ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الشعر والخواطر (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=30)
-   -   القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد" (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=263088)

ابوالوليد المسلم 28-07-2021 02:53 AM

القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد" 1
محمد ويلالي



تقديم:
هذا بَحث مُقتضب، حاولت فيه - جهدي - أنْ يَجمع بين المعايير الأدبية والفنية كما أرسى قواعدَها نُقَّادُنا القُدامى، وبلورها النُّقادُ المحدثون، وبين الأصول والمبادئ العقدية، بحسب الضَّوابط والاحتياطات التي وجَّهَتِ الشريعةُ الإسلامية الأدبَ إليها؛ إسهامًا في تقويةِ هذا الجانب من الأدب، الذي يخدم الدعوة الإسلامية، ويسير في رَكْبِها.
وقد تَمَّ اختياري لديوان "محمود غنيم": "صرخة في وادٍ" لإجراء النَّظرة التطبيقِيَّة في ضَوئه؛ لِمَا الْتَمَسْتُ فيه - إلى جانب البراعة الفنية - من التزامٍ كبير بقضايا الأُمَّة، التي جاءت شريعتنا لإرساء قواعِدِها، وجَعْلِ الشعر أداةً طَيِّعَةً لهذا المشروع، إضافةً إلى ما يَتمَيَّز به الشاعر "محمود غنيم" من تطويعٍ للغة؛ مِمَّا يثبت صلاحِيَّتها لحمل معاني هذا النوع من الأدب، الذي قد ينعت بـ"الأدب الإسلامي"، أو "الأدب الديني"، أو "أدب الدعوة"، وليتخذ مكانًا له بجانب الأنواع والاتِّجاهات الأدبية الأخرى.
وقد شمل هذا البحثُ فصولاً ثلاثة، ومقدمة، وخاتمة، وفِهرسًا للموضوعات.
أمَّا الفصل الأول:
فتحدثت فيه عن الإسلامِيَّة في الأدب ومُقوماتِها، وقَسَّمْته إلى مباحثَ أربعة، هي:
1- الإنسان والكلمة.
2- دور الأدب - والشعر خاصَّة - في الدِّفاع عن العقيدة.
3- علاقة الأدب بالعقيدة.
4- نحو مذهب أدبي إسلامي.
وأما الفصل الثاني: فقد شمل الحديثَ عن القضايا الإسلامية في شعر محمود غنيم، وقدمت لذلك بنقاط ثلاث:
1- نبذة عن حياة "محمود غنيم".
2- مكوناته الثقافية، ومكانته الشعرية.
3- بين يدي الديوان.
ثم قسمت هذا الفصل إلى مباحث خمسة:
1- القضايا العقدية: وقد شمل الحديث عن مطالب خمسة:
أ- الحث على التمسُّك بمبادئ العقيدة.
ب- الأخلاق ودورها في النهوض بالمسلمين.
ج- معاول هدم.
د- الحكومة الإسلامية.
هـ- صورة الماضي في شعره.
2 - القضايا الاجتماعية: وقد شمل الحديث عن مطالب خمسة:
أ- حالة غنيم الاجتماعية، واهتمامه بقضية الفقر.
ب- أسباب الضعف المادي في مصر آنذاك.
ج- الأخلاق في المجتمع المصري.
د- موقف المسلمين من الحضارة الغربية.
هـ- بين الشرق والغرب.
3 - القضايا الوطنية: وشمل الحديث عن مطالب.
4 - وقفة إنصاف: شملت الحديث عن مطالب ثلاثة:
أ- المغالاة في التشبيه.
ب- الغلو في المدح.
ج- موقفه من المرأة.
وأما الفصل الثالث:
فهو عبارة عن دراسة فنية للديوان، وقد شمل الحديث على المعاني والأفكار، بما فيها التعبير، والصياغة، والأسلوب، والألفاظ، وقضية المحافظة والتجديد، واللغة، وطول النفس، وبناء القصيدة، وموقف "محمود غنيم" من الشعر الحر، والوحدة العضوية، وظاهرة شعر المناسبات، والتصوير البياني، والخيال ثم العاطفة.
وشكري الجزيل إلى فضيلة المشرف "د. عبدالباسط بدر"؛ لتفضله بقراءة البحث قراءة فاحصة، وتزويدي بتوجيهاته القيمة، ونصائحه المفيدة، والله الموفق.
الفصل الأول: الإسلامية في الأدب
المبحث الأول: الإنسان والكلمة:
من طريف ما عرف التَّاريخ الإنساني هذه الصِّراعات التي تدور بين المتطلبات النفسيَّة، من تَحقيق الرغبات الباعثة على الاستجابة لهوى النَّفس ونزواتِها، وبين الأهداف العقليَّة الرصينة، الباعثة على العمل والعزم، مع تحقيق الذَّات، والتسامي بها إلى المثال والقدوة.
وبين هذين الطَّرفين غير المتعادلين يَسْبَحُ الكثير، ويشقى أو يَسعد الكثير، وحَقُّ الإنسانية ألاَّ تنزلق في دَهْسِ المتطلبات الأولى، باعتبارها تافِهَة ظرفية مَحدودة، وإنَّما حَقُّها أن تؤدي الرِّسالةَ البشرية السامية، التي تدور في إطارِ التعلُّق بقدوة وملهم ومرشد، لا يُمكِن للإنسان أن يعيش من دونه، ولا يستطيع الفكاك منه بأيِّ حال من الأحوال.
وتتمثل هذه التبعيَّة في إيجاد قانون شامل يلتمس فيه النجاح والصلاح، وهو طريقُ تَحقيق العُبُودية لله وَحْدَه.
وإذا نحن بَحثنا في مقومات هذه الطريق، والأسس التي يَجب أن تقيم صرحها عليها، علمنا أنَّ "الكلمة" كان لها الدَّور الفَعَّال في تَحقيق النصر والغلبة، والبُعد عن الخبط والجلبة، وأكبر مُمثل لهذه المسألة تاريخُنا الإسلامي، وكيف كانت "الكلمة" تفتح الصُّدور، وتغزو القلوبَ؟ وكيف كانت ترفع من قيمة الفرد إلى عَنَان السماء، أو تُرْدِيه إلى الحضيض؟ وكيف كانت تُرِي للناظر أو السامع الشيءَ في غاية الجمال والرَّوْعة، ثم ما تلبث أن تلعب بعواطفه ووجدانه، فيجعل ذلك الشيء نفسه مطلخِمًّا مُظلمًا؟
تَقُولُ هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ *** وَإِنْ تَعِبْ قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا *** سِحْرُ الْبَيَانِ يُرِي الظَّلْمَاءَ كَالنُّورِ
وهل القرآن في بادئ إقناعه، ومقدم دلائله وبراهينه، إلاَّ كلمة نفذت إلى أعماقِ القوم، وسَرَت في حسهم مَسْرَى الدم في العروق، فحركت كلَّ ذرة في دواخلهم، وهَزَّت كل كيان في وجدانهم وأحاسيسهم؟ فآمن مَن آمن اقتناعًا واعترافًا، وصد من صد عنادًا وتَحديًا واعتراضًا؛ قال الله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا)[البقرة: 26]، وقال - تعالى -: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[النمل: 14].
لماذا - إذًا - كان للقرآن الكريم هذا التأثير البالغ، وهذا الاستحواذ على النفوس والقلوب جميعًا؟ لماذا لَم يَملِك القرشيُّون من أمرهم إلاَّ أن يُحَرِّضوا أصحابَهم على عدم قراءته، أو الالتفات إليه، وقالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت: 26]، في حين لم تهز الحركات الدينيَّة السابقة منهم شعرة واحدة؟ ألَم يكن في المجتمع القرشي من يدعون إلى الحنيفيَّة من كبار الخطباء، كـ"قس بن ساعدة"، و"أمية بن أبي الصلت"، و"ورقة بن نوفل"، كما كان منهم الدُّعاة إلى اليهودية والنصرانية، المتمثلون في أهل الكتاب المنتشرون في الجزيرة العربية وحولها؟
لقد كان هؤلاء كلهم ينزعون لمعتقداتهم، وكان كلُّ فريق منهم يدعو من استطاع إلى دينه وطريقته، ولكن لم يخبرنا التاريخ - إطلاقًا - بأنَّ قريشًا قامت بحرب ضِدَّ دَعْوةٍ من هذه الدَّعوات؛ لأَنَّها - على الرغم من مكانة أصحابها، وعُلُوِّ مرتبتهم وتأثيرهم - كان القرشيون يُحِسُّون بتفاهتها، وأنَّ تأثيرها لا ينجم عنه أدنى خطر على أصنامهم، ومركزهم الاقتصادي، ووضعيتهم الاجتماعِيَّة، وهيمنتهم السياسية، ولكن فَوْرَ بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - رُجَّ هؤلاء في نفوسهم رَجًّا بَليغًا، وهُزُّوا هَزًّا عنيفًا؛ لأَنَّ الدَّعوة الجديدة لم تتخذ سبيلَ الدَّعوات الباردة السابقة، وإنَّما راعت أهم ما يمتاز به القوم ويعتزُّون به، وهو "الكلمة"؛ لغتهم التي كانت تشكل النسْغَ الأساسَ في تَحقيق هُويَّتِهم، والرفع من مكانتهم؛ لِمَا لها من اتِّصال شديد بالأنساب، التي كانت لها قيمة كبيرة في نفوسهم، فكان الواحد منهم لا يكاد تبلغُ أذنيه آيةٌ من القرآن أو آيات، حتى يُحدد موقفه على الفور من استجابةٍ أو إعراض، وكان أمرًا باهرًا أن يؤمن به عددٌ غير يسير، في اللحظة التي عملت قريشٌ - خلالَها - بكل جهدها ووسائلها أن تَمنع الناس من الاستماع لهذا "السحر" الجديد، الذي لم يكن لهم به من قبيل.
ويزداد أمرُ "الكلمة" خُطُورةً، حين نعرف أنَّ عجز هؤلاء عن معارضة القرآن لم يكن ناتِجًا عن "صرف" لهم عن ذلك، أو عن تَحَدٍّ بما هو يُجاوز الطاقة، وإنَّما كان التحدي مَمَّا يُجيدونه نفسه ويحبكونه ويُحرزون فيه قصب السبق؛ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف: 2]، كما كان هذا التحدي لا يعدو حدودَ اللغة والمفردات الظاهرة، دون المطالبة بجودة معنى، أو مُحاذاة فكرة، كما قال الله - تعالى -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ)[هود: 13 - 14].
والمتأمل في هذه الآية يرى أن التحدي وقع بأمور متعددة:
1- أنه تنزل في التحدي من أن يأتوا بمثله كُلِّه؛ كما في قوله - تعالى -: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)[الطور: 33 - 34]، إلى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات؛ كما في قوله - تعالى -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[هود: 13]، فلَمَّا لم يستطيعوا، تحدر معهم إلى أن يأتوا بمثل سورةٍ واحدة مثله؛ كما في قوله - تعالى -: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 23].
2- إثارة المشاعر وروح التحدي في دعوتهم؛ للاستعانة بمن استطاعوا من غير الله - تعالى - من جن أو إنس، كما أخبر - سبحانه - في سورة أخرى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء: 88].
3- تأكيدًا لمعرفة الله - تعالى - السابقة بعجزهم عن مُعارضته، فقد سهل الأمر أمامهم في أن يأتوا بهذه السور العشر مُفتراةً، دون اشتراطِ المعقولية الفكرية، أو مُضاهاة المضمون، فلَمَّا عجزوا عن الشقِّ الأول، تبيَّن أنَّهم عن الثاني أعجز.
4- الإثارة البالغة لمحاولة المعارضة بقوله - تعالى -: (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 23] دلالة على هزيمتهم، وعدم مقدرتهم، على الرَّغم من أنَّهم أرباب اللغة، وأوتاد الفصاحة.
ويزداد الأمر خطورة، إذا عرفنا أنَّ هؤلاء العرب لم يكونوا بالسذج البُسطاء، ولا بالدهماء الغمر، وإنَّما كانوا على نصيب من الثَّقافة والمعرفة، وحسبهم أن تجسد هذه المعرفة وتلك الثَّقافة اعتناءَهم بعربيتهم، واهتمامهم بالسليقة، إضافةً إلى أن النقوش تثبت معرفتهم بالكتابة.
يقول كارل بروكلمان: "وليست أراضي الشمال في نجد وتهامة غنية بالنقوش والآثار الكتابية مثل بلاد الجنوب، وإن وجدت دلائل على بعض اتجاهات الحياة الدينية في النقوش المسماة تسمية غير دقيقة بـ "النقوش الثمودية" و"اللحيانية"، وكذلك في"النقوش الصفوية" على مقربة من دمشق"[1].
فهناك - إذًا - كتابة، وإن كانت يسيرة غير مُؤثرة، غير أنَّ مُجرد وجودها - كيفما كان حجمها وكَمُّها - دليل على أن القوم ليسوا في مطلق "الجاهلية"، ويزيد الأمر تأكيدًا ما قاله ناصر الدين الأسد: "وَصَلْنا - بعد الذي قَدَّمْنَا من شواهدَ وأدلة - إلى مفصل من الأمر نطمئن عنده إلى أن الكتابة كانت شائعة عند عرب الجاهلية، شيوعًا يكفي لأن ننفي عنهم ما ألحقه بهم التاريخ الأدبي من وصمة الجهل والأمية"[2].
ووجود الكتابة في هذا العصر، الذي يُعَدُّ مُقدمةً لظهور نضج فكري، ظهرت بوادره مع مَجيء الإسلام - ليس بدعًا في التاريخ، بل إنَّ المجتمعات القديمة الأخرى - كالإغريق والفينيقيِّين والمصريين - عرفوا أيضًا الكتابة قبل الانتقال إلى مرحلة الإنتاج الذي وَصَلَنا عنهم.
وكذلك، فليس المجتمعُ الجاهلي في هذه الدرجة القُصوى من سوء الأخلاق والمعاملات مُطلقًا، بدليل أنَّ القرآن لم يغير المجتمع تغييرًا كليًّا شاملاً، وإنَّما هناك تقريرات مُتعددة ثابتة، كتقرير خصلة الشهامة، والشجاعة، والكرم وغيرها.
وقوم عرفوا الكتابة، واستعملوها في نقش الآثار الدينية والقانونية على الحجارة منذ ألف عام قبل الميلاد - على الأقل[3] - كانوا - لا شَكَّ - على عِلْمٍ بالأساليب المختلفة، وتَمييز صحيحها من رَديئها؛ ولذلك جاء أمر الله - تعالى - لنبيه بأن يخاطبهم بأبلغ القول: (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)[النساء: 63].
ومما يدُلُّ على قوتهم اللُّغوية وبراعتهم الكلامية، ما وصفهم به - عز وجل - حين قال: (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ)[الأحزاب: 19]، وذلك أنه يقال: سلق فلانٌ فلانًا بلسانه، إذا أغلظَ عليه في القول مجاهِرًا؛ قال الفراء: بألسنة سليقة ذربة، ويقال: خطيب مسلاق: إذا كان بليغًا[4].
وفي هذا دليلٌ على أنَّ القومَ كانوا ذَوِي نباهة بصنوف الكلام، ودِراية بفُنون القول؛ ولذلك وجب الحذر في مكالمتهم، والتأني في مُخاطبتهم؛ حتى لا تستعمل إلاَّ "الكلمة" البليغة، المؤدية للمُراد من الإقناع والتأثير؛ قال - تعالى -: (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)[البقرة: 204]، ومثله قوله - تعالى -: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)[الزخرف: 58]؛ قال الشوكاني: "الخصام مصدر خاصم، والمعنى أنَّه أشدُّ المخاصمين خصومة؛ لكثرة جداله وقوة مراجعته"[5]، وكذلك قوله - تعالى -: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)[المنافقون: 4]، وفي كلِّ ذلك دليلٌ على أنَّهم لا يتكلمون إلاَّ ببلاغة فائقة، وبيانٍ ساحر، يستحقُّ أن يسمع له، ولا يسمع إلاَّ لقولٍ له ثقله وميزانه، كما أخبر - تعالى - عن القرآن الكريم بقوله: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) [الأعراف: 204]؛ حيث إنَّ الاستماعَ يكون بالأذن، باعتبارها الأداةَ الخارجية لتوصيلِ المسموع إلى القلب، ثم الإنصات الذي يستدعي الاتجاه الكلي بالقلب والحس والجوارح لاستقبال ما يقرأ.
والنصوص من هذا القبيل أكبرُ من أن يستوعبها هذا الملحظ، وكلها قاطعة في أنَّ القرآن مُعجز في بلاغته، وأنَّ استعمال "اللفظ" الاستعمال الحسن، وجمال الصورة التركيبية - يَملكان على المستمع كل حسه وعقله، ومنها قصص إسلام الجهابذة من أهل الجاهلية، كعمر بن الخطاب - مثلاً - الذي سمع بعضَ آيات من سورة "طه"، فقال من فوره: "ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! "[6].
وكذلك قصة إسلام جبير بن مطعم بن عدي، الذي سمع النبي - عليه الصلاة والسلام - لما جاءه يريد أن يفاديه - يتلو سورة "الطور"، فلما سمع قوله - تعالى -: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)[الطور: 7 - 8] حتى أحس بالإسلام يغزو قلبه، فَيُهْرَعُ بإعلان إسلامه، وهو يقول: "خشيت أن يُدركني العذاب"، وفي لفظ: "كاد قلبي يطير، فأسلم"[7].
وكذلك قصة إسلام بني الأشهل عن بكرة أبيهم، بعد أنْ أسلم سيدُهم: سعد بن معاذ، بعد أنْ سَمع آيات من كتاب الله[8].
ولعلَّ ما تقدَّم كافٍ في إثبات دَوْرِ "الكلمة" في غزو النُّفوس، وتَحريك الوجدان والفكر، وإحداث التغيير، سواء منه الإيجابي أم السلبي، كما تبيَّن أنَّ "الكلمة" القرآنية المعجزة، باستهدافها للخير المطلق، قد أدَّت دورها كاملاً، واستوعبت عوارضَ الزمان والمكان، وصدق الله إذ يقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[إبراهيم: 24 - 25].
المبحث الثاني: دور الأدب - والشعر بخاصة - في الدفاع عن العقيدة:
لا يرتاب أحدٌ في أنَّ السلاحَ الأقوى الذي كان للعرب في جاهليتهم، وحتى مَجيء الإسلام - هو "الشعر"، تلك الأداةُ التي كانت ترفع قبيلةً بأتَمِّها إلى عَنان السماء، وتضع أخرى إلى الحضيض، تلك الأداةُ التي كانت القبيلةُ الواحدة، إذا نشأ فيهم من يَملكها ويحبكها، أقامت الحفلات ودَقَّتِ الطبول، كأنَّما هو قوة هائلة أُضِيفت إلى أسلحتها القديمة.
فبالشعر تدافع القبيلة عن نفسها، وبالشعر تفعم الحماسات، وتكبر الآمال، ويتطلع إلى الأفضل، وبالشعر تتفاضل المواهب، وتتمايز القدرات، كما قال الشاعر:
"الشِّعْرَ لَوْلاَ الشِّعْرُ مَا *** شَبَّتْ عَلَى الطُّغْيَانِ ثَوْرَةْ
الشِّعْرَ إِنَّ الشِّعْرَ مِي *** زَانٌ وَبُنْيَانٌ وَقُدْرَةْ
الشِّعْرَ إِنَّ الشِّعْرَ إِي *** مَانٌ وَبُرْهَانٌ وَعِبْرَةْ" [9]
ولعلَّ في هذين الموقفين ما يُدلِّل على أنَّ الشعر كان أقوى أداةٍ للاستجابة أو الرفض، أوَّلُ هذين الموقفين: شعر الحطيئة في "بني أنف الناقة"، الذين كانوا "يستحيون من لقبهم، ويَخجلون إذا ذكروا به، فجاء الحطيئة، فمدحهم بقوله:
سِيرِي أُمَامَ فَإِنَّ الْأَكْثَرِينَ حَصًى *** وَالْأَكْرَمِينَ إِذَا مَا يُنْسَبُونَ أَبَا
قَوْمٌ هُمُ الْأَنْفُ وَالْأَذْنَابُ غَيْرُهُمُ *** وَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا
قَوْمٌ يَبِيتُ قَرِيرَ الْعَيْنِ جَارُهُمُ *** إِذَا لَوَى بِقُوَى أَطْنَابِهِمْ طُنُبَا
فرفع بهذا المدح هامتهم، وأشاع بذلك شرفهم، فكانوا أشدَّ الناس فخرًا بلقبهم، بعد أن كانوا يغضون من أصواتهم، ويخفضون من رؤوسهم"[10].
فانظر إلى أيِّ حدٍّ استطاعت أبياتٌ يسيرة من الشعر أن تعملَ في نفوس القوم، فينتقلون من ذُلٍّ ومهانة، إلى عِزٍّ ومَكانة.
وأمَّا الموقف الثاني، فهو ما يُمثله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من لين نفس، وفتور شِدَّة، حينما سمع أبياتًا من الحطيئة تعصر القلب، وتبعث في النفس الشجى، فقد كان الحطيئة هَجَّاءً، هاتكًا للأعراض، فسجنه عمر بن الخطاب، ثم عندما أُحْضِرَ من سجنه للمحاكمة، لم يزدِ الحطيئةُ عن قول بضعةِ أبيات شعرية، كان لها أبلغ الأثر في قلب عمر بن الخطاب، وذلك قوله:
مَاذَا تَقُولُ لِأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَخٍ *** زُغْبِ الْحَوَاصِلِ لاَ مَاءٌ وَلاَ ثَمَرُ
أَلْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ *** فَاغْفِرْ عَلَيْكَ سَلاَمُ اللَّهِ يَا عُمَرُ
أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ *** أَلْقَتْ إِلَيْكَ مَقَالِيدَ النُّهَى الْبَشَرُ
لَمْ يُؤْثِرُوكَ بِهَا إِذْ قَدَّمُوكَ لَهَا *** لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِهَا الْأَثَرُ
فَامْنُنْ عَلَى صِبْيَةٍ بِالرَّمْلِ مَسْكَنُهُمْ *** بَيْنَ الْأَبَاطِحِ تَغْشَاهُمْ بِهِ الْقِرَرُ
أَهْلِي فِدَاؤُكَ كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمُ *** مِنْ عَرْضِ دَاوِيَةٍ يَعْمَى بِهَا الْخَبَرُ
فبلغ التأثير من عمر - رضي الله عنه - أَنِ انحدرت الدُّموع من عينيه؛ مِمَّا جعله يتراجع في قراره بالسجن، ويطلق سراحه[11].
وما كان لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو الرجل الشديد أنْ يَلينَ جانبُه بهذه الصورة، لولا التأثيرُ البالغ لهذا الشعر في نفسيته، كما يدل على سَلامة ذائقته للشعر، وفهمه لمعانيه.
ويزداد الاهتمام بالأدب، وتتضح معالِمُ القوة والطاقة التي يَمتلكهما الشاعر أو الخطيب، حينما يصبح سلاحًا يثبت دوره في أشدِّ المعارك، وأحلك الظروف.
فقد جاء وَفْدُ بني تَميم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد، جئناك نفاخرك، فَأْذَنْ لشاعرنا وخطيبنا؟ قال: ((قد أذنت لخطيبكم، فليقل))، فقام "عطارد بن حاجب"، فألقى خطبته، ثم رد عليه خطيبُ الرسول: "ثابتُ بن قيس بن الشماس" لما قال له: ((قُم فأَجِبِ الرجلَ في خطبته))، ثم قام شاعرهم: "الزبرقان بن بدر"، وقال شعرًا يفخر فيه بنفسه وعشيرته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: ((قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال))، فأجاب بقصيدته المشهورة التي مستهلها:
إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتَهُمْ *** قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ
عند ذلك قال أحد أشراف بني تميم - وهو الأقرع بن حابس -: "وأبي، إنَّ هذا الرجل لمؤتى له، لَخطيبه أخطبُ من خَطيبنا، ولشاعِرُه أشعرُ من شاعرنا، ولأصواتُهم أعلى من أصواتنا، ولهم أحلمُ منَّا"[12]، ثم لَم يَلْبَثِ القومُ أن أسلموا.
ولأهمية الشِّعْرِ في الإسلام، وما يَختص به من نفع كبير من حيث الدَّعوة إلى المبادئ الطيبة، والتوجيه إلى الأخلاق السامية، رأينا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تتعدد مواقفه في مدح الشعر والشعراء، من ذلك ما رواه الإمامُ مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه أنَّه قال: "ردفت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: ((هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟))، قلت: نعم، قال: ((هيه))، فأنشدته بيتًا، فقال: ((هيه))، ثم أنشدته بيتًا، فقال: ((هيه))، حتى أنشدته مائةَ بيت، وفي رواية قال: ((إنه كاد ليسلم))"[13].
ومما رواه مسلم - أيضًا - عن رافع بن خديج قال: "أعطى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حنين أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وأعطى عباسَ بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَي *** دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلاَ حَابِسٌ *** يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا *** وَمَنْ يُخْفَضُ الْيَوْمَ لاَ يُرْفَعُ
قال: فأتمها له رسول الله[14] - صلى الله عليه وسلم - مائة".
فانظر كيف استجابَ الرسول لعباس بن مرداس، بعد سَماعه لتلك الأبيات، التي أدَّت دَوْرها - كاملاً - في الإقناع والتأثير.
والنصوص في هذا المجال عديدة، تتلَخَّص في أن الشعر كان من أهمِّ الأسلحة التي كانت تقع على النَّفس كأنَّها السهام في غبش الظلام، بل أشد، كما أخبر بذلك - عليه الصلاة والسلام - حين أمر شعراءَ المسلمين بقوله: ((اهجوا قريشًا؛ فإنه أشد عليها من رشق النبل))[15]، وقال: ((هجاهم حسان، فشفى واشتفى))[16].
المبحث الثالث: علاقة الأدب بالعقيدة:
يجدر بنا - ونَحن نُحاول إبرازَ مظاهر "الإسلامية" في الأدب - أنْ نُحدِّدَ منطلقنا أولاً؛ حتى نطمئِنَّ إلى البحث عن هذه المظاهر، وذلك بمعرفة: هل ترسيخُ علاقة الدين بالأدب أمر طارئ أمْلَته طبيعةُ التغيرات المعاصرة، أو هو امتداد لدعوات إنسانية استلزمتها طبيعةُ الأدب وطبيعة العقيدة معًا؟ هذا ما سنحاول توضيحه جليًّا، من خلال استعراض يسيرٍ لمسيرة مصاحبة الأدب للعقائد، كيفما كان نوعها ومصدرها، وكيفما كان زمانها ومكانها.
لقد دلت الدراسةُ الحديثة للجذور الأولى لفن القول على أنَّ الأدبَ لم ينشأ - في أي زمان وفي أي مكان - منفردًا منعزلاً عن ظاهرة المعتقد، بل إنَّه لا يُمكن تصوُّر أن "يعيش الأدب منضوحَ البيان بالسحر الحلال وفصل الخطاب، إلاَّ في حمى الدين"[17]، وهذا ما أجمع عليه دارسو تاريخِ الآداب العالمية - حسب اطلاعي - بل إنَّ المؤرخين من المسلمين ومن غير المسلمين - وهم يبحثون في نشأة الإنسان والمراحل التي قطعها عبر الأزمان - وقفوا مليًّا عند قضية أسبقية الوثنية على التوحيد أو العكس.
فعامة المؤرخين غير المسلمين، ومن قلدهم من المسلمين يَرَوْن - تبعًا لنظرية التطور - أنَّ الإنسان تطور عبر ثلاث مراحل:
• "الإنسان المائي"؛ حيث يزعمون أن الإنسان كان من ضمن الحيوانات البحرية، باعتبار أن الأرض ليست - في أول أمرها - سوى قطعة انفصلت عن الشمس في أثناء دورانها، ثم برد سطحها - وإن كان باطنها لا يزال على حرارته - وقد أحاطت بها المياه التي توالدت فيها - بطول الزمن - حيوانات مائية كان من ضمنها الإنسان.
• ثم تأتي بعدها مرحلة: "الإنسان البرمائي"، لما بدأ يخرج من البحر إلى اليابسة يرعى الحشائش.
• ثم مرحلة: "الإنسان البري"، لما انفصل نهائيًّا عن معيشة البحر، إلى أن تَميز عن باقي الحيوانات.
والذي يهمنا من هذا السرد أنَّ هؤلاء الذين ارتضوا هذا الافتراض الذي يرجع بأصل الإنسان إلى الحيوانات، يزعمون "أنَّ الإنسان عرف الدين في هذه العصور النائية من التاريخ البشري، وإن كانوا يَختلفون في كيفية تديُّنهم أولَ مرة، إلا أنَّهم متفقون على أن الوثنية قد سبقت في تاريخه - أي الإنسان - التوحيد، والكثير منهم يرى أنَّ أول معرفة الإنسان بالدين كان على الطريقة المعروفة عند بعض الباحثين المتأخرين (بالطوطمية)"[18].
نستنتج أنَّ الإنسانَ قد عرف التدين منذ أنْ أوجده الله - تعالى - على الأرض، واستمر في علاقته بالدين إلى اليوم، ومن ثَمَّ تبرز الإجابة الصريحة في أن كل فن ابتكر - ومنه الأدب - في طيلة التاريخ الإنساني، لا بُدَّ أنْ يكون مُستَمِدًّا جذوره من المعتقد.
والديانة إذا كانت الهواءَ الذي يتنفسه الإنسان منذ وجد، والذي يَملأ حياته وكيانه من كل جوانبهما، لا بُدَّ أن يكون لها دخل في النشاطات كلها، وهي تدخُل "بكثرة في الأدب، وكأنَّها تبرهن على دَوْرها البارز في الوسط والمحيط الذي يعيش فيه الكاتب"[19].
بل نستطيع أن نذهب بعيدًا؛ لنقرر أنَّ الأدبَ قد ساعد الشعوبَ التي كانت في غفلةٍ عن مَعرفة الخالق على التعرُّف على أسرارِ الوجود، وتعليل أسباب الأشياء، وعلى رأسها البحث عن الخالق، الذي نسجت الأناشيد الدينية من أجله؛ تَمجيدًا وتَخليدًا، وابتهالاً وتعبدًا"[20].
فهذا أقدم ما وصلنا من الأدب، وهو الأدب اليوناني، من أشعار ناضجة متكاملة، قد أوضح الدارسون أنه "ورد في بعض الأساطير اليونانية أنَّه قد ظهر في أقدم العصور التاريخية عددٌ من الشعراء الغنائيِّين الدينيِّين؛ أي: الذين تدور قصائدهم حول الشؤون الدينية، كتمجيد الآلهة، والتوسُّل إليها، وما إلى ذلك"[21].
فانظر إلى أيِّ مدى أشربت الفنون الأدبية اليونانية العقيدةَ حتى اختلطت بها، "وارتبط أدبُ قدماء اليونان ارتباطًا وثيقًا بمعتقداتهم الدينية، ومعبوداتهم التي ألهمت الشعراء والكتاب".
ومن خلال دراسة مُمحصة دقيقة يتوصل د. محمد صقر خفاجة إلى أنَّ الأناشيد والملاحم هي أول فنون الأدب اليوناني، ظهرت في مرحلة ما قبل التاريخ، أو عصر الأبطال والأساطير، وتبدأ هذه المرحلة بنزوح القبائل الآرية إلى بلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، وتنتهي في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد تقريبًا، وأهم آثارها الأدبية: التراتيل الدينية والملاحم[22].
كما أن "جورجي زيدان" اعتنى بتقسيم آداب "اللغة اليونانية" إلى أطوار سبعة، وذكر في الطور الأول منها - وهو العصر الخرافي - "ويراد به أقدم أزمان الأمة اليونانية، ولم يبقَ منها إلاَّ القصص الخرافية عن الآلهة ونحوهم؛ مِمَّا يسمى في اصطلاح الإفرنج (ميثولوجيا)، وهو يبدأ قبل زمن التاريخ، وينتهي إلى القرن التاسع قبل الميلاد"[23]، كما أنَّ المسرح اليوناني نشأ في أحضانِ طقوسٍ دينية، كانت غالبًا ما تؤدَّى في معابد، ويتوسل فيها بالقص الأسطوري، وترتيل الأناشيد الدينية..."[24]، و"كان الشعر يوقع على نغمات العود، كما ارتبطت المسرحيات عندهم بأناشيد الجوقة، فكان الشعراء يمدُّون قومَهم بالخيال والعاطفة إلى الحكمة، في طريق مُحَلًّى بزهور الكلمات والنغمات"[25].
ومن أنضجِ وأشهر ما وصلنا من الأدب اليوناني: "الإلياذة والأوديسة" لهوميروس، وكلاهما في المجال الديني أيضًا، أما الإلياذة (hiad)، فهي مكونة من "15537" بيتًا، مُوزعة على "24" نشيدًا، مضمونها: تصوير الأسابيع الأخيرة من حرب طروادة، ومدارها على ثلاث إلهات من اليونان، أوقعت بينهُنَّ الإلهة (إيريز - iris) شقاقًا.
وهكذا نرى أنَّ شخصيات هذه الملحمة مُعظمها إلهات، فـ(أفروديتا): إلهة الحب والجمال، و(أثينا): إلهة الحكمة والذكاء، وكبيرة الإلهات زوجة (زيوس) كبير الآلهة... وهكذا.
وأمَّا (الأوديسة odyssey)، فهي مكونة من "12000 بيت، موزعة كذلك على "24" نشيدًا، وأحداثها مترتبة على أحداث "الإلياذة"، كل أبطالها تشملهم الآلهة في كل مكان، كالإله (منيلاوس) وزوجته (هيلينا)، و(أودوسيوس) وزوجته (ينيلوبا)، وابنه (تليماخوس)، وهكذا. [26]
ويضاف إلى كل ذلك أنَّ الخطابة كالشعر كانت مشحونة بالتصوُّرات العَقَدِيَّة، وليس تصور "أفلاطون" للشعر أنه "إلهام" ببعيد، وهل الفلسفة والفكر اليونانِيَّان إلاَّ نقدًا للأدب، الذي عالج العقيدة منذ ظهوره؟
كما أنَّ آدابَ الروم كانت "أوائل منتوجاتها مستهلة بالأناشيد الدينية، وأنَّ أنشودة الأناشيد التوراتية: مزامير، توقيعات عبادية"[27].
وعن شِدَّةِ ارتباط الأدب الروماني بالعقيدة يقول: (ج. و. دف): "ومن المحال أن نقرأَ (ليفي) دون أن ندركَ على الدَّوام التوكيد الذي وضعه الرُّومان على الخوارق، والكفارة، وإرادة الآلهة، وقيام الناس بالطقوس كما يجب، ومن المستحيل فهمُ (فرجيل) إذا تناسى المرء (الإنيادة) الديني العميق.
فالنظرة العلمية في الديانة الرومانية تقابل الإنسانَ في كل مكان: في أصولها وتطورها وتطبيقها على الدار وعلى الدولة، وتحويرها الدقيق، وتسامحها نحو الأديان الجديدة"[28].
وإذا ما انتقلنا إلى الشعر الساترني، وهو من أقدم الشِّعر اللاتيني بعد اليونان بقليل، نرى أنَّ الموضوعات الدينية أو الحماسية أو الشعبية، كانت "هي أهم ما عولج في الشعر الساترني، وتدل الإشارات القديمة - وكذلك طبيعة الأشياء - على أنَّ الديانة بسطت رعايتها على هذا الشعر في بدايته"[29].
وعند التحدُّث عن علاقة الآداب الأوروبية بالعقيدة، نرى أن الكتابة السريانية "كانت قبل المسيحية لغةَ الدين والأدب والعلم في (حران) معقل الوثنية فيما بين النهرين"[30]، ثُمَّ بعد مَجيء المسيحية أصبح "المؤلفون متأثرين بأسلوب الكتاب المقدس، وكَثُرت في كتاباتهم الاصطلاحات والاستعارات المستقاة من الكتاب المقدس"[31].
بل كانت الديانة النصرانية تعزل الكتابات التي لا تساير ركبها، وتَحول بينها وبين الخروج من معقلها، لا لشيء إلا لأنَّها لم تساير العقيدة، ولم توافق آراءها.
والدارسون يرَوْن أنَّ الآداب الأوربية يَجري عليها المقياس نفسه الذي عرفناه في آداب اللغة اليونانية، فقد عقب جورجي زيدان - بعد أن أوضح الأطوار التي مر بها الأدب اليوناني - قائلاً: "هذه خلاصة تاريخ آداب اللغة اليونانية، فقِسْ عليها تواريخ سائر اللغات الأوربية... فإنَّها كثيرة الشبه بها، من حيث تناسق عصورها، بالنظر إلى نشوء العلوم فيها، فإن أقدم آدابها - دائمًا - الشعر الديني، يليه الشعر القصصي التمثيلي، فالغنائي... "[32].
