له عين، والخير يبكي، والسراج يقرأ ويرتل، والمنية تسعى؛ يقول باشراحيل:
دَمْعُ النَّسَائِمِ لَمْ يَزَلْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَنْسَابُ مِنْ مُقَلِ السَّحَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَبَرِيقِ حَبَّاتِ النَّدَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَشْرَقْتَ فِي عَيْنِ الْقَمَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ومن قبل البيتين في ترتيب الشاعر:
وَالْخَيْرُ أَصْدَقُ مَنْ بَكَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حُزْنًا وَأَوَّلُ مَنْ حَضَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَسِرَاجُكَ الضَّاوِي يَشِعْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عُ بِمَا حَفِظْتَ مِنَ السُّوَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وقبل النهاية:
تَسْعَى الْمَنِيَّةُ نَحْوَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سَعْيَ الْقَضَاءِ أَوِ الْقَدَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وبين هذا وذاك، فإنَّ الابتهالَ والدُّعاء سِمَة مُميزة في هذه القصيدة:
يَا رَبِّ نَحْنُ إِلَى رِضَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَ وَنَيْلِ عَفْوِكَ نَفْتَقِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَاغْفِرْ لَهُ يَا سَيِّدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَارْحَمْهُ أَنْتَ بِهِ أَبَرّْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنْتَ الْكَرِيمُ وَأَنْتَ مَنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِيَدَيْكَ أَقْدَارُ الْبَشَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا رَبِّ نَسْأَلُكَ الثَّبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَ لَهُ وَطِيبَ الْمُسْتَقَرّْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


يتبع


ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:27 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 

والشاعر لا يكتفي بأنه تضرع إلى الله، ولكنه يسترحم بكل أهل الطاعات الذين طافوا حُجَّاجًا أو معتمرين:
وَدُعَاء مَنْ صَلَّى الْفُرُو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ضَ الْخَمْسَ وَالْتَمَسَ الْحَجَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ومما سبق يتضح لنا أنَّ اتِّجاهات الرِّثاء عند باشراحيل ليست بُكائِيَّات أو مآثر جامدة، ولكنها فرصة للتأكيد على الثَّوابت الإيمانية، والحث على الفضائل، وذكر المحاسن، وتسجيل الخواطر، كل هذا مع سرد آلامه الخاصَّة من فقْد الحبيب الذي غاب.

ونظرة عابرة في قصيدة أخرى لباشراحيل أراها ضروريةً لتثبيت أركانِ هذه الرؤية، حتى وإن لم نلجأ إلى تَحليلها كما حدث من قبل.

والنموذج الثاني الذي أتناوله هو قصيدةُ (الفراق المر) في رثاء الشيخ العالم محمد بن عثيمين[6]، عندما قرأتُ القصيدةَ للمرَّة الأولى، سرح بي الخيال بعيدًا إلى خير العصور، وتذكَّرت قصةَ الصحابي الذي سَمِعَ الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يدعو الله عند دفن أحد الصحابة، فقال: ليتني أنا الذي على النعش، وذلك من طلاوة ما سمعه من المصطفى وهو يترحَّم على الفقيد.

ولما قرأتها للمرة الثانية عند إعداد هذه الدراسة، تمثَّلت بيتَ الشاعر مالك بن الريب حين قال:
تَذَكَّرْتُ مَنْ يَبْكِي عَلَيَّ فَلَمْ أَجِدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سِوَى السَّيْفِ وَالرُّمْحِ الرُّدَيْنِيِّ بَاكِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



لأنَّ العالم الجليل (ابن عثيمين) كان موفور الحظ، فجنَّد الله له مَن يَرثيه بما هو أهل له، ويا ليت شِعْري، من سيرثينا غدًا؟

يقول باشراحيل في رثائه (لابن عثيمين):
يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ الَّذِي يَعْتَادُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِي كُلِّ عِيدٍ بِالتُّقَى يَتَبَسَّمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عِيدُ الْجِنَانِ هُنَاكَ أَعْظَمُ فَرْحَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لِلْمُؤْمِنِ الصَّادِي لِمَنْ هُوَ أَعْظَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وأيضًا يستغلُّ باشراحيل الفرصة السانحة؛ ليؤكِّد على أهميَّة العلم وفضله، وعلى قيمة التقوى في الدنيا والآخرة، وفي ختام القصيدة يستودع الشاعر كلَّ وجدانه عند الله - سبحانه - الذي لا تضييع ودائعه:
هُوَ خَالِقُ الْكَوْنِ الْعَظِيمِ وَكُلُّنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رَهْنُ الْمَنُونِ وَلَنْ تَرَى مَنْ يَسْلَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



والوقار عند باشراحيل يُعَدُّ من أهمِّ القيم التي يَجب التمسُّك بها في كُلِّ الأحوال، أو هو حجر الزَّاوية في العلاقاتِ الإنسانية؛ ولذلك فإنَّه لا يتوانى إطلاقًا في إبداءِ الإعجاب الفائق بِمَن يتصف بهذه الصِّفَة السامية.

ففي رثائه للشاعر/ حسين عرب في قصيدة بعنوان (على مثله دمع الرجال يسيل)؛ يقول باشراحيل:

هُوَ الصَّادِقُ الْأَوْفَى الْحَفِيظُ لِعَهْدِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رَفِيعٌ عَنِ الْهَذْرِ السَّقِيمِ أَثِيلُ[7] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فإذا ما استعدنا من خِلال الشعر علاقةَ باشراحيل بالمرثيِّ، سنجد ذات المعاني مداولة بينهما في مراسلاتِهم، فهو أيضًا القائل من قبلُ في قصيدة كان قد أرسلها للشاعر/ حسين عرب، في حياته، وكأنَّه استشعر ضرورةَ التأكيد على معاني الوفاء، قال:
هُوَ الزَّمَانُ فَلاَ تَعْجَبْ لِحَالَتِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إِذَا تَقَلَّبَ فِي أَعْقَابِهِ النَّزحُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وحسين عرب الذي يُخاطِبه باشراحيل بهذه المداخلات أو المساجلات القيِّمة، هو صاحب القصة الشهيرة (قصة القدس)، التي تتجلَّى فيها الأسباب التي جعلت باشراحيل يهيم بحبه قلبًا وقالبًا.

فبعد أنْ استعرض الشاعِرُ حسين عرب بعضَ الأحداث العربية الدَّامية وتوابعَها في قصيدة طويلة نسبيًّا، اختتمها بقوله:
أَيُّهَا السَّامِعُونَ عَفْوًا فَمَا كُنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تُ لِأُشْجِيَكُمْ بِمَا أَشْجَانِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قَدْ لَوَانِي الْقَرِيبُ عَنْ بَهْجَةِ الْحَفْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لِ وَلَمَّا عَالَجْتُهُ أَعْيَانِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وبعد هذا الاعتِذار البليغِ، الذي يُوضِّح مدى شفافية شعراء الجزيرة العربية وحساسيتهم الزائدة نحو مشاعر الآخرين - يصف الشاعر حسين عرب تلك الليلةَ التي جمعته مع أحبته في تهامة قائلاً:
لَيْلَةٌ مِنْ ثَقَافَةٍ وَبَيَانٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَجَمَالٍ وَفَرْحَةٍ وَأَغَانِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَمْ أَكُنْ مِنْ حُمَاتِهَا غَيْرَ أَنِّي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَجَوَادٍ يَعْدُو لِغَيْرِ رِهَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فإذا كانت هذه المشاعر الفياضة هي التي كانت تَجمع بين حسين عرب وباشراحيل، فقد وجب على باشراحيل أنْ يُعَزِّيَه أحرَّ العزاء، مُحتسبًا كُلَّ الخصال التي وجدها فيه عند من لا تضيع ودائعه.

وكأنَّه يتخوف مما حذر منه من قبل الشاعر الفارسي (الطغرائي) حين قال لاميته الشهيرة:
غَاضَ الْوَفَاءُ وَفَاضَ الْغَدْرُ وَانْفَرَجَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَسَافَةُ الْخُلْفِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذا يُوضِّح أنَّ اتجاهات الرِّثاء عند باشراحيل تَجوب في آفاقِ الأخلاق والمثل العليا، سواء توجَّه بأشعاره تلقاء نجد أو تِهامة، أم حَلَّق فيها في سَموات الحضارة العربية الإسلامية أينما حلت.


يتبع



ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:28 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 


الرمزية في الرثاء


تجوَّلتُ كثيرًا بين قوافي باشراحيل، ورافقته من خلال الكلمات المجنَّحة في شتَّى أغراضه الشعريَّة، وتوقَّفت كثيرًا عند قصائد الرِّثاء، وشعرت بكلِّ ما تألَّم به باشراحيل عندما فارقه أحبابُه؛ وذلك بسبب أسلوبه البديع الذي يشفُّ عن حقيقة ما عاناه الشاعر لكلِّ فقيد عزيز لديه... ولا أقول: إنَّني شاركته أحزانَه، ولكني أقول: أحسست أنه قال ما وددت أن يُقال في هؤلاء الرجال، خاصَّة من أعرفهم.

أمَّا المعاني والمثل والقيم التي افتَقَدها الشاعر ولو إلى حين، فرثاها بشكلٍ مُباشر أو غير مباشر، فهي دليلُ الإحساس المرهف الذي يتمتع به الشُّعراء المخلصون الغَيُورون، وباشراحيل عندما يتعرَّض لهذه المسائل، فإنَّه لا يسطحها ولا يضخِّمُها، ولكنَّه يبتغي بين ذلك سبيلاً، ويقنع القارئ أو المتلقي بوجهة نظره، فهو يتحدَّث عن رَهْطٍ من صحابةِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مجموعة (أقمار مكة)؛ ليُعيدَ إلى التداول تلك الصفاتِ النبيلة التي كان يتحلى بها الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - ويود لو توافرت كلُّ الشمائل والخصال الحميدة في أبناء جيله.

أمَّا بلاد الإسلام التي يرثيها باشراحيل مثل (القدس، والعراق، واليمن، ولبنان)، فإنها استكمال لأركان الرثاء عنده بعد أن رثى الزمانَ والإنسان والخصال، حتى نفسه التي بين جنبيه لم تسْلَم من الرثاء، كما في قصيدة (فرحة الرحيل) من ديوان قناديل الريح.

معنى ذلك أنَّني أمام ظاهرة شعرية تفاعَلت مع الحياة في حقيقتها المجرَّدة من كلِّ أقنعة التزيين أو التزييف، وتعامَلت معها على هذا الأساس، فلا عجب أن يرحلَ الغرام غير مأسوف عليه، وهو الذي يَحرص عليه كلُّ الناس، ولا عجب أيضًا من أن يكون للرحيل فرحة، مع أنَّه هو عين الشقاء والعذاب في أعرافِ أهل الوصال ومُريديه.

وقضية الموت تُعَدُّ من أعقد المسائل التي شغلت بالَ الشعراء قديمًا وحديثًا... وإنْ كان باشراحيل يوصي ابنتَه بالتصبُّر، ويقول لها:
لاَ تَنُوحِي بُنَيَّتِي لاَ تَنُوحِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
جَدِّدِي الذِّكْرَ عَنْ وَفَاتِي وَبُوحِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فهو في ذلك يتحدَّث كما لو فارق الحياة فعلاً، وكان عباس العقاد يوصي محبيه وتلاميذَه أيضًا بما يجب أن يفعلوه، ومن أبياته الشهيرة في ذلك:
إِذَا شَيَّعُونِي يَوْمَ تُقْضَى مَنِيَّتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقَالُوا أَرَاحَ اللَّهُ ذَاكَ الْمُعَذَّبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَلاَ تَحْمِلُونِي صَامِتِينَ إِلَى الثَّرَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَإِنِّي أَخَافُ اللَّحْدَ أَنْ يَتَهَيَّبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَغَنُّوا فَإِنَّ الْمَوْتَ كَأْسٌ شَهِيَّةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَمَا زَالَ يَحْلُو أَنْ يُغَنَّى وَيُشْرَبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلاَ تَذْكُرُونِي بِالْبُكَاءِ وَإِنَّمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَعِيدُوا عَلَى سَمْعِي الْقَصِيدَ فَأَطْرَبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ومن قبلهما كانت الأبيات التي تجاوَزها الأدب الإسلامي بعد تحريم "شق الجيوب ولطم الخدود"؛ حيث قال أحد الشعراء:
وَإِنْ مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَالِكِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ولكن شتان بين ما يدعو إليه باشراحيل وبين ذلك، فهو يرى أنَّ حياته للحق، وإذا مات فللذكر الطيب، وهو في فلسفته هذه على عكس طَرَفة بن العبد البكري، الذي جعل حياته للمجون، ولا شيء بعد الموت حين قال:
كَرِيمٌ يُرَوِّي نَفْسَه فِي حَيَاتِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سَتَعْلَمُ إِنْ مِتْنَا غَدًا أَيُّنَا الصَّدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يقول باشراحيل:
أَنَا إِنْ عِشْتُ كَانَ لِلْحَقِّ عَهْدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَإِذَا مِتُّ عَطَّرَتْنِي صُرُوحِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَسْتُ أَرْضَى مَجَاهِلَ السُّوءِ إِنِّي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَعْتَلِي الدَّهْرَ عَنْ غُبَارِ السُّفُوحِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وما يطرحه باشراحيل من خلال قصيدته (فرحة الرحيل) من تَسْويغات دَعَتْه إلى هذا الاتجاه، فإنه يذكرنا بما قاله أبو الطيب المتنبي:
إِذَا تَرَحَّلْتَ عَنْ قَوْمٍ وَقَدْ قَدَرُوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَلاَّ تُفَارِقَهُمْ فَالرَّاحِلُونَ هُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فهو سعيد برحيله الذي هو في الحقيقة رحيلهم؛ حيث فارقوا المعاني الجميلة التي يرجوها الشاعر فيمَن حوله، وما دامت المخازي والهموم والذُّهول هي البضاعة الرائجة في غياب الجمال والآمال والنقاء، فإنه لم يَعُدْ أمامه إلا أن يقول:
دَثِّرِينِي حَبِيبَةَ الْقَلْبِ إِنِّي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَدْ أَرَتْنِي الْأَحْدَاثُ كُلَّ قَبِيحِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَمْ يَعُدْ وَجْهُنَا الْجَمِيلُ جَمِيلاً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَصَحِيحُ الْآمَالِ غَيْرَ صَحِيحِ

