ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى النحو وأصوله (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=122)
-   -   دفاع عن النحو والفصحى (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=254748)

ابوالوليد المسلم 11-03-2021 04:54 AM

دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(1)














(الدعوة إلى العامية تطل برأسها من جديد)




د. إبراهيم عوض



توطئة:


"أمامكم فرصة العمر الآن لخنق الإسلام وقتله، فلا تضيعوها"! هذا هو الشعار الذي يتنادى به هذه الأيام أعداءُ دين الله من كل ملة ومذهب، متوهمين في عَمايتهم وغلظ بصيرتهم وأكبادهم أن الإسلام يلفظ فعلًا أنفاسه الأخيرة، وأنهم إذا ما كثفوا جهودهم بعض الشيء في حربه، فسوف يتخلصون منه ويرتاحون إلى الأبد، وهذا غباء مطبق؛ إذ كيف يمكن مخلوقًا عاجزًا فانيًا أن يطفئ نورَ الله الذي يسطع في آفاق السموات والأرَضين بنفَس واهٍ من فمه؟ إن دين محمد باقٍ ما بقيت الحياة، إلا أن أصحاب القلوب الغُلف لا يفهمون، ولسوف يُفيق الأوغاد من أوهامهم على قارعة تصكهم صكًّا، وتبددهم شر مبدد، وعندها سيندمون ندامة الكُسَعِي، ولكن لاتَ حينَ مَندَمٍ.





وهذا الوهم المغفَّل قد سوَّل للصراصير الجبانة أن تخرج من جحورها، وقد قام في خيالها المجنون أن بمستطاعها الإطاحة بالرواسي الشُّم، متناسية أنها مجرد صراصير حقيرة، فرأينا صرصورًا يهاجم القرآن المجيد، وصرصورًا آخر يناطح السنة النبوية المشرفة، وصرصورًا ثالثًا يحاول النيل من سيد الأنبياء والمرسلين، وصرصورا رابعًا يطاعن لسان العرب الذي نزل به كتاب الله، فقضى له مِن ثم بالخلود، وصرصورًا خامسًا...، وصرصورا سادسًا... إلى آخر الصراصير، وما أكثرها! إلا أنها تبقى، في نهاية المطاف، صراصير قذرة، تبعث على الاشمئزاز، وتثير الغثيان، ولا تستحق من أحدنا أكثر من أن يسحقها بحذائه!


الراجي رضا ربه والهائم بحب رسوله





دفاع عن النحو والفصحى:


صدر في العام الماضي عن دار رياض الريس كتاب من 176 صفحة يهاجم العربية الفصحى ونحوَها، بعنوان: "جناية سيبويه - الرفض التام لما في النحو من أوهام"، لشخص يدعى: زكريا أوزون، جاء في مقدمته: أن اللغة العربية أصبحت لغة جامدة، بل تراجعت عالميًّا، حتى إن أهلها أنفسهم لم يعودوا يهتمون بها، وأرجع ذلك إلى سببين: علم النحو العربي، والاشتقاق اللغوي لاستيعاب المفردات والمصطلحات الجديدة، أما الكتاب نفسه فينصبُّ كله تقريبًا على نقد النحو العربي، ومحاولة البرهنة على أن قواعده مجافية للمنطق والعقلانية، أما مسألة الاشتقاق فقد لمسها الكاتب لمسًا عجلًا في صفحات لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، مضيفًا إليها دعوته إلى اطِّراح الأرقام التي نستخدمها اليوم، والأخذ بما يسمى بـ: "الأرقام العربية"، التي يكتب بها الأوربيون الآن، وهي: "1.2.3.4".





وبالنسبة لنقد النحو العربي نجد أن المؤلف لا ينهج سبيلًا يعرف القارئ منها بسهولة ووضوح ما يريده بالضبط: هل يريد تخفيف القواعد بحذف بعض أبوابها، أو اختصار شيء من تفصيلاتها، أو الاعتراض على فلسفة هذا الاستعمال أو ذاك منها؟ أم هل يريد إلغاء النحو والإعراب جملة واحدة، والركون إلى تسكين أواخر الكلمات؟





أم هل تراه يريد بالأحرى ترك الفصحى تمامًا، والانكفاء إلى العامية، ثم إن كان المراد هو الهدف الأخير، فأية عامية يا ترى نتخذ، والعاميات (كما هو معروف) كِثارٌ بكثرة عدد الأقطار العربية، لا بل بكثرة عدد المناطق داخل كل قُطر من تلك الأقطار؟ فهذا أول ما يمكن أن يؤخذ على الكتاب ومؤلِّفه.





ولنبسط القول في ذلك بعض البسط:


إنه يأخذ على النحاة مثلًا أن الإعراب لا يجري على أساس المنطق[1]، أتراه إذا ما تبين له أنه يجري على أساس منطقي يرجع عن موقفه؟ فماذا هو قائل إذًا إذا عرفناه أنه يجري على منطق القياس: فكل من نفَّذ الفعلَ أو تحقَّق الفعلُ من خلاله يضم آخره إن كان اسمًا مفردًا أو مجموعًا بغير الواو/ الياء والنون، أو ينتهي بالواو إذا كان من هذا الباب الجمعي، أو كان مما يسمى بالأسماء الستة في حالة إفرادها وإضافتها لغير ياء المتكلم، أو ينتهي بالألف إذا كان يدل على اثنين... وقِسْ على ذلك سائر الحالات في الأسماء والأفعال، فإن شذ شاهد عن ذلك كانت له قاعدته التي تبين سر شذوذه: إما لتخلُّف شرط من الشروط، وإما لأنه يتبع لهجةَ قبيلة بعينها تخالف سائر العرب، وإما لأنه شاهد شعري يخضع لضرورات الوزن والقافية، وإن كان هذا الوضع الأخير مِن الندرة بحيث لا يعوَّل عليه.





صحيح أنه يمكن المجادلة بأنه لا منطق في جعل الفاعل مضمومًا، أو منتهيًا بالواو أو بالألف، أو في جعل المفعولات مفتوحة، أو مكسورة (في جمع الألف والتاء)، أو منتهية بالياء (في حالة جمع المذكر السالم والمثنى)، أو بالألف (في حالة الأسماء الستة)، وهذه حجة يميل كاتب هذه السطور إلى تقديرها والأخذ بها، بل لقد سبق أن رددتُ بها على ابن جني، ذلك اللغوي العظيم، في معرض تحليلي لكتابه القيم: "الخصائص"[2]، ومن ثم فإني لا أجد أية غضاضة في سؤال المؤلف وجوابه التاليين: "ما هي العلاقة التي تربط الرفع (فيما يسمى "الأفعال الحمسة") بثبوت النون، والنصب أو الجزم بحذفها؟ والجواب: لا علاقة البتة بينهما"[3].





لكني مع ذلك أسارع إلى الرد بأنه لا بد، في كل مجال من مجالات الحياة، من نقطة بَدءٍ يتم الاتفاق عليها والتسليم بها، ثم الانطلاق منها وجعلُها قاعدة يقاس عليها ما يجدُّ بعد ذلك من حالات تشبهها، مثلًا: لماذا كان ملعب كرة القدم مستطيلًا بأطواله التي نعرفها؟ ولماذا كانت كرة القد مستديرة، بينما كانت كرة الرجبي بيضية؟ ولماذا هذه الاختلافات بين الملعبين في هاتين اللعبتين وفي عدد أفراد كل فريق وفي الشروط التي تحكم اللعبة؟ ولماذا كان عدد الصلوات خمسًا، وكانت الصبح ركعتين، والمغرب ثلاثًا، وسائر الصلوات أربعًا؟ ولماذا يجوز قصر الصلوات الرباعية ولا يجوز ذلك في الثنائية والثلاثية؟ ولماذا كانت سنوات التعليم الابتدائية ستًّا، وكل من المرحلتين الإعدادية والثانوية ثلاثًا، والجامعية أربعًا؟ إن هذه كلها نُقَط انطلاق فقط، ثم يبدأ المنطق في القياس عليها.





ثم هل تنفرد لغتنا بأنه من الصعب أو ربما من المستحيل معرفة المنطق الذي وراء هذا الإعراب أو ذاك التصريف أو ذلك الاشتقاق مثلًا؟ فما هو إذًا، يا ترى، المنطق الذي يجعل الجملة في اللغات الأوربية - التي درسناها، والتي من الجلي الواضح أن صاحب "جناية سيبويه" يعجب بها أشد الإعجاب - هي جملة اسمية دائمًا؟ ولماذا كان تصريف الأفعال في هذه اللغة أو تلك منها على النحو الذي نعلمه؟ ولماذا يختلف تصريف فعل الكينونة في الإنجليزية عن سائر الأفعال؟ ولماذا يشذ تصريف بعض الأفعال عن نظيراتها؟ ولماذا كان توليد الكلمات في هذه اللغات يقوم بوجه عام على إلحاق المقاطع بأوائلها أو نهاياتها لا بالطريقة الاشتقاقية المتبعة عندنا في معظم الحالات؟ إن مثل هذه الأسئلة لا تنتهي، ولو أن أصحاب كل لغة، حينما فكروا في وضع نحوٍ للغتهم، عملوا على أن يمنطقوا هذه المسلمات التي تنطلق منها، وإلا نبذوها وبحثوا عن لغة جديدة يتحقق فيها هذا الشرط، لَمَا صمدت لغة واحدة لهذا العبث، ولكانت البشرية كلها لا تزال حتى الآن في طور الإشارة باليد والتهتهة باللسان، فعل البكم! فإن كان المؤلف يقصد بغياب المنطق هذا الذي أقوله هنا فهو متعنت، يهرِفُ بما لا يعرف، ويُدخِل نفسه في مآزق لا يستطيع أن يسد فيها مسدًّا، وليس هذا مِن شيمة العلماء الذين يقدرون لأرجُلهم قبل الخَطْو موضعها، بل هو إلى النزق الطفولي أقرب رُحمًا، والآن، وقد عرفنا أن اللغة العربية تجري على منطق القياس في إعراباتها واشتقاقاتها، وإن لم يتبين لنا أنها تجري عليه في أساس هذه الإعرابات والاشتقاقات، هل نطمع في أن يرجع السيد أوزون عن موقفه منها؟





يتبع،،






[1]انظر "جناية سيبويه"/ رياض الريس للكتاب والنشر/ بيروت /2002م/ 15 - 16.




[2] يرجع إلى كتابي "من ذخائر المكتبة العربية"/ دار الفكر العربي / 1421هـ - 2000م/ 118 وما بعدها.




[3]ص 46.








ابوالوليد المسلم 11-03-2021 04:55 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(2)



د. إبراهيم عوض


كذلك يدعي الكاتب أن القرآن الكريم لا يخضع لقواعد اللغة، قائلًا: إن هذه القواعد هي من نتاج المخلوق، على حين أن القرآن هو من كلام الخالق[1]، ثم يورد قرب نهاية الكتاب في الفصل المسمى: "شواهد وتخريجات نحوية" أمثلة من الكتاب العزيز يرى أن ضبطَ بعض كلماتها لا يجري حسب قواعد سيبويه[2]، وهو في هذه الدعوى مخطئ خطًا أبلق لا يمكن الاعتذار عنه بحال؛ فالقرآن الكريم يتبع في كل كلمة منه القواعد التي تحكم اشتقاق الألفاظ وتركيب الجمل في لسان العرب، وإن اكتفاء المؤلف بما أورد من أمثلة قليلة لأعظمُ دليل على أنه لم يجد في سائر الكتاب المَجيد ما يمكن القول بأنه يخالف تلك القواعد، ترى هل رفع القرآن مفعولًا به، أو نصب فاعلًا أو مبتدأ في أي موضع منه، أو أبقى نون فعل من الأفعال الخمسة رغم مجيئه بعد أداة نصب أو جزم مثلًا؟ أما الأمثلة التي زعم مؤلفنا المتمرد الهجَّام أنها تخالف قواعد اللغة، فلا مخالفة فيها على الإطلاق؛ إذ يورد النحاة والمفسرون شواهد من شعر العرب وكلامهم تجري على ذات الوتيرة، بما يدل على أن القرآن الكريم، في هذه الشواهد أيضًا، لا يخرج على أسلوب العرب في اشتقاقاتهم وتراكيبهم، إن لكل حالة إعرابية في لغة الضاد دلالتها، فإذا ما وجدنا مثلًا أن ضبط إحدى الكلمات في جملة من الجمل قد أتى على غير ما هو شائع، كان علينا التنبه إلى أن هناك نكتة بلاغية وراء هذا العدول عن الوضع العام إلى وضع خاص؛ بُغْيةَ الإشارة إلى معنى ما، أو الإيحاء بمغزًى من المغازي لا يتحقق في الأسلوب المعتاد.



ولا ينفرد القرآن في شيء من هذا؛ لأنه ما من شاهد من الشواهد التي ساقها زكريا أوزون للتدليل بها على أن القرآن لا يتبع قواعد لغة العرب إلا وقد أورد له علماؤنا القدامى أمثلة مشابهة من الكلام العربي في الجاهلية وصدر الإسلام، وحتى لو افترضنا أنهم لم يوردوا مثل هذه الأمثلة من كلام العرب، فإن هذا لا ينبغي أن يُتخذ برهانًا على شذوذ الأسلوب القرآني عن القواعد التي تحكم كلام العرب، بل على أن الاستقصاء الذي قام به أولئك العلماء لكلام العرب في هذه النقطة لم يكن استقصاءً كافيًا، وهذا أمر متوقَّع؛ فهم بشر، وكل جهد بشري معرض للخطأ والسهو والنسيان والتقصير، ولا يمكن في تقدير عاقل أن نجعل مِن مثل هذه الأخطاء والتقصيرات تُكَأَةً لرفض تلك الجهود، وإلا وجَب إدارة ظهورنا للحضارة البشرية جملة؛ لأنها لم ولن ولا يمكن أن تخلوَ من الأخطاء!



أليس من العجيب أن يقول السيد أوزون: إن القرآن لا يجري على قواعد النحو والاشتقاق؟ فعلى أية قواعد إذًا يجري؟ إن ذلك لهو الخطَل بعينه، سواءٌ في حُكم المنطق الإنساني، أو في حكم القرآن نفسه، ألم يمرَّ الكاتب، وهو يقلب أوراق المصحف الشريف، بقوله عز شأنه مثلًا: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [إبراهيم: 4]، أو بقوله: ﴿ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾ [الزمر: 28]، أو بقوله: ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 195]؟ وهل القواعد التي استخلصها النُّحاة هي للسان قوم آخرين غير العرب الذين أُرسِل إليهم محمدٌ عليه الصلاة والسلام بذلك القرآن؟ إذا كان فليدُلَّنا المؤلف، ونحن له منصتون، ولعقولنا وقلوبنا فاتحون، ولتغيير رأينا - إن استبان لنا خطؤنا - مستعدون، بالله هل يمكن قيام تفاهم بين طرفين إذا كانت قواعد اللغة التي يستخدمها كل منهما مخالفةً لقواعد تلك التي يستعملها الآخر؟ إنه لهو المستحيل بشحمه ولحمه، إن كان للمستحيل لحم وشحم! وهذا هو حكم المنطق الإنساني بعد أن بيَّنا حكم القرآن الكريم.



ولنأخذ مثلًا أو اثنين من الأمثلة التي يدَّعي المؤلف أن القرآن قد خالف فيها قواعد العربية: فهو يقول: إن "أمسى" و"أصبح" و"ما دام" و"كان" لا تكون عند النحاة إلا ناقصة؛ أي: تحتاج إلى مبتدأ وخبر، ولا تكتفي بفاعل فحسب، رغم ورودها في القرآن تامة؛ أي: مكتفية بفاعل فقط، مثل: ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [الروم: 17]، و﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾ [هود: 107]، و﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280][3].



وهذا الكلام منه لا يخرج عن أحد أمرين: إما الكذب وسوء الطَّوية للإساءة إلى النحو وعلمائه، وإما الجهل الذي لا يليق بمن يتصدى لمثل هذه القضايا، وسوف أتركه يختار ما يحب منهما بنفسه لنفسه؛ ذلك أن النحاة قد ذكروا - بكل وضوح - أن "كان وأخواتها" (كلها تقريبًا بما فيها "أمسى وأصبح وما دام" التي وقف عندها المؤلف) تأتي ناقصة، وتأتي تامة، وضربوا (من بين ما ضربوه على إتيانها تامة) هذه الآيات الكريمات ذاتها، ولأنقل أولًا ما جاء في "ألفية ابن مالك" في هذا الموضوع، ثم أُقفِّي على أثَره بما قاله ابن عقيل وابن هشام في شرح كلام ابن مالك، ونص الألفية هو:



ومنعُ سَبْقِ خبرٍ "ليس" اصطُفِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وذو تمامٍ ما برفع يَكتفي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وما سواه ناقصٌ، والنقص في https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

"فتئ، ليس، زال" دائمًا قُفِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






وقد علَّق عليه ابن عقيل بهذه الكلمات: "وقوله: "ذو تمام... إلى آخره" معناه: أن هذه الأفعال انقسمت إلى قسمين، أحدهما: ما يكون تامًّا وناقصًا، والثاني: ما لا يكون إلا ناقصًا، والمراد بالتام: ما يكتفي بمرفوعه، وبالناقص: ما لا يكتفي بمرفوعه، بل يحتاج معه إلى منصوب، وكل هذه الأفعال يجوز أن تستعمل تامة، إلا "فتئ" و"زال"، التي مضارعها "يزال"، لا التي مضارعها "يزول"، فإنها تامة، نحو "زالت الشمس")، و"ليس"، فإنها لا تستعمل إلا ناقصة، ومثال التام قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280]؛ أي: "إن وُجِد ذو عسرة"، وقوله تعالى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾ [هود: 107]، وقوله تعالى: ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [الروم: 17][4]، أما ابن هشام فقد قال: "قد تُستعمل هذه الأفعال تامة؛ أي: مستغنية بمرفوعها، نحو: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280]؛ أي: وإن حصل ذو عسرة، و﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [الروم: 17]؛ أي: حين تدخلون في المساء، وحين تدخلون في الصباح، و﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾ [هود: 107]؛ أي: ما بقِيَت، وقوله: "وبات وباتت له ليلةٌ"، وقالوا: "بات بالقوم"؛ أي: نزل بهم، و"ظل اليومُ"؛ أي: دام ظلُّه، و"أضحينا"؛ أي: دخلنا في الضُّحى، إلا ثلاثة أفعال، فإنها ألزمت النقص، وهي: فتئ، وزال، وليس"[5].



والعجيب أيضًا أن مؤلِّفنا المتمرد الهدام، الذي لا يعجبه النحوُ والإعراب، ويشكك في وجود قواعد تحكم لسان العرب، قد كتب كتابه من مبتدَئِه إلى منتهاه على أساس من تلك القواعد النحوية[6]، التي تَنخَّلها سيبويه وأضرابه بعد استقرائهم لكلام العرب وأشعارهم وللقرآن المجيد، وهو أبلغُ رد على هذا التحذلق الفارغ، بل التنطُّع المَقِيت الذي ملأ به صفحات كتابه.



وأنت، أيها القارئ الكريم، حين تقرأ هذا الذي يقوله المؤلِّف، يقوم في نفسك أن هدفه هو الدعوة إلى مزيد من تقصِّي كلام العرب؛ كي تكون القواعد النحوية أكثرَ دقة وشمولًا، فلا يفلت منها استعمال قرآني أو شاهد شعري، كما أنك حين تراه يضيق صدرًا بالوقت والجهد الذي ينفق في تعليم الطلاب الجُمل التي لا محل لها من الإعراب مثلًا[7]، ما دام ذلك كله لن يأتي بأية ثمرة في واقع الأمر، (إذ ما الفائدة التي تعود على الطالب من معرفة أن هذه الجملة أو تلك لا محل لها من الإعراب إذا كانت معرفة ذلك أو الجهل به لن يترتب عليه صحة في النطق أو الكتابة أو خطأ فيهما؟) - يقوم في نفسك أيضًا أن المؤلف يبغي تخليص النحو من الزوائد المرهقة في غير طائل للمتعلمين، وهما هدفانِ مشروعان، بل يستحقان التشجيع والمعاونة، بَيْدَ أنك تفاجأ في مواضعَ مختلفة من الكتاب بأن المؤلف يدعو إلى إهمال الإعراب جملة وتفصيلًا، وهذه مقتطفات من أقواله تشهد بصدق كلامنا، قال في ص 31 - 32: "إنه ليستوي عندي إذا قلت: كان أحمدُ فائزًا، أو قلت: كان أحمد فائزٌ، أو قلت: كان أحمد فائزٍ، أو قلت: كان أحمد فائزْ"، وقال في ص 66: "إن علامة رفع المثنى أو جره أو نصبه (الألف والنون في الرفع، والياء والنون في النصب والجر) لا أهمية لها عندي، فسواء قلنا: "حضر الطالبان" أو "حضر الطالبين" فالفهم تمَّ بأن من قام بفعل الحضور هما الطالبان (الطالبين)، واستوعب السامع أن اثنين حضرَا، لا ثلاثة أو واحد مثلًا"، وقال في ص 77 ساخرًا من الإعراب: "يرتعد النحاة ويتضايقون إذا قال أحدنا: "إن الشمس ساطعةً"، أو "كان الجندي جريحٌ"، ولكنهم يقبلون مصطلح "مفعول معه"، وكيف يتم إنجاز الفعل من قبل الإنسان والشارع معًا؟"، وقال في ص 87: "إنه يستوي عندنا القول تمامًا في الجمل اللاحقة: "جاء أبو وليد"، "رأيت أبو وليد" (عوضًا عن "أبا وليد"، "مررت بأبو وليد" (عوضًا عن "أبي وليد")؛ لأنه ببساطة يمكننا اعتبار "أبو وليد" اللقب اسمًا علمًا غير قابل للتبديل والتغيير".




كذلك فأنت، أيها القارئ الكريم، عندما تقرأ مثل هذه العبارات قد تظن أن غاية مؤلفنا هي تسكين أواخر الكلمات، أو إلزامها حالة واحدة من حالات الإعراب، أو اتباع ما يحلو للقارئ من هذه الحالات كيفما يتفق له دون ضابط أو ورابط، لكنك تنظر في مواضع أخرى من كتابه فتجد أنه إنما يريد إزاحة الفصحى وإحلال العامية محلها، وإليك بعضًا من أقواله في هذا السبيل: ففي ص 14 مثلًا يتساءل: "لماذا نشأت اللهجات العربية في مختلف أرجاء الوطن العربي ولم تعتمد قواعد اللغة العربية؟"، ليجيب بعد ذلك بصفحتين قائلًا: إن الجواب "يكمن في عدم استطاعة قواعد اللغة العربية أن تؤدي دورها المطلوب، بينما استطاعت لغتنا العريقة والجميلة أن تنتشر لتختلف اللهجات فيها انطلاقًا من مفرداتها الغنيَّة والكثيرة، فمثلًا في سوريا وفي مختلف أرجاء الوطن العربي يمكن لأي فرد عربي أن يفهم الحوار في الأفلام والتمثيليات والبرامج المصرية، علمًا أنها تتكلم اللهجة المصرية المحكية البعيدة كليًّا عما يسمونه اللغة العربية الفصحى (المقعَّدة)، والسبب ببساطة يعود لانتشار موجة الأفلام المصرية القديمة في العالم العربي؛ حيث ألِفت أذن المواطن العربي سماع لهجتها، ففهمها واستمتع بها، وأذكر هنا أنني كنت في زيارة للقُطر الجزائري الشقيق، ولم أستطع في اليوم الأول أن أفهم لهجتهم المختلفة، لكن بعد مرور أسبوع فقط من زيارتي، وبعد أن ألِف أذني سماع لهجتهم، تمكنت من فهم أكثر من ثلاثين بالمائة منها... وهكذا نجد أن ما نحتاج إليه هو أن تألَف الأذن اللهجة، وليس أن نتكلم بلغة منمقة مقعَّدة، وقد يقول أحدهم الآن: هل تريدنا أن نتكلم باللهجة العامية ونترك اللهجة الأم واللغة الأم، لغة القرآن الكريم؟ فأقول له: مهلاً يا سيدي، فأنت قد تركتها في الواقع، شئتَ ذلك أم أبيت[8]، الدليل على هذا وجود اللهجات المنتشرة في كافة أرجاء الوطن العربي، وإن حوارك مع أفراد أسرتك أو مع نفسك عندما تخطط وتفكر وتدبر هو بالعامية، حتى أحلامك تراها وتحكيها بالعامية، وما المشكلة إذا تمكنا من فهم لهجات لغتنا العربية الجميلة واستوعبناها؟ وهل ألغى رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لهجات القبائل عند بعثته؟"، وفي ص 42 نقرأ ما يلي: "وهنا أتذكر فعلاً صحيحًا مضعفًا، هو فعل "مد"، فعند إسناد ذلك الفعل إلى الضمائر المختلفة لا نسمع أحدًا من ناطقي اللغة العربية المحكية (العامية) من المحيط إلى الخليج يقول: "مددت"، ونجدهم جميعًا يقولون: مدِّيت"، وبالمثل نسمعه في ص 46 يقول: "وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أكثر من نصف ناطقي اللغة العربية المحكية (العامية) يقولون للفتاة: "تلعبي" و"تكتبي" بإسقاط النون التي تدل على الرفع، شاء ذلك النحاةُ أم أبَوْا"، وفي ص 140 يقول: "إذا قال أحدنا: "أكل أحمدَ التفاحةُ" (بنصب الفاعل ورفع المفعول به)، فلا أحد منا يقول: إن الفاعل هو "التفاحة"، وإن المفعول به هو "أحمد"، بالرغم من مخالفة حركات أواخر الكلمات لاشتراطات النحاة، وهنا نأمل ألا يجيب أحدهم قائلًا: ولكن كيف نعرف الفاعل في قولنا: "قتل أحمدَ زيدٌ"، أو العكس: "قتل أحمدُ زيدًا"؟ هنا أجيب وبأعلى صوت: الفاعل هو الذي يأتي أولاً، وأوقِفوا هذه التخريجات التي لا تُسمِن ولا تغني من جوع، وما غايتها إلا إضاعة الجهد والوقت والمغالطة! وهل يستخدم القضاة في بلادنا العربية قواعدَ سيبويه النحوية ليعرفوا القاتل من المقتول عند استجواب الشهود الذين لا يحركون أواخر الكلمات في اللهجة العربية الدارجة؟".



من هذه المقتبسات أرجو أن يكون قد تبين مدى الاضطراب الذي يسُود دعوة الكاتب، وإن كنت لا أستبعد مع ذلك أن يكون قد قصد هذا قصدًا (قصده بنفسه أو قُصد له) بُغْيةَ التعمية على وعي القارئ وتخديره؛ كي يتسرب الغزل الذي يتغزله في العامية الدارجة إلى نفسه بهدوء ودون استفزاز، فلا يقف في وجهه رافضًا مستنكرًا.





[1] ص 22.




[2] ص 119 وما بعدها.




[3] ص 30 - 31.




[4] شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك/ تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد/ المكتبة العصرية/ صيدا - بيروت/ 1421هـ - 2000م/ 1/ 256 - 258.




[5] ابن هشام/ أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك / تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد / المكتبة العصرية / صيدا - بيروت / 1417 هـ - 1996م / 1 / 228 - 230.




[6] وإن كان في كتابه مع ذلك أخطاء ترجع إلى عدم اكتمال الأداة، وليس إلى المبدأ الفاسد الذي يلح عليه في مواضع كثيرة منه، والذي يدفعنا إلى تغيير عنوانه من: "الرفض التام لما في النحو من أوهام" إلى "الوهم المأفون لزكريا أوزون".




[7] ص 116.




[8] انظر كيف يقول كاتبنا الذكي: إننا قد تركنا لغة القرآن الكريم، ومع هذا فإنه في نهاية الكتاب يحاول استغفال القراء، زاعمًا أن نبذنا للغة العربية شيء، وحفاظنا على لغة القرآن شيء آخر؛ إذ هو (كما يقول) صيغة تعبيرية لا مجال لمناقشتها (ص 171)، وهو كلام قاله غيره من أعداء العروبة والإسلام قبلاً (مثل ولهلم سبيتا الألماني في كتابه: "قواعد العامية العربية في مصر"، ولم يدخل عقل أحد، فهل ينجح أوزون فيما فشل فيه هؤلاء، وقد كانوا أكثر منه ثقافة وذكاءً وخبثًا؟ لا إخال ذلك دهر الداهرين! وبالله كيف يمكننا فهم القرآن الكريم بعد أن نكون قد تركنا اللغة الفصحى المكتوب بها، واصطنعنا عامية الشوارع التي لن تكون ثمة علاقة بينها وبين لغة القرآن آنذاك؟ إن هذا هو منتهى الاستغفال!).





ابوالوليد المسلم 11-03-2021 04:55 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(3)



د. إبراهيم عوض


.. ومعروف أن الدعوة إلى العامية ذات تاريخ معروف ومريب في العصر الحديث، وقد تولى كِبْرَها عددٌ من المستشرقين والمبشِّرين ومَن جرى في ذيلهم من أبناء جِلدتنا الذين يتسمَّون بأسمائنا، لكنهم يَطْوون كشوحَهم على مستكنة من الحقد على الإسلام ولسانه العربي الذي تشرف بكتابه الكريم، وإن الإنسان ليتساءل: ترى أية عامية تلك التي يريد هؤلاء أن يُحلُّوها محل الفصحى؟ إن العاميات العربية لا تكاد تحصى[1]، ومعنى هذا أن يصبح للعرب لغات بعدد أقطارهم على أقل تقدير، وبدلاً من أن يظلوا أمة واحدة سيضحَوْن أممًا تقارب الخمس والعشرين، ثم إن كل عامية من هذه العاميات، بعد أن تستحيل فصحى، سوف ينشعب منها بدورها عددٌ غير قليل من العاميات يستخدمها الناس في حياتهم اليومية، ويَجرون في استخدامهم إياها على السَّليقة أو ما يشبه السَّليقة[2]، على حين يجب عليهم أن يتعلموا قواعد الفصحى التي سوف تضيق بها صدور نفَرٍ من أبنائها، كما يضيق صدر زكريا أوزون وأمثاله بقواعد الفصحى الحالية، ويَدْعون إلى اطِّراحها واستبدال إحدى عامياتها بها... وهكذا دواليك، فهل يصبح قدر لغتنا أن تتغير كل عدة أجيال؟!