ثم إذا ما انتقلنا إلى الأدب الفارسي، وجدناه - أيضًا - غير منفصل عن سنة الآداب الأخرى؛ من حيث امتزاجه بالعقيدة والتعبير عنها، وقد أخطأ مَن أغفل رَبْطَ الحماسة بالآلهة والأبطال - كما يجب أن يكون - وكذلك فعل "الفردوسي" في "الشاهناما"، وهذا ما يعبر عنه أحد الباحثين المحدثين بقوله: "وجاء الشعراء بعد الفردوسي ينسجون على منواله، وفيهم جماعة اتَّخذوا من ملوك عصرهم أبطالاً، نظموا لهم شاهنامات، وخَفِيَ عليهم أنَّ الشعر الحماسي يَجب أن يكون له مادة من الأساطير، تَجعل جوَّه مليئًا بآثار القدم، تجول فيه الآلهة والأبطال، بعواطفهم الكبيرة، وأعمالهم العظيمة، مُحاطين بهالة من الخيال"[33].
وبتجميع ما تَمَّ الحصول عليه من نقوش متفرقة على الأحجار، والأواني، والآلات، والموازن الحجرية، وفصوص الخواتم الأثرية، ودراسة كل ذلك - يتبين أنَّ هذه النصوصَ كلها تدُلُّ على ما عرفوه من أسماءِ الملوك، وتدوين شرح لأحوال المماليك، والفتوحات، وما تَمَّ فيها من أعمال، "وكذلك تتضمن مدح الخالق، وتقبيح الكذب وكل ما هو سيِّئ"[34].
كما نشأت عندهم لغة خاصَّة هي لغة "الأَفِستاء"، اهتمت بأمور الدين، واختص بها رجاله، وكانت تطلق على "لغة كتاب "زرادشت" الديني، وهي في الحقيقة لغة من اللغات الإيرانية، ذات قرابة بالفارس القديم، وكانت هذه اللغة خاصة برجال الدين والكتب المقدسة"[35].
يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 02:53 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
والأَفِستاء هذه عبارة عن "تراكيب أدبية، وجمل فصيحة قوية في حَمْد الله، وفي وصف الصنيعة، كما أن قسمًا منها منظوم مُقَفًّى، وهو القسم المسمى "بالكاتا"... وهي عبارة عن أدعية ومناجاة، وأشعار أخلاقية قيمة، كما أنَّها تعرض ألطف العواطف الدينية في ذلك العصر"[36].
ولغة النصوص هذه تفيد إفادة جلية لا غبار عليها أنَّ حَبْلَ العقيدة قد انتظم كلَّ الآداب القديمة دون استثناء، وأنَّ هذه العلاقة العقدية الأدبية علاقةٌ مطردة في كل أدب، فماذا عن هذه العلاقة فيما يخص أدبَنا الجاهلي؟
سنترك - كذلك - لغة النصوص تتحدث، وسنستنتج أنَّ الآداب العربية لم يكن لها لتشذ عن باقي الآداب الأخرى.
توصل بعض الدارسين من المستشرقين وغيرهم إلى أنَّ العلاقة الأولى للأدب الجاهلي كانت بـ"السحر"، وذهب آخرون على أنَّها كانت بـ"الكهانة"، وأثبت فريقٌ ثالث أنَّ الأدب العربي كان معبرًا عن "طقوس دينية" كسائر الآداب.
ومهما يكن الأمرُ، فإنَّ السحر والكهانة "مترادفتان عند الأمم الوثنية، وإنَّهما جزء من طقوس العقيدة، فالكاهن والساحر شخصِيَّتان دينِيَّتان، يلجأ إليهما الوثني؛ ليحل مُعضلاته، وارتباط أوليات الشِّعر بهما يعني ارتباطه العميق بالعقيدة"[37].
يقول "كارل بروكلمان": "وإذا نحن صرفنا النظر عن بابِ الهجاء من ذلك الشعر، وجدنا الرَّوابط التي كانت تربط بين الشعر والتصوُّرات السحرية والدينية عند العرب - كما هو عند غيرهم من الشعوب البدائية الأخرى - قد انحَلَّت تمامًا في الشعر العربي"[38].
فهو يرى أنَّ الشعر العربي لم يَخْلُ من ملجأ يفزع إليه عند الحادث الجلل، وهو "السحر"، باعتباره يُمثل تلك القوة المذهلة الخارقة، التي تستطيع تفسير الغيب، وتَحليل عالم الجن والشياطين والماورائِيَّات؛ ولهذا اندهش العرب ببلاغة القرآن وبيانه الأَخَّاذ، فقالوا: "سحر"، وقالوا في النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ساحر".
ونقل "حنا الفاخوري" قول "نولدكه" في أنَّ الشاعر كان: "نبي قبيلته، وزعيمها في السلم، وبطلها في الحرب"[39]، وكلمة "نبي" تحمل بين طِيَّاتِها كلَّ معاني ما يُمكن أن يعتقده الجاهلي، ويَجعله مناط اهتمامه، ونقطة ارتكاز تصرفاته.
وذهب "أحمد حسن الزيات" إلى أنَّ نَشْأَة الأدب العربي، قد ارتبطت "بالكهانة"؛ إذ يرى أنَّ هذا الأدب قد مر بأطوار مختلفة، وكانت الكهانة من أول هذه الأطوار؛ يقول: "والمظنون أنَّ العرب خطوا من المرسل إلى السجع، ومن السجع إلى الرجز، ثم تدرجوا من الرجز على القصيد، فالسجع هو الطور الأول من أطوار الشعر، توخَّاه الكهان مناجاةً للآلهة، وتقييدًا للحكمة، وتعمية للجواب، وفتنة للسامع"[40]، ثم يقرن "الزيات" بين هذه النشأة، ونشأة الأدب اليوناني، فيقول: "وكهان العرب ككهان الإغريق، هم الشعراء الأولون"[41].
ومن مظاهر ارتباط الشعر بالمعتقد أنَّهم كانوا يرون أنَّ كلَّ شاعر معه شيطان يلهمه الشعر، فيقوله على لسانه، حتى جعلوا الشياطين قبائل، فكان حسان من "بني الشيصبان"، كما يقول هو نفسه:
إِذَا مَا تَرَعْرَعَ فِينَا الْغُلاَمُ *** فَمَا أَنْ يُقَالَ لَهُ مَنْ هُوَهْ
إِذَا لَمْ يَسُدْ قَبْلَ شَقِّ الْإِزَارِ *** فَذَلِكَ فِينَا الَّذِي لاَ هُوَهْ
وَلِي صَاحِبٌ مِنْ بَنِي الشَّيْصَبَانِ *** فَطَوْرًا أُقُولُ وَطَوْرًا هُوَهْ [42]
وكذلك كان الشعراء في الجاهلية ذوي مكانة عالية، يضاهون رؤساءَ القبائل، وكلمتهم فوق كل كلمة، وقولهم أمضى من السنان.
ويَدُلُّ شعر زهير بن أبي سُلمى على أنه قد اصطبغ بكثير من العبارات والمعاني الدينية، والدعوة إلى ترسيخ المبادئ الأخلاقية في المجتمع الجاهلي، فجاء مشحونًا بالحكمة، والتفكر في الوجود، وما بعد الموت، كمثل قوله:
فَلاَ تَكْتُمُنَّ اللَّهَ مَا فِي صُدُورِكُمْ *** لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللَّهُ يَعْلَمِ
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ *** لِيَوْمِ الْحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ [43]
وهذا صريح في إيمانه بالله واليوم الآخر.
والأعشى يُعَدُّ آخِرَ من ذُكِرَ الدين على لسانه من الشعراء الجاهليِّين، وذلك في قوله:
أَلاَ أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ *** فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا
فَآلَيْتُ لاَ أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ *** وَلاَ مِنْ حَفًى حَتَّى تُلاَقِيَ أَحْمَدَا
مَتَى مَا تُنَاخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ *** تُرَاحِي وَتَلْقَيْ مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى [44]
وليس بعيدًا أن يستنتج من تلقيبه بـ "صناجة العرب" أنَّ شِعْره كان ترتيلاً ولَحنًا، يمكن أن ينطوي على سمات أشعار دينية؛ ولذلك قال أحد الدارسين المحدثين: "وقد غلوتُ، فرددتُ هذه النزعة إلى الشعر الديني الجاهلي، الذي لم يصل إلينا، ولست أشكُّ أنه كان لحنًا عباديًّا في أصوله البعيدة"[45].
وفي إطار الكتابة التي عرفها الجاهليون - كما سبق إثبات ذلك - نجد أنَّ الموضوعات التي تناولوها - على الرغم من مَحدوديتها - كانت داخلة في إطار العقيدة؛ لذلك نقل "ناصر الدين الأسد" عن "المقريزي" في "إمتاع الأسماع"[46] قوله: "وأول هذه الموضوعات التي كانوا يدونونها: الكتب الدينية"[47].
ولعلنا قد توصلنا من خلال هذه النُّصوص إلى اقتناع كامل بأنَّ العقيدة كانت المحضن الأول للأدب، فيه ترعرع، وبين أكنافه نَما، ومن مادته اغترف، ومِنْ ثَمَّ، فليس سديدًا أن يتنَكَّر الأدبُ للعقيدة، ويضرب بها عُرْضَ الحائط، ونَسِمُ هذا النوعَ من الشعر بأنه شعر ديني، ثم نذهب نبحث له عن أصول غير محضنه الأصلي.
المبحث الرابع: نحو مذهب أدبي إسلامي:
لقد اتضح مما سبق أنَّ الأدبَ ضرورة إنسانية، صاحب كل أطوار الإنسان، وأنَّ علاقته بالفكر والمعتقد كانت وطيدةً منذ نشأته الأولى إلى يومنا هذا، فلا يَخلو مذهبٌ أدبي من فكر سابق، ومُعتقد راسخ، جاء الأدب ليعمقه ويَخدمه، وإذا سبق بيانُ ذلك بالنسبة للآداب القديمة، فإنَّ الاتجاهات الحديثة ليست بمنأًى عن هذا النُّزوع، كما هو الشأن بالنسبة للكلاسيكية، و"الرومانسية"، و"الواقعية الاشتراكية"، و"الوجودية"، و"البنيوية" التي كادت تكتسح جانبَ الفكر والاقتصاد والاجتماع والأدب جميعًا.
فكان بعضُ هذه المذاهب يُخطط لنفسه - قبل الشروع في التطبيق - نوعيةَ الأفكار (المعتقد)، التي يَجب أن يعالِجَها الأدب، وخط التشبع النفسي الذي يتوجب على الأدب أن يكون خادمه الأمين، وموجهه الوفي.
فالشيوعية - مثلاً - قبل أن تعلن مذهبها الأدبي الذي يخدمها ويحدد أهدافها - أسست مجموعة من المبادئ والأفكار، جمعها كتاب "البيان الشيوعي"، وكتاب "رأس المال"، هذا الأخير الذي كانوا يسمونه "إنجيل العمال"، إلى أَنِ اكتملت "نظريةُ الأدب الشيوعي" على يد "غركي" و"لينين"، وكذلك الأمر بالنسبة للوجودية، فهذا "سارتر" يصدر مقالات مُتعددة عن الوجودية، ويُحدد نظرية "الأدب الوجودي" في كتابه "مواقف".
وهكذا، فإنَّ الأدب يجب أن يوافق المعتقد، يَجب أن يكون الحارس المطيع لمتطلبات هذه العقيدة، والويل لمن ينبس ببنت شفة خارجَ الإطار الشيوعي أو الوجودي، فإنَّ ذلك يُعَدُّ "رِدَّة" وخروجًا عن النظام، ومروقًا عن طبيعة الأمور، والمخالف يعاقب عقابًا شديدًا.
ولعلَّ الدواعي الباعثة على إيجاد أدب صادق، يعبِّر عن العقيدة الإسلامية، بكل ما يحسه المسلم تجاه خالقه والكون - قد تضافرت، ولم يعد هناك مجال يدعو إلى غض النظر عن هذا الجانب.
ولعل بعضَ الكتابات التي تَمُتُّ بصِلَة إلى هذا المجال، ما هي إلا موضوعات عقدية في قالب من الكلمات، حقها أن تصنف في دائرة "الفكر" لا "الأدب"، وهو ما ينتظر من ذوي الاختصاص أنْ يضعوا حدودًا لمفهوم الأدب الإسلامي الحق.
ثُمَّ إنَّ الأدباء أصحاب هذه الرسالة، أحسوا غبنًا شديدًا، حين يرون المطابع طافحة بأنواعٍ من الأدب والنقد، التي تتخذ من الفن مذهبًا، ولا تنظر إلى المضامين، التي يرون أنَّها يَجب أن تكون مُعبرة عن هموم الأمة، لائطة بآلامها وآمالها؛ مِمَّا يُبِين عن ضرورة الرجوع إلى أصول قوانين القول في الإسلام، ثم استلهام أسس الأدب المنشود تتبلور في شكل "نظرية" قائمة بذاتها.
فالدواعي - إذًا - متعددة، والمقتضيات متوافرة متداعية؛ للبحث عن أدب إسلامي يُحدِّد منهج الأدباء، ويرسم لهم السبيلَ المُثْلَى للاحتذاء والاقتفاء.
لا جرم إذًا طرح السؤال: أين الأدب الإسلامي الناضج؟ وما الطريقُ الموصلة إليه؟ وكيف السبيل إلى تحقيق أدب ذاتي قومي، مصدره العقيدة الصحيحة الصافية؟
ولْنُلْقِ نَظْرَةً خاطفة حول سير الأدب الإسلامي في عالمنا المعاصر:
فالفكرة ظهرت سنة 1952م حين نادى "سيد قطب" بضرورةِ إيجاد أدب إسلامي، عضده بتطبيقٍ جاد في جريدة: "الإخوان المسلمون"؛ حيث كان يشرف على "باب الأدب" فيها، وكتب مقالات تحت عنوان: "منهج الأدب"، ثم استمرت الفكرة في التبلور إلى سنة 1961م، لما خرج "محمد قطب" على الناس بكتابه القَيِّم: "منهج الفن الإسلامي"؛ حيث زاد الفكرةَ إيضاحًا، وعضدها بمجموعةِ أفكارٍ متقدمة متطورة؛ مما كان يُنبئ بإيجاد حركة أدبية إسلامية مُستقبلية ناضجة، فكتب "نجيب الكيلاني" سنة 1963م كتابَ "الإسلامية والمذاهب الأدبية"، وهو مقارنة جادَّة بين الآداب العالمية المعاصرة، وبين ما يَجب أن يكون عليه الأدب الإسلامي، مُعضدًا ذلك بشواهد ذاتية وغيرية.
والكتاب أضاف لبنةً جديدة إلى البناء الذي أخذ في النهوض والسموق، ثم تلاه "عماد الدين خليل" بكتابه "في النقد الإسلامي المعاصر" سنة 1972، وهو استجماع لعددٍ من مقالات متفرقة تعالج الموضوع، ثم توسعت الدعوة، واتَّخذت طريقها المعتدل بندوة "لكهانو" بالهند حول "الأدب الإسلامي"، عرفت بـ"الندوة العالمية للأدب الإسلامي"، بدعوة من الشيخ "أبي الحسن الندوي"، وكان لها أثر واسع ومردود طيب على الحركة الأدبية في ديار المسلمين، وتلتها ندوةٌ مُماثلة بالمدينة المنورة عالَجت كذلك الموضوع معالجةً ناضجة جادة[48].
ولعل أبرزَ أثر في هذا المجال تلك السلسلة المباركة من الكتب التي تناولت دراساتٍ شاملة للأدب الإسلامي ونقده، والتي تُعَدُّ بناءً نقدِيًّا عمليًّا جادًّا لتكوين نظريةٍ شبه مُتكاملة للأدب الإسلامي، واتَّخذت طابع التطبيق إلى جانب الطابع التنظيري، وقد صدر منها إلى الآن:
1- "مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي"؛ للدكتور عبدالباسط بدر، وهو كتاب جيد، حاول أن يُعطي صورة "نظرية" دقيقة لما نطمح أنْ يتخذه أدبنا الإسلامي من السبل؛ لتصحيح مساره، وتَحقيق استقلاليته، مشفوعًا بطرح عدة تساؤلات قد تنتاب كلَّ مَن له حظ في الحقل الأدبي، ورَدَّ فيها بأجوبة شافية صائبة ممنهجة.
2- "من قضايا الأدب الإسلامي"، للدكتور صالح آدم بيلو، أبدى فيه المؤلفُ الدلائلَ الكافية على موقف الإسلام المُشَرِّف من الأدب بعامة، والشعر بخاصة، مستدِلاًّ على ذلك بعَدَدٍ غير يسير من النماذج، التي ذخرت بها السيرة النبوية، بعد أن أكد إعجازَ القرآن البلاغي والأدبي، وأنَّه المثال الأعلى للأدب المتكامل، مع رد على الشبهات المطروحة، وتعضيد دعوته بنماذج حية.
3- "الواقعية الإسلامية في الأدب والنقد"، للدكتور: أحمد بسام ساعي، وقد شمل تحديدَ نظرية إسلامية في "النقد الواقع والحقيقة والفعل"، وفي تَحديد آفاق الواقعية الإسلامية، متخذًا لذلك نماذجَ من الشعر والنثر لمختلف الأدباء المعاصرين.
4- "مقدمة في دراسة الأدب الإسلامي"، للدكتور مصطفى عليان، وقد اهتَمَّ بوضع موازنة بين عدة موضوعات جاهلية وإسلامية، وبتحليل عميق للنصوص الواردة، معتمدًا على الدراسة النفسية، كموضوع "الفروسية"، والعلاقة الثنائية بين الزوج وزوجته قبل ذهاب الزوج للجهاد، مع تصوير التنازُع النفسي العارم في لحظات الوداع.
5- "نصوص من أدب عصر الحروب الصليبية"، للدكتور: عمر الساريسي، وقد عرض فيه المؤلف مجموعةً من النصوص الشعرية، التي تناولت قضيةَ الحروب الصليبية منذ بدايتها، وركَّز على الأشعار التي قيلت في انتصاراتِ المسلمين، وبخاصَّة انتصارات "صلاح الدين الأيوبي"، وذلك بعد أن ألقى نظرةً تاريخية على هذه الحروب، مقسمًا ذلك إلى مراحل تاريخية معينة.
وقد كان لهذه السلسلة دَوْرٌ كبير في تأكيد وجود نظريات التأسيس لكِيان أدبي إسلامي ناضج، يُحقق شخصيتنا، وينافس المذاهبَ العالمية الأخرى.
وقد تَخلَّل هذا العملَ النقدي وما سبقه من مُحاولات بُحوثٌ مُتعددة، وندوات متتابعة، خاصَّة في الهند التي احتفت بالموضوع أيَّما احتفاء، وعملت على تشكيل ندوات ومناقشات مفيدة.
ولعلَّ ما يبشر بتنامي الرغبة في تطوير هذا المشروع وجود ثلة من الأدباء في كلِّ البلاد الإسلامية، وبقدرٍ يسمح بتغطية الساحة الأدبية، وما ذكره كثير من المستشرقين، وبعض أتباعهم من المسلمين، من أن الأدب الذي يُمثل الإسلامَ منعدمٌ، أو على الأقل نَزْرٌ يسير - من الوهم الذي لا يصح، و"ينقضه ويرده هذا التراث الرفيع، المشبع بروح الإسلام، وهو تراث ورثه الخلف عن السلف، وسيبقى كذلك بمشيئة الله خالدًا في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها"[49].
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تحققت "نظرية الأدب الإسلامي" التي كانت تصبو إليها هذه الجهود؟ وهل الأدب الذي نظر في هذه القضية، أو بنيت عليه هذه النظرية من الآداب الحديثة - يُمثل اتجاهًا أدبيًّا إسلاميًّا يُمكن أن ينعت بالقدوة والمثال، ويرتاح إليه جمهور القراء المتعطشين لما يغذي حاجاتهم الروحية؟
إنَّ الأديب المسلم رجل تغيير، لا يرضى بالواقع المخالف لمعتقده فيسوغه، ولا ينحاز إلى قضايا غير أخلاقية وغير دينية، فيعبث بفَنِّه وإحساسه، إنَّه رجلٌ تشبع بقوى هائلة، تَمنحه التصور الحي النابض بالحقيقة والصدق للإنسان والكون والحياة، في إطار علاقاته مع الآخر، إنَّه رجل يستنكف عن الركون إلى الدعة والصمت، والارتكاس في مناهج "الغير" وأدواته، رجل ينشد الحرية والاستقلال... رجل ينشد أكثر من ذلك... ينشد "الجنة".
إنَّ الأديب المسلم متى ما اكتمل لديه هذا التصور، كان ثورةً على السائد، فكان إيجابيًّا، سلوكيًّا، حركيًّا، هادفًا للمفيد وال والتقى.
إن ما يَملكه من موهبة ورهافة حس هو منحة من الخالق المدبر، والأديب المسلم يعترف بهذه المنحة، فيربأ بنفسه عن أن يستعملَها في إشباع الذات، ووصف نزوات النفس ورغباتِها، فينطلق في أدبه من منطلق مرضاة صاحب النعمة، إنَّ هذه الازدواجية هي التي عبر عنها محمد قطب بـ: "الفقيه الفنان"، أو "الفنان الفقيه"، انطلاقًا من أن العالم الإسلامي - في مجال الأدب - في حاجة إلى "مسلمين يعيشون الإسلام في حسهم حقيقةً واقعة، ويتلقون الحياة كلها بحس إسلامي، ومن خلال التصور الإسلامي، فنانين في ذات الوقت، يعبرون عن هذه الحقيقة الواقعة في حسهم بصورة جميلة موحية، تتحقق فيها شروط الفن، ومقاييس الجمال التعبيري"[50].
هذا النوع من الأدباء هو الذي "يدفع بالحياة إلى التجديد والتطور والرقي، ويدفع بالطَّاقات البشرية إلى الإنشاء والانطلاق والارتفاع"[51]؛ لأن الأديب مصلح اجتماعي، يُخاطب الجماهير، ويدعوهم إلى الحق، يبين ما فيه بعضهم من زيغ، ويطرح بين أيديهم البديل المنشود، بصورة مؤثرة مُقنعة، يغلفها حسه الأدبي، وتكنفها موهبته اليانعة، وشعوره العميق، ثم خبرته الدَّقيقة بما يراه ناجعًا صائبًا.
وها هنا سؤال مهم: إذا توافرنا على أديب مسلم مخلص - فنان - هل يَجد في الدين كل ما يُحقق موهبته، ويكفل انطلاقاته وسبحه الخيالي؟ أليس الدين تقييدًا لهذا الخيال الكاذب، الذي ينافي ركائز العقيدة؟
والحقيقة أن التقييد إنَّما يكون بالنظر إلى نوعية العقيدة، فـ "الماركسية" - مثلاً - التي لا تؤمن بسوى الصراع الطبقي المادي، وصراع المتناقضات "الدياليكتيكية الجدلية"، والعمل للبطن والشره والاكتناز، ولو على حساب المقهورين المتذمرين، هذه العقيدة التي ضيقت الخناق على الشَّعب، وجعلت ممتلكاته "تأميمًا"، وحرياته تكبيلاً، لا شَكَّ أنَّها ضيقة الأفق، مَحدودة الاتجاه، مقيدة الخيال، الذي ينبثق عن حرية كاملة، وعن نفس مطمئنة، ومن ثَمَّ، فالتقيُّد بها ضرب من كبت النفس، والازدراء بالمشاعر الإنسانية، وإقحام للانطلاقات المبدعة، التي دافعها الراحة الذهنية، والاطمئنان الجسدي؛ مما لا يتحقَّق - أبدًا - في "الماركسية الأدبية"؛ ولذلك لم تعمر طويلاً، فما لبث أن انتشر الوعي، وتفطن الناس إلى خباياها، فمنهم من هجرها، ومنهم من استبدل بها عقيدةً جديدة.
وهذه "الكلاسيكية" قبلها، وهي أقدمُ مذهب أدبي، غرضُها ووجهتها أحياء التراث الإغريقي، الذي وضع أصوله أرسطو، والتي تُعَدُّ "إنجيل الكلاسيكيين"، دون أن تخرج عن الأدب التمثيلي والقصة[52]، فأين الحرية المطلقة المنشودة، التي يندد بها من يرى أنَّ الإسلام يقيد الحريات، ويكبت الاسترسالات والتطلعات؟
وتُعَدُّ "الفرودية" مثالاً آخر على حصر الجهود في إبراز العامل النفسي، واستخدام النظريات العلمية، مع جعل نظرات "فرويد" المرتكز والأساس.
ثم بالتأمُّل في الأدب الإسلامي، نرى أنَّه ليس لطبقة دون طبقة، وليس يهدف إلى "دُنيا" مَحدودة قاصرة، متمثلة في العامل "الاقتصادي"، وليس يقحم قدراتِه في البحث عن الأمور الجنسية أو النفسية فقط، إنَّ الإسلام هو هذه الأمور كلها: نظرة شاملة للكون، وتصور مطلق.
والسرُّ في هذا الفرق بين المذاهب السابقة وبين الإسلام، هو أنَّ تلك من وضع الإنسان الضَّعيف، الذي ينقض اليومَ ما قاله أمس، ويَعنُّ له في الغد ما يطمس رأيه اليوم، هذا الإنسان الذي قد تغلبه غرائزُه وعاطفته أكثر مما يتحكم فيه العقل والفكر، أمَّا الإسلام فهو من وضع ربِّ هذا الإنسان، هو الذي يعلم تركيبته التي خلقه عليها، وهو الذي يوجهه إلى ما يصلح حياته ومجتمعه.
ولكن، لا يعني هذا أن حرية الأديب الإسلامي حرية مطلقة، لا تَخضع لقيد، ولا تنزع لضابط، بل لا بُدَّ من توجيه رباني، يدفع بكُلِّ المبادرات إلى طريقها السوي، دونما اعوجاج أو انحراف، فالغرائز - مثلاً - لو تركت وشأنها، لذهبت في التيه كل مذهب.
كما أنَّ العقل البشري لو ترك - وَحْدَه - يبحث في أسرارِ الوجود والخلق، لَهَام وراء الغيبيات دون جدوى ولا طائل، وقد يؤدي بها ذلك إلى الزيغ، فلا بد له كذلك من تهذيب وتنقيح، وهذه الضوابط ليست في الحقيقة "قيودًا تعسفية، ولكنها صمامات أمن لدرء أخطارِ الأطماع والجشع، التي تُهدد أسسَ المجتمع، وتقوض دعائمَ أمْنه وسلامه"[53].
ومنقبة أخرى تضاف إلى ما ذكر، وهي أنَّ الإسلام انفرد عن سائر العقائد الأخرى في أنَّه يعمل على إبراز إشراقات الروح، وإفعامها بنور معرفة الخالق، والتطلُّع إلى العالم الآخر، هذه الازدواجية - الدنيا/ الآخرة - تفتح أمام الأديب المسلم آفاقًا عالية، وفسحًا واسعة، ورحابة منقطعة النظير.
إنَّ آيةً واحدة من القرآن الكريم تناولت الحديثَ عن نعيم الجنة - مثلاً - أو عن نكال النار - لكفيلةٌ بأنْ تسبحَ بخيال المبدع المسلم إلى أبعد الحدود، لنتأملْ - على سبيل المثال - قوله - تعالى -: ? وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ? [إبراهيم: 23]، فهذا مشهد المؤمنين في الجنة، في قصورهم الشامخة، ونعيمهم الخالد، بين أهليهم وبين بساتينهم، والأنهار تَجري من تحتهم، بما فيها أنهار من ماء، وأنهار من لبن مصفى، وأنهار من عسل، وأنهار من خمر وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
كيف يحس من رزقه الله نعمة الموهبة، وحسن التصوير، وسلامة التعبير؟
وبالمثل في قوله - تعالى -: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ)[إبراهيم: 15 - 17] فلينطلق الخيال حيث شاء، وليرفرف التصوير في الأجواء بلا قيد ولا حجر.
فعجبًا - إذًا - لأولئك الذين يرمون الأدب بالقصور، و"الارتباطية"، والتقوقع في أمر العبادة والوعظ، وهو يَسبح بالأديب إلى أبعد الحدود، وأرحب الآفاق.
هذه المغالطة جعلت هؤلاء يَعتقدون أنَّ الأدب لا ينشط إلا في حمى "الهجاء"، الذي - غالبًا - ما يكون مُسفهًا، هاتكًا للمحرمات، أو مصورًا للعصبيات والقبليات، أو في قالب "المنافرات والمفاخرات والخصومات"، أو عن طريق تشخيص الأسرار الجنسية.
إنَّ التصوُّر الإسلامي الذي يصدر عنه الأديب الإسلامي هو - باختصار - دعوة إلى استعمال وسيلة نظيفة؛ للوصول إلى غاية نبيلة[54]، آخذًا في الاعتبار "الواقع الأكبر للإنسان، الواقع الذي يُمثل لحظةَ الضعف، ولحظة القوة، لحظة الهبوط، ولحظة الارتفاع"[55]، وذلك ما نجد له أصلاً في قوله - تعالى -: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن: 16]، وقوله - تعالى -: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: 286]، وقوله - عز وجل -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النساء: 28]، وقوله - تعالى -: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78].
وهكذا نستنتج أنَّ الإسلام يُمثل الأفق الواسع، والانطلاق الرحب البعيد، الذي يُمثل الزاد الأساس للأديب المسلم، يعبُّ منه كيف شاء، وفي أي مكان شاء، إلا أن يختل قانون "الأداة النظيفة، والغاية النبيلة"، فعند ذلك لا بُدَّ من تدخُّل لحسم الزيغ، وتقويم الانحراف.
فإذا تقرَّر ذلك، تبين أن المبدع الإسلامي:
1- متشبع بالروح الإسلامية، تغلغل الإيمان في وجدانه وحسه، ملتزم بالأصل النبوي الخالد: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم))[56].
2- يكيف نفسه مع هذا التصور تكيفًا كليًّا، حتى صار لا يصدر إلا عنه، ولا يشعر إلا من خلاله.
3- يستفرغ وسعه في تنمية موهبته، والارتقاء بتجربته، وتَحقيق الصدق في تعبيره.
4- مخلص في هذا العمل، يرجو من ورائه المثوبة قبلَ أي شيء آخر[57].
فلو اتبع أدبُنا هذه الأسس، واستهدف هذه المقاييس، لكان ما بين أيدينا من ثروة أدبية هائلة، بلغت من النضج ما يجعلها تسامي الآداب الأخرى، ومع ذلك، فما بين أيدينا ليس باليسير المستهان به، فهو يشكل البذور الأساسية لنمو "الفكرة"، بل هناك من النماذج الأدبية والنقدية ما هو ناضج بالفعل إلا أنَّه لا يزال قليلاً.
الشِّعْرَ لاَ الشِّعْرَ الْجَدِي *** دَ الْمُسْتَبِيحَ لِكُلِّ عَوْرَةْ
لاَ مَا يَقُولُ الْعَابِثُو *** نَ بِكُلِّ قَافِيَةٍ وَسَطْرَةْ
مِنْ كُلِّ مَغْمُورٍ يَهُبْ *** بُ بِغَيْرِ مَوْهِبَةٍ وَخِبْرَةْ [58]
وفي سبيل البحث عن نموذج لتنزيل هذا التوجُّه في الأدب عليه، وقع الاختيار على شعر "محمود غنيم"، وهو ما يأتي تفصيله في الصفحات الآتية.
____________________
[1] "تاريخ الأدب العربي"، ص: 63، ج: 1، ترجمة: د. عبدالحليم النجار، ط: 3، دار المعارف، القاهرة، 1959 - 1962.
[2] "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية"، ص: 59، ط: 4 - 1969، دار المعارف القاهرة.
[3] كارل بروكلمان: ج: 1 - ص: 63.
[4] ينظر تفسير الشوكاني، ج: 4، ص: 270، ط: 2، 1383 - 1964.
[5] "فتح القدير"، ج: 1، ص: 208.
[6] تنظر القصة كاملة في "مختصر سيرة ابن هشام"، محمد عفيف الزغبي، ص: 64، ط: 2 - 1982 مكتبة المعرفة.
[7] ينظر: "البرهان في علوم القرآن"، بدر الدين محمد بن عبدالله بن بهادر الزركشي: ج: 2، ص: 106، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى، 1376 هـ - 1957م، دار إحياء الكتب العربية.
[8] "السيرة النبوية"، لابن هشام: ج: 2، ص: 284، تحقيق: طه عبدالرؤوف سعد، دار الجيل، 1411 هـ.
[9] هذه الأبيات لصالح جودة؛ ينظر: "القومية العربية في الشعر الحديث" لأحمد محمد الحوفي، ص: 30، دار النهضة، القاهرة.
[10] "الحياة الأدبية في عصري الجاهلية وصدر الإسلام"، عبدالمنعم خفاجي وصلاح عبدالتواب، ص: 247، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الأزهر.
[11] تنظر القصة كاملة في "العقد الفريد"، ج: 2، ص: 324.
[12] "نهاية الأرب في فنون الأدب"، شهاب الدين أحمد بن عبدالوهاب النويري، ج: 18، ص: 28، تَحقيق: مفيد قمحية وجماعة، دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1424 هـ - 2004 م، الطبعة: الأولى.
[13] "صحيح مسلم": كتاب الشعر، رقم الحديث: 2255.
[14] "صحيح مسلم"، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، رقم الحديث: 1060.
[15] "صحيح مسلم"، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت، رقم الحديث: 2490.
[16] المصدر نفسه.
[17] "الأدب الديني: دراسة أدبية عن القرآن والحديث"، د. زكي المحاسني، ص: 4، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، 1970.
[18] "الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة"، عبدالقادر شيبة الحمد، ص: 11 - 12، مطابع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
[19] "تاريخ الأدب الروماني"، ج. و. د. ف، ج: 1 ص: 78 - ترجمة، د. محمد سالم سالم - مركز الشرق الأوسط 1963 - ط3 - مطبعة التقدم - القاهرة.
[20] "الأدب الديني"، ص: 3.
[21] "الأدب اليوناني القديم"، د. عبدالواحد وافي، ص: 58، دار النهضة للطبع والنشر، مصر.
[22] "تاريخ الأدب اليوناني"، ص: 17، مكتبة النهضة المصرية، مطبعة لجنة البيان العربي، 1956.
[23] "تاريخ آداب اللغة العربية"، ج: 1، ص: 21، ط: 2، 1972، دار مكتبة الحياة، بيروت.
[24] "الأدب المغربي: ظواهره وقضاياه"، د. عباس الجراري، ص: 248.
[25] "الأدب المقارن"، غنيمي هلال، ص: 365.
[26] للمزيد من التفصيل ينظر: "النقد الأدبي عند اليونان"، د. بدوي طبانة، ص: 27، و"الأدب المقارن"، لغنيمي هلال، ص: 144.
[27] "النقد الأدبي عند اليونان"، د. بدوي طبانة، ص: 27، و"الأدب المقارن"، لغنيمي هلال، ص: 144.
[28] "تاريخ الأدب الروماني"، ص: 68.
[29] المصدر نفسه، ص: 100.
[30] "تاريخ الأدب السرياني من نشأته إلى الفتح الإسلامي"، د. مراد كامل، ود. محمد حمدي البكري، ص: 20، ط: المقتطف، المقطم بمصر، 1949.
[31] نفسه، ص: 15.
[32] "تاريخ آداب اللغة العربية"، ج: 1، ص: 23.
[33] "محاضرات عن الشعر الفارسي والحضارة الإسلامية في إيران"، د. علي أكبر فياض، ص: 24، مطابع الإصلاحات، الإسكندرية، 1950.
[34] "تاريخ الأدب الفارسي"، د. رضا زاده شفق، ص: 2، ترجمة: موسى هنداوي، دار الفكر العربي.
[35] نفسه: ص: 5.
[36] "تاريخ الأدب الفارسي"، ص: 5.
[37] "مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي"، د. عبدالباسط بدر، ص: 21، ط: الأولى، 1985، دار المنارة، جدة.
[38] "تاريخ الأدب العربي"، ج: 1، ص: 55.
[39] "تاريخ الأدب العربي"، حنا الفاخوري، ص: 59، ط: 3، 1960، المطبعة البوليسية.
[40] نفسه ص: 28 - 29.
[41] نفسه، ص: 29.
[42] "الحيوان"، الجاحظ، ج: 6، ص: 231.
[43] "ديوان زهير"، ج: 1، ص: 6.
[44] "ديوان الأعشى"، ج: 4، ص: 1.
[45] "الأدب الديني"، ص: 4.
[46] ص: 333.
[47] يراجع في ذلك: "مصادر الشعر الجاهلي"، ص: 61.
[48] للمزيد من الاطلاع، ينظر كتاب: "من قضايا الأدب الإسلامي"، للدكتور آدم صالح بيلو، ص: 7.
[49] "دراسات في أدب الدعوة الإسلامية"، د. محمود حسن زيني، المقدمة، 1982، مكتبة الخانجي بالقاهرة.
[50] "منهج الفن الإسلامي"، ص: 181، ط: السادسة، 1983، دار الشروق، بيروت والقاهرة.
[51] "في التاريخ... فكرة ومنهاج"، سيد قطب، ص: 16، ط: السادسة، 1983، دار الشروق.
[52] "الإسلامية والمذاهب الأدبية"، د. نجيب الكيلاني، ص: 109، ط: الثانية، 1981، مؤسسة الرسالة، بيروت.
[53] نفسه، ص: 29.
[54] "الإسلامية والمذاهب الأدبية"، ص: 16.
[55] "منهج التربية الإسلامية"، محمد قطب، ص: 32، ط: 7 - 1403 - 1982، دار الشروق ببيروت.
[56] "صحيح مسلم"، كتاب: الإيمان، باب: جامع أوصاف الإسلام، رقم الحديث: 38.
[57] ينظر: "منهج الفن الإسلامي"، محمد قطب، ص: 183.
[58] من شعر "صالح جودة"، ينظر: "القومية العربية في الشعر الحديث"، ص: 40

ابوالوليد المسلم 28-07-2021 02:54 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد" 1
محمد ويلالي



الفصل الثاني

القضايا الإسلامية في شعر "محمود غنيم"


المبحث الأول: ممهدات:
المطلب الأول: نبذة مختصرة عن حياة "غنيم":
يُعَدُّ "محمود غنيم" من الشعراء المغمورين، لم يحفل التاريخ بترجمته، أو دراسة مستوفاة لأشعاره، على الرغم من مكانةِ شعره اللُّغوية، وبُعد نظره في تحليل القضايا السياسية والاجتماعية، وقد نقبت - بَحثًا عن ترجمة له - في عدد من الكتب المعاصرة، التي تطرقت للحديث عن شعراء الجيل الماضي، فلم أعثر على شيء، بل إنَّ ديوانيه لم يصدَّرَا بكلمةٍ واحدة عن حياته وظروف عيشه، ويبقى جهد استخلاص بعض ملامح تلك الحياة وهذه الظروف من خلال شعره نفسه.

