شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (1) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: بدأ المؤلف - رحمه الله - بالبسملة تأسياً بالكتاب العزيز، وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتبه إلى الناس، فإنه جاء في الصحيحين - وأفرده البخاري بطوله - لما كتب إلى هرقل: (( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى هِرْقَلَ عَظِيمِ الرُّومِ )).[1] واستئناساً بما رُوِي من وجوه عديدة (( كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللهِ، أَوْ بِذِكْرِ اللهِ، أَوْ بِبِسْمِ اللهِ، أَوْ بِالْحَمْدِ للهِ فَهُوَ أَبْتَرُ، أَوْ أَقْطَعُ، أَوْ أَجْذَمُ )).[2] والحديث - وإن كان ضعيفاً مضطرباً في ألفاظه لكنه - يُستأنس به مع هذين الأصلين، تأسياً بالكتاب العزيز وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم. الْحَمْدُ للهِ: هذا من حمد الله، والثناء عليه، وهذا تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا خطب، أو حدَّث الناس بدأ حديثه بحمد الله والثناء عليه، على أنه ليس بلازم ومتعين أن يكون بدؤه بحمد الله والثناء عليه من خلال خطبة الحاجة،[3] والناس في خطبة الحاجة على مناح ثلاث: 1- منهم من يرى قصرها على عقد النكاح كما هو صنيع أكثر المتأخرين من الفقهاء، بحيث يجعلونها شعاراً لخطبة النكاح، بأن يأتي بخطبة ابن مسعود. 2- ويقابلهم طوائف من أهل الحديث وأهل الظاهر يوجب أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه بخطبة الحاجة، فإن لم يفعل فإنه تحت طائلة التهمة إما بالتبديع، أو بالتضليل، أو بالتخطئة. 3- والوسط بين ذلك هو ما عليه صنيع العلماء من عهد الصحابة إلى هذا الزمان أن خطبة الحاجة يُبْتَدَأ بها في تصانيف الكتب، وفي الأمور المهمة، وإن بدأ بحمد الله والثناء عليه بما أثنى عليه في القرآن فإنه لا ضير ولا غضاضة في ذلك، ومن ذلك صنيع الشيخ هاهنا. حمد الله؛ لأنه الذي حمد نفسه كما في أول الفاتحة: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ï´¾ [الفاتحة: 2]. وقوله تعالى: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ï´¾ [الأنعام: 1]. وقال: ï´؟ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ï´¾ [الأعراف: 43]. وقال: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ï´¾ [الكهف: 1]. الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدَاً: رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدى ليهتدي هو ويهدي الناس من بعده، ودين الحق ليس بالدين الباطل المحرف، وإنما دين الحق هو الذي أرسل رسوله بالهدى ليظهر على الناس كافة. هو الذي أرسل رسوله بالحق ï´؟ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ï´¾ [الرعد: 43] فالله تعالى أرسله، وشهد بأنه رسول مرسل إلى الناس كافة، وفي هذا مع حمد الله الإشارة إلى النعمة العظيمة التي أولانا الله به بأعظم نعمة أن هدانا للإيمان من خلال بعثة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَاراً بِهِ وَتَوْحِيدَاً: الإقرار هو الاعتراف والإيمان إقراراً به وتوحيداً، وهذه الشهادة شهادة التوحيد، ولها أصل في قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في حديث " سيد الاستغفار "، من حديث شداد بن أوس: (( اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَعَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي )).[4] أي: أعترف وأقر إقراراً به، وتوحيداً. لأن الرسالة في بيان التوحيد. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً مَجِيدَاً: هذا من أعظم ما يُثنى به على الرسول صلى الله عليه وسلم بهذين الوصفين: 1- وصف العبودية، 2- وصف الرسالة. فهما أعظم وأجمع وصفين يُمدح بهما نبينا، ويوصف بهما، ويُثنى عليه بهما وصف الرسالة ووصف العبودية؛ لأنها أعلى درجة يدركها العبد في الدنيا أن يكون لله عبداً، فمن كان لله عبداً فهذا غاية ما يحصله من المراتب الشريفة في الدنيا، لأن من لم يكن لله عبداً كان لغيره عبداً، يقول ابن القيم: هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ[5] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من لم يكن لله عبداً كان لغيره عبداً، ومن كانت عبوديته لله فهذه أعظم المراتب في الدنيا، ولهذا وصف الله رسوله بوصف العبودية في أشرف المقامات: 1- المقام الأول: مقام الإسراء: ï´؟ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ï´¾ [الإسراء: 1]. إن الله قادر على أن يقول: سبحان الذي أسرى بمحمد. لكنه وصفه في هذا المقام الشريف بوصف العبودية. 2- المقام الثاني: التنزيل. فقال: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ï´¾ [الكهف: 1]. وقال: ï´؟ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ï´¾ [الفرقان: 1]. 3- المقام الثالث: مقام التحدي. كما في قوله: ï´؟ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ï´¾ [البقرة: 23]. 4- المقام الرابع: مقام الدعوة. في قوله: ï´؟ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ï´¾ [الحج: 19]. 5- والمقام الخامس في مقام الشفاعة العظمى. كما جاء في الصحيحين أنهم يأتون آدم، ثم نوحاً ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيقول عيسى: (( اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )). [6] وعندما قيل عن الملائكة: إنهم إناث. مدح الله الملائكة، ورد على المشركين قولهم، فقال: ï´؟ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ï´¾ [الأنبياء: 17]. فأعلى ما يحصله العبد في الدنيا أن يكون لله عبداً، فيترقى في درجات العبودية، ولا يتردى في دركات الوثنية. ووصف العبودية وصف مُكْتَسَبٌ يكتسبه الإنسان بعمله باعتقاده، وبما يستقيم عليه من دين ربه. المنحرفون في هذه المسألة: 1- من رفعوا العبادة عن درجة العبودية، فجعلوا لهم خصائص العبادة كالمشركين، والوثنيين، والقبوريين. 2- من أخرجوا العباد عن معنى العبودية كالملاحدة، والإباحية، واللادينيين. والوصف الثاني: وصف الرسالة. وهذا خاص بالاصطفاء إذ ليست الرسالة مكتسبة فقد اصطفاه الله بها فقال تعالى: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ï´¾ [الحج: 25] فهي اصطفاء واجتباء. والشهادة بأن محمداً عبد الله ورسوله لما جاء في حديث وفد بني عامر، من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (( انْطَلَقْنَا فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: سيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا وَعَظِيمَنَا وَابْنَ عَظِيمِنَا... قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ وَلا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ - وفي رواية: وَلا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ. أي: يجري بأهوائكم - إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ )).[7] وجاء في بعض الروايات: (( مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ عَلَيْهَا )).[8] من حديث أنس رضي الله عنه. ومقتضى هذه الرسالة ومعناها في أربعة أمور: 1- تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر. 2- اجتناب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وزجر. 3- وطاعته فيما أمر. 4- أن لا نعبد الله إلا بما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم المنحرفون في هذه المسألة: 1- الفلاسفة الذين زعموا أن النبوة مكتسبة. 2- غلاة الصوفية، الزاعمة أن الولي أفضل من النبي. 3- المكذبون بالرسل، أو ببعضهم، كالمشركين، واليهود، والنصارى كلٌّ بحسبه. فوصف العبودية والرسالة أبلغ وصفين يُوصف بهما محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاءت بها الأدلة المتكاثرة، منها قوله - في حديث عبادة في الصحيحين -: (( مَنْ شَهِدَ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ )). [9]، وفي حديث ابن عمر: (( بُنِي الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ )).[10] لأن مقتضى الرسالة مقتضى العبودية. أما بعد: هذه جملة فاصلة لما قبلها عما بعدها، وأصلها: أما بعد ذلك. فحُذِف المضاف إليه، وأُبْدِلَ بدله بالضمة (أما بعْدُ) وقالوا: إن أول من قالها خطيب العرب القس بن ساعدة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها في خطبه: أما بعد. وبعض الناس يقول: ثم أما بعد. وهذه من غير الفصيح؛ لأن ثم عاطفة، ولا حاجة إلى أن يعطف وهو يريد أن يفسر الكلام ما قبله بما بعده بقوله: أما بعد. ولكن إذا أراد أن يأتي بالعطف أن يقول: وبعد. أو يقول: بعده. ثم يأتي بمراده. فَهَذَا اعْتِقَادٌ: هذا يُسمى عند المؤلفين بذكر العنوان،[11] فهذا اعتقاد، أي: بيان العقيدة. الاعتقاد مأخوذ من الْعَقْدِ، وَهُو الربط والإيثاق، ويكون العقد في القلب في موضع الاعتقاد، وهذا فرق ما بين العقيدة؛ لأن العقيدة ناشئة من اعتقاد من ربط وتوثيق. العقيدة والفكر: وما يُسمى عند الناس بالفكر، فالفكر يعرض ويزول، أما الاعتقاد فهو مُوَثَّق بهذا الربط والعقد في قلبه، ولهذا فإن من الأغلاط الشائعة تسمية العقيدة فكراً، وتسمية الفكر عقيدة وهذا غلط، وهو كثير، خصوصاً على ألسنة الإعلاميين والصحفيين، ومن تشبه بهم من المنتسبين للعلم، ولهذا تُسمى العقائد الباطلة أفكاراً، كفكر التكفير، وفكر التكفير عقيدة في قلب هذا المفكر، وتسميتها فكراً خطأ؛ لأن الفكر يعرض ويزول، ونحن في الأصل لم نؤاخذ على مجرد فكرة؛ لأن الفكرة غالب الحديث حديث نفس، أو إن شئت سمه: حديث عقل. أما العقيدة فهي الأمر المستوثق، المنعقد في قلبك، فالتكفير الباطل هذا عقيدة، والتبديع بغير حق عقيدة وليست هي أفكاراً، ونسمع من بعض الصحفيين الفكر الإرجائي، والفكر التكفيري، وهذا كله خطأ في الاصطلاح. يتبع |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (1) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل مشكلة المصطلح: والاصطلاحات التي تُلُوعِبَ بها سُمِّيت الأشياء بعد ذلك بغير اسمها، ألم يخبرنا النبي عن هذه الأزمة (أزمة الاصطلاحات) أنه يأتي في آخر الزمان من يشرب الخمر ويسميها بغير اسمها، فإذا سماها بغير اسمها درج ذلك عند الجهال، فظنوا أنها ليست الخمرة المحرمة. ويؤكل الربا فيسمى بغير اسمه وهذا وقع، فالربا يُسمى فوائد استثمارات اقتصادية، وهو ربا صريح، ولو سُمِّي باسمه لحذره المسلمون، أما إذا سُمِّي بغير اسمه عند الجاهلين وغير العارفين، فإنه يسوغ عندهم، ويسوغ، ولا يُنكر والخمر مثلاً سُمِّيت مشروبات روحية، أو مشروبات الفرفشة، أو مشروبات حمراء، وصفراء، حتى درجت فنشأ أجيال بعد ذلك لا يظنوا أنها هي الخمر المحرمة. وكذلك التدين إذا سُمِّي إرهاباً أُسِيء إليه، فالاستقامة على السنة لا تُسمى إرهاباً، لكن التشدد يُسمى تشدداً، ويُسمى تعسيراً كما سمته الشريعة. وكذلك من الانحراف في الأسماء والمصطلحات رسم ذوات الأرواح، أو نحتها فإنه يُسمى فناً عند أهله، والغنى، واللهو، والفن، والطرب يُسمى فناً. وتسميته فناً من اللعب بالمصطلح، فالمقصود أن هذا اعتقاداً، ولا يُسمى فِكراً، فإن تسميته فِكراً من المحدثات!. الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: سُمِّيت الفرقة الناجية لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها كذلك كما في الحديث المستفيض، والمتواتر، حيث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ستة عشر صحابياً حيث قال: (( افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً افْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً )). [12]وسماها فرقاً، ثم قال: (( كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً )). [13] فالحديث إلى هذا الجزء من الحديث متواتر إلى قوله: إلا واحدة. ولا عبرة فيمن يُضعف الحديث فإنه بلغ مبلغ التواتر إلى هذه الجملة، ثم بعد ذلك تباين الروايات، فأكثرها: (( قَالُوا: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي )). [14] وجاء في رواية: (( قَالَ: هُمُ السَّوَادُ الأَعْظَمُ )). وَجاء في رواية ثالثة فقال: (( هُمُ الْجَمَاعَةُ )).[15] ومن هذا الباب سُمِّي أهل السنة والجماعة أهل السنة؛ لأنهم على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أي: مع سنته. وسموا بالجماعة لقوله: هم السواد الأعظم. فهذان الوصفان مستمدهما من هذا الحديث الشريف، وقد شرح شيخ الإسلام شرح حديث الافتراق شرحاً بديعاً. فالرسول سماها فرقة، وجعلها فرقة ناجية، وغيرها هالكة كلها في النار، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (( كلها في النار )). أنه على جهة الوعيد. وهو نوعان: 1- فمنها ما هي في النار خالدة إذا كانت بدعتها ومخالفتها وافتراقها مُكَفِّراً مخرجاً عن ملة الإسلام. 2- ومنها ما ليست في النار خالدة، وإنما على جهة الوعيد، وهو ما كانت بدعتها مضللة مفسقة، لم تبلغ حد التكفير، وهذا كثير. أنواع البدع من حيث حكمها: 1- فمن البدع ما هي كفر كبدعة سب الصحابة وتكفيرهم، وكبدعة اعتقاد أن غير الله ينفع أو يضر، وكبدعة نفي القدر جملة فهذه مكفرة، وبدعة أن الله لا يعلم إلا الكليات كما هو مذهب الفلاسفة وبدع الباطنية، فهذه بالاتفاق أنها مكفرة، بل كفرها أكبر من كفر عقائد اليهود و النصارى وكثير من المشركين كما ذكره أهل العلم في فرق الباطنية، والإسماعيلية، والديصانية، والعبيدية، والحشاشين وأمثالهم. 2- وهناك بدع مضللة لا تبلغ حدَّ الكفر وإنما مبلغها مبلغ التضليل، كمؤولة بعض الصفات، ونحوهم، وهذه يأتي لها مزيد بسط وبيان في ذكر اعتقاد الشيخ. أوصاف الطائفة الناجية: فالفرقة الناجية هي ناجية في مقابل الفرق الهالكة. 1- الوصف الأول أنها فرقة. 2- والوصف الثاني أنها ناجية. 3- والوصف الثالث أنها منصورة. وهذا وصف ثالث لهذه الفرقة المعينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ )).[16] وفي بعض الألفاظ: (( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورَةٌ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ )).[17] والصحيح أن المنصورة وصف لهذه الفرقة، فالفرقة الناجية منصورة وإن خذلها الناس. النصرة نسبية قد تخفى في مناطق وأجيال وفئات، وتظهر في آخرين، والنصرة هاهنا من جهة أن الله نصرها وإن عرَّضها لأنواع البلاء، لكن تبقى منصورة، وضابط هذه النصرة كما في الحديث: (( لا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَا حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ )). لا يعتبرون بالكثرة إذا اعتبر غيرهم أن الحق في كثرة أهله، ولا يعتبرون بقوة سلطان، ولا يعتبرون بقوة مال، وإنما مبعث قوتهم ونصرتهم ناشئ من هذا الاعتقاد الذي اعتقدوه، وهو الاعتقاد الصحيح الذي هو الإيمان، فهؤلاء هم أهل السنة والجماعة، وعلى هذا أئمة السلف، فإن الإمام أحمد لما سُئِلَ: من هذه الفرقة الناجية؟. قال: " إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ". وجاء عن سفيان وغيره أنهم هم أهل الأثر وأهل العلم، وهذه أوصاف لرؤوس ورموز هذه الطائفة الناجية أنهم أهل علم، عنايتهم بعلم الوحي، وعلم الشريعة، وأنهم أهل حديث، طلاب لتصفية وتنقية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إنهم متتبعون لآثار رسول الله، وآثار أصحابه، فهم أهل الأثر؛ لتعظيمهم الآثار أشد من تعظيم غيرهم لأقوال ومعظمهم تعصبات لمذاهب الرجال، فهم أهل الآثار. وَهُوَ الإِيمَانُ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، والْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالإِيمانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. لخص شيخ الإسلام رحمه الله اعتقادهم إجمالاً بأصول الإيمان الستة، وهي: الإيمان بالله، وملائكة، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت وهو الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. فهذه هي أصول اعتقاد المسلمين، هذه هي أصول اعتقاد الفرقة الطائفة الناجية، هذه هي أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أصول الإيمان الستة. لِمَ أصول الإيمان ستة؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عددها ستة أصول كما في الحديث الذي هو أصل من أصول الإسلام حديث جبرائيل عليه السلام، لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فأخبره بأركانه الخمسة، فقال: (( صَدَقْتَ )). ثم سأله عن الإيمان فقال: (( أَخْبِرْنِي عَنِ الإيمَانِ. قَالَ: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ )).[18] وفي رواية: (( حُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى )). هذا التعريف للأسف أن المناطقة ومن تأثر بهم من الأصوليين لا يعدونه تعريفاً منطقياً صحيحاً؛ وإنما هذا هو أصدق التعاريف؛ لأنه جاء ممن لا ينطق عن الهوى، وبه تعرفون ما داخل بعض علوم الشريعة كأصول الفقه من شوائب أصول الضلال والبدع، ولهذا يعدون هذا التعريف غير جامع، أو غير مانع، أو غير مستوٍ، أو غير صحيح، والحق بخلاف قولهم: تأصيلاً وتفريعاً. أصول الإيمان ستة. وقد عدَّها النبي صلى الله عليه وسلم ستة أصول، وابن القيم وغيره من أهل العلم ربما سماها بالأصول الخمسة عداً من القرآن، كما في آية البقرة: ï´؟ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ï´¾ [البقرة: 177]. فذكر خمسة أصول، وفي سورة النساء ï´؟ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ï´¾ [النساء: 36] فذكرها الله تعالى في القرآن مجملةً خمسة أصول، وليس معنى هذا أن السنة تعارض القرآن، بل سيأتينا في الواسطية، قول الشيخ: " فصل: ثم السنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه ". لأن هذه الأصول الخمسة في آيتي البقرة وآل عمران لم يُذكر فيها القدر، وإنما جاء القدر مستقلاً في مواضع أخرى، منها قوله: ï´؟ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ï´¾ [الفرقان: 2]. وقوله: ï´؟ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ï´¾ [القمر: 49]. ولم يُذكر القدر مع هذه الأصول في آيتي النساء وقبلها البقرة؛ لأن القدر قدر الله، ولهذا جاء في الحديث عطف الخمسة على الفعل الأول، ثم لما جيء بالقدر كُرِّر الفعل مرة ثانية، فقال: (( الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ )). وما قال: تؤمن بالملائكة. ثم قال: (( وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ )). لأن القدر قدر الله، وهو من أفعاله تعالى، وعطف الفعل عليها تخصيصاً للتأكيد، والتنويه بشأن القدر الذي هو مزلة أقدام كثير من المتعبدين، وكثير من الطوائف المبتدعين على ما سيبينه الشيخ في مواضع. هذه هي أصول الإيمان الستة التي انعقد عليها كلام ربنا القرآن، وحديث نبينا صلى الله عليه وسلم خير البيان، وعليها الإجماع، وهي أصول الإيمان إجمالاً، فإذا قيل لك: ما أصول العقيدة، وما أصول الإيمان، وما أصول اعتقاد الفرقة الناجية؟. فلن تجد أشفى، ولا أجمع، ولا أصوب من أن تجيب بقول النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأصول الستة. [1] رواه أحمد ( 2/302، 343 )، وأبو داود ( 4841 )، والترمذي ( 1106 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] رواه أبو داود ( 1097 ). [3] خطبة الحاجة التي رواها ابن مسعود ورواها غيره من الصحابة رضي الله عنهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدمها بين حوائجه المهمة، أما الأصل هو أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه ومن صور هذا الحمد والثناء خطبة الحاجة.. [4] رواه البخاري ( 6306 )، عن شداد بن أوس رضي الله عنه. [5] النونية لابن القيم ( 3 )، مدارج السالكين. لابن القيم: منزلة المحبة. [6] رواه البخاري ( 4712 )، ومسلم ( 194 )، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [7] رواه أبو داود ( 5 /124 )، بسند جيد، وقال فيه ابن حجر: " رجاله ثقات، وقد صححه غير واحد ". فتح ( 5/179 ). [8] رواه النسائي في اليوم والليلة، ( 249 )، وأحمد في المسند ( 3 /241 )، وقال عبد الهادي في الصارم ( ص/246 ): " بإسناد صحيح على شرط مسلم ". [9] رواه البخاري ( 3435 )، ومسلم ( 28 )، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. [10] رواه البخاري ( 126 )، ومسلم ( 21 )، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [11] وهو أن - في هذه الورقات وهذا المتن فيه - اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة، أهل السنة والجماعة. [12] رواه أبو داود ( 4596 )، والترمذي ( 2640 )، وابن ماجه ( 3992 )، وأحمد، والنسائي، وغيرهما. [13] انظر: حديث الفرق طرقه، ورواياته، وفقهه. لعلي الشبل. [14] رواه الترمذي ( 2641 )، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وغيره. [15] رواه أبو داود ( 4597 )، ورواه أحمد ( 4 /102 )، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وغيره. [16] رواه مسلم ( 1920 )، والترمذي ( 2230 )، من حديث ثوبان رضي الله عنه. [17] رواه البخاري ( 3641 )، ( 7312 )، ورواه مسلم ( 1920 ) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، ( 1920)، من حديث ثوبان رضي الله عنه. [18] رواه مسلم بطوله ( 821 )، من حديث ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (2) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَمِنْ الإِيمَانِ باِللهِ الإِيْمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ وَلا تَكْييفٍ وَلا تَمْثِيلٍ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ ï´؟ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ï´¾ [الشورى: 11]. وَمِنْ الإِيمَانِ باِللهِ: إن أصل أصول الإيمان، وأساسها الذي عليه تعتمد، ومنه تتفرع: أصل الإيمان بالله عز وجل، وهو الإيمان بنوعي التوحيد، فإن الإيمان فيه نوعان من أنواع التوحيد - كذا عُرِف عند المتقدمين -: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب. ثم فصَّله شيخ الإسلام، وأهل العلم بأنواع التوحيد الثلاثة: 1- الأول: توحيد الربوبية، وهو إفراد الخالق بأفعاله. 2- الثاني: توحيد الأسماء والصفات، وهو الذي بَيَّنَهُ الشيخ ها هنا في قوله: ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه بالقرآن، فإن هذا هو توحيد الأسماء والصفات. 3- الثالث: توحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بأفعال المكلفين، بأن يُعبد الله وحده لا شريك له، هذه أنواع التوحيد مستندها استقراء أدلة التوحيد في الكتاب والسنة. الإِيْمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم: أي: إن من أنواع التوحيد توحيد الأسماء والصفات، وهو أحد نوعي توحيد المعرفة والإثبات، فإن المعرفة تتضمن معرفة أسماء الله وصفاته، التي سمَّى الله بها نفسه، وسمَّاه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ووصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله، والإثبات إثبات الأسماء والصفات والأفعال اللائقة بالله تعالى، كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: بما وصفته رسله عليهم السلام، وإنما عين رسوله بأنه محمد، علمًا بأن جميع الأنبياء جاؤوا بالتوحيد، وجاؤوا بإثبات الكمال لله؛ لأنه لا يتأتى لنا أن نعرف تفاصيل ما أثبته الأنبياء قبلنا من أسماء الله وصفاته؛ لأن مادتها في كتبهم المنزلة وقد حُرِّفت، وبُدِّلت، وزُيِّفت، وغُيِّرَت، وافْتُرِي على الأنبياء، فلما كان ذلك ما كان لنا أن نعرف تفاصيل ما جاءت به الأنبياء، صار التعويل بأسماء الله وصفاته بالتفصيل على ما جاء به ربنا السالم عن التحريف، والتبديل عن ذلك، وعما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم. مصادر تلقي العقيدة: وبهذا نعرف أن مصادر تلقي العقيدة ثلاثة: 1- الأول: الكتاب العزيز، فما جاء بالكتاب العزيز من العقيدة - ومنها أسماء الله وصفاته - أثبتناه لله، وآمنا به، وصدقنا. 2- الثاني: السنة الصحيحة، وهو المعنيُّ بقوله رحمه الله: وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أي: محمد، وهذا في سنته الصحيحة، فخرج عن ذلك السنة غير الصحيحة، فإنه لا يُعول عليها استقلالًا في إثبات الأسماء والصفات، أو مسائل العقيدة، لكن مع هذا نجد بعض أهل العلم قد يبني صفة، ثم يستدل عليها بحديث، وقد يكون هذا الحديث فيه ضعف، فهنا لا يُفْهَمُ أن هذه الصفة استُقِلَّ بإثباتها في هذا الحديث الضعيف فقط، وإنما هذا الحديث الضعيف بإسناده قد يكون معناه صحيحًا دلَّت عليه الأدلة الأخرى، فيكون ذكر الدليل ها هنا على جهة الاعتضاد، وجهة الاعتبار لا على جهة الاستقلال بالاستدلال؛ أي: إنه لم يستدل بهذا الحديث مستقلًا به عن غيره، وهذا كثير؛ كحديث أبي ذر رضي الله عنه في إثبات الكرسي والعرش، فقد دلت عليه الأدلة الأخرى كآية الكرسي، ولحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (إن الله حي)، وإن كان هذا الحديث مختلف فيه عند أهل العلم، وأكثر المحققين من المحدثين يُضعفه، ومنهم مَن يُحسنه بمجموع شواهده. 3- الأصل الثالث: الإجماع، وسيأتي بيان الإجماع المنضبط في كلام الشيخ في أواخر نهاية العقيدة، عند قوله: والأصل الثالث الإجماع، والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم؛ إذ بعدهم كثر الخلاف، وانتشرت الأمة. وقوله: من الإيمان بالله أن نؤمن بما وصف به نفسه، فإنه إذا أُطْلِقَ الوصف دخل فيه التسمي؛ لأن الوصف والاسم معنيان مرتبطان بعضهما ببعض؛ أي: ونسمي الله بما سمى به نفسه، وما سماه به رسوله، وهذا هو اعتقاد أهل السنة الذي ساقه الشيخ في أسماء الله وصفاته أن نؤمن بما وصف الله به نفسه، وما سمى الله في كتابه (القرآن)، وبما وصفه به رسوله وسماه به رسوله، ولا بد من قيود أربعة: من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل. مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ: لأن هذه القيود الأربعة تخلص لنا مذهب السلف الصالح في أهل السنة والجماعة عن غيرها من مذاهب الناس، فكل يدَّعي أنه الحق، فالأشاعرة الكلابية يقولون: نحن أهل السنة، والمعتزلة يدَّعون أنهم مذهب أهل الحق، فليس العبرة بمجرد الدعوى بسلامته، وإنما الشأن بالتي تخلص لنا مذهب السلف الصالح أهل السنة من غيرها من المذاهب المنتسبة، والمنتحلة مذهب السلف، وهي بعيدة عنه. والتحريف هو التأويل الباطل، ولم يُعَبِّر شيخ الإسلام بالتأويل مع أنه مصطلح أشهر من التحريف، فلم يقل: من غير تأويل، وذلك أن التأويل لم يأت ذمه في القرآن، بل الذي جاء ذمه التحريف؛ كما عاب الله على اليهود بقوله: ï´؟ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ [النساء: 46]، وقال: ï´؟ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ï´¾ [النساء: 41]. أنواع التأويل وأمثلته: والتأويل يُطلق على معانٍ: 1- منها ما هو صحيح كإطلاقه على التفسير. 2- وإطلاقه على التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، فهذا حق. 3- ومنها ما هو صحيح وفاسد بحسب قرينته كما هو مستخدم عند المتكلمين؛ حيث يطلقون التأويل على صرف اللفظ عن ظاهره إلى احتمال آخر بقرينة. فهذه القرينة إذا كانت صحيحة، فالصرف صحيح، وإن كانت القرينة غير صحيحة، فالصرف غير صحيح، وقرينة تأويل أسماء الله وصفاته وتحريفها (بمسمى التأويل) عن معناها الظاهر اللائق بالله قرينتها غير صحيحة، بل هي فاسدة، وأصل التحريف الانحراف عن الحق، والميل عن الصواب، فإذا حرف الشيء يعني أنه أماله؛ كما قال تعالى:ï´؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ï´¾ [الحج: 11]؛ أي: انحراف. أنواع التحريف وأمثلته: والتحريف في الاصطلاح أنواع، كتحريف الأسماء والصفات: 1- النوع الأول: تحريفها بالزيادة، بأن يزاد فيها ما ليس منها، من ذلك تأويل المتكلمين والمتجهمة في قوله تعالى ï´؟ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ï´¾ [الفجر: 22]، قالوا: وجاء أمر ربك، فزادوا في كلام الله تعالى معنى حرفوا فيه كلام الله عن ظاهره اللائق بالله، ومثاله في السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَنْزِلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الثُّلُثِ الأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ)[1]. فقالوا: ينزل ملك، أو تنزل رحمته، أو ينزل أمره، بمعنى أنهم يُحرفونه بالزيادة، وهذا كثير. ومنه تحريف اليهود لما أمرهم الله تعالى على لسان موسى عليه السلام أن يقولوا: حطة، فقالوا: حنطة، فزادوا حرفًا واحدًا وهي النون، وما (نون) هؤلاء اليهود بعيدة عن (لام) المتجهمة، والمتكلمة؛ حيث أوَّلوا الاستواء إلى الاستيلاء، فقالوا: ï´؟ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ï´¾ [طه: 5]، بمعنى: استولى، فهذا تحريف بالزيادة، وهذا النوع الأول من أنواع التحريف. 2-النوع الثاني: تحريف بتغيير الشكل، تحريف لكلام الله بأسمائه وصفاته بتغيير الضبط والشكل، كما أراد الجعد بن درهم أو غيره من أحد القراء أن يبدل قول الله: ï´؟ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ï´¾ [النساء: 164]، بأن يجعلها: وكلم اللهَ موسى، فكأن الله هو الْمُكَلَّم، وموسى هو الْمُكَلِّم، فأراد أن يحرف الشكل، فقال أبو عمرو بن علاء المقرئ المشهور: "هب أنني فعلت ذلك، فكيف تصنع بقول الله تعالى: ï´؟ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [الأعراف: 143]، فهذا إبطال للتأويل بتغيير الشكل. 3- النوع الثالث: تحريفٌ بتغيير المعنى، وهذا عامة عمل المؤولين المحرفين؛ سواء في الأسماء والصفات كما عند المتجهمة، والمتعزلة، والمتكلمين من الأشاعرة، والماتريدية وأمثالهم، أو التأويل في نصوص الوعد والوعيد كما عند الوعيدية، والمرجئة، أو التأويل في نصوص المعاد كما عند الفلاسفة، والباطنية، والمعتزلة فيما يتعلق بعذاب القبر، والوزن، والصراط، وما إلى ذلك، هذا هو التحريف، وهو تغيير المعنى؛ سواء بالزيادة، أو النقصان، أو بتغيير الشكل، أو بتغيير معنى الكلام عن معناه الظاهر المتبادر إلى الله تعالى. وقد يكون التأويل بالنقص، بأن يُنقص الشيء عن معناه كما فعلته الجهمية، والمعتزلة في كلام الله، جعلوه كلامًا للمخلوق، فقالوا: كلام الله يعني خلق الله. وَلا تَعْطِيلٍ: أما التعطيل فأصله من الإفراغ، فإن الشيء المْعُطَّل الْمُفْرَغ، فإذا قالوا: فلان عاطل عن العمل؛ أي: إنه مُفْرَغٌ من العمل، ليس عنده عمل، ومنه قوله تعال ï´؟ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ï´¾ [الحج: 45]، بئر معطلة بمعنى أنه لا ماء فيها، وليس عليها دلو، ومن الأمثلة أن كبار السن إذا رأوا إنسانًا ما فيه خير، أو إنسانًا لا يُرجى من ورائه النفع، قالوا: "فلان بئر ما عليها دلو"؛ أي: إنها ليس فيها ماء، إنما هي حفرة، فالبئر المعطلة هي المفرغة، والخالية من الماء، والتعطيل فيما يتعلق بالله تعالى إفراغه عن الأسماء والصفات كما هو مذهب الجهمية، وغلاة المعتزلة، ومذهب الفلاسفة، أو إفراغه عن الصفات كما هو مذهب عامة المعتزلة، أو إفراغه عن بعض الصفات كما هو مذهب عامة المتكلمين من الأشاعرة، والماتردية، ويدخل معهم المسمون عند أهل العلم بالصفاتية؛ لأن عندهم اضطراب في صفات أثبتوها وصفات لم يثبتوها، هذا هو التعطيل، وهو إفراغ الله عن الكمالات من أسمائه وصفاته، أو عن بعضها. ومن غير تَكْييفٍ: والتكييف هو البحث عن كيفية الشيء - (حقيقته وماهيته، وما هو عليه) - والدليل على أن منهج السلف يقوم بإثبات الأسماء والصفات من غير تكييف العبارة، وجاء في الجملة الْمُتَلَقَّاةُ بالقبول مروية عن أم سلمة رضي الله عنها وعن ربيعة الرأي - ربيعة بن فروخ - وعن الإمام مالك أنهم قالوا في الاستواء: "الاستواء معلوم والكيف مجهول - أي: إننا لا نعلم كيفيته - والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة"[2]. وَلا تَمْثِيلٍ: أي: ولا تمثيل، ولم يُعَبِّر الشيخ بقوله: ولا تشبيه؛ لأن وصف التشبيه أكثر دورانًا على ألسنة هؤلاء المعطلة في نفي التشبيه، والممثلة في إثبات التشبيه، فلم يقل رحمه الله: ولا تشبيه؛ لأن الذي جاء نفيه في القرآن التمثيل؛ كما في سورة الشورى: ï´؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ï´¾ [الشورى: 11]، مع أن التمثيل بمعنى التشبيه، لكن الشيخ يعبر بالألفاظ التي جاءت عنها الأدلة، وهذا منهج جلي لدى محققي أهل السنة والجماعة. أيهما أشنع التمثيل أم التعطيل؟ والتمثيل هو مماثلة الله تعالى لخلقه، والتمثيل مذهب غلاة الروافض، وغلاة الكرامية، وغلاة الصوفية أنهم مثلوا الله تعالى بخلقه وهذا مذهب قبيح، والتعطيل مذهب قبيح، فأما القبح فكلاهما قبيحان، لكن التعطيل أشد قبحًا من التمثيل؛ لأن المعطل قبل أن يعطِّل مثَّلَ، فذهب التمثيل والتشبيه عن قلبه، فقال بالتعطيل الذي يسميه - زورًا وبهتانًا -: تنزيهًا. ومثاله: المعطل الذي نفى عن الله أن يتكلم، ونفى الكلام عن الله بقوله: لأن الكلام من صفات الأجسام، ولا يتكلم إلا المخلوق، فشبه كلام الله بكلام المخلوق، فذهب يريد أن يطرد هذا التشبيه، فقال: إن الله لا يتكلم، لَمَّا نفى نزول الله قال: ما ينزل إلا المخلوق، فذهب يريد أن ينفي هذا النزول الذي تصوَّره تشبيهًا، فقال: إن الله لا ينزل، وإنما ينزل أمره، أو رحمته، أو الملك، فالمعطل جمع بين التمثيل لما اعتقده وصوَّره، ثم أضاف إليه قبحًا آخر وهو التعطيل. بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ ï´؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ï´¾ [الشورى: 11]، فإن الله نفى أن يشابهه أي شيء أو يماثله أي شيء، فقال: ï´؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ï´¾ [الشورى: 11]؛ لأنه واحد، فكما أنه واحد في ذاته فهو واحد في أسمائه وصفاته لا شبيه له ولا مثيل له، وواحد في أفعاله لا يشابهه شيء. نفى في أول الآية التمثيل، وَرَدَّ في آخرها على أهل التعطيل لما أثبت أنه سميع بصير ï´؟ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ï´¾ [الشورى: 11]، فهو السميع له سمع يسمع الأصوات، وبصير له بصر يُدرك المبصرات، وهذا هو مذهب السلف في أسماء الله وصفاته، أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبدالله من الأسماء والصفات، وهذا الإثبات على الوجه اللائق بالله عظمة وجلالة، من غير تحريف، ومن غير تعطيل، ومن غير تكييف، ومن غير تمثيل، وإنما على ما يليق بالله؛ كما مدح نفسه بقوله: ï´؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ï´¾ [الشورى: 11]، ولهذا قال: فَلا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاء اللهِ وَآيَاتِهِ، وَلا يُكَيِّفُونَ وَلا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ سبحانه وتعالى: هذه الجملة يمكن أن نُعنصرها بقولنا: ما خصائص مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات؟ [1] رواه البخاري ( 7494 )، ومسلم ( 758 )، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] رواه اللالكائي في شرح السنة، ( 664 )، والبيهقي في الأسماء والصفات ( 2867 )، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 13/ 407 ): إسناده جيد، ورواه ابن عبدالبر في التمهيد ( 7/ 2151 )، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد قول مالك: "وهذا الجواب.........، لكن ليس في إسناده مما يُعتمد عليه، وهكذا سائر قولهم يوافق مالك"؛ مجموع الفتاوى ( 5/ 365 ). |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (3) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل بل يؤمنون بأن الله سبحانه ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]. فإنَّ الله نفى أن يشابهه أيُّ شيء أو يُماثله أيُّ شيء، فقال: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]؛ لأنه واحد، فكما أنه واحد في ذاته فهو واحد في أسمائه وصفاته، لا شبيه له، ولا مثيل له، وواحد في أفعاله لا يُشابِهه شيء. نَفى في أوَّل الآية التمثيل، وردَّ في آخرِها على أهل التعطيل لمَّا أثبت أنه سميع بصير:﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]؛ فهو السميع، له سمع يسمع الأصوات، والبصير، له بصر يدرك الْمُبصَرات، وهذا هو مذهب السلف في أسماء الله وصفاته؛ أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبدالله من الأسماء والصفات، وهذا الإثبات على الوجه اللائق بالله عظمةً وجلالةً، من غير تحريف، ومن غير تَعطيل، ومن غير تكييف، ومن غير تمثيل، وإنما على ما يليق بالله؛ كما مدَح نفسَه بقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]. ولهذا قال: فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يُحرِّفون الكَلِمَ عن مواضعِه، ولا يُلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يُكيِّفون ولا يُمثِّلون صفاته بصفات خلقه سبحانه وتعالى: هذه الجملة يُمكن أن نُعنصرَها بقولنا: ما خصائصُ مذهب أهل السنَّة في الأسماء والصفات؟ خصائص أهل السنة والجماعة هي: 1- الأولى: أنهم لا يَنفون عن الله ما وصف به نفسَه، وما وصفه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، فسمَّى سبحانه نفسَه في القرآن بأنه سميع، وبصير، وعليم، وعليٌّ - له علوٌّ - وجبار، وبأنه الأول والآخِر، والظاهر والباطن، فلا يَنفون عن الله ما وصف به نفسه، أما أهل التعطيل وأهل التمثيل يَنفون عن الله ذلك؛ فالممثِّلة يقولون: إنَّ صفات الله التي وصف بها نفسه كصفات المخلوق، فوصفوا الله بالنقائص لما شبَّهوه بالمخلوق، والمعطِّلة نفَوا عن الله ما وصف به نفسه؛ تحت أصل التحريف الذي سمَّوه تأويلاً، أو سموه تنزيهًا، فدرَجوا تحته أن يَنفوا عن نفسه الكمال. الله وصَف نفسه بأنه استوى على العرش في سبعة مواضع في القرآن[1]، فيقول المعطِّلة: ما استوى، ولكن استولى على العرش! فنَفَوا عن الله ما وصف به نفسَه، وكذلك نفَوا عن الله ما وصفه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، فالرسول وصَف الله بأنه يَضحك، ووصفَه بأنه يغضب، وأنه له أصابع... وهُم يَنفون عنه ذلك! 2- الثانية: أنهم لا يحرِّفون الكلم عن مواضعه؛ فالتحريف منفيٌّ عن أهل السنَّة؛ لأنهم لا يؤولون كلام الله وكلام رسوله تأويلاً يُخرج اللَّفظ عن معناه وإن سمَّوه تأويلاً، لكنه هو في الحقيقة ليس تحريفًا للكلم عن مواضعِه كما حرَّف أهلُ الكتابين كتابَ ربهم عن مواضعه، والتحريف: التأويل الفاسد، وقد عده العلماء طاغوتًا من طواغيت أهل البدع في رد النصوص؛ كما نصَّ عليه ابن القيم في "الصواعق المرسَلة". 3- الثالثة: أنهم لا يُلحدون في أسماء الله وآياته، والإلحاد هو الميل في أسماء الله التي سَمى بها نفسه، وفي آياته الشرعية التي اشتملت على الصفات، واشتملت على أمور العقيدة، واشتملت على التفاصيل والأحكام؛ لأن الله سبحانه نهانا عن ذلك في قوله: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ﴾ [الأعراف: 180]. 4- الرابعة: أنهم لا يُكيِّفون أسماء الله وصفاته، فلا يَعتقدون عِلمَهم بكيفيَّة أسماء الله وصفاته وذاته؛ لأنَّ هذا مما أُخفي عنهم علمُه كما قال السَّلَف: والكيف مجهول. 5- الخامسة: أنهم لا يمثِّلون صفاتِه بصفات خَلقه، فلا يقولون: صفات الله مثل صفات المخلوقين، وكلامه ككلام المخلوقين، وسمعُه كسَمعهم، وعُلوُّه كعُلوِّهم، لا، وهذا من خصيصة مذهب أهل السنة، الذي تميَّزوا به عن أولئك المنحرفين. سيأتينا في باب الصفات أنهم وسَط بين المشبِّهة الممثِّلة، وبين المعطِّلة المؤوِّلة كما أخرج الله اللبن أبيضَ صافيًا من بين فرثٍ ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين؛ فمِن بين فرث - فرث التمثيل - ومن بين دم - دم التعطيل - أخرج الله هذا المذهب صافيًا، فهذه خصائصهم. أنواع الإلحاد في أسماء الله: والإلحاد في أسماء الله أنواع؛ منها: 1- أولاً: تسمية المخلوق بأسماء الخالق؛ فيسمَّى المخلوق بالله، أو يُجعَل له تسعة وتسعون اسمًا، كما فعله بعض الطغاة، وكمن سمى المخلوق ملك الناس. 