وإن القول بتحول العامية عند اتخاذها لغة للكتابة والأدب إلى فصحى وتولد العاميات منها بدورها ليس كلامًا نظريًّا، فعندنا مثلاً اللاتينية التي كانت فصحى كثير من الأمم الأوربية لأجيال وأجيال، وكان لها عامياتها المختلفة، ثم لما اتخذت كل أمة من تلك الأمم إحدى عامياتها فصحى لها تستعملها في آدابها وكتاباتها؛ كالفرنسية والإيطالية والإسبانية، أصبح لكل واحدة من هذه اللغات بدورها عدة عاميات، فإذا ما وقع ذلك للغتنا، لا قضى الله به[3]، فعندئذ تنفصم عروةٌ مِن عُرَى الأخوَّة الوثقى بين الشعوب العربية، وعندئذ لن يكون هناك مجال لاستخدام عبارة مثل: "القُطر الجزائري الشقيق"، التي وردت في كلام المؤلف عند تجرِبته مع اللهجة الجزائرية مما مر آنفًا؛ إذ ما الأساس الذي ستستند إليه تلك الأخوة الشقيقة بين الشاميين والجزائريين إذا ما نُسِف الأساس اللغوي وأصبح كل من الطرفين يتكلم لغة غير اللغة التي يتكلم بها الآخر، ولم تعُدْ هناك إمكانية للتفاهم اللغوي المباشر بينهما؟

إن اختفاء الفصحى سوف يعقبه انفراط العاميات العربية المختلفة، كما تنفرط حبات المسبحة بانقطاع السلك الذي ينتظمها، فتنطلق كل منها في مدار خاص بها بعيدًا عن مدار كل لهجة من اللهجات الأخرى، بعد أن كانت جميعها تدور حول الفصحى، وتحُور إليها، بحيث يمكن لأي فرد من أي شعب عربي، بعد قليل من الزمن والجهد، أن يفهم لهجة أي شعب آخر من خلال ربطها بالفصحى، التي هي بمثابة الأم لكل هذه اللهجات، وتفسيرها في ضوئها، وهذا بالضبط ما حدث للعاميات اللاتينية، التي أصبحت لغات مستقلة ينبغي على المتكلم بأي منها أن يتعلم باقيها تعلمًا، فِعله مع أية لغة غريبة عليه، وفي نفس هذا المعنى يقول د. إبراهيم أنيس: "اللهجة في الاصطلاح العلمي الحديث: هي مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي إلى بيئة خاصة... وبيئة اللهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات، لكل منها خصائصها، ولكنها تشترك جميعًا في مجموعة من الظواهر اللغوية التي تيسر اتصال أفراد هذه الهيئات بعضهم ببعض، وفهم ما قد يدور بينهم من حديث فهمًا يتوقف على قدر الرابطة التي تربط بين هذه اللهجات... (و) متى كثرت هذه الصفات الخاصة بعُدَتِ باللهجة عن أخواتها، فلا تلبث أن تستقل وتصبح لغة قائمة بذاتها"[4].


[1] وهذا أمر اعترف به المستشرقون قبلنا بزمن طويل، فها هو ذا سهيتا، المستشرق الألماني في 1880م، يعلن أنه لم يستطع الإلمام بالعامية المصرية؛ لتعدُّد لهجاتها واختلافها من بلد إلى بلد، ومن حي إلى حي؛ ولذلك فمن المحال أن يلم بكل لهجاتها، بل إنه لمن المحال أيضًا أن يلم باللهجات المتعددة في أنحاء القاهرة وحدها؛ انظر د. نفوسة زكريا سعيد/ تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر/ دار نشر الثقافة / الإسكندرية / 1383هـ - 1964م/ 20.

[2] أقصد أنهم يتحدثون دون أن يفكروا في أن لها قواعد تنظم صياغة مفرداتها، وتراكيب جملها، وبناء صورها، رغم وجود هذه القواعد، فإنهم بسبب تلقيهم إياها شفويًّا، وممارستهم لها في كل أغراضهم وحاجاتهم اليومية بسهولة ويُسرٍ متناهيين - يظنون أن لا قواعد لها تضبطها وتحكُم استعمالاتها.


[3] ولن يقضي الله به؛ وذلك بفضل القرآن وبركته، وهذا الكلام لا نقوله نحن المسلمين وحدنا، بل يقوله قبلنا نصارى العرب الغيورون على هذه اللغة العبقرية العجيبة التي استثناها الله من التحلل والتفرع إلى لغات شتى تزيحها وتأخذ مكانها، كما وقع للاتينية وغيرها، يقول سليمان البستاني: "إن سنة النمو والتحول وتفرع الأصل الواحد إلى أصول شتى تشمل اللغات كسائر المخلوقات، فقد قلنا: إن لسان العرب في الجاهلية تفرع إلى فروع كاد كلٌّ منها يقوم لغة بنفسه، ويمتنع التفاهم بين أصحابه، فجاء القرآن وأزال الخلاف، وأوثق عرى الارتباط؛ فسَادتِ اللغةُ العربية"، وبعد أن يتحدث عن اليونان وابتعاد لغتهم الحديثة عن أمها القديمة يعقب بقوله: "وأما العربية فليس هذا شأنها؛ فإن أصول اللغة ما زالت على ما نطق به شعراء الجاهلية، وغاية ما يُشكل فهمه على قرائها مفرداتٌ لم تألفها العامة، ومترادفات متشابهات وتعابير غير مألوفة في عصرنا ... وخلاصة ما تقدم أن اللغة العربية أطول اللغات الحية عمرًا، وأقدمهن عهدًا، والفضل في كل ذلك للقرآن؛ فالإلياذة وبلاغتها، وسائر منظومات هوميروس وهسيودس على علو منزلتهما، لم تُقْمْ للغة اليونانية دعامة ثابتة، حتى في بلادها، ولم تقوَ على مقاومة التيار الطبيعي، ولكن القرآن وطَّد أركان لغة قريش في بلادهم، وأذاعها في جميع البلاد العربية، وسائر البلاد التي طال فيها عهد الاحتلال (!) الإسلامي، أو كثُرت مخالطة العرب الضاربين في أقطار الأرض للجهاد والتجارة"؛ (سليمان البستاني/ إلياذة هوميروس / دار إحياء التراث العربي / بيروت / 1 / 113 - 115).
وكتب جرجي زيدان في سنة 1892م مقالاً يرد فيه على دعوة (وليم ولكوكس) الإنجليزي إلى استبدال العامية بالفصحى، والحذو في ذلك حذو الإنجليز، الذين هجروا اللاتينية، واصطنعوا لهجة محلية بدلًا منها، وقام رد زيدان على أن اللاتينية كانت بالنسبة للإنجليز لغة غريبة، بخلاف العربية بالنسبة للعرب؛ إذ هي لغتهم القومية، وبغيرها لا تقوم لهم وَحدة.
وهنا لا ينسى زيدان الإيماء إلى دور القرآن في حفظ لسان الضاد، فيقول: "لولا القرآن والمحافظة عليه منذ صدر الإسلام، وعَوْدنا إليه في إصلاح ما تفسده الطبيعة من لغتنا - لتشتَّت شمل الشعب العربي، كما حصل في الأمم التي كانت تتكلم اللاتينية"، ثم يضيف قائلاً: إن "العامية منحطة عن الفصحى كثيرًا، وليس لها أن تقوم مقامها؛ فإنها أرقى لغات العالم"؛ (مختارات جرجي زيدان / مطبعة الهلال / القاهرة / 1937م / 187 - 189).
وكمثلهما في الضيق بالعامية، بل أشد وأعنف، كان خليل مطران، الذي كتب يقول: "تالله لو ملكتُ تلك العامية لقتلتُها بلا أسف، ولم أكن بقتلي إياها إلا منتقمًا لمجدٍ فوق كل مجد نزلت من هيكله الذهبي الخالص الرنان منزلة الرِّجْلين الخزفيتين القذرتين، فهو فوقهما متداعٍ، وبهما مشوَّه، منتقمًا لأمة كسرَت العاميةُ وَحدتَها، وكانت عليها أكبر مِعوان للتصاريف التي مزقتها في الشرق والغرب كل ممزق، منتقمًا للفصاحة نفسها، وأية فصاحة في خشارة لا نصيب فيها مِن تِبر الأصل إلا وقد تلوثت بذُرَيرات لا تحصى من أوضار الرطانات بأنواعها"؛ (من مقدمة ترجمته لمسرحية "عطيل" لوليم شكسبير/ القاهرة / 8).

[4] د. إبراهيم أنيس / في اللهجات العربية / ط4 / مكتبة الأنجلو المصرية / 16 - 17.





ابوالوليد المسلم 11-03-2021 04:56 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(4)



د. إبراهيم عوض


.. أمَّا هجوم الكاتب على العربية الفصحى لكونها "لغة منمَّقة مقعَّدة" فيقوم على وهم عجيب لا يصح أن يسكن عقل مَن كان لديه مُسكةٌ من فهم ومنطق، ألا وهو أن اللهجات العامية تخلو من التقعيد، إنه ما من لهجة عامية في أي بلد من بلاد الله إلا ولها قواعدها ونظامها اللغوي في الكلمة والجملة والصورة، وما إلى ذلك، وإن ظن بعض السطحيين أن الأمر بخلافه، وكي أقرب المسألة للقارئ وأختصر الطريق أذكر أني قرأت بعض الكتب التي ألَّفها نفر من المستشرقين لهذه اللهجة العامية أو تلك من لهجات العرب، فوجدتهم يفيضون في شرح نحوها وصرفها، ويذكرون قواعد ذلك لا تقلُّ، إن لم تزد، في تفصيلاتها عن قواعد العربية الفصحى، وقد سبق أن لمستُ هذه النقطة لمسًا خفيفًا في أحد الهوامش التي مرت غير بعيد، ومن هؤلاء مَن ألف في قواعد العامية المصرية كتابًا ضخمًا لا يقل حجمًا عن كتاب ابن عقيل، بل ربما كان أضخم منه[1].

ولا شك أن ذلك الهجوم الذي شنه زكريا أوزون على الفصحى في كتابه الذي بين أيدينا ودعوته إلى نبذها لهو أعظمُ دليل على فساد زعمه المبطل الصفيق الوجه بأننا قد تركناها في الواقع فعلًا؛ إذ لو كنا قد تركناها كما يقول، فلماذا يُعنِّي نفسَه ويقذف بها في الصعب والوعر كل هذا القذف من أجل إقناعنا بنبذها؟ هل المنبوذ يحتاج إلى نبذ، بل هل يمكن نبذه؟ إن هذا مثل تضييع الوقت والجهد والتفكير والمال في محاولة قتل المقتول! كلاهما حماقة وقلة عقل! وبغضِّ النظر عن هذا التناقض المضحك، فإننا لا ندري إلى أي أساس يستند السيد أوزون في دعواه الرَّعْناء بأننا قد تركنا استعمال الفصحى في واقع الأمر[2]، إن الواقع الصحيح أننا لم نَنْبِذِ الفصحى قط، بل الملاحظ أن اللهجات العامية قد أصبحت، بفضل انتشار التعليم، أقرب إلى الفصحى منها طوال قرون التخلف الفكري التي سبقت النهضة الحديثة، كما أن الفصحى تغادي الآن أسماع العوام وتراوحها في الخُطَب السياسية، وفي نشرات الأخبار، وبرامج التحليل السياسي والاقتصادي والعسكري والأدبي، والأحاديث التي يلقيها الكتَّاب والمفكرون، والنصوص الأدبية التي تختار للقراءة في المذياع والمرناء، وكذلك في المسرحيات والتمثيليات والأفلام والأغاني والأناشيد الناطقة بها، وما أكثرها... إلخ. أي إن الفصحى لم تعُدْ وقفًا على حلقات الدرس والندوات وخُطَب الجمعة مثلاً، بل أضحَتْ تغزو البيوت وتقتحم على العامة آذانهم وعقولهم اقتحامًا، كما أن التأليف العلمي، وكذلك التأليف الأدبي أيضًا (اللهم إلا بعض الأغاني والمسرحيات) لا يصطعنان إلا الفصحى، كل ذلك في سيل منهمر تَهْضِبُ به المطابع يوميًّا في هيئة كتب وصحف، ومجلات ونشرات، وإعلانات وإرشادات، مما لم تكن العصور القديمة تعرف شيئًا منه.

ليس ذلك فحسب، بل إن مِن علماء الدين الإيرانيين والباكستانيين والهنود والأفارقة مَن يؤلفون ويتحدثون العربية الفصحى كأحسن ما يكون؛ أي: إن الفصحى ليست باقية في البلاد العربية فقط، بل ما زالت مستعملة في بعض النطاقات العلمية خارجها أيضًا، ومن المعروف أن ثمة دولاً إسلامية تتخذها لغة ثانية لها، وتدرسها في معاهدها العلمية على هذا الاعتبار، كما أن في كثير من الجامعات المختلفة حول العالم أقسامًا لدراسة العربية وتراثها الأدبي والفكري، كما هو الحال مثلًا في إيران، وإندونيسيا، وبروناي، وأوزبكستان، وكينيا، ونيجيريا، واليابان، وبريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة... إلخ... إلخ.

بل إنها تدرس في المرحلة الثانوية في بعض البلاد الأوربية بوصفها لغة أجنبية ثانية، كما ندرس نحن في مصر الألمانية والإسبانية والإيطالية مثلًا إلى جانب الإنجليزية، التي تأتي عندنا عادة في المرتبة الأولى بين اللغات الأجنبية، فهل من المعقول أن يجهل هذا كلَّه السيد أوزون؟ فلم إذًا يتصدى لما لا يحسن؟! ألا رحم الله امرأً عرف قدر نفسه!

بل إن القراء من العامة، مَثَلهم مثل الخواص، لا يعرفون إلا القراءة بالفصحى، وإذا ما وقع في أيديهم نص لأغنية عامية مثلاً صعب عليهم قراءته، قليلاً أو كثيرًا؛ ذلك أننا لم نتعود القراءة بالعامية، بل لم نفكر بعدُ في وضع قواعد إملائية لها، كما هو الحال في الفصحى، وكلٌّ يكتبها في العادة كما يتفق له، اللهم إلا في الكلمات التي لا يوجد فرق في النطق بينها وبين الفصحى، مثل: "أرض"، و"وجع"، و"حضر"، و"قام"، و"على"، و"من"، وأشباهها.

في ضوء هذا يمكننا أن نفهم رد توفيق الحكيم على الغربيين الذين يحاولون الإيهام بعمق الهوة بين الفصحى والعامية عندنا زاعمين أن لغة الضاد في طريقها إلى الزوال؛ إذ يقول: إن "الواقع الذي ألاحظه اليوم - ولاحظه كثيرون - هو بعكس هذا الزعم؛ فالعامية هي المقضيُّ عليها بالزوال، والفارق بينها وبين الفصحى يضيق يومًا بعد يوم، ويكفي أن نستمع إلى فلاحنا أو عاملنا في مجلس الأمة أو مجالس الإدارة ليتضح لنا أن لغة الكلام العادي قد ارتفعت إلى المستوى الفصيح"[3].

من هذا يتضح للقارئ أشد الوضوح أن كل ما قاله زكريا أوزون لا يعدو أن يكون هراءً لا رأس له ولا ذَنَبَ! على أنْ ليس معنى هذا أنني أزعم أن القدرة على استعمال الفصحى عند كلِّ مَن يستعملونها هي في المستوى المنشود، ولذلك أسبابه وعوامله، التي يأتي على رأسها ضعفُ الشعور بالعزة القومية من جراء الوقوع تحت نير الاستعمار عشرات السنين[4]، فضلًا عن أن قرون التخلف الفكري والأدبي التي بسطت ظلامها الحالك على الأمة العربية - قد باعدت بينها وبين الثقافة الراقية وآدابها ووعائها اللغوي المتمثل في الفصحى، ثم لا ننسَ أننا الآن لا نهتم بتجويد شيء أو إتقانه، يستوي في ذلك الصناعة والزراعة والتعليم، فنحن لسنا ضعفاءَ فقط في الكتابة بالفصحى والنطق بها، بل نحن ضعفاء في كل العلوم والمجالات، وحتى في ميدان اللعب والرياضة، بل حتى في مجال جمع القمامة من الشوارع! وفي ظل هذه الأوضاع المتردية لا يتوقع أن يشذَّ العرب في أمر لغتهم فيتقنوها في الوقت الذي لا يكادون يبرعون في أي شيء، اللهم سوى الادعاءات الفارغة والتشدق بالإنجازات الوهمية، وهذا هو السبب في أن كثيرًا من الكتَّاب والأدباء يخطئون كثيرًا إذا كتبوا أو قرؤوا مما لم يكن للعرب به عهد في عصور عزهم وقوتهم، بدليل أن كل المؤلفات التي تركوها خلفهم تخلو من هذه الظاهرة المؤسفة التي نشكو منها في العصر الحديث.

ورغم ذلك كله، فإن هذا العصر الحديث نفسه قد حظي بأسماءٍ لامعة في عالم الأساليب الأدبية تُسامِتُ أعظم الأسماء في الأدب العربي القديم، نستطيع أن نذكر فيها بكل فخر واعتزاز: الشدياق، وشوقي، وحافظ، وسليمان البستاني، والرصافي، والمنفلوطي، وشكيب أرسلان، وجبران، والرافعي، ومي زيادة، والبشير الإبراهيمي، والفاضل بن عاشور، ومحمد الغزالي، وفريد أبو حديد، ومحمود تيمور، وشفيق جبري، والعقاد، والمازني، وطه حسين، والزيات، ومحمد كرد علي، وخليل مطران، والجواهري، وأبو القاسم الشابي، وباكثير، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبدالصبور، ومحمد مزالي، وناصر الدين الأسد، وعادل زعيتر، ومحمد عزة دروزة، وسيد قطب، وبنت الشاطئ، ومحمود شاكر، وإبراهيم طوقان، وصالح جودت، ونازك الملائكة، وعبدالكريم غلاب، وعبدالرحمن الشرقاوي، وسعد الله ونوس، ومحمود المسعدي، وجواد علي، وغازي القصيبي... إلخ... إلخ، وهي مفارقة، ولا شك، عجيبة، لكنها حقيقية رغم ذلك!

كذلك مر بنا قول زكريا أوزون: إنه لا فرق بين أن نقول: "قتل أحمدَ زيدٌ" أو قتل أحمدُ زيدًا"؛ إذ العبرة عنده بموضع الفاعل والمفعول في الجملة؛ حيث يأتي الفاعل أولاً، ثم المفعول بعده، وهذا كلام قد قاله من قبله د. إبراهيم أنيس، فهو إذًا لم يأتِ بشيء من عنده، وإن لم يُشِر إلى الدكتور أنيس من قريب أو من بعيد، قال الأستاذ الدكتور في كتابه "من أسرار اللغة"، وهو الكتاب الذي عقد فيه فصلاً طويلاً حاول فيه عبَثًا أن يثبت أن العرب بوجه عام كانت تقف على أواخر الكلمات بالسكون، وأن الإعراب شيءٌ طرأ على لغتنا أواخر القرن الأول للإسلام أو أوائل الثاني، وأنه ليس له في حقيقة الأمر رغم هذا أي مدلول[5]: "نكتفي... ببيان قصير عن موضع الفاعل من الجملة وموضع المفعول منها؛ كي نبرهن على أن الفاعل لا يعرف بضم آخره، ولا المفعول بنصب آخره، بل يعرف كل منهما في غالب الأحيان بمكانه من الجملة، الذي حددته أساليب اللغة، وما روي عنها من آثار أدبية قديمة، فإذا انحرف أحدهما عن موضعه تتبعناه في موضعه الجديد في سهولة ويُسر، ودون لَبْس أو إيهام؛ لأن الجملة حينئذ تشتمل على ما يرمز إليه ويدل عليه؛ وذلك لأن التركيب مع هذا الانحراف قد تتغير معالمه، أو لأن ظروف الكلام توحي به وترشدنا إليه"[6]، ثم يمضي قائلاً: إن الفاعل في الكلام العربي يَلي الفعل ويسبق المفعول، ولا يتأخر الفاعل إلا في أسلوب القصر، مثل: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7]، أو حين يطول الكلام مع الفاعل وتوابعه، مثل: ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾ [الإسراء: 23]، أو حين يشتمل الفاعلُ على ضمير يعود على المفعول، مثل: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ﴾ [البقرة: 124]، أو حين تتطلب الفاصلة ذلك، مثل: ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ﴾ [طه: 67]، أو حين يكون الفاعلُ كلمةً كريهة يحسُن تأخيرها، مثل: "الموت" أو "الضر"؛ كما في قوله تعالى: ﴿ جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ [الأنعام: 61]، ﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ﴾ [الزمر: 49][7].

وللدكتور أنيس شهرة واسعة، وعلى كلامه الذي اقتبسناه أو لخصناه - فيما مضى - مَسْحةٌ توهم بأنه يتبع المنهج العلمي؛ لذا فلا بد من وقفة هنا نناقش فيها ما جاء بذلك الكلام من أفكار: فأول كل شيء أنه يقول: إن الفاعل يأتي دائمًا قبل المفعول إلا في الحالات التي أوردها وما يشبهها، ولكنه لم يعتمد إلا على القرآن الكريم، ولم يقُلْ أحد: إن القرآن يستغرق كل إمكانات اللغة، وهذا إن صحت ملاحظة الأستاذ الدكتور، إن هناك الشِّعر، وهناك الأمثال، وهناك ما أُثِر عن العرب من خُطَب سياسية واجتماعية ودينية، فهل مسح سيادته هذا كله وتأكد لديه أن ما قاله صحيح؟ الحق أنه للأسف الشديد لم يفعل شيئًا من ذلك! ورغم هذا كله فسنتناول حججه لكي نرى مدى صلابتها: فبالنسبة للقصر نتساءل: ولماذا لم يجرِ العرب في هذا الأسلوب على طريقتهم التي مرَدوا عليها من تقديم الفاعل على المفعول، مع التصرف بطريقة أو بأخرى، على نحو يفيد ما يريدونه من قصر رغم ذلك؛ كأن يقولوا مثلاً في: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7]: "والله وحده هو الذي يعلم تأويله"؟!

أما فيما يخص طول الفاعل، فأي ضَير في أن يقال: "إما يبلُغَن عندك أحدهما أو كلاهما الكِبَر" بدلاً من تقديم "الكبر" (المفعول) على ﴿ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾؟ الواقع أنه ما من ضَير، أي ضير في ذلك! وهذا هو القرآن قد تكرر إتيانه بالفاعل قبل المفعول رغم طول الأول بسبب توابعه أو متعلقاته وقِصر الثاني، بل لقد تأخر الفاعل فيه لغير سبب من الأسباب التي ذكرها الدكتور برغم طول المفعول، وهذه أمثلة على الذي نقول: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ﴾ [آل عمران: 180]، ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [النساء: 172][8]، ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ﴾ [المائدة: 2][9]، ﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ﴾ [الأنعام: 137][10]، ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [الأعراف: 19]، ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ ﴾ [الأنفال: 50]، ﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ﴾ [هود: 67]، ﴿ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ﴾ [سبأ: 31]، ﴿ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الجاثية: 10][11]، أما اشتمال الفاعل على ضميرٍ يعود على المفعول - كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ﴾ [البقرة: 124] - فقد كان من الممكن أن يُحوَّر التركيبُ كيلا تنكسر القاعدة التي توهمها الأستاذ الدكتور، فيصبح الكلام على النحو التالي: "وإذ ابتلى ربُّ إبراهيم إياه"، وتلغى جميع الضمائر المتصلة التي يستلزمها تقدم المفعول على الفاعل.

وبالمناسبة، فإن الضمائر واختلافها ما بين ضمائر خاصة بالفاعل وأخرى خاصة بالمفعول لهي عقبة كَأْداءَ في طريق النظرية التي تخيلها د. أنيس تخيلًا، وحاول أن يفرضها على لسان الضاد بقوة الاعتساف، ومن خلال سلسلة من الأوهام العجيبة؛ إذ لو كانت الحركات التي في أواخر الأسماء لا تدل على أي معنى - كما يدعي - فلماذا اختلفَتْ ضمائر الفاعلين عن ضمائر المفعولين وهي مما لا يمكن القول معه بأن العرب إنما كانت تقف على كل كلمة بالسكون إلا أن يضطرها الحرص على سلاسة النطق لا غير إلى تحريك آخرها؛ تفاديًا لالتقاء الساكنين دون أن يكون في هذا التحريك ما يدل على معنى؛ كالفاعلية أو المفعولية أو ما إلى ذلك؟ ثم إن الأمر لا يقتصر على تقدم المفعول على الفاعل في هذه الحالات القليلة التي ذكرها سيادته؛ إذ كثيرًا ما يتقدم المفعول حتى على الفعل، وفي القرآن شواهدُ كثيرة على هذا، ودعنا من الشعر الآن والنصوص النثرية الأخرى، وكذلك عندنا المبتدأ والخبر اللذان قد يتبادلان موضعيهما، بل كثيرًا ما يأتي الخبر قبل "كان" وأخواتها، ولا تنسَ الحال والمفعول المطلق مثلاً وتقدُّمَها على الفاعل وحده، أو عليه والفعل معًا، ولا يضبط الأمرَ في هذا كله إلا القولُ بالإعراب؛ لأن هذه الحرية التي لا نجدها إلا في تركيب الجملة العربية تتطلب ذلك تطلُّبًا.

ونأتي إلى الآيات التي يقول الأستاذ الدكتور: إن المفعول فيها تقدم على الفاعل؛ لأن في الفاعل ما يكره المبادأة به، وجوابنا على ذلك هو الشواهد القرآنية التالية، التي أتى فيها ذكر "الموت" قبل "الحياة" (التي كان ينبغي، حسب نظرية الدكتور، أن تكون لها الأولوية عليه): ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [المؤمنون: 37]، ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾ [الجاثية: 24]، ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴾ [النجم: 43، 44]، ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ [غافر: 11]، ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، ومثلها الآيات التي سبق فيها "الضر" "النفع" رغم كراهية النفوس للمعنى الأول وحبها للثاني، وهي: ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ﴾ [البقرة: 102]، ﴿ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ﴾ [الفرقان: 3]، ﴿ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ﴾ [الفتح: 11]، ﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ﴾ [الجن: 21]، ﴿ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ﴾ [الأعراف: 95].

هذا في وجه التشابه بين الكتابين، إلا أن د. أنيس يعلن أنه لا يبغي - من وراء قوله بأن الإعراب لم يكن موجودًا في العربية، ثم طرأ عليها بعد ذلك في أواخر القرن الأول للهجرة أو أوائل الثاني بفعل علماء النحو[12] - أن يلغيَ الإعراب، بخلاف السيد أوزون، الذي لم يشكك في أن الإعراب كان موجودًا، لكنه يؤكد في ذات الوقت أنه اختفى بعد ذلك من لغتنا، مع استمرائه هذا الوضع (الموهوم بطبيعة الحال كما لا نحتاج أن نقول) ودعوته إلى الثبات عليه، بل إلى استبدال العامية بالفصحى، والعجيب أنه، في سبيل دفاعه عن فكرته هذه، يؤكد "أن اللهجات العامية العربية ليست وليدة اليوم، بل هي موجودة منذ العصر الجاهلي"، يريد أن يقول: إن وجودها الآن أمر طبيعي، ونحن معه في هذا لا نشاح فيه، إلا أنه لا يلزم عنه أن نترك الفصحى لأي من عامياتها، فهذا شيء، وذاك شيء آخر، ولا ينبغي الخلط بين الأمرين، وفي كل اللغات نجد المستوى الفصيح الذي يرتفع إليه الأدباء والكتَّاب حينما يؤلفون ويحاضرون، كما نجد مستويات أدنى من ذلك خاصة بالاستعمالات والأغراض اليومية العارضة، بل ثمة مستويات أخرى أدنى وأدنى في بعض البيئات والدوائر المغرقة في العامية... وهكذا، وهذه المستويات يتعايش بعضها مع بعض في كل اللغات، فلماذا يتخذ البعض من هذا الوضع في لغتنا نحن بالذات ذريعةً للتفلُّت من الفصحى؟ إنهم يقولون: إن العرب عاجزون عن إتقان هذه الفصحى[13]، حسن، فالعرب في هذه المرحلة من تاريخهم - كما قلنا ونقول - عاجزون في كل المجالات؛ من سياسة واقتصاد، وحروب وإدارة وتعليم، وعاجزون عن الوقوف في وجه أمريكا وإسرائيل، وعاجزون عن إنتاج ما نحتاجه من طعام، وعاجزون عن تنظيف شوارعنا وتجميلها (اللهم إلا في الدول البترولية القادرة بغيرها، لا بأيدي أبنائها)، وعاجزون... وعاجزون... وعاجزون، فهل نستسلم لهذا العجز ونترامى على أقدام إسراميكا ونطلب منها أن تأتي لتحتل بلادنا وتتصرف فيها وفينا على النحو الذي يحلو لها؟ إذًا فأبشر يا سيد أوزون، فها هي ذي العراق قد دخلتها جيوش الاحتلال الأمريكي والبريطاني (والصِّهْيَوني أيضًا من وراء ستار على الأقل)، وبمساعدة بعض العرب، ومباركة البعض الآخر! يا سيد أوزون، إن العجز يُداوَى ببذل المزيد من الجهد، وشحذ الإرادة، وإيقاظ رُوح المقاومة، واستنفار مشاعر العزة والكرامة، والخجل من أوضاع التخلُّف المزري لا بالاستنامة إليه، والاستزادة منه، والتسليم له، وإلا فعلينا العفاء! لقد استخرجت إسرائيل اللغة العبرية من قبِرها، وأحيَتْها بعد مواتها الطويل، وأنت تريد أن تدفن لغة الضاد حية، عجيب هذا وغريب! ولكن ما الغريب العجيب فيه؟ أخشى أن يكون الأمران هما الوجهينِ المختلفين لذات العملة!


[1] وها هي ذي أسماء بعض الكتب الإنجليزية في نحو عدد من العاميات العربية مما وجدته في مكتبة جامعة قطر:
- Spoken Arabic (David Harbey).
- Colloqulal Arabic of Egybt (Russell McGulrk).
- Gulf Arabic (Clive Holes).
- A Sbort Reference Grammar of Gulf Arabic (Hamdi A. qafisheh).
- A Basic Course in Gulf Arabic (Hamdi a. Qafisbed).
- Gulf Arabic - Internediate Level (Hamdi A. Qafished).
وفي مكتبتي الخاصة بالقاهرة كتب أخرى في قواعد هذه العامية أو تلك لبعض المستشرقين الإنجليز والفرنسيين.

[2] وهو هنا ينطلق مما يدعيه بعض المستشرقين من أن الفصحى قد انهزمت في الواقع أمام العامية، فلا معنى إذًا للعناد والتمسك عبثًا باللغة المهزومة، قال ذلك مثلاً وليم ولكوكس الإنجليزي في محاضرة له بالقاهرة سنة 1893م، نشرها في مجلة "الأزهر" آنذاك.

[3] توفيق الحكيم / مسرحية "الورطة" / مكتبة الآداب / 170 (من الكلمة الموجودة في آخر الكتاب بعنوان: "لغة المسرحية").

[4] من ذلك أن الطلاب المتفوقين في المرحلة الجامعية لا يُقبِلون عادة على التخصص في لغتهم القومية وآدابها، وأضرب لذلك مثالين: أولهما حين دخلت جامعة القاهرة في أكتوبر 1966م، ثم بدا لي بعد أيام أن أحول أوراقي من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (كلية القمة لطلاب القسم الأدبي) إلى قسم اللغة العربية من كلية الآداب، وقد قُوبل هذا التصرف بالدهشة الشديدة، حتى من موظفي كلية الآداب نفسها، كما اشتهرت بين طلاب المدينة الجامعية (حيث كانت أسكن) بأنني الطالبُ الذي تهور وأقدم على التحويل من كلية السياسة والاقتصاد إلى دراسة اللغة العربية، والثاني: ما نسمعه من كثير من طلاب أقسام اللغة العربية مِن تألُّمهم للنظرة التي ينظر بها إليهم الطلاب الآخرون؛ إذ يسمونهم بـ: "المشايخ"، يقصِدون أنهم جامدون متخلفون عن العصر وحركته واهتماماته!