وقد سَطَّر الباحثان: "أحمد عبداللطيف الجدع، وحسني أدهم جرار" بعضَ الكلمات حول حياته في سلسلتهما القيمة: "شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث"، أجد نفسي مضطرًّا لنقلها كما هي:
"ولد الشاعر محمود غنيم في الريف المصري في قرية "مليج"، إحدى قرى محافظة "المنوفية" في الثلاثين من نوفمبر عام 1902م، وعاش في أسرة كريمة، تعمل في الزِّراعة والتِّجارة، وتَعلَّم في مدرسة القرية، وحفظ القرآن الكريم في كتَّابها.

وفي الثالثة عشرة من عمره، التحقَ بالمعهد الأحمدي بطنطا عام 1915، ومكث فيه أربع سنوات، ثم التحق بمدرسة القضاء الشرعي، وأتَمَّ دراسته الثانوية بالمعاهد الدينية عام 1924، وعين مدرسًا في المدارس الأولية، وفي عام 1925، التحق بدار العلوم، وتخرج فيها عام 1929، وعين مدرسًا في كوم حمادة بمديرية البحيرة، وعاش فيها تسع سنين، نظم خلالَها أعذبَ قصائده وأجملها، وفي عام 1938، نقل إلى القاهرة، واختير مديرًا لمدرسة الأورمان المشهورة، وفي القاهرة عاش "غنيم" مع الشعراء والأدباء ودور النشر والصُّحف والمجلات الأدبية، التي كانت تنشر له إنتاجه الشعري.

وتَمَّت ترقيته مفتشًا أول للغة العربية، ثم عميدًا للغة بوزارة التربية والتعليم، واختير عضوًا في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ونال جائزة الشعر التشجيعيَّة من الدولة على ديوانه "في ظلال الثورة".

وفي الثالث والعشرين من سبتمبر عام 1972م وَدَّع الشاعر الكبير "محمود غنيم" الحياةَ عن سبعين عامًا، قضاها في كفاح طويل، وعاشها أليفًا للمحن وخطوب الأيام، ومضى بِمَوته جيل من الشاعرية والإبداع والرَّصانة، فقد كان في طليعة شعراء العربية وأدبائها فحولةً وأصالة وصدقًا والتزامًا"[1].

المطلب الثاني: مكونات غنيم الثقافية، ومكانته الشعرية:
إنَّ اختيارَ شعر "محمود غنيم" نموذجًا لتوظيف "الكلمة" في خدمة "العقيدة" - يقتضي منَّا تتبع معظم الجوانب التي عالجها في ديوانه، وهي جَمَّة ثرة؛ مما ينم عن ثقافة ضافية، تعين في تقصي قدرات الأديب المسلم على الإبداع.

و"محمود غنيم" تشرَّب القرآنَ صَغيرًا - كما اتَّضح من ترجمته - ونقش في نفسيته حب الخير والإصلاح، ثم درس في معاهد دينيَّة، تعرف فيها أهَمَّ المبادئ الإسلامية الضرورية.

هذه النشأة جِدُّ مفيدة في تكوين الدعاة الأدباء، أو الأدباء الدعاة، فالقرآن هو المصدر الأول الذي ينشأ عنه التصوُّر السليم، وهو - إلى جانب ذلك - مصدرٌ لتنمية حصيلة فكرية سامقة، وأداة لغوية طَيِّعة الناصية، فلا جرم - إذًا - إذا رأينا "محمود غنيم" يَشِبُّ على حب العربية، وتراث العربية، وبلاغة العربية، وتتكون لديه ملكة الشعر الرصين الجذاب، اهتم به منذ يفاعته، "فقد نشأ منذ صغره مفطورًا على الفصاحة، مولعًا بالشعر، كثير القراءة له، قال الشعر وهو في سن السابعة عشرة من عمره"[2].

فإذا أضيف إلى كل ذلك سلامةُ التربية الأسرية، التي كانت على قدر من النضج، فإنَّ النظرةَ تكتمل.

وقد رزق "غنيم" أبًا محبًّا شغوفًا بالشعر وروايته، حافظًا للكثير منه، حسن الاستشهاد به، كان يحثُّ ولده على حفظ الشعر وتعلمه، رافعًا شعار: "اقرأ تتعلم الفصاحة"[3]، كأنَّه يرى أنَّ الشعر مِفْتاح للنجاح في الحياة، وسبيل إلى تهذيب النفس والسمو بها، وتحصيل الذوق السليم، وما ركب كثير من الناس مهاويَ الشطط، ومنزلقات الزيغ، إلاَّ بسبب فساد الذوق.

وتميز "غنيم" كذلك بموهبة فطرية مبدعة، أعان على نَمائها ثقافتُه الأصيلة، التي أخذت من كلِّ شيء بطرف - كما يدل على ذلك تنوُّع موضوعات ديوانيه - ومن ثم، فإن مرد شاعرية غنيم يرجع إلى مكوناته، من ثقافة واسعة متنوعة، وموهبة فطرية، تفاعلت معها أسرار الحياة، فلا عجب وقد تكاملت له عناصر الشاعرية المبدعة.[4].

ولقد كان "محمود غنيم" حقيقًا بأن يُمثل الشاعر الرصين الشامخ في عصرنا، وقد شهد له بذلك عددٌ من فحول الأدب والنقد، حتى فضله الكثير على "حافظ إبراهيم"، شاعر النيل الشهير، أما "عبدالمجيد الغزالي"، فيقول: "وعندي أن غنيمًا أرسخ قدمًا من حافظ، وأرفع منه قدرًا، فالمواهب التي تتفاوت عندها أقدار الشعراء، وتتباين منازلهم، يكبر حظُّ غنيم فيها، ويقل نصيب حافظ"[5].

و"عبدالمجيد" هذا لا يصدر رأيه عن هوى وتزلف، ولكن عن دِقَّة وتَمحيص، وحسبنا أنه رأيٌ صادرٌ عن شاعر كبير مشهور.

وأمَّا "إبراهيم دسوقي أباظة"، فتنطلق نظرته الموضوعية في تفضيل "غنيم" على "حافظ" من جهة شمولية الرؤية التي تَميز بها "غنيم"، والحس المرهف الذي يجعله يستشعر كل شيء في أعماقه، فيعبر عن كل دقيقة في العالم الخارجي، مما ضَعُف التماسه عند "حافظ"، فلا شك أن "حافظًا" شاعر نبيل، لكنَّه لم يلمس كل الجوانب التي لمسها "غنيم"[6]، وأفاض فيها وأحسن التعبير عنها، وتصوير خلجاتها.

ويزداد الأمرُ تأكيدًا ووضوحًا إذا ما صدر هذا الرأيُ عن أحد كبار مدرسة المهجر - التي تَميزت بأفكارها النقدية المتطرفة، ونظراتها المميزة للحياة، ثُمَّ النظرة الخاصة لبناء القصيدة، الذي ينزع بشكل مغالًى فيه إلى التحرُّر من النظام العمودي - وهو "توفيق ضعون"، الذي كان يعتبر أنَّ "حافظ إبراهيم" يمثل الذِّروة الشعرية، والشاعر الوحيد الذي يجذبه لقراءة شعره، وبعد مماته، طفق يبحث عن خليفة له، فعثر على "محمود غنيم"، الذي لم تكن تجمعه به أي صلة سابقة، إلا هذه الأشعار التي كانت تنشرها الجرائد والمجلات.

يقول "توفيق ضعون": "هذا هو "محمود غنيم"، الذي أقدمه الآن لقراءة العصبة، فخورًا بأنني أقدم شاعرًا مجيدًا، إذا لم يضارع "حافظًا" في أصيله، فهو يُجاريه في ضحاه"[7].

ثم يُرجع السببَ في ذلك إلى أنَّ شعره كان شعرًا تصويريًّا "سُداه الدِّقَّة، ولُحمته الأمانة في الأداء، ونزعة حرة، وفكر طليق من سيطرة الأوهام، وخيال واسع يتغلغل في الأعماق، ويكشف الخبايا، ونفس طموحة، لا يكبح جماحَها إلاَّ الإباء المستحب"[8].

وتتأكد هذه النظرة عند "ضعون" من منطلق آخر، وهو إيمانه بأنَّ الأوضاعَ البيئية لم تكن لتساعدَ "غنيمًا" وأمثاله على التألُّق والجودة، كمساعدتها "حافظًا"؛ حيث "المجال الرحب، والموحيات، والمستثيرات، وكل ما يفجر الشاعرية، ويبعث الكوامن، ويعين على الإجادة"[9].

وهناك عامل أقوى من كل ذلك، يُمكنه أن يوضع في ميزان "محمود غنيم"، وهو معالجته للقضايا من وجهة إسلامية مَحضة، تُمثل نقدًا اجتماعِيًّا موجهًا هادفًا، كما أن شعره خلا من التَّفاهات وسفاسف الأمور، وشطحات الشعراء، نقي الصفحة، بعيد عن الموضوعات الوضيعة - إلاَّ فيما ندر - ورُبَّما التمسنا له الأعذار في النادر كذلك، وهذا قلما تعثر عليه في ديوان شاعر آخر من المعاصرين، وهو كذلك عنصر مشجع في جعل "غنيم" من ممثلي حركة الأدب الإسلامي في العصر الحديث.

ونجده يُشيد بالشعر الجيد، الذي يهدف إلى غرض أخلاقي أو اجتماعي، أو تتمثل فيه القدرات الإلهية، والآيات الكونية، الدالة على وجود الله - تعالى - يقول:
الشَّاعِرُ الْمَوْهُوبُ تَقْرَأُ شِعْرَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَتَرَى جَمَالَ اللَّهِ فِي أَكْوَانِهِ[10] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ثم هو يقسم الناس - من خلال إيمانه بأهمية الشعر والكتابة والنقد - أقسامًا ثلاثة، أجمَلَها على سبيل الدعابة في قوله:
مَا النَّاسُ إِلاَّ كَاتِبٌ أَوْ شَاعِرٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَوْ نَاقِدٌ وَسِوَاهُمُ أَصْفَارُ[11] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهو يرى أن الأديب لا ينفك عن الاتصاف بالأدب:
إِنَّ الْأَدِيبَ كَمَا عَلِمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَ لِكُلِّ ذِي أَدَبٍ نَسِيبْ[12] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ولعل هذه المكانة الشعرية المشهود له بها، والجرأة على تصوير ومعالجة الأوضاع الاجتماعية، إلى جانب الميزات الأخرى، لعل هذه المكانة جعلته ينظر إلى شاعريته بمنظار التفوُّق على كبار الشعراء، كالفرزدق وجرير:
شُعَرَاءُ مِصْرَ رَعِيَّةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَنَا لِدَوْلَتِهِمْ أَمِيرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَدَحُوا الْوَزِيرَ وَإِنَّمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِالشِّعْرِ يَمْدَحُنِي الْوَزِيرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَقْسَمْتُ مَا بَلَغَ الْفَرَزْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دَقُ مَا بَلَغْتُ وَلاَ جَرِيرْ[13] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذا شأن الشعراء، فكلما أحس أحدهم بالتفوق والسبق، خَلَّد ذلك في أشعاره وإن كنا - من وجهة إسلامية - نَخشى على الأديب المسلم من ملامح الرِّياء، أو حب الظهور، وإن كان ذلك غير مقصود في الغالب.

وبعد؛ فهذه وقفات موجزة عن المكونات الثقافية للشاعر، وعن الجودة الشعرية التي تَميز بها، ولننتقل إلى تفصيل معالجاته لما يَجري في بيئته، ونظرته لأوضاع المسلمين، وموقفه من كل ذلك.

المطلب الثالث: بين يدي الديوان:
اشتمل ديوان "صرخة في وادٍ" على ثمانية وعشرين ومائة نص؛ ما بين قصيدة، وأرجوزة ومقطوعة، شملت الموضوعات الآتية[14]:
1- في الحرب: استغرقت موضوعات الحرب تسعًا من القصائد الطِّوال، امتد زمن نظمها ما بين 11 مارس 1935 إلى 29 مايو 1945.

2- في الاجتماع: وقد بلغت القصائد الاجتماعية عشرًا من الطوال كذلك، نظمت ما بين 23 يونيو 1933 إلى 25 فبراير 1945.

3- في الوصف: وبلغت القصائد الوصفية أربع عشرة قصيدة، نظمها الشاعر في الحقبة ما بين 10 فبراير 1928 و28 مايو 1941.

4- في المرأة: وتحدث عن موضوع المرأة في اثنتي عشرة قصيدة متوسطة، تم نظمها في الحقبة ما بين 1928 و1941.

5- عبرات: وهي قصائد ومقطوعات قيلت في رثاء صديق أو تذكُّر ماضٍ حزين، بلغت إحدى عشرة قصيدة ومقطوعتين امتدت مُدَّة نظمها من 11 مارس 1934 إلى 1 مارس 1945.

6- تحيات: في مدح الملك "فاروق"، والتعبير عن رابطة العروبة، وشملت قصائدَ عشرًا وأرجوزة، قيلت في المدة ما بين 26 يوليو 1937 و1944.

7- زفرات: حيث عولجت موضوعات اجتماعية في قصائد عشر، ومقطوعات أربع، امتدت خلال 23 نوفمبر 1929 و1942.

8- دعابات: وهي قصائد ومقطوعات ضاحكة موجهة إلى الأصدقاء، أو في تناول موضوع هزلي ظريف، هي في إحدى عشرة قصيدة وثلاث مقطوعات، وامتدت مدة نظمها ما بين 21 أبريل 1928 و29 - 12 - 1945.

9- متفرقات: وهي موضوعات متفرقة في تسع قصائد، وعشرين مقطوعة، وأرجوزة واحدة، قيلت في المدة ما بين 8 فبراير 1932 و1936.

ومن خلال التقسيم نستنتج ما يلي:

1- أنَّ الديوانَ قيل في المدة ما بين 1928 و1945 على مدى سبع وعشرين سنة، وتشمل المدة التي كان "غنيم" يشتغل فيها مدرسًا في "كوم حمادة" ومدرسة الأورمان، وسنتين من اشتغاله بالتفتيش سنة 1943. وهذه اللفتة مهمة في تَحديد المستوى المادي الذي عرفه "غنيم" في هذه المرحلة؛ لما لذلك من تأثير على شعره.

2- أن ما يقارب ثلثي الديوان قيل في الثلاثينِيَّات، وما يقارب الثلثَ قيل في السنوات الخمس بعد 1940م، وأربع قصائد سنة 1928م، وقصيدة واحدة 1929م، وأهمية هذه النقطة تتجلى في معرفةِ أنَّ تفسير بعض الشعر بالبعض الآخر داخلَ الديوان مستساغٌ جدًّا، وأن نظرته للمجتمع في بدايات هذه السنوات تضارع نظرته في أخرياتها، ومن هنا نتمكن من "التحليل الشمولي الاستقرائي" في اطمئنان بالغ.

3- إنَّ الديوانَ شَمِلَ موضوعات مُختلفة، عالجت عديدًا من القضايا الاجتماعية والسياسية والعقدية، وهذا من دلائل التفوق والنظرة المتكاملة.

4- إنَّ الديوانَ قصائد في معظمه، وحظ المقطوعات يسير جِدًّا، مع أنَّ مناسبات تلك المقطوعات لم تكن لتدفع الشاعرَ إلى تسويد قصائد طوال لتجسيدها وتَصويرها، فهي في الغالب دعابات مَحدودة، أو تسجيلات سريعة لبعض المناسبات.

5- إنَّ هذه القصائد كانت طويلة النفس، وصلت إحداها إلى مائة وخمسة أبيات، وجل القصائد فوق الستين بيتًا، ويدل ذلك على طول نفس الشاعر، وعلى معالجته للموضوع معالجةً ضافية وافية.

6- إن قصائد الديوان توزع نشرها على أهَمِّ الصحف التي كانت تَملأ السوق آنذاك، وفي مقدمتها "الأهرام"، ثم "الرسالة"، ثم "السياسية"، ثم "الكتاب"، ثم "أبولو"، ثم "البلاغ الأسبوعي"، فـ"الإصلاح الاجتماعي"، وهذا كذلك له دلالته في أنَّ شعر "غنيم" كان يلقى من القَبول ما جعل الصُّحف المشهورة تتلقفه، وتحفل به.

وفي ضوء هذه الاستنتاجات، سيكون استعراضنا لبعض المواقف التي حفل بها شعر "محمود غنيم".

المبحث الثاني: القضايا العقدية والأخلاقية في شعر محمود غنيم:
المطلب الأول: الحث على التمسك بالعقيدة:
في إطار معالجة هذه القضية، يظهر "محمود غنيم" داعيةً إلى المبادئ الإسلامية، حاثًّا على الأخلاق الفاضلة، مطوعًا موهبته في شحن نفوس المخاطبين بها، ودفعهم إلى التفكير في أوطانهم ومُجتمعاتهم التي غزاها الفساد، واكتسحتها مسحة من الخرافات والبدع، وفنون من الأفكار المُضِلَّة، وألوان من الثقافات الهادمة، فرأى واجبًا عليه أن يستنهض الشعبَ لاعتناق القيم الإسلامية، والرجوع إلى المنبع الصافي.

انظر كيف يستحثُّ قومه للتمسُّك بالعقيدة الإسلامية، مُضيفًا إليها التمسُّك باللغة العربية، باعتبارها الأداةَ الرئيسة التي تثبت كِيانَ الأمة، وتُحقق هويتها؛ يقول:
أَبَنِي نِزَارَ وَيَعْرُبٍ أُوصِيكُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِذَخِيرَتَيْنِ: الضَّادِ وَالْإِسْلاَمِ[15] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ثُمَّ تراه يُخاطب الشرقَ كله بأسلوبٍ يبعث على التأمُّل في حاله، والدَّعوة إلى التغيير، وذلك عن طريق استحضار الصُّور المشرقة في حياته، التي يَجب أن تعودَ من جديد، وتبسط رداءَها على حضارته؛ يقول:
يَا شَرْقُ يَا مَهْدَ الشَّرَائِعِ رَحْمَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَكَ مَا لِأَهْلِكَ فِيكَ كَالْأَضْيَافِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا شَرْقُ أَنْتَ بِكُلِّ شَمْسٍ مَطْلَعٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَا بَالُ أُفْقِكَ حَالِكَ الْأَسْدَافِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَعْزِزْ عَلَيْنَا أَنْ نَرَاكَ تَئِنُّ مِنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَقْيِيدِ أَقْدَامٍ وَشَدِّ كِتَافِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَدَأَتْ مِنَ الشَّرْقِ الْحَضَارَةُ سَيْرَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَفَمَا لِرِحْلَتِهَا مِنَ اسْتِئْنَافِ[16] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 02:55 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد" 2
محمد ويلالي


فانظر كيف جعل الحضارةَ تنطلق من الشرق، وتأخذ في السير لَمَّا كانت الأوضاع الحضارية تستمد قُواها من الإسلام، وتعتمد في قوانينها ونَهج سيرها على ما رَسَمه الشرع، في اتِّزان كامل، واطمئنان بالغ، ثم ترى هذه الحضارة قد تنكبت سيرها، واتَّخذت وجهة غير وجهتها، فيطرح التساؤل: "أفما لرحلتها من استئناف؟".

وكأنِّي بالشاعر ينبه الغافلين، ويُوقظ الوسنانين، بنقرة على هذا الوطر الحساس، الذي تَجرَّعت الأمة الإسلاميةُ أضرارَه، على أنَّ صيغةَ التساؤل توحي بأنَّ سببَ النهوض يسير، لا تكلُّفَ فيه ولا مَشَقَّة، سوى النظر إلى المعتقد الصحيح، أيامَ كانت الدَّولة باسطة دثارها على مُعظم المعمورة، لا يَحكم إلا الإسلام، ولا يسمح بغيره بديلاً، وذلك الإيمان الذي تغلغل في النفوس، وأشربته كل ذرة من كيان السابقين؛ يقول:
أَقْسَمْتُ مَا كَانَ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِمُشَعْوِذٍ، كَلاَّ، وَلاَ عَرَّافِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَكِنَّهُ الْإِيمَانُ مَنْ يَظْفَرْ بِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَلْقَ الْمَفَاوِزَ سَهْلَةَ الْأَكْنَافِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ثم يقول:
هَذَا الَّذِي جَعَلَ النَّبِيَّ وَرَهْطَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إِنْ حَارَبُوا انْتَصَرُوا عَلَى الْأَضْعَافِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يُسْتَضْعَفُونَ لِقِلَّةٍ لَكِنَّهُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِوُثُوقِهِمْ فِي اللَّهِ غَيْرُ ضِعَافِ[17] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وترى "محمود غنيم" يستقي صورَه هاتِه، إمَّا من القرآن الكريم، أو من أحداث السيرة النبوية، وهذا شأن المسلم الحق، فهو لا يصرف أوقاتَه وأداتَه الفنية في اللهو والعبث، ويَجعلها صَفَدًا يُكبِّل به نفسه ومشاعِرَه، وكأنِّي به لما قال: "ليس محمد بمشعوذ ولا عراف"، نظر إلى الأقوال التي كانت تتماطر كالوابل من طرف المشركين والكفار؛ حيث قالوا مرة: "شاعر"، وقالوا أخرى: "مجنون" وقالوا ثالثة: "شاعر"، وقالوا رابعة: "إنَّه يحكي أساطير الأولين".

وعندما قال: "لكنه الإيمان من يظفر به"، استسهل كل العَقَابيل والعراقيل، ونظر إلى قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم))[18]، وهو سبيل الفوز والنجاح، وكذلك البيت الثالث، ما هو إلاَّ ترجمة لقوله - تعالى -: ï´؟وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُï´¾ [الطلاق: 3]، وقوله - تعالى -: ï´؟إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْï´¾ [محمد: 7].

وأَنْعِمْ "بالكلمة" إذا كان مصدَرُها الوحي، و"بالدعوة" إن كان أساسُها الحِكْمة النبوية، و"بالنصيحة" إذا كان مرفؤها الاقتداءَ بسيرة السلف الصالح!

ثم يتفطن "غنيم" إلى جُملة الأسباب التي أدَّت إلى ضَعْف المسلمين، وتَخلِّيهم عن الزَّعامة، فلَمَّا رأى أن السببَ الرئيس هو تَهافُت كثير من الناس على الشَّهوات الزَّائلة، والنَّزوات الزائفة، وإشباع رغبات الجسد التافهة، انطلقت صيحتُه مدوية، تدعو إلى نبذ هذه الرذائل، والتشبث "بالروح" والقيم العلوية السامية، لكن، ليس عن طريق الأسلوب المباشر، فقد تكون الدعوةُ - حينئذٍ - ضعيفةً مُتهاوية، لكن في قالب فني يَحمل على التأثُّر، ويدفع إلى الانفعال:
صَاحِ دَعِ "الرُّوحَ" وَدَعْ قُدْسَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَحْنُ عَبِيدُ الْجَسَدِ الْفَاسِدِ[19] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



المطلب الثاني: الأخلاق ودورها في النهوض بالمسلمين:
لم يكن لشاعرنا أن ينسى دَوْرَ الأخلاق في التوجيه والاستقامة، وتَحقيق المقاصد الشرعية من فَنِّ القول، لكنَّ دَعْوَته تنطلق من تبصُّر كامل، مدرك لكل ما يَجري في مُجتمعه، فالناسُ قد عزفوا عن الخُلُق الحسن، وانكبُّوا على الزخارف والقشور، من اعتناء بالمظهر، وجمع للمادة، حتى انعدم - أو كاد - الاهتمامُ بأمور السلوك والأخلاق:
قَدْ يُحْسَدُ الْمَرْءُ عَلَى رِزْقِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلاَ أَرَى لِلْخُلْقِ مِنْ حَاسِدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

الْعِلْمُ وَالْأَخْلاَقُ مَا قُدِّسَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إِلاَّ لِنَفْعٍ مِنْهُمَا عَائِدِ[20] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



المطلب الثالث: معاول هدم:
و"لغنيم" لفتةٌ ذكية إلى كثيرٍ من المعاول التي أخذت في هدم الأُمَّة الإسلامية، وتقويض كيانها، والحيلولة دون مُسايرة الركب الحضاري، وأشدها ضررًا: الاعتناء "بالشعوذة"، والتمسُّح "بالقبور"، والاهتمام "بالمواليد"، والاعتقاد في "الكهانة" و"السحر" وما إلى ذلك.

وقد عقد لمعالجة هذه القضية قصيدة مستقلة، تَحدث فيها عمَّا يَجري في أثناء الاحتفال بمولد "السيد البدوي"؛ ليستنتج أنَّ كثيرًا من الناس يغترون بأصحاب العمائم الخضراء، ممن يَدَّعون الزُّهْدَ والتُّقى، وما كان أمرهم إلاَّ هَدْمًا لِحَقيقة الدين، الذي يُبغض صرفَ العبادة لشيء غير الله، من حيث إنَّهم رفعوا شعارَ الإصلاح مَيْنًا ونِفَاقًا، فكان من جراء ذلك أن بسطت الغفلةُ ستارَها على الأذهان، وأسدلت غشاوةً سَميكة على القلوب، فتقدم غيرُنا، وبقي المسلمون كالمقْعَدين الذين لا يستطيعون حولاً ولا حيلة:
لَهْفِي عَلَى بَلَدٍ بِعَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دَاتِ الْجُدُودِ مُقَيَّدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

جَرَتِ الشُّعُوبُ وَلَمْ يَزَلْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِمَكَانِهِ كَالْمُقْعَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِنْ قَادَ بَعْضُ الْمُصْلِحِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَ زَمَانَهُ لَمْ يَنْقَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَإِذَا دَعَتْهُ عِمَامَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
خَضْرَاءُ لَمْ يَتَرَدَّدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِاسْمِ الصَّلاَحِ يُشَوِّهُو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَ مِنَ التُّقَاةِ الزُّهَّدِ[21] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يتبع




ابوالوليد المسلم 28-07-2021 02:56 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
والشاعر عندما يعلن رفضَه لهذه العادات الوضيعة الجاهلية، تراه يرحب بكُلِّ من كان ذا عقيدة صافية، بكُلِّ من تميز بطهارة القلب، ونقاء السريرة، وبُعْدٍ عن كُلِّ رَذيلة وجريرة؛ يقول مُخاطِبًا "الريف":
حَيَّيْتُ فِيكَ الثَّابِتِينَ عَقَائِدًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالطَّاهِرِينَ سَرَائِرًا وَقُلُوبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَالذَّاهِبَاتِ إِلَى الْحُقُولِ حَوَاسِرًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَمْشِي الْعَفَافُ وَرَاءَهُنَّ رَقِيبَا[22] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذه "الثنائية الضدية" التي عملت في نفسية "غنيم" - كُرهه للقبيح والشر، وحبه للحسن والخير - كان مصدرها "القرآن الكريم" الذي إذا تحدث عن المؤمنين، يردفهم في الغالب بالحديث عن الكافرين والعكس، وكثيرًا ما جاء ذلك في صور "اللف والنشر غير المشوش"، أو في سورة "التقسيم"، كقوله - تعالى -: ï´؟قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًاï´¾ [الكهف: 87 - 88]، وهي ثنائية قد صحبت الشاعر في كُلِّ مراحل مُعالجته قضايا الأمة، وكأنه يريد أنْ يظهر مَحاسن الشيء عن طريق إظهار مفاسد ضده، وهي طريقة أدائية لطيفة فعالة.

المطلب الرابع: صورة الماضي في شعر "محمود غنيم":
للماضي في شعر "محمود غنيم" صورةً ناصعة، مُرتبطة بأمجاد المسلمين وتاريخهم الحافل بالمنجزات العظيمة، حين تَمسكوا بدينهم الذي يُمثل الخيرية المطلقة، ذلك الماضي الذي عاش فيه المسلمون أسْعَدَ الأيام، وأكثرها ازدهارًا وانتصارًا.

ويوضح "محمود غنيم" أنَّ الاستفادة من الماضي ليست بدعًا في التاريخ، فالغرب نفسه التفت إلى ماضيه واسترشد به، ووجد في ذلك نفعًا كثيرًا، فكيف بالمسلمين يَزْوَرُّون عن تاريخهم، وينسون ماضِيَهم الزَّاهر، الذي هو سبيل الانطلاق نحو البناء في المستقبل؛ ليرتموا في أحضانِ حضارات أخرى، وثقافات أخرى؟ يقول:
اسْتَرْشَدَ الْغَرْبُ بِالْمَاضِي فَأَرْشَدَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَنَحْنُ كَانَ لَنَا مَاضٍ نَسِينَاهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِنَّا مَشَيْنَا وَرَاءَ الْغَرْبِ نَقْبِسُ مِنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ضِيَائِهِ فَأَصَابَتْنَا شَظَايَاهُ[23] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وكأنِّي "بغنيم" يقصد إلى توبيخ مَن جعلوا الغرب قبلتهم، واستَمَدُّوا منه أنظمتهم وشؤونَ حياتهم كلها، فإن سمحوا لأنفسهم أن يقتدوا به في هذه الأمور، فهلاَّ اقتَدَوْا بهم في الالتفات إلى الماضي كما التفت، واعتبروا بأحداثه، وعملوا على استرجاع مجده وعزته.

ودعوة "غنيم" للرجوع إلى الماضي والنظر في أحداثه والعمل على تَمجيده، إنَّما تتجلى ثمرتها في كون هذا الحاضر ما هو إلاَّ انبثاق عنه، وامتداد له، وهو الزاد الأساس الذي نستمد منه القوى، وبتذكره نزداد حماسًا لاستعادته من جهة، وإشفاقًا على هذا الحاضر لتغييره من جهة أخرى:
"مَاضٍ نَعِيشُ عَلَى أَنْقَاضِهِ أُمَمًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَنَسْتَمِدُّ الْقُوَى مِنْ وَحْيِ ذِكْرَاهُ"[24] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وليس يقصد بذلك الدعوة إلى "التواكل" والخِذْلان، وإنَّما يقصد الدعوة إلى العمل على تغيير هذا الحاضر، عن طريق استحضارِ الماضي، لا نُريد أن نستمدَّ منه كيفِيَّةَ العيش مثلاً، أو وسائل المواصلات القديمة، أو ما شابه ذلك، فهذا - لا ريبَ - ضربٌ من الانزوائية الزائدة، وإنَّما نستقي من هذا الماضي الأشياء الكفيلة بتقدُّم الأمة، التي انحصرت في اتِّباع كتاب الله وسنة رسوله، كما قال - عليه الصلاة والسَّلام -: ((إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله وسنة نبيِّه))[25].

فالدِّين لا تَجري عليه العوارض من زمان ومكان؛ لأنَّه دين إلهي، مصدره الخالق العالم بأمور عباده، وبما يصلحهم وينصرهم.

وتستوقفنا نظرته إلى الجيل الحاضر، هذه النظرةُ المتفائلة، فهو يريد منه أنْ يُضاهي أمجادَ القدامى، من أمثال: معاوية بن أبي سفيان (ابن هند) من حيث الحصانة، والرأي السديد الأصيل، ومن أمثال خالد بن الوليد في شجاعته وقوة عزمه، ذاك الذي أقام الحق، وخذل الكفر، وكان السيف أداته الفَعَّالة في تقويم هؤلاء المخرفين المُتَهَوِّكين.