2- ثانيًا: ومن الإلحاد تسمية الخالق بأسماء المخلوق، وهو أن تسمي الله بما لم يسمِّ به نفسه؛ ولهذا فالفلاسفة والمتكلمون يسمون الله بالمخترع، والمتكلمون يسمون الله بالصانع القديم، فتسمية الله بما لم يسم به نفسه إلحاد في أسماء الله. 3- ثالثًا: أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه؛ فالنصارى سموا الله بالأب والابن وروح القدس، والفلاسفة سمَّوا الله بالأزلي، أو بالعلة الفاعلة، أو بعلة الأفلاك، وهنا سموا الله بما لم يسم به نفسه، وهذا إلحاد. 4- رابعًا: ومن الإلحاد أيضًا أن يسمى المخلوق بمشتقات أسماء الله؛ كما جاء أن المشركين سموا اللات من اسم الله الإله، وسموا العزى من اسم الله العزيز، كما جاء ذلك عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وهذا إلحاد في أسماء الله. 5- خامسًا: نفي أسماء الله كلها؛ كما عليه الجهمية والفلاسفة، أو بعضها؛ كما عليه المعتزلة والرافضة. أنواع الإلحاد في صفات الله: وكذلك الإلحاد في صفات الله يندرج عليه هذه الأقسام؛ أن يوصف الله بصفات المخلوق، أو يوصف المخلوق بصفات الخالق، أو ينسب إلى الله من الصفات ما لم يصف به نفسه. لأنه سبحانه وتعالى لا سميَّ له: أي: إنه ليس ثمة مَن يستحق اسمَه سبحانه على الحقيقة؛ فقد يُسمى الاسم كالاسم، فالله يُسمَّى العزيز وقد يسمى المخلوق عزيزًا؛ كما قال تعالى: ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ ﴾ [يوسف: 51]، وسَمى الله نفسه بالملك، وسمى بعض خلقه مَلكًا فقال: ﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ﴾ [الكهف: 79]، لكن الاسم هنا كالاسم لفظًا، مع عِظَم المباينة والمُفارَقة حقيقةً ومعنى، ولهذا قال: الاسم كالاسم، والمُسمَّى ليس كالمسمى؛ فقوله: لأنه لا سميَّ له؛ أي: إنه ليس أحدٌ يستحق اسمه سبحانه وتعالى على الحقيقة؛ كما قال: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]؛ أي: لا أحد يُساميه. ولا كفء له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى: أي: إنه لا أحد يكافئه بأن يُماثله أو يناظرَه، أو يساويَه أو يساميَه، ولا ندَّ له (كفء)، ولا يقاس بخلقه سبحانه، قال نُعيم بن حمَّاد: "مَن شبَّه الله بخلقه كفرَ، ومَن جحَد ما وصف الله به نفسه أو وصفَه رسولُه كفَر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيهٌ". أنواع الأقيسة: ولا يُقاس بخلقه؛ لأن الخالق لا يَدخل مع المخلوق في قياس تمثيلي، أو شمولي؛ ولهذا فإن مصادر الأدلة الفقهية أربعة: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس، وأما العقيدة فمَصادرها ثلاثة: الكتاب، والسنَّة، والإجماع الصحيح، وأما القياس فليس له اعتبار؛ لأن الله لا يقاس بخلقه إلا قياسًا واحدًا، وهو قياس المثل الأعلى. وتسميته قياسًا على جهة الاصطلاح، وإلا فإن حقيقتَه ليس بالقياس؛ لأنَّ القياس المنفيَّ هو القياس الشمولي، أو القياس التمثيلي المشهور عند الأصوليِّين، وهو: إلحاق الفرع بالأصل في الحكْم لعلَّة جامعة بينهما، ولا يَجوز أن يلحق الله بخلقِه أو يلحق المخلوق بالخالق، وهذا معنى قوله: ولا يُقاس بخلقه سبحانه وتعالى، وقال في سبب ذلك: فإنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثًا من خلقِه: ولهذا كان وصف الله لنفسِه، وتسمية الله نفسه - أعظمَ شيء؛ لأنه أعرف بنفسه، وهو أعرف بخلقِه وما يعرفون ويُدركون، وما تُقلُّه قلوبهم، وتُدركه مَداركهم وعقولهم، ولهذا أمرنا أن نُثبت له ما أثبته لنفسه، ولا نَدخل متهوِّكين بآرائنا لمعرفة كيفية ذلك، ولا معطِّلين لله بالتأويلات الفاسدة، ولا ممثِّلين له بخلقه، ولا محرفين كلامَه عن معناه، ولا معطلين؛ لأنه تعالى أعلم بنفسه، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثًا من خلقِه؛ كما جاء في القرآن: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آل عمران: 95]. [1] في سور: الأعراف، ويونس، والرعد، والفرقان، والسجدة، والحديد؛ ففيها كلها: ﴿ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الأعراف: 54]، والموضع السابع في سورة طه: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (4) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل ثم رسله صادقون مُصدَّقون: هنا أتى بالرسل جميعًا؛ لأن المقام مقام ثناء لا مقام استدلال بما عليه تفاصيل هؤلاء الرسل، فهؤلاء الرسل عليهم السلام صادقون؛ لأن الله صدقهم ولأن الرسول لا يكذب باتفاق العقلاء، مصدوقون؛ أي: إن الله صدَقَهم، فمصدوق اسم مفعول من الفعل الثلاثي صدق، واسم الفاعل منه صادق، وفي بعض النسخ: "ثم رسله صادقون مُصدَّقون" من الرباعي صدق، واسم الفاعل منه مصدِّق، واسم المفعول مصدَّق، وكلا المعنيين صحيح، والنسخ جاءت بهذا وهذا. رسله صادقون، وقد صدَّقهم الله وأصدقهم، فلم يفتروا على الله تعالى الكذب، ولم ينسبوا لله في باب الوصف والتسمي والفعل ما ليس لله. بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون حقيقتها؛ ولهذا قال: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الصافات: 180]. والذين يقولون على الله ما لا يعلمون هم أعداء الرسل؛ كما بيَّنهم رحمه الله في كتابه "التدمرية"، أعداء الرسل سواء كانوا مِن الفلاسفة، أو مِن الْمُشركين، أو من الصابئة، أو مِن أهل الكتابَين الْمُحرِّفين، أو من المتجهِّمة، أو من المعتزلة، أو من الممثِّلة، أو مِن المتكلمين، وإذا أُطلق المتكلِّمون يُراد بهم الأشاعرة والماتريدية، فإن هؤلاء خالَفوا ما عليه الرسلُ بقدر مخالفتهم إياهم في نفي وتعطيل أسماء الله وصفاته، أو تمثيل وتشبيه أسماء الله وصفاته؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى في آخر سورة الصافات: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الصافات: 180]؛ أي: بما وصَفه به الجاهلون، ومنهم المشركون لمَّا نسبوا لله تعالى الولد والبنات، ونسبوا لله النقائص كما فعلته اليهود: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 181، 182]، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ [المائدة: 64]. ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182]. فسبَّح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسُل: فهو سبحانه وتعالى سبَّح نفسه عما وصفه به الجاهلون فقال: ﴿ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، سبَّح نفسه عما وصفه به مُخالفو الرسُل؛ إن كان في الأسماء والصفات، أو في استحقاقه لما جعَلوا الشريك، سواء الشريك في الملْك، أو الشريك في الفعل، أو الشريك في العبادة. أنواع الشرك في التوحيد: 1- الشريك في الملْك والشريك في الفعل هذا في شرك الربوبية. 2- والشريك في العبادة هو في شرك الإلهية. 3- أو الشريك في أسمائه وصفاته، لما منحوا المخلوق أو بعض المخلوقين شيئًا من أسماء الله أو صفاته وقعوا في الشرك في الأسماء والصفات. سلام على المرسَلين، وكان المناسبة في سلامه على المرسَلين أن قال: وسلام على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من النَّقص والعيب: أي: ما قالوه في حقِّ الله في توحيد أسمائه وصفاته، في توحيد إلهيته في ربوبيته من النقص والعيب، ولهذا روى أحمد وغيره بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سلَّمتم عليَّ فسلموا على المرسَلين؛ فإنما أنا رسول من المرسَلين))[1]، وأخذ العلماء من ذلك استحباب أن يُصلي ويُسلِّم على أنبياء الله ورسله لهذا الدليل، ولهذا المعنى المستنبط من هذه الآية. هو سبحانه قد جمع فيما وصَف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات سبحانه وتعالى: هذه قاعدة من قواعد أهل السنَّة والجماعة في أسماء الله وصفاته، ومِن قواعد أهل السنَّة والجماعة في هذا الفنِّ - فن الأسماء والصفات - أنَّ الله جمع فيما وصَف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات، فنفى عن نفسه أشياء، وأثبت لنفسه أشياء؛ ففي باب الأسماء سمَّى الله نفسه بأسماء؛ منها: العليم، والحكيم، والسميع، والبصير، والعلي، والظهير، والأول، والآخر... وغير ذلك، ونفى عن نفسه أشياء، ففي آية الكرسي: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255] نفى عن نفسه السِّنَة والنَّوم، نفى عن نفسه الظلم فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [النساء: 40]، ونفى عن نفسه اللُّغوب - وهو التعب والإعياء والنصَب - فقال: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]، ونفى عن نفسه العجز فقال: ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [العنكبوت: 22]. هذه أشياء أثبتَها الله لنفسه، ونفاها عن نفسه. أنواع النفي والإثبات في الصفات: والنفي في القرآن يأتي في باب الأسماء، ويأتي في باب الصفات؛ ففي باب الأسماء يأتي النفي مجملاً نحو قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الصافات: 180] هذا نفْي عما وصَفه به الجاهلون. ويَجيء النفْي مفصلاً نحو قوله تعالى: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 3، 4]، وقوله: ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 3]، وقوله: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]، فجاء النفْي مفصَّلاً وجاء مثبتًا. كما أن الإثبات جاء مفصلاً وجاء مجملاً، فالإثبات المفصَّل نحو قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقوله: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [الحشر: 22]، ومن الأدلة على الإثبات المُجمَل في الأسماء قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الأعراف: 180]، وفي آخر آية سورة الحشر: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الحشر: 24] فصَّل ثم أجمل، فجمع الله فيما وصف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات. أنواع النفي: وكلُّ نفْي عن الله في القرآن فإنه النفي الممدوح المحمود؛ لأن النفي نفيان: 1- الأول: نفْي محض، وهذا ليس بكمال، ولم يأت ذلك في القرآن ولا في السنَّة. مثاله: قول المتكلمين عن الله: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا بجوهر ولا عرض ولا جسم. وقول المعطلة: لا أسماء له ولا صفات، وقول الباطنية بسلب النقيضين: لا حي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم. 2- والثاني: نفي ممدوح، وهو ذلك النفي الذي يثبت نقيض المنفي، فكل ما نفاه الله عن نفسه فله سبحانه وتعالى كمال ضد هذا المنفي. مثاله: نَفى عن نفسه النوم؛ لكمال حياته وقيُّوميَّته، ونفى عن نفسه السِّنَة؛ لكمال حياته، فقال: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]، ونفى عن نفسه الظلم لكمال عدله، فقال: ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، ونفى عن نفسه العجز؛ لكمال قوته، فقال: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [فاطر: 44]، ونفى عن نفسه العُزوب؛ لكمال علمِه وإحاطته، فقال: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]، ونفى عن نفسه الولد والصاحبة؛ لكمال أحديته ووحدانيَّته وفرديته، فقال: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]، وهكذا غيرها؛ فكل نفْيٍ نفاه الله تعالى عن نفسه في القرآن، ونفاه عنه رسوله فهو نفي ممدوح لإثبات كمال ضدِّه. فلا عُدول لأهل السنَّة والجماعة عما جاء به المُرسَلون: طريقتهم في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وفي توحيد إلهية ربهم وعبادته هي بما جاء به المُرسَلون عليهم السلام؛ لأنَّهم أعرفُ الخَلقِ بالله، وهم الذين يَدلُّون الخَلق على الله ويُعرِّفونهم بالله، وبحق الله. فإنه الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين: أي: إن طريق هؤلاء هو الصراط المستقيم الذي لا عِوَج فيه ولا انحراف، ولا ميلَ ولا إلحاد، وقوله: صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - تضمينٌ من سورة النساء في قوله: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]، وقد رتَّبهم سبحانه وتعالى بحسب مراتبِهم: 1- بدأ بالأفضل وهم الأنبياء، ويدخل فيهم الرسل. 2- والمرتبة الثانية مرتبة الصدِّيقية، وهم أقل رُتبةً من الأنبياء، وأفضل ممن هم دونهم. 3- ثم مرتبة الشهادة فالشهداء بعد الصدِّيقين. 4- ثم مرتبة الصالحين. ولهذا فالصِّديق أبو بكر رضي الله عنه في مرتبة الصديقية، وهو أفضل من عموم الشهداء؛ فعُمر وعثمانُ وعليٌّ وأكثر العشرة شهداء، والصديق أبو بكر أفضل منهم، فنال بالصديقية مرتبةً أعلى من مرتبة الشهادة، والشهداء أعلى من مراتب عموم الصالحين، ومن أفراد الصالحين مَن قد يَفضُل بعضَ أفراد الشهداء، ومِن الشهداء مَن قد يفضل الصديقين؛ إذا كان له مع الشهادة وصف آخر كوصف النبي. فمِن الأنبياء مَن قتله قومه فجمع الله له بين النبوة والشهادة، فهذا أعلى بهذا الاعتبار من الصدِّيق، وقد يكون الصدِّيق شهيدًا فقد يُدرك هذه المرتبة، فيجمع بين الصديقيَّة، وهي قوة تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم تصديقًا بالاعتقاد والقلب، يتبعه القول والعمل، ويجمع معه مرتبة الشهادة، كأفرادٍ من بني إسرائيل جاء وصفُهم أنهم بلَغوا في الصديقية مبلغها، وأضافوا إليها مبلغ الشهادة، لكن أبا بكر هو أفضل أتباع الأنبياء قاطبة؛ لما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نقول والنبي حيٌّ بين أظهرنا - أي: إنه صلى الله عليه وسلم يقرُّنا على ذلك - أفضل الناس بعد النبيين أبو بكر ثم عمر ثم عثمان"[2]. ولهذا وزَن إيمانُ أبي بكر رضي الله عنه إيمان الأمة؛ كما رواه أحمد وغيره، وقال الصحابة رضي الله عنه: "والله ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة، ولا صيام، ولكن شيء وقر في قلبه". [1] وقد كلفني سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله ببحث هذا الحديث تخريجًا، وحكمًا. [2] رواه البخاري (3697)، وأحمد في المسند (2 / 14)، وغيرهما، بلفظ: "أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر". |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (6) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل قوله سبحانه: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58]: فيه أن نفْي الموت عن الله من الكمال الذي فيه كمال ضد المنفي؛ لكمال حياته. والآيات التي ساقها الشيخ رحمه الله بعد ذلك هي في إثبات علم الله تعالى؛ إثبات صفة العلم، وهو من أجلِّ الصفات، وكلُّ صفات الله جليلة، ومن ذلك قوله تعالى في أول الحديد يمدح نفسه ويُمجِّدها، ويُعرف خلقَه بنفسه سبحانه، فإن الأسماء والصفات في القرآن تُعرف من الله إلينا، يعرفنا الله بنفسه في أسماء وصفاته؛ فقال: وقوله سبحانه: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]: هذه الأسماء - الأول والآخر، والظاهر والباطن - فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المخرَّج في الصحيح من أذكار النوم: ((اللهمَّ أنت الأول فليس قبلك شيء)) الحديث[1]، فلا مزيد على تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لمعاني هذه الأسماء الحسنى. • الفرق بين بابَي الوصْف والخبر في حق الله: المتكلِّمون قد يسمونه تعالى بالقديم، والقديم ليس من أسماء الله، ولكن يجوز إطلاقه خَبرًا عن الله؛ لأنَّ من قواعد أهل السنة في الصفات التوقيفَ، فلا نَصِف الله ولا نُسميه إلا بما جاء في الكتاب والسنَّة الصحيحة، وهذه هي القاعدة في باب الوصف والتسمِّي، لكن في باب الخبر يجوز أن نخبر عن الله بكل معنًى صحيح، والأخبار جاءت في القرآن؛ فقد قال تعالى: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ ﴾ [الأنعام: 19]، فيقال: إن الله شيء، لكنه شيء لا كالأشياء، وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا شخْصَ أغيَرُ من الله))[2]، فلا يقال: إنَّ الله يسمَّى ويوصف بالشخص؛ لأنَّ هذا من باب الخبر عن الله تعالى، فباب الأخبار - وهذه قاعدة - أوسع من باب الوصْف والتسمي، فنَقول: يَجوز أن يخبر عن الله بكل معنى صحيح يليق به سبحانه، يقال: إنَّ الله سابق الصَّوت، وسابق الفوت هذا معنى صحيح، فيُخبَر به عن الله، لكن لا يجوز أن يوصَف الله أو يُسمَّى إلا بما ثبَت من أسمائه وصفاته، فيخبر عن الله بأنه متقدِّم على غيره، لكن مع الكراهة؛ لأنَّ عندنا مِن أسماء الله ما يُغنينا عن هذا المعنى، وهو اسم الله الأول الذي ليس قبله شيء. ومما يُسمى به الله عند النَّاس: الدائم، وليس الدائم من أسماء الله، ولهذا في بعض البلدان إذا خرَجوا في جنازة ردَّدوا: "يا دائم، هو الدائم، ولا دائم غير الله..." إلى أن يبلغ بالجنازة إلى المقبُرة، وربما سمَّوا أنفسَهم بعبدالدائم وأولادَهم، أو عبدالموجود، فالدائم والموجود ليسا مِن أسماء الله، لكنُ يخبَر عن الله بأنه دائمٌ ويُخبَر عن الله بأنه موجود، ولكن الذي مِن أسمائه سبحانه وتعالى "الآخر" دلَّ على معنى الدائم وزيادة. ﴿ وَالْآخِرُ ﴾ [الحديد: 3]: الذي ليس بعده شيء، يفنى خلقه وهو سبحانه باق لا يَفنى، ﴿ وَالظَّاهِرُ ﴾ [الحديد: 3]: الذي ليس فوقه شيء، وهذه من أدلة علوِّ الله بذاته أنه ظاهر، ﴿ وَالْبَاطِنُ ﴾ [الحديد: 3] بمعنى أنه قريب ليس دونه شيء؛ كما فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم. ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]؛ فسياق هذه الآية إثباتُ علم الله تعالى بكل شيء، وهذا دليل على علم الله بكلِّ شيء مما كان ومما يكون ومما لم يكن لو كان كيف يكون؛ لأنه شيء حتى ولو في داخل الذي يُسمى شيئًا، والله به عليم. • إثبات صفة العلم لله عز وجل: وقوله سبحانه: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [التحريم: 2]، ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18]: فيه إثبات علمه سبحانه وتعالى وأنَّ مِن علمه أنه يُخبر علمه علم الخبير بهم؛ أي: الذي يعرف دقائقهم وتفاصيلهم، ولا يعزب عنه منهم شيء: ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ [سبأ: 2]. هذا في إثبات العلم لشيء قد يَطرأ على الذِّهن أنَّ الله لا يعلمه، فكل ما يلج في الأرض بأن يدخل فيها، وكل ما يعرج في السماء، وكل ما ينزل منها فإن الله يَعلمه جلَّ جلاله. • وجماع الغيب في قول الله تعالى: وقوله: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأنعام: 59]: مفاتح الغيب فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((مفاتحُ الغيب خمسٌ لا يعلمهنَّ إلا الله))، وهي التي جاءت في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]، فمفاتح الغيب هي أصوله ومعاقده، وأعظم أمور الغيب لا يعلمها إلا هو، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ [الأنعام: 59]: (ما) موصولة بمعنى الذي، فكل ما في البر وما في البحر فإنَّ الله يعلمه، ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ﴾ [الأنعام: 59]، سبحان الذي لا إله إلا هو قد أحاط بكل شيء علمًا، ﴿ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59]، عَلِمها ربُّنا وكتبها في كتاب مبين بيِّن ظاهر ليس خافيًا وهو اللوح المحفوظ، فكل شيء كتبه الله في اللوح فقد سبق به عِلمه قبل أن يقع بخمسين ألف سنة أو بأكثر من ذلك. وقوله: ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ﴾ [فاطر: 11]: (أنثى) تشمَل البشر أو الجن أو سائر مخلوقات الله المخلوقة، فلا تحمل ولا تضَع إلا بعلم الله تعالى، وهذا فيه ردٌّ على الفلاسفة الذين قالوا: علم الله خاصٌّ بالكليات دون الجزئيات! فهذه الآيات فيها أنَّ الله أحاط علمًا بالجزئيات والتفصيلات، وهم قالوا ذلك لئلا يتع؛ب لأنَّ المخلوق إذا أحاط بالأشياء تفصيلاً تعب ذهنه، وهذا ما وقعوا فيه مِن تشبيههم الخالق بالمخلوق. وقوله: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾[الطلاق: 12]: أي: لا يُعجزه شيء؛ فقدرته أحاطت بكل شيء، وأنَّ الله تعالى أحاط بكل شيء عِلمًا، وهو على كل شيء قدير؛ ولهذا تأتي هذه الآية كثيرًا في القرآن: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، لم يأتِ إلا في موضع واحد في قوله: ﴿ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29]، أما بقية المواضِع ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]؛ لأنَّ قدرته أحاطت بكل شيء، وفي العلم قد أحاط الله بكل شيء علمًا فأحاط تفصيلاً وأحاط به كلية، وأحاط في أدقِّ الأمور؛ فعلم الله لا يَغيب عنها، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾ [سبأ: 3]؛ أي: إنه لا يغيب عن علم الله ولو مثقال ذرة في حقارتها وفي رقتها، فسبحان من أحاط بكل شيء علمًا، لا إله إلا هو ما قدَرناه حقَّ قدره. وهو العليمُ أحاط علمًا بالذي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في الكون مِن سرٍّ ومِن إعلانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبكل شيء علمه سبحانه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فهو المُحيط وليس ذا نسيانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكذاك يَعلم ما يكون غدًا وما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قد كان والموجود في ذا الآنِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] - رواه مسلم (2713)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] - رواه البخاري في كتاب التوحيد (7009). |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (7) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]: هذه الآيات الأولى اشتملَت على ذِكر بعض أسماء الله؛ فقال تعالى في آخر الذاريات: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58]، ولهذا فمِن أسماء الله الرزاق، وليس من أسمائه رازق؛ لأن الرزاق هذا الاسم هو الذي جاء في حق الله، أما ما جاء في الأحاديث بأنَّ الله رازق الدواب أو رازق الحية في جحرها فهذا خبر، والرزاق صيغة مبالغة من الرزق ليست في حق الله، فلا يقال في حق الله: إنها صيغة مبالغة، وكذا علام الغيوب لا يقال: إنها صيغة مبالغة، هي في اللغة صيغة مبالغة لكن في حق الله اسم يليق بالله عز وجل مطابق لذاته وأفعاله. وكذلك الرزاق من أسمائه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والرزق من أفعاله نوعانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif رزق على يد عبده ورسوله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نوعان أيضًا ذان معروفانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قوله: ﴿ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58] فيه إثبات أن الله قويٌّ، وهذا فيه أدلة: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب: 25]، وهو ذو القوة له قوة لا يَغلبه شيء، المتين كذلك تفيد معنى القوة ومعنى الجبروت. وهو القوي له القُوى جمعًا تعا ♦♦♦ لى رب ذي الأكوان والأزمانِ وقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]، وقوله: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [الكهف: 39]، وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1]، وقوله: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125]، وقوله: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]. وقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]. فيه إثبات أن الله سميع بصير، فهو سبحانه سميع له سمع يُدرك المسموعات، وبصير له بصر يُدرك المبصَرات، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]. فيه إثبات أنَّ الله سميع بصير، وهذان الاسمانِ يأتيان مقترنين كثيرًا في القرآن؛ لما فيهما من إحاطة الله تعالى بخلقه، وأنَّ سمعه لا يغلب على بصره، وأن إدراكه المسموعات كإدراكه المبصرات، في هذه الصفات وأمثالها يجوز أن يشير فيها الإنسان إلى الصفة، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه وهو على المنبر "لما قرأ هذه الآية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58] أشار بالإبهام إلى أذنه وبسبابته إلى عينه"[1]، وليس معناه التشبيه كما يتبادر إلى ذهن البليد أو السَّاذج أو الغبي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشبِّه الله بنفسه، وإنما معنى ذلك أن يبين أن سمع الله حقيقي كما أن سمع المخلوق حقيقي، وأن بصر الله حقيقي كما أن بصر المخلوق حقيقي، وهذا قطعٌ لحُجج ومادة التعطيل والتحريف، وجاء في الصحيح قولُه صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن[2]))، وأشار بأصبعيه، ليس معناه أن أصابعه كأصابع المخلوق؛ كأصابعنا، حاشا وكلا، بل لا يتصور هذا في جَنابه صلى الله عليه وسلم أن يقوله في حق الله جل جلاله وإنما معناه أن يُثبت أن سمع الله حقيقي لائق بالله، كما أن المخلوق له أصابع فالله له أصابع مع الفارق العظيم بين صفات المخلوق والمخلوق كما الفرق بين الخالق بنفسه والمخلوق بذاته: وهو السميع يرى ويَسمع كل ما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في الكون من سرٍّ ومِن إعلانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولكلِّ صوت منه سمعٌ حاضر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فالسرُّ والإعلان مُستويانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والسمعُ منه واسع الأصواتِ لا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يَخفى عليه بَعيدُها والدَّاني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهو البصير يرى دبيبَ النملةِ السْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سَوداءِ تحت الصخرِ والصوَّانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثم ذكر الأدلة على إثبات صفة المشيئة والإرادة، فقال: وقوله: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [الكهف: 39]. وأما إثبات أن الله يشاء فيقول تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30]، ففيها إثبات المشيئة والله يَشاء، والمشيئة في الأدلة في الكتاب والسنة تأتي بمعنى الإرادة العامة كما قرَّر ذلك المحقِّقون من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام وابن القيم والعلماء المحقِّقين، أن المشيئة هي الإرادة العامة، ولا يمكن أن تأتي المشيئة بالإرادة الخاصة. وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]. الضابط في الفرق بين الإرادة الكونية والدينية: كرَّر الله المشيئة في أول الآية ثم في آخرها ثم ختَمها بقوله: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]؛ لأن الإرادة هنا بمعنى الإرادة العامة، قد يقول قائل: ما هو الضابط في الأدلة بين الإرادة العامة والإرادة الخاصة؟ الضابط أن الإرادة إذا جاءت بمعنى: يقدر فهي العامة بأن تضَع بدل (يريد)، أو (قال) يقدر أو قدر، فإذا كان معناها مستقيمًا فهي الإرادة العامة، وإذا جاءت الإرادة بمعنى يحب فهي الإرادة الخاصة الدينية، ولو طبَّقنا هذا في قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253] أي: يفعل ما يقدر، فلو قلت: يفعل ما يحب فالكفر لا يحبه الله ومع ذلك يقع الكفر؟! • أسماء الإرادة العامة: الإرادة العامة الكونية الشاملة، والقدرية، والخلقية: 1- فتسمى الإرادة الشاملة؛ لأنها متعلقة بجميع الكون. 2- وتسمى الإرادة العامة؛ لأنها تعمُّ الخَلق كلهم. 3- وتسمى الكونية؛ لأنها متعلِّقة بالكون وما يكون فيه. 4- وتُسمى القدرية؛ لأنها متعلقة بكل ما هو مقدر. 5- وتسمى الخلقية؛ لأنها تعم جميع الخلق. • أسماء الإرادة الدينية: وكذا الإرادة الدينية لها أسماء تُميِّزها، كما للإرادة العامة أسماء تبينها، وتُميِّزها؛ فمن أسمائها: 1- الإرادة الدينية؛ لتعلُّقها بدين الله خصوصًا. 2- وتُسمى الخاصة؛ لأنها تخص دين الله، لا عموم القضاء والقدر. 3- وتُسمى الأمرية؛ لتعلقها بما أمر الله به، وفرَضه. 4- وتُسمى الشرعية؛ لتعلقها بشرع الله، وما أمر، وما نهى عنه. [1] رواه أبو داود، وغيره، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4738)، وقوى سنده الحافظ ابن حجر، وقال: "على شرط مسلم في الفتح" (13 / 373)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] رواه مسلم (2654)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
|
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (9) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل ♦ إثبات صفة الرحمة: وقوله: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 1]: في هذه الآيات إثبات الرحمة، وأنها من صفات الله، فإن الله وصَف نفسه بالرحمة فقال: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 1] الرحمن: كثير الرحمة، والرحيم: رحمة خاصَّة بالمؤمنين؛ لقوله تعالى: وقوله: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]. فيها خصوصية رحمته بالمؤمنين، أما هو سبحانه وتعالى فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمُهما، لكن الرحيم خاصٌّ بالمؤمنين؛ لأن الله ذو رحمة، ورحمته لم تقتصر على المؤمن فقط وإنما تعدَّت إلى الكافر، فيرحم الله الكافر، ولهذا يُطعمه ويَسقيه في الدنيا ويَرزقه ويُمكِّن له، وهذا من رحمته لأنه شيء وقد أدركته رحمة الله. وقوله: ﴿ وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ [غافر: 7]، وقوله: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وقوله: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، وقوله: ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107]، قوله: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]. فرحمة الله أعظمُ مِن غضبه؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل في الحديث القدسي: ((إنَّ رحمتي سبقت غضبي))[1]، وفي رواية: ((إنَّ رحمتي غلبت غضبي))[2] أنواع رحمة الله عز وجل: ورحمة الله نوعان: 1- الأول: صفة من صفاته وصَفها الله بنفسه: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ [غافر: 7]، فعِلم الله صفته، ورحمته صفته، ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، وقال: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، وقال: ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107]، وقال: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]، إذًا فالرحمة صفةٌ من صفات الله. 2- الثاني: وهناك رحمة أخرى؛ وهي: خلقٌ مِن خَلقِ الله، وهي من آثار رحمته التي هي صفته، وهي رحمات كثيرة، وهي المعنية بقوله: ((إنَّ الله جعل الرحمة في مئة جزء فأنزل إلى الأرض جزءًا واحدًا، فمنه يتراحَم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولَدِها؛ مَخافة أن تُصيبه))[3]، فإذا كان يوم القيامة رجعت الرحمات إلى الله تعالى فرحم بها خلقه، ومِن رحمة الله المخلوقة: الجنة؛ فهي رحمة الله. وعلى هذا، فإن رحمة الله نوعان؛ الأول: صفة من صفاته، وهي غير مخلوقة، ومن آثارها الرحمات المخلوقة كلها، ومنها التي جعلها مئةَ جزء، وسيَرجع الجزء الذي نزل إلى الخلق يتراحمون به إلى التسع والتسعين فتكمل بها مئةً، يَرحم الله بها خلقَه، ولهذا إذا دعا الداعي فقال: اللهمَّ إني أسألك مستقرَّ رحمتك فلا غضاضة؛ فإن الجنة مستقَرُّ رحمة الله المخلوقة، وأعظم رحمات الله المخلوقة هي جنته، ورحمة الله المخلوقة غير رحمته التي هي صِفة من صفاته، بل الرحمات المخلوقة مِن آثار صفته - عز وجل. والرحمة تطال الكافر كما تطال المؤمن، لكنها يوم القيامة يَخُص الله بها المؤمنين فيرحمهم الله برحمته الواسعة، ومن آثار ذلك أن رحمة الله غلبَت غضبَه؛ الجنَّة لها ثمانية أبواب، كما جاء في الصحيح عنه صلَّى الله عليه وسلم[4]، والنار لها سبعة أبواب كما جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ﴾ [الحجر: 44]، ولهذا قال النبي: ((فسُبحان الذي غلبَت رحمتُه غضبَه))[5]، حتى الجنة والنار، فالنار غضب الله، والجنةرحمة الله، فغلبَت رحمتُه غضبَه، مع أن أهل النار أكثر من أهل الجنة أضعافًا مُضاعَفة، لكن رحمة الله غلبَت وسبقَت ووسعت حتى غضبَه، ولهذا فالنار لا تشبَع ولا تَمتلئ وتقول: هل مِن مزيد؟ حتى يستوعب فيها أهلها وهي تقول: هل مِن مزيد؟ حتى يضَع الرحمن فيها قدمه فيُزوى بعضها إلى بعض فتقول: قطني قطني؛ أي: حسبي حسبي، امتلأت عند؛ئذ لأنها جاءها من العِظَم ما لا قدرة لها بها، فسبحانه لا إله إلا هو. إثبات صفة الرضا لله عز وجل: وقوله: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [البينة: 8]: هذه الآية فيها إثبات صفة الرضا، والرضا من صفات الله الفعليَّة، والرضا يؤوِّله المؤولة - على اختلاف أنواعهم ومِلَلِهم - إما إلى صفة أخرى، أو إلى مخلوق، فالصفات الفعليَّة - كالرضا، والغضب، والمحبة، والبُغض - تُؤوَّل عند المؤولة: إما إلى صفات؛ كإرادة الانتقام في الغضب، وإرادة الثواب في المحبة والرضا، أو يؤولونها إلى خَلقٍ مِن خَلقِ الله، فالمحبة والرضا يؤولونها بأنه يثيبهم ويعطيهم عطاءً جزيلاً، فتؤول إلى مفعولات الله ومخلوقاته، والغضب والانتقام يُؤول إلى أنه يُعاقبهم، هذا منهجهم فيها، فهذا هو التحريف لكلام الله عن معناه وعن ظاهره، وقد أخبر الله أنه رضي عنهم، والعجيب من هؤلاء أنهم يؤولون الرضا عن الله ولا يؤولون الرضا عن المخلوق، فتجرَّؤوا على الله ما لم يتجرؤوا على المخلوق. تنبيه: المؤولة من الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية، والمتكلمين - هؤلاء يؤولون رضا الله بأنه إرادة ثوابه، أو إثابته عباده، ولا يؤولون رضا المخلوق في قوله: ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [البينة: 8]، فكأنه قام في قلوبهم من إجلال المخلوق وإثبات الصفة له ما لم يَقُم في قلوبهم من إثبات الصفة للخالق، وهذا من آثار أصولهم الفاسدة في صفات الله تعالى. إثبات صفة الغضب لله عز وجل: وقوله: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ﴾ [النساء: 93]. من صفات الله "الغضب"؛ كما في هذه الآية، وهذه خمسة أنواع من الوعيد لمن قتَل مؤمنًا ظلمًا وعدوانًا وبغيًا، وبناءً على هذه الآية قال العلماء: إنَّ أعظم ذنب عُصي الله به بعد الشرك أن يَقتُل المسلمَ المؤمنَ ظلمًا وعدوانًا، فجزاؤه جهنم، وهذا وعيد له بالنار، وهذه كبيرة بحد ذاتها، قال: ﴿ خَالِدًا فِيهَا ﴾ [النساء: 14]، ولم يقل: خالدًا فيها أبدًا، فالمراد بالخلود هنا هو: المكث الطويل، ﴿ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ [النساء: 93] فيه إثبات أن الله يغضب، فاستوجب غضب الله بقتل المعصوم المسلم بغير وجه حق، ﴿ وَلَعَنَهُ ﴾ [النساء: 93] لعنه هو: طرْدُه وإبعاده، ﴿ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنَّ قاتل المسلم بغير وجه حقٍّ لا توبةَ له"[6]، وهذا مذهب ابن عباس، فراجَعَه تلميذه مجاهد بن جبر شهرًا كاملاً يُناقشه ويُراجعه فيها، وهو مصرٌّ رضي الله عنه أن قاتل النفس لا بد أن يعذبه الله تعالى، وليس مذهب ابن عباس أنه خالد في النار أبدًا، بل يُعذِّبه على قدر هذا الذنب؛ أي: إن من قتل المؤمن ظلمًا وعدوانًا فهو في مذهب ابن عباس وجماعة لا يَدخُل تحت المشيئة، ولا يدخل تحت الموازنة، بل صاحبه مستحق للعذاب؛ جراء هذا الذنب العظيم بقتْل المسلم ظلمًا وعدوانًا، وهذا فيه عظم شأن المؤمن عند الله، حتى إنه أعظم شأنًا عند الله من بيته، وفي الخبر: ((لأنْ تُنقض الكعبة حجرًا حجرًا أهوَنُ على الله من أن يُقتَل امرؤ مسلم بغير وجه حق)). وقوله: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ ﴾ [محمد: 28]: وهذا مِن أدلَّة إثبات الغضب، والشاهد من هذه الآية قوله: ﴿ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ﴾ [محمد: 28]؛ أي: أغضبَه، وفيه إثبات أنَّ الله يسخَط؛ لأنَّ الله أضاف الفعل إلى نفسه. وقوله: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55]: وهذا في فرعون وقومه؛ أنَّهم لما أغضبوا الله انتقم منهم، وفيه إثبات أن الله يغضب، وإثبات الانتقام، وهذه اللغة من إطلاق الأسف على الغضب، وكنت أظنُّها مُندثرَة حتى زرنا إحدى الجهات، فسمعت رجلاً يُعاتب ابنه فيقول له: يا بنيَّ، لا تُؤسفني عليك؛ أي: لا تُغضِبني منك! وهذه من أدلة إثبات الغضب والسخط. إثبات صفة الكُرْه لله عز وجل: قَوْلِهِ: ﴿ وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ﴾ [التوبة: 46]، وَقَوْلِهِ: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 3]: هاتان الآيتان فيهما إثبات أنَّ الله يَكره ويَمقُت، وكرهُه وغضبُه وسخطُه وأسفُه كمالٌ يليق بجلاله، لا يشبه صفات المخلوقين، ومن الصفات المقاربة لهذا المعنى المقْت؛ فإنَّ المقْت والانتقام والسخط والغضَب صفات مُتقاربة المعاني، لكن المقت أشد الغضب، ولهذا نقول: كلُّ مقْتٍ غضب، وليس كل غضب مقتًا، كما الرضا في صفة المحبة كل خُلَّة محبة، وليس كل محبة خُلةً؛ فقوله: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 3]؛ أي: عَظُم مقتًا وسخطًا وبغضًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. فهذه مِن الصفات الفعلية دلَّت عليها الآيات، فالرضا، والغضب، والسخط، والأسف (الغضب)، والانتقام، والكره، والمقْت - صفات من صفات الله الفعلية. إثبات صفة الإتيان لله عز وجل: وقوله: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 210]، وقوله: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾ [الأنعام: 158]. في هذه الآيات إثبات صفة الإتيان، وصفة المَجيء، وفي هاتين الآيتين من سورتي البقرة والأنعام صفة الإتيان، وأنَّ الله تعالى يأتي يوم القيامة لفصل القضاء، وفي ذلك المقام تشقَّق السماء بالغمام؛ لإتيانه ومجيئه جلَّ جلاله، وفي سورة الفجر: وقوله: ﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 21، 22]، وقوله: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ﴾ [الفرقان: 25]: فيها إثبات مجيء الله تعالى، ومجيء الملائكة، وحالة مجيء الملائكة أنهم يأتون صفوفًا؛ صفًّا إثر صفٍّ، وإتيانه تعالى ومجيئه من صفاته الفعلية التي يفعلها إذا شاء، فهي مرتبطة بمشيئته، وليست من الصفات الذاتية التي هي ملازمة لذاته، بمعنى أنه ليس في كل وقت جائيًا، وليس في كل وقت آتيًا. وإن كانت الصفات الفعلية مرتبطة بالذاتية من كونها متعلقة بالذات أفعالاً لهذه الذات، يفعلها تعالى إذا شاء، كيف يشاء، والمنحرفون من المؤولة والمعطلة حرفوا إتيانه ومجيئه إلى أنواع من التحريفات فقالوا: إنه تأتي الملائكة، أو يأتي أمرُه، أو يجيء ثوابه وعقابه، ونفَوا عن الله حقيقة الإتيان والمجيء اللائقَين به، وهذا من الانحراف، فإذا كان التعلق بمجيئه وإتيانه حرَّفوه بما يسمونه تأويلاً، وأما مجيء الملائكة ومجيء بعض آيات الله فإنهم يُثبتونه على ظاهرِه، وهذا غاية التضاد والانحراف، ففيما يتعلق بالله يُحرف ويؤول، وفيما يتعلق بالمخلوق يُمضى على ظاهره؟! وإتيان بعض آيات الله؛ كما في قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾ [الأنعام: 158]. معاني (نظر) بحسب تعدِّي الفعل: 1- يَنظرون بمعنى ينتظرون؛ لأن النظر في الأدلة يأتي متعديًا بنفسه (هل ينظرون)، فيحتاج إلى مفعول، وهذا هو الانتظار، ومنه قوله تعالى عن المنافقين: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ﴾ [الحديد: 13]؛ أي: انتظرونا، فالنظر هنا وما تعدى به يكون بمعنى الانتظار، ومنه ما في آخِرِ سورة البقرة: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280]؛ أي: فانتظار إلى أن يوسر. 2- ويأتي النظر متعديًا بحرف الجر (في)؛ ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 185]، فالنظر إذا تعدى بـ"في" فإن معناه التفكُّر والاعتبار والاستبصار. 