[5] انظر: الكتاب المذكور / ط 6 / مكتبة الأنجلو المصرية / 1978م/ 198 وما بعدها، و237 وما بعدها.

[6] المرجع السابق / 243.

[7] السابق / 243 - 247.

[8] ولم يمنع طول الفاعل مع تابعه أن يسبق الفاعل وحده المفعول، ثم يأتي تابعه بعد ذلك.

[9] ولم يمنع طول الفاعل ومتعلقاته أن يسبق ﴿ أَنْ تَعْتَدُوا، وهو في مقام المفعول الثاني.

[10] أما مشكلة عود الضمير في الفاعل ﴿ شُرَكَاؤُهُمْ على ﴿ الْمُشْرِكِينَ، التي تأتي في التركيب المعتاد بعده، فيمكن التغلب عليها بصياغة الكلام هكذا: "وكذلك زين شركاء المشركين لكثير منهم قتل أولادهم".

[11] والتركيب هنا كالتركيب في الآية 172 من "النساء".

[12] أي إنه أمر اصطناعي فُرِض فرضًا على العرب ولغتهم وآدابهم وتآليفهم؛ شعرًا ونثرًا، بل على القرآن ذاته، بما يفيد أن المسلمين قد أدخلوا على القرآن ما ليس فيه، وهو كلامٌ لا ينقضي منه العجب والدهش؛ إذ معناه أنهم لم يخرجوا عن أن يكونوا واحدًا من فريقين: فهم إما أناس أزالوا القرآن عن وجهه الأصلي، وإما أناس رأَوْا ذلك ووافقوا عليه أو (في أحسن تقدير) لم يرضَوْه، ولكنهم أطبقوا أفواههم فلم ينبِسُوا ببِنت شَفةٍ اعتراضًا على ذلك، وهذا كله هو المستحيل بعينه؛ فالمسلمون كانوا يقدِّسون القرآن - وما زالوا - تقديسًا عجيبًا لم تقدسه أمَّة من الأمم كتابها، وكثيرًا ما ثارت بينهم الخلافات إذا سمعوا مَن ينطق بهذه اللفظة منه أو غيرها على نحوٍ يخالف نُطقهم، وكتب الأحاديث والتفسير والتاريخ والفِرق شاهدةٌ على هذا، فكيف يمكن أن يُقدِمَ أي منهم، بالغًا ما بلغ تهوُّره أو علمه أو جاهه (سمِّه ما شئت)، على إدخال الإعراب في القرآن بعد أن لم يكن فيه؟ إن هذا لهو التَّغشُمرُ بعينه من د. أنيس، وإن لم يقل ذلك صراحة، إلا أنه المؤدى المنطقي لنظريته العجيبة، ثم ما الدافع الذي حدَا بمخترعي الإعراب هؤلاء إلى الإقدام على ما أقدموا عليه؟ وهل يمكن أن تتطور اللغات هذا التطور الحاسم الذي لم يكن هناك (حسبما ورد في كتاب الأستاذ الدكتور) مثال سابق ينسج على منواله بتلك البساطة التي يريد ليقنعنا بها؟ وفوق ذلك فإن نظريته ليست أكثر من ضربٍ على غيرِ هدًى في صحراءَ مضلَّةٍ، مع الاستناد إلى افتراضات أكثر إضلالًا، والإصرار العنيد على تحميل أمشاج النصوص القليلة التي يعثر عليها هنا وها هنا ما لا تحتمل، ليخرج علينا في النهاية بنظريةٍ ما أنزل الله بها من سلطان، متَّهمًا النَّحْويين العربَ القدماء أنهم لم يفهموا لغتهم التي كانوا يسبَحون فيها سبحًا، وفهِمها هو بعد أربعة عشر قرنًا وهو في موضعه من الشاطئ بعيدًا عن البحر والسَّبح فيه.

[13] نفس الزعم الذي ردده المستشرقون، الذين جهَدوا كل الجهد في إغراء العرب برمي الفصحى وراءهم ظِهريًّا، والإقبال على العامية بدلًا منها؛ انظر مثلاً المقدمة التي كتبها سلدان ولمور الإنجليزي لكتابه: "The spojen Arabic of Egypt".






ابوالوليد المسلم 11-03-2021 04:57 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(5)



د. إبراهيم عوض



وثمة ملاحظة أخرى على كتاب زكريا أوزون، هي كثرة أخطائه في حديثه عن النحو العربي، وهو برهان آخر على أنه ليس على مستوى الموضوع الذي انتدب نفسه للخوض فيه: فعلى سبيل المثال نراه يعرف الجملة الاسمية بأنها: "كلمات مؤلفة من أسماء تجتمع لتعطي معنًى صحيحًا مفيدًا"[1]، وهذا التعريف - على صِغَره - يتضمن أكثر من خطأ شنيع: ترى هل لعبارة "كلمات مؤلفة من أسماء" من معنى محدد وواضح؟ إن الكلمات لا تؤلف من أسماء أو أفعال أو حروف، بل هي نفسها إما أسماء أو أفعال أو حروف، وشتان هذا وذاك، وثانيًا: هل الجملة الاسمية لا تؤلف إلا من أسماء فحسب؟ أليست جملة: "محمد يلعب في البيت" جملة اسمية مع أن بين مكوناتها فعلاً هو "يلعب" وحرفًا هو "في"؟ وثالثًا: هل يشترط في الجملة الاسمية (أو الفعلية) أن تعطي معنًى صحيحًا كما يقول زكريا أوزون؟ فما القول في عبارة مثل: "الشمس تشرق من الغرب"، أو "مصر أقوى قوة اقتصادية على وجه الأرض"؟ إنهما لا تعطياننا أي معنى صحيح، ومع ذلك فكلتاهما جملة اسمية، ثم إنه قد عاد بعد ذلك فقال: إن الشرط الأساسي للجملة الاسمية "أن تبدأ باسم، ويمكن أن يلحقها فعل"[2]، فما رأيه في هذه الجمل مثلاً: "سعيدًا ضرب علي"، أو "غضبانَ دخل مصطفى الغرفة"، أو "الليلةَ سيتقابل الأهلي والزمالك"؟ إنها جميعًا تبدأ بأسماء، ورغم هذا ليست جملًا اسمية، بل فعلية، واضحٌ أن الرجل يتخبط! والسبب هو أنه قد أقحم نفسه فيما يخرج عن طوقه واستطاعته!

ومن تلك الأخطاء المضحكة أيضًا: اعتراضه على استعمال الجملة الاسمية في غير الحقائق العلمية؛ كـ "الأرض كروية" مثلًا؛ إذ لا يصح أبدًا في رأيه أن نقول: "الطفل سعيد"؛ لأن الجملة الاسمية عنده لا زمن لها، ومن ثم فهي تدل على الديمومة فتغطي الماضي والحاضر والمستقبل، وهو ما لا يصدُقُ إلا على حقائق العلم، بخلاف عبارة: "الطفل السعيد"، التي إن صدقت الآن فإنها لم تكن صادقة فيما مضى حينما لم يكن سعيدًا، ولن تكون صادقة في المقبل من الأيام حينما تفارقه السعادة[3]، ولنا على ذلك بعض التعقيب؛ فأولًا: حتى لو كان أصل كلامه صحيحًا، لَمَا كان هذا سببًا في تجنب الجمل الاسمية في غير الحقائق العلمية؛ إذ يمكن أن نقول مثلاً: "الطفل الآن سعيد" مع أن هذا ليس بلازم؛ لأننا نفهم معنى الآنية من التركيب نفسه دون الحاجة إلى النص عليها، وثانيًا: فليخبرنا سيادته كيف نُعبر عن سعادة الطفل في الزمن الحاضر بجملة فعلية؟ وثالثًا: نحب أن نلفت نظره إلى أن الجملة الاسمية التي يعبَّر بها عن الحقائق العلمية في الإنجليزية والفرنسية والألمانية على الأقل تتضمن، كسائر الجمل الاسمية في هذه اللغات، فعلًا، وهو هنا فعل الكينونة المضارع؛ أي: الدال على الحاضر، فإذا أجاب سيادته، ولا أظنه يخطر له هذا الجواب، بأن الفعل المضارع، وإن دل على الحاضر، فإن السياق يعرفنا أن المقصود هو الديمومة لا الوقت الحاضر فحسب، قلنا له: والسياق أيضًا يفهمنا أن قولنا: "الطفل سعيد"، رغم عدم دلالته على زمن معين، إنما يعني الحاضر فقط[4]، بل إني أزيده من الشعر بيتًا، كما يقول إخواننا في السعودية، وأسأله بمناسبة ما جاء في كلامه من أننا "عندما نقول: "الله عظيم"، فإن تلك العبارة تتسم بصفة الثبات والديمومة على مرور الزمن...، فالله كان عظيمًا، وهو عظيم، وسيبقى عظيمًا إلى الأبد"[5]: ما رأيك فيما تكرر في القرآن الكريم من استخدام الفعل "كان" (الماضي) في الدلالة على صفات الله، مثل: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 27]، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9]، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 96]، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40]... إلخ؟ ألا تدل هذه الآيات، رغم استخدامها للفعل الماضي، على الديمومة والاستمرار؟ ورابعًا أو خامسًا (لا أدري): وماذا نفعل بما يسميه كاتبنا "حقائق علمية" إذا ثبت لنا مع تقدم العلم أنها لم تكن حقائق علمية؟ هل يجب علينا عند ذاك فكُّ رقبةٍ، أو إطعام عشَرة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام؛ لأننا دنَّسْنا قاعدته المقدسة، فاستخدمنا جملة اسمية لما تبين لنا بعد ذلك أنه ليس بحقيقة علمية؟ أم سيسارع من الآن فيقترح ألا نستخدم الجمل الاسمية، ولا حتى فيما يبدو لنا حاليًّا حقائق علمية؛ حذَرًا من أن يظهر لنا بعد ذلك أنها ليست كذلك؟ انظر كيف يضع السيد زكريا أوزون نفسه في مآزق ما كان أغناه عنها! ألا يرى القارئ معي إذًا أن المشكلة لا وجود لها إلا في ذهن زكريا أوزون، الذي لا يعاود النظر فيما يخطر على باله لأول وهلة، بل يقذف به كما هو بعُجَرِه وبُجَرِه دون تمحيص!

وهذا يقودنا إلى تصايح مؤلفنا النحرير في عدة أماكن من كتابه بأن قواعد اللغة العربية، بل اللغة العربية نفسها، لا تقيم لمفهوم الزمن حسابًا، وأن هذا هو السبب في تخلفنا[6]، إي وربي هكذا قال دون أي افتئات من جانبي! وأسارع هنا فأقول - قبل أن أبين له أن لسان العرب يعمل للزمن ألف حساب وحساب -: إن هذه هي ذات القواعد التي كانت تحكم لغة أسلافنا، فلماذا لم تُعِقْهم عن أن يرتقوا ويفتحوا العالم ويقيموا إمبراطورية عظمى تمثل قمة الحضارة أوانذاك؟ ثم إنه يعايرنا في شماتة بأن "أزمنة الأفعال في بقية اللغات العالمية (ولتكن الإنجليزية مثلاً) أوضح وأدق منها في اللغة العربية"[7]؛ إذ "هناك اثنا عشر زمنًا في قواعد اللغة الإنجليزية، يضاف إليها أربعة أزمنة شرطية تستخدم كلها، ولها مدلول واضح عند كل مَن يتكلم الإنجليزية"[8]، وهو يقصد بذلك تصريفات الماضي الثلاثة: الماضي البسيط، والماضي المستمر، والماضي البعيد، ومثيلاتها بالنسبة للمضارع: المضارع البسيط، والمضارع المستمر، والمضارع التام، وكذلك نظيراتها في زمن الاستقبال، عدا أساليب الشرط المختلفة: الشرط ذي الجواب المحتمل الوقوع، وذي الجواب المستبعد حدوثه، ثم ما لم يقع جوابه؛ لأنه هو نفسه لم يحدث، والسؤال الآن: هل حقًّا لا تعرف اللغة العربية هذه التصريفات الزمنية؟ مقطع الحق أنها تعرفها بكل يقين، وسوف أورد هنا مثالًا على كل تصريف من هذه التصاريف الزمنية على ذات الترتيب الذي ذكرته لتوي: "لعب أحمد الكرة، كان أحمد يلعب الكرة، كان أحمد قد لعب الكرة - يلعب أحمد الكرة، أحمد يلعب الكرة (الآن)، قد لعب أحمد الكرة - سيلعب/ سوف يلعب أحمد الكرة، ستجد/ سوف تجد أحمد يلعب الكرة، سوف يكون أحمد قد لعب الكرة - إن تستذكر دروسك تنجح، لو استذكرت دروسك (لـ) نجحت، لو كنت استذكرت دروسك لـ (كنت [قد] نجحت / لولا أنك لم تستذكر دروسك لـما (كنت [قد] نجحت)، ومن هذه الأمثلة، وقد اقتصرتُ منها على الخطوط العامة ولم أدخل في الدقائق والتفاصيل التي تخلو منها اللغات التي نعرفها، يتضح أن كل ما زعمه السيد أوزون هو هراء في هراء في هراء! صحيح أن كتب النحو عندنا لا تخصص للأزمنة وتصريفاتها بابًا مستقلاًّ، لكن هذا شيء، والقول بأن مفهوم الزمن غائبٌ عن اللغة العربية أو عن قواعدها شيء مختلف تمام الاختلاف.

إن هذه المسائل موزعة على عدة أبواب من أبواب النحو، ولم يجد نَحْويُّونا القدماء، ولا المحدَثون أيضًا، ما يدعو إلى تجميعها في مكان واحد من كتب القواعد؛ إذ المسألة أبسط من هذا، ولا أظن أحدًا يجد شيئًا من العنَت أو الصعوبة في التعامل مع تصريفات الفعل حسب الزمن المراد: فمثلاً تراكيب الماضي البعيد والمستمر والمستقبل البعيد يمكن أن يستخلصها الإنسان من القواعد التي تنظم خبر "كان" إذا أتى جملة فعلية فعلها ماضٍ أو مضارع، أما الماضي البسيط والمضارع البسيط فالكلام عنه موجود عند تقسيم الفعل إلى ماضٍ ومضارع وأمر، ويبقى المستقبل البسيط: القريب منه والبعيد، ويفهمه المطلع على علم النحو من الكلام عن "السين" و"سوف"... وهلم جرًّا، أما المستشرقون الذين يكتبون في النحو العربي فإنهم، جريًا على منهجهم في آجروميات لغاتهم، يخصصون بابًا لهذه التصاريف، كما صنع وليام رايت في كتابه:[9] "A Grammar for the Arabic ********"؛ إذ كسر على هذا الموضوع في بداية الجزء الثاني من هذا الكتاب فصلًا عن الفعل (Verbe)، جعل قسمه الأول لتصريفات (States or Tenses)، والذي يليه لأحوالها (Modes)... وهكذا، ومثله ريجي بلاشير وجودفروا ديمومبين في كتابهما: "Crammaire de IArabe classique"، حيث يجد القارئ في الجزء الثاني منه فصلاً عن الفعل (Verbe) يبدأ بالكلام عن أزمانه وأحواله (Valeurs tempo - relles et modales)... إلخ[10].

المسألة إذًا لا تخرج عن أنهم، في اللغات الأجنبية التي نعرفها، يضعون لحالات الفعل الزمنية عنوانًا، أما نحن فلم نشعر بالحاجة إلى وضع مثل هذا العنوان، ولست بحاجة إلى أن أشير إلى فقر اللغة الإنجليزية (التي يُكثر السيد أوزون من التباهي بها بغير حق ولا علم) في بعض الجوانب من ميدان تصريف الأفعال؛ إذ هي مثلًا تستخدم صيغة واحدة لا غير للمصدر والفعل المضارع (لغير الغائب المفرد) والأمر جميعًا، بالإضافة إلى اسم الجنس في كثير من الأحيان، فـ: "Order" معناها "الأمر / آمر / تأمر (أنت) / يأمران / تأمران / نأمر / تأمرون / يأمرون / يأمرن / مر / مرا / مروا / مرن / طلب"... وهكذا، ولا أريد أن أمضي في هذا الباب من المقارنة بين لغة القرآن ولغة جون بول، وحسبنا هذه النقطة للدلالة على غيرها من النقاط.

وقد فصَّل العقاد القول في ذلك بعض التفصيل مبينًا أن "اللغة العربية تستوفي هذه الدلالة (يقصد الدلالة على الأزمان المختلفة) بأسلوبيها المعروفين في اللغات، ونعني بهذين الأسلوبين أسلوب الكلمات المستفادة من التصريف والاشتقاق، أو من الأدوات المصطلح على تخصيصها لمعانيها، وأسلوب التعبيرات التي تدخل في عداد الجمل والتراكيب، ومن الأسلوب الأول الصيغ التي تأتي من تصريف الفعل للدلالة على المستقبل الإنشائي كفعل الأمر... أما الأسلوب الآخر، وهو أسلوب الدلالة على الزمن بالتعبيرات التي تدخل في عداد الجمل والتراكيب، فكل ما أمكن التعبير عنه بهذا الأسلوب في لغة من اللغات، فهو ممكن في اللغة العربية في سهولة كسهولتها أو أسهل منها، فقد ينسب القول مثلاً إلى أحد من الناس، كأنه عادة كان يأتي بها في غير زمن محدود، فيقول المتكلم بالإنجليزية: "He used to say" أو "He was always saying"، ويقول العربي: "إنه كان يقول"، أو "إنه تعوَّد أن يقول"، أو "إنه طالما قال"، ولا تختلف العبارتان في صحة الدلالة، ولا في التحديد الزمني، ولا في الإطلاق من هذا التحديد، ولا في الإطالة والإيجاز... ومن المعلوم أن الغربيين في آجرومياتهم يلحقون باب الشرط والنفي بالكلام عن الزمن في الأفعال... وقد استوفي الشرط والنفي في اللغة العربية أيما استيفاء: فكان من أدوات الشرط ما يفيد الاحتمال الضعيف، ومنها ما يفيد الاحتمال القوي، كما يقال: "إن حدث هذا..." و"إذا حدث هذا..."، ومنها ما يفيد الاحتمال مع الفرض والتقدير، وقد يفيد الامتناع حين تستخدم "لو" في مواضعها، ومنها ما يفيد الشرط المعلق على توقيت منتظر أو متفق عليه؛ كالشرط بـ "متى"، ومنها ما يربط السببية أو النتيجة العقلية على الإطلاق الذي لا يتقيد من الأزمان؛ كـ "مهما" و"أيان" و"أنى" وكـ "لو" في بعض الأحوال، أما النفي ففيه دقة وقصد يدل على جملة قواعد القصة في اللغة العربية؛ فالنفي بـ "لم" مقصور على نفي الحدوث، وهو بالبداهة لا يكون إلا لزمن ماض؛ لأننا لا نتكلم عن شيء حدث قطعًا، أو لم يحدث قطعًا، إلا إذا كان الكلام على ما مضى؛ ولهذا تقصد اللغة فلا تحول الفعل من صيغة المضارع إلى صيغة الماضي بعد "لم"، ويقول العربي: "ما حدث هذا"، ولا يقول: "لَمْ حدث هذا"؛ لأن "ما" تدخل على المضارع فتفيد نفي "الانبغاء" لا نفي الحدوث، ومن قال: "ما يحدث هذا" فإنه يعني أن هذا لا ينبغي أن يحدث، ولا يُعقَل أن يحدث، وقد يلاحظ هذا على الفعل الماضي الذي تسبقه "ما"؛ فإن نفي الوقوع لا يخلو من نفي الانبغاء، ومن قال مثلاً: "ما فاهَ فلان بهذا الكلام" فكأنه يقول: "حاشاه أن يفُوه"... أما إذا نفى الحدوث مع انتظاره في المستقبل، فصيغة المستقبل هنا لازمة؛ ولهذا يقول العربي: "لَمَّا يحدُثْ هذا" وهو يترقب أن يحدث بعد قليل أو كثير... وإذا دخلت أداة نفي على الفعل المضارع فهي في حقيقتها مانعةٌ للحدوث، لا نافية للحدوث، ومن قال: "لن يؤوب القارظان"، و"لن تشرق الشمس من المغرب" فهو يقرر امتناع ذلك لسبب عنده قاطع يمنعه... على أن اللغات التي يتكلم بها في أرقى الأمم لم تشتمل على تصريفات أو صِيَغ مصطَلَحٍ عليها للدلالة على الزمن خلت منها اللغة العربية أو من نظائرها، وإنما تَرِد الشبهة على بعض النقاد الغربيين من وجود عناوين للأزمنة المعلقة عندهم لا توجد لها نظائر في اللغة العربية، وهذه الأزمنة المعلقة هي التي يفرض حدوثها فيما مضى أو ما يلي في حالات مشروطة أو متخيلة، ولكنها ليست قاطعة ولا منتهية إلى نهاية حاسمة، وهذه الأزمنة المعلقة يعبرون عنها في بعض اللغات الأوربية بالأفعال المساعدة مع الفعل أو اسم الفاعل أو اسم المفعول، ويحكيها في اللغة العربية أن نقول مثلاً عن أحد معروف أو مفروض: "لعله يكون مصورًا كبيرًا لو نشأ بعد حين"، أو "في مثل هذه الساعة من الغد يكون قد حضر أو يكون حاضرًا"... إلى أشباه هذه التعبيرات التي يسهل استخدامها في اللغة العربية كما رأيناها، وليست هي في اللغات الأخرى مخصصة بوضع أصيل من أوضاع التصريف والاشتقاق"[11]، ترى هل بقيت بعد هذا الإيضاح أية قيمة لِما هرَف به السيد أوزون عن الزمن في لغتنا واللغة الإنجليزية، أو لِما قذف به صدره من الكراهية للغة القرآن الكريم والشماتة الرخيصة بها وبقواعدها؟!


ومن أخطائه أيضًا في حديثه عن النحو العربي استنتاجه، من إعراب النحاة لـ "كان" في عبارة "ما كان أجمل الربيع!" وأشباهها على أنها "زائدة"، أن مفهوم الزمن في قواعد نَحْونا غائبة[12]، والواقع أن النحاة حين يقولون هنا: إنها زائدة إنما يقصدون أن الإعراب لا يتغير بعد دخولها على الكلام عما كان عليه قبلاً، لا أنها لا تضيف إلى الجملة معنًى لم يكن فيها، ومن المعروف لكل أحد أن "ما أجمل الربيع!" إنما هي للتعبير عن جمال الربيع بشكل مطلق أو جمال الربيع الآن، أما إذا كان المقصود هو إبداءَ الإعجاب بالربيع الفائت، أو أي ربيع مضى وانقضى، فالذي يقال عندئذ هو: "ما كان أجمل الربيع!"، وهناك سبب آخر لتسميتهم "كان" هنا زائدة، وهو أنها فصلت بين لفظينِ متلازمين عادة بحيث لا يمكن دخول أية لفظة أخرى غير "كان" بينهما، وعلى ندرة، وهناك كاتب معاصِر أَلْفيته يكثر من استعمال "كان" زائدة، هو الأستاذ محمود شاكر في كتابه: "أباطيل وأسمار"، وذلك حين يأتي بها معترضة بين لفظين متلازمين لتنبيه القارئ بغتةً أن الأمر الذي يتكلم عنه إنما كان موجودًا أو متحقِّقًا في الماضي، ولم يعد كذلك الآن، ولاستعماله "كان" بهذه الطريقة نكهةٌ مميزة لا يخطئها الذِّهن، ولا يغيب عنه إيحاؤها التهكمي في كثير من الأحيان.

إن قول الشاعر القديم:
فكيف إذا مرَرتَ بدارِ قومٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


يختلف قطعًا عما لو قال: "وجيران لنا كرام"؛ إذ يكون المعنى أنهم لا يزالون جيرانًا له ولقومه، كما يختلف بكل يقين عما لو قال: "وجيران لنا كانوا كرامًا"، التي تعني أنهم كانوا كرماءَ ولكنهم لم يعودوا كذلك، أما تركيب العبارة - كما أوردها في بيته - فمعناه أنهم جيران كرام، لكنهم للأسف قد ارتحلوا عن المكان ولم يعودوا لهم بجيران، أيصح أن نتهم قواعد النحو عندنا إذًا بأن مفهوم الزمن غائب فيها؟ ألا يفرِّق نُحاتُنا بين الماضي والحاضر والمستقبل فيقولون: فعل ماضٍ، وفعل مضارع (للحاضر، وكذلك للمستقبل: بنفسه أو بدخول "السين" أو "سوف" عليه، مع دلالة "السين" عادة على المستقبل القريب، و"سوف" على البعيد)؟ ألا يفرقون، في نفي الماضي، بين قولنا: "لم يلعب" و"لَمَّا يلعب" بحيث تدل الأولى على عدم اللعب مطلقًا، والثانية على أنه، وإن لم يقع اللعب في الماضي، يتوقع أن يحدث في المستقبل؟ ألم ينصوا على أن لكل من "كان" وأخواتها دلالة زمنية خاصة بها؟ ألم يجعلوا من "شرع" وأمثالها من أخوات "كاد" قسمًا مستقلًّا لدلالتها على الشروع في الفعل؟... إلخ... إلخ.


[1] ص 26.

[2] ص 54 / هـ 3.

[3] ص 26.

[4] ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله سبحانه لزكريا: ﴿ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ﴾ [آل عمران: 41]، وهذه الآية المذكورة كان زمانها المستقبل دون الماضي والحاضر، وقوله عز وجل: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ﴾ [آل عمران: 44]، وهذه الأنباء لم تكن من الغيب بالنسبة لمن شاهدوا وقائعها، فكلتاهما جملة اسمية، ولكنها رغم اسميتها لا تدل على ديمومة تشمل الماضي والحاضر والمستقبل جميعًا، ومنها أيضًا قوله عن المتقين: ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ [الكهف: 31]، فهذا الجزاء لا علاقة له هو أيضًا بالماضي أو الحاضر، بل العالم الآخر في مستقبل الأيام البعيد، ومنها قوله عز شأنه: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، والنبي عليه السلام لم يكن لنبوَّته وجود قبل بعثته، وكذلك لم تكن عائشة وحفصة وزينب ... إلخ زوجات له قبل أن يتزوجهن، والأمثلة كثيرة.

[5] ص 26 - 27.

[6] ص 32، 33، 35 - 36، 113.

[7] ص 36.

[8] ص 55 / هـ 12.

[9] Cambridge Universety Press، 1981، Vol. 2، p. 1، sqq.

[10] G.P. Maisonneuve & Larose، Paris، 1966، p. 245، sqq.

[11] عباس محمود العقاد / اللغة الشاعرة / مكتبة غريب / 78 - 86.

[12] ص 32.



ابوالوليد المسلم 11-03-2021 04:58 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(6)



د. إبراهيم عوض


كذلك يعيب زكريا أوزون الأساس الذي قُسِّمت بِناءً عليه الأفعال إلى متعدية ولازمة، قائلًا: إن جملة مثل "جلس أحمد على السرير"، تحتوي على مفعول به رغم أنه ليس منصوبًا، ألا وهو "السرير"، قائلًا: إن "فعل الجلوس قد... وقع على السرير، وعليه فالسرير هو ما تم وقوع الفعل عليه، فهو مفعول به، وإن كان مجرورًا"[1]، وواضح أن السيد أوزون لا يحسن التفكير والتصور، وليس بمُكنته التفطن إلى النكات الدقيقة، ومن ثم فقد خلط بين وقوع الفعل على الشيء (أي فوقه) وبين إيقاعه به، صحيح أن "الجلوس" في هذا المثال قد وقع على السرير (أي فوقه)، لكن لا يمكن أن يوقع به الجلوس؛ أي: لا يمكن أن يصيبه الجلوس؛ إذ الجلوس لا يحتاج إلا إلى طرَف واحد، هو الذي يحدث من خلاله الجلوس، أو كما يقول النَّحْويون القدماء: يقوم به الجلوس، بخلاف ما لو قلنا: "أجلس محمد سعيدًا على السرير"، فها هنا طرَفان: الأول الذي أحدَث الإجلاس، وهو محمد، والثاني الذي أصابه الإجلاس، وهو سعيد، أما السرير فهو الذي وقع عليه (أي فوقه) الإجلاس، بمعنى "حدث فوقه الإجلاس"؛ أي: إنه ظرف، ويسميه بعض النحاة: "مفعولاً فيه"، فهو مفعول، لكنه ليس مفعولاً به، بل مفعولاً فيه، وهذا مصطلح يطلق على كل مكان وقع عند الحدث، سواءٌ وقع "فيه" فعلاً، أو وقع "عليه" أو "إليه"، فحرف الجر "في" هنا لا يدل على أن الحدث قد وقع داخل السرير، إنما يقصد النحاة من السرير والبيت والقبلة وغيرها من الظروف فكرة المكان المجرد، ونحن نعرف أن المكان، مثله مثل الزمان، يحتوي الحدَث داخله، ومن هنا قالوا: "المفعول فيه"، وإن لم يحتوِ بالضرورة كل ظرف فرد "على" الحدَث، أما إذا أردنا تبسيط الأمر وتخفيفه فإننا نقول: إن "المفعول فيه" هو مجرد اصطلاح، وفي الاصطلاحات يراعى دائمًا الإيجاز لا الدقة المحكَمة، وعلى هذا لا يمكن أن نقول: "المفعول فيه أو منه أو عليه أو إليه..."، بل يقال - على سبيل الاختصار -: "المفعول فيه"، وهذه التسمية تغطي سائر هذه المعاني، كما نقول: "الألفباء"، ونقصد الحروف التسعة والعشرين لا "الألف" و"الباء" وحدهما، وكما نقول: "أراق فلان حبرًا كثيرًا"؛ أي: كتب كلامًا كثيرًا، وهو لم يُرِقْ حبرًا فقط، بل أنفق وقتًا، واستهلك ورقًا، وأعمل عقلاً، وأحرق أعصابًا، وأشبع رغبة، وأذاع عِلمًا، وأدى رسالة... إلخ.

ومن أعجب العجب أن المؤلف، في الوقت الذي يصر على تسمية "الظرف": "مفعولا به" مُدخِلًا بهذه الطريقة في "المفعول به" ما ليس منه - هو نفسه الذي يريد أن يخرج من فئة "المفعول به" المفاعيل الثانية في نحو: "أعطى أحمدُ الفقيرَ رغيفَ خبز"، مدعيًا أن "رغيف الخبز" ليس مفعولًا ثانيًا، بل مجرد مبين لنوع العطاء، ولا علاقة له بوقوعه؛ إذ العطاء لم يقع إلا على "الفقير"[2]، وإني لأسأل: أليس "الرغيف" في قولنا: "قدم أحمدُ للفقير رغيفًا" مفعولًا به؟ بلى هو كذلك بكل تأكيد، ولا يمكن لأوزون ولا لألف واحد مثل أوزون أن يزعم غير ذلك، فما الفرق إذًا بين "الرغيف" في هذا المثال، و"الرغيف" في المثال السابق، والمعنيان إجمالًا واحد؟ أم هو العناد لمجرد العناد والسلام؟ إن الأمر بحاجة إلى دراسة نفسية، ما في ذلك مِن ريب!