ويريده جيلاً لا يسمح بالعيش في مرافئ الذُّلِّ والهوان، بل يسارع إلى الفداء - إن طلب منه الافتداء - وإلى البذل؛ يقول:
"مَنْ لِي بِجِيلٍ مُسْتَجَدٍّ لَمْ يَرِثْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إِلاَّ عَنِ الْجَدِّ الْقَدِيمِ الْأَبْعَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَرِثُ (ابْنَ هِنْدٍ) فِي أَصَالَةِ رَأْيِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَوْ خَالِدًا فِي عَزْمِهِ الْمُتَوَقَّدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَمْ يَعْتَدِ الضَّيْمَ الَّذِي نَعْتَادُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَهْوِنْ بِكُلِّ أَذًى عَلَى الْمُتَعَوَّدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِنْ قَامَ يُثْبِتُ حَقَّهُ فَدَلِيلُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَصْفُ الْمَدَافِعِ أَوْ صَلِيلُ مُهَنَّدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لاَ خَيْرَ فِي حَقٍّ يُقَالُ وَمَنْطِقٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عَذْبٍ بِحَدِّ السَّيْفِ غَيْرِ مُؤَيَّدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

جِيلٍ إِذَا سِيمَ الْهَوَانَ أَبَى وَإِنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يُطْلَبْ إِلَيْهِ الْبَذْلُ لَمْ يَتَرَدَّدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَهْوَى الْحَيَاةَ طَلِيقَةً وَيَعَافُهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ذُلاًّ وَيُدْعَى لِلْفِدَاءِ فَيَفْتَدِي"[26] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 02:57 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
ونَجد "غنيمًا" يذم كلَّ مَن تعلق بأسبابِ الماضي من أجل "الألقاب" والعادات المستحدثة والذِّكْريات دون عمل أو نهوض؛ لأنَّ ذلك يبقى للماضي في قُوَّته، وشموخ صرحه، ويزيد الحاضر ضَعْفًا، وتقويض بناء.
"بِتْنَا نَعِيشُ بِذِكْرَيَاتِ جُدُودِنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هَيْهَاتَ لَيْسَ الْحُرُّ كَالْمُسْتَعْبَدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَيْنَ الْجِبَالُ مِنَ التِّلاَلِ أَوِ الرُّبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَيْنَ الْقَوِيُّ مِنَ الضَّعِيفِ الْمُقْعَدِ"[27] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وكذلك قوله:
"كَمْ زُيِّنَ اسْمٌ بِأَلْقَابٍ مُكَدَّسَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقَدْ تَجَرَّدَ مِنْ زَيْنٍ مُسَمَّاهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يَتِيهُ بِالْفَضْلِ ذُو فَضْلٍ فَأَمْقُتُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَا بَالُ قَوْمٍ بِأَسْلاَفٍ لَهُمْ تَاهُوا"[28] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وتبقى بذور التفاؤل نابتةً في نفس "غنيم"، والأمل مَنشودًا، فلا شيءَ يَمنع من إحلال عيشة الرَّغَد والسَّعادة مَحلَّ النكد والكمد، في ظل الشريعة الإسلامية السَّمْحاء؛ يقول:
"يَا لَيْتَ شِعْرِي يَا هِلاَلُ أَعَائِدٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لِلْمُسْلِمِينَ بِنَصْرِ دِينِ مُحَمَّدِ"[29] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ويقول مخاطبًا الهلال أيضًا:
"وَاعْمُرْ خَرَابَ النَّفْسِ يَا ابْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَ الشَّمْسِ بِالْأَمَلِ الْوَطِيدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَوْمِضْ عَلَيْنَا وَمْضَةً الْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إِيمَانِ فِي لَيْلِ الْجُحُودْ"[30] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وبعد؛ فلعلَّنا وقفنا على السر في تنويه النقاد بمحمود غنيم، بأنَّه من ضمن الشعراء المعاصرين البارزين، الذين مجدوا الماضي، واهتموا بقضيته على نحو ما عرفنا تفصيله، وقد قال الدكتور: "أحمد محمد الحوفي": "مجدت الماضي عاتكةُ الخزرجي، ومصطفي جمال الدين، ومحمود حسن إسماعيل، ومحمود غنيم"[31].

المبحث الثالث: القضايا والمواقف الاجتماعية:
المطلب الأول: "محمود غنيم" الشاعر الاجتماعي:
هذا هو الميدان الذي أحرز فيه "غنيم" قَصَبَ السَّبْق، وكان موضع إعجاب الكثير من النقاد، ولعل المفاضلة بينه وبين "حافظ إبراهيم"، كان مُنطلقُها من هذه الناحية التي أماطت اللثام عن قدرة "غنيم" في جس نبض المجتمع، وإبراز خفاياه وما يُعانيه، في أسلوبٍ بديع، فهو بِحَقٍّ "شاعر المجتمع الذي يعيش فيه، يصور أفراحَه وأتراحه، ويرسم شؤونَه وشجونه، في إطارات موشاة بصفاءِ خياله، وسَماحة عبارته، ورِقَّة دِيباجته، ودِقَّة سبكه"[32].

وقد قال الأديبُ الحجازي الكبير "محمد سعيد العمودي": "الذي لا خلافَ فيه، هو أنه (يعني غنيمًا) شاعر مصر الاجتماعي الأول في هذا الأوان[33]"[34]، ثُمَّ تَحدث عن شهرته، ومدى اهتمام الناس بشعره، وأرجع ذلك إلى الجانب الشَّكْلي؛ من وضوح عبارة، وجَوْدَة أسلوب وما إلى ذلك، وإلى الجانب الموضوعي؛ حيث إنَّ: "الشاعر يكاد ينفرد بين شعراء الجيل الجديد في مصر بأنَّه أكثر اتِّجاهًا إلى موضوعات الاجتماع، وإلى الموضوعات القومِيَّة"[35].

ولا ينفرد النُّقادُ بهذا الرأي، بل إنَّ "غنيمًا" نفسه، يؤكد كونه راعى هذه الناحيةَ أيَّ مراعاة، وكأنه عرف أنَّ مَصدر الداء هو هذه الموجات المتلاطمة من العادات والأفكار، والتي تَحتاج إلى استعجالٍ في العلاج أكثر من غيرها، فهو يقول: "على أننا نزعم - مع ذلك - أنَّ ما قرضناه من شعر يُمثِّل للعصر الذي شاءت لنا المقادير أن نعيشَ فيه، تَمثيلاً فيه كثيرٌ من الصدق، وفيه كثير من إبراز سِمَات هذا العصر ومُشَخصاته"[36]، مُنطَلِقًا - في إبداء هذا الرأي - من المقولة المشهورة: "الإنسان ابن بيئته"، يتشخص فيه كثير من مظاهرها، ويتأثَّر بكل ما يجري فيها؛ يقول "غنيم": "لأنَّنا ندين بأن الشعر جزء لا يتجزأ من زمنه وبيئته، وما يُحيط به من المؤثرات، وبأن إنتاجه وليد هذه العوامل مجتمعة"[37].

وتتوافر "لغنيم" العوامل؛ ليكونَ شاعِرَ المجتمع الأول بلا منازع، فقد عرفنا ثقافته الواسعة، وموهبته الشفافة، وسرعة إحساسه بالأحداث، وصدق تعبيره عنها، وبخاصة وهو ابن المجتمع، بل ابن البيئة المتواضعة المترصدة لكل الأحداث، وحتى يكون لهذا القول مصداقيته، لندلف إلى النماذج نَجلوها ونقلبها، وسأقتصر على اليسير منها، فالحق أنك كلما طالعتك قصيدة اجتماعية من قصائد الديوان، تداعت عليك الصُّور الاجتماعية تَتْرى، متماثلة في الجمال، متوازية في السموق، تجعل الدارس يحار في الاختيار.

المطلب الثاني: حالة غنيم الاجتماعية، واهتمامه بقضية الفقر:
لعل من الصواب أن ندرج لمحة عن واقع الشاعر وحالته الاجتماعية، قبل الإشارة إلى الإحساس الخارجي الذي يعم المجتمع، وأول ما يطالعنا في هذه الخطوة أنَّ الشاعر كان مُمعِنًا في الفقر، تكاد تسمع صدى العوز في كل بيت من أبيات الديوان، فـ"غنيم" كان ناجحًا في حياته، قد بدأ بحفظ القرآن الكريم، ثم الدراسة في المعاهد الدينية، ثم بدأ بمباشرة التعليم منذ سنة 1929م وإلى 1938م، وقد مَرَّ بنا[38] أن تاريخ نظم الديوان كان بين عامي: 1929 و1945م، فيكون قد نظمه وهو يشتغل بالتعليم، على أن السنوات الست الأخر بعد 1939م كان يشتغل فيها بالتفتيش، لكنه لم يكن أيسر حالاً وهو في التفتيش منه في التعليم، وستنطق النماذج بذلك - إن شاء الله تعالى.

ولا نشكُّ في أن مجتمع "غنيم" كان يضج بالأحزان، وتضطرب فيه الأحداث السياسية، والعادات الاجتماعية، وقد استنتج ذلك "توفيق ضعون" عن هذا العجز المادي، الذي كان يعيشه "غنيم"، بأنَّ ديوان الرجل كان يعج بأنات آلامه، وحشرجات شكاواه.

انظر كيف يصور حالته مع تلاميذه - وهو في إطار التعليم - في أنَّه يعمل على تكوين الأجيال، ويبقى هو في فلكه دون تقدم أو تأخُّر، فيقول:
"يَرْقَى بَنُوه إِلَى الْعلاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَرُقِيُّهُ أَمَلٌ كَذُوبْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سَمَحَتْ بِرَاتِبِهِ خُلُو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فٌ مَا لَهَا أَبَدًا ثُقُوبْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سِيقَ الْعِجَافُ لَهُ وَسِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَ لِغَيْرِهِ الْبَقَرُ الْحَلُوبْ"[39] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وقد عبر "غنيم" عن نقص راتبه بقوله:
"لِمُعَلِّمِ الْوَادِي رَجَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ءٌ فِي "نَجِيبٍ" لاَ يُجِيبْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لِمَ لاَ وَأَنْتَ بِحَقِّهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِي كُلِّ آوِنَةٍ تُجِيبْ"[40] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:00 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد" 2
محمد ويلالي




وكذلك كانت حاله عندما صار مفتشًا، لم يغنه التفتيش عن الفاقة، بل لم يسرَّ به مرة واحدة، فاسمع إليه يقول في عنف وقلق:


لَقَدْ خِلْتُهُ يُغْنِي عِيَالِي مِنَ الطَّوَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَكَانَ كَمَضْرُوبٍ مِنَ النَّقْدِ زَائِفِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وِزَارَةُ مَهْضُومِينَ لَيْسَ بِقَابِضٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَتًى يَرْتَقِي فِيهَا وَلَيْسَ بِصَارِفِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِذَا قِيلَ: مَنْسِيُّونَ فَتَّشْتُ عَنْهُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَلَمْ أَلْقَهُمْ إِلاَّ رِجَالَ الْمَعَارِفِ"[41] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ويتحدث عن راتبه، فيقول في أسلوب هازئ فكه:
"وَلِي رَاتِبٌ كَالْمَاءِ تَحْوِيهِ رَاحَتِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَيَفْلِتُ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ هاَرِبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِذَا اسْتَأْذَنَ الشَّهْرُ الْتَفَتُّ فَلَمْ أَجِدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إِلَى جَانِبِي إِلاَّ غَرِيمًا مُطَالِبَا"[42] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وتُعَدُّ قصيدته: "كأس تفيض" من القصائد الحزينة التي تبعث الشَّجَن في نفس القارئ، وتَجعله يُعايِن ما كان "غنيم" يُكابِدُه من حرمان وضيق وفقر، نَابعٍ من الوضع الاجتماعي المُزري الذي كانت تعيشه مصر آنذاك، فعَبَّر عنه بقوله:
"لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي عَلَى أَيِّ مَنْطِقٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أُشَاهِدُ فِي مِصْرَ الْحُظُوظَ تُقَسَّمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَكَمْ رَصَدَ الْأَفْلاَكَ فِي مِصْرَ أَكْمَهٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَزَلْزَلَ أَعْوَادَ الْمَنَابِرِ أَبْكَمُ"[43] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ثم يقول عن نفسه:
"أَقَمْتُ بِمِصْرَ عَاثِرَ الْحَظِّ سَاكِنًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَمَا سَكَنَتْ أَهْرَامُهَا وَالْمُقَطَّمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَقَفْتُ مَكَانِي لاَ أَرِيمُ وَأَخْمُصِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عَلَى الشَّوْكِ فِي طُولِ السُّرَى تَتَوَرَّمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَأَنِّي إِطَارٌ دَائِرٌ حَوْلَ نَفْسِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَطُولُ بِهِ الْمَسْعَى وَلاَ يَتَقَدَّمُ"[44] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهكذا تطفح القصيدة برمتها بهذا الأنين والحشرجات المكدرة، كأنَّ الرجلَ بَعير "معبد" استؤصل من المجتمع، أو نفاية مهملة، ليس لها في المجتمع أي قرار.

وخرج الشاعر في يوم ماطر ببلدة "كوم حمادة"، فداهمته سيارة تقذف عجلاتها مياهَ المطر على المارة، وكان الشاعر ممن أصيبوا، يقول واصفًا هذا الموقف:
"وَبَيْنَمَا نَحْنُ نَجُوزُ حَارَةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إِذْ دَهَمَتْنَا عِنْدَهَا سَيَّارَةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَنْطَلِقُ انْطِلاَقَ سَهْمٍ مَارِقِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سَابِحَةً فِي ضَفَّةِ الزَّوَارِقِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَنضَحُ بِالْمِيَاهِ جَانِبَاهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عَلَى ثِيَابٍ لَيْسَ لِي سِوَاهَا

يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:01 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 

فَطَرَّزَتْ إِذْ ذَاكَ مِنْ ثِيَابِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَا أَخْطَأَتْهُ رِيشَةُ السَّحَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَقُلْتُ وَيْلٌ لِلْفَقِيرِ الْحَافِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مِنَ الْغَنِيِّ الْمُتْرَفِ الْمِتْلاَفِ"[45] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وهكذا تتعدد النماذجُ بين كل أرجاء الدِّيوان، وقد كان لهذا تأثيرُه في تَحديد مَوقفه من كثير من القضايا التي سيأتي ذكرها في حينها - إن شاء الله تعالى.

المطلب الثالث: أسباب الضعف المادي في مصر آنذاك:
نجد "غنيمًا" - في هذا الإطار - يكشف النِّقاب عن كثير من الظواهر الاجتماعية التي سادت مصر، وكانت سببًا في حرمان الكثيرين، وانتشار الفقر والشحاذة، ويرى أنَّ مَرَدَّ ذلك ليس إلى قحطٍ مكتسح، أو أرضٍ ضنينة، أو سماء شحيحة، ولكنْ مَرَدُّ ذلك إلى الأطماع والتهافُت على المناصب، ولو دِيسَت في سبيل ذلك حرمة الفقير، وزِيدَ في جوع الطاوي؛ يقول:
"لاَ الْمَاءُ جَفَّ مِنَ الْحِيَاضِ وَلاَ الثَّرَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ضَنَّتْ مَنَابِتُهُ عَلَى الزُّرَّاعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَمْ يَفْقِدِ النَّاسُ الْحُطَامَ وَإِنَّمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَلَّ الْحُطَامُ بِكَثْرَةِ الْأَطْمَاعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَفْنَى مَوَارِدَ كُلِّ شَعْبٍ نَاهِضٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
جَيْشٌ هَجُومٌ حَوْلَهُ بِدِفَاعِ"[46]. https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وتسببت هذه الأطماع في سوء توزيع المناصب، والارتقاء إليها عبر الغش والخداع:
"لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي عَلَى أَيِّ مَنْطِقٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أُشَاهِدُ فِي مِصْرَ الْحُظُوظَ تُقَسَّمُ"[47] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ثم كان "للوسائط" دورها في تدهور "مالية الدولة"، حتى فقد الصغير حقوقه، وقلَّت الأموال، وانتشر العدم، وما فاز إلا أصحاب "الوسائط"؛ يقول:
مَا لِي أَرَى أَمْوَالَ مِصْرَ كَأَنَّهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بَعْضُ الْحُبُوبِ تُكَالُ بِالْمِكْيَالِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حَتَّى إِذَا طَلَبَ الصَّغِيرُ حُقُوقَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
شَكَتِ الْخَزَانَةُ قِلَّةَ الْأَمْوَالِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَازَ السَّعِيدُ بِعَمِّهِ وَبِخَالِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَفَقَدْتُ عَمِّي فِي الْحَيَاةِ وَخَالِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ويتطرق "غنيم" - كذلك - إلى ظاهرة الغلاء، التي اجتاحت مصر آنذاك، ووصف حالة الموظفين في سخرية طريفة، وأسلوب لطيف:
ثَقُلَتْ وَطْأَةُ الْغَلاَءِ فَحَلَّتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لِكِبَارِ الْمُوَظَّفِينَ الزَّكَاةُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لاَ تَرُومُوا الزَّكَاةَ مِنَّا احْتِسَابًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَحْنُ لاَ أَنْتُمْ بِالْجِيَاعِ الْعُرَاةُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



المطلب الرابع: الأخلاق في المجتمع المصري:
استرعى نظرَ "محمود غنيم" بعضُ الأخلاق الفاسدة التي توطَّنت في نفوس بعض الناس، بشكل جعل هذه الأخلاقَ تطفو على السَّطْح، وتعمل في هدم المجتمع، فدفعته غَيْرَةُ الداعية المسلم، الذي ينافح عن إسلامه وأخلاقه بقلمه وفنه، إلى أن يَجلو هذه المفاسد، وسنقف - إن شاء الله تعالى - على مظهرين اثنين فقط:
الأول: "الرياء":
ويتمثل في تظاهُر بعض الناس بالزهد والورع، مع استبطان غير ذلك، وقد أشار "غنيم" إلى قاعدةٍ جليلة، ذكرها القرآن مَرَّات عند الإبانة عن أحوال بَعضِ الفئات التي تُظهر الورع عند "الفقر" والضَّعف، وعندما ينعم عليهم بالفضل، ينقلب الزهد إلى جحود وكفران؛ يقول "غنيم":
"فَتَّشْتُ بَيْنَ النَّاسِ عَنْ زَاهِدٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَلَمْ تَقَعْ عَيْنِي عَلَى وَاحِدِ


يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:02 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
مَا أَزْهَدَ الْمَرْءَ إِذَا لَمْ يَجِدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَبْعَدَ الزُّهْدَ عَنِ الْوَاجِدِ"[48] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ثم يرى أنَّ الأرزاق تصل إلى أصحابِها، سواء زهد المرء في الدُّنيا أو لم يفعل، ويعرض بمن يظهر الخشية والورع مكرًا وخداعًا، وهو ما عبر عنه "بالورع الزائد" في قوله:
"سِيَّانِ مَنْ يَسْعَى إِلَى قُوتِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِالسَّلْبِ أَوْ بِالْوَرَعِ الزَّائِدِ"[49] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ويزداد المرء ثقة "بمحمود غنيم" عندما يعلم أنَّه لم يكن يدعو إلى نبذ ظاهرة هو غير مقتنع بها، أو ينهى عنها وهو يأتيها، فهو عندما يدعو إلى رفض "الرِّياء"، نجده أبعدَ ما يكون عنه، وقصة شهرته لم تكن وليدة دعاية صحفية، أو منشورات موزعة، مع أنه كان يملك وسيلة ذلك، وإنَّما هو: "من الذين لا يستطيعون تدبير وسائل الدعاية لأنفسهم؛ لأنَّه أكبر من أن يستسيغ الشعوذة والتهريج باسم الفن"[50].

وهذه خاصية أخرى من خاصيات الداعية المسلم الأديب.

الثاني: "أنصاف الرجال":
هذا عنوان لقصيدةٍ أفردها الشاعر للتنبيه على ظاهرة خطيرة، تفشَّت بين الشباب المصري آنذاك، مُمثلة في تشبه الفتيان بالفتيات، وتقليد الغرب تقليدًا مظلمًا؛ مِمَّا يدفع إلى التخنُّث، ويذهب بالرجولة التي كان من الواجب أن تكون صفةَ هؤلاء الشباب الذين كانوا يعيشون أزمةَ الاستعمار والتخلُّف، فيصور الشاعر ذلك أبدعَ تصوير باعثٍ على ذم هذا الصنف من "أنصاف الرجال" والمخنثين، في أسلوب بديع، شديد التأثير، يقول:
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَفَنَّنَ فِي مُحَاكَاةِ الْعَذَارَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَخَالَفَهُنَّ فِي وَضْعِ النِّقَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَأَرْسَلَ شَعْرَهُ الْمَضْغُوطَ يَحْكِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَمِيضَ الْبَرْقِ أَوْ لَمْعَ الشَّهَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تُدَاعِبُهُ الصَّبَا فَيَمُوجُ مَوْجًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَمَا هَبَّ النَّسِيمُ عَلَى الْعُبَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَهُ حُلَلٌ تُحَاكِي الطَّيْفَ لَوْنًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِأَزْرَارٍ مِنَ الذَّهَبِ اللُّبَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَفِيهَا جِسْمُهُ انْصَبَّ انْصِبَابًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَمَا تَدْرِي الثِّيَابَ مِنَ الْإِهَابِ"[51] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



لعمري، إنَّ هذا الوصف، وهذا التمثيل لَهو أشدُّ وَقْعًا على صاحبه من وقع السياط، كلام مثير نفاذ، وتعبير صائب أخَّاذ، وتتبع لدقائق الحركات، ويزاد الأمر تفاقمًا، والوصف استفحالاً، عندما لا تلقى هذه الصيحات صدًى عند هؤلاء، مع أن تفكرَهم في أحوالِهم أكبرُ رادعٍ لهم على ترك هذه العادات الرَّذيلة، وبخاصة إذا عُلِمَ أن معظمهم فاسِدٌ في حياته، ساقط من المجتمع، لا تجده إلا في لائحة المقعدين الذين يعملون على تكثير سواد البطالة، لا يعرف إتقانَ عمل، ولا إبرامَ حساب، ولا يروم النافع الصالح، ولا يريم إلاَّ في دائرة القبائح؛ يقول غنيم:


وَلاَ يَخْشَى عَلَى شَيْءٍ وَيَخْشَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إِذَا ثَارَ الْغُبَارُ عَلَى الثِّيَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِذَا خَاطَبْتَهُ فِي غَيْرِ لِينٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَأَوَّهَ أَوْ تَنَهَّدَ فِي الْخِطَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَإِنْ أَرْبَى عَلَى الْعِشْرِينَ مِنْهُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَتًى أَمْسَى يُغَالِطُ فِي الْحِسَابِ"[52] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ثم يفصح في آخر القصيدة عن الهدف الأسمى من دَعوته ونصيحته، وهو الخوف من أن ينقلب شبابُ مصر إناثًا، فيُفسح المجالَ أمام الذئاب الجائعة للسطو على خيرات البلد، فيظهر الضَّعف، ويتمكن الخور؛ قال:
"إِذَا الذِّئْبُ اسْتَحَالَ بِمِصْرَ ظَبْيًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَمَنْ يَحْمِي الْبِلاَدَ مِنَ الذِّئَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَرِئْتُ مِنَ الْفَتَى يَبْدُو فَتَبْدُو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عَلَيْهِ نُعُومَةُ الْبِيضِ الْكِعَابِ"[53] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:03 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
ومن فطانة الشاعر أنَّه استهل القصيدةَ بأسلوب لطيف، يدفع للاستجابة، ويَحتاط من النفور، جاعلاً شباب "مصر" - الذي هذه صفاته - "زينةَ الشباب"؛ لأنه العمدة - بعد الله تعالى - في التقدم بالأمة، ورفع صرحها عاليًا، ثُمَّ يُبيِّن أنَّ دعوته هذه ما هي إلاَّ همس في آذانِ هؤلاء الشباب؛ لعلهم عن هذه العادات يرعوون، وبالنصيحة يرتدعون؛ قال:
"شَبَابَ النِّيلِ يَا زَيْنَ الشَّبَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَيَا أَشْبَالَ آسَادٍ غِضَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَعِي عُتْبٌ أُوَجِّهُهُ إِلَيْكُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقَدْ تَصْفُو الْمَوَدَّةُ بِالْعِتَابِ"[54] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذا أسلوبٌ دعوي عملي جدير بالتقدير؛ لأنَّه مستقى من القرآن الكريم من جهة، ومن سلوك النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الدعوة إلى الله - تعالى - من جهة أخرى، وحسبنا أن نقول: إنَّ طريقة الدعوة في هذه القصيدة، مستمدة تعاليمها من قوله - تعالى -: ï´؟وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَï´¾ [آل عمران: 159]، وقوله - تعالى -: ï´؟ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُï´¾ [النحل: 125].


المطلب الخامس: موقف المسلمين من الحضارة الغربية:

تحمس "غنيم" كثيرًا لهذه القضية، وأطنب في تَحليل جوانبها، وإبراز مفاسد الحضارة الغربية، وما تستهدفه من تَحقيق تَبَعِيَّة الشرق للغرب، وشعور غنيم بوجوب وحدة المسلمين ودفاعهم عن عقيدتهم وأوطانهم، جعله يترجم ذلك في كثيرٍ من قصائد الديوان، تدفعه نفسه الحزينة، ومشاعره المرهفة، وحريته التي تأبى الضَّيْمَ والذل، والارتماء في أحضان الأعداء، وتأبى الاغترارَ بهذه المستحدثات اليسيرة الجدوى، العديدة المضار والمفاسد.



حقًّا، لقد جاب الغربُ أعماقَ البحار، وتَجَوَّل في عَنان الفضاء، وقطع الأرض طولاً وعرضًا، ولكن ذلك كله لم يُحقق السعادةَ المرجُوَّة، ولم يُزِحْ كابوسَ المشكلات الجاثي على صدر الإنسانية؛ يقول:



"ذَرَعْتُمُ الْجَوَّ أَشْبَارًا وَأَمْيَالاً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَجُبْتُمُ الْبَحْرَ أَعْمَاقًا وَأَطْوَالاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَهَلْ نَقَصْتُمْ هُمُومَ الْعَيْشِ خَرْدَلَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَوْ زِدْتُمُ فِي نَعِيمِ الْعَيْشِ مِثْقَالآ[55]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ولذلك تفطن إلى أنَّ هذه الحضارة التي بهرت عيونَ الناس، وجَرَوْا يلهثون وراءَها - ما هي في حقيقةِ الأمر إلاَّ عيوبٌ قد سُتِرَت بالخداع والمكر والكيد للمسلمين، فزَيَّنُوها لهم، وأطمعوهم في الأخذ بمعطياتِها، ثم ما لبثت الأيَّام أن أظهرت زينتها، وأماطت اللثام عن بهرجها، وأبدت للعالمين مَساوِئَها؛ يقول:



"قَالُوا: الْحَضَارَةَ، قُلْتُ: أَسْفَرَ وَجْهُهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَبَدَتْ مَحَاسِنُهَا فَكُنَّ عُيُوبَا[56] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ثم يصور هذا الخواء والزَّيْفَ عن طريق تأليب الناس ضِدَّها، وتَحميسهم للثَّورة عليها، وهو يُعَزِّي المُغْترين أنْ أفَلَتْ هذه الحضارة، وبان عَوارُها للعيان:



"عَزَاءٌ" لَنَا أَنَّ الْحَضَارَةَ أَفْلَسَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَرَوْنَقُهَا زَيْفٌ وَمَنْطِقُهَا كِذْبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




إِذَا مَا تَمَثَّلْتُ الْحَضَارَةَ خِلْتُهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لُبَاةً لَهَا جَوْفٌ وَلَيْسَ لَهَا قَلْبُ"[57] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وليس هذا ادِّعاء من غنيم، ولا ضربًا من المجازفة، وإنَّما يُقيم على ذلك من الأدلة ما يَجعل المغتر يرتدع، والمنخدع يتفطن، إذا كانا من العقلاء.



وأول هذه الأدلة: أنْ لا أحَدَ يشك في أنَّ ما نراه في عالمنا هذا من الدمار والخراب، كانت العلوم الحديثة أكبرَ عاملٍ في تأجيج ناره، وإيقاد أواره، فما أشبهها بالمعول الهدام، وإن كانت - في الظاهر - تتراءى للناظر أنَّها تبني وتُشَيِّد؛ يقول "غنيم":



"هَتَفَ الْخَلْقُ لِلْعُلُومِ زَمَانًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَانْجَلَى بَرْقُهَا فَكَانَ سَرَابَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ظَنَّهَا تَعْمُرُ الْوُجُودَ فَكَانَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِعْوَلاً يَتْرُكُ الْوُجُودَ خَرَابَا[58] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وقال:



"قَالُوا: تَأَلَّقَ نُورُ الْعِلْمِ قُلْتُ لَهُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَلْ نَارُهُ أَصْبَحَتْ تَزْدَادُ إِشْعَالاَ"[59] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وثاني هذه الأدلة أنَّ: هذه الحضارة كانت سببًا في التقتيل السريع، وتقريب المنون من الناس، فهذه المعدات الحربيَّة، كانت وليدةَ الحضارة والعلم، لكنَّ دَوْرَها انحصر في قطع الهامات، وتَخريب المجتمعات؛ قال:



"لاَ كَانَ مُخْتَرِعُ الرَّصَاصِ فَإِنَّهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَاعَ الْمَنُونَ رَخِيصَةَ الْأَسْعَارِ"[60] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وَقَالَ:



"تَقَدَّمَ مِنْهُ الْمَوْتُ أَيَّ تَقَدُّمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَسَارَ بَطِيئًا عَاثِرَ الْقَدَمِ الطِّبُّ"[61] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:05 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
وقال أيضًا:



"يَا رُبَّ حَرْبٍ بِغَيْرِ الْعِلْمِ مَا اتَّقَدَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَرُبَّ جَيْشٍ بِغَيْرِ الْعِلْمِ مَا صَالاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فِي الْمَاءِ وَالْجَوِّ آلاَتٌ مُسَخَّرَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تُصَوِّرُ الْمَوْتَ أَلْوَانًا وَأَشْكَالاَ"[62] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وهذه حقيقة واضحة ملموسة، أليست الحروبُ منبتة في مُعظم أرجاء المعمورة، تطحَنُ البشر طَحْنَ الرَّحَى للحَبِّ؟ أليس العالَمُ كله مُهدَّدًا بضغطة زر أحمر؟ أليست المئات من الأرواح الإنسانية تَصْعَد لربها شاكيةً له ظلم العباد؟



وثالث الأدلة أنَّ: الحضارة شَكَّلت أحزابًا مناوئة للدين، وهل قامت هذه الحضارة إلاَّ على أنقاضِ الكنيسة في فرنسا؟ فأصبح ينظر إلى الدين - بسبب تصرُّفات رجال الدين الخاطئة - نظرةَ ازدراء وتَهكُّم، ولم تقصر هذه النظرة على الكنيسة وَحْدَها، وإنَّما على كل ما يطلق عليه اسم "الدين".



وانتقلت هذه النظرة إلى الأوطان الإسلامية كذلك، وشمخ زَيْفُ الحضارة على يد المبهورين بها، وعلى حساب الدين؛ قال غنيم:



تَحَضَّرَ النَّاسُ حَتَّى مَا لِمَكْرُمَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قُدْسٌ لَدَيْهِمْ وَلَكِنْ قَدَّسُوا الْمَالاَ[63] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وقال:



يَدُ السِّيَاسَةِ بِالْأَخْلاَقِ قَدْ عَبَثَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَقَوَّضَ الْعِلْمُ صَرْحَ الدِّينِ فَانْهَالاَ[64] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








المطلب السادس: بين الشرق والغرب:

وإذ قد تبينت حقيقةُ هذا البريق الزَّائف، الذي يُدعى "حضارة وتقدمًا"، فماذا عسى يكون موقف المسلمين من الغرب، هل هو موقف المنادَدَة والمنافسة، أو أنَّ الشرقَ أبدى ضعفَه وانبهاره وانقيادَه، فانبطح أمام هذا البريق الزائف؟



لا شكَّ أن الواقع مؤلم للغاية، فالغفلة قد أطبقت على الشرق، مع معرفتهم بأنَّ العدوَّ الذي يُبجِّلُونه يَحتال لهم في كُلِّ آونة، ويدبر لهم من الخصومات والاستفزازات - ما تبرهن عليه هذه الحروب التي نشاهدها تدور رَحاها بين المسلمين أنفُسِهم؛ قال:



الشَّرْقُ مُضْطَرِبُ الْجَوَانِحِ ثَائِرٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَالْغَرْبُ يَهْدِرُ كَالْخِضَمِّ الْمُزْبَدِ[65] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ويقتطف الشاعر لقطةً يُحسها كل مسلم في عصرنا الحاضر، ويَحياها في كل حين، وهي هذا "الغزو الحضاري" الدَّخيل، الذي تسرب إلينا حتى في أيسر الأمور، وأدق العادات من مأكل ومشرب وملبس؛ يقول:



"إِنِّي رَأَيْتُ جُيُوشَهُ لَمْ تَغْزُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فِي الْحَرْبِ بَلْ فِي مَشْرَبٍ وَطَعَامِ"[66] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ثم يثور على التقليد، ناعيًا على الشرق ومؤنبًا، فقد أوشك هذا التقليد أنْ يُصبح عبادةً للغرب؛ لأنه تقليد مطلق، من دون مقاييس ولا نظام؛ يقول:



"يَتَوَسَّمُونَ الْغَرْبَ حَتَّى أَوْشَكُوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنْ يَعْبُدُوهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




مَا قَلَّدُوهُمْ مُبْصِرِينَ وَإِنَّمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَبِعُوا نِظَامَهُمُ بِغَيْرِ نِظَامِ"[67] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وكيف لا يَجرؤ على مثل هذه الصيحات، وهو يعلم عِلْمَ اليقين أنَّ للشرق عاداتِه المميزةَ، ودينَه الذي لا يُساميه دين؛ لأنَّه دين ربِّ العالمين الذي لا يعزب عنه شيء؟ كيف لا يثور وفي الشرق متبجحون، يلهجون باسم "أوروبا"، ويَجعلونها قبلتهم الأولى؟



ولعلَّ لفتةَ الشاعر هاتِه تُؤكِّد مدى "الهوس" الفكري الذي كان الشرقُ يضجُّ به، و"الهيستيريا" التي أصابت بعضَ أنصاف المثقَّفين من الكتاب ورائدي الفكر، فرَدَّت أقلامَهم حبيسةَ الثناء على الغرب، وحضارته البراقة، وتقدمه المزيف.