يتبع


ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:29 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
لَمْ تَزِدْنِي الْحَيَاةُ إِلاَّ مِلاَلاً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَأَرِيحِي بُنَيَّتِي وَاسْتَرِيحِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وإذ يقول باشراحيل: إنَّه فرح بالرحيل؛ بسبب الصفات السيِّئة التي أصبحت ظاهرة، فرحيلُه متخذًا من الحياة رمزًا لذلك، فقد سبقه في نفس الدرب (الغرام).

وفي قصيدة (رحل الغرام) يتخذ الرمزيةَ بُعدًا جديدًا؛ لتأتِيَ الأبياتُ على لسان أنثى فاضلة زاهدة واثقة، رُبَّما تكون تَجسيدًا للكرامة المهانة، أو الشجاعة الغائبة، وإذا كانت الكرامة والشجاعة مِن أهمِّ سمات العربي، فقد جعل باشراحيل غرامًا متبادلاً بينهما وبين الإنسان العربي، فإذا ما اهتَزَّت علاقاتُهم الوَشِيجة، وحلَّ الجفاء مَحلَّ الغرام، واستسلم الإنسان، فإنَّ من حقِّ الشجاعة أو الكرامة أن تتَّخِذ لنفسها مَوقفًا، وترثي ذلك الغرام الذي رحَل كما يقول باشراحيل على لسانها:
دَعْنِي فَمَا أَنَا مِنْ جِرَاحِكَ عَاتِبَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رَحَلَ الْغَرَامُ وَلَمْ أَعُدْ بِكَ رَاغِبَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وربَّما يأتي أحد القرَّاء فيجرِّد القصيدة من الرمزيَّة، ويأخذها على أنَّها حالة عاطفية بين رجل وامرأة، ويرى أنَّ باشراحيل عَبَّر عن وجهة نظر المرأة، فقد ثارت أمورٌ مشابهة حينما كتب أبو فراس الحمداني رائيته الشهيرة، وقال:
وَفَيْتُ وَفِي بَعْضِ الْوَفَاءِ مَذَلَّةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لِفَاتِنَةٍ فِي الْحَيِّ شِيمَتُهَا الْغَدْرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تُسَائِلُنِي مَنْ أَنْتَ؟ وَهْيَ عَلِيمَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَهَلْ لِشَجٍ مِثْلِي عَلَى حَالِهِ نُكْرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَقُلْتُ كَمَا شَاءَتْ وَشَاءَ لَهَا الْهَوَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَتِيلُكِ قَالَتْ: أَيُّهُمْ؟ فَهُمُ كُثْرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



حيث اعتبر بعض المتلقين أنَّ الفاتنة رمزٌ للوطن.

وهذه هي ميزة الشعر، يثير من الخيالات ما يوافق كلَّ الأهواء، ويَجد كلُّ ساعٍ في عرصاته ما يوافقه، "والشاعر ينام ملءَ جفونه عن شوارده"، كما قال المتنبي من قبل، ولك أن تسبح بخيالك كما تشاء، وتفسر بما يحلو لك ما قاله باشراحيل في نهاية القصيدة:
مَا زَالَ فِي وَجْهِي الرَّبِيعُ وَلَمْ أَزَلْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَحْلَى النِّسَاءِ وَمِنْ جُنُونِكَ هَارِبَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِنْ لَمْ أَكُنْ فَجْرَ ابْتِسَامَاتِ الْمُنَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَوْ كَانَ حَظِّي مِنْ زَمَانِي الْكَاسِبَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سَأُرِيحُ تَسْهِيدَ الْجُفُونِ وَأَبْتَنِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كُوخَ الْهُدُوءِ أَعِيشُ أَجْمَلَ رَاهِبَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




[1] "قصيدة مئوية الحب: ديوان منابر الفجر"، ص69 (الأعمال الشعرية ج2).


[2] من ديوان "الجرح وأحلام العودة"، صدر عن مركز الدارسات السودانية بالقاهرة، 1996م.

[3] قصيدة (هذا هو الحق)، قناديل الريح، ص298.

[4] قصيدة (العمر اليتيم) – قناديل الريح، ص421.

[5] من ديوان (وحشة الروح)، ص34.

[6] من ديوان قناديل الريح: مجموعة (مرافئ الدمع)، ص400.

[7] ديوان وحشة الروح، ص50.



ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:30 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
الرثاء في شعر باشراحيل (3)
محيي الدين صالح



بين الحجاز والشام


حينما قرأت للشاعر بشار بن برد بيتَه الشهير:
يَا قَوْمِ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَيِّ عَاشِقَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



اعتبرتُ هذه المقولة من بناتِ الخيال التي تصدر عن الهائمين فقط... وعندما قرأتُ للشاعر باشراحيل قصيدةَ (منبر الشرق)، التي يرثي فيها الشاعرُ الكبير/ عمر أبو ريشة، تأكَّدت أنَّ بشارًا لم يتجاوز ولم يبالغ، ولكنه كان صادقًا، فها قد عَشِقْتُ (أبا ريشة) دون أنْ أراه من قبل، وذلك من خلال ما قاله باشراحيل، فتمنيتُ أنِّي لو تواصلت مع الفقيد وعايشته، ولمست فيه هذه الصفات النبيلة عن قُرب وهو صاحب قطوف الشعر كما يناجيه باشراحيل:
أَيُّهَا الشَّاعِرُ الْمُتَوَّجُ بِالشِّعْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رِ وَمِنْ شِعْرِهِ شَذًى وَقُطُوفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وهذه القصيدة تحلِّق في أفق الحجاز، تلك الآفاق التي لها مكانتها؛ إذ تنزلت من خلالها كلُّ معاني مكارم الأخلاق التي يبثُّها باشراحيل عبر قصائده، وتتَّجه شمالاً في ذات الدُّروب التي أظلَّت رحلةَ الصيف، التي كانت تتحرَّك من الحجاز إلى الشام، إلاَّ أنَّ بضاعةَ باشراحيل ليست للتِّجارة التي تطعم من جوع، ولكنَّها للحب والمودة ووَصْل ما أمر الله به أن يوصل، وإذا كانت المسافةُ بين مكة (بلد الراثي)، وسوريا (بلد المَرْثِي) قد نعمت بهذا التواصل، فإنَّني أضيف إليهما (وادي النيل) بالتجاوب... ثم تتداخَل المسافات ما بين المتلقين، فتنصهر في بوتقة الأدب العربي وفق المنظور والتصوُّر الإسلاميَّين، وتتلاحم عبر القوافي لما فيه الخير للشعوب ثقافِيًّا واجتماعيًّا.

وعمر أبو ريشة كان شاعرًا يستحقُّ الرثاء بكُلِّ هذه المعاني والأخيلة، ولم يكُن باشراحيل مُجاملاً عندما سمَّى قصيدته بمنبر الشرق، فإذا تتبعنا أثر رحيل أبي ريشة عن دُنيانا في أعماق بعضِ الشعراء المعاصرين، سنجد أيضًا مكانته في قلوب الجميع، وكما يقول الشاعر السوري (ناصر الخوري) في رثاء أبي ريشه[1]:
نُوحِي جُفُونَ الْهَوَى وَاسْتَنْفِري الْوَتَرَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَاتَ الْأَمِيرُ وَنَايُ الشِّعْرِ قَدْ كُسِرَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَغْنَى الزَّمَانِ تُضِيءُ الدَّرْبَ أَحْرُفُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَالشَّمْسُ تَحْمِلُ فِي أَجْفَانِهَا الْقَمَرَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذا دليلٌ على أنَّ باشراحيل كان صادقًا في تعبيراته في رثاء أبي ريشة، ومن ثَمَّ هو لم يتصنع الألفاظ والمعاني.

وعنوان القصيدة (منبر الشرق) فيه إيحاء، المنبر عند المسلمين له مكانةٌ مَرموقة؛ حيث يشعُّ منه نورُ العلم، والشرق يُمثل بدايةَ كلِّ يوم جديد ومولد متجدد للشمس التي لا يُفنيها الغروب.

وواضح أن الشاعر أراد أن يجمع بين هذين النيرين، عندما أراد أن يتحدث عن (عمر أبو ريشة) وأدبه الذي تركه من بعده، وسيرته التي يراها باشراحيل نموذجًا يُحتَذى به، وكان يُمكنه أن يكتفي بالعُنوان في الاستدلال على ذلك، ولكنه استرسل قائلاً:
أَيُّهَا الْمُبْدِعُ الْمُحَلِّقُ كَالنِّسْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رِ عَلَى الرِّيحِ فِي الْفَضَاءِ يَطُوفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَيُّهَا الْمُرْتَقِي إِلَى سُبُلِ الْمَجْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دِ وَلِلنَّاسِ مِنْكَ عَقْلٌ حَصِيفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ويُصرِّح بما خفي بين حروف العنوان، من ذلك الضوء الذي ينبعث من منبره؛ ليفتت الظلام:
أَنْتَ لِلْعُرْبِ مِنْبَرٌ يَتَضَاوَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِي دَيَاجِي الظَّلاَمِ مِمَّا يَحِيفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وباشراحيل كما عهدناه في كُلِّ قصائد الرثاء وغير الرثاء، لا يَحيد عن اللجوء إلى الله - سبحانه وتعالى - بما يرجوه لنفسه ولغيره:
فَلْيُنِلْكَ الرَّحْمَنُ خَيْرَ ثَوَابٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَهْوَ لِلنَّاسِ غَافِرٌ وَرَؤُوفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهو إذ يَختتم قصيدتَه في رثاء (عمر أبي ريشة) بهذا البيت، وكأنَّه يريد أنْ يزيلَ عن القراء بعضَ القلق الذي قد يُساورهم بسبب البيت الأول؛ حيث يقول:
حَسْبُنَا كُلِّنَا أَسًى يَا رَفِيقُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَنِينُ الْفِرَاقِ دَاءٌ مُخِيفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وفيما يتعلَّق بأسلوب باشراحيل في هذه القصيدة، نَجده يُخاطب المرثي بأشكال متعدِّدة، فأحيانًا وكأنه يناديه عبر الأثير بقوله: (أيُّها)، ويُكرِّرها في أبيات أربعة غير متتابعة كقوله:
أَيُّهَا الرَّاحِلُ الْمُوَسَّدُ بِالْحُبْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِ وَفِي رَوْضِكَ الزَّمَانُ الْوَرِيفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَيُّهَا الشَّاعِرُ الْمُتَوَّجُ بِالشِّعْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رِ وَمِنْ شِعْرِهِ شَذًى وَقُطُوفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



(وكان قد سبق أنْ خاطبه بقوله: (أيها المبدع، وأيها المرتقي).

وهو في ذلك يتصوَّره ماثلاً أمامَه بقيمه وشعره وإبداعاته، ونجده يقول له:
أَنْتَ فِي الدَّهْرِ صُورَةٌ تَتَسَامَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَصَدَاكَ الشَّجِيُّ فِينَا أَلِيفُ

يتبع


ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:36 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 


مع أنَّه في بعض الأبيات يتحدَّث عنه بضمير الغائب، وبفعل (كان):
كَانَ مِلْءَ الْعُيُونِ يُنْشِدُ لِلْحَقْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قِ وَفِي رَاحَتَيْهِ مِنْهُ سُيُوفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَانَ فِي الْجَدْبِ يَسْتَجِيبُ إِلَى الزَّهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رِ وَوَجْهُ النَّدَى إِلَيْهِ شَفُوفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وقد يخاطبه بـ(كنت):
كُنْتَ تَمْضِي إِلَى الْحَيَاةِ بِعَقْلٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَهْوَ فِيكَ الْحَكِيمُ وَالْفَيْلَسُوفُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذا التنوُّع في أسلوبِ المُخاطبة يُوحي بأنَّ باشراحيل لم يفتقدْ رُوح (عمر أبي ريشة) الإنسان الشاعر، ولكنه فَقَد حضورَه المكاني فقط.