أمر آخر أحاجُّه به، وهو المغرم بالإنجليزية، وإن كان واضحًا أن معرفته بها لا تتعدى الفتات، ألا وهو أن الإنجليز يعبرون عن قولنا: "أعطى أحمد الفقير رغيفًا"، بطريقتين، الأولى: "Ahmad has given the poor man a loaf of bread وهي تشبه في تركيبها الجملة العربية التي نحن بإزائها، ولا تعليق لي عليها، وإنما كلامي على الطريقة الثانية: "Ahmad has given a loaf of bread to the poor man"، وفيها يظهر بكل وضوح أن "الرغيف" هو المفعول به المباشر الذي لا يمكن المماحكة فيه من جانب مؤلفنا، أما "الفقير" فسبقه حرف جر، وهو ما يمكن أن يكون محلاًّ لعناده وسفسطته، ويبدو أن الأسلوب العربي قد تأثر، فيما يبدو، بهذا التركيب؛ إذ نسمع كثيرًا من يقول: "أعطى أحمد للفقير رغيفًا" (على غرار قولنا: "قدم أحمد للفقير رغيفًا")، مما يؤكد أن "الرغيف" هو مفعول به بلا جدال، أما التعبير عن نوع العطاء فهو من عمل المفعول المطلق، كما في قولنا مثلاً: "أعطى أحمد الفقير رغيفًا عطاء الشفقة، أو عطاء المراءاة، أو عطاء الكرم، أو عطاء الشماتة... إلخ"، ثم سؤال أخير: ما الفائدة من اعتراضه على استعمال مصطلح "المفعول الثاني" بالنسبة لـ "الرغيف" ما دام يدعو إلى إلغاء الإعراب من أساسه؟ ألم أقل: إن الأمر يحتاج إلى دراسة نفسية، وبخاصة إذا رأيناه، بعد كل هذا الصخب والضجيج الذي أزعج به آذاننا وأرهق أعصابنا، يعود فيقول عن كلمة "شواء" في قولنا: "أعطيت أوقية شواء": "لماذا لا تكون" "شواء" بدلاً من أوقية، أو صفة، أو مفعولاً به ثانيًا حيث وقع عليها فعل العطاء؟"[3]، الله أكبر! أبعد رفضِك الحَرُونِ أن يكون "الرغيف" مفعولًا ثانيًا لـ "أعطى" في المثال الآنف الذكر؛ لأنه حسب وهمك لم يقع عليه العطاء، ترجع فتقول: إن "العطاء" قد وقع على الشواء، ويصح من ثم إعرابه مفعولًا ثانيًا؟ أما قوله بعد هذا: إن تلك "الافتراضات من مدرسة أهل اللغة ولا تمثل رأينا"، فلا معنى له؛ لأن النحاة أعقل وأحجى من أن يقولوا: إن "الشواء" في الجملة التي معنا الآن يمكن أن تعرب صفة أو مفعولاً ثانيًا، بل هو كلامه، ودافعه إليه هو أيضًا العناد الحَرُون، والرغبة الطفولية في المخالفة لمجرد المخالفة؛ إذ من الجليِّ أنه قد أقبل على الموضوع وفي نيته (أو نية مَن شجعوه على هذا السخف) هدم النحو، وإحلال عامية "يا لطيف! شو حلو ها البيت!" محل لغة "أهل قريش ومضر" كما يقول[4]، يقصد الفصحى، وهي، كما لا أظنني بحاجة إلى أن أؤكد، نيَّةٌ فاسدة وطائشة، ولن تصل إلى شيء، والطريق إليها "مسدود مسدود مسدود يا ولدي!"، كما يقول نزار قباني، الذي أراد أن يتخذ من قوله: "سأهرب من لعنة المبتدأ والخبر" مِعولاً لهدم المبتدأ والخبر، والنحو والصرف، ولغة القرآن الكريم جملة وتفصيلاً[5]!

أما حكاية "يا لطيف! شو حلو ها البيت!" (وهي دليل آخر على أنه يتصدى لما يجهل، وكل عدته هي العناد الحَرُون)، فتتلخص في أنه كالعادة يهاجم النَّحْويين متهمًا إياهم بممارسة "الدكتاتورية اللغوية"؛ إذ يدعي أنهم يفرضون علينا، متى أردنا التعجب من شيء، أن نقول: "ما أجمله! وأجمل به!"، ثم يتساءل في سذاجة (ولكن غير محببة): "ألا يحق لي أن أقول": "يا لجمال البيت!" مثلاً، أو "يا لطيف! شو حلو ها البيت!" أم أنه يتوجب علَيَّ أن أتعجب كما يتعجب أهل قريش ومضر؟ ألا يحق لي أن أعبر عن مشاعري بالأسلوب الذي يعجبني ويعجب أفراد أمتي المعاصرين، وهو ما يحدث وما سيحدث؛ لأن نُحاتنا، والنحو معهم، يسيرون في طريق مسدود؟"[6]. وجوابنا هو أن السيد أوزون يستطيع أن يقول: "ما أجمل البيت!" و"أجمِلْ بالبيت!" على طريقة أهل قريش ومضر، ويستطيع كذلك أن يقول: "يا لجمال البيت!"، أو "يا عجبًا لهذا البيت!" أو "وا عجبًا له!"[7]، وهي طريقة أهل قريش ومُضرَ أيضًا والله العظيم، كما يستطيع أن يقول: "وكم يعجبني هذا البيت!" على طريقتهم للمرة الثالثة[8]، وبالمثل يستطيع أن يقول: "إنني معجب بهذا البيت!"، أو "إنني معجب به أشد الإعجاب!"[9]، أو "أكاد أجن من فرط الإعجاب به!"، أو "سأموت من شدة الإعجاب به!"، أو "لقد رُدَّت لي الرُّوح من فَرْط جماله العجيب!"، أو "إنه لشيء عجيب (أو عجاب)!"، أو "إن إعجابي بهذا البيت لا حد له!"، أو "إن جماله لا ينقضي منه العجب!"، أو "إنه لبيت عجيب!"، أو "سأظل معجبًا به ما بقي الليل والنهار، أو حتى يؤوب القارظان، أو ما قام رَضْوى في مكانه!"، أو "بارك الله فيمن بنى هذا البيت العجيب!"، وكل هذا وغيره هو على طريقة أهل قريش ومُضرَ؛ ذلك أنهم قد أعطَوْه ألفاظ اللغة وقوالبها التركيبية، ويستطيع أن يولِّد من هذه وتلك ما يشاء، وهو في كل ذلك يجري على سُنَّتهم، ولو كره الأوزونون!

وما دام زكريا أوزون يموت غرامًا وولَهًا بالإنجليزية، التي من الجلي أنه لا يفقه منها شيئًا ذا بال، فإني أعلِّمه (ولكن يا ليته يتعلم!) أن في الإنجليزية أيضًا صيغتي تعجب قياسيتين، بالضبط مثلما عندنا "ما أفعله، وأفعل به"؛ إذ عندما يريد الإنجليزي التعجب من شجاعة إنسان مثلًا فإنه يقول: "How brave this man is!" وفي الفرنسية يقولون "Comme cet homme est brave!"، أو "Que cet homme ca" "est brave!"، وكما أننا نستطيع أن نترك صيغتي التعجب الجاهزتين في لغتنا إلى صِيغ أخرى، فإن بمُكْنةِ الإنجليزيِّ والفرنسيِّ أن يعبر عن عجبه من شجاعة شخص ما بأساليب أخرى إذا أراد.

ومن عناده وخَطَله كذلك: اعتراضه على القول بوجود فاعل لأي فعل أمر، مثل: "ارجع" و"اسكن"، وحجته (أو بالأحرى: شبهته): أن هناك احتمالاً كبيرًا بعدم تحقق الفعل أصلًا، ومن ثم بعدم وجود فاعل له[10]، وهذه طريقة في التفكير عجيبة، لا أظنها خطرت لأحد من قبل، والحل سهل جدًّا؛ إذ ما المانع أن نقول: إن الفاعل في "قل" هو "أنت إن شاء الله" بإضافة عبارة "إن شاء الله" احترازًا، وكذلك طمأنة لضمير السيد أوزون الحساس؛ كي يهدأ ويغفوَ قليلاً بدلًا من هذه الوسوسة المؤلمة!

ما رأيك أيها القارئ العزيز في هذا الحل؟ ولكنني مع هذا لا أدري لماذا تحرَّج ضمير السيد أوزون أمام الفاعل فقط، ولم يتحرج هذا التحرج مع المفعول به في حالة مجيء فعل الأمر متعديًا، بل لا أدري لماذا لم يُجرِ هذه القاعدة العجيبة على الفعل أيضًا؛ إذ إنني عندما آمُر إنسانًا بقولي: "ادخل البيت بقدمك اليمنى" لا يكون الدخول قد حدث بعد، بل يمكن ألا يحدث، فلا يدخل الرجل بقدمه اليمنى، ولكن باليسرى، أو ربما لا يدخل أصلاً، لا بيمناه ولا بيسراه، ليس هذا فقط؛ إذ لن ينتهي الأمر عند ذلك الحد، فنفس الكلام يصدق على قولنا: "سنسافر (أو سوف نسافر) بعد شهرين"، أو "إن سافرنا بعد شهرين فسوف نصل في الميعاد"؛ إذ من المحتمل ألا نسافر في هذا الميعاد أو ألا نسافر أبدًا.

وغنيٌّ عن البيان أن قولنا: "لن نشتري هذا البيت" لا يمكن أن يكون له فاعل ولا مفعول ولا فيه فِعلٌ قولًا واحدًا؛ لأنه نفي، والنفي معناه عدم حدوث الفعل من أساسه، ما رأي القارئ في هذا اللون العبقري من التفكير؟ بل علينا في حالة الإخبار عن الماضي أو الحاضر ألا نتعجل فنقول بالفعل والفاعل والمفعول قبل أن نتأكد أولاً أن الخبر صحيح، وإلا فلا فعل ولا فاعل ولا مفعول، وعلى هذا فإذا طلب أستاذ إلى تلميذ أن يعرب جملة: "باع زيد بيته أمس" مثلاً، كانت الإجابة الصحيحة: "أمهلني يا أستاذ إلى أن أتحقق من أن البيع قد وقع فعلًا، ثم أمهلني ثانية حتى يتم توثيق البيع في المحكمة ويصدر الحكم ويتسلم المشتري العقد القضائي"، ومُتْ يا حمارُ حتى يأتيك العليق! وأسلم من هذا كله أن نلغي أبواب الفعل والفاعل والمفعول به، وما يتعلق بذلك من أشباه الجُمَل والظروف والأحوال والتمييزات والاستثناءات... إلى آخر أبواب النحو، بل أن نلغي اللغة كلها، بل أن نقطع ألسنتنا ونغلق أفواهنا ونوقف عن التفكير عقولنا... ثم ننتحر حتى يرضى عنا السيد أوزون، وله العتبى حتى يرضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!


[1] ص 36 - 37.

[2] ص 38.

[3] ص 82.

[4] انظر ص 40 - 41.

[5] انظر ص 27 وما بعدها.

[6] ص 41 - 42.

[7] وهذا التركيب موجود في باب "الاستغاثة".

[8] و"كم" هنا هي "كم" الخبرية، التي يضعها النحاة في باب "كنايات العدد".


[9] وهذا التركيب يقوم على استخدام المفعول المطلق، أو بالأحرى: "نائب المفعول المطلق"، وإن اغتاظ السيد أوزون من هذه النيابة (انظر ص 76).

[10] ص 52.





ابوالوليد المسلم 11-03-2021 04:58 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(7)



د. إبراهيم عوض




... وعلى هذا النحو أيضًا نراه يتخبط عند حديثه عن الضمائر؛ فهو يقول مثلاً: إن ما يسميه النحاة بـ "الضمائر المتصلة" (وهي "النون" و"التاء" و"الواو" و"الألف" و"الياء" في الجمل التالية على الترتيب: "النسوة قمن، أكلت كثيرًا، أرسلوا إليَّ خطابًا طويلاً، الطالبان نجحَا بامتياز، دائمًا ما تأتين متأخرة عن الميعاد") لا يمكن أن تكون معارف؛ لأنها أحرف؛ أي: إنها ليست أسماء أصلاً، لكننا ننظر فنجده عقيب هذا يأخذ في إعراب جملة: "سأعطيك أنت ومن معك" قائلًا: إن "أنت" في محل نصب مفعول به، أو بدل من الكاف، أو توكيد له... إلى آخر ما قال[1]، والذي يهمنا هو قوله: إن "أنت" بدل من "الكاف"، أو توكيد لها، والحروف لا تكون مبدلًا منها، كما لا يمكن توكيدها، ما عدا "نعم" و"لا"، وبداية كلامه تدل بكل جلاء على أن الكلام هنا عن المفعول به؛ أي: إن عندنا مفعولًا به، و"أنت" بدل من هذا المفعول أو توكيد له، كما يقول السيد أوزون، وكل ذلك يدل على أنه قد لحس اعتراضه الذي مر قبل أقل من ثلاثة أسطر، ومعنى هذا أنه يتخبَّط ولا يدري ماذا يقول.

وأشنع من ذلك وأدلُّ على الجهل ضربُه المثال التالي: "أإياي يعاقب؟"، وهو مثال لا يتمالك الإنسان نفسه إزاءه من أن يقول بملء فمه على طريقة أهل قريش ومُضَر رغم أنف المؤلف اللَّوذعي: ما أجهله! وأجهِلْ به! ويا عجبًا (أو واعجبًا) من جهله! ويا لجهله! أو واجهلَ أوزوناه!... إلى آخر الصور التعجبية التي تركها لنا أهل قريشٍ ومُضرَ أو يمكن توليدها مما تركه أهل قريش ومضر، ثم إن السيد أوزون لا يكتفي بهذا، بل يزيد الطين بِلَّةً؛ إذ يأخذ في إعراب الجملة قائلاً: إن "... "الألف" (الهمزة) هي للاستفهام، و"إياي" ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (نائب مبتدأ)[2]؛ لأن الفعل المضارع بعده مبني للمجهول، أم للنحاة تخريجة أخرى؟"[3]، حاشا لله يا أستاذ! وهل يجرؤ النحاة على أن يكون لهم قولٌ بعد هذا القول الفصل؟ لقد عِشْنا حتى شُفْنا في آخر الزمان مَن يظن أن من الممكن تركيب جملة مثل: "أإياي يعاقب؟"! من أين أتيت بهذا الكلام يا أستاذ؟ يقينًا أنك أتيت به من وراء أسوار العقل والتفكير السليم! إن من الممكن أن نقول مثلاً: "أمثلي يعاقب؟"، أو "أأنا أعاقب؟"، أما "أإياي يعاقب؟" فهذا ما لم نسمع به لا في الزمان الأول، ولا الزمان الأخير، لا في لغتنا، ولا في أية لغة نعرفها إلا منك، وبلا فخر، وفي الإنجليزية والفرنسية والألمانية لا بد أن نستعمل في مثل هذا التركيب ضمير الفاعل "I، he، ich" (الذي يقابل عندنا "أنا")، لا ضمير المفعول "me، me، nich" (الذي يقابل في لغتنا) "إياي")، وهم يعربونه في هذه الحالة "فاعلًا"[4]، لا "مفعولاً به" كما تقول، ثم تذهب فتقدر ضميرًا مستترًا جوازا، تقديره "هو"، لتجعله نائب فاعل، وهو ما لا وجود له في أي نحوٍ فوق وجه الأرض وتحت أديم السماء!

ومن الضمائر ننتقل إلى أسماء الإشارة، ومعنا دائمًا نفس الخلط العجيب، إن سيادته يرفض أن توضع "أسماء الإشارة" بين المعارف قائلاً: "هل قولنا للشيء: "هذا" يعني معرفته؟"، ترى بم يمكن أن يجيب الإنسان مثل هذا التفكير؟ أو عندما تقف أمام الشيء وتشير إليه بإصبعك أو برأسك أو بأية وسيلة أخرى تنوب عن الإصبع والرأس يظل ذلك الشيء مجهولًا أو غير محدد؟ بسيطة! فلنطلب من المتحدث ألا يكتفي بهذا، بل يذهب إلى الشيء المشار إليه ويضع يده عليه قائلًا: "هذا هو الشيء الذي أشير إليه"؛ كيلا يترك في نفس المستمع أية شبهة حول ما يريد، وذلك على طريقة الشيخ الذي كان يعلمنا في صبانا كيف ننوي الدخول في الصلاة؛ إذ كان يطلب منا أن نقول حينئذ: "نويت أن أصلي الظهر حاضرًا أربع ركعات مستقبلاً القِبلة مقتديًا بهذا الإمام (ثم نشير بإصبعنا نحو الإمام) الله أكبر"، ما شاء الله! لكننا عندما كبِرْنا تنبهنا أن هذا كله سخف من السخف؛ لأن كلمة "نية" تعني مقصدك الذي تطويه في نفسك، لا الذي تتلفَّظ به، وتتخذ للفظه مثل هذه الاحتياطات والإجراءات نزولاً على حكم الوساوس القهرية التي تصيب بعض المرضى والعياذ بالله، فأصبحنا نكتفي بقولنا: "الله أكبر"، لا نزيد عليها حرفًا، وهل الله سبحانه بحاجة إلى هذه التحديدات المضحكة لاسم الصلاة ووقتها وعدد ركعاتها وجِهة القِبلة وشخص الإمام؟ والحمد لله أن الشيخ لم يطلب منا أيضًا تحديد اسم المسجد، وموقعه، ومساحته، وارتفاعه، وعدد نوافذه، ونوع سجاجيده أو حُصُره، والصف الذي نقف فيه، وموقفنا منه، وعدد المصلين معنا وراء الإمام، وأسماءهم وتراجمهم... إلخ، إن كان لذلك من آخر على رأي المازني رحمه الله! صدق مَن قال: "شرُّ البلية ما يضحك!".

وعجيب مِن مؤلفنا أن يأنَس في نفسه القدرة على التهكم، فيقول عن أسماء الإشارة: "تي وذان وتان"، إنها تذكرة بشخصية فرنسية فكاهية لشاب اسمه: "تان تان"، ربما أخذ اسمه من تلك الأسماء، ثم يمضي فيقول: إنه "لا عجب في ذلك، فلا يوجد أحد من ناطقي لغة الضاد المحكية (العامية) يقول: "ذان" أو "تان" أو "تي"..."[5]، ترى ما الذي يضحك في أسماء الإشارة هذه إلا جهله الذي يسول له الجرأة على محاكمة المستوى الأدبي الفصيح في اللغة إلى مستوى الدَّهْماء، وما دام الدَّهْماء لا يقولون: "ذان" و"تان" و"تي" فلا داعي لها؟ وقياسًا على هذا ينبغي أن نحذف روائع الآداب والفنون، وفروع العلوم المختلفة، وغير ذلك مما لا يهتم به العوام! أرأيتم مثل هذا المنطق؟ إن علينا، بِناءً على الرغبة السامية لزكريا أوزون، أن نترك أسماء الإشارة في الفصحى، ونستعمل عوضًا عنها: "دَهْ" و"دَهُه" و"دُكْهَه" و"دُول" و"دَلَهُمَّه" و"دُكْهَمَّه"... إلخ! وهذا في مصر فقط! إن مَن عرف حجَّةٌ على من لم يعرف يا أستاذ، لكنك تقلب الآية؛ فتجعل للجهل اليد العليا، وللعلم اليد السفلى، وتطالب بحذف "ذان" و"تان" (اسمي الإشارة للمثنى) مع أنك في موضع آخر من كتابك تشيد (في غفلة من غفلات وعيك) باللغة العربية؛ لاحتوائها على المثنى، وتدعو إلى إحياء صِيَغه بعد أن أخذت في الانحسار من اللغة العادية المحكية كما تقول، وإن كان قد غلبك طبعك فأضفتَ إلى هذا الثناء الحق كلامًا يكشف عن جهلك بالموضوع[6]، كما سنبين لاحقًا، ترى كيف نشير إلى المثنى إذا حذفنا "ذان" و"تان"؟ إننا بالنسبة للقريب نقول: "هذان" و"هاتان" (ويمكن أن نحذف الهاء من أول الكلمتين)، ونقول للبعيد: "ذانك" و"تانك"، وإذا وجدنا من يخطئ في شيء من هذا صححناه له، كما هو الحال عند كثير من الكتَّاب المعاصرين؛ إذ يقول الواحد منهم: "ذلكما" و"تلكما" مثنِّيًا المخاطَب بدلًا من تثنية المشار إليه[7].


[1] انظر ص 58 - 59.

[2] ص 59.

[3] هذه أول مرة في عمري أسمع فيها بـ: "نائب المبتدأ".

[4] لأنهم لا يعرفون مصطلح "نائب الفاعل".

[5] ص59 - 60.

[6] انظر ص 66.

[7] تصادف، أثناء إعدادي لهذه الصفحات، أن كنت أقرأ في كتاب د. ثروت عكاشة: "مذكراتي في السياسة والثقافة"، وكتاب عبدالرشيد الصادق محمودي: "من الشاطئ الآخر" فوجدت الأول يقول: "لا سيما أن تلكما الدولتين ..." (مكتبة مدبولي / 1 / 386)، والثاني يجري على طريقته حذوك القذَّة بالقذَّة قائلاً: "... عند تلكما الصفحتين" (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر / بيروت / 1990م / 11)، والصواب هو: "... تينك الدولتين"، و"... تينك الصفحتين"، وهما صيغتا النصب والجر من "تان"، التي أضحكت زكريا أوزون، وسوَّلت له أن يسخَر من النحاة واللغة!



ابوالوليد المسلم 11-03-2021 04:58 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(8)



د. إبراهيم عوض



أما الكلام المنبئ عن الجهل، والذي أسرع المؤلف فأضافه إلى إشادته بلغة يعرب، فهو قوله: "في الإنجليزية تنوب الكلمة "both" (كلاهما) عن الألف أو الياء والنون في المثنى في العربي"[1]، وهذا غير صحيح بالمرة؛ فـ "both" تقابل "كلاهما - كليهما / كلتاهما - كلتيهما" لا علامة التثنية "ـان / ـين"، التي يقابلها عند الإنجليز كلمة "thr teo" قبل الاسم المجموع؛ إذ يقولون مثلاً: "The two boys" و"The Two Windows"، أي "الولدان" و"النافذتان".

فالرجل، كما هو واضح، يسلم نفسه لقدميه الضخمتين المفلطحتين تأخذانه هنا وها هنا دائستين على كل ثمين مِن التُّحَف اللغوية الرقيقة، ومحطمتين إياه تحطيمًا دون أدنى إحساس بنفاسته.

لطفك اللهم! والله إنها لمهزلة أن يُقدِم مثله على الخوض في هذا الموضوع، وأن تجرؤ إحدى دور النشر على أن تذيع له ذلك الكلام، الذي ليس له مِن مكان يليق به إلا البالوعات! أمثل زكريا أوزون يناطح سيبويه؟ لا أقول هذا لأن سيبويه فوق النقد، ولكن لأن نقد سيبويه يستلزم أن يقوم به مَن هو على مستوى سيبويه، أو يقاربه في العقل والعلم، أما أن يهُبَّ قَزَمٌ فيتطاولَ على سيبويه، وهو لا يصلح أن يجلس عند قدمَيْ تلامذة تلامذة تلامذة تلاميذه، فتلك سُبَّة الدهر وسَوْءةُ الأبد!

على أن القدمينِ الضخمتين المفلطحتين اللتين ابتُلِيتا بالعمى والبلادة لا تقفان عند هذا، بل تمضيان فتأخذان في طريقهما صيغ الجموع في اللغة العربية، مبتغيتين تحطيمها هي أيضًا؛ إذ ينادي الأستاذ المؤلف (مؤلف آخر زمن!) بأنه "يجب إعادة النظر ببعض التسميات فيه؛ كجمع الجمع، واسم الجمع، وجمع التكسير (تكسير! ما هذا التعبير؟)، وعلينا إيجاد صيغ جديدة للجمع تنسجم مع المعطيات والتسميات المعاصرة، لا أن نعود للقياس على ما قال غيرنا فيما نعلمه ويجهلونه"[2]، وتتساءل القدمانِ العَمْياوانِ الغبيتان أثناء الحديث عن الأسماء المذكَّرة والمؤنَّثة في لغتنا في سخرية مقيتة: "من منا يعتبر اسم" "زينب" أو "مريم" اسمًا مذكرًا، واسم "معاوية" مؤنثًا؟ إن ذلك يذكرني ببعض الأصدقاء الإيرلنديين الذين يسمعون اسمًا يكاد يدوي في السماء العربية بذكورته كاسم "صخر" أو "غضنفر" فيسألون: هل هذا الاسم لذكَر أم لأنثى؟"[3].

وسوف نعدي عن حكايته مع صديقه الإيرلندي؛ لأنني لا أفهم ماذا تريد القدمانِ الضخمتان من ورائها[4]، ونجيب عليه قائلين: فأما بالنسبة لـ "زينب" و"مريم" فلا أحد يقول: إنهما اسمان مذكَّران، ومن ثم فلا داعي للسؤال، ولا محل للتهكم الذي يبطنه، وأما بالنسبة لـ "معاوية" فهو في الأصل صفة مؤنثة، ثم لما استعمل علَمًا أطلق على الذكور، فهو رغم صيغته المؤنثة اسمُ عَلَم للمذكَّر؛ ولذلك يقول النحاة عنه: إنه مؤنث لفظي؛ أي: ذو صيغة مؤنثة، لكنه يشير إلى صبي أو رجل، لا إلى بنت أو امرأة، ومع ذلك فلو سُمِّيت به بِنتٌ لكان في هذه الحالة مؤنثًا لفظًا ومعنًى، كما هو الأمر مثلاً في أسماء: "عصمت (عصمة) وحكمت (حكمة) وعفت (عفة)، التي تطلق على الرجال والنساء معًا، أفهمت القدمان المفلطحتان أم لا تريدان أن تفهما؟

ومع العلم اللَّدُنِّي الذي اختص به زكريا أوزون نمضي لنسمعه يقول في تعريف "المنصوبات": إنها "الأسماء التي حركة أواخرها فتحة، فهي منصوبة"[5]، مع أن من الأسماء المنصوبة ما ليس في آخره فتحة، وهذا من شيوع المعرفة بمكان مكين ركين؛ فالأسماء الستة تُنصَب بالألف، والمثنى بالياء الساكنة المفتوح ما قبلها، وجمع الألف والتاء بالكسرة، كما أن من الأسماء ما حركة آخره بالفتح، ومع ذلك فليس بمنصوب، بل هو مبني، مثل: "لا رجل في الدار"، و"أين"، و"عند"، ثم نتابع مسيرتنا مع ذلك العلم اللَّدُنِّي الذي يجود علينا بالدرر واللآلئ العبقرية المنقطعة النظير، فنجد صاحبه يحمل على النحاة، ويسخَر منهم كعادته؛ إذ ينصبون "الشارع" في مثل قولنا: "سِرْتُ والشارعَ" على أساس أنه "مفعول معه"، متسائلًا في أستاذية: "كيف يتم إنجاز الفعل من قبل الإنسان والشارع معًا؟ سؤال لا أعرف كيف أطرحه، فهل يجد لي النحاة صيغة لسؤالي، ومن ثم يجيبون عليه أنفسهم؟"[6]، وعجيب أن يجرؤ السيد أوزون على التهكم بعلماء النحو بهذه الثقة، وهو من الجهل بالموضوع الذي يخوض فيه بتلك الدرجة الشنيعة! إنها ثقة الحمقى والجهلاء، وكم للحمقى والجهلاء من ثقة مُرْدية! أليسوا جهلاءَ وحمقى ليس عندهم من الحكمة ولا أنعم الله من نعمة التروِّي ما يأخذ بحُجَزهم عن التقحُّم في المهالك؟ إن عقولهم في خفة عقل الفراش الذي يلقي بنفسه في النار وهو لا يعرف أن فيها هلاكه المحتوم! إن أوزون يظن، لقصور عقله، أن المفعول معه يشارك الفاعل في الفعل، ومن هنا نراه يخلط بينه وبين المعطوف، وهذا معنى سؤاله: "كيف يتم إنجاز الفعل من قِبل الإنسان والشارع معًا؟"، إنه لا يستطيع التمييز بين "واو المفعول معه" و"واو العطف"، فأي بلوى هذه يا إلهي! وإذا كان هذا هو مستواه في الفهم وفي النحو والإعراب، فلماذا لم يلزَم عُقرَ داره، ويغلق على نفسه بابه بالضبة والمفتاح، فيغنمَ السلامة على الأقل ما دام لا أمل في غُنمِه شيئًا من العلم يصلح به عقله وتستقيم معه حياته؟ إن هذه "الواو" تدل على الملازمة، لا على الاشتراك في الحكم، فحين أقول: "سِرْتُ والشارعَ" فلا يعني هذا أن الشارع قد سار معي، ولكن معناه أنني طوال سيري لم أفارقه، فإذا استقام استقمتُ مثله، وإذا انعطف يمينًا انعطفت معه، وإذا ذهب شمالاً اتبعته أيضًا ناحية الشمال... وهكذا[7]، ولو كنت أريد أن الشارع قد سار معي لقلت: "سرت (أنا) والشارع" برفع "الشارع" لا بفتحه، وحتى لو قلت ذلك ما كان عليَّ مِن بأس، فإن هذا من باب المجاز الذي يخلق اللغة خَلقًا جديدًا، ويُفيض عليها من بهائِه ما يرفعها عن الأرض إلى السماء.



[1] ص 88 / هـ8.

[2] ص66.

[3] ص68.

[4] علاوة على أننا لا يصح أن نأخذ نحوَنا عن الإيرلنديين، ويكفينا أننا ابتلينا بزكريا أوزون؛ فالمسألة لا تحتمل بلوى أخرى!

[5] ص 68.

[6] ص 77.

[7] ولذلك نترجم هذه الجملة إلى الإنجليزية والفرنسية مثلاً دون حرف عطف على النحو التالي: "I went along the street" "Je marchai avec" "la rue"؛ ولذلك أيضًا سميت "الواو" هنا "واو المعية"، ولم تسمَّ "واو العطف"، ومثل ذلك قولنا: "وُلد نبيل وأذانَ العشاء"، والمعنى أنه ولد عند أذان العشاء، لا أن أذان العشاء قد وُلد أيضًا مثله، وذلك من الجلاء بحيث لم أكن لأظن أن مِن البشر مَن يخطئ فهمه، ولكن ها هو ذا السيد أوزون يخيب ظننا!