ولذلك نجد أنَّ هذه القضية كانت تُقِضُّ مضجعَ "غنيم"، ونراه يرصد قلمَه للحديث عنها كُلَّما عنَّت له مناسبة، وها هو ذا يُؤكد من جديد أنَّ رسالةَ الغرب لم تَجُرَّ على المسلمين سوى الخِذْلان والإذلال، والتبعية والهوان:



"رِسَالَةُ الْغَرْبِ لاَ كَانَتْ رِسَالَتَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَمْ سَامَنَا بِاسْمِهَا خَسْفًا وَإِذْلاَلاَ"[68] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ولا يرى "غنيم" بُدًّا من أن يَجهر بتأليبِ الشرق ضِدَّ الغرب، ويدعوه لمُعاداتِه ومُقاطعته، ففي ذلك فلاحُه ونَجاحُه، ورجوعه إلى منبعه الرَّشيد، وأصله العتيد، بادئًا بالدَّعْوة إلى مُقاطعة المنبهرين بالغرب؛ فإن ضررهم أشد، ووقعهم أنكى؛ فهم كالسوس الذي ينخر المجتمع من الدَّاخل؛ يقول:



"إِنِّي أُعِيذُ الشَّرْقَ مِنْ مُتَمَسِّحٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِالْأَجْنَبِيِّ لِقَوْمِهِ هَدَّامِ"[69] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ثم يرتفع صوتُه بالتحذير من الغرب المستخرب، ومن مكايده ضد "العربية"، وضد العادات الإسلامية الراسخة، ناهيًا عن أن نثقَ فيهم بمستحدثاتهم:



"لاَ تَأْمَنُوا الْمُسْتَعْمِرِينَ فَكَمْ لَهُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حَرْبٌ تَقَنَّعَ وَجْهُهَا بِسَلاَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




حَرْبٌ عَلَى لُغَةِ الْبِلاَدِ وَعَادِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَيْسَتْ تُشَنُّ بِمِدْفَعٍ وَحُسَامِ"[70] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:06 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 




وتطرح قضية أخرى يُصَوِّرُها "غنيم" أعظمَ تصوير، ويُجليها للناس بما يزرع في نفوسهم روحَ الثورة، والمسارعة إلى إيجاد كِيان إسلامي مُستقل، يستمد جذوره من ثوابت الإسلام الخالدة، وتعاليمه السامية المتألقة، وهب افتتان الشرق في الإشادة بمبتكرات الغرب، والتصفيق لـ"معجزاتهم" دون أن يَنْبِسوا بحَرَاك، أو تُوقِظُهم غيرة، بل مَكثوا لا يَملكون سوى السمع والنظر، والإطراء والإعجاب:



"فِي كُلِّ يَوْمٍ نَرَى لِلْغَرْبِ خَارِقَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلَيْسَ لِلشَّرْقِ إِلاَّ السَّمْعُ وَالنَّظَرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




الْقَوْمُ يَبْتَكِرُونَ "الْمُعْجِزَاتِ" لَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَنَحْنُ نَفْتَنُّ فِي إِطْرَاءِ مَا ابْتَكَرُوا"[71] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وَلَم ينسَ "غنيم" أن يتطرق بالحديث إلى هذه النظريات الحديثة، التي انبهر بها الكثير من مُدَّعي العلم والفكر من المسلمين، ورأى أنَّ أعظمها تأثيرًا ورواجًا في مُجتمعه هي نظرية: "النشوء والارتقاء" "لدارون"، فنَبَّه إلى مُخالفتها، واستهزأ من خرمها وتناقُضها وعجزها، مقسمًا الناسَ تُجاهها إلى مُبصرين متفقهين، تَهكموا في وصف النظرية وازدروا بها، وإلى مُتَهَوِّكين معتوهين مُقلدين، جعلوا "دارون" صنمًا مقدسًا:



"لَيْتَ شِعْرِي أَضَلَّ "دَارُوِنُ" بَحْثًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حِينَ آخَى الوُحُوشَ وَالْأَنْعَامَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




قَالَ قَوْمٌ: هَلاَّ شَهِدْنَا ذُبَابًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فِي الْحَيَاةِ ارْتَقَى فَصَارَ ذُبَابَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَغَلاَ آخَرُونَ فِيهِ فَقَالُوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَانَ فِي مَذْهَبِ "النُّشُوءِ" إِمَامَا"[72] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ونرى "غنيمًا" يُزري بهذه "الحضارة"، عن طريق الدَّعوة إلى حياة الفطرة دون تكلُّف أو تعقيد، فكَمْ مِنَ الأمور اليسيرة حَمَّلها أدعياءُ التطور والتقدُّم من "الحواشي" والزيادات ما جعلها مُعقدة مشكلة:



"إِنِّي أَرَى النَّاسَ مَا زَادُوا رَفَاهِيَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فِي الْعَيْشِ زَادُوهُ تَعْقِيدًا وَإِشْكَالاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




كَمْ هَانَ أَمْرٌ فَقَلَّدْنَاهُ طَائِفَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِنَ الْحَوَاشِي وَحَمَّلْنَاهُ أَثْقَالاَ"[73] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وَيَزْدَاد بُغض الشاعر للتكلف والتعقيد والاعتناء بالقشور والمظاهر، على حين ازدادَ حُبُّه للطبيعة بما فيها من أنهار وجبال وبِحَار ورمال ذهبية متألقة... يقول:



"أَقْسَمْتُ مَا نَظَرَتْ عَيْنِي بِحَاضِرَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَالرَّمْلِ أَصْفَرَ أَوْ كَالرَّمْلِ سَلْسَالاَ"[74] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ومُتيقنًا أنَّ الآباء والأجداد عاشوا في ظلِّ الطبيعة، في الأرياف، وفي الجبال والصَّحاري، ومع ذلك كانوا أحسن منا حالاً، وأكثر راحةً للبال؛ لأَنَّهم لم يعرفوا هذا التعقيد باسم النظام والقانون، حتى أصبحت أوقات الواحد منا مُجزأة بحسب الأعمال الكثيفة الوافرة؛ يقول:



"يَا طَالَمَا حَدَّثَتْنِي النَّفْسُ قَائِلَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنَحْنُ أَنْعَمُ أَمْ أَجْدَادُنَا بَالاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




كَانَتْ حَيَاتُهُمُ تُضْفِي بَسَاطَتَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَلَيْهِمُ مِنْ هُدُوءِ الْبَالِ سِرْبَالاَ" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ثم يقول:



"قَدَّرْتُمُ الْوَقْتَ تَقْدِيرَ الشَّحِيحِ بِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَكِدْتُمُ تَمْلَؤُونَ اللَّيْلَ أَعْمَالاَ"[75] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








والحاجِيَّات تطرح نفسَها، فتقضي بذَهاب بَعضِ الناس إلى "أوروبا" أو "أمريكا"، وهنا يَجب التحصُّن بالفكر السديد، والتشبُّع بالعقيدة السليمة، حتى يزدادَ هذا "البعض" نظرًا ثاقبًا، وحصاة نافذة، وأنْ يُحافظ على مكوناته العقدية، وطباعه الإسلامية السليمة، وهذه هي الازدواجية الكفيلة بتحقيق الشخصية المثالية التي تَجمع بين أصالةِ الشرق وحداثة الغرب؛ يقول:



"قَرَوِيٌّ لَمْ يَغْرِسِ الْغَرْبُ فِيهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

غَيْرَ عَقْلٍ مُثَقَّفٍ وَحَصَاةِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:08 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
وَرَدَ الْغَرْبَ ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَرْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِ سَلِيمَ الطِّبَاعِ وَالْعَادَاتِ"[76] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







ويريد أن يكون العلم المستفاد منهم علمًا نافعًا، قادرًا على القضاء على الخرافات، وإن لم يرتفع شأنه عن كونه معضدًا بحجج مُعينة، وطرق جيدة تضاف إلى الرصيد الذي دل عليه الإسلام؛ قال:



"قَضَتِ الْعُلُومُ عَلَى الْخُرَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَاتِ الْقَضَاءَ الْمُبْرَمَا"[77] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وهنا يطرح "غنيم" الحلَّ للنهوض من هذه الكبوة التي أصابت المسلمين، ويراه كامنًا في الاعتماد على النفس في بناء المجد، واستمداد القوى كلها من الإسلام، الذي هو مصدر قُوانا، وسبيل رفع هذه العالة عنا؛ يقول:



"فَقُلْ لِشَبَابِ النِّيلِ قِيلَةَ نَاصِحٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَعَافُ لَهُ أَخْلاَقُهُ أَنْ يُوَارَبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




إِذَا مِصْرُ لَمْ تَرْفَعْ قَوَاعِدَ مَجْدِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِسَاعِدِهَا لَمْ تَقْضِ مِنْهُ الْمَآرِبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَإِنْ نَكُ فِي كُلِّ الْمَرَافِقِ عَالَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَلَى غَيْرِنَا عِشْنَا بِمِصْرَ أَجَانِبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أَمَا مِنْ سَبِيلٍ لِلْحَيَاةِ وَغَيْرُنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَرَى سُبُلاً شَتَّى لَهَا وَمَذَاهِبَا؟"[78] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







المطلب السابع: المرأة:
من خلال استقراءِ بعض الدَّوَاوين، يُعْلَم أنَّ المرأةَ غالِبًا ما تُحدث بعضَ التغيير في المجرى العادي، حِيَالَ الموضوعات الأخرى، سواء من حيث المضمون، أم من حيث الشكل، وغنيم واحد ممن اجتذبهم حُسْنُ المرأة وجمالِها، فانطلق شعرُه يتحدث عنها، غاضًّا الطرفَ عن المقومات الأساسية التي تضبط التصور، وتحدُّ من انطلاقة الشعور والوجدان.

وفي بعض قصائده - في الديوان - نرى "غنيمًا" ينهج منهج الشعراء العاديين، لكن ليس بمثل ذلك التبجح بالأوصاف الخليعة، والتنقيب عن خفايا الأمور، وإنَّما إعجاب ووصف عاديان، تفاعلت معهما النفس في مرحلة من المراحل، وترجم هذا التفاعُل شعرًا، كتب له أن يعمم في الديوان، على أنَّ نظرته العامة للمرأة نظرة تكريم وتبجيل، فهو يقف في وجه مَن يريد الاستنقاص منها، أو الازدراء بها، فالمرأةُ لها كِيان، ولَها شعور، ولها دَوْرها المشهود في الحياة؛ يقول:
"وَلاَ تَقُلْ هَذِهِ أُنْثَى وَإِنْ ضَعُفَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَمَا يُدَبِّرُ مُلْكَ النَّحْلِ أُنْثَاهُ"[79] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ولكَمِ اعْتَزَّ بامرأةٍ أبدت استعدادَها لطبع ديوان أحد أصدقائه الشعراء! واعتبر ذلك مروءة تميزت بها هذه السيدة، وفاقت بها كثيرًا من الرجال:
"أُنْثَى تَفِيضُ مُرُوءَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
جَعَلَ الرِّجَالَ لَهَا فِدَا"[80] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ولعل مناط إعجابه، واعتزازه بها - أنَّ مَعروفها اقترن بمجالِ الأدب والشعر، وهو حرفة صاحبنا، فخلد ذلك في شعره قائلاً:
"زَيْنَ النِّسَاءِ بَقِيتِ لِلْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَدَبِ الْمُصَفَّى مَوْرِدَا"[81]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ويقول:
"بَصُرْتُ سَيِّدَةً تُقَدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دِرُهُ وَلَمْ أَرَ سَيِّدَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ضَرَبَتْ لَنَا الْأَمْثَالَ عَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نِيَةً فَمَنْ شَاءَ اقْتَدَى"[82]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهو يرى أنَّ المرأة عنصرٌ من العناصر الأساس الباعثة على الشعر وجودته؛ لأَنَّها مصدرُ الجمال والحسن، كما قال:
"الْحُسْنُ يَمْلِكُ حَبَّاتِ الْقُلُوبِ فَإِنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَمْ يَمْلِكِ الْحُسْنُ قَلْبًا فَهْوَ صَفْوَانُ





يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:09 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
لَوْلاَ الْجَمَالُ لَمَا كَانَ الْخَيَالُ وَلاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَوْحَى إِلَى شَاعِرٍ بِالشِّعْرِ شَيْطَانُ"[83] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ويقول:
"لاَ تَقُولِي الشِّعْرَ بَلْ أَوْحِي بِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَنْتِ خِصْبٌ لِلْخَيَالِ الْمُجْذَبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِنَّمَا الشِّعْرُ مُحْبِطٌ فَاسْلَمِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَدَعِي أَمْوَاجَهُ تَقْذِفُ بِي"[84] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهو - إضافة إلى كل ذلك - يَجعل المرأة أداةً سالبة للُبِّ العاقل، مُحركة لكوامن الشاعر مُرهف الحس، فينطلق شعره في وصف مَحاسنها، وإظهار مَفاتنها، وذلك ما فعله في قصيدته "راقصة"، حين أعجب بامرأة "مصرية" تفوز في مسابقة عالمية للجمال، فسجل هذا الإعجاب في قصيدته "عرش الجمال".

وها هنا تتدخل مبادئ "الإسلامية"؛ لتُعْلِنَ حكمها في هذا المنحى الشِّعْري؛ مِمَّا سنفصل فيه القول في حينه - إن شاء الله.

المطلب الثامن: المشاعر الأسرية والتنازعان العاطفي والنفسي:
إن من شيم المسلم الحق أنْ تتحَرَّك عاطفتُه نَحْوَ كُلِّ ضَعيف ومُحتاج إلى حنان وإشفاق، وتَزداد هذه العاطفة تأجُّجًا واتِّقادًا في مَوقف العَلاقة بين الأب وابنه، أو الأم وابنها، أو بين الأخ وأخيه، والزَّوج وزوجته، ثم ما يتصل بهذه العلاقات من التنازُع النفسي والعاطفي، فإنَّه يتوقد عند فِقدان أحد الأحبة، أو عند اقتراب وقت وداعٍ أو رَحيل؛ حيث تجد هذه اللحظات الصَّارمة "ذات مساس صادق بأغوار النفس، ونبض الحس، فتنعكس على صفحة الشعر، تَحمل ذوبًا عاطفيًّا، وشحنات نفسية دافقة بالمحبة"[85].

وأول ما يواجهنا في شعر "محمود غنيم" - ونَح بصدد معالجة هذه القضية - هذه العاطفة الإسلامية الصادقة إزاء "ابنيه"، اللذين اعتبرهما من أعزِّ وأغلى ما يطيب له، فأفضل ساعة عنده وأطيبها، هي التي يَخلو فيها إليهما، فيداعبهما، ثم يرى الصغير "الفطيم" يهتف: "أبي، أبي"، والرضيع يَحبو نحوه، مستشعرًا حنان أبيه، وفرحًا بقدومه:
"وَأَطْيَبُ سَاعِ الْحَيَاةِ لَدَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عَشِيَّةَ أَخْلُو إِلَى وَلَدَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِذَا أَنَا أَقْبَلْتُ يَهْتِفُ بِاسْمِي الْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَطِيمُ وَيَحْبُو الرَّضِيعُ إِلَيَّا"[86] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ثم يُجلِس الرضيعَ في حنان ووداعة إلى جانبه، ويداعب الفطيمَ، فيُجلسه على رُكبتيه في إشفاق ولين:
"فَأُجْلِسُ هَذَا إِلَى جَانِبَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأُجْلِسُ ذَاكَ عَلَى رُكْبَتَيَّا"[87] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ويتمثَّل تلك اللحظةَ الصَّافية الوديعة، وهو في فصل الشتاء، حينما يبسُط راحتيه على موقد فحم، يدفع به قَرْسَ البَرْد، لكنَّ حنان الأبوة واستشعارَه السرورَ والفرحة - وهو في هذه الحالة - يَجعله يَنْسى مَتاعِبَ الحياة، وكَدَّ العمل، كأنه لم يتعب ولم يكد
"وَأَغْزُو الشِّتَاءَ بِمَوْقِدِ فَحْمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَبْسُطُ مِنْ فَوْقِهِ رَاحَتَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هُنَالِكَ أَنْسَى مَتَاعِبَ يَوْمِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَأَنِّيَ لَمْ أَلْقَ فِي الْيَوْمِ شَيَّا" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



والشاعر الفقير البائس يرى الجمالَ في كُلِّ شيء، والمتعةَ في كل حركة، إنَّه يرى نفسه "ملِكًا"، ويرى كوخَه المتواضع قصرًا شامِخًا، بفعل هذا التفاعل العاطفي الذي يُحِسُّه تُجاه ابنيه، فهما السعادة الحقيقية، وهما المتعة المنصفة، بل إنَّ الشاعرَ يُحِسُّ أكْثَرَ من ذلك، يُحِسُّ ابنيه يُغْنيانِه عن كل شيء، حتى عن الطعام والشراب:
"وَأَحْسَبُنِي بَيْنَ طِفْلَيَّ "شَاهًا" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَحْسَبُ كُوخِيَ "قَصْرًا عَلِيًّا" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَكُلُّ طَعَامٍ أَرَاهُ لَذِيذًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَكُلُّ شَرَابٍ أَرَاهُ شَهِيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَمَا حَاجَتِي لِغِذَاءٍ وَمَاءٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِحَسْبِيَ طِفْلاَيَ زَادًا وَرِيًّا"[88] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




إنَّها العاطفة الأبوية الحَقَّة المستمدة جذورها من تعاليم الإسلام السمحة، إنَّه الانسجام المطلق، وتَحقيق المودة المطلوبة، وتأتي لحظة المتعة العظيمة، لحظة تَحقيق الكمال العاطفي، والتفاني في الحنين، عندما يقول الأب: "ابني"، ويقول الابن: "أبي"، إنها لحظة السمو بالنفس، وتهذيب الأحاسيس:
"وَأَيَّةُ نَجْوَى كَنَجْوَايَ طِفْلِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَقُولُ "أَبِي"، وَأَقُولُ "بُنَيَّا؟" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:10 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 


وهكذا يهون كل فعل يصدر من الابن في عين الأب، ولو كان فيه إتلاف، ولو كان فيه تضييع، فالطفل له منزلة سامقة، وهو باني جيل المستقبل، فلندعُ له اللهَ بالحفظ والبقاء؛ لأَنَّه فلذة الكبد، بل إنَّه في نظر الأب مقلته التي يبصر بها:
"أَيَا ابْنَيَّ أَحْبِبْ بِمَا تُتْلِفَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَهْوِنْ بِمَا تَكْسِرَانِ عَلَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَصُونُكُمَا اللَّهُ مِنْ حَادِثَاتِ الزْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
زَمَانِ وَيُبْقِيكُمَا لِي مَلِيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَيَكْفِيكُمَا اللَّهُ شَرَّ الْبُكَاءِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَيَحْفَظُ مِنْ وَقْعِهِ أُذُنَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَمِنْ كَبِدِي أَنْتُمَا فَلْذَتَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نِ أَمْ أَنْتُمَا حَبَّتَا مُقْلَتَيَّا"[89] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ونجد "غنيمًا" يقوم بترجمة شعرية لمقطوعة نظمها "جبران خليل جبران" بالإنجليزية، بعد أنْ ترجمها نثرًا "أنطونيوس بشير"، وهي وإن كانت تُمثِّل شريحةً إنسانية مُعينة، لوسط غير الذي عاش فيه الشاعر "غنيم"، إلاَّ أنَّ العمل على ترجمتها شعرًا، وإيرادها في هذا الديوان - دليلٌ واضح على تبني الفكرة، وإيمان منه أن هذه الشريحة الإنسانية نفسها قد عرفها المجتمع المصري، أو على الأقل تَمثلت في بعض جوانبه.

والقطعة فيها تخيل لهمس الأم مع ابنتها في الخفاء، فترجم الشاعر الإحساس الذي يُمكن أن يعتري كلاًّ منهما عند الحوار، وكيف تريد كلُّ واحدة أن تثبت حَقَّها في الوجود، فالأم كرهت ابنتها، وجعلتها سببًا في اكتهالها، وانتقاض قواها، ودفعتها غيرتُها إلى أن تحاول سلب ما اجتزأته من عافيتها وفِكْرِها وسهرها في تربيتها، مُعْتبرة ذلك كُلَّه سَعْيًا في نُمُو هذه البنت على حساب صِحَّتها وجهدها، ويبلغ بها الانفعال درجةً تَجعلها تتمنى لو وأدتها، فتخلصت من مزاحمتها:
"قَالَتِ الْأُمُّ: يَا بُنَيَّةُ تَبًّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَكِ تَبًّا مِنْ حَيَّةٍ رَقْطَاءِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنَا لَوْلاَكِ مَا اكْتَهَلْتُ وَلَكِنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كُنْتُ فِي عُودِ كَاعِبٍ عَذْرَاءِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَكِ رُكْنٌ تَبْنِينَهُ بِانْهِدَامِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَحَيَاةٌ تَفْنِينَهَا بِفَنَائِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَيْتَنِي أَسْتَطِيعُ وَأْدَكِ حَتَّى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَحْتَسِي مَا احْتَسَيْتِهُ مِنْ دِمَائِي"[90] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ثم ينتقل الحوار إلى البنت؛ لتعبر عن شعورها وإحساسها إزاءَ الألم، فتُعيرها بكبر سِنِّها، ودَمامَتِها، وترميها بالأنانية والاستئثار بالعيش، واعتبرتها قيودًا تُكبلها، وتَحجبها عن الانطلاق والالتذاذ بالحياة، ويصل بها الانفعال - هي الأخرى - درجةً تتمنى لو تتخَلَّص فيها من أُمِّها بوَأْدِها، فتستريح:
قَالَتِ الْبِنْتُ: يَا أُمَيْمَةُ تَبًّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَكِ شَمْطَاءَ ذَاتَ وَجْهٍ دَمِيمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَمْ تُرِيدِينَ أَنْ أَعِيشَ كَمَا كُنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تِ تَعِيشِينَ فِي الزَّمَانِ الْقَدِيمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنْتِ غُلٌّ فِي أَخْمُصَيَّ ثَقِيلٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَحِجَابٌ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّعِيمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَيْتَنِي أَسْتَطِيعُ وَأْدَكِ يَا أُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَاهُ حَتَّى أَشُمَّ رِيحَ النَّسِيمِ[91]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يتبع

ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:11 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 

وهكذا يدور الحوار في "اللاَّوعي"، ويدور صراع خفي، في تَحييز الواحدة للأخرى في دائرة ضيقة، بِحُبِّ تَحقيق الاستقلالية الذَّائبة، واستشعار الكِيان الفردي، المنبثق عن الكيان الآخر، لكنَّه عند حالة الوعي والصَّحْوة تتلاشى هذه الحوادث، ويحضر الحنان الأبوي الخالص؛ ليزيلَ كل عقبة تقف في وجه العاطفة الصادقة، وتزيح كلَّ صخرة تريد إعاقةَ المجرى الطبيعي لبدهِيَّات الأمور، وانتبهت الأمُّ من سباتها، وسُرعان ما اندثر الإحساس الخفي؛ لتحل محله الحقيقة الواضحة، التي تجد مستندًا لها في "العقيدة"، وفي ربط العلاقات الأسرية، انتبهت لتعانقَ ابنتها، ولتعترف أنَّها روحها وراحتها، وأنَّه لولا إحداهما، لَمَا كانت الأخرى:
"صَحَتِ الْأُمُّ بَعْدَ ذَاكَ فَقَالَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَا ابْنَتِي يَا حَمَامَتِي عَانِقِينِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَانَقَتْهَا فَتَاتُهَا ثُمَّ قَالَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَنْتِ رُوحِي وَرَاحَتِي قَبِّلِينِي"[92]




https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



والنفس بطبعها نَزَّاعة إلى الهوى، تذهب بصاحبها كُلَّ مَذهب، ولا يُحجمها إلاَّ العقل والفطانة، والاتِّزان والاستقامة، وهي أكثرُ ثَوْرَةً وعنفوانًا في حالة فَقْدِ مَن يَصْعُب فراقهم من الأقرباء والأصدقاء، ولكَمْ تَحدث الشعراء في هذا الإطار! فأبدى بعضُهم تذمُّرَه من القضاء، وتضجره من الموت الذي يسلب - في نظر هذا البعض - الأحباب سلبًا، ويُرديهم إلى عالَم الفناء والصَّمْت، وما درى هؤلاء - لضعف الوازع الديني - أنَّ مِن مُستلزمات الإسلام الإيمان بالقضاء والقدر، والرِّضا بما يرتضيه الخالق المدبر، ثم تراهم من جهة أخرى ينساقون وراء النفس السافلة؛ ليُحيوا المآثم في أشعارهم، وكتاباتِهم، وتُحِسُّ في سطورهم صليلَ الندم، وحشرجات البكاء والعويل، وعلامَ كل ذلك، والعلم يقين بأن يدَ الردى سوف تكتنفُ الجميع، حتى لا يبقى إلاَّ الخالق سبحانه؟ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26 - 27].



وشاعرنا قد تشرب هذه الحقيقة، وجعل شِعْرَه رادعًا لكل من سَوَّلت له نفسه التضجر والجفوة من القدر، ويدعو إلى توجيه العواطف الإيمانية وجهتها الصَّحِيحة، وهو بهذا يكون قد حَقَّق بأداته الشِّعرية، ما رسمناه نظريًّا في بداية هذا البحث، من كون "الأديب في نظر الإسلام مسؤولاً مسؤولية تامة عن فكره الذي يلتزم به، وقيمه التي يتغنَّى بها، وآماله وأهدافه التي يدعو إليها؛ لأَنَّ للأدب الإسلامي رسالةً تبدأ بتربية ذَوْق المسلم تربيةً جمالية مُهَذَّبة، وتنتهي بتشكيل عقله ووجدانه تشكيلاً موافقًا لعقيدة الإسلام، في شمول تصورها، وإيجابيته، وواقعيته"[93].



وكذلك فعل "غنيم" في تعزيته لصديقٍ في فقْده شقيقًا له، فكتب له بعضَ أبيات تسليةً وإخمادًا للوعة الرحيل، ساق فيها مُجمل المعاني السامية التي يَجب على المسلم أن يتمثل بها في هذه الحالة الحرجة، التي تتطلب كاملَ التعقل، وفارط الاتِّزان، ومن ذكاء "غنيم" أنَّه بدأ بطرحِ قضيته الخاصة، في أنه يعيش كآبةً مُرَّة؛ بسبب طباع المجتمع الفاسدة، وعاداته المتخلفة الساذجة، إضافةً إلى حرمانه وعوزه:




"تَرَى هَلْ أَسُوقُ إِلَيْكَ الْعَزَاءَ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكَيْفَ يُعَزِّي حَزِينٌ حَزِينَا"[94] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وهذه كافية في إزاحة كابوس الألم والكدر، وقادرةٌ على أنْ تشعر بالتسلية، لكنَّ الشاعر يبيِّن أنَّ المفقود لم يكن له ليخلد في هذه الحياة، فإنَّ جبريل - الروح الأمين - وهو المتقدم على سائر الملائكة سوف يلقى - بإرادة من الله - المصير نفسه، فعلامَ إذًا هذه المسحة من الحزن، واعتصار هذا الألم؟ مع أن ما توافر لهذا المفقود من حسن سريرة، ورجاحة عقل، واستقامة دين، جعل الاطمئنان عليه واردًا:



"إِذَا مَا أَلَمَّ "بِجِبْرِيلَ"[95] خَطْبٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَإِنَّ لِجِبْرِيلَ عَقْلاً وَدِينَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَهَلْ كُنْتَ تَرْجُو خُلُودَ أَخِيكَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلَوْ أَنَّهُ كَانَ "رُوحًا أَمِينَا"؟"[96] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







على أنَّ منطلق البُكاء والندب، يفرض علينا - وقد جعلناه عدتَنا في كلِّ تَعزية - أنْ نبكي طولَ الدهر، وأن نقضي هذه الحياة الظرفية المحدودة في أنين وحزن وشهيق؛ لكثرة الأحبة المغادرين، والأعزاء الراحلين، أليس العشرات - بل المئات - من الأبرياء يلفظون أنفاسهم في كل يوم؟ وعدد لا يُحصى من الدُّعاة الأوفياء تعصف بهم يَدُ الرَّدَى كلَّ يوم؟ أليس عدد من الأطفال والشيوخ يذوقون حرارةَ الموت في كل حين؟ فعلامَ الجزع إذًا؟



"إِذَا نَحْنُ فِي إِثْرِ كُلِّ عَزِيزٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَكَيْنَا قَضَيْنَا الْحَيَاةَ أَنِينَا"[97] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








المبحث الثالث: القضايا الوطنية:

لعل فيما تقدم من مواقفَ اجتماعية تَمَيَّز بها "غنيم" عن أترابه من شُعراء عصره، والتي استقطبت بعضَ الأسس الإسلامية في التحليل والمعالجة، لعل ذلك كفيلٌ بتحديد رؤية "غنيم" لبلده "مصر" ولباقي الأقطار العربية والإسلامية، والحق أنَّها كانت نظرة شديدة الارتباط بنفسية المسلم الذي يرى واجبًا أنْ يَعيش أحداثَ عصره، ويتفاعل معها كأنَّها جزء من كيانه، أو كأنَّها أسرةٌ صغيرة تولَّى هو - بنظره الثاقب، وفكره النافذ - توجيهَهَا، وإيضاحَ المسلك الرَّشيد الذي يراه كفيلاً بنجاحها، وانتصارها على المناوئين من أعدائها، وكأني به يستحضر قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]، وقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلم للمسلم كالبنيان؛ يشد بعضه بعضًا))[98].



ثم في إطار الدَّعوة إلى الوحدة والتضامُن، لم يقصر الطرف على بلده مصر وحسب، وإنَّما استطالت نظرته؛ لتشملَ واقعَ المسلمين ككل، ويَخص بالذكر "العرب"، الذين كان لهم ماضٍ مُحدد معروف، كانت لهم حضارة متميزة باسطة أردانَها على مُعظم المعمورة.



أما فيما يتصل بالإطار الخاص - أي الحديث عن مصر - فأول ما يواجهنا أنَّ الديوانَ قد زخر بذكر مصر، وكيف لا؟ واجتماعيته كانت في مُعظمها تَختص بعلاجِ أمراض مصر، وسِمَة بعض عاداتها، كما اختصت بتمجيد ماضي مصر، والإشادة ببعض مَحاسِنِها، فهذه "الإسكندرية"، هذا الثَّغْر المجيد، قد اجتذبت أحداثُ الحرب العالمية الثانية الشاعرَ للحديث عنها؛ لما أصابها من ويل تلك الحروب الطاحنة، وجعلها ثغرًا لا يبتسم، وفيه دليلٌ على أنَّ "الإسكندرية" كانت ثغرًا دَائِمَ الابتسامة، مستديمَ الإشراق والمجد، فينطلق إزميل الشاعر؛ ليحدثنا عن حال هذه الزاوية الجميلة، قائلاً:



"الشَّطُّ دَاجٍ وَالسُّكُونُ مُخَيَّمٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَا بَالُ ثَغْرِ الثَّغْرِ لاَ يَتَبَسَّمُ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




عَهْدِي بِهِ طَلْقًا صَبِيحَ الْوَجْهِ إِذْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَجْهُ الطَّبِيعَةِ عَابِسٌ مُتَجَهِّمُ"[99] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وكذلك قال في قصيدة أخرى، نظمها في فاجعة الإسكندرية سنة 1941م:



"الثَّغْرُ أَيْنَ مَضَى رِوَاؤُهْ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَوَلَمْ يُفَارِقْهُ شِتَاؤُهْ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




كَانَتْ تَمُوجُ ظِبَاؤُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَا بَالُهُ نَفَرَتْ ظِبَاؤُهْ؟"[100] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وهو إذْ عاش مرارةَ الحرب، صَوَّرها في فاجعة الإسكندرية، وإن كان في الواقع يعبِّر عن فاجعة النفوس، وفي مقدمها نفسه الأليمة المكدورة، من جَرَّاء التدمير الذي يَجتاح عددًا ليس باليسير من الأقطار والمدن والقرى، فلا يجد بُدًّا - وهو يتحدث عن الإسكندرية - أن يعرج على هذه الأحداث:



"وَجَلاَ الشَّرَارُ ظَلاَمَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حَتَّى غَدَا كَدِرًا صَفَاؤُهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يَرْمِيهِ بِالنِّيرَانِ سَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حِلُهُ وَتَرْجُمُهُ سَمَاؤُهْ"[101] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يتبع





ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:12 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 




وفي إطار الحديث عن "مصر"، نرى الشاعر يُشيد بها في كل مناسبة، ويقرن مَجدها بمجد أبنائها، فها هو ذا يعجب بالأديب الوزير "إبراهيم دسوقي أباظة"، ويهنئه بارتقائه إلى مَرتبة الباشوية، ثم انتظر سؤالاً فيه نوع عتاب عند امتداحه له، فيجيب بأنَّ في تكريمه تكريمًا لبلاده، وأن مصر بمثابة الأم التي تتيه ميسًا عند انفتاح كل برعومة، تنسمت عبيرَ الحياة الألقة:



"قَالُوا تُكَرِّمُهُ فَقُلْتُ فَتًى إِذَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَرَّمْتُهُ كَرَّمْتُ فِيهِ بِلاَدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ابْنٌ لِمِصْرَ تَتِيهُ مِصْرُ بِبِرِّهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَالْأُمَّهَاتُ يَتِهْنَ بِالْأَوْلاَدِ"[102] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وعلى الواجهة الأخرى، نرى "غنيمًا" يتحدث عن الجانب المظلم الذي عانته مصر من جراء الحروب، في قصيدة اختارَ لها عنوانَ: "الهلال الأحمر"؛ أي: إنَّه مصبوغ بالدماء، وهو انعكاس نفسي لكثرةِ الدِّماء التي وقعت عليها عَيْنُ الشاعر، يذكر فيها غارات الإيطاليِّين على مصر في عهد "موسوليني"، ولا يَجد مردًّا في إبداء حزنه على هذا البلد العتيد الذي عرف مجد الحضارة، وسُمُوقَ التقدم، إلى جانب حاضرها الزَّاهر، وأكثر ما يشد الشاعر لبلده ما عرفته من ديانات قديمة أبدت قَدْرَ مصر، فقد كانت مسرحًا للنصرانية، واليهودية، والإسلام، وفتحت ذراعيها مُرَحِّبة بكل ذلك، مبدية قدرتَها على التحدي، وثباتها في الأمور:



"عَتَبَتْ بِمِصْرَ فَرَوَّعَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هَا كَفُّ شَيْطَانٍ مَرِيدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




لَمْ تَرْعَ مَاضِيَهَا وَلَمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَحْفِلْ بِحَاضِرِهَا الْعَتِيدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




بَلَدُ الشَّرَائِعِ وَالْهُدَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكِنَانَةُ اللَّهِ الْوَدُودْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَرَّتْ بِمِصْرَ خِلاَفَةُ الْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِسْلاَمِ مِنْ عَهْدٍ عَهِيدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَمَشَى الْمَسِيحُ بِهَا وَمُو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سَى فِي ثَرَاهَا الطُّهْرُ عِيدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




مَا ضَاقَ ذَرْعًا بِالنَّصَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

رَى رَحْبُهَا أَوْ بِالْيَهُودْ"[103] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








أمَّا من حيث الإطار الخارجي، فإنَّ "غنيمًا" أثبت رسوخَ قدمه في اعتنائه بأُمورِ المسلمين، وتَتَبَّع مُعظم الحالات التي عادت على الأقطار العربية بأسوأ عائد، فانظر كيف يعدُّ "العراق" - مثلاً - جزءًا لا يتجزأ من كيان الأمة الإسلامية، وأنَّه يَحِنُّ إلى أهله حنينَه إلى أهل وطنه، بل جعلهم من معشر الآل والأصحاب، وإن لم يكن اطِّلاعه على العراق أو اتِّصاله بأهله إلاَّ عبر الكتب:



"حَيَّيْتُ فِي شَخْصِ "الْجَمَالِي"[104] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَلَدًا حَوَى شَطْرَ الْجَمَالِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




بَلَدًا أَحِنُّ لِسَاكِنِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هِ كَأَنَّهُمْ صَحْبِي وَآلِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