وإذا نظرنا إلى مُجمل القصيدة من خلال اتِّجاهات باشراحيل في الرثاء، نجد أنَّها واضحةُ المضمون، (فأنين الفراق) في البيت الأول، و(الراحل الموسد) في منتصف القصيدة، و(الجوانج الثكلى) في نهاياتها - تَجزم الغرض الرثائي للقصيدة، والأغاريد، والبلابل، والروح، والنسر المحلِّق، والريح: كلمات تدلُّ على شاعريَّة المرثي ومكانته في فَضاءات الأدب، وكلمات: (التسامي، والحكمة، والفلسفة، والارتقاء) تدُلُّ على مكانته بين الناس.

ومع أنَّ القصيدةَ تتكوَّن من واحدٍ وعشرين بيتًا، فإنَّ المعاني والصُّور والأخيلة التي بُثَّت من خلالها كثيرةٌ، تفي بمكانةِ الفقيد ومآثره في قلب الرَّاثي؛ ولذلك فَقَدِ استطاع باشراحيل أنْ يقنعَ المتلقي برسالته التي أراد أنْ يبلغها للمثقف العربي عن رُوَّاد الشعر في العصر الحديث.

وهذه الأبيات وهي تحلِّق من الحجاز إلى الشام، فإنَّها تطيح بالحدود السياسيَّة التي رسمها الاستعمار؛ للتفريق بين أبناء الأمة الإسلاميَّة في ثقافتها، بل تبشِّر بأنَّ ما بذره الأعداءُ لم يُنبت إلاَّ طَلْعَ التحدِّي، ولو أتى أُكُلَه بعد حين، وهذه الدِّراسة التي نَصُوغها ونحن على ضفافِ نهر النيل دليلٌ على الصدى الطيب الذي أحدثه الشعر والشاعر، ونجاحه مع رفاقه الشُّعراء والأدباء في خلخلة الإقليمية، التي يُحاول ضعافُ النُّفوس فرضها على الواقع العربي، وهم ينادون بقَطْعِ الصلة بين الماضي والحاضر؛ تَمهيدًا لتفتيت الحاضر.

كما أنَّ المؤرخين الذين سيأتون في أجيالٍ لاحقة، ويستعينون بالأدب في تأريخهم، ستقرُّ أعينُهم عندما يرَوْن مثل هذه القصائد التي تُؤكِّد لهم مدى التواصُل المكاني بين العرب في كل مكان، والتواصل الزماني بين الأجيال المتعاقبة، وارتباطهم بالنبع الصافي، الذي بدأ منذ قرون بعيدة مع قوله - تعالى -: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، وتكون المحصلة النِّهائيةُ خيرَ دافع للأجيال القادمة على السير في ذاتِ طريق المجد، من خِلال ما توارثوه من أدبٍ، ولغة، وثقافة، وأشكال تعبيريَّة، وخصوصيَّة أخلاقيَّة، وأوازن بيانيَّة، يتخطَّون بكل ذلك أعتابَ المستقبل، فيذكرون أجدادهم (الذين هم نحن) بكل خير.

• • •







الأغراض المتنوعة وظلال الرثاء:

معاني الرثاء في شعر باشراحيل مُتعدِّدة، قد تأتي مباشرةً كما اعتادَه الناسُ، وقد تأتي في أثناء وجدانيَّاته وهو يستدعي من ذاكرة التاريخ بعضَ المآثر أو أصحابها للاستِدلال، أو الاستِشهاد بها في ظروفٍ مُعيَّنة، ورُبَّما يستصرخ بهم؛ ليثيرَ حَمية مُحبيهم وعشاقهم.



ففي قصيدة (شوقي أمير الشعراء) من ديوان (معذبتي)، نجد أنَّ باشراحيل يناجي شوقي قائلاً:



أَدْعُوكَ فِي زَمَنٍ تَنَاقَضَ أَمْرُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَسَطَا عَلَى الشِّعْرِ الْعَظِيمِ الْبَانِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




الشِّعْرُ فِي أَيَّامِنَا فِي مِحْنَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِنْ هَجْمَةِ الْغُرَبَاءِ وَالْغِرْبَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أَدْعُوكَ أَدْعُو الشِّعْرَ يُثْرِي عُمْرَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَدْعُو أَمِيرَ الْقَوْلِ وَالتِّبْيَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وكأنَّ باشراحيل تلفَّت حوله، فلم يجد من رفاقه ما يشفي غليلَه، أو رآها أقلَّ مما يتوقعه في مُواجهة الأدعياء والمتطفِّلين على موائد الشِّعر تَحت أسماء مُتنوعة، وفي مثلِ هذه الظُّروف تكون الساحةُ في أشدِّ الحاجة إلى العبقريَّات الأدبية، التي لا يشقُّ لها غبار، وأمير الشُّعراء بما تركه لنا من شعرٍ خالد هو البدر الذي يفتَقِده باشراحيل في الليلة الظلماء، فيستدعيه بكل معاني الحب والوفاء والإجلال قائلاً:



أَدْعُوكَ حُبًّا يَا حَبِيبَ تُرَاثِنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا خَالِدَ الْإِلْهَامِ وَالْأَوْزَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







ويُسَوِّغ باشراحيل سببَ هذا التلاحُم بينه وبين شوقي:



يَا شَاعِرًا مَلَأَ الْوُجُودَ قَرِيضُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِالْحُبِّ وَالْإِلْهَامِ وَالْإِيمَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أَثْرَى الْحَيَاةَ فَأَشْرَقَتْ أَيَّامُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نَحْوَ الدُّنَا تَزْهُو بِكُلِّ زَمَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وهذا هو عَيْنُ الرِّثاء، وإن لم يكن في شخصٍ فإنَّه في معنى أو قيمة أو أثر، وكذلك رُبَّما يكون المرثي زمانًا أو مكانًا.



وهذا الاتجاه في شعر باشراحيل علامةٌ أو سِمَة من سمات القريض عنده، وهذا هو ما أشرتُ إليه من قبل عن تداخُل الأغراض الشِّعْرِيَّة وتَمازُجها وتلاحُمها حسب ما تقضيه المواقف، وإن كان "شوقي" أمير البيان، فإنَّ لكلِّ جانب من جوانب الحياة أميرَه ورجالَه، والتاريخ مليء بأسماء العُظماء في كلِّ مجال، والخصال الحميدة التي يحن إليها باشراحيل لا يَخلو منها زمان، ولذلك نجده يروح ويغدو مستعرضًا الأيَّام والليالي، بل الشهور والسنين، وكأنَّه نَحْلة تأكل من كلِّ الثمرات سالكةً سُبُلَ ربِّها ذُلُلاً، وفي آخر أسفاره يقدِّم لنا عصارةَ قراءاته وجولاته في أعماقِ التاريخ الأدبي الإسلامي، فلا يُسميها "قصائد رثاء"، ولكنَّه يسميها إمَّا بأسماء أبطالِها، أو بمآثرهم.



ففي قصيدة عنوانها "حمزة بن عبدالمطلب" من ديوان "وحشة الروح"، يتلمَّس باشراحيل مواطنَ الضَّعْفِ الذي أصاب الأمَّة الإسلاميَّة، ويستدعي تلك المعاني التي غابت بغياب أصحابها، وأسد الله "حمزة" كما يقول عنه:



هُوَ ذَلِكَ الشَّهْمُ الشُّجَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عُ وَذَلِكَ الْقَلْبُ الْمُنَزَّهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




كَمْ قَدْ سَقَى "أُحُدًا" دَمَ الْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَاغِي وَبَاتَ الْحَقُّ رَمْزَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







فهل استَشعَر باشراحيل بِحِسِّه الشاعري المُرهف غِيابَ الشهامة، والشجاعة، ونزاهة القلب، أو أنَّه لاحَظ استشراءَ الغدر والخيانة عند خصوم الإسلام، ولم يجد مَن يصدُّهم بما هم أهلٌ له، فتذكر استشهادَ حمزة بضربةٍ غادرة، وهذه بتلك؟



يَا رُمْحَ وَحْشِيِّ الَّذِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

غَرَزَ الضَّغِينَةَ شَرَّ غِرْزَةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif





ينبع


ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:39 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 


وهذه الضغينة التي غُرِزَت في كَبِد الأُمَّة الإسلامية، تَوالَت أصداؤها عَبْرَ الزمان على مرِّ العصور، وفي أماكن مُتعدِّدة في بلاد الإسلام، فهذه "جنين" في فلسطين السليبة تعاني، والمسلمون في سُبات عميق، وفي قصيدة "جنين يا جنين" يقول باشراحيل:

سُحِقْتِ والرُّؤَى تَرَاك

لَكِنَّ لاَ يَدَ تُعِينْ

وَبَيْنَ غَمْضَةِ الرَّدَى

لاَ زِلْتِ تَبْسُمِينْ

إلى أن يقول:

الْفَقْدُ وَالْحَنِينْ

وَقِبْلَةٌ تُهَانُ دُونَ رَادِعٍ وَدِينْ

وَكُلُّنَا نَخَافُ، كُلُّنَا بِمَالِهِ وَعُمْرِهِ ضَنِينْ



فإذا وضعنا هذه الأبيات بجوار أبيات قصيدة "حمزة" التي يقول فيها:



تَاللَّهِ مَا خَشِيَ الْخُطُو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَ إِذَا ادْلَهَمَّتْ لَمْ تَهُزَّهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




قَلْبُ الْبَسَالَةِ وَالنَّدَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَطَلٌ يَخَافُ الْكُفْرُ لَمْزَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وتداوُلنا مضمونَ القصيدتين معًا يُوضِّح لنا نظرةَ باشراحيل الفلسفية، عندما يتناول المحنَ التي تصيبُ المسلمين، ويُحاول أنْ يستفزَّ مشاعِرَهم بشتَّى الطرق، سواء كان ذلك بالترغيب أم بالترهيب.



وفي قصيدة (صوت الجزائر) من ديوان (وحشة الروح) يئنُّ باشراحيل من حال العرب والعروبة، ويقول عن هذه الأمة:



تَظَلُّ تَحْتَقِبُ الْآلاَمُ فِي وَهَنٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَالْخَوْفَ وَالذُّلَّ وَالْأَوْهَامَ تَجْنِيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




هَذِي الْعُرُوبَةُ وَالْأَدْوَاءُ تَصْرَعُهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَزَّ الشِّفَاءُ فَقُلْ لِي مَنْ يُدَاوِيهَا؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يَا أَلْفَ مِلْيُونِ عَقْلٍ، كَمْ يُؤَرِّقُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنَّ الْعُرُوبَةَ نَامَتْ عَنْ دَوَاهِيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وهو بذلك يَرْثِي حالَ الأُمَّة العربية في أسلوبٍ غير مُباشر، ويُغلِّف الرِّثاءَ في أشكال متعدِّدة، كما فعل الشيء نفسه في قصيدة (مصر مبارك)، التي يقول فيها:



أَيْنَ السَّلاَمُ، تَبَدَّدَتْ أَحْلاَمُهُ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَالْوَقْتُ أَظْلَمَ فِي عُيُونِ كَسِيحِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَشُعُوبُنَا تَقْتَاتُ مِنْ هَوْلِ الرَّدَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَغِلاَلُهَا نَهْبٌ لِظُلْمِ كَشِيحِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وفي قصيدة (النخلة والوطن) يقول عن الوطن:



يُعْطِي الْعَطَايَا وَلَيْلُ الْغَدْوِ مُحْتَشِدٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِخُبْثِ مُرْتَزِقٍ أَوْ حِقْدِ مَنْكُودِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif












وكل هذه الرثائيَّات في قصائده المتعددة الأغراض، ما هي إلا شحذ للهِمَم، وكلُّ هذه القصائد تنتهي ببثِّ الأمل في النفوس، وتذكير الناس بأنَّ الله هو الملجأ الذي نستلهم منه أسلوبَ الخروج مما نعاني.



والكلام نفسه ينطبق على قصائد باشراحيل عن جغرافيا المسلمين والعرب، فالقدس، والبوسنة، والعراق، واليمن، ولبنان، وصبرا وشاتيلا - كلها أماكن لها وقْع وصَدًى في نفس الشاعر... مثال ذلك قصيدة (رصاصة من فلسطين) من ديوان "النبع الظامي"، التي يقول فيها:



فِلَسْطِينِي وَنَارُ الثَّأْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

رِ تَصْرُخُ فِي شَرَايِينِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أَنَامُ عَلَى لَظَى النِّيرَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نِ أَسْقِيهَا وَتَسْقِينِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




لَقَدْ فَجَّرْتُ قُنْبُلَتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَقَدْ جَرَّدْتُ سِكِّينِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif










وهذه الصورة القاتمة للواقع العربي تُقلق باشراحيل، فيسافرُ بخياله إلى أغوارِ الماضي، ويستدعي من الذكريات ما يُهوِّن عليه من الأمر.