ابوالوليد المسلم 11-03-2021 04:59 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(9)



د. إبراهيم عوض




... وعلى نفس الشاكلة من التخبُّط واضطراب الفهم أمام ما هو واضح لا يحتاج إلى شرح يقف حائرًا بائرًا أمام مرجع الضمير في مصطلح "المفعول لأجله" (في قولنا على سبيل المثال: "وقف الطلاب احترامًا للمعلم": ترى أيعود هذا الضمير على الفعل "وقف" أم على "المعلم" أم على "الطلاب"؟ هكذا يتساءل السيد أوزون، ثم يجيب قائلاً: "الواضح أن "المعلم" هو المفعول لأجله، فمن أجله تم الوقوف من قِبل الطلاب، أما "احترامًا" فهي سبب وقوف الطلاب، وهكذا يتضح لنا ثانية أن تلك التسميات بحاجة إلى إعادة نظر"[1]، ويلاحظ القارئ أن السيد أوزون قد ذكر أن "احترامًا" هي سبب وقوف الطلاب، وعلى هذا فهي المفعول لأجله؛ أي: السبب الذي فُعِل الفعل من أجله، وذلك هو ما يقوله النحاة؛ فـ "الاحترام" هو الدافع الذي من أجله قام الطلاب، إن وقوفهم يمكن أن يكون من أجل إظهار الاحترام لأستاذهم، أو للتعبير عن سخَطهم عليه، أو للاستهزاء به، أو للانصراف عنه... إلخ، يتضح هذا من الأمثلة الآتية: "وقف الطلاب سخَطًا على أستاذهم، أو استهزاءً به، أو انصرافًا عن درسه"؛ فالضمير في اصطلاح "المفعول لأجله" يعود إذًا على المصدر الذي فُعل الفعل لأجله، ولا معنى لكل هذا التخبُّط ولا للقول بأن "الأستاذ" هو المفعول لأجله؛ إذ الطلاب لا يقفون من أجل الأستاذ، هكذا بإطلاق، بل من أجل إظهار احترامهم له، أو سخَطهم عليه، أو استهزائهم به، أو مِن أجل الانصراف عنه كما قلنا.

ولعل السيد أوزون يكون قد فهم، وإلا فعوضي على الله في الوقت والجهد الذي أنفقته في الشرح والتفهيم، والذي سأنفقه كذلك في تفهيمه علامَ يعود الضمير في مصطلح "المضاف إليه" أيضًا؛ إذ يظن أن "الهاء" في هذا المصطلح تعود على الاسم الأول في عبارة "شجرة الدر" وأمثالها، ومن ثم يقترح تغيير اصطلاح "المضاف إليه" ليصبح "المضاف إلى ما قبله"[2]، وفات مقدرتَه على الفهم أن "المضاف إليه" هو الاسم الثاني لا الأول؛ فـ "شجرة" مضافة إلى "الدر"، وإذًا فـ "الدر" مضاف إليه، وذلك كما نقول: إن "البيت" في عبارة "وقفت أمام البيت" "موقوف أمامه"، وإن "القِبلة" في عبارة "اتجهت إلى القِبلة" متَّجَهٌ إليها، وإن "المرآة" في عبارة "نظرت في المرآة" منظور إليها... وهكذا، إنه لا يعقل أن نقول، في "كتاب محمد" و"أنف فاطمة" و"ثقب الإبرة"... إلخ، إن محمدًا هو المضاف إلى الكتاب، أو إن الإبرة هي المضافة إلى الثقب، إن هذا قلبٌ للأوضاع، لكن متى كان عند زكريا أوزون منطق حتى نطالبه باستعماله؟ ومع ذلك فمن يدري؟ فقد تنزل عليه رحمة الله ويفهم ما قلناه!

ونغادر "المفعول لأجله" منتقلين إلى باب "الحال"، ولكن يظل الارتباك باسطًا جَناحيه على عقل السيد المؤلف وفكره، فهو يقف عاجزًا أمام التفرقة بين "الحال" و"الصفة"، وبدلًا من أن يحاول بذل الجهد كي يفهمَ يسارع في عناد الصغار الذين يظنون أن على سُنن الحياة أن تتغيَّرَ كي تتوافق وما يشتهون، لا أن ينزلوا هم على حُكمها، قائلًا: إنه لا يوجد فرق بين "راكضًا" في قول زيد: "خرج طلال راكضًا من الملعب"، و"راكض" في قول عمرو: "خرج لاعب راكض من الملعب"، والسبب؟ السبب هو أنه لا يكفي، في هذه التفرقة، أنه قد تصادف أن زيدًا كان يعرف اسم اللاعب الذي خرج من الملعب فكان الفاعل معرفة، ومن ثم كانت "راكضا" حالًا، وأن عمرًا للأسف لم يكن يعرف اسمه، فاستخدم فاعلًا نكرة، وترتب على ذلك أن رفعت "راكض" على أنها صفة[3]، يريد، فيما أتصور، أن يقول: إن صاحب الحال يجب أن يكون معرفة، وما دام اللاعب في عبارة عمرو ليس معرفة، فكان لا بد من إعراب "راكض" صفة ورفعها من ثم، أقول: "يريد، فيما أتصور، أن يقول:..."؛ لأنه لم يقله صراحة، ولا أدري أتصوري هذا صحيح أم لا، ولكني أحاول أن أحسن به الظن؛ كي أجد لاعتراضه هذا أساسًا يقوم عليه، وإن كان من الممكن ألا تكون المسألة واضحة في ذهنه على هذا النحو، ولكن خَلِّنا فيما نحن فيه، ثم إنه يستمر في اعتراضه قائلًا: إن "راكض" وأشباهها لا تصلح أن تكون صفة؛ لأن الصفات لا تكون في الأمور الآنية والمؤقتة، بل للخَلْق والخُلُق حسب عبارته[4].

ونبدأ بالحديث عن صاحب الحال، وهل لا بد أن يكون معرفة فنقول: إن النحاة يشترطون ذلك حتى لا يكون هناك لَبْسٌ في عبارة: "قابلت طفلاً باكيًا في الشارع" وأمثالها؛ إذ نحتار بين إعراب "باكيًا" صفة (على أساس أنه قد تحقق فيها الشروط الأربعة من العشرة، وهي أن تتوافق الصفة وموصوفها[5] في الإفراد أو التثنية أو الجمع (وهما هنا مفردان)، وأن يتوافقا أيضًا في التذكير أو التأنيث (وهما هنا مذكَّران)، وأن يتوافقا كذلك في الرفع أو النصب أو الجر (وهما هنا منصوبان)، ثم أن يتوافقا في التعريف والتنكير (وهما هنا منكَّران، ومعروف أن الحال لا تكون إلا نكرة، اللهم إلا في بعض التراكيب المستثناة سماعًا)، وبين إعرابها "حالاً" على أساس أن شروط الحال قد تحققت فيها، وهي أن تكون منتقلة لا ثابتة؛ أي: صفة متغيرة لا ملازمة للموصوف، وأن تكون مشتقة لا جامدة، وأن تكون نكرة لا معرفة... إلخ[6]، لكن لا بد من التعقيب على ذلك بأن عبارة "قابلت طفلاً باكيًا في الشارع" لا تغطي كل التراكيب التي يمكن أن يرد فيها صاحب الحال نكرة؛ إذ من الممكن أن يكون صاحبها مرفوعًا، كما في قولنا: "خرج لاعب راكضًا من الملعب"، أو مجرورًا مثل "أمسكت بلص مكتوفًا"، وعلى هذا فإن خِيفَ اللَّبسُ في مثال "قابلت طفلاً باكيًا في الشارع" بحجة أن "راكضًا" هنا تصلح (من الناحية النظرية) أن تعرب صفة وحالًا في ذات الوقت، فإنه لا ينبغي الخوف من ذلك في المثالين الآخرين؛ لأن التوافق في الإعراب بين الفاعل أو الاسم المجرور وبين "راكضًا/ مكتوفًا" غير متحقق؛ إذ لا يصحُّ إعراب أي من هاتين الكلمتين صفة.

هذه واحدة، والثانية أن النحاة قد أتبعوا كل شرط من الشروط التي ذكروها للحال بأمثلة لا جدال في ورودها عن العرب، وفي موافقتها للعقل والمنطق والذَّوق اللغوي، ولكن لا يتحقق فيها هذا الشرط، بما يدل على أن هذه الشروط تغليبية لا حتمية، ومنها الشرط الذي يوجب أن يكون صاحب الحال معرفة، حتى إنهم استثنوا عدة حالات من ذلك، بل إن بعضهم لم يشترط هذا الشرط، ومنهم سيبويه[7]، الذي يهاجمه المؤلف بدءًا من عنوان كتابه، رغم أنه لم يرجع إلى ذلك الكتاب ولا مرة واحدة، ولا أظنه قد اطلع عليه، بل لا أظنه قد رآه قط، ومن الأمثلة التي يضربونها لذلك قولهم: "صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا، وصلى وراءه رجال قيامًا"[8].

وعلى ذلك، فلا أظن إعراب "باكيًا" في عبارة "قابلت طفلاً باكيًا في الشارع" على أنها "حال" أيضًا إلا جائزًا، وذلك إذا أردت القول بأنني قد قابلته وهو يبكي دون الاهتمام بالإشارة إلى أنه كان يبكي قبل مقابلتي إياه، أو أنه استمر يبكي بعدها، بخلاف ما لو أعربناها "صفة"؛ إذ المعنى أنه كان يبكي قبل المقابلة (وربما بعدها أيضًا)، فإذا عدنا إلى المثال الذي ضربه المؤلف، وهو "خرج لاعب راكض من الملعب" فإننا نقول: إنه يجوز رفع "راكض" أو نصبها حسب نيتنا: فإن كان المقصود أنه كان يركض قبل خروجه (وربما بعده أيضًا) قلنا: "خرج لاعب راكض من الملعب"، أما إذا كان المقصود النصَّ على أنه عندما خرج كان يركض دون أن نهتم بحالته قبل ذلك أو بعده (وربما لم يكن يركض قبله ولا ركض بعده) قلنا: "خرج لاعب راكضًا من الملعب"، وهي، كما يرى القارئ، نِكاتٌ دقيقة، ولا يعترِضَنَّ أحدٌ على مِثل هذه التدقيقاتِ بحجة أن معظم الناس ليسوا مستعدين لتضييع وقتهم أو إرهاق أذهانهم فيها؛ إذ الرد على هذا الاعتراض سهل، بل واجب، وهو أنه كلما زادت الرغبة في هذه الدقة، كان ذلك دليلًا على شدة الحساسية العقلية والتعبيرية.

أما لو أصر المعترض بعد هذا كله على اعتراضه، فليعرف أن هناك مَن لا يضيقون بهذا من ذوي العقول الرهيفة، والأفكار العميقة، والثقافة الرفيعة، وعلى أية حال فالامتياز بطبيعته ذو تكاليف مرهقة، لا يقدر على بذلها كل أحد، أما القول بأنه "كله عند العرب صابون" فهو عنوان على التخلُّف، ينبغي أن نكف عن ترديده، وما نجح الأمريكان والبريطانيون في احتلال العراق في هذه الأيام النحسات (وربنا يستر فلا يكررون ضربَهم فاحتلالَهم لبلاد عربية أخرى، وليس هناك ضمان لشيء من هذا) إلا لأنهم، إلى جانب أشياء أخرى، أكثر تدقيقًا منا؛ في التخطيط، والمتابعة، والصناعة، والسلاح، والتجسس، والحرب النفسية، وعمل الحساب لكل شيء، وفي كتب النحو الإنجليزية والفرنسية المطولة يجد القارئ هذه النكات الدقيقة، التي قد يظن بعضُنا أنها من سمات نحوِنا وحده، وبالمناسبة فاللغة الإنجليزية مثلًا تفرق، كما تفرق لغتنا، بين التركيبين اللذين نحن بصدد مناقشتهما، فتقول في "خرج لاعب راكض من الملعب": "A run- nig fotball- player came out of the field"، وفي "خرج لاعب راكضًا من الملعب": "A football - player came out of the fild rumming"، مما يدل على أن هناك نكتةً دقيقة توجب التفريق هنا، وهو ما شرحته آنفًا.


وأخيرًا، فإن زعم السيد أوزون بأن الصفة[9] لا تكون إلا في الخَلْق والخُلُق؛ أي: لا بد أن يتحقق فيها الدوام والثبوت، ومن ثم يجب إعراب كلمة "راكض" في قولنا: (خرج طلال راكضًا من الملعب) و"خرج لاعب راكض من الملعب" حالًا في الجملتين؛ لأن الركض ليس صفة ثابتة في الشخص؛ إذ لا يمكن أن يظل الإنسان طول عمره راكضًا - هو شرط غريب لم يقُلْ به أحد قط، وفي اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية يُعرِبون كلمة "راكض" على أنها "adjectif adjective، adjektif"؛ أي: "صفة" رغم أن "الركض" ليس من الصفات التي تلازم الشخص طول حياته، وواضح أن مؤلفنا الهُمَام قد أخطأ فهمَ قول النَّحْويين: إن مِن شروط الحال أن تكون منتقلة لا ثابتة، فقام في وهمه أن "الصفة" (أي النعت)، بطريق المخالفة، لا بد أن تكون ثابتة في الشخص لا تغادره ما لم يغادرِ الدنيا، فمن قال ذلك؟ إن النحو لا يؤخذ من الأوهام، وبخاصة إذا كانت أوهام السيد أوزون، الذي يغرق في شبر ماء! إن الصَّرْفيين يفرقون بين "اسم الفاعل" و"الصفة المشبهة" في بعض الأحيان على هذا الأساس، لكن لم يحدُثْ أن فرَّقوا بِناءً على هذا الاعتبار بين "الحال" و"الصفة" (أي النعت)، ومع ذلك فلا بد من القول: إن كثيرًا من صفات الخَلْق والخُلُق التي تستعمل لها الصفة المشبهة قد يعتريها التبديل: فالأعرج أو الأحول قد يبرئه الطب من حَوَلِه وعَرَجه، والرخيم الصوت قد يصبح صوته أجش، والجميلة قد يعرض لها ما يشوِّهُ وجهها، والأسود البشرة قد يُجري (مثل مايكل جاكسون) عملية جراحية تبيض وجهه، بل كثيرًا ما نرى صبيانًا وبناتٍ في صِغرهم لا يلفتون نظرنا بوسامة أو جمال، ثم إذا بهم بعد أن يكبروا وينضجوا يتحولون من حال إلى حال، بل لقد يصبح البخيل كريمًا، والشجاع جبانًا، وهذا كله مشاهَدٌ في الحياة مِن حولنا.

وقبل أن ننتقل من "الحال" نأخذ في طريقنا ما يهرِفُ به الكاتب الفهَّامة من أن "فرادى" أو "معًا" في عبارة مثل "جاء القوم معًا أو فرادى" لا يمكن أن تكون حالًا؛ لأنها، كما قال، "لا تبين هيئة الأشخاص، بل تبين كيفية مجيئهم"[10]، وقد ذكر "الهيئة" هنا بسبب ما قاله النحاة في تعريف الحال من أنها "وصف فضلة منتصب للدلالة على الهيئة"، لكنه كالعادة قد أخطأ فهم "الهيئة"، فتوهم أن المراد بها هو شكل الوجه وما أشبه ليس إلا، وأن الكيفية التي يكون عليها الشخص عند إتيانه الفعل أو عند وقوع الفعل عليه لا يدخل مِن ثَم في "الهيئة"، أرأيت، أيها القارئ الكريم، عبقريةً كهذه العبقرية؟ لكن "الهيئة"، رغم عجز كاتبنا عن الفهم، تغطي هذا وذاك جميعًا، وعلى هذا نقول في "الحال": إنها تدل على حالة الشخص، أو هيئته، أو موقفه آنذاك، أو الكيفية التي أدى الفعل بها، والمعنى في كل ذلك واحد، فنقول مثلًا: "قابلني سعيد متهلل الوجه، أو معسرًا، أو مسرعًا، أو منفردًا، أو خالعًا سُترتَه، أو صائحًا من الألم، أو وهو ذاهبٌ إلى الجامعة، أو وأبوه يضربه... إلخ".

هذا في الحال، أما التمييز فحسبنا منه ما جادت به قريحة مؤلفنا الألمعي في إعرابه كلمة "أرضًا" في قولنا: "اشتريت دُونَمًا أرضًا" أو "اشتريت دونم أرض"؛ إذ يركَبُ دماغَه (أو دماغه هي التي تركبه، لا يهم) قائلًا: إنها ليست هي التمييز؛ لأنها لم تميز كلمة "دونم"، ولم تُزِل عنها الإبهام، بل "الدونم" هو الذي ميز الأرض؛ لأنه قد بين لنا أن مساحة الأرض المشتراة مقدرة بالدونم لا بالفدان[11]، والواقع أن "دُونَمًا" في هذه الجملة مفعول به؛ لأنه قد وقع عليه فعل الشراء، لكن "الدونم" يحتاج إلى تحديد: أهو دونم مساكن مثلاً، أم دونم زراعة، أم دونم قمامة، أم دونم أرض؟ وما دام السيد أوزون كثيرًا ما يحاكم النحو العربي إلى قواعد الإنجليزية، فإننا نسأله: كيف يا ترى يعرب الإنجليز كلمة "دونم" في الجملة التالية: "I have bought a donun of land" إنهم يعربونها "[12]"a direct obgect"؛ أي: "مفعولًا به"، ثم إن كانت كلمة "أرض" في "اشتريت دُونَمَ أرضٍ" هي المفعول فيه، فكيف يكون المفعول به مجرورًا؟ أليست هي "مضافًا إليه"، أو كما يقول هو بجهل ورعونة: "مضافًا"؟ فليثبُتْ عبقريُّ آخرِ زمن على حل: مفعول به أم مضاف؟ نفتح الشباك أم نغلق الشباك؟ والواقع أن إعرابه للكلمة "مفعولاً به" أو "مضافًا" هو إعراب لا يمكن أن يدور إلا في ذهن معطوب!


[1] ص77 - 87.

[2] ص 86.

[3] أي نعت.

[4] ص 79 - 80.

[5] أي: النعت والمنعوت.

[6] انظر "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" لابن هشام /2/285 وما بعدها، وقد أهملت ذكر شرط رابع يختلف حوله النحاة، ولا يهم القارئ كثيرًا.

[7] انظر "أوضح المسالك" /2/278.

[8] انظر "شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك" /1/581.

[9] أي النعت.

[10] ص 80.

[11] ص 81.

[12] وبالفرنسية "un complement direct" بالمعنى ذاته.


ابوالوليد المسلم 11-03-2021 05:00 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(10)



د. إبراهيم عوض


... يتقدم السيد زكريا أوزون فرحًا ناظرًا إلى عِطْفيه في زهوٍ وتِيهٍ متوقعًا أن نشاركه هذا الرضا السامي عن نفسه، لكننا - بكل أسَفٍ وأسًى وندم - لا نستطيع مشاركته في ذلك العبث الصبياني، الذي يستحق صاحبه أن يُشَد من أذنيه ويقرص فيهما؛ حتى يعرف أن الله حق، ويتعلم أن يلزم حدوده، فلا يحاول الوصول إلى أعلى ناطحة السحاب مرة واحدة، بل عليه أن يبدأ الصعود إليه من الطابق الأرضي فالأول فالثاني فالثالث... وهكذا إلى أن يبلغ القمة، إن كان أوتي القدرة على مثل هذا الصعود، وإلا فليبقَ حيث هو، ولا يكلف الله نفسًا فوق طاقتها! ولكن ماذا قال مؤلفنا المزهوُّ المنفوخ؟ قال، لا فُضَّ فوه، ولا برئ من ألم الحسد ولا الحقد شانئوه!: إن "ما" عند النحويين تعمل عمل "ليس"، يقصد أنها ترفع الاسم وتنصب الخبر، كما يقولون، لكنه سرعان ما ينتكس ذهنه وينقلب كل شيء في عقله رأسًا على عقب أو عقبًا على رأس، فيسأل: "لماذا لا يكون التأويل: "لا أرى هذا بشرًا" عوضًا عن "ليس هذا بشرًا"، فتصبح "بشرًا" بدلاً (حسب مدرستهم وليس حسب رأينا) من "هذا"، التي تعرب مفعولاً به؟"[1]، وأنا أتحداه وأتحدى كلَّ مَن يقول بمثل هذا الهراء أن يذكر لي نَحويًّا (نحويًّا واحدًا، لا النحاة كلهم، كما يشير كلامه) يعرب "بشرًا" في جملة "لا أرى هذا بشرًا" بدلاً من "هذا"، إنهم يعربونها مفعولًا ثانيًا لـ "رأى" (بمعنى "لا أستطيع أن أعد هذا واحدًا من البشر، بل هو ملَك كريم")، أما إعراب الاسم الواقع بعد الإشارة بدلاً، فلا يكون إلا حين تدخل عليه "أل" في مثل "هذا الرجل أحبه"، لكن صاحبنا - كعادته - يغرق في شبر ماء رغم كثرة تصايحه بأنه من السبَّاحين الكِبار! ومع ذلك لا يخجل أن يهاجم النحاة والنحو واللغة الفصحى، وهو منطق العاجزين من ذوي الوجوه السميكة!

وهو يعترض على إعراب "أي" في جملة "أيَّ الطعامِ آكُلُ" مفعولًا به؛ إذ المفعول به في رأيه هو "الطعام"[2]، جاهلًا أن الطعام هنا لا يمكن أن يكون هو المفعول به؛ لأن فعل الأكل لن يقع على الطعام كله، بل على نوع منه أو أكثر يحاول السائل معرفته، إن إعراب اسم الاستفهام يتضح من إعراب ما يقابله في جملة الجواب، وجواب هذا السؤال هو: "كُلِ البازلاء" مثلاً، وبما أن الذي يقابل كلمة "أي"، وهو "البازلاء"، مفعول به، فـ "أي" إذًا مفعول به.

وهذا إعرابها أيضًا في اللغات الأجنبية، ولكن ماذا نقول للعقول الغُلْف والقلوبِ التي عليها أقفالها؟ ثم إن "الطعام" في الجملة "مضاف إليه"، والمضاف إليه لا يمكن أن يكون له إعراب آخر، على عكس المضاف، الذي يكون (إلى جانب كونه مضافًا) مبتدأ أو خبرًا أو فاعلًا أو مفعولًا أو مجرورًا بحرف جرٍّ أو منادى... إلخ، وحتى لو أعربنا "الطعام" رغم ذلك كله مفعولًا به، فماذا سيكون إعراب "أي" في هذه الحالة؟ إن مِن أعجبِ العجَب أن يتصدى هذا الجهلُ بكل سماكته لمثل تلك الأمور، وهو لا يعرف الألف من كوز الذرة[3]، كما يقول العامة عن أمثاله؟

كما يعترض مؤلفنا بنفس الجهل على ما يقوله النحاة من أن الجُمَل التي لا محل لها من الإعراب هي الجُمَل التي لا يمكن تأويلها بمفرد، ومنها جملة الصلة، متسائلًا في تهكُّم غبي: ما الذي يمنعنا من تأويل جملة "جاء الذي يحبه الناس" بـ "جاء المحبب للناس مثلاً"؟ ثم يجيب بجهل أشدَّ غباءً قائلاً: "فيأتي الجواب أنك أضفت للاسم المفرد: "المحبب" إلى "الناس" ليكتمل المعنى"[4]، وهذان السطران هما الجهل المركب بشحمه ولحمه؛ فأولًا: جملة "يحبه الناس" (التي هي جملة الصلة) لا يمكن فعلًا تأويلها بمفرد، أما الذي فعله سيادته فهو أنه استبدل بالاسم الموصول الذي صلته (يحبه الناس) اسمًا موصولًا آخر (هو "أل") وصلة أخرى (هي "محبب للناس")؛ فهو لم يُحلَّ اسمًا مفردًا محل جملة صلة، بل أحلَّ اسمًا موصولاً وصلته محل اسم موصول آخر وصلته، وبذلك عدنا إلى المربع رقم واحد من جديد، وكأنك يا أبا زيد ما غزَوْتَ، وثانيًا: أين الإضافة في قوله: "المحبب للناس"؟ ترى كيف يمكن التفاهم مع صاحب مثل هذا العقل الغريب الذي لا يفهم كسائر عباد الله؟ وماذا نفعل مع مَن نقول له: "ثَوْر!"، فيقول: "احلبوه"؟ وأعجب من ذلك أنه يهاجم النحوَ والنحاة باسم العقلانية والمنطق؟ أية عقلانية ومنطق يا سيد أوزون؟ لقد كِدْنا، من كثرة ما ناقشنا هذا الجهل الذي يلبَسُ لَبُوس العقلانية، أن نفقِدَ عقولنا! سَتْرَك اللهم!

وبنفس هذا الجهل أيضًا يتناول إعراب آية: ï´؟ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ï´¾ [البقرة: 177] ساخرًا من قول النحاة: إن "البِرَّ" خبر مقدم لـ "ليس"، و"ï´؟ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ... ï´¾" هو اسمها، إن سيادته يتوهم أن عبارة: ï´؟ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ï´¾ [البقرة: 177] هي جملة، فكيف تكون إذًا اسما لـ "ليس"، رغم أن أيًّا من الجمل التي لها محل من الإعراب لا يمكن أن تكون خبرًا لـ "ليس"؟[5] وسرُّ هذا التخبُّط هو حسبانه أن عبارة: ï´؟ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ... ï´¾ هي جملة، مع أنها في الحقيقة ليست كذلك، بل هي مصدر مؤوَّل بالصريح، بمعنى "تولية وجوهكم"، فهي اسم مفرد إذًا لا جملة، ولكن لو أسقطنا الحرف "أن" وصار الكلام "تولون وجوهكم" فقط لأصبح عندنا في هذه الحالة جملة، وكان اعتراضه يكون صحيحًا لو جاء الكلام هكذا: "ليس البر تولون وجوهكم...". هذا هو الحق الذي لا مِريةَ فيه، الذي لا يستطيع السيد أوزون أن يفهمه! كان الله في عونه! وفي عوننا نحن أيضًا!

والشيء ذاته نجده في الفرنسية مثلاً، وتدليلًا على ذلك أسوق ترجمة بلاشير وديمومبين في كتابهما في النحو العربي لقوله تعالى: ï´؟ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ï´¾ [النساء: 25]؛ إذ ترجماه هكذا: "Que vous suppro - tiez (est) un [6]،bien pour vous كذلك فمعروف أن اسم "ليس" هو في الأصل مبتدأ، وأن الـ "subject" في الإنجليزية يقابل "المبتدأ" عندنا، ومن التراكيب الإنجليزية التي وردت فيها الجملة المسبوقة بـ "that" (وهي الجملة التي تناظر المصدر المؤول بالصريح في لسان الضاد) "subject": فاعلاً" ترجمة الآيتين الكريمتين: ï´؟ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ï´¾ [البقرة: 184]، ï´؟ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ï´¾[البقرة: 237] عند شاكر وإرفنج على الترتيب هكذا: [7]"That yot fast [8]، is better for you"، "That you forego it is nearer heedfulness" ولعل زكريا أوزون تهدأ أعصابه بعد أن عرَف أن الإنجليزية والفرنسية تصنعانِ الشيء نفسه الذي أنكره (بجهلٍ طبعًا) على لغة الضاد!

أما في قوله تعالى في الآية 162 من سورة "النساء": ï´؟ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ï´¾ [النساء: 162]، فيقول: إننا نلاحظ أن كلمة "المقيمين" جاءت منصوبة بالياء، والأصح أن تأتي مرفوعة (المقيمون)، سواء كانت معطوفة على "الراسخون"، أو مبتدأ بدأنا به الجملة الاسمية حسب مدرستهم... إلخ"[9]، وفي هذا الكلام ما فيه من خروجٍ على الأدب؛ فهو ينصِّب نفسه حاكمًا على القرآن الكريم ولُغتِه، فيقول: "إن الأصح أن نقول كذا"، بما يعني أنَّ ما جاء به القرآن أقل صحة، وهو بهذا يرتقي مرتقًى صعبًا، بل مستحيلاً على أمثاله؛ إذ قد رأينا بضاعتَه، وهي لا تعدو أن تكون من كُناسة السوق آخر النهار! ترى هل باستطاعته أو باستطاعة أحد الآن أن يخطِّئ القرآن، حتى لو قيل: إنه من عند محمد صلى الله عليه وسلم؟! إن اللغة إنما تؤخذ من القرآن، وهذا ما ينبغي أن يَدين به كلُّ أحد، حتى الكافرون؛ إذ هو (في أسوأ التقديرات) كلام قاله عربي أصيل، وتحدى به العرب الأُصلاءَ أجمعين، فلم يرُدَّ أحدهم بكلمة يشتمُّ منها رائحةُ اعتراض أو تخطئةٍ لشيء من أسلوبه، وغاية ما قالوه: "لو نشاء لقلنا مثل هذا"، ولم نسمع أحدًا منهم يقول: إن الصواب في هذه الكلمة منه أو الأصوب أن تكون كذا بدلاً من كذا[10]، فما معنى أن يأتي جُوَيْهِلٌ في آخر الزمان فيقول: إن الأصحَّ أن ترفع "المقيمين"؟


وعلى طريقة: "رمَتْني بدائها وانسلَّت" يرمي كُوَيْتِبُنا نحاتَنا القدامى بأنهم يتطاولون على كتاب الله، هكذا "خبط لزق" كما نقول نحن المصريين! أوَتدري، أيها القارئ الكريم، تهمة هؤلاء النحاة؟ تهمتهم أنهم أعربوا كلمة "ملة" في قوله عز شأنه: ï´؟ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ï´¾ [الحج: 78] بأنها منصوبة على الإغراء[11]، بمعنى "الزَموا ملَّةَ أبيكم إبراهيم ولا تتخلَّوْا عنها"، فهل يستطيع أحد القطط حاسة شم أن يجد في هذا الكلام أية رائحة تطاول؟ إن كُوَيْتِبَنا قد أصيب إصابة قاتلة في حاسة الشم لديه؛ فهو ينفِرُ من رائحة الورود والرياحين ويتأذى منها، ويتلذَّذُ بدلاً منها بعطر الجيف والفضلات، وهذا هو السبب الوحيد الذي يمكن أن يفسر لنا توهمه التطاولَ على كتاب الله في كلام نَحْوِيِّينا المساكين، وإذا لم يكن هذا الإعراب يُقنِع كُوَيْتِبَنا أو لم يكن يعجبه، فما هو الإعراب الصحيح في نظره؟ إنه لا يقدم لنا شيئًا، بل يكتفي بالهدم (الهدم الأرعن الجهول) غيرَ مُعَنٍّ نفسَه بالبناء، وهذا عيبٌ آخر من عيوب الكتاب.


[1] ص 99.

[2]انظر ص108.

[3]و"كوز" الذرة هو "العرنوس" عند إخواننا أهل الشام.

[4]ص 114، وواضح أن الجملة الأخيرة بحاجة إلى تصويب لتكون: "... أنك أضفت الاسم المفرد ... إلى الناس".

[5]انظر ص119 - 120.

[6] Grammaire de l Arabe Classiue، p. 389.

[7] Holy Qyran - Translated by M.H. Shader، Ansariuan Publications، Qum، P. 25.

[8] Holy Quran - Translation and Commentary by T.B. Irv - ing، International Publishing Co.، Tehran، 1418 - 1998، P. 20.

[9] ص 124.