إِنْ كُنْتُ لَمْ أَزُرِ الْعِرَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قَ وَلَمْ أَشُدَّ لَهُ رِحَالِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَلَكَمْ أَقَلَّتْنِي إِلَيْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هِ الْكُتْبُ فِي جُنْحِ اللَّيَالِي"[105] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:13 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 




ثم لا يفتأ يتغنى بالحضارة العظيمة التي عرفها العراق، والتي تبعثُ على الاعتزاز بهذا القُطر الذي كانت له مكانتُه العظيمة من حيث الثَّقافة والمعارف:



"بَلَدٌ إِلَى أَحْضَانِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

آوَى الْحَضَارَةَ مِنْ ضَلاَلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




نَظَمَ الْمَعَارِفَ تَاجُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نَظْمَ الْفَرِيدِ مِنَ اللَّآلِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أَدَّى إِلَى الْجِيلِ الْجَدِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

دِ رِسَالَةَ الْأُمَمِ الْخَوَالِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




إِنْ يَتَّصِلْ طَرَفَا الثَّقَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَةِ فَهْوَ حَلْقَةُ الِاتِّصَالِ"[106] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ويتحدث "غنيم" عن علاقة مصر ببعض الدُّول الشقيقة، ويَمزج ما بين إعجابه ببلده، وإعجابه بهذه الأقطار الإسلامية الأخرى، فهو يَجعل - مثلاً - مصر والسودان كالدولة الواحدة، التي لا تفرق بينها جدران سياسية أو جغرافية، بل إنَّه يثور على هذا التقسيم، ويَعُدُّ النيلَ صِلَةَ الْوَصْل بين البَلَدين، فلماذا هذه التفرقة، وهذه الحيطان التي تفصلهما؟



"يَا جِيرَةَ النِّيلِ حَيَّ اللَّهُ مَقْدِمَكُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَسْنَا نَعُدُّكُمُ فِي مِصْرَ ضِيفَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




لَقَدْ نَزَلْتُمْ بِرَهْطٍ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَزُرْتُمُ بَدَلَ الْأَوْطَانِ أَوْطَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




لَمَّا نَزَلْتُمْ عَنِ الْفُصْحَى بِدَارَتِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَادَتْ تُرَحِّبُ آسَاسًا وَجُدْرَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




إِنَّا نُكَرِّمُ فِي أَشْخَاصِكُمْ وَطَنًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَوْ صُوِّرَتْ مِصْرُ عَيْنًا كَانَ إِنْسَانَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




النِّيلُ قَدْ وَحَّدَ الرَّحْمَنُ وَادِيَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَفِيمَ نَقْسِمُهُ مِصْرًا وَسُودَانَا"[107] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ويعبر عن التضامن الذي تعرفه بعضُ الدول، والذي يَجب أن يَكْسُوَ كُلَّ البقاع الإسلامية، ويستشعره كل فرد من أفرادها، حتى إذا أَنَّ ذُو شَجَن في الشام، علم به من في المغرب، ومن تأوه في العراق، آساه من في السودان:



"كَمْ بِالْعِرَاقِ وَكَمْ بِالْهِنْدِ ذِي شَجَنٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

شَكَا فَرَدَّدَتِ الْأَهْرَامُ شَكْوَاهُ"[108] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ويمعن في هذه القضية حين يَعُدُّ أنَّ الأمصار الإسلامية ما هي إلا مصر، وإن تعدَّدت أسماء جنباته، ويرد على الذين يستعذبون نسبةَ أنفسهم إلى بلد دون بلد في شَكْلٍ من التحيُّز والجغرافية؛ مِمَّا يعين على التفرقة، ويقرب الطريق أمام المستعمر:



"قَالُوا الْعِرَاقُ وَمِصْرُ قُلْنَا بَلْ هُمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِصْرَانِ بَلْ مِصْرٌ مِنَ الْأَمْصَارِ"[109] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وهذه قصيدته الخالدة "وقفة على طلل"، التي لهجت بها الألسن في كل مكان، حتى قيل: "لو أنه ليس لغنيم إلاَّ قصيدته هاتِه، لكفتْه"، هذه القصيدة التي قالت فيها جريدةُ "طرابلس الغرب اليومية": "ولعل قصيدته "ما لي وللنجم يرعاني ويرعاه" - تقصد قصيدةَ "وقفة على طلل" - أصبحت أعلق بأذهانِ الناطقين بالضاد من "قفا نبك" التي ضُرِبَ بشهرتها المثل"[110]؛ لأَنَّها كانت تُمثل أنينَ كل عربي مسلم، وتترجم أحاسيسَ كلِّ من له أحاسيس، وفيها تتجلى القضايا الوطنية بارزة؛ حيث وصف الواقع المؤلم الذي يعيشه المسلمون، وبين ميزات الماضي الذي:



"كُنَّا نَعِيشُ عَلَى أَنْقَاضِهِ أُمَمًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَنَسْتَمِدُّ الْقُوَى مِنْ وَحْيِ ذِكْرَاهُ"[111] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


يتبع

ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:14 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 




وربط فيما بين الماضي والحاضر والمستقبل، كل ذلك في صورةٍ جَلِيَّة، لا تقبل التسامُح في الوصف، أو المداهنة في تقرير الحقائق؛ ذلك أنَّه عندما يذكر ميزات كل قطر، التي عرفها في الماضي، فهذا يعني أن هذه الأقطار قد تخلت عن تلك المَيْزَات، وعليها أن تتدارك وضعها، وتسترد مَجدها، فهو يَعُدُّ هذه الأقطار أسرة واحدة، تصلها روابط العمومة:



"بَنِي الْعُمُومَةِ إِنَّ الْقَرْحَ مَسَّكُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَمَسَّنَا نَحْنُ فِي الْآلاَمِ أَشْبَاهُ[112]" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وهو يتذكر فاجعة الأندلس، التي كانت معقلاً شامِخًا من معاقل المسلمين، ويندب حَظَّ المسلمين في ذهابه، فأين ذلك العز الذي عرفته "الحمراء"؟ وأين الجاه الذي كان يضرب به المثل؟



"بِاللَّهِ سَلْ خَلْفَ بَحْرِ الرُّومِ عَنْ عَرَبٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

باِلْأَمْسِ كَانُوا هُنَا مَا بَالُهُمْ تَاهُوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَإِنْ تَرَاءَتْ لَكَ الْحَمْرَاءُ عَنْ كَثَبٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَسَائِلِ الصَّرْحَ أَيْنَ الْعِزُّ وَالْجَاهُ؟"[113] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ثُم يعرج على دمشق، ويستحضر "المسجد الأموي" الذي طارت شهرته:



"وَانْزِلْ دِمَشْقَ وَسَائِلْ صَخْرَ مَسْجِدِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَمَّنْ بَنَاهُ لَعَلَّ الصَّخْرَ يَنْعَاهُ" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ويذكر مجد بني العباس بالعراق، وما خلدوه من أعمالٍ جليلة، ومآثرَ محمودة:



"وَطُفْ بِبَغْدَادَ وَابْحَثْ فِي مَقَابِرِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَلَّ امْرَأً مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ تَلْقَاهُ" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وهو إذ يذكِّر الشعوبَ بما مضى، لم ينسَ أو يسلس لهم القياد، ويُمَهِّد أمامَهم العقبات؛ ليتداركوا، وقد اختار لذلك أن يذكرهم بسبب انتصارِ الدَّولة الإسلامية أيامَ كان أفرادها معدودين، وأيام بدا الإسلامُ غريبًا يجد المعارضة من كل جانب، ومع ذلك لم يَملك الناس إلا أن يسلموا، ويظهر لهم سماحة الإسلام وعدله جليين واضحين:




"وَرَحَّبَ النَّاسُ بِالْإِسْلاَمِ لَمَّا رَأَوْا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَنَّ الْإِخَاءَ وَأَنَّ الْعَدْلَ مَعْزَاهُ"[114]




ثم يذكرهم "بعمر" - رضي الله عنه - الذي لم يكن قوتُ يومه لِيزيدَ عن الزيت، ومسكنه ليستنكف عن الكوخ، ومع ذلك هابته الإمبراطوريَّتان العظيمتان: فارس والروم:
"يَا مَنْ رَأَى عُمَرًا تَكْسُوهُ بُرْدَتُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالزَّيْتُ أُدْمٌ لَهُ وَالْكُوخُ مَأْوَاهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَهْتَزُّ كِسْرَى عَلَى كُرْسِيِّهِ فَرَقًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مِنْ بَأْسِهِ وَجُيُوشُ الرُّومِ تَخْشَاهُ"[115] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



إنه الإيمان القوي، والتمسك الشديد بالإسلام، وقوانينه وشرائعه، لا مهادنة ولا مواربة، وبهذا يتضح للشعوب أنَّ سببَ ضعفِهم وانهيارهم ما هو إلاَّ عزوفهم عن تعاليم الإسلام، واستبداله بغيره من النظم الوضعية، حتى أصبح الإسلامُ غريبًا في داره، وبين أبنائه، مقصوص الجناح، لا يَملك حَرَاكًا:
"أَنَّى اتَّجَهْتَ إِلَى الْإِسْلاَمِ فِي بَلَدٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَجِدْهُ كَالطَّيْرِ مَقْصُوصًا جَنَاحَاهُ"[116] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وتتأكد وطنية "غنيم" بكثرة تَردادِه لفظَ العروبة ومشتقاته؛ إظهارًا لشدة حرصه على إعادة العرب إلى منبعهم الأصيل، واجتماعهم على الكلمة الواحدة، وتضامنهم في مُواجهة الأعداء وتَحقيق النصر؛ إذ الإشادة بالعروبة عند "غنيم" تعني الإشادة بأمجادهم وحضارتهم، وقد تكرَّر اللفظ في قصيدة: "وقفة على طلل" وحدها عَشْرَ مَرَّات، لكن كثيرًا ما ذكره مقرونًا بسبب عِزَّةِ العرب ومَجدهم، وهو الدين؛ ولذلك وردت هذه الكلمة وما في معناها في القصيدة نفسها إحدى عشرة مرة، وهذه معادلة ترفع الأولى إلى درجة الثانية؛ لشدة الأهمية، كأنَّ "غنيمًا" يرى أنَّ العرب في الإسلام، ويرى الإسلام في العرب، حتى وصل به ذلك إلى شيء من المغالاة[117] حين قال:
"إِنِّي لَأَعْتَبِرُ الْإِسْلاَمَ جَامِعَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لِلشَّرْقِ لاَ مَحْضَ دِينٍ سَنَّهُ اللَّهُ"[118] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وفي الجملة، فإنَّ هذه القصيدة دُرَّة من دُرَرِ الشعر العربي الخالدة، وهي واضحة في اعتناء "غنيم" بشؤون العالم الإسلامي كله، مكسرًا بذلك حدودَ الذاتية، وهذا ما استنتجه "دسوقي أباظة" حين قال: "من أهم خصائص هذا الشاعر - يقصد غنيمًا - أنه امتدادٌ للخالدين من عمالقة الشِّعْر العربي، فليس شعره ذاتِيًّا يدور في فلك حياته الخاصة، أو محليًّا يتغنى بالأرض التي درج عليها، وإنَّما هو شعر ينتظم آفاقَ الوطن العربي الكبير"[119].

وغالبًا ما يتصل الحديث عن "العروبة" بالحديث عن العربيَّة، التي سبق أن حدَّد "غنيم" أنَّ سِرَّ انتصار المسلمين كامن في دينهم ولغتهم الضاد، وهو حين يقول:
"أَنَا بِالْعُرُوبَةِ وَاثِقٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ثِقَتِي بِوَحْدَةِ ذِي الْجَلاَلِ"[120] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ليس معناه أنَّ حُبَّ العرب هو حب لذاتِهم، وإنَّما لما حباهم به ربُّ العالمين من مَيْزَات في دِقَّة لُغتهم التي جلها بجلال القرآن، وحفظها بحفظه له؛ ولذلك تراه يتذَمَّر ويَمتلئ حزنًا لما أصاب هذه اللغة من تحريفات، ودخيل من العامية واللغات الأجنبية:
"أَوَمَا كَفَاهَا مَعْشَرٌ مِنْ أَهْلِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تَرَكَ الْعُرُوبَةَ جَانِبًا وَاسْتَعْجَمَا





يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:15 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
وَتَخَاذَلَ الْأُسْلُوبُ لَيْسَ بِمُفْهِمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَعْنًى وَلاَ نَطَقَ الْجَمَادُ فَأَفْهَمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حَسِبَ الرَّطَانَةَ حِلْيَةً لِبَيَانِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَسَرَى إِلَيْهِ لُعَابُهَا فَتَسَمَّمَا"[121] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ثم يأتي دور التأكيد الصارم في أنَّ اللغةَ تعبر عن ارتقاء أصحابِها بارتقائها، أو انحدارهم بانحدارها:
"إِنْ تَرْتَقِ اللُّغَةُ ارْتَقَى أَبْنَاؤُهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَإِذَا هَوَتْ فَأَقِمْ عَلَيْهَا مَأْتَمَا"[122] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وبعد هذا، فيحق لنا أن ننعت غنيمًا بأنَّه شاعر الإسلام والعروبة.

المبحث الرابع: قضايا الجهاد:
ما من شَكٍّ في أن الجهادَ من أهم الدعائم التي أسس الإسلامُ بُنيانَها، وعمل على تَحبيبها في نفوس المسلمين، وما تكوين الدولة الإسلامية، مع وضع قوانين مُعينة لحمايتها، إلاَّ مظهر من مظاهر الدِّفاع عنها، وحمايتها من ظلم الآخر، وإذا كان دور العلماء يتجلى في التوعية، وجلاء الصدى عن العقول الضَّعيفة، وتفقيه الناس بأمور دينهم ودُنياهم، فإنَّ دَوْرَ الحكام حمايةُ هذه الأسس، والذود عنها، فالعالم أُسٌّ، والحاكم حارس.

وركائز الجهاد في الإسلام تنطلق من موقعين أساسِيَّيْن: موقف الدفاع عند سطوة العدو، وموقف الفتوحات من أجل نشر الدين، بالقواعد والضَّوابط التي تفتح القلوب لتقبل الدين الجديد.

ويتضح من خلال هذه الخطاطة أنَّ المراد بالجهاد الجهادُ الفعلي الذي يتقَدَّمه السيف، إمَّا لدفاع، وإمَّا لنشر المبدأ، وإلاَّ فديوان "غنيم" كلُّه جهاد، بل كل كلمة فيه تتآزر مع أُخْتِها إحساسًا بالمسؤولية التي يَجب أن تؤديها، من نصح وتوجيه، ودفع إلى فعلِ الخيرات، والأخلاق الحسنة... إلخ.

ومِمَّا يلفت النظرَ جرأة "غنيم" في الدعوة إلى مُحاربة المستخرب، وهو وجه الجهاد الذي ساد في عصره، فقد عاش مرارةَ الحرب العالميَّة الأولى، ثم توهج أنينه وتذمُّره بمأساة الحرب العالمية الثانية، التي ذاقت مصرُ ويلاتِها، فالصِّرَاعُ إذًا دائرٌ بين المسلمين وبين الغرب المستخرب، هذا الغرب الذي يُحب الدماء، ويتسلى بجماجم أعدائه:
"بِسِوَى الدَّمِ الْمَسْفُوحِ لاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يُرْوَى لِظَمْآهُمْ أُوَامُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَأَحَبُّ مَا وَقَعَتْ عَلَيْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هِ عُيُونُهُمْ جُثَثٌ وَهَامُ"[123] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



نعم، إنه شديد الحقد، وشديد الفتك، ولا يَفُلُّ الحديدَ إلاَّ الحديدُ، وإذا أردنا المجد، فإنَّه لا يُبْنَى بالطين والماء، فليس الأمرُ بالهين اليسير، وإنَّما لا بُدَّ من التضحية بالمال، بالنفس، بالفكر؛ لذلك جأر "غنيم" بصوته داعيًا ينشد أمرين مُهمَّين: أولهما: أنَّ حقيقةَ الجهاد تقتضي التفاني كاملاً في تَحقيق المقصود منه:
"الْمَجْدُ لاَ يَبْنِيهِ بَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نِيهِ بِطِينٍ أَوْ بِمَاءِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يُبْنَى بِأَشْلاَءِ الضَّحَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَا ثُمَّ يُطْلَى بِالدِّمَاءِ"[124] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وثانيهما: هو التآزُر بين المسلمين، واجتماعُهم على الكلمة الموحدة، فقد انتصر المسلمون في أوَّلِ عهدهم باتِّحادهم حول كلمة "الله أكبر" بحقها، وكل ما يتعلق بها، وفي مقدمتها الاستهانة بكل عزيز في سبيلِ إعلائها:
"قُلْ لِلْمُبَشِّرِ بِالسِّلاَحِ وَحَدِّهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَيْسَ السِّلاَحُ وَسِيلَةَ الْإِقْنَاعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

"اللَّهُ أَكْبَرُ" وَهْيَ بِضْعَةُ أَحْرُفٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دَكَّتْ بِنَاءَ مَعَاقِلٍ وَقِلاَعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَوْ أَنَّ فَتْحَ السَّيْفِ جُرِّدَ وَحْدَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِي مَدِّهِ مَا امْتَدَّ قَيْدَ ذِرَاعِ"[125] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهذه الكلمةُ وَحْدَها كفيلةٌ بتحقيقِ النصر، إذا المسلمون اجتمعوا حَوْلَها، وعرفوا حقيقتها، وأيقنوا بأَزْرِ الخالق ووعده بالنَّصر، فالخير كلُّه في هذا الاجتماع حول هذه الكلمة؛ لأَنَّها الخير المطلق:
"هَلْ يَجْمَعُونَ لِذِي الْخُطُوبِ أُمُورَهُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَالْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي الْإِجْمَاعِ" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهو يذكِّر المسلمين بسالف أيَّامهم، يَحثُّهم على التمعن في الشرائع الإسلامية التي كانت سببًا في قُوَّتِهم وحضارتهم، ويركز على الشرائع التي تؤكد الوحدة والترابُط، والاجتماع على هدف واحد، والخضوع لإمام واحد:
"الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَتَاتِ دِيَارِهِمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَرَضَ الْإِلَهُ خُضُوعَهُمْ لِإِمَامِ


يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:16 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 

اللَّهُ بِالْجُمُعَاتِ وَحَّدَ بَيْنَهُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَبِحَجِّ بَيْتٍ فِي الْحِجَازِ حَرَامِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

دِينُ ابْنِ عَبْدِاللَّهِ دِينٌ بِاسْمِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَبَضَ الرَّشِيدُ عَلَى الْوَرَى بِزِمَامِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هُوَ دَوْلَةٌ كُبْرَى وَمُلْكٌ شَامِخٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لاَ مَحْضَ تَكْبِيرٍ وَمَحْضَ صِيَامِ"[126] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ويركز "غنيم" على حَثِّه المسلمين على الجهاد، في كل مناسبة، وهو دليلُ إحساسه بهجوع أبناء جلدته، وتفاعله مع مُجريات الأحداث؛ لأن المسلم قويٌّ بغيره، وثنائية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تُصاحِبُه أينما حل وارتحل، وتعظم قيمتها حين يَملك هذا المسلم أداةً كفيلة بإيصال دَعوته إلى أقاصي الدُّنيا، كأداة الشعر فلا يبخل بالتنديد بكل نقيصة، والإشادة بكُلِّ خصلة مَحمودة، وهذا دأبه، كأنَّه طبيب الأمة، يتحسس نبضها في كل حين، ويزودها بالدَّواء الناجع.

"أَبْنَاءُ يَعْرُبَ لاَ حَيَاةَ لِأُمَّةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِالذِّكْرَيَاتِ بَلِ الْحَيَاةُ مَسَاعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَثِبُوا إِلَى الْأَحْدَاثِ وَثْبَ مُغَامِرٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لاَ وَاجِبٍ قَلْبًا وَلاَ مُرْتَاعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لاَ تَطْلُبُوا بِالضَّعْفِ حَقًّا ضَائِعًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَا لِلضَّعِيفِ الْحَوْلِ مِنْ أَشْيَاعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَنْ عَالَجَ الْبَابَ الْقَصِيَّ فَلَمْ يَلِنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لِيَدَيْهِ حَطَّمَ جَانِبَ الْمِصْرَاعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

الشِّرْكُ فِي الْأَوْطَانِ شِرْكٌ آخَرٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَطَنُ الْكَرِيمِ الْحُرِّ غَيْرُ مُشَاعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فِيمَ الْجُمُودُ وَدِينُكُمْ مُسْتَصْرَفٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَزَمَانُكُمْ مُتَغَيِّرُ الْأَوْضَاعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلَقَدْ تَطَوَّرَتِ الْحَيَاةُ وَفُلْكُكُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَا زَالَ يَمْخُرُ مَاءَهُ بِشِرَاعِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَرْضَى الْحَنِيفَةُ بِالْعُيُوبِ وَإِنَّمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عَيْبُ الْحَنِيفَةِ غَفْوَةُ الْأَتْبَاعِ"[127] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وكم استاء "غنيم" من مواقف المسلمين الضَّعيفة، والْتجائهم إلى العدو نفسه متمثلاً في "عصبة الأمم"، وفي "محكمة العدل الدولية"، كيف نرضى بهذا الذُّلِّ والهوان، كيف تسنى لأناسٍ فرغوا من الإنسانية، وتشبعوا بحقدهم للدُّول الإسلامية، كيف يجعل العدو حكمًا في قضايا عدوه؟ إنَّ هذا لَمِن دَواعي الأسف والكمد؛ الأسف على هذه الأمة المسكينة الضَّائعة، والكمد على ما تسامه من هوان كل يوم، دون أن ترعوي أو تُفيق من السبات.

ها هو "غنيم" يتحدث عن "عصبة الأمم" مُوضِّحًا خداعَها وخُبْثَها، كيف أنَّها مُحكمة بلا مقومات، بل إن جُلَّ مقوماتها أن تؤلب القويَّ ضِدَّ الفقير تأليبَ الذئب بالغنم، وكيف أن القاضي نفسه هو قائد الاعتداء، والداعي إليه:
"يَحْيَا عَلَى مَحْكَمَةِ السَّلاَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَحْكَمَةٌ لَكِنْ بِلاَ أَحْكَامِ


يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:22 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 

أَلَمْ تَرَ الْعُصْبَةَ فِي الْمَنَامِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تُحَرِّشُ الذِّئَابَ بِالْأَغْنَامِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِنْ رَضِيَ الْقَاضِي عَنِ الْإِجْرَامِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَإِنَّهُ أَوْلَى بِالِاتِّهَامِ"[128] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ثم ينتفض في وجه هذه العصبة، ويصرخ ألاَّ فصل ولا عدل إلا بالحسام،فهو الكفيل بوضع الأمور في نصابها:
"لاَ فَصْلَ إِلاَّ بِالْحَدِيدِ الدَّامِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَالْحَقُّ فِي أَسِنَّةِ السِّهَامِ"[129] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وتَحدَّث "غنيمٌ" كثيرًا عن هذا السراب الواهم، الذي يسمونه "السلام"، واعتبره حلمًا تلهج به الألسنة الكليلة:
"قَالُوا السَّلاَمُ فَقُلْتُ مَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عِيُّ اللِّسَانِ عَنِ الْكَلاَمِ"[130] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ثم يبالغ في تأكيد حقيقة السلام، وهي أنَّه أداة تَملكها يد الغربيِّين، تسلس بها مَقاد المسلمين، وتُضلِّلهم برفع شعارها، فالغنيُّ القوي في حقيقة الأمر هو المستفيد من ألعوبة "السلام"، في حين بَقِيَ الضعيف يطلب في الحبالة مركضًا:
"وَيْحَ السَّلاَمِ جَنَى الْقَوِيُّ ثِمَارَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَكَوَى الضَّعِيفَ بِجَمْرِهِ اللَّذَّاعِ"[131] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ولذلك، فالسلم في حقِّ هذا الضَّعيف فتكٌ بطيء، من دون سلاح ولا صِراع:
"الْحَرْبُ يَفْتِكُ بِالنُّفُوسِ صِرَاعُهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَالسِّلْمُ فَاتِكَةٌ بِغَيْرِ صِرَاعِ"[132] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif





ولكن، إذا كانت هذه هي الآمال المنشودة، والدَّعوات المثالية إلى تَحقيق جهاد إسلامي يكسر الغرب، ويسترجع قمةَ الأَمْجاد، فما موقفنا من حروب هذا العصر، من هذه الأفواه القاذفة للشرر كأَنَّ نَسْغَ حياتِها هو هذا القذف المرعب، والنيران الهائجة.



لا شَكَّ أنَّ العاقلَ يقف مَشدوهًا أمامَ هذا الفتك والدَّمار، يسعى كلَّ جهده أنْ يوقف هذه الحروبَ التي لم تُوقِّر الشيخَ الْهَرَم، ولا الطفلَ الرَّضيع اللَّذَيْنِ لا يَملكان من الأمر شيئًا، لقد طال بكاء "غنيم" على الجثث المترامية على ميادين العراك، على الهامات المتقاذفة تَحت السنابك، على الأبرياء الذين يُخطَفون خطفًا، أو يُسْحَقون سحقًا، بلا سابق ذنب، أو فارط زلة:



"مَا لِلشُّيُوخِ وَلِلْوَغَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

الشَّيْخُ مَأْفُونٌ عَدَاؤُهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




مَا لِلرَّضِيعِ بِمَهْدِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَشْتَدُّ بِالْهَيْجَا بَلاَؤُهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




لاَ ثَغْرَ يَفْتَحُهُ وَلاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَرْشٌ يُتَاحُ لَهُ اعْتِلاَؤُهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يَكْفِيهِ مُلْكًا ثَدْيُ أُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مٍ زَادُهُ فِيهِ وَمَاؤُهْ"[133] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








إنَّ القلبَ لَيُمَزَّقُ حَسْرةً وكمدًا على هذا الضَّياع، على هذه العقول السَّخيفة التي ترشد الأقوامَ إلى حتفها، الحرب ليس لَها من سِرٍّ سوى الدَّمار والطحن، أضرارها عائدة على الغالب والمغلوب، فماذا جنَيْنا - إذًا - من هذه الحروب الطِّوَال، أذهبًا مُسبكًا، أم كنوزًا تقر بها العيون، أم أكبادًا وقلوبًا وجسومًا وهامات؟



"لَمْ يَبْقَ فِي مَجْرَى الدِّمَاءِ بَقِيَّةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

شَكَتِ الْعُرُوقُ مِنَ الدِّمَاءِ نُضُوبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




طَحَنَتْ فَرِيقَيْهَا الْحُرُوبُ بِضِرْسِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لاَ غَالِبًا رَحِمَتْ وَلاَ مَغْلُوبَا



يتبع


ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:23 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 

ثُمَّ اسْأَلِ النِّيرَانَ مَاذَا أَنْضَجَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَسْبَاكًا امْ أَكْبَادَهُمْ وَقُلُوبَا"[134] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وجميل أن يلفتنا الشاعر إلى سِرِّ ذلك، لماذا هذه الغارات على الأبرياء؟ ولماذا هذه السطوة من القوي على الضعيف؟ إنَّه ضعف الإيمان، إنه ضعف الاعتقاد في وجود شرائع مُنَظِّمة، وقوانين إلهيَّة موجِّهة، إنَّ كثيرًا من الناس نَسُوا - أو تناسَوا - سَبَبَ وجودِهم في الحياة، فصاروا يتكالَبُون على الحطام، ويَتقاتلون من أجل التفاهات والمُغريات وحُبِّ السطو والبطش، فلا وازعَ يرتدع به، ولا أخلاقَ تتحكم في السلوك:



ذُنُوبُ الضِّعَافِ الْعَاجِزِينَ كَثِيرَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَمَا لِقَوِيٍّ إِذْ تُحَاسِبُهُ ذَنْبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




كَأَنْ لَيْسَ بَيْنَ الْعَالَمِينَ شَرَائِعٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلاَ خَلْفَهُمْ بَعْثٌ وَلاَ فَوْقَهُمْ رَبُّ"[135] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








فلا بارك الله هذه الحروب، ولا بارك أهلها، ولا من يدعو إليها، فحسبنا ما أذاقَتْناه من ويلات ودواهٍ:



"فَلاَ بَارَكَ اللَّهُ الْحُرُوبَ وَأَهْلَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَإِنَّا لَقِينَا بِالْحُرُوبِ الدَّوَاهِيَا"[136] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








هذا موقف "غنيم" من الحرب، وذاك أمله من الجهاد.



وقفة إنصاف:

إنَّ اختيارَ "محمود غنيم" نَموذجًا تطبيقِيًّا لمظاهر الإسلامية كما سبق عرضها - ليس يعني أنَّ "غنيمًا" قد استقل بمركز الكمال، وأنَّ ديوانه قد تَمَثَّل تلك المظاهر في كل بيت من أبياته، فهذا مما يصعُب تَحقيقه في زماننا الذي تُعَدُّ فيه المناداة بأدبٍ إسلامي صَيْحَةً جديدةً بالمقارنة مع الاتِّجاهات والتيارات الأخرى التي وطأت قدمها، ورسخت منهجها، وحسبنا أن نقنع بتنامي هذا الاتِّجاه، وأنه في طريقه إلى الكمال.



فكان جانب الموضوعية يتطلب منا أن نقف عند بعض اللحظات غير المرْضية في ديوان محمود غنيم، وهي عبارة عن مؤاخذات نَحتاط لها فيما يستقبل من الأيام.



وأقسم المؤاخذات إلى ثلاث ملحوظات:

1- أما الملحوظة الأولى: فهي المغالاة في التشبيه إلى درجة الغُلُوِّ وبُعْد النَّصَفة، ربَّما كان الشاعر في حالةٍ من الانفعال متوقدة، لكن هذا لا يَطغى على الأديب المسلم، الذي جعل عَقيدته حارسًا له من الطُّغيان النفسي، والهيام العاطفي، فالشاعر معرض لنزواتِ هذه الشاعرية، وبخاصة إذا كان - كغنيم - شديدَ الحساسية، مُرْهَف العاطفة، قوي الموهبة، ولَعَلَّ هذا ما اعتراه وهو في أثناء حديثه عن الغدير، وما يوحي به من جمال في الطبيعة، وعرج على منظر "الغيد" وهن يسقين الماء، ثم يشبه إحداهن انحنت لملء جرتها بركوع "البتول" في المحراب:



"رَكَعَتْ كُلُّ غَادَةٍ هَيْفَاءَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَرُكُوعِ الْبَتُولِ فِي الْمِحْرَابِ"[137] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ومناط المؤاخذة يرجع إلى أمر موضوعي، وآخر فني: أمَّا الأول فهو وجوب احترام المقدسات الدينية، وما يتصل بها من أسماء وأحداث توجب أن تكونَ مَحطَّ تقديس وتقدير، وتشبيه "غادة" هيفاء بالبَتُول يُوحي باقتراب العلاقة بينهما، وشتان بينهما، والشاعر في حالة تغزل وهوى، ما كان له أن يقحم صورةَ البتُول في أثناء الصلاة؛ لِمَا في الأمر من قداسةٍ يَجب احترامُها وتنزيهها عند اقترانها بحالاتٍ عاطفيَّة خاصة.



وأمَّا الأمر الفني، فهو عدم التوفيق في تَحقيق التشبيه، فاستعمالُ لفظ البتول ولفظ المحراب يقتضي أن التشبيهَ لَم يقتصر على مُجرد ظاهرة الصورة، وإلاَّ جاء التشبيه بأيَّةِ حالة انحناء أخرى، وكذلك حيث دقة الصورة، ليس هناك تكافؤ بين الركوعين.



ويعجب الشاعر "بآنسة تركية" فازت بلقب "ملكة الجمال"، ثم لا يجد صورة يستوحيها، يعبر بها عن مدى جمال هذه الآنسة سوى الحور العين التي أعدها الله - تعالى - للمؤمنين في الجنة:



"إِنْسِيَّةٌ أَمْ تِلْكَ بَعْضُ الْحُورِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مِنْ عَدْنٍ انْطَلَقَتْ إِلَى السِّنُّورِ" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ثم يقول:



"لَمَّا تَجَلَّى لِلْمُقَطَّمِ وَجْهُهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَشْفَقْنَ أَنْ يَنْدَكَّ مِثْلَ الطُّورِ"[138] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








فالموضوع من ناحية "شرعية" تافه؛ لأنه مقتصر على الإشادة بما يجب ستره، وما يستهوي أصحاب القلوب المريضة؛ ليتيهوا وراء كل جمال، ويتغَنَّوا بكل ما يُحِبُّه الشيطان، وفي ذلك مضار كثيرة على حياة المسلم التي يَجب أن تكون مشحوذة بكل ما يقرب من الله، ثم يضاف إلى هذه المسألة مدى المبالغة الشديدة في الوصف والتقدير؛ لأَنَّه زعم أن جمالها يكاد يندك له المقطّم، مع أنه لا جمالَ هناك ولا انْدِكَاك، والأدهى من هذا أن يشبه اندكاكَ المقطم باندكاك الطُّور الذي قال فيه تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: 143]، والحق أنَّ مثل هذه المغالاة، والخطأ في التصوير مما يَجب على الأديب المسلم أن يتنزه عنه.



وبصدد الحديث عن المرأة كذلك، نجد أنَّ المبالغة بلغت درجةَ الإجحاف والمقت، واقتراف ما إثْمه واضح، فلست أدري كيف طاش عقل "غنيم"، حتى جعل إحدى "الحسان" ملكةَ الدُّنيا، وسيدة الكون، التي إذا أمرتْ، هُرع الكون كله لتنفيذ الأمر، ومتى ما أمرت العالمين، فالناس كلهم آذان مصغية:



"مُرِي بِمَا شِئْتِ كُلُّ النَّاسِ آذَانٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَا نَالَ قَبْلَكِ مُلْكَ الْكَوْنِ إِنْسَانُ"[139] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ثم يرى أن الدنيا برُمَّتِها قد خضعت لوجهها الوضاء، وجمالِها البَرَّاق، حتى إنَّ هذا الوجه قد أشْكَلَ على الناس: أهو وجه بلقيس أم وجه سليمان؟



"مَنْ ذَا الَّذِي عَنَتِ الدُّنْيَا لِطَلْعَتِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَتِلْكَ "بِلْقِيسُ" أَمْ هَذَا "سُلَيْمَانُ""[140] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وهذا - لعمري - من السفاسف الوضيعة، التي تأنف منها نفس المسلم.



وليت الأمرَ اقتصر على ذلك، بل يعد الشاعر أنَّ هذا الوجه الذي قامت الدُّنيا لجلاله وقعدت، قد نشأ في إحدى جنات الخلد، وأنَّه أفلت منها وطلع على الدنيا البشرية:



"فِي أَيِّ جَنَّةِ خُلْدٍ أَنْتِ نَاشِئَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكَيْفَ أَفْلَتَ هَذَا الْوَجْهَ رِضْوَانُ"[141] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ثم نراه يَخرج عن قاعدة شرعية واضحة المعالم جلية، وهي تَحريم الحلف بغير الله، فقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ كَانَ حَالِفًا، فليحلف بالله أو ليصمت))[142]، فنجد غنيمًا، قد أقسم بالنيل في قوله:



"أَقْسَمْتُ بِالنِّيلِ لَيْسَ النِّيلُ أَطْهَرُ مِنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تِلْكَ الدِّمَاءِ وَمَا بَالَغْتُ فِي الْقَسَمِ"[143] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








2- أمَّا الملحوظة الثانية: فهي "الغلو في المدح" غلوًّا يَجعلنا نستحضر "المتنبي" وأمداحه لسيف الدولة الحمداني، ولكن أين "المتنبي" من "غنيم"؟ هذا متشبع بالإيمان، يتأجح صدره بدفقات الإسلام وتعاليمه، وذاك متملق طامع في الملك والسيادة، حتى قتل بسبب تكبُّره وغروره، ومن ثَمَّ فإنا لا نقبل من غنيم مثل هذا الإجحاف في المدح، والمغالاة في طرح مناقب الممدوح.