ومن قصيدة (صور قديمة للعالم العربي) من ديوان الخوف:



أَرِينِي لَوْحَةً أُخْرَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تُصَوِّرُ دَوْلَتِي الْكُبْرَى

يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:41 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
مِنَ الْمُدُنِ الَّتِي أَوْدَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَأَضْحَى فَجْرُهَا ذِكْرَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






أمَّا ما دفع "باشراحيل" إلى الاستنجاد بالماضي بتاريخه وجغرافِيَّته - أنَّ الأمور صارت فوق طاقة النفس البشرية، وهو يطالب "منازل الوحي" أنْ تُشاركه في رثاء جزء عزيز من الوطن... فيقول في قصيدة (لبنان) ديوان (النبع الظامئ):



مَنَازِلَ الْوَحْيِ إِرْثِي الْيَوْمَ لُبْنَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَاسْتَمْطِري الصَّبْرَ مِنْ عَيْنَيْكِ رَيَّانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




مَالَتْ عَلَيْهِ الْأَعَادِي فِي شَرَاسَتِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَقَدْ أَحَالَتْ عَرُوسَ الشَّرْقِ بُرْكَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وهذا المآل لَم يكن الوصولُ إليه (بيده)، ولكن (بيد عمرو) عكس ما يقول المثل العربي، وتتوالى أبياتُ القصيدة على المنوال نفسِه:



مَاذَا عَلَى الشَّرْقِ؟ نِيرَانٌ مُكَثَّفَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قَدِ اسْتَبَاحَ بِهَا الْأَعْدَاءُ دُنْيَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يَسْتَنْجِدُ الْعَدْلَ قَلْبٌ بَاتَ مُنْفَطِرًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِمَّا اعْتَرَاهُ فَمَنْ يُصْغِي لَهُ الْآنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَالْغَرْبُ غَافٍ وَأَمْرِيكَا مُؤَيِّدَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَالرُّوسُ يُحْصُونَ إِنْ أَحْصَوْا ضَحَايَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







أمَّا هذه الصورة القاتمة للواقع، فلن تبعث في نفوسنا اليأسَ الذي يرفضُه دينُنا الحنيف، ولكنَّ النهايةَ كما في آخر القصيدة:



فَلاَ تَهُونُ وَلاَ تَخْبُو عَزَائِمُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلاَ يَكُونُ لِغَيْرِ الْحَقِّ نَجْوَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







فالحقُّ - سبحانه وتعالى - هو الملاذُ، وإذا لم نرع الحق بجلاله وصفاته، فإن العاقبة سيئة، وهذا ما ينفيه باشراحيل.



وإذا كانت قصيدة (صبرا وشاتيلا) في ديوان "النبع الظامئ" نهايتها:



رُبَّمَا عَادَتْ لَنَا أَمْجَادُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ذَاتَ يَوْمٍ نَتَسَامَى رُبَّمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







ومن المعروف أنَّ كلمةَ (رُبَّما) تُفيد الاحتمالَ الضَّعيف، أو تقليل احتمالاتِ الحدوث، على العكس من كلمتي "لعلَّ وعسى"، فإنَّ قصيدةَ (نكبة اليمن) في الديوان نفسه تجبر تلك الآلامَ التي خلفتها أحداثُ "صبرا وشاتيلا"، وألقت بظلالِها في نهاية القصيدة، وتَحكمت في الأسلوبِ الشِّعْري عند تناوُل الحدث، فنهايتها تنسجمُ مع التبعات التي استجدَّت مع الأحداث، وهو يقول فيها:



فَالْمُؤْمِنُونَ رِدَاءُ الْحَقِّ يَجْمَعُهُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَاللَّهُ مَوْلَى مَنِ اخْتَارَ الْهُدَى سَنَدَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




سُبْحَانَهُ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ عِزَّتُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَهْوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَكْوَانَ مُنْفَرِدَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وباشراحيل يؤرقه حال التفرق والتشرذم، الذي تهيم فيه الأمة العربية، فيتصور أنَّ الزمانَ عاد القهقرى، فيستل قلمه ليقاومَ ذلك الاعوجاج بأسلوبِه الخاص، ويكتب قصيدة (ظلال الأمس) من "ديوان الخوف"، ويصب فيها كلمات قاسية جدًّا، منها (الزيف - وهج الغبار - الظلام - القهر - اللظى - الكي - الوهن - الريب - الإزهاق - الأعاصير - الأسى - الخيانة - التعاسة - الموت...) وهكذا فإنَّ القاموس اللُّغوي لهذه القصيدة يُوحي بمدى معاناة الشاعر وهو ينسج مشاعرَه ويَخطُّها بين القوافي والأوزان، وعلى غير عادته، يختتم باشراحيل هذه القصيدة بقوله:



مَرْحَى زَمَانَ الْخَالِدِينَ بِزَيْفِهِمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَرْحَى زَمَانَ الْكِبْرِ عَادَ أَبُو لَهَبْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وقد وصل إلى هذه النِّهاية بعد أنْ تراءى له أنَّ "الصدقَ مات مُجندلاً بين النصب"، كما يقول هو في شطر البيت قبل الأخير.



وأنا أرى أنَّ عودةَ أبي لهب معناها إعادة الأمور إلى المداولة مرة أخرى بين الحق والباطل، وكما انهزم أبو لهب، فإن عودته أيضًا مصيرها الاندحار، وإن لم يقل باشراحيل ذلك صراحةً، فإن البناء الشعري للقصيدة يوحي بذلك، فبداية القصيدة:



زَيْفٌ أَطَلَّ مِنَ الزَّوَابِعِ وَاقْتَرَبْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مُتَسَرْبِلاً بِالْحِلْمِ فِي أَوْجِ النُّوَبْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:41 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
فالأمر كله زيفٌ في زيف، والزوابع مرحلة عابرة، وفي موضع آخر من القصيدة يقول:



هَذِي بَقَايَا الصَّيْفِ جَاثِمَةُ اللَّظَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَكْوِي، وَهَذَا الْوَهْنُ فِي غُصْنِ التَّعَبْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







فالمفاجأة عِبارة عن "بَقايا صيف" على وشْك التلاشي، أمَّا باشراحيل بشخصه، فإنه في وسط هذه الدَّوامة كما يصف نفسه:



أَمْسَكْتُ فِي يُمْنَايَ نَاقُوسَ الرِّضَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَغَرَسْتُ فِي صَدْرِي الْجَوَاهِرَ وَالذَّهَبْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







ولا أدري لماذا غرس الجواهر والذهب في صدره، ولَم يتقلَّدها؟ وهو القائل في قصيدة (البحث الأخير) من ديوان قناديل الريح:



نَسْتَعْلِي بِالدِّينِ الْأَسْمَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَنَكُونُ عَلَى الْبَاغِي أُمَّةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وربما هي إشارةٌ إلى أنَّ (أبا لهب) الذي عاد، كانت نهايته استعلاء الدين الأسمى، ولذلك فإنَّه يُخاطب أمته بنفسٍ أبيَّة وهِمَّة عالية، ويقول لها في قصيدة (أمتي معي):



قُومِي اشْعِلِي اللَّيْلَ بِالْأَضْوَاءِ وَانْتَقِدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا أُمَّتِي وَاسْحَقِي ظُلْمَ الطُّغَاةِ مَعِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وأيًّا كانت الأمور أو النتائج في الحياة، فإنَّها سجال؛ يقول في قصيدة (حمى جازان) من ديوان قناديل الريح:



هِيَ النَّوَائِبُ أَقْدَارٌ مُقَدَّرَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَوْمٌ يَسُرُّ وَيَوْمٌ بَيْنَ أَحْزَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يَا رَحْمَةً مِنْ لَدَى الْبَارِي نُؤَمِّلُهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَفَضْلُهُ ذَائِعٌ فِي الْإِنْسِ وَالْجَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif





يَا رَبِّ رُحْمَاكَ مِنْ خَطْبٍ يُدَاهِمُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَاسْبَغْ عَلَيْنَا بِإِكْرَامٍ وَغُفْرَانِ. https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








[1] معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين - المجلد الخامس.





ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:45 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
الرثاء في شعر باشراحيل (4)
محيي الدين صالح






من أهمِّ الجماليَّات التي تُميِّز بعضَ الأدباء والشعراء - التزامُهم بالموروث الثقافي، والتأثُّر به، والتفاعُل معه، فإذا تَجاوب الشاعِرُ مع مَوروثِه الدِّيني بالذَّات وهو ينسج أشعارَه وقوافيه، فإنه لا يلتفت كثيرًا إلى ما حوله ومن حوله، إلاَّ بالقدر الذي ينسجم مع دواخله ومكوناته، وهذا يأخذنا إلى قولِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالِل)) والحكمة العربية التي تقول: "قل لي من تصاحب، أقُلْ لك من أنت"، وعلى هذا فيُمكننا الاستدلالُ بالرفيق على رفيقه، فإذا كان القارئُ يعرف باشراحيل، الذي يعيش بين ظَهْرَانَيْنا، فمن خلاله يستطيعُ التعرُّف على من رثاهم بشعره، وإذا كان يعرف سيرةَ من رثاهم باشراحيل، فسيعرف شخصيةَ الراثي من خلالهم.



ويلحظ المتتبع لشعر باشراحيل الرثائي في مجموعته "مرافئ الدمع" أنَّه تعرض لقامات كبيرة، لها دَوْرٌ عظيم دينيًّا وأدبيًّا واجتماعيًّا، ومن هؤلاء الأعلام: الأديب الكبير والعالم الموسوعي الفريق يحيى المعلمي، وعلامة الجزيرة الراحل حمد الجاسر، وشيخ الإسلام محمد بن عثيمين، وفقيه العصر سماحة الشيخ الراحل ابن باز، والأديب عبدالقدوس الأنصاري، والكاتب الإسلامي أحمد محمد جمال، والشاعران حسين سرحان، وحسين عرب، والشاعر السوري عمر أبو ريشة، والكاتب محمد أسعد، والفنان السعودي طلال المداح، إضافةً إلى بعض المقربين إليه مثل عباس عجلان، وعبدالله الحمدان، ومعتز فاروق، وكذلك فإنَّ أولى الناس به وباهتماماته كان لهم نصيب من قصائده "والده في قصيدتين، وعمته في قصيدة".



ونستطيع أنْ نؤكِّد أنَّ باشراحيل أخلصَ في قصائده هذه لرموز فكرية ودينية وأدبية، أجمعت الأمَّة على عظمة ما قدَّمته من آراء وأفكار وأشعار، وفي إذكاء جذوة الصَّحوة في أركان المجتمع العربي الإسلامي، بكتاباتها الرَّصينة، وإخلاصها في عِلاج مُشكلات الأمَّة، إنْ شعرًا وإنْ نثرًا، أو حتى بالمقالات الاجتماعية، أو الخطب المنبرية، أو الدروس المسجدية، ومن هنا كان باشراحيل مُخلصًا لأبعد حد في رثائه لهذه الشموس النَّيِّرات في سماء العرب في العصر الحديث، وإلاَّ... فإنَّنا لم نَرَه - مثلاً - يرثي أصحابَ الجاه والسُّلطان والثراء، لماذا؟ لأنه كان صادقًا في قصيده الرِّثائي لشخصيَّات بارزة استحَقَّت كلمةَ الرِّثاء، في وقتٍ عزَّ فيه الراثي الصادق، والصديق النبيل، وكأنَّه أراد أن ينأى بنفسِه عن الشبهات التي تلحق بمن يرثون القادةَ والحكام.