[10] من هنا فلا معنى لاستدراك زكريا أوزون (هذا الاستدراك ذي المغزى) بأنه، رغم كونه مسلمًا مؤمنًا بكتاب الله عز وجل، لا يمكنه فرضه على العربي غير المسلم ليكون مرجعيته العربية المعتمدة (ص 171)، أقول: لا معنى لهذا الاستدراك؛ لأكثر من سبب؛ فأولًا: لم يقل أحد من المسلمين بفرض كتاب الله على أحد، بل المنطق يفرض ذلك؛ لكون القرآن المجيد نصًّا عربيًّا؛ فهو مرجع لقواعد اللغة، مَثَله (على أسوأ تقدير) مَثَل شِعر امرئ القيس وطرفة وعنترة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير، وخُطَب قسِّ بن ساعدة وأمية بن أبي الصلت ... إلخ، وثانيًا: فإن يهود العرب ونصاراهم يقرؤون كتابهم المقدس مترجمًا إلى العربية الفصحى بنفس القواعد التي نزل بها القرآن، وإن حاول زكريا أوزون عبَثًا أن يدخل في رُوع القارئ أن أهل الكتاب من العرب يقرؤون كتابهم في لغةٍ غير لغتنا، أو على الأقل بغير العربية الفصحى، وهو بطبيعة الحال غير صحيح البتة، وثالثًا: لماذا يتحدث أوزون أو غير أوزون باسمهم، وهم، والحمد لله، ذوو ألسنة تستطيع التعبير عما تريد؟ إن محاولة بعض المنتسبين إلى الإسلام دقَّ الأسافين بين المسلمين وغير المسلمين في الوطن العربي هي محاولة سخيفة ومتنطعة وسيئة المقصد، فليكُفَّ هؤلاء عن هذه الاستفزازات الشريرة التي تهدف إلى إثارة غير المسلمين ضد القرآن الكريم وأهله، إننا بطبيعة الحال نؤمن أن القرآن هو الكتاب الحق، بَيْدَ أننا لا نفرض هذا على أحد، بل نرى أن من حق غيرنا أن يؤمن بعكس هذا تمامًا، ولكن هذا أو ذاك لا ينبغي أن يكون مدخلًا إلى الدعوة لنَبْذِ اللغة العربية أو تجاهل القرآن الكريم في قضية الصحة اللغوية؛ لأنه ضد منطق اللغة ذاته.

[11] انظر ص 130.




ابوالوليد المسلم 11-03-2021 05:00 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(11)



د. إبراهيم عوض




ما أسهلَ الهدمَ على أي متطاول أو أهوج امتلأت نفسه بشهوة الحقد والتدمير! لكن العبرة بالمقدرة على البناء وتقديم البديل، إن الكاتب يعترض مثلًا على مفهوم "نائب الفاعل" ومصطلحه قائلًا: "إن الأفعال المبنية للمجهول هي الأفعال التي حُذِف فاعلها وناب عنه غيرُه، وفي هذا التقسيم الرهيب نجد أن النحاة أيضًا قد اهتموا بالحركة في آخر الكلمة، وهي الضمة في حالنا، ونسُوا المنطق وإعمال العقل"، ثم يضرب جملة "كُسِر الزجاجُ" مثلاً على ذلك المبني للمجهول، ليعقب بقوله: "لقد لاحظ النحاةُ أن كلمة "الزجاج" في مثالنا السابق قد جاءت مرفوعة، فسمَّوْها "نائب فاعل"؛ لأنها نابت عنه في حركة الرفع، ضاربين عُرْضَ الحائط بكل المعايير والمقاييس المنطقية، ويطلبون مِن الطلاب أن يفهموا ويحفظوا تلك القواعد التي لا تتطابق فيها الدلالات والمدلولات، ثم كيف لنا أن نقول في إعراب "كُسِر": فعل ماضٍ مبني للمجهول؟ كيف نبني أمًرا على المجهول؟ وهل يبنى شيء على ما يسمى المجهول؟ فالمجهول غير معروف، فكيف نبني عليه؟ ما هذا الكلام؟ وما هذه المعاني التي لا نرى عند فكفكتها إلا الخروج عن كل ما يمكن تصوره في عقولنا من مفاهيم وأفكار؟"[1].

والواقع أنني لم أملِكْ نفسي عند قراءة هذه السطور من القهقهة... وطريقةُ تفكيره هنا قد أيقظَتْ من بين ركام الذكريات في ذهني الدليلَ الذي كان يستدل به شيخٌ أمِّيٌّ بقريتنا في صبايَ البعيد على أن أبا بكرٍ الصِّدِّيق كان يكبُرُ النبيَّ عليه السلام سنًّا؛ إذ كان هذا الأميُّ العجوز يضيف قائلًا: "والدليل على ذلك أن الرسولَ كان يناديه: يا أبي بكر"، يظن أنه كان يقول: "يا أبي" على سبيل التبجيل؛ لأنه في سن أبيه! فهذا من ذاك، وعقل الأستاذ أوزون وعقل ذلك الأميِّ متطابقانِ كحذوِك النَّعْلَ بالنعل! وكنا نحب لو أن الأستاذ المؤلف النِّحرير قد فطَّنَنا إلى وجه الصواب في هذا الموضوع، لكنه أبى إلا أن يحرِمنا من علمه الغزير، ويتركنا في الظلام الحالك نتخبَّط، كان الله في عوننا!

ومع ذلك فلنحاول، على ما في عقولنا من كلال وقصور، أن نبحث الأمر، لعلنا مستطيعون أن نبلغ فيه ما يشفي صدور قوم جاهلين حائرين، إنه يستغرب كيف يبنى أمرٌ على مجهول، حسن، أوليس كثير جدًّا من الأبنية في العالم مبنيًّا على مجهول؟ ألا تقيد كثير من القضايا في المحاكم ضد مجهول؟ أليس بين البشر من هم مجهولو الأب والأم؟ أوليست حياتنا نحن بني الإنسان مبنيَّةً - في أغلبها - على مجهول ما دمنا لم نؤتَ مِن العلم إلا أقل القليل؟ إنني أستطيع أن أمضي في ضرب هذه الأمثلة فلا أنتهي، بَيْدَ أني أضيف هذا المثال ثم أكُفُّ بعده، فأقول: ألست أنا الآن أردُّ على زكريا أوزون وأنا لا أعرف عنه شيئًا؛ فهو بالنسبة لي، وكذلك بالنسبة للقراء الذين سيقدر لهم أن يقرؤوا كتابي، مجهول؟ ألست، وأنا أكتب هذا الكتاب، أجهل ما إذا كان سينشر أو لا، وأي دار نشر ستنشره إن قُيِّض له أن يُنشَر؟ هل منعني شيء من هذا أن أكتبه وأتحمس له؟

أما "ما معنى مصطلح "المبني للمجهول"؟" فهو أن الفعل صِيغَ على أساس أن الفاعل مجهول؛ فهو إذًا لم يُبْنَ لفاعل معلوم، بل لفاعل مجهول، فسمي من هنا "مبنيًّا للمجهول"، أيجد القارئ في هذا التفسير أدنى صعوبة؟ بَيْدَ أن كاتبنا اللَّوذعيَّ لا يسَعُ عقله أن يفهم ذلك التفسير، وأترك للقارئ الحُكم على مِثل ذلك الرجل الذي لا يعجبه مع هذا أحد! ثم إن ذلك التركيب معروف في اللغات الأخرى، فلماذا الإنكار على العربية وحدها؟ وإذا كان ذلك التركيب لا يعجب صاحبنا، فأين البديل الذي يطرحه عوضًا عنه؟ وفضلاً عن هذا ففي الإنجليزية والفرنسية يسمُّون هذا التركيب: "passibe voice/ voix passive"؛ أي: "صوت سلبي"، فماذا يقول السيد المؤلف في هذا؟ أتراه سيصبح مستنكرًا أن يُبنَى الفعل على صوت سلبي؟ لا إِخالُه يفعل ذلك؛ فالعِفريت الذي عليه لا يهيج ولا يُستفَزُّ إلا إذا ذُكرت اللغة العربية والنحو العربي والنحاة العرب! إنه عِفريتٌ تخصُّصُه الرغبةُ في تحطيم لغة القرآن! بل إن هذه اللغات تظل محتفظة للاسم الذي يحل محل الفاعل باسم "الفاعل" رغم أنه لم يفعل الفعل، ولا تحقَّق من خلاله الفعل، بل وقع عليه الفعل، إن اللغة العربية تسمِّيه في هذه الحالة "نائب الفاعل"، وهي تسميةٌ في موقعها تمامًا؛ إذ إن "الفاعل" قد غاب وحل هذا محله وناب عنه، فقد جاء بعد الفعل مباشرة في المكان الذي يشغله الفاعل، كما تغيَّرت حالته من النصب إلى الرفع، فأيُّ هذه اللغات هي اللغة الأكثر دقة؟ أليست لغة القرآن؟ ولكن ماذا نفعل للذين في وجوههم عيونٌ ولكنهم لا يبصرون، وفي أدمغتهم أمخاخٌ إلا أنهم لا يفهمون؟


ومن اعتراضاته التي يكتفي فيها بالرفض والتصايح ثم لا يقدم البديل (وما أكثر ذلك كما قلت!) رفضُه إعراب "الياء" الملحقة بالفعل في "أكرمني ربي" وأشباهها من الجُمل على أنها ضمير متصل في محل نصب مفعول به، قائلاً في تهكُّم مضحك: "ما معنى ذلك؟ وما هذا الأسلوب في المحاكمة والتفكير؟"، ونتساءل: أين المحاكمة هنا؟ ومن يحاكم من؟ ولا تسمع لسؤالك غير رجع الصدى! ومنها أيضًا تعليقه على إعراب "الواو" التي قبل "العصا" في بيت المتنبي المشهور:
لا تشترِ العبدَ إلا والعصا معه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إنَّ العبيدَ لأنجاسٌ مناكيد[2] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


بأنها "واو الحال"؛ إذ يتساءل في غضب نزق: "ماذا نعني بقولنا: إن الواو (وهي حرف) حالية؟ إن هذه التسمية لا مبرر لها (حتى لو قال بعضهم بأن الجملة بعدها في محل نصب حال)، ولا مدلول لها، وهي وهم لتأويل وهمي يأتي بعدها"[3]، ثم ينتقل إلى شيء آخر وكأنه قد قال كلمة الفصل التي لا تحتاج إلى مزيد، مع أنه لم يقُلْ شيئًا!

ومن هذا الوادي كذلك سخَطُه على من يعرب "ما" والفعل التالي لها في قوله تعالى: ﴿ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ [التوبة: 118] بأنها "مصدرية غير ظرفية"، وأنها وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بحرف الجر، تقديره "برحبها"، قائلًا: "ما هذا التفكير والتأويل العقيم؟ وما حاجتنا إلى تأويل أو استبدال... "بما رحبت"... بـ"رحبها"؟ ما هو الدافع؟ وما هو الهدف؟ وما هي الغاية؟ وما الفائدة من مصطلح "مصدرية ظرفية وغير ظرفية"؟ ما هذه المصطلحات التي أفقدت اللغةَ جمالها وجعلتها وهمًا لا حقيقة؟ وهل هذا التخيل الخيالي يغني الآيات الكريمة السابقة ويوصلنا إلى معناها الحقيقي أم يبعدنا عنه؟"[4]، ثم لا يشغل نفسه ولو لِثوانٍ في اقتراح البديل، متصورًا أن في الفهم العامي لهذه الآية التي يأخذها "شَرْوَة" دون تدقيقٍ وتعميقٍ الغُنْيةَ كلَّ الغُنْية، معيدًا إيانا بهذه الطريقة إلى ماضي البشرية السحيق أيام أن كانت الأمور تدرك إدراكًا شاحبًا لا يتعلق منها إلا بخطوطها العراض! وعلى ذلك قِسْ سائر تعبيراته المنفعلة التي ترمي أشداقها بالزَّبَد في كل اتجاه دون أن تقدم لك شيئًا، والتي يمكنك أن تجد بعضًا آخر منها في الصفحات 28، 29، 32، 41، 64، 65، 68، 75، 134... إلخ.


[1] ص 42 - 44.

[2] صدق المتنبي: "إن العبيد لأنجاسٌ مناكيد!"، ومنهم عبيد الفكر والعقيدة: سِحَنُهم كسِحَنِنا، وأسماؤهم كأسمائنا، ولكن قلوبهم تُبغِضنا وتُبغِض مقومات وجودنا وحضارتنا!

[3] ص80.

[4] ص 100 - 101.





ابوالوليد المسلم 11-03-2021 05:01 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(12)



د. إبراهيم عوض






.. وإلى جانب ما مر ينبغي أن نضيف ما قاله في مسألة "المصطلحات"؛ إذ ثمة مصطلحات ينبغي في رأيه أن تغير، ومنها مصطلح "الحرف"، مثل: "قد، ومن، والواو، وهل، ولم، وما، وإلى، وسوف... إلخ"، فهو يرى أن استعمال هذا المصطلح لتلك الكلمات وغيرها هو استعمال خاطئ، ويجب نبذُه والاستعاضة عنه بكلمة "الأداة"، وشبهته أن "عن" مثلاً مؤلَّفة من حرفين لا حرف واحد، و"إلى" مؤلفة من ثلاثة أحرف، و"لكن" من أربعة... وهكذا، فلا تطابق إذًا بين الدالِّ والمدلول[1]، ومن الواضح أنه لا يفهم معنى كلمة "مصطلح"، وأنه لا يتطابق عادة مع المعنى اللغوي الأصلي للكلمة؛ فـ: "الصلاة" مثلاً تعني في الأصل "الدعاء"، لكنها في الاصطلاح تعني شيئًا آخرَ أوسع من الدعاء، وأكثر تعقيدًا، وعلى هذا فليس هناك أدنى خطأ في استعمال مصطلح "حرف" للدلالة على "قد" أو "سوف"، أو غيرهما من الكلمات المكونة من أكثرَ من حرف، وهذا لو كان الحرف يعني فعلاً في أصل اللغة الألف والباء والتاء... إلى آخره، لكن هل هناك دليل على هذا؟ إن هذه الكلمة لم ترِدْ في القرآن الكريم بمعنى "الحرف الهجائي"، أما بالنسبة للشِّعر الجاهلي فإن الانطباع الذي عندي أنه، مثل القرآن، يخلو مِن استعمال هذه الكلمة بالمعنى الذي نتحدث عنه الآن، لكنَّ هناك حديثًا يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا أقول: "ألم" حرف، ولكن "ألف" حرف، و"لام" حرف، و"ميم" حرف"))، فإذا صح هذا الحديث يكون الرسول عليه السلام قد استعمل كلمة "حرف" للدلالة على كلمة من ثلاثة أحرف، وللدلالة أيضًا على كل حرف من أحرفها الثلاثة، وبذلك لا نستطيع أن نجد في ذلك الحديث حجَّةً لدعم هذا الرأي أو ذاك، وأيًّا ما يكن فكلمة "حرف" كانت تعني في البداية "طرَف الشيء"؛ كما جاء في الآية 11 من سورة "الحج"، ولو أخذنا برأي السيد أوزون فسوف نعترض على استخدامه بمعنى "الحرف الهجائي" أيضًا.



ثم ماذا يقول في استعمال القرآن الكريم للفظ "كلمة" إشارةً إلى عبارة مكونة من عدة كلمات لا من كلمة واحدة، وذلك في قوله عز شأنه: "قال (أي الكافر): ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ [المؤمنون: 99، 100]؟ فالكلمةُ هنا تشير إلى قول الكافر: "رب، ارجعونِ لعلي..."، كذلك ما العمل في "الحروف" المكونة من حرف واحد مثل "الواو والباء والتاء واللام والسين وهمزة الاستفهام؟ أنستبقي لها مصطلح "الحرف"؟ ونفس الشيء يقال عن "الأداة" التي يقترحها ذلك الهمام؛ إذ "الأداة" (كما نعرف جميعًا) هي الآلة التي يستخدمها كل صاحب حِرْفة في عمله، ومن ثَمَّ فمن السهل الاعتراض عليها بذات الطريقة التي يعترض بها السيد أوزون على مصطلح "الحرف"، ولسوف ندخل بتلك الطريقة في متاهة لا يمكننا الخروج منها!



ومن ذلك اعتراضُه المتكرر على مجيء "المبتدأ" متأخرًا عن الخبر، وسخريَّتُه من هذا، وتأكيد أنه تناقض؛ إذ كيف يكون "مبتدأً" (أي تبتدئ به الجملة) ومع ذلك يتأخر إلى وسطها أو آخرها؟[2]، وواضح أنه يأخذ كلمة "المبتدأ" على معناها الحرفي، غافلًا عن أن هذا اصطلاح، وفي الاصطلاح لا تبقى الكلمة على معناها اللُّغوي الأول، بل يعتريها بعض الانزياح من خلال توسيع المعنى أو تضييقه، أو الانتقال به من الحقيقة إلى المجاز... وهلم جرًّا؛ فـ: "الفاعل" مثلًا في النحو لا يشترط فيه أن يكون قد فعل الفعل، كما هو الوضع مع أفعال مثل "مرض" و"عطش" و"مات"، أما الأمر في "الجرِّ" فأوضح كثيرًا؛ إذ ما علاقة "الجر" على المعنى الذي نعرفه بكسر الاسم مثلًا؟ وعلى هذا يقاس استعمال مصطلح "المبتدأ"، الذي قد يأتي فعلًا في أول الكلام؛ كما في قوله تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46]، أو يتأخَّر عن الخبر؛ كما في عنوان الفلم المشهور: "في بيتنا رجل"، ولم يشترط النحاة في المبتدأ أن يأتي في أول الكلام؛ فقد جاء في شرح ابن عقيل مثلًا أن "المبتدأ" اسمٌ أو بمنزلته، مجرَّد عن العوامل اللفظية أو بمنزلته، مُخبَرٌ عنه، أو وصفٌ رافعٌ لمكتفًى به"[3]، بل إنهم نصوا نصًّا على مجيئه في عدد من الحالات متأخرًا عن خبره، وهذا متعالم لا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه، ومع ذلك فإن من الممكن المجادلة بأن المبتدأ إن تأخر في بعض التراكيب عن خبرِه، فليس هذا هو الوضع الأصلي له، بل الوضع الأصلي هو تصدُّره للجملة، وهذه عملية يقوم بها الذهن تلقائيًّا، وفي التوليدية التحويلية في النحو ما يسمونه بـ: "البنية العميقة للجملة"، والمقصود بذلك التركيب الأصلي الذي يمكن أن يدخل عليه مع هذا من التحوير ما يتولَّد معه تراكيب أخرى تخالف ذلك التركيب، وفي اللغة الإنجليزية والفرنسية يقابل الـ "subject/sujet" المبتدأ، وهذا الـ "subject/ sujet" موضعه عندهم في صدر الكلام، لكن هذا لا يمنع أن يتأخر في بعض الحالات عن الخبر (the predicate predicat، وهو ما يسمونه: "inversion"؛ أي: "الانقلاب"، أو باصطلاح النحاة عندنا: "التقديم والتأخير"، وحتى في الحياة العملية كثيرًا ما يتقدم المرؤوس على الرئيس، كما هو الأمر عند إلقاء الحاكم خطابًا مثلًا؛ إذ يسبقه المذيع ليعلن عن هذه الخطبة للجمهور، كما كان الملوك قديمًا يأمرون طبَّاخيهم أن يتذوَّقوا الطعام الذي يقدمونه لهم قبل أن يمدوا هم أيديهم إليه؛ حتى يطمئنوا إلى أنه غير مسموم، ولكن يا ويل من تسول له نفسه، في غير هذه الحالة، أن يمد يده إلى الأكل قبلهم! وفي كل بلاد العالم يجلس المدرس في صدر الفصل مواجهًا التلاميذ، ورغم ذلك قد تضطره الظروف أن يترك هذه الصدارة ويقف وراءهم في آخر الغرفة، وذلك عند قيامه باستخدام آلة عرض الشرائح والصور مثلاً، ثم ألم تسمَعْ يا سيد أوزون أن لكل قاعدةٍ شواذَّ؟ هداك الله! ولا تكن مناكفًا، فكلما قال النَّحْويون شيئًا قلت أنت عكسه، كأنك "الشريك المخالف"!



وأعجب من ذلك وأدعى إلى الدهشة استنكارُ كاتبنا مصطلح "الأسماء الموصولة"، ودعوته إلى تسميتها هي أيضًا "أدوات"، وشُبهته في هذا أنها "ليست معارف"[4]، بما يعني أن "الأداة" عنده تقابل "المعرفة"، والمعرفة أحد قسمي "الاسم" من حيث التعريف والتنكير؛ أي: إنه يعد الأسماء الموصولة "أسماء"، لكنها غير معرفة، ومع ذلك وضعها هي و"الحروف" في سلة واحدة مطلِقًا عليها جميعًا: "أدوات"، فأي اضطراب في الفهم والتصنيف هذا؟! واضح أن الرجل قد زجَّ بنفسه فيما لا يفهم أو يحسن، وهي جرأةٌ منه لا أملِك إلا أن أعترف بأني أحسده عليها؛ إذ إني من الذين إذا فكروا في كتابة شيء شعَروا بالرهبة، واتهموا أنفسهم، وتريَّثوا قبل الاعتراض على شيء، وراجعوا ما يعِنُّ لهم قبل تسجيله على الورق، ونظروا في الآراء الأخرى التي قيلت في الموضوع لعلها أن تنبِّهَهم إلى أخطاء يستدركونها قبل إذاعتها على الجمهور، ثم هم يتهمون أنفسهم ويحبون أن يضعوا في حسبانهم بعد ذلك كلِّه أن من الممكن أن تكون بعضُ الأخطاء قد تسرَّبت إلى ما كتبوه، أما السيد أوزون فإنه، فيما هو بيِّنٌ مِن الكتاب الذي بين أيدينا، يهجم على موضوعه رغم قلة البضاعة مِن الفهم والتصور والقراءة، غيرَ مبالٍ بالموقع الذي تقعه كلماته واعتراضاته؛ إذ يكفي أن يطلق لقلمه العِنان فيكتب القلم ما يخطر له، والقلم (كما نعرف) جمادٌ لم يُرزَق للأسف عقلًا ولا مقدرة على المراجعة والتثبُّت، ولا يعرف شيئًا اسمه التشكك!



أما لماذا يرفض المؤلف العبقري أن يعد "الاسم الموصول" معرفة، فيتضح من المثال التالي الذي ضربه، وهو: "جاء الذي لا يعرفه أحد"؛ إذ يعلق بأننا "عندما نقول: "جاء الذي لا يعرفه أحد" يتضح تمامًا أن "الذي جاء" غيرُ معروف من أي شخص، فكيف يكون معرفة؟"[5]، ناسيًا أن عبارة "الذي لا يعرفه أحد" قد عرَّفت به وبيَّنت لنا أنه غير معروف لنا، وهو ما يميزه عن الباقين الذين نعرفهم، وهذا هو التعريف المراد عند النحاة، لا التعريف بمعنى أن الشخص معروف الاسم والسن ولون البشرة والطول والعرض والوظيفة والبلد وتاريخ الميلاد والأسرة التي ينتمي إليها... إلخ، يعرف ذلك عنه القاصي والداني والدنيا جمعاء، وإلا فليس هناك من الأشخاص المعارف إلا أقل القليل، وهم الذين طبَّقت شهرتهم الآفاق، وكانت لهم سمعة عالمية، وإن أمكن التشكيك حتى في هؤلاء؛ لأنه لا يوجد إنسان يعرفه كل أحد على وجه البسيطة! ومع ذلك فمن الممكن مجاراة السيد أوزون على فهمه هذا السقيم؛ كي نريح أنفسنا من عناء مثل هذه المناقشات الفارغة، فنقول: لا مانع عندنا من إخراج "الاسم الموصول" في هذا المثال وأشباهه من "المعارف" وإدخال الأمثلة الباقية فيها؛ كقولنا: "هَلَّ علينا الذي ألَّف كتابًا بعنوان "جناية سيبويه" بطلعته البهية"، وأنا على يقين أنه سيوافقنا على هذا الحل السعيد الذي سيملأ قلبه نشوة وحبورًا، بل سيرجع عن اعتراضه على المثال السابق ويقول: "خلاص! الاسم الموصول من أعرف المعارف، وليس معرفة فقط"! أوليس مضحكًا أن يتصدى إنسان بهذه العقلية للنحو وقضاياه؟ بل هو مضحك غاية الإضحاك، ولكنه ضحِكٌ كالبكاء، وقديمًا قيل: "شرُّ البلية ما يضحك"!



وبالمناسبة فزكريا أوزون، رغم اعتراضه العنيد اللدود على مصطلح "الحرف" و"الاسم الموصول" ودعوته إلى الاستعاضة عنهما بمصطلح "الأداة"، قلما يستخدم هذا المصطلح الأخير، بل يجري على استخدام المصطلحين المرفوضين في معظم الحالات، وهو ما يدل على أن الرجل يكتب ما يكتب دون وعي؛ فهي حالات نفسية غير مترابطة يمر بها مرًّا دون أن يكون له موقف محدد، إنها تحبير صفحات والسلام، كي يقال: إنه كاتب، فقد قلناها، والحمد لله، وأثلجنا صدره! لكن أي كاتب؟ هذا هو مربط الفرس! وبالمناسبة أيضًا فالإنجليز والفرنسيون والألمان يسمُّون هذه الأسماء الموصولة: "ضمائر"، وإني أعلن أسَفي المرَّ؛ لأنهم قد خيبوا كالعادة ظن السيد أوزون فلم يسموها "أدوات"، رغم أنهم ليسوا من ذرية سيبويه، أو يمُتُّون بالقرابة للزمخشري أو ابن عقيل أو الصبان!





[1] انظر ص25، 32.




[2] انظر مثلًا ص 29، 30، 123، 137.




[3] شرح ابن عقيل /1/167.




[4] انظر ص 60.




[5] ص60.




ابوالوليد المسلم 11-03-2021 05:01 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(13)



د. إبراهيم عوض



ومن المصطلحات التي سخِر كاتبنا منها ومن النحاة بسببها مصطلحُ "الفعل المضارع"، الذي يقترح أن يغير إلى "الفعل الحاضر"؛ حتى "يصبح أقرب إلى الذهن"، ثم يعقب قائلاً: إن "السادة النُّحاة مع ذلك لم يغيِّروا "قرآن" سيبويه وأتباعه ليقولوا: "فعلاً حاضرًا" عوضًا عن "فعل مضارع"... إلخ"، وعنده أن النُّحاة قد سمَّوْه "مضارعًا"؛ لأنه "يضارع الاسم في حركاته: فهو مرفوع مرة، ومنصوب مرة، ومجزوم أخرى"[1]، ومن الجليِّ أنه يخلط بين حالات الإعراب (وهي الرفع والنصب والجزم)، والحركات (من ضم وفتح، إضافة إلى السكون، وهو انعدام الحركة)[2]، وهذا أمر غريب ممن يرى في نفسه القدرة على مناطحة سيبويه ونظرائه، ومن الجلي أيضًا أنه لا يعرف أن "المضارعة" لا تعني هذا الذي قال، وبخاصة أن "الجزم" ليس من حالات الإعراب في الأسماء، بل يقول النحاة: إن "شَبه الفعل المضارع للاسم (والمقصود "اسم الفاعل" لا الاسم بإطلاق) حاصلٌ في اللفظ، والمعنى: أما شبَهه إياه في اللفظ فلأنه يجري معه في الحركات والسكنات (يقصدون أن "ينصر" مثلاً يبدأ بحرف متحرك هو الياء، يليه حرف ساكن هو النون، فحرف متحرك هو الصاد، كما هو الحال في "ناصر" (اسم الفاعل منه)، فهو يبدأ بمتحرك هو النون، يليه ساكن هو ألف المد، فمتحرك هو الصاد، وهذا كما يرى القارئ الكريم شيء مختلف عما يقوله زكريا أوزون)، وكذلك في تعيين الحروف الأصلية والحروف الزائدة (في أن كلاًّ منهما مكوَّنٌ من نفس العدد من الحروف الأصلية، ونفس العدد كذلك من الحروف المَزيدة، والأصلية هنا ثلاثة، هي النون والصاد والراء، والمزيدة حرف واحد هو الياء في الفعل، والألف في اسم الفاعل)، وأما شبهه إياه في المعنى فلأن كلاًّ منهما صالح للحال والاستقبال، ثم تقوم قرينة لفظية تخصصه بأحدهما"[3]، ويمكن التمثيل لدلالتهما على المستقبل بقوله تعالى في الآية 23 من سورة الكهف: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 23، 24]، فاسمُ الفاعل هنا يتعلق بالمستقبل لا بالحاضر، والقرينة هي كلمة "غدًا"، أما المضارع فإنه يدلُّ على الاستقبال قولاً واحدًا مع "السين وسوف ولن"، وكثيرًا مع "قد"، وأحيانًا دون أي حرف من هذه الأحرف؛ إذ قد نقول: "أفعل ذلك إن شاء الله" بمعنى "سأفعل"، كما قد يدل على الاستمرار أو على العادة، فلا يختص بزمن دون زمن؛ كقولنا: "تدور الأرض حول الشمس"، و"ينام سعيد ظهرًا، ويذهب إلى المقهى مساءً"، وعلى هذا فالمصطلح والتعريف اللذان ساقهما السيد أوزون ليسا أكثرَ مِن كلام فارغ كمعظم ما قاله في كتابه الفَطِير الذي يريد أن يطاول به الجوزاء، ويهدم الرواسي الشمَّاء!

والسيد أوزون يرفض إعراب الجمل جملة وتفصيلًا، مؤكدًا أن "ما يسمى إعراب الجمل"، سواء كان لها محل من الإعراب أو لا، ما هو إلا وهمٌ وإضاعة للوقت، علينا التخلص منه؛ لأن في ذلك عين الصواب، وصحة المعنى، ومطابقته للحقيقة والواقع"[4]، والوقع أنه ليس للواقع أي مدخل في ذلك عكس ما يهرِفُ به الكاتب؛ إذ ما دخل الواقع في أن تُعرَب الجُمَل أو لا؟ هل في ذلك مصادمة لسنَّة من سنن الكون؟ أبدًا، هل فيه عدوان على حقوق الإنسان؟ هل يمثِّلُ خروجًا على مبادئ الأمم المتحدة؟ هل يمنع الشمسَ من الشروق صباحًا؟ أبدًا أبدًا، إذًا فكل ما قاله لا يساوي شَرْوَى نَقيرٍ!

وبالله ماذا نفعل أمام مثل هذه الجملة: "محمد يلعب الكرة في الحديقة"، أو تلك: "قال سعيد: إني قادم بعد أسبوع"، إن "محمد" (في الأولى) مبتدأ ("subject" في الإنجليزية)، فأين خبره (the predicate)؟ إنه "يلعب الكرة في الحديقة"، وعبارة "قال سعيد" (في الثانية) هي فعل وفاعل، ولا بد معهما من مفعول، وإلا فماذا قال؟ ومفعوله هو جملة: "إني قادم بعد أسبوع"، ترى ما الخطأ في هذا الكلام؟ وما الذي فيه مما يخالف الواقع؟ ليس من المعقول أن نقول: إن "محمد" مبتدأ ثم نسكت، أو نقول: إن "قال سعيد" فعل وفاعل ثم نكتفي بذلك، إن الكلام على هذا النحو يكون ناقصًا، ولا بد للناقص من أن يكمل، إن هذا قانون من قوانين الحياة والواقع، أما الذي يخالف الواقع وقوانينه فهو كلام السيد أوزون الذي لا نستطيع أن نعرف له رأسًا من ذيل.