فمن ذلك ما قاله في بيان خصال "محمد محمود باشا" بعد وفاته:



"سَارَ بَيْنَ الدُّمُوعِ وَالزَّفَرَاتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

خَيْرُ نَعْشٍ يُقِلُّ خَيْرَ رُفَاتِ"[144] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يتبع

ابوالوليد المسلم 28-07-2021 03:24 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 




والحق أنه ليس بخير نعش، ولا خير رفات.



وكذا قوله في مدح "الفاروق" تحية له عند توليه العرش:



"النِّيلُ[145] يَحْمِلُ سِبْطَ إِسْمَاعِيلَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَرَأَيْتَ نِيلاً جَاءَ يَحْمِلُ نِيلاَ" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




"لَوْ كَانَتِ الْأَمْلاَكُ تَحْدُو مَرْكَبًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَرَأَيْتَ بَيْنَ حُدَاتِهَا جِبْرِيلاَ"[146] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وهذا - بلا شَكٍّ - مرفوض؛ لما فيه من رفع لمكانة الممدوح إلى درجةٍ تَجاوزت القدر والحد، ووضع من قيمة جبريل - عليه السَّلام - وهو متوجب النزاهة.



وكذلك لما يعبِّر عن إعجابه بالبدوي وصبره وشدة نفعه، يشبه صبره بصبر أيوب:



"أَكْبَرْتُ فِي الْقَرَوِيِّ حِدَّةَ عَزْمِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَحَسِبْتُهُ فِي صَبْرِهِ أَيُّوبَا"[147] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








وقد نلمس لغنيم عذرًا في أمداحه لفاروق، فالشاعر الموهوب والمشهور معرض لأَنْ يطالب بمثل ذلك، وخاصة وهو يشغل وظيفةً رَسْمية، فيعد ذلك نوعَ تزلُّف؛ للحفاظ على العيش، ويترجح أنه لم يكن على كامل رضًا حين كان ينشد هذه القصائد الطِّوال بين يدي الملك؛ لأنه كان يَختم كُلَّ قَصيدة بوَعْظٍ ونصح لهذا الملك، ويَجعله صاحبَ القوة في مصر، والذي يُمكن أن يُحققَ على يديه النصر، ومن ثَمَّ فالتقرب إليه بالمبالغة في مدحه في مطلع القصيدة تَمهيد لقبول اقتراحاته ونصحه الذي يقصده من وراء القصيدة.



ومع ذلك، فالإسلام يُحدِّد المواقف، ويحجم النفس عن التسيُّب والانسياب دون قيود أو ضوابط، والواجب على الأديب المسلم ألاَّ يعزف عن هذه المعايير بأي حال من الأحوال.



3- الملحوظة الثالثة: موقفه من المرأة:

الذي يستنتج من خلال حديث الشاعر عن المرأة أنَّه لَم يستغل هذه النقطة الحساسة في توجيه المرأة، وإظهار دَوْرِها في الحياة، مع الإشادة بكل حقوقها التي منحها الإسلام إيَّاها، والرد على كثير من الدعوات العاصفة، التي تطلب من المرأة أن تخرج عن إطارها الشرعي، لكنَّ "غنيمًا" قصر نظره على وصف مَحاسنها، ونقل صورتها وهي تغشى دُور الرقص، وإطالة الوقوف على شاطئ البحر؛ للاستمتاع بالنظر إلى النساء عاريات، ثم الاهتمام بأخبار ملكات الجمال، والحديث عن كل ذلك بنوع من الحماس والارتياح، فمرة يصف راقصة:



"هُنَا الْغَرَامُ وَالْوَلَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا مَنْظَرًا مَا أَجْمَلَهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




أَتِلْكَ أُنْثَى خَطَرَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَمْ فِتْنَةٌ مُتَنَقِّلَةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




مُقْبِلَةٌ مُدْبِرَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَائِلَةٌ مُعْتَدِلَةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




كَأَنَّ تَحْتَ أَخْمُصَيْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هَا جَمْرَةً مُشْتَعِلَةْ"[148] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ثم يقول عن ملكة الجمال:



"كَمْ تَحْتَ حُكْمِكِ ذَاتِ لَحْظٍ إِنْ رَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَرَكَ الْمُهَنَّدَ لاَ يُسَاوِي خَنْجَرَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




جُنْدٌ أَغَرُّ مِنَ الْحِسَانِ الْحُورِ لَوْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لاَقَيْتِ أُسْطُولاً بِهِ لَتَقَهْقَرَا"[149] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








ويقول في حديثه عنهن وهن حول الغدير:



"جَنِّبَانِي خَلِيجَ بَحْرِ الرُّومِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَقِفَا بِي عَلَى ضِفَافِ الْغَدِيرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




هَا هُنَا الْغِيدُ فِي ائْتِلاَفِ النُّجُومِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

حُمْنَ حَوْلَ الْحَيَاةِ مِثْلَ الطُّيُورِ"[150] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif









هذا ما انتظمته موضوعاتُ "غنيم" حولَ المرأة، ولا نَجد لذلك من مسوغات سوى التشبُّث ببعض العوارض، منها:

1- أنَّ الشاعر - عمومًا - مُعَرَّضٌ للانزلاق وراءَ البواعث النفسيَّة، التي يلعب فيها الخيالُ دَوْرَه البارز، والمرأة من أهمِّ هذه المثيرات.



2- إنَّ الإنسانَ بعامَّة لا يكاد يَسْلَم من المغريات التي تكتنفه من كل جهة.



3- إنَّ القصائد التي قالها "غنيم" في "المرأة" قد امتد تاريخُ نظمها في المدَّة ما بين 1929م و1933م، إضافةً إلى قصيدةٍ فردية، نظمها سنة 1937م، وأخرى في شكر طابعة الديوان سنة 1931م، وقد يستنتج من هذا أنَّ الشاعر لا يزال في حالة العزوبة، فتتداعى دَواعي الحديث عن المرأة، كما أنَّ هذا التاريخ يُعَدُّ مقتبل عمر الشاعر، فيكون أكثرَ تعرُّضًا للأهواء والنَّزغات النفسية والعاطفية.



ومع ذلك، فإنَّ التشبع بالمبدأ يقتضي العمل به، على الرَّغْم من كل الصوارف الأخرى، والتعِلاَّت المقدمة التي لا تنهض للإقناع.



هذه هي النِّقاط الثلاث التي أردت التنبيهَ إلى ما حوتْه من مُؤاخذات تُخالف مَبادئ "الإسلامية في الأدب"، وهي - كما يلاحظ - ليست بالكثيرة، ولَم تستقطب اهتمامَ الشاعر، وإنَّما هي لحظات قد تَعْرِض لكل شاعر، وإن كنا نطالب - وبصرامة - من الشاعر المسلم أن يعزف عنها، ويستنكف عن الحديث فيها.





[1] شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث - الجزء 2، ص: 49 - 50.




[2] نفسه، ص: 50.




[3] انظر: "مقدمة الديوان: صرخة في وادٍ (الإهداء)"، مطبعة الاعتماد - مصر - 1937.




[4] "ديوان محمود غنيم: في ظلال الثورة (التقديم)"، دار المعارف - مصر - 1961.




[5] "مقدمة ديوان في ظلال الثورة"، ص: 398.




[6] "مقدمة ديوان صرخة في وادٍ"، ص: 9.




[7] "مقدمة ديوان صرخة في وادٍ"، ص: 24.




[8] نفسه، ص: 23.




[9] "مقدمة ديوان صرخة في وادٍ"، ص: 23.




[10] "ديوان في ظلال الثورة"، ص: 192.




[11] "ديوان صرخة في وادٍ"، ص: 131.




[12] "صرخة في وادٍ"، ص: 234.




[13] نفسه، ص: 279.




[14] هو التقسيم نفسه الذي آثره جامع الديوان.




[15] "صرخة في وادٍ"، ص: 100.




[16] نفسه، ص: 90.




[17] "صرخة في وادٍ"، ص: 89.




[18] "صحيح مسلم"، كتاب: الإيمان، باب: جامع أوصاف الإسلام، رقم الحديث: 38.




[19] "صرخة في وادٍ"، ص: 77.




[20] نفسه، ص: 76.




[21] "صرخة في وادٍ"، ص: 290.




[22] نفسه، ص: 114.




[23] "صرخة في وادٍ"، ص: 81.




[24] نفسه، ص: 81.




[25] "المستدرك على الصحيحين"، للحاكم النيسابوري، ج: 1، ص: 160.




[26] "صرخة في وادٍ"، ص: 108.




[27] نفسه، ص: 108.




[28] نفسه، ص: 103.




[29] نفسه، ص: 106.




[30] "صرخة في وادٍ"، ص: 49.




[31] "القومية العربية في الشعر الحديث"، ص: 81.




[32] ديوان: "في ظلال الثورة"، ص: 291.




[33] تحديد "الأوان" هو الجيل الماضي؛ حيث إنَّ هذا الرأي صدر سنة 1368 هـ.




[34] "في ظلال الثورة"، ص: 297.




[35] نفسه/ ص: 298.




[36] "في ظلال الثورة"، ص: 10.




[37] نفسه، ص: 9.




[38] انظر: ص: 33 من هذا البحث.




[39] "صرخة في وادٍ"،ص: 236.




[40] "صرخة في وادٍ"، / ص: 235.




[41] نفسه، ص: 288.




[42] نفسه، ص: 252.




[43] نفسه، ص: 244.




[44] نفسه، ص: 244.




[45] "صرخة في وادٍ"، ص: 136.




[46] نفسه، ص: 37.




[47] نفسه، ص: 244.




[48] "صرخة في وادٍ"، ص: 76.




[49] "صرخة في وادٍ"، ص: 77.




[50] "صرخة في وادٍ" مقدمة "دسوقي أباظة"، ص: 9.




[51] "صرخة في وادٍ"، ص: 91 - 92.




[52] "صرخة في وادٍ"، ص: 92.




[53] نفسه.




[54] نفسه، ص: 91.




[55] "صرخة في وادٍ"، ص: 72.




[56] نفسه، ص: 116.




[57] "صرخة في وادٍ"، ص: 61.




[58] "صرخة في وادٍ"، ص: 128.




[59] نفسه، ص: 73.




[60] نفسه، ص: 203.




[61] نفسه، ص: 61.




[62] نفسه، ص: 74.




[63] "صرخة في وادٍ"، ص: 73.




[64] نفسه.




[65] نفسه، ص: 105.




[66] نفسه، ص: 97.




[67] "صرخة في وادٍ"، ص: 97.




[68] نفسه، ص: 94.




[69] نفسه، ص: 98.




[70] نفسه، ص: 97




[71] "صرخة في وادٍ"، ص: 134.




[72] نفسه، ص: 121 - 122.




[73] نفسه، ص: 73.




[74] نفسه، ص: 57.




[75] "صرخة في وادٍ"، ص: 73.




[76] نفسه، ص: 182




[77] نفسه، ص: 96.




[78] "صرخة في وادٍ"، ص: 252.




[79] نفسه، ص: 103




[80] نفسه، ص: 168.




[81] نفسه، ص: 168




[82] نفسه.




[83] "صرخة في وادٍ"، ص: 166.




[84] نفسه، ص: 161.




[85] "مقدمة في دراسة الأدب الإسلامي"، د. مصطفى عليان، ص: 21.




[86] "صرخة في وادٍ"، ص: 118 - 119.




[87] نفسه.




[88] نفسه، ص: 118 - 119.




[89] "صرخة في وادٍ"، ص: 218.




[90] نفسه، ص: 171.




[91] "صرخة في وادٍ".




[92] نفسه، ص: 172.




[93] "مقدمة في دراسة الأدب الإسلامي"، ص: 36.




[94] "صرخة في وادٍ"، ص: 208.




[95] "جبريل اسم للمفقود".




[96] "صرخة في وادٍ"، ص: 208.




[97] نفسه.




[98] "صحيح البخاري"، كتاب: أبواب المساجد، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، رقم الحديث: 467، و"صحيح مسلم"، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم الحديث: 2585.




[99] "صرخة في وادٍ"، ص: 62.




[100] "صرخة في وادٍ"، ص: 45.




[101] نفسه.




[102] نفسه، ص: 232.




[103] "صرخة في وادٍ"، ص: 50.




[104] "الجمالي" وزير المعارف العراقية، ألقيت القصيدة في حفلة تكريم له.




[105] "صرخة في وادٍ"، ص: 226.




[106] نفسه.




[107] "صرخة في وادٍ"، ص: 226.




[108] نفسه، ص: 78.




[109] نفسه، ص: 203.




[110] "مقدمة ديوان في ظلال الثورة"، ص: 299 - 300.




[111] "صرخة في وادٍ"، ص: 81.




[112] نفسه، ص: 76.




[113] نفسه، ص: 80.




[114] نفسه.




[115] "صرخة في وادٍ"، ص: 78.




[116] نفسه، ص: 82.




[117] ينظر: هامش ص: 67 من الجزء 2 من سلسلة "شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث".




[118] نفسه.




[119] "في ظلال الثورة"، ص: 6.




[120] "صرخة في وادٍ"، ص: 282.




[121] نفسه، ص: 271 - 242.




[122] نفسه.




[123] "صرخة في وادٍ"، ص: 67 - 68.




[124] نفسه، ص: 202.




[125] نفسه، ص: 37 - 38.




[126] "صرخة في وادٍ"، ص: 100.




[127] "صرخة في وادٍ"، ص: 39.




[128] نفسه، ص: 64.




[129] "صرخة في وادٍ"، ص: 65.




[130] نفسه، ص: 68.




[131] نفسه، ص: 36.




[132] نفسه.




[133] "صرخة في وادٍ"، ص: 47 - 48.




[134] نفسه، ص: 47 - 48.




[135] نفسه، ص: 61.




[136] نفسه، ص: 178.




[137] "صرخة في وادٍ"، ص: 153.




[138] "صرخة في وادٍ"، ص: 166.




[139] "صرخة في وادٍ"، ص: 163.




[140] "صرخة في وادٍ"، ص: 163.




[141] نفسه.




[142] البخاري: كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف، رقم الحديث: 2533، ومسلم: كتاب الإيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله، رقم الحديث: 1646.




[143] "صرخة في وادٍ"، ص: 182.




[144] نفسه، ص: 180.




[145] المراد بـ "النيل" السفينة التي أقلته من رحلته إلى أوروبا.




[146] "صرخة في وادٍ"، ص: 210.




[147]"صرخة في وادٍ"، ص: 217.




[148] "صرخة في وادٍ"، ص: 155.




[149] نفسه، ص: 163.




[150] نفسه، ص: 102.




ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:08 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد" 2
محمد ويلالي



الفصل الثالث


القضايا الفنية في شعر "محمود غنيم"




من الجدير بديوان "محمود غنيم" أن يكون مخبرًا للتَّجارِب النقدية التي عرفها تاريخُ النقد العربي، فهو مليء بالأفكار المتنوعة، والمعاني المتعددة، مع تَميُّز طريقة التعبير، وجودة الصياغة، مشفوع ذلك كله باتِّساع في الخيال، وبُعد في النظر، ومصدر عاطفي متأجج يقظ، في صور بيانية رائعة.



فالإلمام بكُلِّ ما ورد في الديوان من هذه المواقف والقضايا الفنية مُتعسِّرٌ، وإشباع كل قضية بالدراسة والتحليل مُتعذِّر؛ ولذلك سيقتصر البحث على بعض القضايا، كما أنَّ المعالجة ستكون لَمحًا رامزًا.



وآثرت أن تكون الدراسة شاملة لقضايا أربع:

1- المعاني والأفكار.

2- التعبير والصياغة.

3- الخيال والتصوير البياني.

4- العاطفة.



المبحث الأول: المعاني والأفكار:

أوَّل ما يستوقفنا في ديوان "محمود غنيم" - ونحن في معرض البحث عن الأفكار والمعاني التي تطلعنا على مكانة الشاعر الفكريَّة، وحسن طرقه للموضوعات - هي "الحكمة" التي تناثرت بين أرجاء الدِّيوان، سواء منها الحكمة المستقاة من تَجربته داخل المجتمع، وكانت هذه الغالبة، أو الحكمة التي ترسبت في ذهنه بعد الممارسة الثقافية، ونَماء الموروث الفكري، وعلى رأسه القرآن الكريم، والحديث النبوي، على أنَّ الملاحظ في تناوُله للحكمة نزوعُه إلى أن تكون حكمة بالغة الجدوى، شديدة الوقع والزجر، قريبة من حياة المخاطبين، حتى كأنَّها علاج لقضيةٍ ما، ثم حصولها في وقت مُعيَّن.



فغنيم - مثلاً - عمل على مُحاربة التواكل، الذي عرفه المجتمع المصري بعد أن انتشرت وسائلُ الكسب بالباطل من رِشْوة وسرقة وغيرهما؛ بحيث إنَّه يرى أنَّ التواكل لم يجلب لصاحبه رزقًا، بل لو كان الرِّزْق يساق إلى الناس، وكانت السماء تُمطر الذَّهب والفضة، لانحرف نظامُ الكون، ولما سعى إلى رزقه أحد، وهذا المعنى أوجزه "غنيم" في قوله:



"هَلْ كُنْتَ تَلْقَى فِي الْوَرَى سَاعِيًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لَوْ كَانَ يَسْعَى الرِّزْقُ لِلْقَاعِدِ" [1]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






ويتناول قضية اجتماعية أخرى تَفَشَّت في كل المجتمعات، وكان ضررُها على المسلمين بالغًا، ومن ثَمَّ احتاجت إلى علاج، وإلى إيقاظ الناس من الغفلة، وهي قضية الطبقية بمفهومها المادي؛ حَيْثُ ينقسم المجتمع قسمين: طبقة الأغنياء المحتكرين المستغلين، وطبقة الفقراء المعدومين المنهوكين، وليس مناط الضرر هو وجود هذا الفارق، بل إنَّ وجوده حكمة إلهية محتمة، كما قال تعالى: ï´؟ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ï´¾ [الرعد: 26]، وكما قال - عزَّ وجلَّ -: ï´؟ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ï´¾ [النحل: 71]، ولكنَّ الضرر في أن الناس لم يعرفوا حكمةَ التفاوت في الأرزاق، فبدل أن يفكر الغنيُّ في حال الفقير، فيكثر من الصدقات، وأن يقنع الفقير، فيزداد إيمانًا وتقوى، ينقلب الأمر إلى استغلال ثم إلى ثورة، ومن هنا يدعو الشاعر الناس إلى عدم الالتفات إلى هذا الصراع، وأنَّ الناس ناس في كل زمان وفي كل مكان، في عصر النور وفي عصر الظلام، سكنوا القصور أم سكنوا الخيام:



"مَا النَّاسُ إِلاَّ النَّاسُ فِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَصْرِ الضِّيَاءِ أَوِ الظَّلاَمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




سِيَّانِ مَنْ سَكَنَ الْقُصُو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

رَ الشُّمَّ أَوْ سَكَنَ الْخِيَامْ" [2]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






ثم يعالج "غنيم" قضيةَ الحسد، وهذه يجدها لائطةً بالكبراء، ويَجعلها من شأن العظماء، باعتبار أنَّ كل عظيم لا يَخلو من حسد وأعداء:



"حَسَدٌ مَنِيتَ بِهِ وَهَلْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَخْلُو عَظِيمٌ مِنْ حَسُودْ" [3]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






على أنَّ "غنيمًا" يسوق هذا البيتَ في مَعرض التهكُّم "بموسوليني" والازدراء به، بعد أن لم يَجد من أنصاره هتافًا ولا تكليلاً بالورود، من جراء ما ذاقه من ويلات في غَزوِه للحبشة، وهي بلاد قليلة الغناء[4].



ودعوة أخرى إلى الاجتهاد، والعمل على بناء المجد دون تواكُل أو اعتماد على الماضي، فما فات ليس بعائد، كم ذهب من الأجيال عرفت العظماء، الذين خلدوا ذكرهم، فأصبحوا رُفاتًا وترابًا، وهنا تُطرح قضيةٌ حقيقية، طرفاها البحث عن المجد والعِزَّة، ولو بإنفاق النفوس، أو التذلُّل والمسكنة والغموط، كزهاد الهنود، الذين لم يعرفوا قيمةَ الحياة فيعملوا، ولا طريقةَ الدين فيحسنوا التزهد:



"مَا فَاتَ لَيْسَ بِعَائِدٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَيْنَ اللُّحُودُ مِنَ الْمُهُودْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَاذْهَبْ صَرِيعَ الْمَجْدِ أَوْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عِشْ عَيْشَ زُهَّادِ الْهُنُودْ"[5]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






ثم إنَّ دعوة الازدراء بالمرأة قد اتَّسَع نطاقها، فكان "غنيم" ينبهر حين يرى أنَّ امرأة قد تفوَّقت في ميدانٍ ما، فيرد هذه الدعوة قائلاً:



"وَلاَ تَقُلْ هَذِهِ أُنْثَى وَإِنْ ضَعُفَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَمَا تُدَبِّرُ مُلْكَ النَّحْلِ أُنْثَاهُ" [6]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






ويركز "غنيم" على قضيتي الأخلاق واللُّغة، وأنَّهما الركيزتان الأساس في الانتصار، وعدم خوف الجهاد والحروب، ومواجهة كل شديدة:



"وَالشَّعْبُ إِنْ سَلِمَتْ لَهُ أَخْلاَقُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلِسَانُهُ لَمْ يَخْشَ مِنْ قَطْعِ السِّهَامْ" [7]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






ولم ينس "غنيم" التركيزَ على الشباب (أبناء الحمى)، وأنَّ دَوْرَهم كبير في دفع عجلة الشعب إلى الأمام، والنهوض به، ومن ثَمَّ وجب إخلاص هؤلاء الأبناء لشعوبهم وحِمَاهم، ومتى ما تنكروا لها كانوا أضَرَّ عليها من الأعداء والخصوم:



"وَإِذَا تَنَكَّرَ لِلْحِمَى أَبْنَاؤُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَهُمُ أَضَرُّ لَهُ مِنَ الْأَخْصَامِ" [8]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






وهكذا شملت حكمةُ "غنيم" أطرافًا مُتعددة، تضافرت في تَحميس الناس للبناء الفَعَّال، والاجتهاد الذي يدفع الضَّيم ويُحقق المجد، ولو تتبعنا جُلَّ الموضوعات المطروحة في هذا الإطار، لطال بنا الأمد.



ثم نرى "غنيمًا" قد شفع موضوعاتِه بالاقتباس من القرآن الكريم، وهذا أمرٌ مهم وبناء؛ لأن الموضوعات القرآنية، بما فيها من أفكار جليلة، ومَعانٍ رفيعة - هي الزادُ الأساس للداعية المسلم، والكلمة القرآنية لها دَوْرُها البالغ في استمالة السامع، وإقناع المتردد أو المنكر.



يقول غنيم مخاطبًا الطبيعة التي عبست؛ حيث البرد القارس، والأمطار الهاطلة، وقد غربت الشمس، واحتضنت الأرض المياه، وذبلت الأزهار وصَوَّحَت:



"وَيْحَكِ يَا أَيَّتُهَا الشَّمْسُ اطْلَعِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَا أَرْضُ غِيضِي يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي" [9]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif








يتبع



ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:11 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 





ولا شَكَّ أن الشاعر قد استحضر قوله - تعالى -: ï´؟ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ ï´¾ [هود: 44].



وكذلك قوله في استنهاض المسلمين، وحثهم على تَحكيم كتاب الله في إنصاف الشعوب، على أن يكون الله على ذلك شاهدًا:



"اسْتَشْهِدُوا الرَّحْمَنَ فِيهِ عَلَيْكُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكَفَى بِرَبِّكَ شَاهِدًا وَحَسِيبَا" [10]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وهو من قوله - تعالى -: ï´؟ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ï´¾ [النساء: 79]، وقوله - عزَّ وجلَّ -: ï´؟ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ï´¾ [النساء: 6].



ويقول في معرض وصفه لحالةِ الناس المتردية من جَرَّاء الحروب، وما تُحدثه من ويلات وكروب، حتى غدا الغنيُّ المترف طاويَ الحشا.



"وَطَوَى الْحَشَا مَنْ كَانَ مِنْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَنٍّ وَمِنْ سَلْوَى غِذَاؤُه"[11]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وهو من قوله - تعالى -: ï´؟ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ï´¾ [البقرة: 57].



وهكذا تزين الديوان بهذه الاقتباسات القرآنية، وغيرها من الاقتباسات من كلام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهذا يؤكِّد صلةَ غنيم الوثيقة بكتاب الله، وأنَّ هذا الأخير كان بمثابة الزاد الذي يندفع به "غنيم" لترسيخ آرائه وأفكاره، وإيضاح معانيه وموضوعاته.



وفي إطار الأغراض، يتناولُ "غنيم" المدحَ فيسخِّره في خدمة عقيدته، لا يبغي به مادةً زائلة، أو مَنصبًا مزورًا، وإنَّما يَمدح من كان وثيقَ الصِّلة بدينه، عالِمًا بأحكام شريعته، فهو يقول في مدح "هيكل باشا":



"رَجُلُ الْعَقِيدَةِ لاَ يُقَدِّسُ غَيْرَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِنْ قَدَّسَ الْمُتَلَوِّنُونَ الدِّرْهَمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




بِيعَتْ مَبَادِئُنَا فَمَا أَبْصَرْتُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فِي السُّوقِ سَاوَمَ حَرَّةً أَوْ سُووِمَا" [12]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وإذ يمدح فيه طريقته في الكتابة، يَجعل قلمَه كضميره عفيفًا نقيًّا، سواء في حالة هجومه على خصمه، أو هجوم خصمه عليه:



"عَفَّ الْيَرَاعَةِ وَالضَّمِيرِ كِلَيْهِمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

سِيَّانِ هَاجَمَ خَصْمَهُ أَوْ هُوجِمَا" [13]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







كما يَمدح فيه كتابتَه في السيرة النبوية: "حياة محمد"؛ لِمَا له من نفع يعود على الناس بفَهْمِ سيرة نبيهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما ذكر ما تَميز به هذا الكتاب من سهولة في التناوُل، ووضوح في العرض:



"خَلَّدْتَ لِلْإِسْلاَمِ سِيرَةَ أَحْمَدٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَحَلَلْتَهَا لِلنَّاسِ لُغْزًا مُبْهَمَا" [14]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وذكر من صفاته: الشهامة والشجاعة، حتى كأنه جيش يواجه الأعداء:



"مَا كُنْتَ فَرْدًا إِذْ وَقَفْتَ مُنَافِحًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بِلْ كُنْتَ جَيْشًا لاَ يُفَلُّ عَرَمْرَمَا" [15]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







كما أنه جعل الوطنَ سبيلاً إلى إرساء العقيدة، ولو كان الموضوع يتعلَّق بمجال المرأة، يقول مخاطبًا "الريف":



"حَيَّيْتُ فِيكَ الثَّابِتِينَ عَقَائِدًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَالطَّاهِرِينَ سَرَائِرًا وَقُلُوبَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَالذَّاهِبَاتِ إِلَى الْحُقُولِ حَوَاسِرًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يَمْشِي الْعَفَافُ وَرَاءَهُنَّ رَقِيبَا"[16]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وهو في معرض وصفه لجمال الطبيعة، واستمتاعه بأُنْسها، لم ينسَ أن يعزوَ ذلك الجمال إلى قدرة البديع - سبحانه - دون أن يستغلَّها في وصف ملاهيه ولياليه الحمراء، وأن يَجعل منها أداةَ مشاركة في الأنس المذموم، والمتعة الحرام:



"وَلَمْ أَرَ كَالطَّبِيعَةِ ذَاتَ حُسْنٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مُبَاحٍ تَشْتَرِيهِ بِغَيْرِ مَالِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:12 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
لَئِنْ يَكُ تَحْتَ بَطْنِ الْأَرْضِ كَنْزٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَكَمْ كَنْزٍ عَلَى قِمَمِ الْجِبَالِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَإِنْ يَكُ فِي قَرَارِ الْبَحْرِ دُرٌّ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَكَمْ فِي سَطْحِهِ دُرَرٌ غَوَالِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




ظَوَاهِرُ ذَاتُ أَلْسِنَةٍ فِصَاحٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تُحَدِّثُنَا بِقُدْرَةِ ذِي الْجَلاَلِ"[17]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






أمَّا غرضُ "الرِّثَاء"، فهو منبع ثَرٌّ للأديب المسلم، ومرتع خصب لزرع المبادئ الإسلامية، التي تكاد تتلاشى في أيامنا؛ لتستَقِرَّ مكانَها الولولة وشق الجيوب، مما يحدث عند وفاة مَن كُتِبَت عليه الوفاة، فينطلق قلم الشاعر؛ ليُسجل في هذا الإطار مبدأين مهمين يراهما واجبين لاستغلال غرض الرثاء: أما الأول، فهو تضميد الجراح عن طريق الأسلوب الحكيم، والموعظة الحسنة، وأمَّا الثاني، فهو تَخليد الآثار الحميدة التي مَيَّزت المفقود، وكان حَقًّا أن تخلد؛ إذ المسلمُ جدير به أن يذكر الأصدقاء ذوي الأيادي البيضاء، والحسنات النافعات، والثناء في هذا الموقف مطلوب، والشعر - إلى جانب وظيفته الكبرى في الوعظ والتوعية والتسلية النقية - إشهار وتخليد.



ومن المبدأ الأول قولُ غنيم في تعزية أحد الأصدقاء وقد توفي شقيقه:



"تَرَى هَلْ أَسُوقُ إِلَيْكَ الْعَزَاءَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَكَيْفَ يُعَزِّي حَزِينٌ حَزِينَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




إِذَا مَا أَلَمَّ بِجِبْرِيلَ خَطْبٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَإِنَّ لِجِبْرِيلَ عَقْلاً وَدِينَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَهَلْ كُنْتَ تَرْجُو خُلُودَ أَخِيكَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلَوْ أَنَّهُ كَانَ رُوحًا أَمِينَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




إِذَا نَحْنُ فِي إِثْرِ كُلِّ عَزِيزٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَكَيْنَا قَضَيْنَا الْحَيَاةَ أَنِينَا"[18]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







ومن المبدأ الثاني قوله في رثاء "محمد محمود باشا":



"فُجِعَتْ مِصْرُ وَهْيَ أَكْرَمُ أُمٍّ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فِي أَبَرِّ الْبَنِينَ بِالْأُمَّهَاتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فِي فَتًى طَاهِرِ السَّرِيرَةِ عَفٍّ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بَرِئَتْ نَفْسُهُ مِنَ الْعِلاَّتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




لَمْ تَحُمْ رِيبَةٌ حَوَالَيْهِ يَوْمًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لاَ وَلاَ الشَّيْبُ حَوْضُهُ بِقَدَاةِ"[19]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:13 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
وقوله في "أحمد ماهر باشا":



"عَفُّ الْيَدَيْنِ شَرِيفٌ فِي خُصُومَتِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عَفُّ اللِّسَانِ نَزِيهٌ طَاهِرُ الْقَلَمِ"[20]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







وينتهز فرصةَ الرثاء ليشيدَ بالأخلاق الطيبة، والسلوك الحسن، الذي يكون مَدعاة لتخليد الذكر؛ قال في رثاء أحمد ماهر كذلك:



"زَعِيمٌ بَلَوْنَاهُ خَطِيبًا وَكَاتِبًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَمَا خَطَّ هَجْرًا أَوْ تَكَلَّمَ نَابِيَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




إِذَا قَرَّبَ النَّاسُ الْوُشَاةَ وَجَدْتَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَلَمْ يَخْشَ جَبَّارًا مِنَ النَّاسِ عَاتِيَا"[21]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







ولَمْ ينسَ "غنيم" أنْ يهتمَّ بالمعاني التي تعين على تربيةِ الأطفال، والأفكار التي تزرع فيهم حُبَّ الإسلام، وحب المطالعة والدِّراسة، إلى جانب ما تضمنته هذه المعاني من روح فكاهة ظريفة، من ذلك أرجوزته "الفأر" التي قال فيها:



"يَا قَارِضَ الْفِرَاشِ وَالثِّيَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَفَاجِعَ الْقَارِئِ فِي الْكِتَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




وَمَالِئَ الْمَنْزِلِ بِالْأَسْرَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَنَاقِدًا مِنْ أَحْكَمِ الْأَبْوَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




بِأَيِّ ظُفْرٍ أَمْ بِأَيِّ نَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَعْمَلُ فِي الْجُدْرَانِ وَالْأَخْشَابِ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




سِنُّكَ مِنْ أَسِنَّةِ الْحِرَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لاَ كُنْتَ يَا أَحْذَرَ مِنْ غُرَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




كَمْ وُضِعَ الْفَخُّ عَلَى الْأَعْتَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَالسُّمُّ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




فَمَا نَجَا الْبَيْتُ مِنَ الْخَرَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

رُمِيتَ يَا مُحْلَوْلِكَ الْإِهَابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif




بِكُلِّ قِطٍّ مِثْلِ لَيْثِ الْغَابِ[22]"https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif











يتبع


ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:15 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد" 2
محمد ويلالي




ولئن كان الهدفُ من هذه الأقاصيص التسليةَ والمرحَ، فإنَّ الأهدافَ الأساس تستكن وَراء الألفاظ؛ ليمعن فيها ذو النظر الثاقب، والعقل الحصيف، من ذلك قوله في مقطوعته "الراعي والقطيع":
"مَرَّ الْقَطِيعُ بِأَرْضٍ طَابَ مَنْهَلُهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَعُشْبُهَا فَاسْتَقَى مِنْ مَائِهَا وَرَعَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَصَاحَ رَاعِيهِ: هَيَّا يَا قَطِيعُ بِنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نَفْلِتْ مِنَ اللِّصِّ إِنْ ذَا اللِّصُّ قَدْ طَلَعَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَقَالَ كَبْشٌ لَهُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمَا؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كِلاَكُمَا يَبْتَغِي مِنْ لَحْمِنَا شِبَعَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

دَعْنَا لَهُ وَانْجُ إِنْ أَحْبَبْتَ مُنْفَرِدًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَلَسْتَ أَكْثَرَ زُهْدًا مِنْهُ أَوْ وَرَعَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نِعْمَ الْفِرَارُ الَّذِي أَقْبَلْتَ تُنْشِدُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَوْ كَانَ يُنْقِذُنَا مِنْهُ وَمِنْكَ مَعَا"[23]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وفي الجملة، فإنَّ مَعانِيَ "غنيم" مُستقاة بالدرجة الأولى من كتاب الله - عزَّ وجلَّ - تَجلَّى ذلك في كثرة الاقتباسات منه من جهة، ثم استقاء المعاني القرآنية من حَثٍّ على سلوك حسن، وأخلاقٍ رفيعة، ومن عدم الغلو والإجحاف في المدح، أو التذمُّر في الرثاء، أو الميوعة في الوصف، من جهة ثانية.

وأفكاره ملائمة تمامًا للعقليَّة التي امتزج بها مُجتمعه؛ ولذلك انعدمت الأفكارُ الفلسفية أو "الماورائية" في الديوان - مما سنزيده تفصيلاً عند الحديث عن "التعبير والصياغة"، كما أنَّها لم تتخذْ موضوعًا بعينه أو موضوعاتٍ معدودة، إنَّما شَمِلَت ميادينَ متعددة، وعالجت قضايا عديدة.