ففي قصيدته "طبت وطبت" في رحيل الأستاذ الأديب المعلمي، تتبدَّى علائم وأمارات الموت واضحةَ العيان في خيال الشاعر؛ لأَنَّه الحقيقة الكبرى في دنيا الناس، والنَّجاة منه ليست لأحد:



كُلُّنَا إِنْ تَقَارَبَ الْمَوْتُ حَاضِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَنْ يَرُدُّ الْقَضَاءَ مَنْ ذَا يُكَابِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




قَدْ تَرَجَّلْتُ وَالْأَزَاهِرُ ثَكْلَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنْتَ أَسْقَيْتَهَا بِدَمْعِ الْمَحَاجِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وهو في رثائه ليحيى المعلمي لا يتحدَّث عنه كشاعر وأديب ومُؤرخ ولغوي؛ لأنَّ فاجعةَ المنون سلبت من باشراحيل كُلَّ تفاصيل حياة الراحل الكريم - ذلك العَلَم الذي لا ينكر - وجعلته يَهيمُ في طريق الموت واصفًا وشارحًا وراثيًا؛ حيث لا تنفعُ إلاَّ الكلمة الصادقة في هذا المُخْلِص الذي أدرك فيه الشاعر أنَّ كلَّ نعيم في الحياة إلى زَوال، وأنَّ عزاءَه هو الدُّعاء بالمغفرة له في هذا المقام، وليس الحديث عن مناقبه أو عن حياته:



جِئْتُ أَرْثِيكَ وَالدُّعَاءُ عَزَائِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِنَّ رَبَّ الْأَنَامِ لِلْعَبْدِ غَافِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




مَا نَعِيمُ الْحَيَاةِ غَيْرَ خَيَالٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَنَعِيمُ الْجِنَانِ أَعْلَى الذَّخَائِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَاغْتَرِفْ مِنْ مَنَاهِلِ الرَّبِّ فَضْلاً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَهْوَ بِالْفَضْلِ لِلْخَلاَئِقِ جَابِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




جِئْتُ أَرْثِيكَ وَالْمَنَايَا طَرِيقٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَخُطَانَا عَلَى الْحَيَاةِ مَعَابِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ضَمَّخَ اللَّهُ بِالرَّيَاحِينِ وَجْهًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَسَقَاكَ الْحَيَا مِنَ الْخَيْرِ مَاطِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







ويرى باشراحيل أنَّ المعلمي ملَّ الحياةَ السقيمة، وتَمنَّى الفردوسَ الأعلى؛ لذلك كان كالطير المسافر، وكذلك أراد الشاعرُ في رثائه أنْ يكون مثلَ البرقيات المستعجلة، والتعازي الحارَّة المخلصة، بلا رتوش أو أقنعة مزيفة:



يَا لَيَحْيَى تَجَاذَبَتْهُ الثَّوَانِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قَبْلَ أَنْ نَلْتَقِي كَطَيْرٍ مُسَافِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




هَجَرَ الدَّوْحَ وَاغْتِرَابَ اللَّيَالِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَلَّ مِنْ سَطْوَةِ الْحَيَاةِ مُهَاجِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَارْشُفِ النُّورَ مِنْ رَحِيقِ الْأَمَانِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

طِبْتَ رُوحًا وَطِبْتَ مَيْتًا وَحَاضِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وارتشافُ النور من رحيق الأماني صورةٌ شعرية بديعة، توضِّح مدى ارتباطِ الشاعر بالمعاني الإيمانية التي يراها في الْمَرْثِيِّ... كما توضح قوة تأثُّر باشراحيل بالقناعات التي عاش لها وبها المرحوم بإذن الله (يحيى المعلمي)، وكيف كان قدوةً لمن معه ومن يأتي بعده.
يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:46 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 


أمَّا قصيدته "هذا هو الحق" في رثاء الأديب العلامة حمد الجاسر، فهي تنضح بمكانة الرجل العِلْمِيَّة، وأخلاقه السمحة، فهو صاحِبُ الفكر المحلق الوحيد الذي تشرئبُّ إليه النفوس والأفئدة:



يَا سَاكِنًا فِي جُفُونِ الدَّهْرِ مَا غَمَضَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَيْنٌ مِنَ الدَّمْعِ تَهْمِي وَهْيَ نَجْلاَءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




خُيُولُنَا فِي رِحَابِ الْفِكْرِ جَاثِمَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَخَيْلُ فِكْرِكَ تَجْرِي وَهْيَ خَرْسَاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




مَضَى الْأَدِيبُ وَلَمْ تَمْضِ خَلاَئِقُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَعِيشُ وَهْيَ أَنَاشِيدٌ وَأَصْدَاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




قَلْبٌ عَلَى الطِّيبِ أَغْرَتْنَا مَحَبَّتُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَإِنَّهَا لِكَرِيمِ الطَّبْعِ آلاَءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







ثم يتحدث الشاعر بعد ذلك عن المباهج التي يُلاقيها حمد الجاسر في جَنَّات الخلد والنعيم؛ حيث لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سَمِعَت، ولا خَطَر على قلب بشر.



ومن البديهي أنْ لا أحدَ يُزكِّي أحدًا على الله، ولكنَّه إحسانُ الظنِّ الذي أمرنا به الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: ((إذا رأيتم الرجلَ يرتادُ المساجد، فاشهدوا له بالإيمان))، يقول باشراحيل:



يَا رَاحِلاً عَنْ ظَلاَمِ الْأَرْضِ فِي مَلَلٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَيْفَ الضِّيَاءُ وَكَيْفَ الظِّلُّ وَالْمَاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَكَيْفَ جَنَّاتُ عَدْنٍ فِي مَبَاهِجِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَأَنْتَ فِي رَحْمَةِ الدَّيَّانِ قَرَّاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




هُنَاكَ مَا لاَ رَأَتْ عَيْنٌ وَلاَ خَطَرَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَلَى الْقُلُوبِ عُيُونٌ وَهْيَ حَوْرَاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَانْهَلْ مِنَ الصَّفْوِ كَاسَاتٍ مُعَتَّقَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَلْوَانُهَا مِنْ رَحِيقِ الشَّهْدِ صَفْرَاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَعْدَ الْإِلَهِ وَوَعْدُ اللَّهِ يُنْجِزُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لِلصَّادِقِينَ فَلاَ ضَيْمٌ وَلاَ دَاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَاغْنَمْ حُظُوظَكَ أَنْعَامًا وَمَكْرُمَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَقَدْ وَفَيْتَ وَمَا أَغْرَتْكَ أَشْيَاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:47 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
فَاغْفِرْ لَهُ يَا إِلَهَ الْكَوْنِ فِي كَرَمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَإِنَّنَا وَجَمِيعَ الْخَلْقِ خَطَّاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






وفي القصيدتين السابقتين يتبيَّن لنا مدى عاطفة باشراحيل الفوَّارة بِحُبِّ أهل العلم والأدب، والصادقة إلى أبعدِ مدى، والألفاظ التي تُلائِم جَوَّ الرثاء، وجلالَ الحدث، ومكانةَ الراحلين، فضلاً عن الصور الفنية المعبرة عن علمِ وقيمةِ هؤلاء، كقوله: "فَاغْتَرِفْ مِنْ مَنَاهِلِ الرَّبِّ فَضْلاً"، وهي صورة جامعة لما ينتظره من الثَّواب العميم، والخير الجزيل، وعليه في الجنات أن يغترفَ من أماكن وموارد ومناهل وفيوضاتِ الرحمن - سبحانه وتعالى - فهو الجدير بهذه المكرمات الربانية، وفي قوله:



ضَمَّخَ اللَّهُ بِالرَّيَاحِينِ وَجْهًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَسَقَاكَ الْحَيَا مِنَ الْخَيْرِ مَاطِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







تخيل الرياحين وهي تعتلي وجهَ المعلمي في رحاب الله، داعيًا مولاه أن يسقيَه من عطائه الجزيل وخيراته الماطرة.



كذلك حال باشراحيل في صدقه الإنساني مع قصيدةِ رثاء العلاَّمة حمد الجاسر، تفوح فيها روائحُ الإخلاص والمحبة والصِّدْق، والتحليق الفني في دوحة علامة الجزيرة، وتبدو تصاويره الفنية أقربَ إلى اللوحة الفنية المرسومة بريشة فنان ماهر، مثال ذلك قول بشراحيل:



يَا سَاكِنًا فِي جُفُونِ الدَّهْرِ مَا غَمَضَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَيْنٌ مِنَ الدَّمْعِ تَهْمِي وَهْيَ نَجْلاَءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







عندما جعله الشاعر ساكتًا في جفون الزمن، وأنَّ كلَّ العيون البشرية تبكي عليه، وتنوح من أجْلِ فراقه، وهي صورة بديعة تتضمن معانِيَ جَمَّة تؤكد على مكانة هذا الرجل الموسوعي.



كذلك أبدع خيالُ باشراحيل في قوله عن حمد الجاسر:



خُيُولُنَا فِي رِحَابِ الْفِكْرِ جَاثِمَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَخَيْلُ فِكْرِكَ تَجْرِي وَهْيَ خَرْسَاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







فأفكارنا نحن بلا خيول مُتحركة؛ لأنَّها جاثمة على الأرض، أمَّا خيلُ فكر حمد الجاسر، فهي راكضة مُتحركة وراء المعرفة والعلم والرِّيادة في شَتَّى مجالات الحياة.



وفي فراقِ الشيخ محمد بن عثيمين أبدع الشاعِرُ عبدالله باشراحيل فريدتَه "الفراق المر" متوجعًا، شاكيًا، باكيًا، مُستصعبًا آلامَ الفراق، ولوعةَ الرحيل:



يَا لَلْفِرَاقِ بَكَتْكَ عَيْنٌ أَمْ فَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَبَكَاكَ فِي كُلِّ الْبِلاَدِ الْمُسْلِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




مَا أَصْعَبَ الْفَقْدَ الَّذِي يَنْتَابُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَالْمَوْتُ حَقٌّ وَالْقَضَاءُ مُحَكَّمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







ولأن الشيخَ كان بطلعته البَهِيَّة يعتاد المسلمين في كلِّ عيد، ويُطِلُّ عليهم بإشراقته الساحرة، فإنه الآن اختار طريقَ الجنان، الذي هو أعظمُ فرحةً للمُؤمن الظمآن لنعيم مولاه:



يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ الَّذِي يَعْتَادُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فِي كُلِّ عِيدٍ بِالتُّقَى يَتَبَسَّمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




عِيدُ الْجِنَانِ هُنَاكَ أَعْظَمُ فَرْحَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لِلْمُؤْمِنِ الصَّادِي لِمَنْ هُوَ أَعْظَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







ويرى باشراحيل أنَّ ابن عثيمين يتسربل في النعيم - بإذن الله - ويشرب رحيقَ المسك؛ لأنَّه عاشق البلد الحرام، وهذا هو جزاء العُلماء العاملين:



عِمْ يَا مُحَمَّدُ بِالنَّعِيمِ وَبِالْعُلاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَاشْرَبْ رَحِيقَ الْمِسْكِ وَهْوَ مُخَتَّمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَانْعَمْ بِأُخْرَاكَ الْبَهِيجَةِ بَاسِمًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فِي رَوْضَةٍ مِنْ حُسْنِهَا تَتَكَلَّمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:48 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
يَا عَاشِقَ الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَفَضْلِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هَا قَدْ ثَوَيْتَ بِهِ وَطَابَ الْمَقْدِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




هَذَا جَزَاءُ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هَذَا الْفَلاَحُ قَدِ اجْتَبَاكَ الْمُنْعِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَالْثَمْ ضِيَاءَ الْحَمْدِ فِي جَنَّاتِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَانْهَلْ مِنَ اللَّذَّاتِ مَا لاَ تَعْلَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






كوكب العلم:

علامة الحجاز، وشيخ الإسلام الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - صاحِبُ الباعِ الطويل في الدَّعوة، وفي العناية بالحديث، وبالجرح والتعديل، الذي لم يَمُت - كما يقول باشراحيل - هو بطلُ هذه القصيدة وصاحبها؛ لأنَّ ذكراه عاطرةٌ على مَرِّ الأيام، وفتاواه وكتاباته يتداولُها الناس، ويطالعونَها عن حبٍّ وفهم، وعندما جاءَه نداء ربِّه لبَّاه على الفور، في فرحة وعجلة، وكأنَّه في عرس كبير يزفُّه فيه مُحِبُّوه ومشيعوه إلى مُستَقَرِّه في مكة المكرمة:



لاَ لَمْ تَمُتْ فِيكَ ذِكْرَانَا إِلَى الْأَبَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا كَوْكَبَ الْعِلْمِ بَيْنَ الْمَتْنِ وَالسَّنَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




لَبَّيْتَ حَقًّا نِدَاءَ الْحَقِّ فِي عَجَلٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِفَرْحَةٍ مِنْ شِغَافِ الْقَلْبِ لِلْأَحَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَقَدْ تَخَيَّرْتَ فِي أُمِّ الْقُرَى نُزُلاً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنْعِمْ بِهَا جِيرَةً لِلْبَيْتِ وَالْبَلَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ أَقْيَالٌ وَأَفْئِدَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

جَاءَتْ تَزِفُّكَ أَنْفَاسًا بِلاَ عَدَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




هَذِي غِرَاسُكَ أَحْبَابٌ مُشَيِّعَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَأَنْتَ بِالطُّهْرِ وَالْأَوْرَادِ وَالْبَرَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وينتقل باشراحيل إلى سَرْدِ تفاصيل حياة الشيخ، ومَواقفه، عندما كان - يرحمه الله - يصحبُ الأخيارَ والصَّالحين، ويُوجِّه أنظارَهم إلى عمل الخيرات؛ لأَنَّه كان في أعماقِ ضمائر أحبابه يَحْيا بعلمه، ويُحيِيهم بدُروسه وتقواه:



وَكُنْتَ تَصْطَحِبُ الْأَخْيَارَ فِي كَرَمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكَمْ تَحُثُّ رِجَالَ الْخَيْرِ بِالْمَدَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




لَكَمْ صَحِبْنَاكَ عُمْرًا فِي ضَمَائِرِنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَقَدْ حَفِظْنَاكَ حَتَّى آخِرِ الْأَمَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
















يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:51 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
الرثاء في شعر باشراحيل (4)
محيي الدين صالح

https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَا مَنْ بَذَلْتَ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَثْمِنَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَكُنْتَ تُخْفِيهِ عَنْ أَهْلٍ وَعَنْ وَلَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ومن شدة حبِّ الناس للشيخ ابن باز أصبحَ الجميعُ ساهرين؛ لبكاهم عليه، حتى إنَّ الغَدَ تأثَّر به، فشايعهم في بكاه:يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ وَالْأَحْبَابُ سَاهِرَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَبْكِي الرَّحِيلَ وَيَبْكِي لِلْفِرَاقِ غَدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَقَدْ يَهُونُ وَلِلْأَيَّامِ تَعْزِيَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَكِنَّ فَقْدَكَ قَدْ أَعْيَا عَلَى الْجَلِدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَمْطَرْتَ بِالْعَطْفِ تَسْقِي جَدْبَ أَنْفُسِنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَكُنْتَ بِالْعِلْمِ تِرْيَاقًا لِكُلِّ صَدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

طَبْعُ الْقُرَى فِيكَ إِحْسَانٌ وَتَأْسِيَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لِلْمُعْدَمِينَ تُدَاوِي قِلَّةَ الْمَدَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكُنْتَ لِلْحَقِّ صَوْتًا غَيْرَ مُحْتَجِبٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَذُودُ بِالشَّرْعِ عَنْ جَهْلٍ وَعَنْ فَنَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وها هو ذا باشراحيل يُصوِّر الشيخَ وهو يرفع رايةَ الحق عاليةً مُدوِّية بعيدةً عن الزيف والأوهام، وهو كذلك عازفٌ عن أهواءِ ومطالب النَّفسِ الأرضية، وهو أيضًا في جهاده:مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ يَرْفَعُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حُبُّ الْإِلَهِ عَنِ الْأَوْهَامِ وَالنَّكَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَعَازِفٌ عَنْ بَرِيقِ الْأَرْضِ يَطْلُبُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مُجَاهِدٌ لِنِدَاءِ الْحَقِّ فِي جَلَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ولأن الشيخ مضى إلى رضوانِ الله، وهو لا يعرف ماذا أصاب المسلمين من بعده؛ خاطبه باشراحيل في نداء يَنْدَى بالخجل، بعد ما دهمتنا طيورُ الأعادي الضَّعيفة، وتُذِيقُنا الموتَ ألوانًا من العذاب والضنك والشتات:أَعْدَاؤُنَا مِنْ بُغَاثِ الطَّيْرِ تُمْطِرُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِوَابِلٍ مِنْ رِمَاحِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تُذِيقُنَا الْمَوْتَ مَا ضَجَّتْ جَوَانِحُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَكَمْ شَكَى الصَّبْرُ فِينَا حُرْقَةَ الْجَسَدِ

يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:51 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
يَا أَلْفَ مِلْيُونَ وَالْإِسْلاَمُ يَجْمَعُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَيْفَ الشَّتَاتُ وَنَارُ الثَّأْرِ فِي الْكَبِدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَيْفَ الْخَلاَصُ وَدَرْبُ الْحَقِّ تَخْذُلُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عِصَابَةٌ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ بِالرَّصَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ فِينَا مِنْكَ تَذْكِرَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَرُودُنَا كُلَّمَا ضِقْنَا مِنَ الْكَمَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فذكرى الشيخ دائمًا وأبدًا حِصنٌ منيعٌ ضِدَّ التُّرّهات والأباطيل والأراجيف، وهو القابع في رحابِ الخُلْدِ؛ حيث الأطيارُ المحلقة، التي يُشجيه تسبيحُها:سِرْ لِلْجِنَانِ رِحَابُ الْخُلْدِ وَارِفَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَانْعَمْ بِرَحْمَةِ رَبِّ الْخَلْقِ لِلْأَبَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَطُوفُ عِنْدَكَ أَطْيَارٌ مُحَلِّقَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَشْجِيكَ تَسْبِيحُهَا فِي صَوْتِهَا الْغَرِدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



الفراق الصعب:
ويَرْثِي شاعِرُنا صديقَه الناقد الدكتور عباس عجلان، الذي كان آيةً في الأخلاق الحميدة، وغزارة العلم، ونقداته الأدبية الصائبة، التي أطرت للساحة الأدبية طريقها وَفْقَ ضوابطِ العلم، ولذلك خاض معاركَ نقدية طائلة، فما وهن ولا استكان لما أصابه:(عَبَّاسُ)، وَانْدَاحَ شِعْرِي فِي خَلاَئِقِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَاقْتَدَّ فِي سَامِقِ الْعَلْيَاءِ بُنْيَانُهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

(عَبَّاسُ)، يَا مَوْئِلاً لِلْفِكْرِ قَدْ نَضَجَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِهِ الْعُلُومُ وَمَا أَعْيَاهُ تِبْيَانُهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

(عَبَّاسُ)، يَا فَرْحَةً بِالْأَمْسِ عَاطِرَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَرَّتْ سِرَاعًا وَيَبْقَى مِنْكَ تَحْنَانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَقَدْ غَرَسْتَ غُصُونَ الْحُبِّ مَوْرُومَة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَكَمْ رَمَاكَ مِنَ الْحُسَّادِ بُهْتَانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَا رَقَّ خَافِقُهُمْ يَوْمًا عَلَى أَلَمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مِنْ جَانِحِيكَ وَقَدْ أَغْرَاكَ سُلْوَانُ


يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:52 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
وَكُلُّ شَلْوٍ عَلَى آثَارِكَ ارْتَفَعَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِهِ الْمَرَاتِبُ يَعْلُو وَهْوَ جَذْلاَنُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

الْحَاقِدُونَ وَقَدْ لاَنَتْ مَلاَمِسُهُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَكُلُّهُمْ فِي ثِيَابِ الْغَدْرِ ثُعْبَانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

صَحِبْتُ فِيكَ مَسَرَّاتِي وَأَغْبِيَتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَنَحْنُ فِي مُلْتَقَى الْأَفْلاَكِ جِيرَانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ويدعوه باشراحيل إلى الخلود؛ حيث يُسافر الشعر في بهجة معه، والأحباب والخلان؛ ليتركَ على الأرض الأشباحَ وبقايا الشعراء:إِلَى الْخُلُودِ وَيَسْرِي الشِّعْرُ فِي شَغَفٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَسَافَرَ الشَّوْقُ تَسْتَدْنِيهِ أَشْجَانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِلَى الْخُلُودِ وَكُلُّ الصَّحْبِ فِي وَجَلٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَحَوْلَكَ الْيَوْمَ أَحْبَابٌ وَخِلاَّنُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِلَى الْخُلُودِ ضَحُوكُ الثَّغْرِ لَيْسَ يَرَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سِوَى الْمَنَاكِيدِ أَشْبَاحٌ وَغِرْبَانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سِرْ حَيْثُ شِئْتَ طَلِيقًا عِنْدَ بَارِئِنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ظِلُّ الفَرَادِيسِ فِي مَثْوَاكَ فَيْنَانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَقَلِّبِ الطَّرْفَ أَلْوَانًا عَلَى فَنَنٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مِنَ الْجِنَانِ بِهَا رَوْحٌ وَرَيْحَانُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ونلحظ مدى حنين باشراحيل إلى صُحْبَةِ صديقه عباس عجلان، سواء في الدنيا أم في الآخرة، وكأنَّهما صنوانِ عاشا على حُبِّ الأدب الأصيل، والشعر القويم، وهكذا كانت نفس عجلان، في وُدِّها وأدبها، وهكذا كانت - وما تزال - نفسُ وروح باشراحيل الشاعرة.
فداحة العمر اليتيم:
وهنا تتجلَّى براعةُ باشراحيل الموسيقيَّة العالية، وقوة جرسه الصادح بالنَّغَم في رثاء الشاعر الكبير حسين سرحان، عندما تناغَمت ألفاظُه مع المضمون والعاطفة:يَا شَاعِرَ الْوَقْتِ الْجَحُو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دِ وَقَدْ رَعَى بِالْحَقِّ عَهْدَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

جِئْنَاكَ لَمْ نَلْقَ الْمَكَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَ وَلاَ الزَّمَانَ وَلاَ الْأَوُدَّةْ


يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:53 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
جِئْنَاكَ وَالطَّيْفُ الْحَبِيبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مُحَلِّقٌ فِي كُلِّ بَلْدَةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

جِئْنَاكَ وَالْعُمْرُ الْيَتِيمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقَدْ أَضَاعَ الْعُمْرُ مَهْدَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

جِئْنَاكَ وَالدَّمْعُ الْحَزِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نُ عَلَى الْجُرُوحِ الْمُسْتَبِدَّةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

جِئْنَاكَ وَالسَّيْفُ الصَّقِيلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَدِ اسْتَعَادَ الْيَوْمَ غِمْدَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

خَلَّدْتَ لِلصَّوْتِ الصَّدَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالشِّعْرُ يُحْيِي فِيكَ مَجْدَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فحسن التقسيم والبلاغة الموسيقيَّة طبعت هذه القصيدة بطابع الإخلاص، والحب والصدق لشخص الشاعر حسين سرحان، وتبدو المفارقةُ في أبيات باشراحيل قويَّة، عندما جاءه ومعه مُحبُّو الشاعر الكبير، لكنَّهم صدموا بفقده؛ حيث لا الزمان هو الزمان، ولا المكان هو المكان؛ لأنَّك - يا شاعرنا - قد رحلت وأخذت معك كلَّ شيء جميل.
ويؤكِّد باشراحيل على أنَّ حسين سرحان، وإنْ كان قد انتهى أجلُه إلاَّ أن الأجيال ستظل تذكره وتتذكره، عن طريق مطالعة أسفاره الضخمة الشعريَّة، التي يبدأ عندها تاريخ الشعر:إِنْ يَنْتَهِ الْعُمْرُ الْمَدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دُ سَتَذْكُرُ الْأَجْيَالُ رِفْدَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَوْ يَنْصَرِمْ شَرْخُ الشَّبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِ سَيَبْدَأُ التَّارِيخُ عِنْدَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



صوت الرحيل:
وتَمتاز قصيدته هذه في رثاء الشيخ عبدالله المحمد الحمدان أبي عليوي؛ لقدرته العجيبة على مَوْسَقَةِ أبياته، والتلاعُب الفَذِّ في تناغُمها، على غرار فرائد شاعر العرب الأكبر أبي الطيب المتنبي، في مفتتح قصائده:أَسْرِي مَعَ الْوَجْدِ فِي تَذْكَارِ مَحْبُوبِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَسْتَعِيدُ زَمَانًا غَيْرَ مَجْلُوبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكَمْ أُفِيقُ عَلَى السَّلْوَى وَيَصْرُخُ بِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
صَوْتُ الْمَنَايَا وَعُمْرِي رَجْعُ تَغْرِيبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَسْتَنْقِذُ الْعُمْرَ فِي صَحْرَاءَ قَاحِلَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِيهَا الْأَمَانِي اقْتَضَتْ هَمِّي وَتَعْذِيبِي




يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:57 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
الرثاء في شعر باشراحيل (4)
محيي الدين صالح

أَمْضَى وَيُقْلِقُنِي وَقْتِي وَيَفْجَعُنِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِمَنْ أَحَبَّ فِرَاقًا غَيْرَ مَحْسُوبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ولأن هذا الشيخَ كان صديقًا للبرِّ والإحسان، فإنَّ لياليَه الغراء تسألُ الشاعرَ عنه، وأين هو الآن بعد عمر مديد من النوال والعطاء:كَمْ سَاءَلَتْنِي اللَّيَالِي عَنْ صَنَائِعِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَكَمْ يُجِيبُ لِسَانِي بِالْأَعَاجِيبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَوَّاهُ يَا شَيْخُ جَمْعُ النَّاسِ مُصْطَخِبٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَنْتَ بَيْنَ الْوَرَى تَهْنَا بِتَرْحِيبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَوَّاهُ يَا مَنْ بِكَ الْأَخْيَارُ فِي شَرَفٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقَدْ نَعَوْكَ عَلَى بُعْدٍ وَتَقْرِيبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَمْ مِنْ فَقِيرٍ وَقَدْ أَثْرَتْ مَغَانِمُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مِنْ فَيْضِ جُودِكَ تُعْطِي بَيْنَ تَرْغِيبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قَدْ عَاشَ بِالْبُخْلِ أَقْوَامٌ عَلَى سَعَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَنْتَ تَحْيَا عَلَى إِسْعَادِ مَكْرُوبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ولأن صورةَ هذا الرجل الحاتمي، بلا نظيرٍ في عالم اليوم، وجدنا باشراحيل يكنيه بأبي كلِّ الأخلاق:إِيهٍ أَبَا كُلِّ أَخْلاَقٍ تَعِنُّ لَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَهْمِي سَحَائِبُ مِنْ مُزْنٍ وَمِنْ طِيبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَوَجْهُكَ الْبَاسِمُ النَّادِي عَلَى خَجَلٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَزِينُه الْبِشْرُ لاَ يَرْضَى بِتَقْطِيبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