إنني أفهم بل أحبِّذُ الدعوة إلى عدم الإسراف في التفاصيل الإعرابية الخاصة بالجُمَل والاكتفاء بالقول: إن هذه الجملة خبر أو مفعول أو حال... إلخ، وبخاصة لغير المتخصصين، إن النَّحْويين عندما يقولون: إن الجملة الفلانية المكونة من فعل وفاعل أو من مبتدأ وخبر مثلًا في محل نصب حال، إنما يريدون أن يكون الطالب على ذُكْرٍ مِن القاعدة العامة لا تغيب عن عينيه أبدًا؛ إذ معنى "في محل نصب" أنها تحتلُّ موضعًا حُكمَ الاسم الذي يحتله عادة هو النصب، صحيح أن إعراب الجمل لن يقدم ولن يؤخر؛ لأنه لن تظهر عليها أية علامة إعرابية، لكن إعرابها (كما قلت) يذكر بالقاعدة ويثبِّتها في أذهان الطلاب، ويملأ الفراغ الناقص الذي أشرت إليه آنفًا، ومثلها الأسماء والأفعال التي يتعذَّرُ ظهور علامة الإعراب على آخرها، أو يستثقل الذوقُ العربي العام ذلك، أما الجُمَل التي لا محل لها من الإعراب فليس هناك ما يدعو إلى الاشتغال بها.

وإلى القارئ هذا الاقتباس من كتاب "إعراب الجمل وأشباهه" للدكتور فخر الدين قباوة، إذ قال: إن الجمل قسمان: "الجمل التي لا تحل محل المفرد (أي: لا تحل محل الاسم)، وهي لا محل لها من الإعراب؛ لأنها لم تستخدم في موضع المفرد، ولا يمكنها أن تقدَّر به ليتيسر تقدير حركات الإعراب التي قد تظهر على ذلك المفرد...، والجمل التي تحل محل المفرد، وهي تأخذ إعرابَه تقديرًا؛ لأنها وقعت في موضعه وقامت مقامه... ولا بد ها هنا من الإشارة إلى ناحية ذات أهمية، وهي أن الجملة التي لها محل من الإعراب يجب أن تكون واقعةً في موقع المفرد، والموقع له بطريق العاريَّة، وإلا فقد وقعت الجملة في موقعها الأصلي، وهو موقع ما لا محل له من الإعراب، كالذي تراه في صلة "أل" الموصولة"[5].

وما دمنا في الحديث عن الجمل، فلا بأس أن نستطرد قليلاً فنقول: إن من المستحسن القول في الجمل الفعلية والاسمية: إن الأُولى تتكون من فعل وفاعل ومفعول / أو مفعولين (إلا إذا حُذف الفاعل وقام المفعول مقامه، فيكون عندنا فعل ونائب فاعل، أو فعل ونائب فاعل ومفعول)، أو من فعل وفاعل وتتمة، وذلك في الأفعال التي تسمى - حسب المصطلحات الحالية - أفعالًا ناسخة، وهي "كان وأخواتها" و"كاد وأخواتها"، والمقصود بـ "الفاعل" هو ما نُطلِق عليه حاليًّا "اسمها"، وبـ "التتمة" ما نطلق عليه "خبرها"، وهذه التتمة إن كانت اسمًا فهي منصوبة، وإن كانت جملة فهي تتمة فقط، وأما النوع الثاني فيتكون من مبتدأ وخبر، فإذا دخَل عليهما "إن وأخواتها" قلنا: إن "المبتدأ" منصوبٌ في هذه الحالة، وفي جملة الاشتغال إذا كان المشتغَل به مرفوعًا كان مبتدأ، وما بعدها خبر، وإذا كان منصوبًا كان مفعولًا به، والضمير العائد عليه تأكيد له.

ونفس الشيء أدعو إليه فيما يتعلق بإعراب الكلمات التي تلزم حالة واحدة لا تعدوها أصلًا أو عادة، سواءٌ كانت مبنية أو معربة، مثل: أسماء الإشارة، وأسماء الاستفهام، والأفعال الماضية، والضمائر، والحروف، ومثل "الفتى" في كل حالاتها الإعرابية، و"القاضي" في الرفع والجر وما إلى ذلك، فنقول مثلًا في إعراب "مثُل الفتى أمام القاضي": "مثُل" فعل ماضٍ، و"الفتى" فاعل، و"أمام" ظرف مكان منصوب بالفتحة، و"القاضي" مضاف إليه، أما في تراكيب النداء والإغراء والتحذير وما أشبه فيكفي أن نقول في "يا عبدالله": "يا" حرف نداء، و"عبد" منصوب بالفتحة، و"لفظ الجلالة" مضاف إليه مجرور بالكسرة، ولا داعي أبدًا أن نقول: إن "يا" بمعنى "أدعو"، و"عبد" منصوب على المفعولية... إلى آخر هذه التأويلات التي لا معنى لها، وبالمثل نصنع في "البدار" و"الأسد" و"إياك والأسد": فـ"البدار" اسم مغرًى به منصوب بالفتحة، و"الأسد" اسم محذَّر منه منصوب بالفتحة كذلك، أما لماذا نُصِبا فلأن العرب تنصب مثل هذين اللونين من الأسماء، لا لأن المعنى في الأول "الزم البَدار" وفي الثاني "تجنَّب الأسد"، فهما مفعول بهما، هذا كلام يشوِّش ذهن الطالب ويشغَلُه عما هو ألزم له وأهم، وهو سبب من أسباب نفور عامة الطلاب من قواعد اللغة؛ لأنها تبدو لهم ألغازًا عويصة مصطنعة لا جدوى منها ولا صدى لها في الواقع، ونحن معهم في ذلك، وقل مثله في جملة "ما أجملَ الزهورَ!" و"أجمِلْ بالزهور!"، فكل من "ما أجمل " و"أجمل بـ" هي "صيغة تعجب"، و"الزهور" في الأولى منصوبةٌ على التعجب، وفي الثانية مجرورة بـ "في"، وكفى الله المؤمنين القتال!

وكذلك أرفع صوتي إلى التقليل من التقديرات ما أمكن؛ إذ ما معنى أن نقدر فعلًا بعد "إذا" و"إنْ" الشرطيتين في قوله تعالى: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، وقوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات: 9]؟ ويجيب النحاة بأن "إذا" و"إن" لا يجوز أن تليهما جملة اسمية، وسؤالنا بدورِنا هو: ومَن الذي أفتى بأن ذلك لا يجوز، وقد تكرر هذا التركيب في القرآن وفي الشِّعر القديم كثيرًا جدًّا؟ أوَبعد ذلك كله نُصِرُّ على أن التقدير في الآيتين الكريمتين هو "إن انشقت السماء انشقت"، "وإن اقتتل طائفتانِ من المؤمنين اقتتلوا"؟ أوَيصحُّ أن نضع قاعدة من وهمِنا أو بناءً على استقصاء ناقص ثم نخضع لها الجمل التي تخالفها قسرًا وبِلَيِّ الذراع حتى لو كانت جملًا قرآنية؟ إن هذا هو الذي لا يجوز، كذلك ما معنى القول بأن عبارة "في الخزانة" من قولنا: "الفلوس في الخزانة" متعلقة بمحذوف تقديره "كائنة أو موجودة أو... أو..." خبر لـ "الفلوس"؟ لماذا لا نقول مباشرة: إن "في الخزانة" هي الخبر، ونريح وتستريح؟ كذلك ما معنى القول: إن الفعل المضارع "نكرم" في قولنا: "ألا تأتينا فنكرمَك" منصوب بـ "أن" مضمرة وجوبًا؟ لماذا لا نقول: إنه منصوب بعد "واو المعية"[6] وكفى؟ وأيضًا: ما لزوم القول بأن "لعمرك" مبتدأ خبره محذوف، وتقدير الكلام: "لعمرك قسمي إن الأمر كذا وكذا"؟ لم لا نقول ببساطة: إن "لعمرك" هي "أداة قسم"، ولا تقدير ولا يحزنون؟

وعلى مثل ذلك النحو لا داعي أبدًا للقول بأن "أنتم" مثلاً في قوله تعالى: ﴿ لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ [سبأ: 31] هي مبتدأ محذوف الخبر، وأن أصل الكلام: "لولا أنتم موجودون...".

والعجيب أن النحاة، رغم هذا، يقولون: إن الخبر في هذا الموضع محذوف وجوبًا؛ أي: لا يمكن ذكره، فما دام ذكره غير ممكن، فكيف عرفوا أن ها هنا خبرًا وأن تقديره "موجود"؟ إن هذا اعتساف غير مقبول، والأحجى أن نقول: إن الاسم الذي يقع بعد "لولا" الشرطية يكون مرفوعًا، وكفى، وليس شرطًا أن يأتي بعدها جملة؛ إذ الكلام لا يحتاج إلى هذا البتة، فقولنا: "لولا أنت" معناها "بدونك"، وهو (كما ترى) كلام تام لا يحتاج إلى تقدير خبر محذوف، والأحجى أيضًا أن نقول في: "نعم الرجل زيد": إن "زيد" بدل من "الرجل"، لا إنه مبتدأ حُذف خبره وجوبًا؛ إذ لو كان هنا فعلاً خبر، كما يقول النحاة، فلماذا وجب حذفه؟ والأحجى كذلك: عدم تقدير خبر محذوف في قولهم: "أنت وحظك"؛ إذ المعنى واضح دون تقدير كلمة "مقترنان" في نهاية الجملة، وإعراب الكلام هو: "أنت" مبتدأ، وعبارة "وحظك" سدَّت مسدَّ الخبر، والمعنى "أنت مرتبط بحظك"؛ أي: إن "الواو" لا تدل على العطف، بل تعني ارتباط ما قبلها بما يليها، وما دام الكلام يستقيم بهذه الطريقة المباشرة، فلماذا نلجأ إلى اللف والدوران؟

وبالمثل أحب أن أعلن استنكاري لقول النحاة في إعراب "ما" في قوله تعالى مثلا: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾ [آل عمران: 159]: إنها "زائدة"؛ إذ الواقع أن لها وظيفة تؤديها هنا، ألا وهي التأكيد! فبدلاً من أن نسميها: "ما الزائدة"، فلنقل: "ما المؤكدة"؛ لأنه لا يعقل أن يستخدم القرآن أو أي إنسان عاقل كلمة لا معنى لها، إن النحاة في استخدامهم لهذا الاصطلاح إنما يبغُون الإشارة إلى أن المجرور لا بد أن يأتي بعد حرف الجر لا يفصل بينهما شيء، لكن ما دام قد تكرر مجيء "ما" في القرآن والشِّعر القديم بين الجار والمجرور، فمعنى ذلك بكل بساطة أن هذا يجوز، وحينئذ ينبغي أن نقول: إن "الباء" حرف جر، و"ما" مؤكدة، و"رحمة" مجرورة، ولا داعي لهذا المصطلح الذي يسيء (من حيث لا يقصد نحاتُنا الكرامُ بطبيعة الحال) إلى القرآن الكريم، أو إلى الشعراء والكتَّاب، وهم الذين ميزهم الله بعبقرية البيان.


[1] ص 35.

[2] علاوة على أن علامات الإعراب ليست دائمًا حركات، بل قد تكون حروفًا، أو حذفًا للحروف.

[3] شرح ابن عقيل /1 /27/ هـ1.

[4]ص116 - 117.

[5] د. فخر الدين قباوة / إعراب الجمل وأشباهه / ط 3 / دار الآفاق الجديدة / بيروت / 1401هـ - 1981م / 31 - 33.

[6] لاحظ أنني لا أقول: منصوب بواو المعية، بل بعد واو المعية؛ ذلك أن سبب النصب هو أن العرب تنصب المضارع في مثل هذا التركيب، إلا إذا فهمنا نسبة النصب إلى "واو المعية" على أنه مجازٌ من مجازات الكلام للتسهيل وتذكير الطلاب بالقاعدة.






ابوالوليد المسلم 11-03-2021 05:04 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(14)



د. إبراهيم عوض




.. ولا تتوقف عبقرية صاحبنا عند الإفتاء في النحو، بل يضيف إليه الإفتاء في سكِّ الكلمات الجديدة للمخترعات، ومصطلحات العلوم، ومستجدات الأفكار، والأوضاع والأنظمة والأطعمة والملابس، وما إلى ذلك، ورأيه أنه "يتوجب علينا ألا نضيع الوقت فيما يقابل المفردات والمصطلحات العلمية الإنجليزية في اللغة العربية، وأن نعيد النظر فيما يسمى بمجامع اللغة العربية ومهامها؛ فالعرب منذ بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا، أي على مرِّ قرن من الزمن، لم يقدِّموا مصطلحًا واحدًا في مجال العلوم والتكنولوجيا، في حين أنهم قدموا آلاف الكتب الدينية والأدبية التي لا تُسمِن ولا تغني من جوع، وإن طلابنا اليوم بحاجة ماسة إلى تقويم في لغة العلم السائدة اليوم، اللغة الإنجليزية، خاصة في المجالات العلمية؛ لأنهم عندما يريدون التحصيل العلمي العالي فإنهم يحصلون عليه من البلاد الغربية وبلغتهم العلمية، مع وجوب المحافظة على لغتنا العربية التي ربما تعُود إلى القيادة والريادة عندما يتطور أهلها فِكريًّا وعلميًّا، ويتخلصون من شوائب التراث وعُقَدِ الماضي التي تلازمهم، كما أن تسمية المخترعات هي من حق الأمم التي أوجدتها وأبدعتها، ولا يحق لغيرها أن يغيِّرها، فنحن نقول: "راديو" عما سمَّوْه عندنا "مذياع"، ونقول: "تلفزيون" أو "T.V." عما سموه "الرائي"، ونقول: "كمبيوتر" عوضًا عن "الحاسوب"، و"تليفون" عوضًا عن "الهاتف"، وغير ذلك من المسميات التي جاءت من الغرب والتي لم يفلح أهل مجامع اللغة العربية في تعريبها أصلاً"[1].

وإن نصيحة السيد أوزون في هذه السطور بوجوب المحافظة على اللغة العربية لَمِما يضحك الثكالى واليتامى معًا؛ إذ أين هي اللغة العربية وقد دعا جنابه إلى نبذِها واصطناع العامية بدلًا منها ثم مسخها بعد ذلك بالألفاظ المأخوذة من الإنجليزية؟ ولا أدري لم الإنجليزية بالذات، وعندنا اليابان والألمان والفرنسيون والروس وغيرهم من الأمم المتقدمة التي تخترع وتولد الأسماء الجديدة لما تخترعه؟ وهو يرى أن نترك كلمات "حاسوب" و"مذياع" وأمثالهما ولا نستخدم إلا "كمبيوتر" و"راديو"... إلخ؛ لأنها هي الكلمات الصحيحة، والأخرى خطأ، فتأمل! وإلى أن يتقدم العربُ العالَمَ ويصبحوا مخترعين ويُضْحِيَ من حقهم حينئذ، وحينئذ فقط، أن يستخدموا للأفكار والمخترعات الجديدة ألفاظًا من لغتهم تكون هذه اللغة قد استحالت إلى مثل مرقعة الدراويش! وكل هذا بفضل العبقرية الأوزونية التي تصطنع في عملياتها التفكيرية قدميها الضخمتين المفلطحتين بدلًا من عقلها، إن كان عندها عقل!

بارك الله فيك يا مولانا! ترى من أين جئتنا بفتواك العبقرية بتحريم سكِّ المصطلحات والتسميات الخاصة بالاختراعات ومستحدثات الأفكار على العرب بحجة أنهم لم يخترعوا مدلولاتها، فمن المحرم عليهم إذًا أن يخترعوا لها ألفاظًا من لغتهم؟ يا لك من فقيه! طيب، وماذا نفعل بالمسميات الجديدة التي ولدناها من لغتنا؟ أنرمي بها في صندوق القمامة ونستعيض عنها بمسميات إنجليزية مهدرين هكذا ما بذلناه من وقت وجهد في التعريب، ومتخلين دون أي داعٍ عن عزتنا القومية؟ ولكن لماذا هذا كله؟ وما الذي يؤذي نفسك في أن نستخدم كلمات من عندنا لمخترعات لم تصنع عندنا؟ أولا بد في رأيك أن نستورد الأمرين معًا: المخترعات وأسماء المخترعات؟ أرجو من القارئ الكريم أن يتصور أي مسخ مشوَّه ستكونه لغتنا لو أخذنا بهذه المقترحات الأوزونية الفذة[2].

إن صاحب هذه الدعوة لهو في أحسن الأحوال:
كالعِيسِ في البيداء يقتلها الظَّما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والماء فوق ظهورها محمولُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


إن لغتنا، والحمد لله، برغم تخلُّف أصحابها قد أثبتت عبقرية عجيبة (لا كعبقرية صاحبنا) في مجاراة العصر، مع احتفاظِها بقواعدها وأسسها في الاشتقاق والتركيب، وإن إنسانًا يَضيق بمثل هذه اللغة لهو إنسان قد حرَمه الله نعمة الذوق والعقل، ولا يستحقُّ شرف الانتماء إلى هذا الإبداع البياني!

لكن ليس هذا بغريب على مَن يقول بعدم أهمية الأدب والدراسات الدينية، إن مِثل هذا القائل لأقرب إلى الجمادات منه إلى البشر! وأنا حين أقول ذلك لا أفتئت عليه في شيء؛ فإن مما يميزنا عن الجماد أن لنا عواطفَ وعقيدة وأخلاقًا تتطلب التغذية والإشباع، وإن إنسانًا لا يجد للأدب والدِّين من معنًى لهو إنسان عارٍ عن هذا كله، بل لسوف أضرب مثالاً واحدًا يدل على أنه قد عدم العقل أيضًا؛ إذ من المخترعات الحديثة المرناء (المرناء رغم أنفه، وعلى شجي حلقه، ومَغْص بطنه، وصداع رأسه)، فما فائدة هذا المرناء يا ترى إذا خلا من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات والأغاني مثلاً؟ أليست هذه الفنون كلها فنونًا أدبية؟ ثم ألا يحتاج الناس أن يشاهدوا فيه أيضًا البرامج الدينية التي تذكِّرهم بربهم وتحيي موات قلوبهم وتبصرهم بأمور إسلامهم؟ ألا يدل هذا المثل على أن الرجل لا يعرف كيف يفكر، وإنما هي حالات تهيجية تعروه فينطلق رافسًا ومحطمًا كل ما يلقاه في طريقه؟ إن في هذا الضغن الذي يتناثر من فمه مع زَبَد شِدْقيه كالحمم لبرهانًا على شيء وراءه، وصدق المولى الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ [محمد: 30]، وها هو ذا الرَّجل يحقر الكتب الدينية ويراها عديمة الفائدة! وهذا يفسِّر لنا المغزى الكامن وراء بعض من أهدى لهم كتابه؛ إذ أهداه، ضمن مَن أهداه إليهم، "إلى كل من أحب الناس على اختلاف أجناسهم وأديانهم ومعتقداتهم"، إن الكتاب في اللغة والنحو، فما دخل حب الناس على اختلاف أديانها ومعتقداتها هنا؟ إن هذا لحنٌ من القول! ولو كان صادقًا في هذا الحب الكبير لقد كان أولى الناس بحبه هم أهلَه وعشيرته من المسلمين، لكن المقصود هو حب أهل الأديان الأخرى، وكراهية المسلمين ولغة الإسلام والكتب التي تؤلف في الإسلام!

إنه يهاجم القديم على طول الخط، القديم العربي والإسلامي وحده، وإلا فكل الأمم التي يقول لنا: إنه يحبها تحافظ على كثير من قديمها، ترى هل ترك الإنجليز أو الطليان أو الإسبان نحوهم؟ وهل كفُّوا عن التأليف في قضايا الدِّين؟ وهل توقفوا عن الإبداع الأدبي؟ فلماذا لا يحقر إلا أدب العرب وكتاباتهم الدينية؟ إن مَن يتخذ مِن نبذ القديم مبدأً له لهو إنسان معتوه، فليس بنبذ القديم، لمجرد أنه قديم، تتقدم البشرية، بل ينبذ ما ثبت خطؤه أو ضرره، أما ما لا يزال صالحًا من ذلك القديم فلا يفرِّط فيه إلا أبله، لنستمع إلى ما يقول: "إن عقدة القديم هي عقدة الشرق الإسلامي بأسره، وخاصة العرب، فما جاء من القديم صحيح، وكل ما يعارضه وما خرج عنه خاطئ، أو مشكك فيه، وهذه المشكلة المعضلة أوصلت الأمة العربية والإسلامية إلى ما وصلت إليه اليوم، فكم من إنسان عربي وُلد عبقريًّا فذًّا[3]، ومات جاهلاً مكبوتًا أمام عُقَدِ الماضي وحاكميته! ولو قال أحدنا: أنا أرى كذا في الدِّين أو اللغة أو الأدب القديم سارع حُماةُ الديار، ولا ندري مَن نصَّبهم ليكونوا حُماةَ الديار والماضي، ليقولوا: ومن أنت لترى؟ مَن أنت مِن العلماء السابقين الذين رأوا وبحثوا وعملوا؟ وما عليك إلا الطاعة والتطبيق"[4].

وجوابي على سؤاله هو: نصَّبهم الذي نصَّبك لهدم القديم جملة وتفصيلاً في نزقٍ ورعونة! لقد نصَّبت نفسك لهذا، وهم نصَّبوا أنفسهم لذلك، ولكنَّ ثمة فرقًا ضخمًا بينكما: فأنت ترى هدم أهم مقومات الأمة: اللغة والأدب والدين، أما هم فينافحون عن هذه المقومات، فشتان هم وأنت! أما تباكيك على العبقريات الموءودة فليس لك حق فيه؛ إذ ما دامت العبقريات الموءودة هي مِن نوع عبقريتك فلا عليهم أن يَئِدوها ويريحونا من هذا التخلف العقلي! لقد رأينا ورأى معنا القراء أي لون مِن العبقرية عبقريتك؛ فأنت لا تكاد تفهم شيئًا في النحو: لا مصطلحاته، ولا مفاهيمه، ولا تراكيبه، ولا... ولا... أنت لا تفهم إلا شيئًا واحدًا، هو الحقد على لغة القرآن، والرغبة الأثيمة في تحطيمها، وهيهات ثم هيهات! فليس بمستطاعِ الصرصور أن يهدم الهملايا بقرنيه! فاذهب واجلِسْ إلى قدمَيْ مَن يعلمك العقل أولاً، ثم النحو والصرف واللغة ثانيًا؛ (لأنك لا تستطيع أن تتعلم نحوًا ولا صرفًا ولا لغة دون أن يكون لك عقل يفكر تفكيرًا سليمًا)، ثم تعالَ بعد ذلك وادخل من باب النظر في هذه العلوم في تواضع وخشوع، وادرُسْ ما كتب فيها دراسة متأنية متعمقة ممحصة، وليس يطلب منك عاقلٌ أن تخِرَّ ساعتها أعمى أبكمَ أصمَّ على كل ما كُتِب وقيل، بل المطلوب منك هو التسلُّح بالنظرة الناقدة، والمتحلية مع ذلك بالتجرد والعدل والإنصاف، والرغبة في بلوغ الحق، لا بالولع بالهدم والتحطيم والحقد، إن مِن العيب على الأطفال الصغار التطاول على الحكماء الكبار، وليس من المعقول أن يطمح إنسان إلى التزبُّبِ قبل أن يتحصرم، لا بل هو مستحيل، فاذهب - كما قلت لك - فاقرأ وحاول أن تفهم وتتعمق، ثم تعالَ بعد ذلك كله (إن أفلَحْتَ في الفهم والتعمق) فأجِلْ نظرتك الناقدة في كتب سيبويه، والزمخشري، وابن عقيل، وابن هشام، والأشموني، وغيرهم، وعندئذ قد تستطيع أن تبصر فعلاً ما هو بحاجة إلى إعادة نظر، أو تبديل، أو استدراك، أو تسهيل، أو حذف... إلخ، إنهم حقًّا ليسوا إلا بشرًا، ولكن هذه الحقيقة لا تعطي لكل مَن هبَّ ودبَّ الحقَّ في التهجم عليهم والتهكم بهم، وإلا صارت الحياة كلها بهذه الطريقة عبثًا في عبث، اذهب إذًا فاقرأ وافهم وتوسع وتعمق، ثم تعالَ! أما قبل ذلك فكلاَّ وألفُ كلا، ولن يفيدك تصايحك وبكاؤك ولطمك خدودَك وشقك لهدومك، فهذا كله سلوك حمقى الأطفال الذين لا يصلح لهم ولا يصلحهم إلا ضربهم على أصابعهم؛ كي يقلعوا عن هذا السخف! ولو أننا أصخنا لكل متبلد كسول وعمِلنا على إرضائه، لَمَا تقدمت البشرية خطوة واحدة في مدارج الحضارة والرقي، الحضارة، يا هذا، جِدٌّ وكَدٌّ وعرَق، والتعليم وتحصيل الثقافة هو أبو الجِدِّ وأمُّه، وجدوده وأسلافه، أما الكسالى الذين يريدون أن يأكلوا وهم نائمون فسوف يفرمهم قطار الحياة فرمًا، وكفانا، أيها العرب والمسلمون، نوم وتثاؤب، وتخلُّف وخزي وعار ومذلة؛ فالدنيا من حولنا جادة، ونحن هازلون، والبركة في أمثال زكريا أوزون ممن لا يحبون أن يبذلوا جهدًا ويريدون أن تنزل الدنيا رغم ذلك على حُكم كسَلهم وهزلهم! وهذا هو المستحيل بعينه.

إن مَن يريد أن يسهل النحو فلا مَعْدَى له عن البناء على ما مضى (بناءً واعيًا ناقدًا، لا بناء العُمْي الذين ليس عندهم فهم ولا تقدير لِما يفعلون وما فعله مَن سبقوهم)، أما الحِرانُ والإصرار كل حين على هدم ما سبق، فليس له من معنًى إلا العودة إلى نقطة الصفر في كل مرة، وهذه طريقة تعوق التقدم، وتهبِط بنا إلى مستوى العجماوات، حيث لا وجود للتراكم المعرفي، ولا فرصة لإحراز أي تقدم، إن الطائر يبني عشَّه بنفس الطريقة التي كان يتبعها أول طائر خلَقه الله، وعلى نفس النموذج، أما نحن البشر فشتان بين الجُحر أو الكهف الذي كان يسكنه الإنسان الأول وبين القصور والدارات والعمائر التي نبنيها اليوم، وكذلك فالبقرة تقتفي نفس الأسلوب الذي كانت تقتفيه جَدَّتها الأولى قبل ما لا أدري كم من ألوف السنين أو من ملايينها في تناول طعامها، أما نحن بني الإنسان فيا لها من آماد شاسعة تذهل اللُّبَّ تلك التي تفصل بين الطريقة البدائية التي كان أسلافنا الأولون يقتطعون بها اللحم النِّيءَ من جسد الحيوان الذي كانوا يقتلونه أو يصادفونه ميتًا في فجر التاريخ السحيق (أو بالأحرى في ليله الدامس) وبين الأسلوب المتحضر الراقي الذي نعد أطعمتنا ونتناولها اليوم به!

لقد تعددت المحاولات التي قام بها علماء النحو ومَن يهتمون مثلهم بهذا الفرع من العلم لتيسيره، ولم يحدُثْ أن عالِمًا محترمًا اعتمد أسلوب الركل والرفس الذي لجأ إليه زكريا أزون ووجد من يشجعه وينفخ فيه، حتى خيلوا إليه (ويا للمصيبة!) أنه خبير في هذا الميدان، على الرغم من أن هذا الميدان هو مِن الميادين التي لا يصلح فيها الركل والرفس ولا يليق؛ لأننا لسنا في إسطبل للخيول أو حظيرة للحُمُرِ، بل في مجال بحث وعلم، إن أداة البحث والعلم هي العقل، لا الأقدام والسيقان! لقد اجتهد رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وعلي الجارم، ومصطفى أمين، ومحمد أحمد برانق، وعبدالمتعال الصعيدي، وإبراهيم مصطفى، وعباس حسن، وشوقي ضيف، ومحمد كامل حسين، وغيرهم في محاولة تسهيل النحو، وتحبيبه إلى طلاب العلم، فلم يهيجوا هذا الهيجان الأرعن الذي طالعَنا بوجهه القبيح المنفر في كتاب "جناية سيبويه"، بل قرؤوا وهضموا وناقشوا وقارنوا، وقلبوا الأمر على وجوهه قبل أن ينتضوا القلم ليكتبوا، ونستطيع نحن أن نختلف معهم في هذا أو نوافقهم في ذاك؛ لأن هناك أسسًا مشتركة بيننا وبينهم من الفهم والتحصيل، أما في حالة زكريا أوزون فأين تلك الأسس المشتركة، والرجل جاهل لم يحصِّل شيئًا ينفعه في حاضره أو مستقبله؟ لذلك قلت له: "اذهب واقرأ"، بل أقول له كما قال الشيخ لسعيد مهران في رواية "اللص والكلاب": "توضأ واقرأ"، توضَّأْ يا سيد زكريا من هذه الرعونة! توضأ من ذلك الحِقد على العربية وما تَعنيه وترمز إليه! توضأ من جهلك وقلة حيلتك! توضأ من تطاولك (وأنت القَزَمُ الشَّخْت الهزيل) على فحول العلماء! توضأ من وهمك أنك عبقري وأن مِن حقك أن تقارع الفحول! لو كنتَ عبقريًّا - كما تتوهم - لكنتَ تريَّثْتَ وقرأت فأتقنت القراءة، وأدَرْتَ الموضوع في رأسك فأحسنت الإدارة، وقلبته تقليبًا حتى ينضَجَ ويستوي قبل أن يخطر في بالك أن تمتشق القلم وتخُطَّ به على الورق، إن الإمساك بالقلم لهو من السهولة بحيث يستطيع أيُّ أمِّيٍّ أن يفعله، وكذلك الخط على الورق، ولكن أي خط؟ إن ثمة فرقًا بين نكش الدجاج وكتابة العلماء! فاختر لنفسك المعسكر الذي تحب أن تعتزي إليه: فإن كنت تريد أن تكونَ مع الدجاج فمكانك لا تبرحه، فأنت معها، أما إن كانت تبغي أن تحشر في صحبة العلماء المحترمين فقد شرحتُ لك السبيل، وأنت بعدُ حُرٌّ، وذنبك على جنبِك، وانظر لا يخدعنك أمثالك ممن يخلعون عليك الألقاب، فليس بنافع للقردِ أن يثني على جمال خِلقته قردٌ مثلُه! ومتى كانت الألقاب قادرة على أن تجعل من الجبان شجاعًا، أو من الشحيح جَوَادًا، أو من العَيِيِّ فصيحًا، أو من الجهول عالِمًا؟ إذًا لَمَا كان شيء أسهل من طريق المجد والعظمة، بَيْدَ أنه في واقع الأمر وحقيقته طريق وَعْرٌ، قلما سلِمَت فيه الأقدام من العِثار والانزلاق! فما بالك إذا كانت القدمُ التي تسير فيه ضخمة مفلطحة غبية؟


[1] ص 160 - 161.