المبحث الثاني: التعبير والصياغة:
يتجلى ابتكارُ "غنيم" الشعري، في طريقة تعبيره، وحُسن صياغته، والناظر إلى ديوانه، يرى لأول وهلة، أنَّه ينزع إلى القصيد العمودي العربي؛ مِمَّا يَجعل طابعَ التجديد يسيرًا، لكن ملكة غنيم، وطبعه الفياض جعلاه ينحو بالقصيدةِ العربية نَحْوًا يَجمع بين فحولة القديم، وسهولة الجديد، بين رصانة القديم وأناقة الجديد، ثُمَّ بين قالب القديم وأفكار الجديد.

وتتجلى أهميةُ هذه الازدواجِيَّة، إذا ما نظرنا إلى الحركةِ الأدبية التي عرفها عصرُ غنيم؛ لنَعْرِفَ أنَّه عصر كان يُجلِّي المعركةَ بين مدرسة الديوان وبين حافظ وشوقي، بين مدرسةٍ تدعو إلى التجديد في المعاني، ونبذ ما يُسَمَّى بشعر المناسبات، والدعوة إلى أن يكونَ الشِّعْرُ ترجمةً عما يَختلج في النفس، والدعوة إلى التحرُّر من الوزن والقافية، وتطوير نَمط التشبيهات الحسية... إلخ، وبين شاعرين عُرِفَا بالشعر المحافظ، الذي يُمثِّل في أغلبه الروحَ العربية القديمة؛ من حيث مبنى القصيدة، ونَمَط الصياغة والتعبير، واستعمال الألفاظ... إلخ، ويكون "غنيم" بذلك قد احتل مركزًا وسطًا بين الطرفين، بل إنَّه بطريقته هاتِه قد أرضى الطرفين، ولا أدل على ذلك من أن العقَّاد نفسَه يحكم لديوانه بالسبق والفوز بجائزة الشعر الأولى في مسابقة مجمع فؤاد الأول للغة العربية، على ما فيه من حفاظ على العمود الشعري، ووحدة الوزن والقافية.

وحتى تكون الدراسةُ أشْمَلَ وأكثر تفصيلاً، فسوف أتطرق إلى مَناحٍ تسعة هي: الأسلوب، والألفاظ، وقضية المحافظة والتجديد، واللغة والحبكة، وطول النفس، وبناء القصيدة، ومدة الموضوع، وموقف غنيم من الشعر الحر، وموقفه من شعر المناسبات.

المطلب الأول: الأسلوب:
الذي يأخذ بلُبِّ قارئ الديوان هو هذا الأسلوب الذي يَجمع بين المتانة والتآزُر، وبين السهولة المطلقة، التي لا تُحوجك إلى قواميس، ولا إلى كتب اللغة، تقرأ القصيدة، فتحس بانسيابِ الأسلوب، كأنَّه النهر الرَّقْرَاق الهادئ المتلألئ، ويتناول الموضوع المشهور المعروف المطروق، وبطريقته الأسلوبية الجذَّابة، يَجعل منه موضوعًا جديدًا بديعًا، قد أُلقيتْ عليه هالةٌ من الصور البيانية، والعاطفة القويَّة، والخيال الواسع، والألفاظ المناسبة المتخيرة[24].

ولعل قصيدتَه "أنا وابناي" تُمثل تمامًا هذا الاتجاه، وإن كانت كلُّ قصائد الديوان كذلك، فالفكرة جليلة، وهي حديث العاطفة التي تشمل الآباءَ والأبناء، والأسلوب نقي سهل مصقول متلألئ، تُحِسُّ وكأنَّك تقرأ عباراتٍ مَنثورة، لكن في قالب شعري؛ مِمَّا يَدُلُّ على تَمكُّن غنيم من ناصية اللغة، وأنَّها لينة الطواعية لديه، يشير على اللفظ، فتنهال عليه ألفاظ؛ ليُميِّز بعد ذلك منها ما يوائم المقام؛ قال في القصيدة المذكورة:
"وَأَطْيَبُ سَاعِ الْحَيَاةِ لَدَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عَشِيَّةَ أَخْلُو إِلَى وَلَدَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إِذَا أَنَا أَقْبَلْتُ يَهْتِفُ بِاسْمِي الْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَطِيمُ وَيَحْبُو الرَّضِيعُ إِلَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَأُجْلِسُ هَذَا إِلَى جَانِبي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأُجْلِسُ ذَاكَ عَلَى رُكْبَتَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَأَغْزُو الشِّتَاءَ بِمَوْقِدِ فَحْمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَبْسُطُ مِنْ فَوْقِهِ رَاحَتَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هُنَالِكَ أَنْسَى مَتَاعِبَ يَوْمِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَأَنِّيَ لَمْ أَلْقَ فِي الْيَوْمِ شَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَأَحْسَبُنِي بَيْنَ طِفْلَيَّ "شَاهًا" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَحْسَبُ كُوخِيَ قَصْرًا عَلِيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ويقول:
وَأَيَّةُ نَجْوَى كَنَجْوَايَ طِفْلِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَقُولُ: أَبِي وَأَقُولُ: بُنَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:16 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 
ويقول:
أَيَا ابْنَيَّ أَحْبِبْ بِمَا تُتْلِفَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَهْوِنْ بِمَا تَكْسِرَانِ عَلَيَّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ويقول:
أَمِنْ كَبِدِي أَنْتُمَا فَلْذَتَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نِ أَمْ أَنْتُمَا حَبَّتَا مُقْلَتَيَّا"[25]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فأنت ترى في هذه الأبياتِ الفكرةَ وقد تدثَّرت بدثار الأساليب الموحية الصادقة، من غير شطط أو إغراق، أو تفيهُق، أو مُعاظلة، أو وحشي من الكلام.

المطلب الثاني: الألفاظ:
يشبه "غنيم" حافظ إبراهيم - إلى حد بعيد - من حيث استعمال الألفاظ، إلاَّ أنَّ الملاحظ في شعر غنيم كثرةُ استعماله للألفاظ السهلة، كثيرة التداوُل، التي تفصح عن المعنى من أول وَهْلة، ليست معماة ولا غامضة، ولا غريبة ولا رامزة، كأنِّي بـ"غنيم" يريد أن يقولَ: إنَّ الشعر ليس هو المغرق في الغموض، الذَّاهب مذهب الرَّمْزيِّين، الذي يطرح أمامَك ألفاظًا عائمة غائمة، ثُمَّ يطلب منك أنْ تَصول وتَجول؛ لتَحْصُل على المعنى المراد، كلاَّ، إنَّ المجتمعَ في حاجة إلى الخطاب المباشر، إلى الفهم الحاضر، والعبارة الجلية، والفكرة الواضحة.

والمدهش أنَّ "غنيمًا" وهو يُعالِج موضوعًا كموضوع الحرب؛ حيث صليل السلاح، وصراخ الجنود، وحيث الطعن وإزهاق الأرواح - لا يَخرج عن استعمالِ الألفاظ التي هي في ذاتِها جَزْلَة رصينة، لكنَّها - عند التركيب - في مطلق السهولة والانسياب؛ يقول في وصف الحرب:
"وَغًى لاَ الدُّرُوعُ السَّابِغَاتُ مَوَانِعٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أَذَاهَا وَلاَ مُجْدٍ بِهَا الصَّارِمُ الْعَضْبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تَثَلَّمَ حَدُّ السَّيْفِ وَانْقَصَفَ الْقَنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَصْبَحَ لاَ طَعْنٌ هُنَاكَ وَلاَ ضَرْبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَأَنِّي بِهَا تَرْمِي مَدَافِعُهَا فَلاَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَطِيشُ لَهَا سَهْمٌ وَلاَ مَضْرِبٌ يَنْبُو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

تُدَمِّرُ مَا تَأْتِي عَلَيْهِ لَوَ انَّهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تُصَوَّبُ نَحْوَ الْأَلْبِ "دُكَّ بِهَا الْأَلْبُ"[26]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فالألفاظ الرصينة الجزلة المستعملة هي: وغى - الدروع السابغات - الصارم العضب - السيف - القنا - انقصف - طعن - ضرب - مدافعها - يطيش - تدمر - دك - وهي ألفاظ اشتملت على قدر كبير من حروف الاستعلاء، وحروف التفخيم، مع شديد الحروف، وكأنَّك تشاهد حربًا بين هذه الحروف، وهذا التشديد، الذي ينمُّ على مراحل الشدة التي يذوق الناس مرارتها.

وعند الحديثِ عن موضوعٍ هادئ مُنساب، نَجِد الألفاظَ تتآزَرُ مع هذا الموضوع، فتُحِس بخفة ولطافة تطوفان على الأسلوب، تنسابانِ انسيابَ الغدير المصقول، كقوله في وصف الطبيعة:
جَلَسْتُ عَلَى بُسَاطٍ مِنْ رِمَالٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
خِلاَلَ الْعُشْبِ وَالْمَاءِ الزُّلاَلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَقَدْ رَقَّ النَّسِيمُ فَكَانَ أَشْهَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إِلَى قَلْبِ الْمُحِبِّ مِنَ الْوِصَالِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

طُيُورُ الْأَيْكِ تَصْدَحُ عَنْ يَمِينِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَمَاءُ النَّهْرِ يَهْمِسُ عَنْ شِمَالِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهنا نرى الألفاظَ مُلائمة تمامًا لموضوع الوصف؛ حيث إنَّ هذه الأبيات الثلاثة قد حوت من الألفاظ ما يَجمع مُعظمَ ما يستعمله شاعِرٌ في وصف الطبيعة وهي: بساط الرمل، العشب، الماء الزلال، رق النسيم، طيور الأيك تصدح، ماء النهر يهمس، وكلها ألفاظٌ سلسة تتدفق عذوبةً ولذَّة، ولقد صدق عزيز أباظة حين قال: "فشعره (أي: محمود غنيم) يَتَّسِم بالجزالة دون تكلُّف، وبالسلاسة دون هبوط، يُحِسُّ بهاتين الميزتين مَن يتذَوَّق موسيقا الشعر العربي، ولا يُنكرهما من تنكب السبيل"[27].

المطلب الثالث: بين المحافظة والتجديد:
يُمكن أن نسطِّر منذ البداية أنَّ شعر "غنيم" ينزع إلى الاتِّجاه المحافظ أكثرَ من نزوعه إلى ظاهرة التجديد، التي ضَجَّ بِهَا العَصْرُ الحديث، وإذا عرفنا أنَّ "غنيمًا" كان مالكًا لناصية اللغة، عالِمًا بمذاهب الشعر المختلفة، مُعايشًا للتيارات الفكرية التي عاصرها، إذا عرفنا كُلَّ ذلك، تبيَّن أن "غنيمًا" قد اختار لنفسه طريقةً في الشعر رآها - بعد التمحيص والتدقيق - أسلمَ طريقة، وأكثرَها استيفاء لأغراضه ومراميه، وهي الجمع بين قالب القديم، والفكرة المستحدثة، لم يغرق في القديم مطلقًا، يتنقل شعره بين وصف الناقة والصحراء، ولجاج القبائل، وعصبية العشائر، ويستعمل حُوشِيَّ الكلام ومعاضلة القول، ولَم يَغُصْ في الجديد مُطلقًا، فيتخلى عن عمود الشعر العربي، وعن بعض صوره البلاغِيَّة، وأساليبه الرائعة، وألفاظه المتناسقة الدالة الموحية، وإنَّما جمع بين الأمرين، فأحسن الصنع.

وتتمثَّل هذه الازدواجية في تأثُّره ببعض الشعراء القُدامى، كالبحتري والمتنبي، وبعض الشعراء المحدثين الذين تَمَيَّزوا بنهج الاتِّجاه المحافظ، كشوقي الذي اقتبس منه بيتًا كاملاً، في قصيدته "ذكرى فريد" حين قال:
"قَالُوا لَهُمْ "حِزْبُ الْجَلاَءِ" وَإِنَّهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَقَبٌ يَزِيدُ مَقَامَهُمْ تَمْجِيدَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَاللَّهِ مَا دُونَ الْجَلاَءِ وَيَوْمِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَوْمٌ تُسَمِّيهِ الْكِنَانَةُ عِيدَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

اللَّهُ يَعْلَمُ لَسْتُ أَبْخَسُ عَامِلاً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حَقًّا وَلاَ أَجْزِي الْجَمِيلَ جُحُودَا [28]

يتبع

ابوالوليد المسلم 29-07-2021 03:17 AM

رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"
 

ويزداد أمر المحافظة والتجديد من خلال قول عزيز أباظة، الذي يفصح عن هذه الازدواجية، بعد أنْ يؤكد كون عالَمِنا الشعري في أمَسِّ الحاجة لمثل هذا الدَّمْج الرَّصين؛ يقول: "فمن لمحاتِه الشائقة المتناسقة نستطيع أنْ نتبين طلاوةَ البيان عند السلف، وشفافية الإبداع عند الخلف، ما أحْوجَنا وأحوج الحياة الأدبية إلى هذا الشعر الرصين"[29].

كما يؤكد "علي الصراطي" (من ليبيا) كونَ "غنيم" يمثل المدرسة المحافظة، التي تَهتم بالقيم الأصيلة، والأخلاق الرفيعة؛ يقول: "محمود غنيم من أبناء المدرسة المحافظة، التي تغار على القيم الشرعية غَيْرَتَها على القيم الأخلاقية"[30].

المطلب الرابع: اللغة:
لغة "غنيم" تبتعد بُعْدًا كاملاً عن الإسفاف والحذلقة والسفسطة، بل يتميَّز باللغة الرَّصينة المتسامية، التي احتضنت كثيرًا من الكلمات القُرآنية، فكانت - حَقًّا - نموذجًا للكتابة الشِّعْرِية، ولعل هذا هو السرُّ في تنصيب "غنيم" مفتشًا للغة العربية، وتظهر مكانته اللغوية في أن العصر عرف رابع النكبات التي أصابت اللغة العربية، بَدْءًا بنكبة التتار عند تقويضهم للعرش العباسي ببغداد سنة 606هـ - 1251م، إلى النكبة الرابعة؛ حيث تقاسُم الاستخراب الفَرَنسي والإنجليزي لعدد من الدول الإسلامية.

وتحكُّم "غنيم" في اللغة، جعله يَجول بين القواميس؛ ليختار المناسب من الألفاظ، والمتناسق من العبارات، والرائع من الصور، يربط كُلَّ ذلك أسلوبٌ منتظم بديع؛ مِمَّا يَجعلنا نذهب مدًى بعيدًا لتقرير أنَّ "غنيمًا" يُمثل النموذجَ المتكامل، أو القريبَ من المتكامل؛ مِنْ حَيْثُ لغة نظمه، وجَوْدتها وسبكها، وقوة أسرها.

المطلب الخامس: طول النفس:
إنَّ من أهم مميزات الشاعر الفذ المُفْلِق أن يكون طويلَ النفس، مُتعَدِّدَ الأغراض، متنوعَ التعابير، مُلِمًّا بالفكرة من كل جوانبها، فيشبعها معالَجَةً وتَحليلاً، وقصيدة واحدة كقصيدة "الهلال الأحمر" كفيلةٌ بأنْ تفصح عن هذه الخِصِّيصة، فقد بلغت أبياتها مائة وخمسةَ أبياتٍ، تناولت موضوعَ الحرب دون أن تتعداه إلى غيره، وجعلها تدور حولَ نقاطٍ ست:
1- الحديث عن الهلال باعتباره رمزًا للتجدد.
2- ذكر ويلات الحرب وعواقبها.
3- الحديث عن "موسوليني"، والحرب الإيطالية الحبشية، وما نجم عن ذلك من تقتيل للأبرياء، وسطوة على الضعفاء.
4- تفصيل بعض أحداث الحرب العالمية الثانية.
5- علاقة هذه الحرب بالأقطار الإسلامية، والأضرار التي عانتها من جَرَّائها.
6- التحذير من أعداء الإسلام، وأنَّ وُعُودَهم بالتآزُر مع المسلمين تلفيقٌ ومكيدة، ثم خرج في النِّهاية بجملة تصوُّرات حول الحرب، كان من الممكن أن تفصل في قصائد عديدة، لكن "حبكة" غنيم جعلتها بالغةً في التركيز، دونَما حشو أو معاضلة، مع الاعتناء بترتيب الأحداث.

المطلب السادس: بناء القصيدة:
وقد سلك "غنيم" بالبناء الفني للقصيدة مَسْلَكَ الشعراء المحافظين، الذين يقدرون القصيدةَ العمودية، ويجلون نظامَها وطريقة بنائها؛ ولذلك كان الديوان كلُّه قصائد عمودية إلا قصائد شَذَّت، واتَّفق أن تكون هذه القصائد الست، الوحيدة التي نشرت في مجلة "أبولو" إلا قصيدة "في إستالين"[31] التي نشرت في مجلة "الرسالة".

ويُمكن - في يُسر - استنتاجُ السبب في تنكُّب "غنيم" في هذه القصائد الطريقة العمودية، وهو أن جماعة "أبولو" عُرِفَت بنزعتها الجامحة نحو "التجديد"، والمناداة الصارخة بالخروج عن أوزان الشعر العربي، فكأنَّ غنيمًا أحس بهذا الجانب، فنظم هذه القصائد مُشاكِلاً بذلك مذهبهم في التحرر.

ويسجل "لغنيم" تقسيمه الجديد للقصيدة تقسيمًا هندسِيًّا بديعًا؛ حيث إنَّها تبدأ بمقدمة تَشْمَلُ الإطارَ العام الذي توضع فيه الفكرة تَمهيدًا للدُّخُول في صلب الموضوع، ثم يشرع في الحديث عن الغرض الأساس، ثم يَختم القصيدة بأبيات غالبًا ما تكون حكمة مفيدة، أو تحذيرًا من مكروه، أو نصحًا وجيهًا، على أنه يُمكن ملاحظةُ أن قصائدَ الديوان كلها قد سارت على هذا النمط.

وقد أعانت هذه الطريقة "غنيمًا" على الاعتناء بالمطلع؛ ليكونَ جذابًا مستدرجًا لقراءة ما يليه، وعلى الخاتمة بأن تكون حسنةً رائقة، فحسُن بذلك استهلالُه، وبرَع تَخلُّصه.

وطبعي أن الشاعرَ إذا أُشرب حب الصياغة القديمة، ورأى فيها الجمالَ الشعري الحقيقي، لا يستطيع أن ينزاحَ عنها، بل في الغالب ما يفصح عن كُرْهِه لما يعارض هذا الاتجاه، وبخاصة في عصرنا الحديث، الذي ضج بما يعرف بـ"الشعر الحر"، والذي وجد تحفظًا من عديد من الدارسين والنُّقَّاد، وكثير من الأدباء والشعراء، وكان "غنيم" من هؤلاء الذين كانوا يَرَوْنَ هذا الضَّرْبَ من الكلام عبثًا لا يستحق الوقوفَ عنده؛ يقول: "وعلى ذكر الشعر الحر، لا أراني في حاجة إلى إطالة الوقوف عنده؛ لأسبابٍ، أقلُّها أنَّه لا رواة له، وأنه يُوءَدُ يَوْمَ يُولد، وشَتَّان بين هرم من صخر، يصارع الزَّمان، وكومة من قش لا تلبث أن تذروها الرياح، ولو سلمنا بأنَّ هذا الضربَ من الكلام يُسَمَّى شعرًا، ما كان في العربية ناطقٌ غَيْرَ شاعر"[32].


المطلب الثامن: الوحدة الموضوعية:
والقراءة الاستقرائية لقصائد الديوان تُوضِّح أنَّ "غنيمًا" قد اعتنى بوحدة الموضوع داخلَ القصيدة الواحدة، لا يزيغ عنه إلى الاستطرادات النابية، ولا يقصد إلى حُوشِيِّ الكلام، وإنَّما يَعْمِد إلى الفكرة بطريقة مباشرة، واضعًا تَخْطِيطًا سابقًا لطريقة التناوُل، ثم يشرع في التحليل والتشريح.

وقد مَرَّ بنا أنَّ قصيدته "الهلال الأحمر" مع طولها اقتصر فيها على غَرَضٍ واحد، وهو الحديث عن "الحرب"، ولم يتجاوز ذلك إلى الحديث عن شيء آخر، وإن كان الهدفُ توجيهًا إرشاديًّا، وهو ما يستخلص من تصوير "الحرب" من جوانبها البشعة، ثُمَّ يضاف إلى ذلك قوةُ الأسر التي تنتظم أبيات القصيدة؛ مِمَّا يُبْعِدها عن التفكك، ويَجعل البيتَ لا ينهض إلا بأخيه، ولا يستخلص كنهه إلاَّ بِمَعرفة ما تقدمه وما يليه، إلاَّ ما كان من "حكمة" أو "مثل"، وإذا نظرنا إلى قوله - مثلاً - عند حديثه عن "هيكل باشا":
"أَقْسَمْتُ مَا نَسِيَتْ لَكَ الْفُصْحَى يَدًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بَيْضَاءَ صَانَتْ حَقَّهَا أَنْ يُهْضَمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَعْلَنْتَ رَأْيَكَ فِيهِ غَيْرَ مُوَارِبٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَوَقَفْتَ تَزْأَرُ خَلْفَ رَأْيِكَ ضَيْغَمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كَوَّرْتَهُ وَحَصِبْتَ أَقْوَامًا بِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
جَمَّ الصَّرَاحَةِ بِالدَّلِيلِ مُدَعَّمَا"[33]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فأنت ترى أن هذه الأبيات متآزرة متآخية، لا يقوم بيت مكان الآخر.

المطلب التاسع: شعر المناسبات:
إنَّ "غنيمًا" يأبى أن يكون الشعر كله غزلاً لا يَخرج عن ذكر الحِسَان، أو أن تستبدَّ به العواطف والتنازُعات النفسية، فيكرس الشاعر لهذه الخِدْمة هذه العواطف، باعتبارها تتحكم في "الشاعرية"، وإنَّما الشعرُ عند "غنيم" اقتناصُ مناسبات الضعف، التي تَحتاج إلى علاجٍ عاجل، فيندفع بموهبته "يضع الهناء موضع النقب"، ويروم الموضوعات التي يراها كفيلةً بأنْ تدفع بعجلة الشعور إلى الأمام؛ ولذلك نراه يردُّ على الذين وصفوا شعره بأنَّه "شعر المناسبات" بأنَّهم "متحذلقون"؛ لأَنَّ الشعر الرصين - كما أكَّد ذلك في مقدمة ديوانه: "في ظلال الثورة" - هو "ما ارتبط بأحداث معينة"، ثُمَّ ضَرَبَ أمثلةً لفطاحل الشعراء، من أمثال عمرو بن كلثوم في معلقته، وأبي تمام في بائيته "فتح عمورية"، وشوقي في نونيته "توت عنخ آمون"، والمتنبي في كل أشعاره، بل والإلياذة والأوديسا؛ ليبرهن أن ذلك كُلَّه كان من جراء مناسباتٍ دعت إلى هذا الإنتاج.

وبعد هذا، فإنَّنا نستطيع القولَ بأنَّ "غنيمًا" كان موفَّقًا في صياغته، وتعابيره، وطريقة أسلوبه، وكان مثالاً حيًّا للصياغة الجيدة، التي جمعت بين ملكة "الموهبة"، وامتلاك اللغة الأصيلة.

المبحث الثالث: التصوير البياني والخيال:
وقد أبدع "غنيم" في تناوُل الصورة البيانية، بما يثبت جدارته، واتِّساعَ أفقه، فقد استغل الأساليب البيانية في توضيح الغامض، وتقريب البعيد، وتفصيل المجمل... وتآزر ذلك مع طواعية اللغة له، فاكتملت صورتُه، وبَعُد تَحليقه؛ يقول متحدثًا عن نفسه، وقد دخله اليأس، وأحَسَّ بنفسه كالجامد في مكانه، في حين يظن أنَّه يتقدم به المسير:
"كَأَنِّي إِطَارٌ دَائِرٌ حَوْلَ نَفْسِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَطُولُ بِهِ الْمَسْعَى وَلاَ يَتَقَدَّمُ [34]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ويُحسن "غنيم" في تصويرِ حالتي الخوف والرعب، اللَّذَيْنِ انتابا الناسَ من جراء الحروب الطاحنة، حتى انحشر الناس في دُورهم، وكتموا أنفاسَهم:
"لاَ نُورَ فِي الْآفَاقِ إِلاَّ أَنْ تَرَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
طَيَّارَةً قَدْ طَارَدَتْهَا أَسْهُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أَوْ طَيْفَ مِصْبَاحٍ بَدَا وَكَأَنَّهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يَخْشَى مِنْ الْغَارَاتِ وَهْوَ مُلَثَّمُ"[35]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فالجو جَوُّ شدة وفَرَقٍ، والعالم الخارجي لا يعرف إلاَّ الطائرات الحربية، التي تَمُرُّ كلمح البصر، وقد طاردتْها السِّهام من كل الجوانب، حتى المصابيح من هول الواقعة، وتناثر الفقع، كادت أن تأفل ويَعْتِمُ نورُها، حتى كأنها تلثمت؛ خشيةً من الغارات، وهذا تصوير بديع بحق، وخيال بعيد غائر.

وصورة أخرى، يتمُّ فيها تشبيهُ التيجان، وقد تناثرت وتطايرت عن رؤوس أصحابها - بالبخار الذي يَنفِثه القِدر:
"تَتَطَايَرُ التِّيجَانُ عَنْ أَرْبَابِهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كَالْقِدْرِ تَنْفِثُ فِي الْفَضَاءِ بُخَارَهَا" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وقد كان يكفي لتأدية المعنى أنْ يُبادر بالقول المباشر في أنَّ ذوي المكانة من عِلْيَةِ القوم، قد اضمحل نفوذهم، وتهاوت أقدارهم... لكنَّ هذا التصوير يَجعل ذلك المعنى نفسه بعيدَ التأثير في النفس، شديدَ الوقع على الحس.

وبالغ "غنيمٌ" - أحيانًا - في هذا التصوير، لكن لم يَخرج عن إطار المقبول، إذا ما استحضرنا الغايةَ النبيلة، التي من أجلها تَمَّت هذه المبالغة، كقوله:
"فِي كُلِّ دَارٍ ثَوْرَةٌ مَشْبُوبَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لاَ يُطْفِئُ الْبَحْرُ الْخِضَمُّ شَرَارَهَا" [36]https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



فقد دلَّل على اشتعال النيران في كل مكان، وقيام الثورات في كل الأرجاء - بأنَّها بلغت مبلغًا يتعسر إطفاؤه، حتى ولو بماء البحر، ويبقى لهذا الأسلوب غرضه في تَبشيع صُوَرِ الحرب، وتنفير الناس منها، والمبالغة في هذا تكون مقبولة جيدة.

المبحث الرابع: العاطفة:
عرفنا أنَّ الصورة البيانية في شعر غنيم كانت مُطَعَّمة بخيالٍ واسع ناضج، قد توافرت له أسبابُه من كثرة الاطلاع، واتِّساع الثقافة، وخبرته بأشعار الحرب، يضاف إليه مَوهبته الفطرية، وحِسُّه المرهف، فكان ينتقل بالقارئ إلى أجواءٍ شاسعة، ويطوف به آفاقًا بعيدة، وتضافر ذلك مع العاطفة القويَّة التي مَيَّزت "غنيمًا"، الذي كان ينطلق في صرخاته ونداءاتِه منطلَقًا صادقًا، يدفع إلى التغيير والإصلاح، واتَّضح ذلك بشكلٍ جليٍّ في شعره القومي، الذي تناول موضوعًا عن الحرب، ودعوته الشعوب الإسلامِيَّة إلى نبذها، وعدم الانشغالِ بها، دعوته لقريب حميم، يرى من الواجب توجيهَه وإرشاده، وكانت هذه سِمَة الشعراء القوميِّين في هذه الحقبة، "لقد كانت العواطفُ في شعر القومِيَّة صادقة، لا نفاقَ فيها، ولا زَيْفَ، ولا مَيْنَ؛ لأنَّ مصدرها شعور عميق"[37].

ويظهر صدقها في تَحريك الأشجان، وبعث اللَّوعة على هذا الواقع المُرِّ الأليم، تشرك القراء مع الشاعر في الفرح والحزن، والرِّضَا والسخط.[38]

وذلك ما أكَّده "توفيق ضعون" في مناطِ إثبات الدَّلائل على جَوْدَة شعره، في أنَّه كالشعر "الواضح المعنى، المؤدي صورةً صادقة عن عاطفة ناظمه وهدفه في الوجود".

وانظر كيف تَمازج الخيالُ الواسع، والعاطفة الصادقة في تصويرِ مُلْكِ الطُّغاة، وأنه يقوم على القهر، والغلبة، والاستبداد، وعدم النَّصَفَة، فهُم يَستطيعون إحصاءَ عدد النُّجوم، ولكن عن إحصاء الضَّحايا عاجزون، هؤلاء الذين جُعِلَت هاماتُهم لَبِنَاتِ ذلك المُلك، وكانت دماؤهم الطلاءَ المختار لجوانبه:
"يَا رَبُّ مُلْكٌ بَنَتْهُ كَفُّ طَاغِيَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تُحْصَى النُّجُومُ وَلاَ تُحْصَى ضَحَايَاهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

دَمُ الضَّحَايَا طِلاَءٌ فِي جَوَانِبِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَهَامُهُمْ لَبِنَاتٌ فِي زَوَايَاهُ" https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



والنماذج من هذا اللَّون مُتعدِّدة، واستيفاؤها مُتعَسِّر، ويَكفي شعرَ غنيم فخرًا أنَّه وجد الآذان المصغية، وحَرَّك الشجون، وأحدث ما كان ينشده من تغيير، حتى سارت قصائدُه على الألسن سير الأمثال.

خـاتمة


هذا، وأحْمَد الله - تعالى - على توفيقه ومِنَّته بانتهاء هذا البحث، وأسأله - تعالى - الانتفاعَ بما ورد فيه من فوائدَ، أختزلها فيما يلي:
1- إنَّ الأدبَ الإسلامي في طريقه إلى النضج والكمال، بفضل الله - تعالى - أولاً، ثم بفضل مَجهودات المخلصين، وذَوي الهمة العالية، في إيجاد أدبٍ يُعَبِّر عن كِياننا، وينطلق من عقيدتنا.

2- مقدرة "محمود غنيم" على الصياغة الجيدة، والفكرة الهادفة؛ مما جعلني أستحسنُ شعره، وأختاره نموذجًا تطبيقيًّا، يُمكن اقتفاءُ أثَرِه، والسير على منواله، بعد أن أوضحت ما علق بديوانه من شوائب كان الواجبُ التنزُّه عنها.

3- شمولية شعر غنيم لأهمِّ الأغراض البلاغية، مع لطافة التناوُل، وحسن الأداء، وهي مَيْزَة كان حقًّا على الشُّداة أن يَعْدُوا بها وينتهجوها، إضافةً إلى النقاط الدقيقة المتعددة، التي حصلت منها الإفادة المطلوبة، ونسأل الله - تعالى - أن يَجعل أعمالَنا خالصةً لوجهه، إنَّه سميع مجيب.

ثبت المصادر والمراجع:
1- الأدبُ الديني لدراسات أدبية عن القرآن والحديث، د. زكي المحاسني.
2- الأدب المقارن، د. محمد غنيمي هلال.
3- الأدب اليوناني القديم، د. عبدالواحد وافي.
4- الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة، عبدالقادر شيبة الحمد.
5- الإسلامية والمذاهب الأدبية، د. نجيب الكيلاني.
6- تاريخ آداب اللغة العربية، جورجي زيدان.
7- تاريخ الأدب الروماني، ج.و.د.ف. - ترجمة: د. محمد سليم سالم.
8- تاريخ الأدب السرياني من نشأته إلى الفتح الإسلامي، د. مراد كامل و د. محمد البكري.
9- تاريخ الأدب الفارسي، د. رضا زاده شغف - ترجمة: موسى هنداوي.
10- تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان.
11- تاريخ الأدب العربي، حنا الفاخوري.
12- تاريخ الأدب العربي، أحمد حسن الزيات، وتاريخ الأدب اليوناني، د. محمد صقر خفاجة.
13- الأدبية في عصر الجاهلية والإسلام، عبدالغني خفاجي و د. صلاح عبدالتواب.
14- دراسات في أدب الدعوة الإسلامية، د. محمد حسن زيني.
15- السيرة النبوية، ابن إسحاق.
16- شعراء الدعوة الإسلامية، ج 20، أحمد عبداللطيف الجدع و حسني أدهم جرار.
17- صحيح مسلم.
18- صرخة في وادٍ، محمود غنيم.
19- في التاريخ... فكرة ومنهاج، سيد قطب.
20- فتح القدير، الشوكاني.
21- في ظلال الثورة، محمود غنيم.
22- محاضرات عن الشعر الفارسي والحضارة الإسلامية في إيران، د. علي أكبر فياض.
23- القومية العربية في الشعر الحديث، د. أحمد محمد الحوفي.
24- مختصر سيرة ابن هشام، محمد عفيف الزغبي.
25- مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، د. ناصر الدين الأسد.
26- مقدمة في دراسة الأدب الإسلامي، د. مصطفى عليان.
27- مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي، د. عبدالباسط بدر.
28- من قضايا الأدب الإسلامي، د. آدم صالح بيلو.
29- منهج التربية الإسلامية، محمد قطب.
30- منهج الفن الإسلامي، محمد قطب.
31- النقد الأدبي عند اليونان، د. بدوي طبانة.


[1] "صرخة في وادٍ"، ص: 77.

[2] "صرخة في وادٍ"، ص: 67.

[3] نفسه، ص: 56.

[4] تراجع القصة في قصيدة: الهلال الأحمر، وهامش ص: 49، من الديوان.

[5] "صرخة في وادٍ"، ص: 56.

[6] نفسه، ص: 103.

[7] نفسه، ص: 98.

[8] "صرخة في وادٍ"، ص: 98.

[9] "نفسه"، ص: 135.

[10] "صرخة في وادٍ"، ص: 34.

[11] "صرخة في وادٍ"، ص: 46.

[12] "صرخة في وادٍ"، ص: 238.

[13] نفسه.

[14] نفسه، ص: 239.

[15] "صرخة في وادٍ"، ص: 240.

[16] نفسه، ص: 114.

[17] نفسه، ص: 139.

[18] "صرخة في وادٍ"، ص: 208.

[19] نفسه، ص: 181.

[20] نفسه، ص: 183.

[21] نفسه، ص: 187 - 188.

[22] نفسه، ص: 144.

[23] "صرخة في وادٍ"، ص: 297.

[24] انظر بحث "توفيق ضعون" في مقدمة الديوان ص: 24.

[25] "صرخة في وادٍ"، ص: 118.

[26] "صرخة في وادٍ"، ص: 59.

[27] "في ظلال الثورة"، ص: 7.

[28] "صرخة في وادٍ"، ص: 177.

[29] "في ظلال الثورة"، ص: 5.

[30] نفسه، ص: 299.

[31] "صرخة في وادٍ"، ص: 148.

[32] "في ظلال الثورة"، ص: 16 - 17.

[33] "صرخة في وادٍ"، ص: 240.

[34] "صرخة في وادٍ"، ص: 244.

[35] نفسه، ص: 63.

[36] نفسه، ص: 40.

[37] القومية العربية، ص: 364.

[38] نفسه.



الساعة الآن : 03:08 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 424.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 422.89 كيلو بايت... تم توفير 1.35 كيلو بايت...بمعدل (0.32%)]