3- ويأتي النظر متعديًا بحرف الجر؛ كما في قوله تعالى: ﴿ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ﴾ [الأنعام: 99]، وقوله: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، فإذا تعدى النظر بحرف الجرِّ "إلى" فإنه يدل على المعاينة بالبصر، والنظر بالأبصار، وهذا من أدلة أهل السنة على إثبات النظر لله حقيقة. وإتيان بعض آيات الله - كما فُسِّرت في الصحيح - عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك في آخِر الزمان إذا طلعَت الشمس مِن مغربها، أو الدجَّال، أو الدابَّة، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا[7]، فالمقصود أنَّ الإتيان (المجيء) من صفات الله تعالى الفعليَّة، التي يَفعلها إذا شاء، وهو يأتي ويجيء كما يشاء سبحانه وتعالى على كيفيَّة يعلمها هو ونجهلها نحن، فلا نعلمها. [1] رواه البخاري (7554)، ومسلم (2751)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] رواه البخاري (7404)، ومسلم (2726)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [3] رواه البخاري (6000)، ومسلم (2752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [4] وهو ما رواه مسلم (234) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهمَّ اجعلني من التوابين، واجعلني مِن المتطهِّرين، فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء)). [5] رواه البخاري (6661)، ومسلم (2848)، بلفظ مقارب له من حديث أنس رضي الله عنه. [6] رواه البخاري (4590)، ومسلم (3023). [7] رواه مسلم (157)، ورواه البخاري (4635) بلفظ: "طلوع الشمس من مغربها" فقط، وهو عندهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (5) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تَعدل ثلث القرآن[1]: المقصود بالجملة هو جملة الأسماء والصفات - التي يفصِّل الشيخُ فيها - حيث قال في أولها: "ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله"، دخل في هذه الجملة ما وصَف به نفسه في سورة الإخلاص؛ فإن فيها النفيَ والإثبات الذي جمَع الله تعالى لنفسِه وصفًا واسمًا، وتعدل ثُلث القرآن، والذي قال ذلك هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ ((فإن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن))، كما جاء ذلك في الأحاديث الصحيحة، وفيها قاعِدةٌ لأهل السنَّة أن كلام الله يتَفاضَل؛ أي: بعضه أفضلُ مِن بعض، ولا يَعني أن المفضول مزدَرًى، لكن المعنى أن الفاضل أعلى رتبةً مِن هذا المَفضول، وكلاهما من كلام الله، لكن كلام الله يتفاضَل كما أن رسل الله يتفاضلون: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [البقرة: 253]. وأفضل القرآن سورة الفاتحة، والبقرة وآل عمران الزَّهراوان لهما فضائلهما، وأفضل وأعظم آية في القرآن آية الكرسي، وسورة الإخلاص سُمِّيت الإخلاص لأنها خَلصت بأوصافها وأسمائها لله تعالى، خَلصت بأسماء الله وصفاته، فليس فيها ذِكرٌ لغيرِه، فسُمِّيت بالإخلاص[2]. لِمَ تَعدِل سورة الإخلاص ثلث القرآن؟ وكونها تَعدل ثلث القرآن استنبط العلماء من ذلك أن القرآن على ثلاث مضامين كبار: 1- إما توحيد، وقد اشتملت به واستقلَّت به هذه السورة. 2- وإما قصص، سلى الله بها رسوله، والمؤمنين، وأخذوا منها العِبرة. 3- وإما أحكام وتشريعات. فبهذا الاعتبار صارَت هذه السورة ثلُث القرآن، وشيخ الإسلام رحمه الله له فيها كتابان جليلان: الأول: "تفسير سورة الإخلاص"، وهو أمتع ما رأيت في تفسير هذه السورة، والثاني: "جواب أهل العلم والإيمان بأن ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] تَعدِل ثلث القرآن"، وهذا غير التفسير، بل في فنِّ العقيدة، في قاعدة تفاضُل كلام الله عز وجل فهما كتابان مُستقلان، وثمة تفسير لهذه السورة مُختصَر لكنه جمع أصول أهل السنَّة، وهو "تفسير سورة الإخلاص"؛ للحافظ ابن رجب. مضامين العقيدة إجمالاً في سورة الإخلاص: حيث يقول: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4]. قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] فيها اسم الله (الله) الذي لا يَجوز أن يُسمى به أحد غيره، و(أحد)، وهذا وصف الله بالأحديَّة وتسميتُه بالأحد. و(الصمد) له ثلاثة معان يدور عليها عند السلف: 1- المعنى الأول: الذي تَصمد إليه المخلوقات في حوائجها؛ أي: تَقصدِه، تَلتفِت إليه في طلب حوائجها وتحصيلها. 2- والمعنى الثاني: قيل: الصمد الذي لا جوف له؛ فإن الشيء المُصمَد الذي لا جوف له، والله تعالى لا حاجة له إلى الجوف؛ لأنه يُطعِم ولا يُطعَم، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾ [الأنعام: 14]، فاستدلَّ به على أن الله ليس له ما للمَخلوق مِن الجوف الذي هو أمعاء، وكبد وما إلى ذلك؛ لأنه يطعِم ولا يطعَم. 3- والمعنى الثالث: أنه السيد الكامل في سؤدده وسيادته[3]. ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]؛ م يَزعم أحد بأن الله تولد مِن والدَين. الزاعِمون بأن لله ولدًا: 1- وقد زعم بأن الله يَلد اليهودُ والنَّصارى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 30]. وقال المشركون: الملائكة بنات الله. وقالت الفلاسفة واليونانيون: إنَّ الآلهة تتوالد، فزعموا بأن لله الولد، وهذا الزعم زعمٌ نادر - الذي زعموه اليونانيون الإغريق الوثنيون في آلهتهم - أنها تتولَّد، لكن في حق الله لا نعرف أن أحدًا زعم أن الله ولد من والِدَين. قال أهل العلم: لما نفى الولادة ناسب أن يَنفي ما يُقابلها وهو التولُّد، فلما نفى أن يكون له ولد ناسب أن ينفي الوالدين؛ لئلا يأتي أحد يَعتقده في الله أنه تولد من والدين، فقال: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]، وهذا كله على جهة التفصيل إثبات الأسماء والصفات، والنفي والإثبات تفصيلاً، فقوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 1، 2]، هذا إثبات مفصَّل، وقوله: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]، هذا نفْيٌ مفصَّل، ثم أجمل فقال: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]؛ أي: إنه لا أحد يكافئه سبحانه وتعالى ولا يُماثله، ولا يشابهه، ولا يناظره، ولا يُنادده، فهذا نفيٌ مجمَل. وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه؛ حيث يقول: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]. فضل آية الكرسي في التوحيد: هذا استمرارٌ لما بدأه في ذكر الأدلة على أسماء الله وصفاته، فبدأ بسورة الإخلاص وهي سورة التوحيد، ثم ثنَّى بأعظم آية في كتاب الله وهي آية الكرسي، وكونها أعظم آية في كتاب الله كما جاء في حديث أبيِّ بن كعب رضي الله عنه، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك[4]، وآية الكرسي اشتملت على مضامين عظيمة في توحيد الله، فيقول تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255] فبدأها بأعظم أسمائه وهو اسم (الله) المسمى عند أهل العلم بلفظ الجلالة؛ لأنه لا يجوز أن يُسمى به مخلوق، ولهذا فإن أسماء الله الأخرى يجوز أن يتسمى بها المخلوق مع المفارقة بين الاسم والاسم، أما اسم الجلالة (الله) فلا يجوز أن يتسمى به مخلوق أبدًا. ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [البقرة: 255]: هذه هي كلمة التوحيد المشتملة على ركني النفي والإثبات. ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255] ثمَّة قاعدة في أسماء الله وصفاته: أنَّ كلَّ اسم من الأسماء يتضمن صفة إما بالتضمُّن بدلالة المطابقة، أو بدلالة الاستلزام، أو بدلالة التضمُّن، وسأبينها إن شاء الله بالتمثيل، وليس الصفة يؤخذ منها اسم، وهذه من قواعد أهل السنَّة أن الأسماء الحسنى يؤخذ منها صفات، ولا يؤخذ من الصفات أسماء، ومثاله: الحي، فاسم الله الحي يؤخذ منه أن الله له حياة، وقد دلَّ اسم الله الحي على صفة الحياة دلالة تضمُّن؛ لأنَّ اسم الله الحي دلَّ على ذاته ودلَّ على حياته، ودلَّ اسم الله "الحيُّ" على الله دلالة مطابقة؛ لأنها دلَّت على جميع معناه، ودلَّ اسم الله الحي على بقائه وأبديته، وعلى قدرته، وملكوته بالاستلزام؛ لأن الحي يستلزم أنه باقٍ أبدًا، والحي يستلزم القدرة، فدلَّ اسم الله الحي على صفة الملك والبقاء دلالة استلزام. تطبيق أنواع الدلالات: والفرق بين أنواع هذه الدلالات أن دلالة المطابقة هي دلالة الشيء على جميع معناه، ودلالة التضمن دلالة الشيء على بعض معناه وعلى شيء آخر، فدلَّ اسم الله الحي على صفة الله الحياة، ودل على شيء آخر، وهو ذات الله، وعلى اسمه الله، وعلى الحي، ودلالة الاستلزام هي دلالة الشيء على أمر خارج عن معناه (يستلزمه)؛ كاسم الله الملك يتضمن صفة الله القدرة؛ فالله قادر لأن المَلِك من معانيه القدرة. ﴿ الْحَيُّ ﴾ [البقرة: 255] ويؤخذ منه صفة الله الحياة، ﴿ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وهو القائم بنفسه، المقيم لغيره، فغيره يَحتاجون إليه، وهو لا يحتاج إليهم لأنه قائم بنفسه، مقيم لغيره، وخلق غير قائمين بأنفسهم. قال ابن القيم في هذين الاسمين: والوصف بالقيوم ذو شأن كذا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif موصوفه أيضًا عظيمُ الشانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والحيُّ يتلوه، فأوصاف الكما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لِ هُما لأفْقِ سمائها قُطبانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فالحي والقيوم لن تتخلف الْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أوصافُ أصلاً عنهما ببيانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255] هذا نفي مفصَّل، وهو من النوع القليل الذي جاء في الكتاب والسنة، والأكثر في النفي أنه يأتي مجملاً لكن النفي من الأقل أنه يأتي مفصلاً. والنفْيُ نفْيان: الأول: نفْي محْض وهو العدَم المحض، والثاني: نفْي يتضمَّن إثبات كمال ضدِّه، فالنفي المحض ليس فيه كمال، ولهذا عاب أهل السنَّة على الجهمية والمُعتزلة وأضرابهم أنهم يصفون بالسلوب، ويَمدحون الله بأنه لا حي ولا ميت، ولا داخل العالم ولا خارج، ولا جسم ولا جوهر، ولا مركَّب ولا مُعنصَر، وهذه أوصاف سلبية عدمية، لا كمال فيها. ولهذا لم يأتِ هذا النفي العدمي المحض في الكتاب ولا في السنَّة أبدًا، بل في عرف الناس لو أن إنسانًا قام يَمدح ملكًا، أو سلطانًا، أو رئيسًا فقال: أنت - أيها السلطان - لست زبالاً، ولا كناسًا، ولا كذابًا، ولا خسيسًا، ولا خبيثًا... فإنه لا يستحقُّ إلا أن يعذَّب؛ لأنه لم يمدحه، وإنما أتى بالنفي المحض، أما لو أنه قال: يا أيها السلطان! أنت لست ظالمًا؛ لأن عدم الظلم يثبت عدله، أو قال: لستَ غافلاً عن رعيتك؛ أي: إنك فطن لهم، مطَّلع على حوائجهم صار هذا النفي كمالاً، فإذا كان هذا في المخلوق فالخالق من باب أولى. ولهذا فإن قوله: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]؛ أي: لا تَلحقه السِّنة، والسِّنة هي النُّعاس، فنفى السِّنَة، ونفى ما هو أعظم منها وهو النوم؛ لكمال حياته، وكمال قيوميته تعالى، وفي الحديث: ((إنَّ الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، بيده القسط يخفضه ويرفعه))[5]. ﴿ لَهُ ﴾ [البقرة: 255]: اللام هنا لام الملْك، ولام الملك تفيد الاختصاص، ومعرفة دلالة الحروف نحتاجه في دلائل التوحيد كثيرًا كما نحتاجه في الأحكام الشَّرعية، وفي استِنباط القرآن: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]؛ أي: لله اختصاصًا وملكًا، ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2]؛ أي: ولربك، فاللام هنا لام الاختصاص ولام الملك، وتأتي في أمور الفقهيات في آية الزكاة، في سورة براءة: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ﴾ [التوبة: 60] اللام هنا للتمليك، فلا تَبرَأ الذمة إلا بتمليك الزكاة للفقير؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ؛ ﴾ [التوبة: 60] فهذه لام الملك، والملك يفيد اختصاص المملَّك. ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 255] (ما) موصولة بمعنى الذي، فتشمل كل شيء فله كل ما في السماء وكل ما في الأرض. ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]؛ أي: إنه لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، وهذا دليل لأحد شرطَيِ الشفاعة؛ فإن الشفاعة لها شرطان: 1- الأول: إذن الله للشافع بالشفاعة. 2- والثاني: رضا الله عن المشفوع له. وقد جُمِعا في قوله تعالى: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26]، لا أحد يَشفع عنده إلا بإذنه، قال العلماء: وفيها فرق بين الشفاعة عند الله والشفاعة عند المخلوقين، فالشفاعة عند المخلوقين من الأمراء والقضاة وذوي الشرف يشفع عندهم بغير إذنهم، أما الله تعالى فلا يُمكن أن يشفع عنده إلا إذا أذن للشافع ورضي عن المشفوع له، وهذا يُبين أن شفاعة المخلوق من حاجة المخلوق لمن يشفع عنده، أما الشفاعة عند الله فليس فيها حاجة الخالق للمخلوق. ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ [البقرة: 255]، وهذا فيه إثبات صفة العلم - كما ستأتي لها الأدلة - وهي من أعظم خصائص الله تعالى وخصائص ربوبيته: علمه الذي أحاط بكل شيء، ولهذا اضطرب الفلاسفة والمتكلِّمون في مسألة إثبات العلم أعظم الاضطراب، في كيف يثبتونه؟ هل يعلم الكليات أو يعلم الجزئيات؟ حتى قال أبو عبدالله الرازي - لما حار واضطرَب، وتاب في أبياته، التي ذكرها شيخ الإسلام في الدرء -: نهايةُ إقدامِ العُقول عِقالُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وغايةُ سَعْي العالَمين وبالُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولم نَستفِد من بحثنا طول عُمرِنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى أن قال: "لقد جَرَّبتُ المناهج الفلسفية والطرق الكلامية فلم أرها تَشفي عليلاً ولا تَروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن"؛ اقرأ في الإثبات: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، واقرأ في النفي: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110] فعرف أن القرآن في ألفاظه وفي دلائله على أسماء الله وصفاته أتى بأعظمِ ما يكون في حق الله من التنزيه والإجلال، وإن تكلَّف المُتكلِّفون وابتدع المبتدعون ألفاظًا فإنها لا تَبلغ ما في دلالة هذين الوحيين. ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾ [البقرة: 255] نفى الله الإحاطة من المخلوق بشيء، و"شيء" نكرة فتشمل القليل والكثير من علم الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يعلم ما بين أيديهم، أي: ما أمامهم وما خلفهم. معنى صفة العلم لله عز وجل: فهو سبحانه يعلم كل شيء، وفي اعتقاد أهل السنة أنَّ الله يعلم ما كان ويعلم ما يكون ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، والأدلَّة على أن الله يعلم ما كان وما يكون كثيرة؛ منها قوله: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ [البقرة: 255]، وقوله: ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]، لكن الأدلَّة على أن الله تعالى يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون فكثيرة أيضًا؛ ومنها: قوله تعالى عن أهل النار إذا اصطَرخوا ونادَوا لعلَّ الله أن يُخرجهم مما هم فيه، وأنهم لو خرجوا لرجعوا للتوحيد وآمنوا وأصلحوا أنفسهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28]، ومعلومٌ أنَّ ردَّهم إلى الدنيا في الناحية العقلية مُمكن، لكنه مُستحيل؛ لأنَّ الله قضى على نفسه ألا يردَّهم فلا يُمكن أن يرجعوا إلى الدنيا مرة ثانية، ومع ذلك عَلم الله هذا الأمر المستحيل الذي لم يكن لو كان كيف سيكون؛ بمعنى أنهم يَكذبون ويَعودون إلى ما هم عليه. لا يمكن أن يعلم المخلوق من الغيب إلا ما شاء الله جلَّ جلاله أن يعلمه، ولكن لا يمكن أن يعلم المخلوق علم الغيب المطلق، ومن زعم أن مخلوقًا أيًّا كانت منزلتُه؛ ملَكًا من الملائكة، أو نبيًّا من الأنبياء، أو صالحًا أو وليًّا أو طالحًا - يَعلم علم الغيبِ الكليَّ فقد كفَر؛ لأنه نازع الله أخصَّ خصائص ربوبيته، أما بعض الغيب فقد يطَّلع عليه بعضُ المخلوقين؛ كما قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾ [الجن: 26، 27]، ورسول هنا نكرة، فتشمل رسل الملائكة ورسل الإنس، ﴿ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن: 27]، وبهذا نعلَم أنَّ ما قاله الشرف البوصيري في بردته التي يُتغنَّى بها لمناسبة المولد عند أصحاب المدائح والموالد والاحتفالات المبتدعة المحدثة - أن قوله: يا أكرمَ الخَلقِ ما لي مَن ألوذُ به https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سواكَ عند حلولِ الحادث العمَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إنْ لم تكن في معادي آخذًا بيدي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فضلاً، وإلا فقل: يا زلَّة القدَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإنَّ مِن جُودك الدنيا وضرَّتَها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومِن علومك علم اللوح والقلمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إنَّ هذا من أعظم ما يكون محادةً لله في أن جَعل للرسول صلى الله عليه وسلم عِلمَ ما في اللوح والقلم - والعياذ بالله - وجعل من ملك الرسول ملك الدنيا وضرتها وهي الآخرة. ﴿ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255] بما شاء الله مِن أن يَعلمَه خلقُه، ولهذا قد يرى الإنسان في منامه ما يكون غيبًا على غيره؛ فقد يوحى إليه، وقد يُطلَع عليه، ولا يكون الوحي إلا للأنبياء عليهم السلام. • أقوال العلماء في الكرسي: قوله تعالى: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ [البقرة: 255] الكرسي هنا اختلف فيه علماء أهل السنَّة اختلافًا، وهذا الاختلاف يَندرج تحت الاختلاف في المسائل الاجتهادية من تفاصيل مسائل العقيدة؛ كاختلافهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لله، واختلافهم في الكرسي ما هو، واختلافهم في العاصي هل يعذَّب أو يدخل تحت الموازنة في أصحاب الكبائر، هذه تفاصيل ولا تَندرج على الأصل أن مسائل العقيدة (أصولها ومسائلها) ليس فيها اختلاف بين أهل السنة: 1- فمِن قائل: إن الكرسي هو العِلم؛ أخذًا من سياق هذه الآية. 2- ومن قائل: إن الكرسي هو العرش. 3- والقول الثالث: إن الكرسي موضع القدمين، وهذا هو القول الراجح عند المحقِّقين؛ لأثر أبي موسى الأشعري وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا: "الكرسيُّ موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره"[6]. ﴿ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ [البقرة: 255]، هذا مِن النفي المتضمن كمالَه؛ أي: إنه لا يعجزه سبحانه وتعالى ولا يكلفه حفظ السماوات ولا حفظ الأرض، قال شيخ الإسلام: "أي: لا يكرثه ولا يثقله" فإذا كان لا يكرثه ولا يثقله ولا يُعجزه دل على كمال قدرته وقوته. أنواع علو الله عز وجل: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ ﴾ [البقرة: 255]؛ "عليٌّ" له أنواع العلوِّ الثلاثة: 1- الأول: علوُّ الذات، وهذا العلو الذي ينحرف فيه المنحرفون من الجهمية والمعتزلة، ومن المتكلمين فالأشاعرة والماتريدية يَنفون علوَّ الله بذاته. 2- الثاني: وله العلو بقدره ومنزلته، فلا أحد أعلى من الله قدرًا ولا منزلة. 3- والثالث: وله العلوُّ بقهره وغلبته، فلا أحد يقهر الله عز وجل. قال أهل العلم: والعلو بالذات بالقهر والغلبة، والعلو بالمنزلة والشأن ما اتفق عليه الناس، أما الذي وقع فيه الانحراف فهو العلوُّ بالذات: وهو العلي فكل أنواع العلوْ ♦♦♦ وِله فثابتةٌ بلا نُكرانِ ﴿ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]: الذي لا أعظم منه عَظمةً في ذاته، وعظمة في صفاته، وعظمة في أفعاله. وهو العظيم بكلِّ معنًى يوجب التْ ♦♦♦ تَعظيم لا يُحصيه من إنسانِ ولهذا كان مَن قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولم يقربه شيطان حتى يُصبح: وهذه الآية المشتملة على هذه المضامين العظيمة من العقيدة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ حتى يُصبح، ولا يقربه شيطان))[7]، ولهذا لما جاء الشيطان مرة ومرة ومرة في ليالٍ ثلاث إلى الصدقة يسرق منها، كل مرة يُقبض عليه، فيعتذر بأن لديه صِبية، وفي الثالثة قال له حارس الصدقة أبو هريرة رضي الله عنه: "والله لا أتركك حتى أسلمك إلى النبي" وقد حاول معه ثم قال: "ألا أدلك على شيء إذا صنعتَه لم يزَل عليك من الله حافظ ولا يقربنَّك شيطان؟" فأخبره عن آية الكرسي فقال النبي في ذلك: ((صَدَقك وهو كذوب)). "الحي القيوم" هذان الاسمان جاءا في القرآن في ثلاثة مواضع: 1- الموضع الأول: في آية الكرسي. 