[2] وليس معنى هذا أن اللغة (أية لغة) يمكن أن تخلو من الألفاظ الأجنبية تمامًا، لكنَّ ثمة فرقًا بين تسرب بعض هذه الألفاظ إليها بين الحين والحين بحكم الضرورة وبين فتح الأبواب أمامها على مصاريعها دون ضابط ولا رابط، وبخاصة إذا كان في مقدورنا إيجاد مقابلات عربية لها؛ كـ: "القرص المدمج" للسي - دي، و"الحاسوب" للكمبيوتر، و"المرناء" للتلفزيون، و"والمسرة" للتليفون، و"السيارة" للأوتوموبيل، و"القنبلة" للبمبة، "وكرة القدم" للفوتبول، و"كرة الطاولة" للبنج بونج، و"التسلل" للأوف سايد، و"فاتح الشهية" للأيرتيف، و"الشطيرة" للساندويتش.. وهلم جرًّا، وبالمناسبة فقد كان رأي سلامة موسى من رأي زكريا أوزون، لكن اللغة العربية لم تحفِلْ بما كان ينادي به، وطوَّحَته في سلة القمامات!


[3] كعبقرية زكريا أوزون التي ينضح بها كتابه هذا.

[4] ص 157.








ابوالوليد المسلم 11-03-2021 05:06 AM

رد: دفاع عن النحو والفصحى
 
دفاع عن النحو والفصحى(15)



د. إبراهيم عوض





وعودة إلى الذين دعَوْا إلى تسهيل النحو واجتهدوا فيه نقول: إننا (مع احترامنا لجهودهم وجهود كل غيور على العربية وقواعدها ورغبتهم في تثقيف الألسنة الناطقة بها كي تصبح ألسنة بصيرة ماهرة بطرق الكلام الصحيح الفصيح) نرى أن جهودَهم المخلِصة لن تؤتيَ ثمارها المرجوَّة وعلى أوسع نطاق كما يحبون ونحبُّ إلا إذا توفرت لها بعض الشروط المهمة؛ فأولاً: كيف يُرجى لهذه الجهود الكريمة أن تحقق هدفها، والعرب بوجه عام، متعلمين منهم وغير متعلمين، لا يُحِلُّون لغتهم من نفوسهم وحياتهم المحل اللائق بها؟ إن الشعور القومي والدِّيني الرشيد غائبٌ أو على الأقل غائم عند الأغلبية منا، وهذا الشعور ينسحب أول ما ينسحب على اللغة، حتى إن العربي لا يعتزُّ بلغته، ولا يشعر أن مِن واجبه بل مما يشرِّفُه ويرفع ذِكره بين الناس أن يُحْكِمَها ويتقنها نطقًا وكتابةً وتذوقًا، بل إن العربية لتتعرض على ألسنة كثير من أبنائها لسيولٍ من التهكم، لا أظن لغة أخرى في العالم تتعرض ولا لعُشْرِ مِعشاره، وبخاصة في التمثيليات والمسرحيات وشرائط الخيالة، مما لا يعادله في قوة تأثيره أية وسيلة أخرى، وكثير من العرب يحرصون أشد الحرص على ترصيع كلامِهم بألفاظٍ وعبارات أجنبية، رغبةً منهم في التباهي بأنهم متحضِّرون، مع أنهم قد يكونون من أحطِّ طبقات المجتمع في الذوق والثقافة، لكنه الإحساس بالدُّونية والنقص!



ويرجع هذا، فيما يرجع إليه، إلى أن الإسلام ولغته والعرب الذين نشروهما في أيام عزتهم ومجدهم ورجولتهم وفحولتهم في أرجاء المعمورة يشكِّلون منذ وقت بعيد هدفًا دائمًا لدعاية شياطين الاستعمار والاستشراق والتبشير المسمومة، هؤلاء الشياطين الذين لم يتركوا في الغالب مكرمةً فينا أو في لغتنا ودِيننا إلا مسَخوها وقلَبوها مذمَّةً وعارًا، يُلحُّون على ذلك إلحاحًا لا يعرف كَلَلًا ولا مَلَلًا، ولا يتوقف لحظة من ليل أو نهار، ويصطنعون فيه كل الأساليب التي تخطر والتي لا تخطر على البال، ويتفننون فيها تفنُّنًا بغية كسرنا، بل تحطيمنا، حتى لا تقوم لنا بعد ذلك قائمة، فيسهُل عليهم مضغُنا وابتلاعُنا، إنها حرب ضَرُوس رهيبة، وهذه بعض نتائجها المحزنة! ومن أسرار نجاحهم في هذا الميدان أن العربَ في هذه الفترة من تاريخهم قومٌ متخلفون عن الغرب وأهله تخلُّفًا شنيعًا، وهذا التخلف يتخذه أولئك الشياطين حجة على أننا وكل ما يتعلق بنا في الحضيض الأسفل، وفي ذات الوقت نراهم يتخذون من الأساليب والأسباب ما هو كفيل باستمرار هذا التخلف، إنها لعبة معقدة، ولكن هكذا هي! ومن مظاهر تخلُّفنا أننا نميل إلى الكسل، ولا نتخذ لأي شيء عدته، كما ينبغي أن تتخذ العدة؛ إذ إن الجِدَّ بطبيعته متعِب ومزعج، والكسالى البُلَداء يكرهون أي شيء يتعبهم، ويحبون أن يظلوا في غطيطِهم لا يزعجهم مزعج، ولتكُنِ النتائجُ ما تكون، ولْتنصَبَّ عليهم المصائب من كلِّ حدَب وصَوْب كما يحلو لها، فلكل ذلك ربٌّ اسمه الكريم، وساعتها سيفرجها ربنا! أما "كيف" فليس هذا أوان التفكير في ذلك "الكيف"، بل أوان الاستغراق في "الكيف" الآخر، وعلى ذلك فأغلبنا لا يحبون العلم؛ لأنه يستلزم السهر، وإرهاق العين والمخ، وتناول الدواء المرِّ، فضلاً عن أن نتائجه لا تظهر لساعتها، بل تحتاج وقتًا طويلًا، ثم لماذا نتعب أنفسنا، ونحن نستطيع أن نحصل بالاستيراد على كل ما نريد؟ حتى إن مدينة القاهرة على جلالة قدرها، فيما قرأت، قد استوردت أجانبَ لجمعِ قمامتها، ولا تزال القمامة رغم هذا تملأ جنباتها.



الطالب العربي عليه إذًا أن يُقبِلَ بجمع همته على العلم إن أراد تقدمًا، أما أن يبقى في مكانه لا يريد أن يبارحه ثم يشكو من صعوبة النحو، فذلك لن يقضي على المشكلة، وبالمناسبة فالذي يشكو من النحو يشكو عادةً من غيرِ النحو، والطالب الجادُّ لا يشكو من هذا ولا من ذاك، ولقد أتقن كثيرٌ منا لغتهم منذ وقت مبكر، وهم لا يمتازون عن غيرهم امتيازًا ملحوظًا في الذكاءِ، لكنه الحب والعمل والتعب والسهر والرغبة في الإنجاز والمعرفة بأن حلاوة الحياة لا تسلِّمُ نفسَها إلا لمن صبر على تجرُّع مرارتها طويلاً، هذه هي طبيعة الأمور، لكن قومي لا يعلمون، أو يعلمون ولكنهم يتجاهلون! قل لي بربك: لماذا أتقن أجدادنا لسانهم بدليل خلوِّ مؤلفاتهم من الأخطاء النَّحْوية والصرفية، على حين أن كثيرًا جدًّا من مؤلَّفاتنا الآن تعِجُّ بمظاهر العجز الفاضح عن السيطرة على قواعد اللغة؟ إنه الفرق بين الجِدِّ والهزل، بين العمل والكسل، بين الشعور بالعزة والإحساس بالهوان، بين الثقة بالنفس والارتياب اليائس فيها وفي قدراتها! أتكون لغتُنا ونحوُها أصعبَ من لغة الصينيين أو لغة اليابانيين مثلاً؟ إن نحوَ لغة الضاد لم يتغير في شيء، اللهم إلا أنه الآن أصبح يعرض بطريقة أسهل، فلماذا أتقنه على صعوبةِ طريقته الأقدمون، وكثُر منا العاجزون عن ذلك، رغم أن طريقة عرضه قد أصبحت أيسرَ وأكثر جاذبية؟



ومعروف أن الإنسان إذا لم تكن عنده رغبة حقيقية وإرادة لعمل الشيء، فإنه يجده صعبًا، ولا يُحسنه، مهما حاول المشرفون عليه أن يدفعوه إلى التعلم وبذل الجهد، ويَزيد الطِّين بِلَّةً أن التعليم الآن بعد أن صار مجانيًّا، وبعد أن أصبح وجاهة اجتماعية في بلاد العرب - أضحى يضمُّ مَن لديه استعداد، ومن ليس له من الاستعداد شيء يذكر، ولم يعُدْ مقصورًا على مَن يختاره بشوق ولهفة كما كان الحال قديمًا أيام أن كان لا يذهب إلى حلقة الدرس إلا مَن يحب العلم وعلى استعداد لدفع ضريبته، أما الآن فكلُّ الصبيان والشبَّان تقريبًا يذهبون إلى المدارس والجامعات، وأغلبيتهم الساحقة لا تدرك قيمة العلم، ولا تتذوق له معنى، إنما هو وقت فراغ يمضيه الواحد منهم مع لِدَاتِه، وإني لأذكر إلى الآن تعليق إحدى الطالبات البريطانيات ممن كنا نعلِّمُهن اللغة العربية في آداب عين شمس في الثمانينيات عندما رأت الزحام الهائل للطلبة والطالبات في طرقات الجامعة يقتُلون وقتهم في الثرثرة والجلوس في ظلال الأشجار وتبادل النكات والقهقهات، إذ قالت في دهشة: "هذه ليست جامعة؛ بل ناديًا اجتماعيًّا!"، فهل من المستغرب أن يكونوا ضعفاء في اللغة وقواعدها؟ إنهم ضعفاء في كل شيء لا في اللغة وحدها، وثقافتهم ضحلة تبعث على الرثاء! وأنا حين أقول هذا لا أقوله انطلاقًا مما يسمى بـ"صراع الأجيال"؛ بل من واقع تجربتي الطويلة في التعليم. لا نكران في أن هناك طلابًا على مستوى راقٍ من الثقافة والإخلاص في الدرس والمقدرة على التعبير السلس الجميل، لكنهم قلة قليلة، كما كان الطلاب قبل ثلاثة عقود من الزمان أفضل منهم الآن إلى حد بعيد.




وهذا يقودنا للتنبيه إلى أن إتقان لغةٍ ما لا يمكن أن يقوم على فراغ، بل لا بد من ثقافةٍ واسعة عميقة تربط الإنسان باللغة التي يتعلَّمها، وتقيم بينه وبينها ألفة بل صداقة ومحبة، إن النحو ليس قواعد تحفظ والسلام، بل هو نظام ثقافة، ولا بد له من مادة واسعة وثرية يطبق عليها، ترى هل يمكن أن يتعلم شخصٌ ما فنَّ تنسيقِ الزهور مثلاً دون أن يكون بين يديه زهور كثيرة ومتنوعة يمارس عليها ذلك الفن؟ فكيف بالله يتحمس إنسان لإتقان لغة قد حرَم نفسه أطايبها، وأقام بين عينيه وبين مواطن الحسن والروعة فيها سدًّا كثيفًا؛ فلم يتعرف إلى إبداعات امرئ القيس، وعنترة، والحطيئة، وعمر بن أبي ربيعة، وابن قيس الرُّقيَّات، وأبي نواس، وبشار، وابن الرُّومي، والبحتري، وابن المعتز، والمتنبي، والبهاء زهير، وحافظ، وعلي محمود طه، والسياب، ومحمود درويش، ولا إلى روائع ابن المقفع، والجاحظ، وابن قتيبة، والطبري، وأبي الفرج الأصفهاني، وأبي حيان التوحيدي، وابن حزم، والغزالي، والحريري، والشدياق، والمنفلوطي، وشكيب أرسلان، وكرد علي، وجبران، والريحاني، والعقاد، والمازني، وطه حسين، وزكي مبارك، وغازي القصيبي... إلخ... إلخ؟ إن إنسانًا قد حرمه الله هذا المتعة العلوية لَفقيرٌ مسكين! ولعل القارئ لا يزال يذكر إزراء السيد أوزون بالأدب، الذي يعُدُّه عديم الجدوى، فهذا يفسر له الكثير!



لقد لاحظتُ على كثير من طلبتي في الماجستير والدكتوراه أنهم لا يهتمون بالقراءة لكبار الكتَّاب، بل يقتصرون في الأغلب الأعم على قراءة الرسائل التي كتبها زملاؤهم؛ أي إنهم يأخذون اللغة عن شبَّان أمثالهم لا يزالون في بداية الطريق ولم يكتسبوا الأسلوب بعدُ، فهم بمثابة الأعمى الذي يسترشد في الطريق بأعمى مثله، كما لاحظت أنهم لا يقرؤون في العادة كتابًا أو مقالًا إلا إذا كان ينفعهم نفعًا مباشرًا في الرسالة التي يعدونها، أفيصحُّ إذًا أن نفاجأ برداءة أساليبهم وما يطبع تفكير أكثرهم من سقم وفوضى واستعصائهم على الإصلاح؟ إن صدورنا، على رغم تصبُّرنا وما نأخذ به أنفسنا من التسامح وطول البال، لَتَضيق أشد الضيق ونحن نرى الطالب مِن هؤلاء يعود مرة بعد مرة بعد مرة بعد مرة... إلى اجتراح نفس الأخطاء التي نصلحها له ونشرح له وجه الصواب فيها مردفين له كل هذا بالأمثلة الموضحة، ثم يقول زكريا أوزون: إن النحو العربي لا علاقة له بالمنطق ولا بالعقلانية، إنه هو نفسه أكبر دليل على صحة ما أقول؛ إذ يتصدى لمهمة جليلة لم يستعدَّ لها ولا بواحد على مائة مما تستلزمه هذه المهمة الجليلة من استعداد.



كذلك ينبغي التنبيه إلى أن تدريس النحو يتجه في الغالب، وبكل أسًى وأسف إلى حفظ القواعد، أما التطبيق فلا يلقَى العناية الكافية ولا اللائقة، وعادة ما يقتصر على الإعراب، والنتيجة أن كثيرًا جدًّا من الطلاب يحفظون القواعد عن ظهر قلب، لكنهم لا يستطيعون أن يعربوا، وأن كثيرًا جدًّا من الماهرين في الإعراب لا يستطيعون رغم ذلك أن يقرؤوا أو يكتبوا على نحو سليم، وبهذا تحوَّل حفظُ قواعد النحو والإعراب إلى هدفٍ في حد ذاته، مع أنهما في حقيقة الأمر ليسا أكثر من وسيلة إلى النطق الصحيح، والكتابة البريئة من العيوب والأخطاء، واكتساب الحساسية التعبيرية عما يستكنُّ في أطواء النفس من المشاعر والخلجات، وما يدور في الذهن من أفكار ومعانٍ، وما تجيش به الحياة حولنا من مرئيات ومسموعات ومشمومات وملموسات.



ولست أنسى، عندما كُلِّفتُ أنا وزملائي - قبل حصولنا على درجة الدكتوراه - بأن ندرِّسَ النحو لطلاب القسم في آداب عين شمس تدريسًا تطبيقيًّا، كيف أني لم أبالِ كثيرًا بمسألة الإعراب أو ترديد نصوص القواعد، بل جعلت كل وُكْدي تقريبًا إلى تدريب الطلاب على قراءة بعض المقالات لكبار الصحفيين المشهورين بحيوية الموضوع، وحلاوة الأسلوب، بحيث يقرأ أحد الطلاب وينصت الباقون إليه، فإذا أخطأ رفعوا أيديهم وبينوا موضع الخطأ وذكروا وجه الصواب، مع الإشارة السريعة إلى القاعدة التي تحكم ذلك، بالإضافة إلى تكليفهم بكتابة نحوِ صفحة في البيت يحضرونها معهم، ويقرأ كل منهم صفحته بنفس الطريقة التي يقرؤون بها المقال الصحفي، ثم نختم الدرس بأن أقرأ أنا عليهم نصًّا أختاره، وأتعمَّد اجتراح خطأ في كل جملة من جُمَله، ومن يكتشف ما وقعتُ فيه يرفع يده ويصوبه... وهكذا، وقد ذكر لي أكثرُ مِن طالب متفوِّق بعد ذلك بسنوات أنهم قد أفادوا أكبرَ الفائدة من هذه الدروس، وأنهم كانوا يحبونها، ولكن لا بد أن أشفع هذا بالقول بأن ذلك الحب لم يكن عامًّا بين الطلبة، أقول هذا وأقول معه بأنني لستُ متخصِّصًا في النحو ولا في الدراسات اللغوية، بل في النقد والأدب، والطريف أنني أنا وأحد أصدقائي بالقرية كنا نفعل شيئًا من هذا عندما كنا في آخر المرحلة الإعدادية، فقد كنا نصعد في مئذنة الجامع الكبير في قيلولة الصيف في أوائل ستينيات القرن الماضي، ونجلس هناك في مهب النسيم العليل ينفحنا من شجرة "ذقن الباشا" المجاورة للمسجد، وفي أيدينا كتاب من كتب الأدب، أذكر منها "الزنبقة" لحسين عفيف، فيقرأ أحدنا فيه على حين ينصت الثاني له، وإذا ما أخطأ نبَّهه إلى خطئه، ولست أدعي أننا كنا نتنبه دائمًا للخطأ والصواب، ولكنها كانت الخطوات الأولى على طريق عِشق اللغة وإتقان القراءة والكتابة الصحيحة.



كذلك ينبغي أن تكون التطبيقات في البداية من الكتابات العصرية، والمقالات التي يؤلفها الصحفيون المشهورون بجمال أسلوبهم وحيوية ما يكتبون؛ فإن ذلك أقمنُ أن يزيل من نفوس الطلبة الرهبةَ والوحشة، ويُشعِرهم بأنهم يتنفسون هواءً طبيعيًّا، فلا يرتبط النحو والصرف في أذهانهم بالتكلف والتقعر، أوصي بهذا لأن الأساليب العصرية تخلو من التراكيب النادرة التي لم تعُدْ تُستَخْدم، والتي يرهق الذهنَ إعرابُها مع ذلك إرهاقًا.



فإذا ما قبض الطالب على أزِمَّةِ النحو في استعمالاته المعاصرة، قدمت له بعض النصوص القديمة إلى جوار النصوص الحديثة... وهكذا، ولا بد في أثناء ذلك كله مِن تفهيم الطلاب أن الإعراب هو السبيلُ إلى التعبير السليم الحساس عما بنفس الكاتب، فضلًا عن أنه يتيح له حرية لا نظير لها في أية لغة أخرى لتنويع طرائق التعبير واصطياد أدق الأفكار والأحاسيس بأوجز طريق[1]، وأنه أيضًا السبيل إلى فهم ما يريد ذلك الكاتب، فلم يؤتَ به للزينة الفارغة ولا للتحكم المرهق.



كذلك ينبغي ألا يُرَدَّ استعمالٌ أو إعراب يمكن أن يوجد له وجه، فلا يبدو النَّحْوي كالشريك المخالف، الذي أخذ على عاتقه معاندة الآخرين بكل طريق، ومن المستحسن هنا الاستعانة بالتسجيلات والشرائط التي يستمع إليها الطالب، ويحتذي ما تقدمه له من نماذج احتذاءً يقوم على كثرة التكرار حتى تنطبع الصيغ والتراكيب السليمة في ذهنه، وينطق بها لسانه دون تفكير كأنها سليقة فيه.



ولقد تعلمتُ اللغة الإنجليزية في أكسفورد على نفسي أكثر مما تعلمتها على أيدي المدرسين بعد أن عرفت كلمة السر هذه، فكنت حريصًا على أن أشتري كل ما تقع عليه عيني من كتب لتعليم تلك اللغة، ثم أعكف على تمارينها النحوية حلاًّ واحتذاءً نطقيًّا لِما فيها من نماذج حتى أحسستُ أن لساني قد نشِط من عقاله، واستقام بعد اعوجاج، ثم عدت بعد ذلك إلى الفرنسية، التي كنت قد درستُها في المدرسة في مصر ونسيتها إلى حدٍّ كبير في غمرة انشغالي بتعلم لغة جون بول، فبدأت دراستها من جديد بذات الطريقة، وبلغت فيها في مدى زمني جد قصير ما لم أستطع بلوغه في السنوات الطوال التي صرمتها في تعلمها في أرض الوطن، ونفس الشيء صنعته في لندن مع الفارسية في آخر شهرين قضيتهما هناك عقب حصولي على درجة الدكتوراه، ثم مع الألمانية، التي درستها في معهد جوته بالقاهرة، واستطعت بعد عدة شهور أن أقرأ بها ترجمات القرآن الكريم، وإن كنت قد أهملتُ للأسف هاتين اللغتين فيما بعدُ حتى أُنسيتهما؛ لعدم توفر المؤلَّفات المكتوبة بهما في مصر إلا في نطاقات المتخصصين الضيقة.



ولكن قبل ذلك كله لا بد من توفر الهمة والإرادة والرغبة الصادقة، بل العارمة عند الطالب، وإلا فلو ذوَّبنا له قواعد النحو والصرف في كوب من الشربات وسقيناه إياه بـ "الملعقة الصيني" كما تقول الأغنية الشعبية، فلا أمل في أن يتعلمها؛ لأن عقله لن يتفاعل معه، بل سيرفضها كما يرفض الجسم عضوًا غريبًا عليه.



الهمة والإرادة:

هاتان هما كلمة السر والسحر التي تنفتح بها الأبواب، وتذلل بها الصِّعاب، وتعنو للإنسان شُمُّ الجبال والهضاب! وبدونها لن يفلح عباقرة الأرض جميعًا في تعليم إنسان أي شيء.



لقد كثُر القول في عصرنا: إن النحو العربي صعب، فهل يا ترى يتقن طلابنا نحو الإنجليزية أو الفرنسية أفضل مما يتقنون نحو العربية؟ أستطيع أن أجيب من واقع خبرتي الطويلة في التعليم بملء فمي وبملء يقيني معًا بالنفي، إن أشباه العوامِّ والدجالين من الذين يُزْرُون بالنحو العربي هم الذين يتوهَّمون أو يريدون أن يتوهم الآخرون أن الجواب الصحيح على ذلك السؤال هو: "نعم"؛ إذ يكفي أن يلوي شخص ما لسانه أمامهم بلغة أجنبية - كالإنجليزية مثلًا - حتى يقولوا: انظروا كيف يتكلم الإنجليزية ويتصرَّفُ في نحوِها بسلاسة لا يستطيعها في لغة أمته! وشتان بطبيعة الحال بين لَيِّ اللسان بهذه اللغة الأجنبية أو تلك وبين إتقانها ومعرفة قواعدها، لكن ما للعوامِّ والدجالين وهذا؟



بقيت مسألة، وهي الشُّبهة التي يرفعها في وجه النحو والصرف الكارهون للعربية وأساليبها العجيبة وتراثها الثَّري العظيم؛ إذ يقولون: ولماذا لا نسكن أواخر الكلمات التي تعرب بالحركات، ونلزم فيما يعرب بالحروف وضعًا واحدًا، أو لماذا لا نترك كل إنسان يحرك أواخر الكلمات أو يختار الحرف الذي يجعله في نهايتها حسب هواه، ونجري في تركيب الجملة العربية على وتيرة واحدة لا تتغير، كما هو الحال في اللغات الأوروبية المعروفة لنا ونريح ونستريح؟ لكنَّ قائلي هذا الكلام قد فاتهم عدة أشياء: فمنها أننا سنغير لغتنا تغييرًا عنيفًا يرجُّها رجًّا وينقلها من حال إلى حال تبدو معه اللغة التي أُلِّف بها تراثنا على مدار ستة عشر قرنًا ويزيد كأنها لغة أجنبية لا بد من صرف الوقت والجهد لتعلمها من جديد، وقد نتقنها بعد هذا كله أو لا نتقنها، كما هو شأننا مع اللغات الأجنبية، ويأتي على رأس هذا التراث كتاب الله الكريم، الذي يظن زكريا أوزون ومَن أَزَّه على هذا الكلام العجيب أنه يستطيع أن يختلنا في شأنه بالقول بأن القرآن شيء مختلف، وأننا لن نتعرض للغته على أي وضع، بل يبقى له الإعراب، وهل يستطيع أحد، بعد أن نسقط ذلك الإعراب من لغتنا الجديدة، بل بعد أن نطرح عنا اللغة الفصحى جملة ونركن إلى العامية (بل العاميات التي لا تكاد تنتهي عدًّا)، أن يفهم لغة القرآن؟ إن هذا منطق إبليسيٌّ لا يمكن أن يدور إلا في عقول الشياطين! وهو، في حال أوزون، ترديد ببغائي لِما أذكر أني قرأته عند أحد النصارى ممن يَدْعون إلى الأخذ بالعامية وإهمال الفصحى، فانظر أيها القارئ إلى ما تهجس به الضمائر الملتوية، ثم يأبى الله إلا أن يفضح نياتها السود فيطفو على ألسنتهم ذكر القرآن، الذي إنما يتكلفون هذا كلَّه لحربه ومحوِه من الوجود في صمت لا يستفز مشاعر الغيارى من العرب والمسلمين، إلا أنه سبحانه يُنطِق ألسنتهم بما تريد قلوبهم أن تخفيه في أطواء كهوفها المسكونة بعقارب الحقد وأفاعيه!



ثم سؤال آخر: أيهما أحسن خطة وأبرَكُ عُقُبًا؟ ألاَّ يكونَ للجملة العربية إلا تركيب واحد لا تعدوه كالفقير الذي لا يعرف إلا لونًا أو اثنينِ من الطعام لا يغيِّرهما على توالي الأيام والأعوام، أم أن يظل لها ثراؤها الذي نعرفه والذي يتيح للكاتب والمتكلم أن يتفنن كما يحب في بنائها بالتقديم والتأخير، والحذف والإضافة، والاعتراض والتلوين في أمان وثقة ويُسْرٍ بحيث يبدو النص الأدبي، وبخاصة عند أولئك الذين تشربوا عبقرية الأسلوب العربي، حديقة حالية بفاتن مختلف الأوراق والثمار والأزهار والألوان والعطور وأنغام النحل والطيور؟ سيقول أوزون ومَن وراءه: بل نفضِّل الوتيرة الواحدة! لكن أوزون وأمثاله نسُوا أو يتناسون أنهم لا يملكون وحدهم هذه اللغة أولًا، وأنهم ليسوا ممن يُنصَتُ إليهم؛ لِما ظهر من جهلهم وسوء طويتهم ثانيًا، وأنهم إن رضُوا بهذا فلن نرضى نحن الذين أنعم الله علينا بالقدرة على تمييز هذه الفتنة الرائعة العبقرية في لغة القرآن الكريم والاستمتاع بها وتقديرها حق قدرها، وكما أنه من غير المعقول أن ترتد البشرية على أعقابها فتعود إلى تغطية أجسادها بأوراق الشجر بدلًا من الملابس الجميلة التي يتفنَّن المصممون والصناع والخياطون في إخراجها لنا كي ننعم بملمسها وشكلها وألوانها وتفصيلها، أو أن نرجع القهقرى فنصنع كما تصنع الذئاب؛ إذ تتناول طعامها بنهش جثث الحيوانات النافقة وتترك المائدة والأطباق والأكواب فتأمل وتعجب! ولم يكتفِ العارض بذلك الهراء، بل جعل كاتبنا العاطل عن العلم حلقة في سلسلة تبدأ بابن جني من العصر العباسي وتصل إلى الشيخ إبراهيم اليازجي في العصر الحديث، مسوِّيًا على هذا النحو المضحك بين البعوضة والنسور! وواضح أن كاتب العرض المذكور لا يعرف شيئًا عن موضوعه، وإلا لما قال مثلًا: إن المؤلف يدعو إلى التخفيف من قواعد الإعراب؛ إذ إن زكريا أوزون إنما يدعو إلى نبذ اللغة العربية جملة، والاستعاضة عنها بالعامية، وهو ما يعني القضاء على الإعراب نهائيًّا، لا التخفيف منه، كما يهرِفُ صاحب العرض.



الحق أن السيد أوزون بحاجة مُلحة للعودة إلى قاعة الدرس؛ كي يسد ثغرات الجهل الكثيرة التي يعاني منها، أما أن يكون أستاذًا أو خبيرًا لغويًّا، أو ما أشبه من ألقاب الخبص هذه، فذلك من نكد الدنيا، ولقد استفزَّ هذا التدجيل كاتبًا فلسطينيًّا حرًّا هو د. رفيق حسن الحليمي، فانبعث للرد عليه مهاجمًا أصحاب القلوب المريضة والنيات الخبيثة الذين يعملون بكل جهدهم للقضاء، لا على النحو فقط، بل على كل ما هو عربي وإسلامي، واصفًا إياهم بأنهم أصحاب أقلام مأجورة، ويحرِّكهم التعصب العِرقي والنعرة الإثنية، ويبدو أنه يومئ إلى أن أوزون ليس عربي الأصل، كما يؤكد د. الحليمي بحق أن العيبَ ليس في لغتنا، بل فينا نحن، فحياتنا متردية في كل جوانبها، لا في اللغة فحسب، وهو ما أبرزناه بما فيه الكفاية فيما مر من صفحات، وبحق أيضًا يؤكد أن الكتاب يفتقد المنهجية العلمية والموضوعية، وأنه يعكس حالة مرَضية عصابية مزمِنة من الإفلاس والتدهور والخضوع التام لذاتية مسرفة من أحد أدعياء الثقافة والإصلاح[2].






[1] ونضرب مثالًا واحدًا لما نريد قوله، وهو أننا نستطيع أن نقول في الفصحى: "ضرب محمد عليًّا، وضرب عليًّا محمد، عليًّا ضرب محمدٌ، وعليًّا محمد ضرب، ومحمد ضرب عليًّا، ومحمد عليًّا ضرب"، ولكل تركيب من هذه التركيبات شِيَة خاصة به في المعنى، أما في العامية فليس أمامنا إلا أن نقول: "محمد ضرب علي"، وقد ورد هذا المثال في كتاب "مستويات العربية المعاصرة في مصر" للدكتور السعيد محمد بدوي (دار المعارف بمصر / 56)، وبطبيعة الحال فإن الأمر أعقد من ذلك وأوسع، لكنه مثال يشير إلى ما وراءه.




[2] يمكن للقارئ الرجوع إلى الرد كاملًا في موقع صحيفة "الرأي العام" على "المشباك" (الإنترنت).











الساعة الآن : 05:30 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 238.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 238.19 كيلو بايت... تم توفير 0.68 كيلو بايت...بمعدل (0.29%)]