دُنْيَاهُ كَانَتْ وَأَضْحَتْ خَيْرَ خَاتِمَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَا غَيَّرَتْهُ صُرُوفٌ بَعْدَ تَجْرِيبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



أَبَتاه... طريق الشاعرية الأصيلة:وإلى أبيه... ينطلق باشراحيل في رثائه الإيماني المتدفق، كسيل منهمر، يمتلئ بالتُّقى والقناعة بمكانة أبيه عند ربِّه في جنات النعيم، وأنَّ الناس في الدُّنيا - ما تزال - تتهافت بذكره:كُلَّمَا مَرَّ ذِكْرُهُ طَيَّبَ النَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سَ فَهَامُوا مِنْهُ بِعِطْرٍ حَنُونِ

يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:57 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 

عَيْنُهُ تَزْدَهِي بِجَنَّتِهِ الْخَضْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رَا وَيَزْهُو السَّنَا بِحُورٍ عِينِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا أَبِي إِنَّمَا الْمَسَافَاتُ تَطْوِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كُلَّ أَعْمَارِنَا غُيُوبَ الْمَنُونِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ويُنادي الشاعرُ أباه بأجملِ لَقَب كان يحبُّه في الحياة الدنيا، وهو أبو الحب، مؤكِّدًا على حقيقة ناصعة البياض، هي أنَّ ألَم الفراق هو أشدُّ ألم يعيب الإنسان.يَا أَبَا الْحُبِّ وَالْمَحَبَّةُ ثَكْلَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالْأَشِقَّاءُ فِي مَسَاءٍ حَزِينِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قَدْ تَطِيبُ الْجِرَاحُ يَوْمًا فَيَوْمًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَجِرَاحُ الْفِرَاقِ جُرْحُ السِّنِينِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَإِذَا هَذِهِ الْحَيَاةُ مَضَاءٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَسُكُونٌ يَمُرُّ إِثْرَ سُكُونِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هَكَذَا الْعُمْرُ رِحْلَةٌ تَتَهَادَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَإِذَا نَحْنُ رَهْنُ سِرِّ الْيَقِينِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ليصل باشراحيل إلى الحقيقة الكبرى، وهي أنَّ جميع الخلائق تسير متَّجهة إلى الله، وإلى لقائه يوم تبلى السرائر:وَإِلَى اللَّهِ كَمْ تَسِيرُ الْبَرَايَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَمْرُهُ نَافِذٌ بِكَافٍ وَنُونِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا أَبِي وَالرَّحِيلُ وَالصَّبْرُ دُونِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَثَوَانِيكَ فِي سَوَادِ عُيُونِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَا افْتَرَقْنَا وَأَنْتَ فِي كُلِّ عُمْرِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَمَلٌ ضَاحِكُ الرُّؤَى يَرْوِينِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهكذا يتصبَّر الشاعر على مُصابه الأليم، بفقْد والده، ولا يَملك إلا أن يلجأ إلى ربه، فهو الرُّكن الركين، معتمدًا على ثقافته الدينيَّة، وإيمانه القوي، بلا جزع ولا نصب ولا شكوى؛ لأنه لم يفارق أباه الذي يحيا معه بأخلاقه وكريم صفاته.
وتُخْتَتَم مرثيةُ باشراحيل إلى أبيه بتأكيده على أنَّه مهما عشنا في الحياة، فإنَّ الرجعة والسكون هي خاتمة المطاف، وإنَّ إلى الله المثوبة:لَمْ تَزِدْنِي الْحَيَاةُ غَيْرَ يَقِينٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَنَّ لِلَّهِ رَجْعَتِي وَسُكُونِي


يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:58 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
وَهْوَ بِالْخَلْقِ رَاحِمٌ وَكَرِيمٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَهْوَ مَوْلاَكَ بَيْنَ دُنْيَا وَدِينِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ونلمح ممَّا سبق أنَّ باشراحيل لم يرثِ أباه رثاءَ العوام، الباكين، الجزعين، المتخلِّين عن إيمانهم لحظةَ الفراق، ولكنَّه كان في رثائه ثابتَ الجنان، قويَّ الإيمان، رابطَ الجأش، مُستعصمًا بحبل الله المتين، قانعًا أنَّ والدَه يَحيا في ظلالِ الخلد وملك لا يبلى، ويَحتسبه عند مولاه.
أمَّا ألفاظُه هنا، فهي ألفاظُ الإسلام، والتربية الإيمانية التي نشأ عليها؛ حيث تفيض قصائدُه الرثائية بروح الرِّضا التام بما كتبه الله له، وما ابتلاه به، وهو في هذا الشعور يسير على النَّهجِ الإسلامي، وعلى سمت الشعر الملتزم، شكلاً ومعنى.
ويُفاجئنا باشراحيل - كعادته - بقصيدة من أفضل ما كتب، في رثاء والده - يرحمه الله - وكأنَّها قصة حياة للإنسانية جَمْعاء، أو هي قصة باشراحيل مع رمز التُّقى والعفاف والخير والبِرِّ والإحسان، رجل المواقف الصعبة، الذي برحيله رحلت المكارم، إنها قصة الأخلاق الإنسانية في أرفع صورها:يَوْمٌ مِنَ الْأَيَّامِ طَابَ لَنَا السَّهَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بَيْنَ الْبَيَادِرِ وَالْجَدَاوِلِ وَالزَّهَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

طَيْرٌ تَعَوَّدَنِي يَنُوحُ عَلَى الشَّجَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَمْ أَدْرِ أَنَّ الطَّيْرَ يُنْذِرُ بِالْقَدَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَأَنَا وَإِخْوَانِي الْأَمَاجِدُ فِي سَفَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَا بَيْنَ خِدْرِ الشَّمْسِ نَسْتَحْيِي الْعُمَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نَتَقَاسَمُ الْأَنْفَالَ مِنْ طَلْعٍ أَغَرّْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نُهْدِيهِ لِلْمَلأِ الْمُخَدَّرِ بِالضَّرَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كُنَّا وَكَانَ الشَّيْخُ بِالْوَجْهِ النَّضِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِي مَهْمَهٍ وَالْحُبُّ فِي غَدِنَا انْتَصَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَعُيُونُ سَيِّدِنَا عَلَيْنَا تَنْبَدِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَهُوَ الْمُطَاعُ وَأَمْرُهُ فِيمَا أَمَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

الْأُمْسِيَاتُ وَصُورَةٌ تَجْلُو الصُّوَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَنْ يَفْتَحُ التَّارِيخَ يَسْتَقْرِي الذِّكَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ويبهر باشراحيل القارئ بكمِّ الصفات والسمات التي قلَّما تجتمع إلا للعظماء من أفاضل الناس، ومن أجل هذا تسابقت الأفلاكُ والأجرام في الحديث عن مَزاياه وأفضليَّته، ومكانته الرفيعة، كحكيم من حكماء العرب:قَالَتْ حُرُوفُ الشَّمْسِ عَلِّمْنَا النَّظَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عَقْلٌ تَوَقَّدَ بِالنُّضُوجِ وَبِالْفِكَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قَالَ الْهِلاَلُ وَقَدْ تَغَشَّاهُ الْخَضِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هَذَا حَكِيمُ الْعَصْرِ فِي يَوْمِ الْفِتَرْ


يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:58 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
مَنْ عَانَقَ الْأَطْفَالَ بِالْحُبِّ الْعَطِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَنْ يَحْمِلُ الْعَطْفَ الْكَبِيرَ الْمُسْتَمِرّْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَنْ قَاسَمَ الْفُقَرَاءَ أَمْوَالَ الْعُمِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَدْ كَانَ يَزْهَدُ بِالنَّعِيمِ وَبِالدُّرَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ثم يهيب باشراحيل في تعداد مَزايا والده؛ حيث يتشوَّق إليه صوتُ الآذان وسور القرآن الكريم:يَشْتَاقُهُ صَوْتُ الْمَآذِنِ وَالسُّوَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَيَقِينُهُ بِاللَّهِ بِالذِّكْرِ الْعَطِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَفُّ اللِّسَانِ عَنِ التَّنَدُّرِ بِالْبَشَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إِلاَّ حَدِيثَ الْخَيْرِ أَوْ طِيبِ السِّيَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ولأن والده كان حكيمًا متمرسًا، فقد واجه الصِّعاب بعقل مستنير، ودافع الظلم برجاحته وفطنته:يَا سَيِّدِي وَالْمَوْجُ يُنْذِرُ بِالْخَطَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَسَلَكْتَ بِالسُّفُنِ الْمَلِيئَةِ تَحْتَذِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا سَيِّدِي وَالرِّيحُ تَعْصِفُ تَعْتَصِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَوَقَارُكَ الضَّافِي عَلَيْهَا يَنْتَشِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا سَيِّدِي وَقِرَاعُ إِنْسَانٍ أَشِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَلْقَاهُ مُغْتَرًّا بِثَغْرٍ مُزْدَهِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا سَيِّدِي وَالظُّلْمُ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَأْبَى الْمَكَارِمُ فِيكَ أَلاَّ تَنْتَصِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وإذا كان عِلْيَةُ القومِ يُدنون الأثرياءَ والوُجَهاء من مَجلسهم، فإنَّ أباه - على العكس من ذلك - كان يُدني الفُقراء، ويُقرِّبهم إليه؛ لأنَّه خاشع القلب، تنهمر دُمُوعه لرُؤية هؤلاء المساكين الذين يبرُّ بهم، ويعطف عليهم:يَا صَاحِبَ الْفُقَرَاءِ فِي لَيْلِ الْكَدَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَمْ كُنْتَ تُدْنِيهِمْ لِمَجْلِسِكَ الْعَطِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا مَنْ يَخَافُ اللَّهَ بِالْحَقِّ ائْتَزِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالْقَلْبُ يَخْشَعُ وَالْمَدَامِعُ تَنْهَمِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 04:02 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
الرثاء في شعر باشراحيل (4)
محيي الدين صالح





وإذا كانت هذه هي صفات والده، فإنَّ الجنةَ بلا ريب هي مَثواه - إن شاء الله تعالى -:
الْوَعْدُ يَا أَبَتِي نَعِيمٌ مُسْتَمِرّْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِي سَاحَةِ الْخُلْدِ الْمُنَضَّدِ بِالصُّوَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا رَبِّ مَتِّعْهُ عَلَى تِلْكَ السُّرَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَا بَيْنَ جَنَّاتٍ جَنِيَّاتِ الثَّمَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وبعقْد مقارنة سريعة بين قصيدتي باشراحيل عن والده - نلحَظ أنَّه في الأولى كان يُخرج نفثاتِه الثَّكْلَى، وآلامِه المجروحة عَبْرَ قصيدتِه في صورة مُباشرة، أمَّا القصيدةُ الثانية، فجاءت بعد رَويَّة وامتداد زمني جعَلَه يتفاعل مع جلال الحدث وأهميَّته، ومن ثَمَّ يستعرض سيرةَ والده العَطِرة بشيء من التفصيل، الباعث على رسم صورةٍ كلية له، تتآزر فيها السِّمَات الشخصية والأخلاقية، وتقدم للقارئ والدَه في أبهى حُلَّة، وأروع صورة، وهي صورة الشيخ الجليل نصير الفقراء والمُعْدَمين، رجل الحق والبِرِّ والخير، الذي بَكَتْه الأجرام السَّماوية في عَلْيَائِها، والأطفال في براءَتِها، وهي صورة كليَّة عبارة عن مجموعة من الصور الجزئية المتراكبة، التي تَجتمع عناصِرُها؛ لتبرز شخصَ والدِه الكريم - رحمه الله.

سفر العذراء الطويل:
وهي قصيدة من الشعر الحُرِّ كتبها باشراحيل في رثاء عمته مريم - رحمها الله تعالى - التي كانت بالنسبة له أنموذجًا فريدًا في النقاء والشفافية، وصفاء النفس:
قَالَتْ
سَأَخْتَارُ السَّفَرْ
طَالَ الْمُكُوثُ
فَأَيَّ شَيْءٍ أَنْتَظِرْ
زَمَنٌ قَدِ افْتَقَدَ النَّقَاءْ
وَشَرَابُهَا
مَاءٌ طَهُورْ
تَسْقِي بِهِ
حَتَّى الطُّيُورْ
وَمَعِينُهَا الصَّافِي
يَفِيضُ بِهِ السُّرُورْ

ولأَنَّها عذراء، فليست مثلَ نساء الأرض الأُخْريات، هي الرَّمْزُ الوحيد الباقي من زمنِ التضحية والوفاء، وهي الصَّدْر الحاني، الذي يأوي إليه كلُّ مُتعَب وجهيد:
أَيَّامُهَا مُدُنُ الْفَرَحْ
جَعَلَتْ مَبَاهِجَنَا
مُلَوَّنَةً
كَمَا قَوْسٍ قُزَحْ

وعندما رحلت، بكتها الحياةُ والأنواء، والسُّحب والظِّلاَل، وتَحولت الحياةُ من حوله إلى بكائية؛ بسبب رحيلها المفاجئ الحزين:
بَكَتِ الْحَيَاةُ
عَلَيْكِ يَا عَذْرَاءُ
فِي يَوْمِ الرَّحِيلْ
وَبَكَى الْأَقَارِبُ
وَالْقَبِيلْ

ويرى باشراحيل أنَّ نفسها المؤمنة تَمتاز بالفِرَاسَة والشَّفافية التي ترى بنور الله - عزَّ وجلَّ - فلقد كانت تنظر للغَدِ، وكأنَّما أطلعها المولى - سبحانه وتعالى - على أسرارِ الغيب والخلود، ومن هنا رأت مَكانتها في الجنان؛ حيث الورود، والرَّوائح الذَّكِيَّة، والظلال الهنيئة، والحرير، والقصور الشاهقة، ولأجل هذا اختارت طريقَ الله على الحياة الفانية:
وَكَأَنَّمَا الرَّحْمَنُ
أَطْلَعَهَا عَلَى سِرِّ الْخُلُودْ
فَرَأَتْ مَنَازِلَهَا
ظِلاَلاً أَوْ وُرُودْ

صغيري معتز:
وإلى الشاب الراحل معتز فاروق بنجر، يرثي باشراحيل ريعانَ الشباب وأفوله وقتَ نضوجه، يرثي البرعمَ المتفتِّح، وقد استوى عودُه، يَبكي نضارةَ الشباب ورحيلَه المفاجئ، يبكي ما خَلَّفَه بعد سَفره الدائم على نفسِ أمه وأبيه:
(مُعْتَزُّ) مَا أَبْصَرَتْ عَيْنِي مَلاَمِحَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقَدْ بَصُرْتُ بِهِ وَالْمَوْتُ حِينَ دَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَرَكْتَ بَعْدَكَ أَجْفَانًا مُقَرَّحَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالْوَجْدُ فِي الْقَلْبِ نَزْفٌ صَارَ مُرْتَهَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا قَلْبَ أُمِّكَ وَالْجُرْحُ الْعَمِيقُ بَدَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقَلْبُ وَالِدِكَ الدَّامِي إِلَيْكَ رَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

(مُعْتَزُّ) غَرِّدْ كَمَا قَدْ كُنْتَ بُلْبُلَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْحُسْنِ مُفْتَتَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ومن شدة حب باشراحيل لمعتز، وتعلقه به، نراه يناديه قائلاً: إنك لم تغب عنا يا معتز، بل سبقتنا إلى ذُرَى الفراديس:
(مُعْتَزُّ) لاَ لَمْ تَغِبْ بَلْ أَنْتَ تَسْبِقُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إِلَى أَعَالِي الذُّرَى تُحْيِي الشَّبَابَ سَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَسْتَافُ مِنْ رَحْمَةِ الدَّيَّانِ فِي كَرَمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَتَسْتَزِيدُ فَتُعْطِي مَا غَلاَ ثَمَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عِمْ بِالْجِنَانِ وَرَيَّانُ الْمُنَى غَرَدٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
(مُعْتَزُّ) فَانْعَمْ بِمَا لاَ يَعْرِفُ الْوَهَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



رثاء فقيد الكلمة:
وتتجلَّى أريحيةُ باشراحيل وصدقُه مع الرُّمُوزِ المخلصة، والأبناء البَررة لأمَّتنا المجيدة، وعلى رأسهم الكاتب الإسلامي أحمد محمد جمال - رحمه الله - الذي كان بقلمه قُنبلَةً في وَجْهِ المارقين والحاقدين والموتورين، وسوطَ عَذابٍ يَصُبُّه على مَن يُهين تراثَنا وثقافَتَنا الأصيلة:
سِرْ أَنْتَ حَيْثُ مَشِيئَةُ الْأَقْدَارِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَلْقَى الْكَرَامَةَ فِي رِحَابِ الْبَارِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا مَنْطِقَ الْحَرْفِ الصَّمُوتِ إِلَى الْوَرَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِالْحَقِّ لاَ بِالْمَيْنِ وَالْأَضْرَارِ

يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 04:03 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
كَمْ تَنْبَرِي قَلَمًا وَفِكْرًا نَاهِضًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَكِنَّنَا فِي غَمْرَةِ التَّيَّارِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَمْ تَسْتَهِنْ يَوْمًا بِمَاضِي أُمَّةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سَادَتْ وِلاَيَتُهَا عَلَى الْأَمْصَارِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

جَاهَدْتَ بِالْقَلَمِ الرَّفِيعِ شَجَاعَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَغَدَا بَيَانُكَ مِثْلَ وَهْجِ النَّارِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


إلى أن يقول له - صادقًا في قوله، عارفًا لقدره، راجيًا أن يكون من الذين حَظُوا بنعيم مولاهم العميم يومَ القيامة -:
تَاللَّهِ قَدْ عَرَفُوا بِأَنَّكَ مُوقِنٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِي رَحْمَةِ الْمَعْبُودِ لِلْأَخْيَارِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَبِأَنَّ دَارَكَ شُرِّعَتْ أَبْوَابُهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَرْنُو إِلَيْكَ بِفَرْحَةِ الْأَنْظَارِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فِيهَا الْمَبَاهِجُ وَالْمَنَاهِلُ ثَرَّةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِيهَا الْجَنَى مِنْ طَيِّبِ الْأَثْمَارِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَلْتَهْنَ بِالْعَفْوِ الْكَرِيمِ وَجَنَّةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَضْلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ لِلْأَبْرَارِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

دمعة ألم على فقيد الأمة:
يوجه باشراحيل أنظارَ قُرَّائِه ومنشدي شِعْره إلى أنَّ كلماتِه هذه المرة تأتي في تأبين ورثاء العَلاَّمة المرحوم عبدالقدوس الأنصاري، بلا لومٍ ولا رياء؛ لأَنَّها صادقة، من القلب إلى القلب، وتدُلُّ على عظيم مَحبته له، فهو أهلٌ للتَّكْرِمَة والإجلال والحفاوة:
بِالصَّبْرِ بِالدَّمْعِ الْغَزِيرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِالْوُدِّ بِالْحُبِّ الْكَبِيرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنَا إِنْ بَكَيْتُكَ لاَ أُلاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مُ وَإِنْ نَعَيْتُكَ لِلدُّهُورْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تِلْكَ الرِّحَابُ تَرَكْتَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَتَرَكْتَ مَقْعَدَكَ الْوَثِيرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


النُّورُ فِي يُمْنَاكَ يَجْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لُو ظُلْمَةَ اللَّيْلِ الْكَسِيرْ

يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 04:03 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
خَلَّفْتَ مِنْ أَثَرِ الْعُلُو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مِ بَرَاعَةً بَيْنَ السُّطُورْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فِيهَا غُرُوسُكَ لَمْ تَزَلْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
جَذْلَى بِأَطْيَابِ الزُّهُورْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ويقدم باشراحيل أسانيدَه على صِدْقِ رِثَائِه لهذا الرجل الذي استمعتْ له الدُّنيا مُصغية؛ لجدارته العلمية والأدبية:
أَصْغَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَأَنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَ بِمَا حَمَلْتَ لَهَا جَدِيرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حَمَلُوكَ قَدْ حَمَلُوا النَّدَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالصَّرْحُ بَعْدَكَ قَدْ يَمُورْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حَمَلُوا رُفَاتَكَ لِلثَّرَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَجُعِلْتَ لِلْأَجْدَاثِ نُورْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَا كَرَّمُوكَ وَأَنْتَ أَوْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَى مَنْ تُكَرِّمُهُ الْعُصُورْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وفي رثاء الشاب محمد أسعد الفريح تتبدى عاطفةُ باشراحيل الإيمانية أمامَ عظمة الموت، الذي لا تقفُ أمامَ قوته أَيَّةُ قوة، مُخاطبَا والده بأسلوبٍ ينضح إيمانًا ويقينًا وعزاءً بأَنَّ ما عند الله هو خيرٌ مِمَّا في الدُّنيا الزائلة:
وَدِّعْهُ وَدِّعْ حَبِيبَ الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقُلْ لَهُ لِجِنَانِ الْخُلْدِ يَا وَلَدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حَقًّا هُوَ الْمَوْتُ مَنْ فِي الْكَوْنِ يُنْكِرُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَكُلُّنَا فِي انْتِظَارِ الْمَوْعِدِ الْأَبَدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سَرَى (مُحَمَّدُ) نَحْوَ النُّورِ مُنْدَهِشًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَغَابَ فِي رَحْمَةِ الدَّيَّانِ وَالْأَحَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

رَأَى الْغُيُوبَ وَفِي أَنْدَائِهَا أَلِقٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رَأَى النَّعِيمَ وَصَوْتَ الْبُلْبُلِ الْغَرِدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وإلى أبي محمد ينصحُه باشراحيل بالتسلُّح بسلاح الصبر؛ لأنَّنا مُبْتَلَون في هذه الدنيا بفقد الأحبة:
(أَبَا مُحَمَّدِ) صَبْرًا أَنْتَ مُمْتَحَنٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالصَّبْرُ بِاللَّهِ يَشْفِي حُرْقَةَ الْكَمَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 04:04 AM

رد: الرثاء في شعر باشراحيل
 
وَالْوَعْدُ أَقْرَبُ وَاللُّقْيَا مُبَشِّرَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَلْقَى الْأَحِبَّةَ فِي الْجَنَّاتِ وَالْغَرَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكُلُّنَا رَهْنُ أَقْدَارٍ تُبَاغِتُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَمَا يَرُدُّ قَضَاءَ اللَّهِ مِنْ أَحَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وإذا كان باشراحيل قد جمع رثاءَه في ملفٍّ خاصٍّ، ينتظم الشخوص التي فُجِعَ برحيلها، فإنه اختصَّ الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز بمرثية في ديوانه "مُعذبتي"، ولعلَّ هذه القصيدة تكون دليلاً على عذاب الشاعر الذي أتعبه رحيلُ الفيصل؛ فكان رحيله عذابًا شاقًّا في حياته، ولعلَّ موتَه المفاجئ الذي حَلَّ دونَ مقدماتٍ زادَ من هولِ الفاجعة، خاصَّة أنَّ الملك فيصل كان مَحبوبًا في الأوساطِ العربية:
أَفَقْتُ عَلَى فَاجِعَاتِ الزَّمَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَسَيْفِ الْقَضَاءِ وَحُكْمِ الْقَدَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَصَوْتِ النَّذِيرِ يَقُولُ انْهَضُوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَقَدْ حَلَّ أَمْرٌ أَزَاغَ الْبَصَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَقَدْ مَاتَ مَنْ كَانَ يَوْمًا لَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ظِلاَلَ الْأَمَانِ وَنَفْحَ الزَّهَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَقَدْ مَاتَ أيُّ الْتِفَاتٍ حَزِينٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَيُّ الْتِيَاعٍ يَهُزُّ الْحَجَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فلقد كان الجميع ينام هانئَ البال، قريرَ العين، بينما الملك فيصل يَسْهَر على تحقيق أحلامهم وعلى شؤونهم:
أَضَاءَ الطَّرِيقَ السَّوِيَّ الْقَوِيمَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَعَلَّمَنَا غَالِيَاتِ السِّيَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَهَزَّ الْيَهُودَ فَأَحْلاَمُهُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَهَاوَتْ وَأَيَّامُهُمْ تَنْحَسِرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ولهذا يخاطبه باشراحيل بلهفة وترقُّب، وحديثٌ مِلؤُه الدُّعاء بخير الجزاء:
أَفَيْصَلُ إِنَّا سَئِمْنَا الْحَيَاةَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَكَيْفَ السَّبِيلُ وَأَيْنَ الْمَفَرّْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَزَاءُ الْأَحِبَّةِ فِيكَ الدُّعَاءُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَأَنْتَ الْحَبِيبُ الْعَزِيزُ الْأَبَرّْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سَيَجْزِيكَ رَبِّيَ خَيْرَ الْجَزَاءِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَمَنْزِلُكَ الْخُلْدُ نِعْمَ الْمَقَرّْ



الساعة الآن : 05:43 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 273.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 271.99 كيلو بايت... تم توفير 1.23 كيلو بايت...بمعدل (0.45%)]