2- والموضع الثاني: في أول سورة آل عمران: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 2]. 3- والموضع الثالث: جاء في سورة طه: ﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ﴾ [طه: 111]. في قوله: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58] استدلالٌ من الشيخ بمعنى اسم الله "الحي"؛ أن له الحياة الكاملة لا التي يَلحقها موت، ولا حتى النومُ والنعاس؛ لأنَّ النوم والنعاس حاجة وافتقار، فمَن لم ينم يكون مريضًا؛ فالمخلوق يحتاج إلى النوم ليرتاح، فصار هذا الكمال وهو النوم كمالاً للإنسان؛ لفقرِه واحتياجه وافتقاره، ولما كان الله كاملاً من كل الوجوه فلا حاجة له إلى هذا النوم. [1] رواه البخاري (5015)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ورواه مسلم (811) من حديث أبي الدرداء. [2] انظر: القاعدة البعلبكيَّة؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية. [3] انظر: تفسير ابن كثير عند هذه الآية في سورة الإخلاص. [4] رواه مسلم (810)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. [5] رواه مسلم (179)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [6] رواه عبدالله ابن الإمام أحمد، في كتاب السُّنَّة، (586)، وابن أبي شيبة في العرش، (161)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (2248)، والحاكم في المستدرك (2 / 282)، وقال: صحيح على شرط الشيخين. [7] رواه البخاري (2311)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (10) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات صفة الوجه لله عز وجل وقوله: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 27]: في هذه الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى، والوجه مِن صفات الله الذاتية، فلله وجهٌ يليق بجلاله وعظمته، لا يُشبه وجوه المخلوقين. والوجه يُعبَّر به عن صفة الوجه، ويعبر به أحيانًا عن الصفة، وعن الذات، فيدلُّ على وجهه، ويدلُّ على ذاته فقال تعالى: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾، فوصف هذا الوجه بأنه ذو جلال وذو إكرام، وجاء في قراءة: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾، فبهذِه القراءة فإن الجلال والإكرام وصْفٌ لله تعالى. وقوله: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ [القصص: 88]. وجه الله لا يَهلِك، وإنما يَبقى، والوجه قد ثبت لله حتى في الأدلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم - أن الله يكشف الحجاب يوم القيامة، حتى يرى المؤمنون وجهه - في أدلة أخرى كثيرة[1]، من صفات ذاته الملازمة لذاته أزلاً وأبدًا. وجاء الوجه في القرآن بمعنى الجهة؛ ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]؛ أي: الوجهة التي أمركم الله عز وجل باستقبالها، وتَحتمل أن الوجه وجه الله الذي يستقبله المصلي، فالآية محتملٌ فيها الوجهان. • إثبات صفة اليد لله عز وجل: وقوله: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]: من صفات الله الذاتية أن الله له يدان كريمتان، لا تَغيضهما نفقة، لائقتان بجلاله وعظمته، لا تشبهان أيدي المخلوقين؛ كما قال تعالى عائبًا على إبليس: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]، بيدي على جهة التثنية، وقال عائبًا على اليهود: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]. فأثبَت أن له يدَين ثنتين لائقتين به سبحانه وتعالى، وجاء في صحيح مسلم: ((إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه))، وفي سنن ابن ماجه: ((يمين الله ملأى لا يَغيضها شيء، سحَّاء الليل والنهار، وبيده الأخرى الميزان، يرفع القسط ويخفض))]))، وتُسمى الأخرى شمالاً؛ كما جاء ذلك في إحدى الروايات في الصحيح، وتُسمى الأولى يمينًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: 67]، وتُسمى الثانية الأخرى شمالاً، لكنها يَمين؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((وكلتا يدَيِ الرحمن يَمين))[2]، ومعنى هذا أن كلتيهما مُستويتان في الفضل والشرف والمزيَّة، فلا فضْل ليد على أخرى، ولا مزية لليمنى على اليسرى؛ لأنَّه عند المَخلوقين اليد اليمنى أكرم من اليد اليسرى، أما الخالق تعالى فيداه كلتاهما مستويتان في الفضل والشرف، وجاء في الحديث عند أحمد وغيره أن النبي قال: ((إنَّ الله خلق آدم بيده، وكتب الألواح لموسى بيده، وأنشأ جنات عدن للمؤمنين بيده؛ كرامةً لهم))، ولهذا خص الله آدم بأن خلقه الله بيديه، وهذا فيه شرَف لهذه الأشياء التي باشرها الله بيديه؛ في آدم، وفي الجنة، وفي صحُف موسى: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145]. والمُنحرفون المعطِّلة أوَّلوا هذه اليد تحريفًا، فأنكروا أن يكون لله تعالى يدان، وعطَّلوهما بأنواع التعطيلات: 1- فقالوا مرة: إنَّ معناهما القوة. 2- وقالوا مرةً ثانية: إنَّ معناهما القدرة. 3- وقالوا ثالثةً: إنَّ معناهما النعمة. فهذه أنواع مِن التحريفات، يُسمونها هم وأضرابهم تأويلات، ويا للَّهِ كيف صار إبليسُ أعرَفَ بالله مِن هؤلاء المعطِّلة؟! لما قال الله عائبًا على إبليس: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]، لو كان المراد باليدَين القوة والقدرة والنعمة، لقال إبليس: وأنا يا رب خلقتني بقوتك وقدرتك فأي مزيَّة لآدم عليَّ؟ فصار إبليس بهذا أعرف بالله من هؤلاء المعطلة، وهذا وجه في فساد مذهبهم. والوجه الثاني أنه لو كان المراد باليدَين القوة، أو القدرة، أو النعمة، أو غير ذلك لما كان هناك حاجة إلى أن تُثَنَّيا ﴿ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾؛ لأنَّ القدرة شيء واحد، فما الحاجة إلى أن تُثنَّى، وما الحاجة إلى أن يقول: ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]؟ لأنَّ القدرة والنعمة والقوة لا حاجة فيها إلى أن تُثنَّى، فدلَّ ذلك على فساد مذهبهم الفساد العظيم، وهذه آثار جناية التحريف - الذي يسمونه تأويلاً - على الأدلة الشرعية، وعلى صفات الله تعالى العلية. • إثبات صفة العينين لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: 48]: في هذه الأدلة إثبات العينين صفةً لله تعالى، وهذه من صفاته الذاتية أن الله له عينان كريمتان عظيمتان لائقتان بجلاله وعظمته، لا تشبهان أعين المخلوقين بحال من الأحوال، وإنما هما لائقتان به على ما يليق بذاته وجلاله وكماله عظمةً وإجلالاً، وبعينه يُبصر، وقد أحاط بصره بكل خلقه. وقد جاءت الأدلة من السنَّة على إثبات أنهما عينان اثنتان، وهذا ما أجمع عليه السلف، كما حكى الإجماعَ عليه الدارمي عثمان بن سعيد، وحكاه أيضًا ابن خزيمة، وحكاه شيخ الإسلام، وحكاه أيضًا أبو الحسن الأشعري في رسائله إلى أهل الثغر، ومستند هذا الإجماع ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، وقال فيه: ((ألا إنه أعور العين، وإن ربكم ليس بأعور))[3]، فأخذ مِن ذلك أن الله يكون له عينان؛ لأن العور يكون من عينين؛ إذ لو كانت واحدة وعميَت لا يُسمى أعور، وإنما يُسمى أعمى، ولما جاء في صحيح ابن خزيمة وغيره أن الله تعالى له عينان اثنتان، وبهذا أجمع أهل السنَّة، وأما ما جاء في الأدلة: ﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: 48]، فإضافة الأعين إلى (نا) المعظم نفسه ليس المراد منها الجمع، وإنما المراد منها التعظيم والتفخيم، وفي قوله تعالى: ﴿ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ﴾ [القمر: 13، 14]: الدسُر هي المسامير، والمراد بذلك أنها تجري تحت أعيننا؛ أي: بعين الله عز وجل المقتضي لذلك حفظه، واطلاعه، وأنها لا تَغيب عنه، كما قال تعالى في موسى وهارون عليهما السلام لما بعثهما إلى فرعون: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46]. وقوله: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]. هذا في موسى، ففيه إثبات المحبة، وأن الله يراه بعينه سبحانه وتعالى فلا يخفى عليه، وهذا مما يقتضي - وليس معناه التأويل، وإنما مع إثبات العين لله التي يرى بها - اطَّلاعه عليه، وحفظه، وتأييده له، فلا يمسه من الله سوء، والله حافظه لأنه يُصنع على عينه سبحانه، وينشأ ويتعلم على عين الله وحفظه، ففيها إثبات صفة العينين لله على ما يليق بجلاله وعظمته. • إثبات السمع لله عز وجل: وقوله: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]. في هذه الآيات إثبات صفة السمع والبصر، فالله يسمع، وسمعه إدراكه المسموعات وإن دقَّت، وإن خفيَتْ، وإن لم تسمَعْ فإنَّ الله يسمعها، كيف وهو جل جلاله يسمع خلجات القلوب وخطراتها، وحديث النفس الذي لا يسمعه إلا الإنسان بنفسه؟! فالله تعالى يسمع ذلك ويعلمه ويُحيطُ به، وفي أول سورة المجادلة قال تعالى: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾، و"قد" إذا دخلَت على الفعل الماضي دلَّت على التحقيق (تحقيق وقوع هذا الأمر)، ﴿ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾. بدأَها بإثبات السمع، وختَمَ الآية بإثبات السمع والبصر، وهذه المرأة التي جادَلَها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها، خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها لما ظاهر منها زوجها، تقول عائشة رضي الله عنها: "سُبحان الذي وسع سمعه الأصوات! والله إني لفي طرف الحُجرة، وإنه ليخفى عليَّ بعضُ حديثها"[4]؛ أي: بعض شكايتها، وحجرته صلى الله عليه وسلم قيل: إنها ستة أذرع في ستة أذرع؛ أي: إنها ثلاثة أمتار ونيف في ثلاثة أمتار ونيِّف، وتقول عائشة: "والله إني لفي طرف الحجرة، وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها ما أسمعه، والله يقول: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]". وقد كرَّر السمع مرة ثانية فثالثة، وهو سُبحانه على عرشه، فوق سبع سماوات ولم يَخف عليه حكاية هذه المرأة جريمة الظِّهار مِن زوجها عليها، وعائشة قريبة منها ويخفى عليها بعض حديثها، تقول: "سُبحان من وسع سمعه الأصوات" إحاطة بها، وأنها لا تَخفى عليه، بل أعظم من هذا المؤمنون والحُجاج حول البيت، في جمٍّ غفير في الحج، وفي صعيد عرفة بأنواع اللغات، ومُختلِف الحاجات والرغبات، مع ضجيج الأصوات، لا يخفى على الله عز وجل أصواتهم، ولا أعيانهم، ولا حاجاتهم؛ لأن سمعه لا كالأسماع، وصفاته لا كصفات الخَلق، بل هو تعالى على وجه من الكمال والجلال مما لا يحيط معه به خلقه، فسبحانه لا إله إلا هو. • أثر الإيمان بصفة السمع: والعلماء وأهل السنَّة أثَّرت هذه الصفات في أخلاقهم، وفي عقائدهم، وفي أعمالهم، ولهذا تحرَّجوا عن الكلام البذيء لئلا يَسمعه الله منهم، وتحرَّجوا عن أن يُقارفوا الذنوب والمعاصي لئلا يطَّلع ربهم بها عليهم، وهذا مِن آثار الإيمان بهذه الصفات، نعم فإنه ليس مجرَّد الإثبات لهذه الصفات حتى نواجه المُنحرِفين، والمبتدعة، ونرد عليهم فهذا أصل، ولكن الأصل الأعظم مِن ذلك أن ينعكس آثار الإيمان بهذه الصفات على عقائدنا إجلالاً، ومخافة، وتعظيمًا لربنا جل جلاله ويَنعكس على أقوالنا وأفعالنا، فلا نُسمِع ربَّنا من أقوالنا، ولا نُريه من أفعالنا ما يكرهه ويُسخطه منا، وهذا هو اللائق الواجب على جميع المؤمنين، وأما الرد على المُنحرفين فهذا فرضٌ على أهل العلم المتعلمين. المُنحرفون أوَّلوا هذه الصفات؛ المعطلة من الجهمية والمعتزلة أوَّلوها، أما الأشاعرة فقد أثبَتوا السمع والبصر مع الصفات السبع التي يُسمونها بصفات المعاني، أو الصفات العقلية وهي: السمع، والبصر، والإرادة، والحياة، والكلام، والقدرة، والعلم؛ فهذه الصفات أثبتها هؤلاء، وعاب الله تعالى - في آية آل عمران - على اليهود لما قال: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 181، 182]. ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ ﴾ فحقَّق الله أنه سَمعها، وإنما سمعها بسمعه الذي أحاط بكل شيء، وأدرك كلَّ مسموع، كما قال في المجادلة: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾. وقوله: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الزخرف: 80]. أي: بلى، نَسمع سِرَّهم ونجواهم، فالله يسمع النجوى، ويسمع ما هو أخفُّ من النجوى وهو السر، والمراد بالنجوى حديث الإنسان - إلى صديقه، أو إلى من هو مُقارب له - حديثًا يُخفيه عن غيره، والسرُّ هو حديثه مع نفسه، فالله يسمع هذا، ويسمع ذاك، لا يخفى عليه هذا من هذا، بل قال العلماء: إن سمع الله لما يُجهَر به من القول كسَمعِه لما يُناجَى من القول، فهو سبحانه يسمع الأصوات بأنواع اللغات، ومع ضجيج الأصوات، بمختلف اللهجات، وبتنوع الحاجات، فتأمل هؤلاء الداعين في يوم عرفة، من أصناف المسلمين، ولغاتهم، وأحوالهم! وهذا السمع ليس خاصًّا بالله، فالله تعالى يُقدِر بعض ملائكته فيَسمَعون السرَّ والنجوى، ولهذا قال: ﴿ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الزخرف: 80]؛ أي: إنهم يكتبون ما يتكلمون به، حتى حديث القلب وعزمه، وهمَّه، يعلمه الملائكة الكرام الحفظة؛ لعموم قوله تعالى عن الملائكة: ﴿ كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 11، 12]، والفعل فعلان: فعل القلب، وفعل الجوارح، وفعل القلب تعلمه الملائكة وتكتبه، فإن كان خيرًا كتب له حسنة، وإن كان غير ذلك لم يكتب حتى يعمله، وإن تركه من خشية الله أثيب عليه، وكتبت له حسنة وإن تركه من خشية المخلوق كتب عليه سيئة، وهذا في حق الملائكة، وهم خلقٌ من خلق الله، فشأن الله أعظم وأجلُّ؛ أنه يسمع سرَّهم ويسمع نجواهم. وَقَوْلِهِ: ﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الشعراء: 218 - 220]. فهذا فيه إثبات أن الله يرى، وهذه المقامات نُلاحظ أنها مع خُلَّص المؤمنين مِن أنبياء الله ورسله، كما أنه مع جميع الخَلق لقوله: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]، وآية الشعراء فيها دليل على أحد مقامات الإحسان. والإحسان له مقامان: 1- أن تعبد الله كأنك تراه. 2- فإن لم تكن تراه - لم تصل إلى هذه الرتبة وهذا المقام الكامل من الإحسان - فاعبده لأنَّه يراك. قال تعالى: ﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾، والصلاة هي أربع حركات فقط: قيام، وقعود، وسجود، وركوع، ولا حركة غير هذه، ولهذا فإن صلاة الجنازة اختلفت عن الصلوات الأخرى؛ فهي قيامٌ فقط لا قعود فيها ولا ركوع ولا سجود، إلا لمن عجز عن القيام؛ حمايةً لحمى التوحيد، وسدًّا لذرائعه؛ لئلا يُظنَّ أن السجود والركوع لهذا الميت الممدد أمامهم، ولهذا شُرِعَت صلاة الجنازة في المقابر، ولم تُشرع الصلاة التي فيها ركوع وسجود في المقابر، حتى لو كانت صلاة فائتة، وقد نُهِينا عن ذلك، وقد لعن النبي من فعل ذلك، إلا صلاة الجنازة، فقد أذنَ أن تُؤدى في المقبرة؛ لأنه فعلها صلى الله عليه وسلم لما ماتت المرأة السوداء التي كانت تَقمُّ المسجد، ففقدها رسول الله، فأُخْبِرَ أنها ماتت فقال: ((هَلاَّ آذَنْتُمُونِي؟))، ثُمَّ قَالَ: ((دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا))، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَكَّبَرَ عَلَيهِ أَرْبَعًا؛ صلاة الجنازة بعدما دفنت[5]. • إثبات الرؤية لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105]. فيها إثبات أن الله يرى، والعجب من هؤلاء المحرِّفة المعطِّلة أنهم أولوا رؤية الله عز وجل ولم يُؤوِّلوا رؤية الرسول، ولا رؤية المؤمنين، فتطاوَلوا على صفات الله بالتحريف الذي يَعتقدونه تأويلاً، ولم يتطاولوا على صفات المخلوقين بالتحريف، فإلى الله المشتكى. [1] رواه البخاري (7437)، ومسلم (182)، من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. [2] رواه مسلم (1827)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. [3] رواه البخاري (3057)، ومسلم (169)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [4] رواه البخاري معلقًا، الفتح، (13 / 372)، وقد وصله أحمد في المسند (6 / 46)، وابن ماجه (2063)، بلفظ: "تبارك". وصححهما الألباني في سنن ابن ماجه (2063). [5] رواه البخاري ( 1337 )، ومسلم ( 956 )، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (11) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات المكر، والكيد، والاستهزاء، والسُّخرية، والمُخادَعة على ما يليق بالله: وقوله: ﴿ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ [الرعد: 13]، وقوله: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 54]، وقوله: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 50]، وقوله: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾ [الطارق: 15، 16]: في هذه الآيات إثبات أنَّ الله يَمكُر بالماكرين، والمَكْر والمِحال بمعنًى واحدٍ متقارب، فالله تعالى شديد المكر، وشديد المِحال، وهذه الصفات فيمَن يستحقُّها، فمَن مكَر مَكرَ الله به، وكذلك مَن كاد كادَ اللهُ به. في هذه الأدلة إثبات المكر، والكيد، والاستهزاء، والسخرية، والمُخادَعة، والنِّسيان، والملل؛ كما جاء في الصحيحين: ((خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا))[1]، هذه الصفات جاءت فيمَن يستحقُّها فهي صفات، لا تقع على كل أحد، وإنما لمن يستحقها، فمَن مكَر مكَرَ الله به، ومن كادَ كاد الله به، ومَن استَهزأ اسْتهزأ الله به، ومَن سخِرَ سخرَ الله منه، ومن خَادع المؤمنين خادَعه الله - جل جلاله. كذلك النسيان: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67]، مَن ملَّ وسئم من العبادة فإن الله يقابله بالملل، ومَللُه ومخادعتُه ومكرُه وكيده واستهزاؤه سبحانه وتعالى - ليس كاستهزاء ومكر ومخادَعة ونسيان وملل المخلوق، نسيان المخلوق من جهل ومن ضعف، وأما نسيان الله تعالى فليس من جهل؛ لأنه أحاط بكل شيء علمًا، ولذلك فإن هذه الصفة تأتي إلى أصحابها على جِهة المقابلة لهم لما يَستحقُّون مِن جنْس عملهم. • إثبات العفو لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾ [النساء: 149]. هذه الآية فيها أن الله يعفو، ولهذا فمِن أسمائه العفو، ومن صفاته أنه ذو عَفْو، فيَعفو الله عن عباده، فلا يؤاخذهم بسيئاتهم، بل يتجاوز عنها، ويعفوها ما لم تكن شركًا بالله؛ لأنه وعَد وتوعَّد، توعَّد بأن المشرك به لا يعفو الله عنه؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، فالله يعفو؛ أي: إنه يتجاوز، ويتسامح ويَغفر، ولهذا جاء في الطبراني وغيره: ((إنَّ الله ينشر يوم القيامة ثلاثة دواوين؛ فديوانٌ لا يَغفره الله وهو الشِّرك به، وديوان لا يعبأ الله به وهو كل ذنبٍ ما سوى الشرك به مما يتعلَّق بحقه سبحانه وتعالى، وديوانٌ لا يَترك الله منه شيئًا وهو حقوق العباد بعضهم مع بعض))[2]، فلا يترك الله منه شيئًا حتى يستوفيَه، ويُعطي للمظلوم حقَّه من الظالم، إلا أن يعفو. ومِن صفاته العفو، ومِن صفاته أنه قدير، ومن صفاته الرحمة والمغفرة؛ لأنَّ مِن أسمائه العفو، ولهذا في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح تقول: يا رسول اللهِ، ماذا أقول إِن أنا وافَقْتُ ليلة القدر؟ فقال: ((قُولِي: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العفو فاعف عني))[3]. وهو العفوُّ فعَفْوُه وسعَ الورى ♦♦♦ لولاه غار الأرض بالسكانِ • إثبات المَغفِرة لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]. ومِن صفاته: المَغفرة؛ لأنَّ مِن أسماء الله الغفور، ومن صفاته سبحانه الرحمة؛ لأنَّ من أسمائه الرحيم، ومن صفاته القدرة؛ لأن من أسمائه القدير، الذي يقدر على كل شيء، ولا يُعجِزه شيء، ولهذا في باب الدعاء يُناسب أن يدعو الله فيتوسَّل إليه بما يناسب الدعاء من صفاته، فإن كان المقام مقام دعاء وعفو توسل إلى الله بأسمائه: العفو، والرحيم، والقدير، والحكيم، والستِّير، وإن كان المقام مقام إنزال عذاب ومَكْر وسخط على المُعتدين الظالمين، فيتوسَّل إلى الله بأسمائه المناسبة لذلك؛ كالقوي، والجبار، والمتكبِّر، والعزيز، والذي لا يخفى عليه شيء، والمكر فيمَن يستحقه. ومعنى المغفرة: الستر، وغفران الذنوب: وهو الغَفُور فلو أتى بقُرابها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مِن غَيرِ شِركٍ بل مِن العِصيانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لأتاه بالغُفرانِ ملء قُرابِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سبحانه هو واسِعُ الغُفرانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif • إثبات العزة لله عز وجل: وقوله: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]. مِن صفات الله تعالى أنَّ له العزة، والاسم المناسب لهذه الصفة هو العزيز؛ أي: إنه ذو العزة، وهي القهر، والمنَعة، والقوة. وهو العزيز فلن يُرامَ جنابُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنى يُرام جنابُ ذي السُّلطان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهو العزيز بقوَّةٍ هي وصفُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فالعزُّ حينئذ ثلاثُ مَعانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهيَ التي كمُلَتْ له سُبحانه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مِن كلِّ وجْه عادمِ النُّقصانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَقَوْلِهِ - عَنْ إِبْلِيسَ -: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 82]. فقد حلف بعزَّة الله؛ لأنه يعلم أن لله عزَّة، وقوة ومنَعة، فأقسم لله بها فقال: ﴿ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 82]. يقول قائل: هذا القول قول إبليس؟! فنقول: نعم قول إبليس، حكاه الله مقرِّرًا له غير مُنكِر عليه، أما ما فيه الإنكار عليه أنكره سبحانه وتعالى عليه كإبائه عن السجود، وإبائه عن السجود إكرامًا لأبينا آدم على إبليس وعلى غيره من خَلقِ الله؛ بأنه سبحانه خلقه بيديه. هذه مِن صفات الله أنَّ له العزة، ومن معانيها: القهر، والمنَعة، والقُوَّة التي لا تُغلب، ومِن أسمائه: العزيز. لا يؤخذ من الصفات أسماء: وقد مرَّ علينا أنَّ كل اسم يؤخذ منه صفة، لكن لا يؤخذ من الصفة اسم في الاطِّراد الأغلب، وإنما أحيانًا إذا دلَّ عليها الاسم يؤخذ منها الاسم، ولهذا لا يؤخذ من أسماء الله أنه ساخِر، وماكر، ومُستهزئ، ومخادع، وناسٍ، مع أنها جاءت فيها صفات. فلا يؤخذ من أسماء الله أنه زارع، وأنه مُنشئ؛ ﴿ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ﴾ [الواقعة: 72]، لا يؤخذ من هذا الفعل صفة، وهذا من القواعد المقرَّرة في هذا الباب - باب الأسماء والصفات - أنَّ الأسماء تؤخذ من الاسم، وأنه يؤخذ من الأسماء صفات، ولا عكس، فلا يؤخذ من الصفات أسماء. الاسم هل هو المسمى، أو غيره؟ وَقَوْلِهِ: ﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 78]. الله له اسم ومِن المَسائل المُبتدعة عند المتكلمين: هل الاسم هو المُسمى أو غير المسمى؟ لَمَّا خاض فيها المبتدعة، فصَّل فيها العلماء: 1- فأحيانًا يأتي الاسم ويُراد به المُسمَّى. 2- وأحيانًا يأتي الاسم ويُراد به ذات الاسم ولا يُراد به المسمَّى؛ ﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 78]، فيُراد بالاسم المسمَّى هنا؛ كقوله تعالى: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1]، فالاسم هو المسمى. أما ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الأعراف: 180]، فالاسم غير المُسمى بحسب سياق كلٍّ مِن الآيات. فوصَف نفسه بأنه ذو جلال وذو إكرام: ﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 78]، ولهذا - لعِظَم هذين الوصفَين - جاء الحث مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالإكثار مِن هذَين الوصفَين بالدعاء والإلحاح على الله بهما في قوله: ((ألظُّوا بِياذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ))[4]؛ أي: أكثروا مِن الدُّعاء بهذَين الوصفين، وتقرَّبوا إلى الله بهما، واسألوا بهما، وأكثروا من ذلك. النفي المُجمَل: وَقَوْلِهِ: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]: في هذه الآيات إثبات أنَّ الله له اسم، لكنْ ليس له نَظير في اسمِه، ولا يُساميه أحدٌ مِن المَخلوقين، ولا يَبلغ اسم المخلوق اسم الخالق مهما عَظُم المَخلوق؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]. كما أنه لا أحدَ يُكافئه؛ فقال: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]؛ أي: إنه لا أحد يكافئه أو يُشابهه أو يُماثله أو يُساميه أو يُناظِره. وَقَوْلِهِ: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22]: الأنداد المثلاء المُماثلين له، فالله لا يُماثله أحد، مع أنَّ الآية جاءت في سياق التعبُّد والنهي عن الشرك؛ لأنَّ هذا الذي أشرك معه غيره - ولو كان في عبادة واحدة - كأنه جعَل هذا الغير ندًّا لله في هذه العبادة، ومثالها مَن دعا غير الله، فقال: يا حسين، مددًا، يا سِيدِي عبدالقادر هب لي ولدًا، يا بدويُّ فرِّج همِّي، يا زينب، يا نفيسة... ونحو ذلك؛ ففي هذه الدعوة لَمَّا دعا غير الله كأنه جعل هذا الغير - مهما كانت رُتبته - مماثلاً لله في هذا الأمر بالدعاء، وإن كان هذا الداعي يَعلم أن هذا المدعوَّ مهما بلغ فلن يبلغ مقام العبودية، ويعلم أنه عبد، لكن لما صرف له حق الله الذي لا يجوز إلا له صار هذا متخِذًا غير الله ممن قصده، ورغب إليه متخِذًا له ندًّا، ولو كانت مرة واحدة، أو في عبادة واحدة؛ لأن الند هو المثيل وإن كان ليس مماثلاً لله من كل وجه. وبالتتبع في المشركين لا تجد أحدًا اعتقد في غير الله أنه مساوٍ لله مِن كل وجه، ولو تأمَّلنا في أهل الشرك، وفي أهل الكفر على اختلاف مِلَلهم، ودركات كُفرِهم ونياتهم، لم نجد أنَّ أحدًا منهم مماثل لله من كل وجه أبدًا، حتى الثنوية من المجوس الذين اعتقدوا خالِقَيْنِ اثنين: النور، والظلمة، لم يعتقدوا أنَّ النور والظُّلمة مُتساويان في كل وجه. وَقَوْلِهِ: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 165]: أندادًا: عبادًا شفعاء شركاء، وفي هذا أن الندَّ والمثيل والسَّمِيَّ بمعنى مُتقارب، وما سبق من قوله: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]، ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]، ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ﴾ [البقرة: 22] مثال على النفي المُجمَل عن أنَّ شيئًا يُساوي الله أو يُماثله، وأما النفْي المفصَّل فقد قال: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]. وهذا مِن النفْي المَمدوح، وهو أحد نوعَي النفْي، فالله لا ولد له لكَمال فرديته، ولم يكن له شريك في الملك لكمال وحدانيته في ربوبيته، ولم يكن له وليٌّ من الذلِّ، فالوليُّ هو المُعين، والذلُّ هو الافتِقار والحاجة، والْمَلِك أو السلطان في الدنيا يَحتاج إلى أعوان، وزراء، ومستشارين، وعساكر... ونحوهم؛ لأنه محتاجٌ ومفتقر إليهم، ولا يتأتى ملكه وسلطانه إلا بهم، والله تعالى ليس له هؤلاء الوزراء ولا الوسطاء من الذلِّ، فلم يكن له وليٌّ مِن الذلِّ، ولهذا ختمها بقوله: ﴿ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]؛ أي: عَظِّمْهُ، ونَزِّهْهُ عن كل نقص تعظيمًا وتنزيهًا. فلله أولياء، وقد اتخذ الله أولياء، لكن من غير حاجة منه إليهم، المؤمنون والموحِّدون أولياء الله، وليست ولاية الله لهم من حاجته إليهم؛ بل مِن غناه واستغنائه عنهم، ومع ذلك يتفضل، ويتكرَّم، ويتحنَّن سبحانه وتعالى فيتَّخذهم أولياء له؛ تفضُّلاً منه عليهم، لا حاجة وافتقارًا منه إليهم، بل هم المُفتقرون المحتاجون إليه، ولهذا ما أبلغه من وصفٍ إذا وصف الله عبدًا بأنه وليه، وأنه له عبدٌ! وهذا كرامة لهذا المؤمن. شروط ولاية الله عز وجل: ولهذا فالولاية يطلبها أهل الإيمان ليتعالوا ويتساموا في درجاتها ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62]، وهم: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [يونس: 63، 64]. وولاية الله على مراتب بحسب هذين الشرطين والوصفين: بحسب الإيمان، وبحسب التقوى، فلا وليَّ لله إلا المؤمن التقي، فكل مؤمن تقي فهو لله عز وجل وليٌّ، ولهذا جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في الحديث القدسي: ((مَنْ عادى لِي وَليًّا))[5]؛ أي: هذا الذي اتخذه الله وليًّا مِن تفضُّله عليه، لا مِن حاجته وافتقاره إليه؛ لأنه سُبحانه ليس له ولي من الذلِّ - وهي الحاجة والافتقار - كما أن المخلوقين - وإن عظموا في رئاستهم، وملكهم وسلطانهم - يتَّخِذون الأعوان والأولياء؛ من ذلهم وافتقارهم إليهم، وحاجتهم إليهم. [1] رواه البخاري ( 1970 )، ومسلم ( 782 )، من حديث عائشة رضي الله عنها. [2] رواه أحمد ( 6/ 240 )، والحاكم في المستدرك ( 4/ 575، 576 )، عن عائشة رضي الله عنها، وصححه الحاكم. [3] رواه أحمد ( 6/ 258 )، والترمذي ( 3531 )، وصححه الألباني. [4] رواه الترمذي ( 3524، 3525 )، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وصححه الألباني. [5] رواه البخاري ( 6902 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (12) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَقَوْلِهِ: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الجمعة: 1]. هاتان الآيتان فيهما تمجيد الله، وتنزيهه عن كل نقْص، وتسبيحه، والتسبيح هو التنزيه ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾. لو تأمَّلْنا في هذه السور - من أواسط المفصل - نجد أنها مفتتحة بقوله: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الجمعة: 1]، ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحديد: 1]، هذا التنويع في الأسلوب؛ لأنَّ المسبِّح لله كل ما سوى الله من عاقل ومِن غير عاقل، من مخلوق مكلَّف وغير مكلَّف؛ لأنَّ (ما) تعني الجميع بمعنى الذي، أما (مَن) فتُستخدم في العربية لمن يعقل، لذا تُطلق على المكلَّف مِن الإنس والجن، فهم يسبحون الله؛ أي: إنهم ينزهونه عن النقائص والعيوب. ﴿ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ﴾ [التغابن: 1]: أثبت أن له ملكًا، وأنه له الحمد بأنه المستحقُّ الحمدَ المطلق الكامل من كل وجه، حتى إنَّ حمدَ المخلوق مِن حمْدِه سبحانه وتعالى، وشكر المخلوق من شكره تعالى؛ ففي السنن وفي المسند بإسنادٍ صحيح يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا يَشكُرُ اللهَ مَن لا يَشكُر النَّاس))[1]؛ لأن شكر الناس مِن شكر الله، وهذا الكمال اللهُ أولى به، فَما صرَفتَه للناس إذا كانوا يستحقونه فالله أولى به. قاعدة المثل الأعلى: وهذا فيه إلماعةٌ لقاعدة من قواعد الصفات، وهي قاعدة المثَل الأعلى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ [النحل: 60]، وهذه القاعدة تسمَّى قاعدةَ المثل الأعلى، وتُسمى بقاعدة القياس الأولى؛ ولهذا فإن القياس غير مستخدم في باب الصفات وفي العقيدة إلا قياسًا واحدًا وهو قياس الأولى؛ قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ [النحل: 60]. قياس المثل الأولى هو: كل كمالٍ ثبَت للمخلوق لا نقصَ فيه بوجهٍ من الوجوه فالله أولى به، وكل نقصٍ تنزَّه عنه المخلوقُ فالله أولى بالتنزُّه عنه. ومن الأمثلة على ذلك لكل كمال ثبت للمخلوق: فالعِلم كمالٌ وهو مما يُمتدَح به المخلوق بعكس الجهل، فكل كمال يُمتدح فيه المخلوق بشرطِ ألاَّ يكون فيه نقصٌ بوجه من الوجوه فالله أولى به؛ ولهذا فالله أولى بهذا الكمال (العِلم). والمخلوق يُحمد على صنائعه وهذا كمال، فالله أولى بهذا الكمال من المخلوق؛ لأن لله الحمدَ المطلق، ولهذا قال تعالى - عائبًا مَن أخلَّ بهذا الأمر من عباده - في الحديث القدسي: ((إنِّي والجنَّ والإنسَ في شأنٍ عَظيم؛ أخلُقُ ويُعبَدُ غَيري، وأرزُقُ ويُشكَرُ غيري))[2]، وهذا الظلم في حق الخالق وفي حق المخلوق بوضعِ الشيء في غير موضعه. وفائدة هذا القيد أنَّ كل كمال لا نقصَ فيه بوجهٍ من الوجوه؛ لأن مِن الكمالات ما هي متضمِّنة نقصًا كالنوم، فالنوم كمالٌ والمخلوق الذي ينام أكملُ من المخلوق الذي لا ينام؛ لأن الذي لا ينام مريضٌ بل يَذهب إلى المعالج، فالنوم كمالٌ متضمن افتقارًاٌ ونقصًا، وهو حاجته إلى هذا النوم، فلما تضمَّن هذا النقصَ بوجهٍ من الوجوه كان الله متنزِّهًا عنه، والأكمل من الخلق ذلك المخلوق الذي له ولَد مِن ذلك العَقيم؛ لأنَّ حاجته إلى الولد حاجةُ افتقار، ونقصٌ يكمله هذا الولد، فلما كان هذا الكمالُ مشتمِلاً على نقص كان الله منزَّهًا عنه، والمخلوق المتزوج أكملُ من المخلوق الأَيِّم، فمَن لم يتزوج فإنَّ فيه نقصًا وعيبًا، فكان هذا الكمال متضمنًا على نقص وهو افتقارُ كلٍّ من الزوجين إلى الآخر في قضاء الوطَر في الحاجة، في أنس الحياة، في النسل... إلى غير ذلك، فلما كان هذا الافتقار في هذا الأمر كان الله متنزهًا عن هذا الكمال المشتمل على نقص. والجزء الثالث من القاعدة أن كل نقص تنزَّه عنه المخلوقُ فالله أولى بالتنزه عنه: الكُمَّل من المخلوقين يتنزهون عن الظلم فالله أولى بالتنزُّه عن الظلم، الكُمَّل من المخلوقين يتنزهون عن الغفلة فالله أولى بالتنزه عن الغفلة؛ لأن الله لا يَغيب عنه شيء، الكُمَّل من المخلوقين يتنزهون عن التعب والإعياء فالله أولى من ذلك، فكل نقص تنزَّه عنه المخلوق فالخالق أولى بالتنزُّهِ عنه. ﴿ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التغابن: 1]: قدرته على كل شيء فالله قادر عليها. وَقَوْلِهِ: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]: أي: تعاظَم وتمجَّد بأنواع المجد وأنواع التقديس وأنواع التنزيه. ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]: فأثبتَ له مُلكًا، ونفَى عنه ولدًا؛ فقال: ﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]؛ لكمال هذه الصفات التي اتصف بها سبحانه وتعالى. وَقَوْلِهِ: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [المؤمنون: 91، 92]. في هذه الآيات أنواعٌ من التمجيدات والتنزيهات له إجمالاً وتفصيلاً؛ فقوله: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ ﴾ هذا تنزيهٌ تفصيلي، وأن الله ليس له ولد لكمال أحَديَّته، وكمال غِناه، وعدم افتقاره وحاجتِه للخلق وحاجته للولد؛ ﴿ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ﴾؛ لكمال وحدانيته في عبادته ليس له شريك ﴿ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ﴾ [المؤمنون: 91]، لو أنَّ الله معه إلهٌ لذهب كلُّ إله بما خلق، وهذا ما بَنى عليه المتكلمون دليلاً، وسمَّوه (دليل التَّمانُع)، فقالوا: لو أن للكون خالِقَين فأراد أحدُهما إمضاءَ شيء وأراد الآخر تسكينَه، فالقسمة العقلية إما أن يتحقَّق مُرادُهما وهذا مُمتنِع؛ لأنه جمَع بين نقيضَيْن فلا يُمكِن أن يكون الشيء متحركًا وساكنًا في آنٍ واحد، أو لا يتحقَّق مُرادهما جميعًا وهذا خِلوٌ مِن النقيضين، فلا يمكن أن يكون الشيء لا متحركًا ولا ساكنًا أو يتحقق مرادُ أحدهما فمَن تحقق مراده فهو الغالب؛ إما يتحرك، أو يَسكن. وأبلغ مِن هذا الدليل هذه الآية: ﴿ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾، واللهُ لم يَعلُ عليه شيء، فدلَّ على أنه الواحد الأحد، الإله الواحد المالك الواحد، الذي ليس له شريكٌ؛ لا في مُلكه، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في عبادته؛ ولهذا قال: ﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 91]. مِن الشِّرك في الربوبية: وممَّن أشرَك مع الله في الربوبية، أو مما يُمثل به على الشرك في الربوبية: المجوسية؛ فقد اعتقدوا أن النور يَخلق الخير، وأن الظلمة تَخلق الشر، وممن أشرك مع الله في الربوبية الدَّهْرِيَّة؛ فقد قالوا: ﴿ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾ [الجاثية: 24]. والدَّهرية هم الملاحدة الآن، الذين يَزعمون أن الحياة تُحييهم، والطبيعة تُميتهم. ومن الأمثلة أيضًا مَن اعتقد أن أحدًا يَنفع أو يَضر، أو يَعلم الغيب فقد شارك الله في الربوبيَّة، مَن اعتقد أن النجوم تؤثِّر في الطِّباع، في الأخلاق، في حوادث الناس فاعتقد مؤثِّرًا مع الله في الربوبية. وشركٌ في العبادة يُفضي إلى الشِّرك في الربوبية، وهذا استنتاجٌ مهم نَعلمه في مسيرة الشرك؛ ذلك أن الشرك إذا وقع في العبادة أفضى إلى الشرك في الربوبية؛ لأنه الآن يَقصِده معه الله، يتدرَّج مِن ذلك إلى أن يعتقد فيه أنه ينفع ويضرُّ مع الله. وَقَوْلِهِ: ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74]. أنواع الأقيسة في حقه عز وجل: أي: لا تَجعل لله مثلاً كما تَضربه للمخلوق في مَثل يَستوي فيه أضرابه. وهذا هو القياس التَّمثيلي، أو القياس الشُّمولي المبنيُّ على مقدِّمتين يخرج منهما نتيجة، فالله لا يُضرب له المثل؛ لأنه سبحانه وتعالى له المثَل الأعلى، ولأنه ليس كمِثله شيء وهو السميع البصير؛ ولهذا قال: ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74]، ومؤدَّى ذلك أن مَن كان عِلمه قاصرًا لا يصحُّ أن يَضرب المثل وعِلمه قاصر، والله أعلم بنَفسه، وبأسمائه، وصفاته، وأعلم بخلقه مِن خلقه بأنفسهم، بل وبأسمائه وصفاته؛ ولهذا كان أصل أهل السنة ألاَّ نَصِف الله ولا نُسمِّيَه إلا بما سمى أو وصَف به نفسه، ولا نصفُه ولا نسميه إلا بما وصفه به وسمَّاه به أعرَفُ الخلق بالله وهو رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال: ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74]. فاكتفِ مِن العلم بما آتاك الله إيَّاه، ولا تتطاول وتتدخَّل في شيء لم تُعَلَّم إياه وإنما كُتِم عنك هذا العلم؛ فعندئذٍ تزلُّ قدمك، ويسوء فهمك. [1] رواه أبو داود (4811)، وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني. [2] رواه أحمد في المسند (4/ 276)، والطبراني في المعجم الكبير، مسند الشاميين " (2/ 83)، والحاكم في تاريخ نيسابور، والبيهقي في شعب الإيمان (4/ 134)، وأعلوه بالانقطاع كما في السلسلة؛ للألباني (3371)، لكن معناه صحيح كما دلت عليه الأدلة. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (13) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَقَوْلِهِ: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]. وعلاقة هذه الآيات بالعقيدة الواسطية أنَّ وصفَ الله، أو تسميتَه بما لم يَصِف به نفسَه، أو يُسمِّ به نفسه، أو يُسمِّه به رسولُه، أو يَصِفْه به رسولُه صلى الله عليه وسلم - أن هذا خوضٌ في الله بغير عِلم، ومن ذلك أن يَضرب لله المثَل وهو لا يَعلم، وهذا ما فعَله المنحرِفون في هذا الباب، وهُم طائفتان؛ أهل التشبيه والتمثيل لَما مثَّلوا الله بالمخلوقين، وهذا مما لا عِلم لهم به، وإنما هذا مِن وصفِ الله بالنقائص، والقولِ على الله بلا علم، والطائفة الأخرى أهل التعطيل بطوائفهم. شجرة التعطيل: التعطيل شجرة؛ جُذورها الجهمية، وساقُها المعتزلة، وفُروعها المتأثِّرون بهم على اختلاف أصنافهم، وإن شئتم فخُذوا مثالاً آخر - لأن ضرب الأمثال يُقرِّب المعانيَ للقلوب وللعقول وللمَدارك -: التعطيل له أُم، ولها بنتٌ كُبرى تُعينها على الشَّر، ولها بِنتان صُغرَيان تُقلدان أختَهما وأمَّهما في الشر. أمُّ التعطيل هي الجهمية، وبنتها الكُبرى التي تَؤزُّها على الشر أزًّا وتُعينها على الشر - وهي خَليفتها في هذا الشر - المعتزلة، وبنتاها الصُّغرَيان جنس المتكلمين من الماتريدية والأشاعرة، هذا يُمكن أن نُسمِّيَه شجرة التعطيل. وهؤلاء المعطِّلة - على اختلاف أصنافهم - جامِعُهم أنهم قالوا على الله بغير علم، فدخَلوا بعقولهم الفاسدة، وبمناطقهم الكاسِدة على الله في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وما يجب عليه وما يَمتنع عليه وما يجوز له، فدخلوا في قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]؛ ولهذا عدَّ العلماء علم الكلام نوعًا وضربًا مِن القول على الله بلا علم، ومن ضربِ الأمثال لله تعالى، نعوذ بالله من حال الرَّدى، وطرائق أصحاب الرَّدى. إثبات الاستواء لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، جَاءَ ذِكْرُ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعٍ: في هذه الجملة من الآيات التي ساقها الماتن رحمه الله إثباتُ صِفَتين من صفاته سبحانه وتعالى: صفة الاستواء على العرش، وصفة علوِّه. وصفة الاستواء من صفات الله الفعليَّة؛ لأنها مرتبطةٌ بمشيئته؛ فهو سبحانه وتعالى استوى على عرشه بعدما خلق السموات والأرض في ستة أيام. والاستواء صفةٌ فِعليَّة لله عز وجل، ويدلُّ على عُلوِّ الله، والفرق بين صفتي الاستواء والعلوِّ أن علوَّ الله ذاتي، فالله قبل خلق السموات والأرض، وقبل استوائه على عرشه... هو في عُلوٍّ على خلقه فهو عالٍ عليهم، فهو صفة ذاتية، ولَما خلق السموات والأرض في ستة أيام استوى على العرش، فالاستواء صفة فعلية. وقد جاء ذِكرُ الاستواء في القرآن في سبعة مواضع؛ يُرتِّب الاستواء على خلقه السمواتِ والأرضَ في سُوَر: في سُورَةِ الأَعْرَافِ قَوْلُهُ: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الأعراف: 54]. وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونس عليه السلام: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 3]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الرعد: 2]. وَقَالَ فِي سُورَةِ طَه: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ ﴾ [الفرقان: 59]. وَقَالَ فِي سُورَةِ: ألم السجدة. ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [السجدة: 4]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الحديد: 4]. في هذه المواضع الستَّة يرتِّب استواءه على العرش بعدَ خلقه السمواتِ والأرضَ في ستة أيام، وفي الموضع السابع في سورة طه ذكَر فيه الاستواءَ مطلقًا، فقال: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]. الاستواء معلومُ المعنى مجهولُ الكَيف، وهذا باتِّفاق السلف؛ فإن معنى الاستواء في اللغة يَدور على أربعةِ معانٍ: الارتفاع، والعلوُّ، والصعود، والاستقرار. أربعةُ معانٍ تَدور عليها معاني الاستواء في لغة العرب؛ يقول ابن القيم في النونيَّة - ذاكرًا معاني الاستواء عند السلف عند العلماء وعند أهل الشأن -: ولَهُم عِباراتٌ عَلَيْها أربَعٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قد حُصِّلَتْ للفارِسِ الطَّعَّانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهِيَ اسْتَقَرَّ وَقَدْ عَلا وَكَذَلِكَ ارْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تَفَعَ الَّذِي مَا فِيه مِنْ نُكْرَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكذاكَ قد صعدَ الَّذي هُوَ رابِعٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأَبُو عُبَيْدَةَ صاحِبُ الشَّيْباني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يَختارُ هذا القولَ في تَفْسِيرِه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أَدْرى مِنَ الجَهْمِيِّ بالقُرْآنِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فهذه المعاني الأربعة هي معاني الاستواء في لغة العرب، التي نزل بها، ونطق بها كلام ربنا سبحانه وتعالى؛ فهي عُلوٌّ وارتفاعٌ واستقرارٌ وصعود؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى دَابَّتِهِ قَالَ: ((سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)). "استوى على دابته" بمعنى أنَّه عَلا عليها وارتفَع عليها، وصَعد عليها، واستقرَّ عليها، وهذا يدل على معنى الاستواء في اللغة؛ أنه على هذه المعاني، ولهذا رُوِي عن أم سلمة رضي الله عنها بإسنادٍ فيه ضَعف، ورُوِي عن ربيعة الرَّأي ربيعة بن فرُّوخ. ورُوِي بالأسانيد المستفيضة عن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، لما دخَل عليه ذلك الرجل؛ لأنه نشَأ في زمن الإمام مالك قالةُ التشبيه والتعطيل، وصار لها سوقٌ رائجة - فقال: "يا أبا عبدالله، ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]؛ كيف استوى؟" قال: "الاستواء معلوم، والكيف مَجهول، والإيمانُ به واجب، والسؤال عنه بدعة". ورُوِي عنه أنه أطرَق رأسَه حتى علَتْه الرُّحَضاء - أي: تصبَّب عَرقًا - وغُشِي عليه حتى أفاق، فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول"؛ معلومٌ في معناه تَعلمه العرب، والكيف مجهولٌ في كيفية الاستواء؛ فهي مجهولة لا أعلمُها، والإيمان به واجب؛ لأنه جاء في القرآن مِن وصفِ الله نفسَه، وكذا وصَفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، والسؤال عن الكيفية بدعة، ثم قال: "ما أراك إلا مُبتدِعًا"! فأمَر به فأُخْرِج[1]، وهذا يبين عن مواقف السلف الكثيرة من أهل البدع في هجرانهم، وفي تأديبهم، وفي تعزيرهم. أنواع ذكر الاستواء في القرآن: والاستواء في القرآن متعدِّيًا ب (على)؛ كما جاء: ﴿ عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [طه: 5]؛ أي: علو الله وارتفاعه واستقراره وصعوده على العرش. ويأتي الاستواء متعديًا ب (إلى)؛ نحو: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ [فصلت: 11]، فإذا عُدِّي الاستواء بإلى فإن معنى الاستواء هاهنا القصد. وخَلقه سبحانه وتعالى السمواتِ والأرضَ في ستة أيام جاءت مفصَّلة في سورتي الدُّخان والزخرف، بأنه خلَق السموات في يومين، والأرضَ في يومين، وسائرَ الخلق في يومين، ولو شاء الله أن يخلقها جميعًا بأمرٍ واحد بـ"كُن" لما أعجَزه ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [النحل: 40]. وهذا الاستواء جاء في هذه الأدلة مبينًا عن هذا المعنى، فلا يَليق أن يُظنَّ بالله أو يُظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أرادوا بالاستواء غيرَ معناه الظاهر، وأرادوا به معنًى خفيًّا، وهذا هو أعظمُ ظنِّ السَّوء، بل هذا يشتمل على أن القرآن والسُّنة ليس فيهما هدًى إذا كان فيهما شيءٌ على غير ظاهره اللائقِ بالله؛ لأن هذا يُفيد أنَّ الوحيين فيهما التِباس وخَفاء وألغاز، وهذا يتَنافى تمامًا مع ما وصف الله كلامَه القرآن، ووصف الله سُنَّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي هي خير البيان. المنحرِفون في صفة الاستواء: 1- الأولى: بدعة الممثِّلة؛ جعلوا استواء الله على عرشه كاستواء الْمَلِك على سَريره، فشبَّهوا استواء الخالق باستواء المخلوق، والعرشُ هو ذلك المخلوق العظيم، الذي هو أعظمُ المخلوقات، المحيط بالمخلوقات كلِّها، ولذلك خصَّه الله بالعلو، والصعود، والاستقرار، والارتفاع عليه، وأصل العرش في اللغة هو السرير، فسرير الملك يُسمى عَرشًا كما سمَّى الله عرش بلقيس عرشًا: ﴿ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ﴾ [النمل: 41]. وعروشُ الدنيا مختلفة متفاوتة، وعرش الرحمن أعظمُ منها كلِّها، لا ندرك بعقولنا كيفيته أبدًا، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: ((وَمَثَلُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْكُرْسِي إِلَى الْعَرْشِ كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ))[2]؛ لأن العرش لا يُبْلَغُ كُنهُه، ولا كيفيته، ولا حقيقته في مَدارك العقول، ومبالغ الأفهام، مهما استطالت وتوسَّعَت، فإذا كان هذا في المخلوق (وهو العرش) فالخالق من باب أولى. 2- الثاني: المُعطِّلة، وقد نفَوا الاستواءَ وأنكَروه، وعَطَّلوه عن الله تعالى، وكان لهم في تعطيله مَناحٍ: فمنهم مَن نَفاه بالكلية وهم الجهميَّة، ومنهم مُعتزلة، ومنهم مَن نفاه وأوَّله، وهم في تأويله على أحوال؛ فالإمام أبو الحسن الأشعري وأصحابه ما حَرَّفوه بتحريف المتأخرين، وإنما قالوا: "إن الاستواء فِعلٌ يَفعله الله بالعرش يُسمى استواء"، وهذا التأويل أخَفُّ من تأويل المتأخرين من أتباعه، الذين حرَّفوا الاستواء كما حرَّفَت اليهودُ أمر الله: ﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾ [البقرة: 58]؛ لأن المتأخرين قالوا: الاستواء هو الاستيلاء على العرش. فمعنى قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]؛ أي: استولى على العرش. واستشهدوا على هذا بقول شاعر أنه قال: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ♦♦♦ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ أَوْ دَمٍ مِهْرَاقِ وهذا لا يعارض ما صحَّ في اللغة والشرع، ودرَج عليه السلف؛ من أنَّ الاستواء هو العلوُّ والارتفاع، والظهور والصعود. ثم أيضًا كيف تُترك لغةُ العرب المنتشرة الواسعة الذائعة في معاني الاستواء بأنه العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار - إلى هذا المعنى النادِّ عن هذه اللغة، بِبَيتٍ حَمَّالٍ عدَّةَ أوجُه؛ منها العلو والظهور، وبه يكون للبيت معنى صحيح، فيكون قوله: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ بمعنى أنه قد عَلا عليه عُلوًّا بتغَلُّب لَمَّا أن نازعَهم ونازعوه، فغلبهم ولم يغلبوه، وهؤلاء المتأخرون الذين قالوا: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء. وسمَّوه تأويلاً، هو تحريفٌ للكلام عن معناه، وعن ظاهره اللائق، وما هذه اللام في زيادتها بالاستيلاء بأقبحَ مِن نون اليهود لَمَّا أمرهم الله أن يقولوا: "حِطَّة"، فزادوا نونًا وقالوا: "حنطة"، وهذه مِن آثار جنايات التأويل على صفات الله وأسمائه، بل وأخباره ووعيده. هذه الصفة معقد افتراق واختلاف بين أهل الإثبات؛ أهلِ السُّنة والجماعة، وبين مُخالفيهم من المنحرفين في هذا الباب (باب الأسماء والصفات) من الممثِّلة والمعطِّلة. [1] تقدَّم تخريجه (22). [2] رواه البيهقي في الأسماء والصفات (404 - 405)، وابن أبي شيبة في كتاب العرش (1/ 114). |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (14) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل النوع الثاني من الأدلة أدلة بإثبات علوِّ الله على عرشه وعلى خلقه، والعلوُّ من صفات الله الذاتية، وقد مرَّ علينا أن العلو ينقسم إلى ثلاثة أنواع: 1- النوع الأول: علوُّ القدر والمنزلة. 2- والثاني: علوُّ القهر والغَلَبة، وكِلاهما - بالاتفاق - لله تعالى، لم يُنازِع فيهِما إلا الشُّذاذ. 3- والنوع الثالث: علوُّ ذات؛ بأنَّ الله بذاته على خَلقِه، فلا يَعلو ذاتَه شيءٌ مِن خلقه، وهذا الذي وقَع فيه انحرافُ الحلولية من الجهميَّة والمعطِّلة من المعتزلة والمتكلمين وأذنابهم. أنواع أدلة العلو: والأدلة التي جاءت في إثبات علوِّ الله - وهي صفة ذاتية مُلازِمة لذاته أزَلاً وأبدًا - أدلةٌ كثيرة، يقول ابن القيم في كتابٍ صنَّفه - لهذه المسألة فقط تأصيلاً لها وتفريعًا وردًّا على المنحرفين فيها - وهو كتاب (اجتماع الجيوش الإسلاميَّة على غزو المعطِّلة والجهميَّة)، ذكَر فيه وفي غيره أنَّ الأدلة في القرآن على علوِّ الله الذاتيِّ فاقَت على الأَلْفِ دَلِيلٍ، وأن الأدلة في السُّنة فاقت - لمَن عدَّدها - على ستَّة آلاف دليلٍ في إثبات الله علو الله تعالى. والأدلة في إثبات العلو خمسة أنواع: من الكتاب العزيز - وهي أنواعٌ كما سيأتي التنويه علَيها - ومن السُّنة الصحيحة، ومن الفطرة السَّليمة، ومن الإجماع، ومن العَقل. أما أدلَّة الوحي فجاءَت بأنواعٍ كثيرة، عدَّدها ابنُ القيِّم في (النونية) إلى واحدٍ وعشرين نوعًا، ولَخَّصها شارحُ الطحاوية في سبعةَ عشَر، أو ثمانيةَ عشَر نوعًا، والنونيَّة لابن القيم هي خُلاصة مَضامينِ أربعةِ كتبٍ مبسوطةٍ له، وهي: (الصواعق المرسلة، واجتماع الجيوش الإسلامية، وشرح الأسماء الحسنى، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح). وأنواع الأدلَّة قسَّمَها إلى واحدٍ وعشرين نوعًا؛ مِن ذلك أن الله اختصَّ بعضَ خَلقِه برَفعِهم إليه، ومثاله هذه الآية: وَقَوْلِهِ: ﴿ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ [آل عمران: 55]: فعيسى عليه السلام توفَّاه الله توفِّيًا خاصًّا، اختلَف العلماءُ في مَعناه، لكن مجموع أقوالهم أنه تَوفٍّ خاصٌّ، وليس هو الموتةَ التي كتبَها الله على بَني آدَم، وإنما هو توَفٍّ خاص، كما أنَّ النوم بالليل يُسمى توفِّيًا خاصًّا؛ ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [الزمر: 42]، فتوفَّاه توفيًا خاصًّا، فرفَعه إليه؛ أي: إلى العلو، وهذا دلالةٌ على علوِّ الله، ومثاله في الصحيح: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي)) ، وفي رواية: ((غَلَبَتْ غَضَبِي))، وقال الله في عيسى: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157]، ثم قال: وَقَوْلِهِ: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ [النساء: 158]: فالرفع يدلُّ على أن الله في العلو، ومن ذلك أيضًا أدلةُ إثبات أنَّ مِن الأعمال ما تُرفع إليه، كما في هذه الآية: وَقَوْلِهِ: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10]: ففيه إثباتُ علوِّه سبحانه بصُعود الكَلِم الطيِّب إليه، وكذا رفع العمل الصالح إليه، ولو كان في السُّفْل، أو في كل مكان لَمَا كان للرَّفع والصعودِ إليه معنًى، وقد يَقول قائل: يرفعه بمعنى يُعْلي قدرَه، ويثيب فاعله؛ لكن الشاهد في قوله: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ [فاطر: 10]، فذَكَر أن الكلم الطيِّب في صعودٍ إلى الله؛ لأنه في العلو. نُفاة العلوِّ أشباهُ فرعون: ومِن أدلَّة أهل السُّنة ما قَصَّه الله علينا مِن مُحاوَرة فرعونَ وهامان، وهذه مما يُردُّ بها على الفِرعَونيِّين نُفاةِ العلو؛ لأن الموسَويِّين، والمحمَّدييِّن يُثبِتون العلو؛ وذلك أن فرعون قال كما في الآية: وَقَوْلِهِ: ﴿ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ [غافر: 36، 37]. فموسى عليه السَّلام أخبرَ فرعونَ أن الله في العلو، فطلبَ فرعونُ من وزيره هامانَ أن يَبنيَ له صروحًا (أماكنَ مرتفعة عالية)؛ يَطْلُع عليها؛ لعلَّه أن يبلغ الأسباب - أسبابَ العُلوِّ - ليَطَّلع فيَرى إلهَ موسى! ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾ [غافر: 37]، موسى أخبر فرعونَ أن ربَّه في العلو، كما أخبَرَنا نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم أنَّ الله في العلو، فالإخبار بأن الله في العلوِّ طريقةُ الأنبياء التي أخبَرَت بها أُممَها، ونفيُ علوِّ الله طريقةُ أعداء الرُّسل؛ مِن فرعون ومَن تشبَّه بقولِ فرعون. أنواع (في) في أدلة العلو: ومن أدلة إثبات العلو أن الله أخبر أنه في العلو؛ كما في قوله تعالى: وَقَوْلِهِ: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ [الملك: 16، 17]: يُراد بالسماء هنا مَعنيان، وهذان المعنيان متنوِّعان في فَهْمِ الآية وتفسيرِها غيرُ متضادَّيْن. 1- فإما أن يُراد بالسماء العلوُّ وهذا كثير، فالسماء تُسمى السَّماء والمراد بها العلو، فتكون (في) الظرفيَّةُ على بابِها؛ ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الملك: 16]؛ أي: في العلو. 2- وقد يراد بالسماء السماءُ المبنية، فيكون معنى ﴿ فِي السَّمَاءِ ﴾: على السماء، فتكون (في) ليسَت على بابها في الظرفيَّة، ولكن بمعنى (على)، وكثيرًا ما تأتي (في) الجارَّةُ بمعنى (على) الجارَّةِ؛ قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [الروم: 9]؛ أي: عليها. ومِن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [طه: 71]؛ أي: على جذوع النخل. وكِلا المعنيَينِ حق، وبينَهما تنوُّع، وهذا مِن تفاسير السَّلف المتنوِّعة في الآية الواحدة، فهذه أدلَّةٌ جاءت على إثبات علوِّ الله تعالى على خلقه. أشهرُ أدلَّة السُّنة في إثبات علوِّ الله عز وجل: وفي السُّنة أدلَّة كثيرة، ومِن أشهَرِها حديثُ مُعاويةَ بن الحكَم السُّلميِّ رضي الله عنه، الْمُخَرَّجُ في صحيح مسلم: أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمَهُ، فَعَدَا الذِّئْبُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَأَكَلَهَا، فَلَمَّا جَاءَتْ إِلَيْهِ - وَقَدِ انْتَقَصَ غَنَمُهَا - سَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَصَكَّها صَكَّةً عَلَى وَجْهِهَا - وهي جارية صغيرة - ثُمَّ نَدِمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلَّمَ فِي صَلاتِهِ... وكان في قصة كلامه في صلاته بعدما عطس أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كَهَره، ولا نهَره، ولا عنَّفه، وإنما قال له: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ؛ إِنَّمَا هِيَ لِلتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)). ثم أخبَره بهذا الخبر، فقال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَهَا، فَقَالَ: ((ائْتِنِي بِهَا))، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا قَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم: ((أَيْنَ اللهُ؟)) - وهذا سؤالُ اختبار على إيمانها لأنَّه سيُعتِقها - قَالَتْ: اللهُ فِي السَّمَاءِ. وَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ لَهَا: ((مَنْ أَنَا؟)) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: ((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ))[1]. وشَهِد بإيمانها بما دلَّت عليه الفِطرةُ مِن أنَّ الله في السَّماء، وأنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديثُ أشَدُّ ما يَكون على أهل التعطيل، ونُفاةِ عُلوِّ الله، ولهذا يَهرُبون منه، وتشمئزُّ وجوههم وقلوبهم مِن ذِكْره وقراءته وتَرْداده - وافطِنوا ذلك إذا ابتُلِيتم بهم - ولهذا حرَصوا على تأويلِه، وصَرْفِ معناه، واختلاقِ الأساليب الكثيرة، والتأويلات الفاسدة، والآراء الشاذَّة والغريبةِ في تحريفه عن مَعناه، حتَّى أتَوا بما يُضحِك أهلَ العلم. دلالة خطبة عرَفةَ على العلوِّ: ومن أدلة إثبات العلو من السُّنة ما جاء في المشهَد العظيمِ في يوم عرَفة، لما خطَب النبيُّ صلى الله عليه وسلم الناسَ خُطبتَه العظيمة العَصْماء، التي هي حقًّا أعظمُ مَواثيقِ حقوق الإنسان؛ قال في آخرِها: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ غَدًا عَنِّي مَسْؤُولُونَ، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟)) قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ. فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَّابَتَهُ - تُسمى بالسبابة، وتُسمى بالموحِّدة؛ لأنه إذا تَشهَّد رفعَها في خُطَبه - إِلَى السَّمَاءِ قَائِلاً: ((اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ)) يُكَرِّرُهَا صلى الله عليه وسلم ثَلاثًا، ثُمَّ يَنكُتُها إلى النَّاسِ))[2]. ولو لم يكن الله في العلوِّ لَمَا أشار رسولُ الله إلى العلو، لكنَّه عَلمَ وأيقن، وخاطبَ الناسَ كلَّهم أن الله في العلو، ولهذا استَشْهَده على الناس، فإذا أراد الناسَ قال: ((اللهمَّ فاشهد)) فنَكَتها إليهم أنه بلَّغ ونصَح وأدَّى صلى الله عليه وسلم، لو كان الرسول يُريد مِن هذا الفعل خِلافَ الظاهر، وخلافَ المعنى المتبادِر، لكانَ اللائق أن يُبيِّنه للناس، ويُخبرَهم إياه في هذا المشهد العظيم - الذي أقلُّ ما قيل في حُضوره: تِسعون ألفًا - أمَا وإنه لم يَفعل ذلك كان فِعله غايةً في البيان والإيضاح أنَّ الله عز وجل على عَرشِه، وهذا ما تدلُّ عليه الفِطَرُ السليمة، السالمةُ من الشُّكوك، ومِن مَذاهب الانحرافِ والبِدَع، والتمثيلِ والتعطيل؛ فإنها مُسْلِمَةٌ مُقِرَّةٌ بأنَّ الله في علوِّه، أمَّا من مُسِخَت فطرته فإنَّه يَعتقد أن الله في السُّفل، حتى قيل: إنَّ بِشْرًا المريسيَّ المعتزلي يَقول: سبحان ربِّي الأسفل![3] قبَّحَه الله وأخزاه. ومِن أدلة إثبات العلوِّ أيضًا: اتِّفاق العُقَلاء مِن أتباع الأنبياء على أنَّ الله في العلو، ولا عِبرةَ بالمخالف إذا شذَّ عنهم، وهذا ما اتَّفَق عليه سلَفُ هذه الأمة مِن غيرِ ما نَكيرٍ، ولا خلاف. النوع الخامس دليل العقل؛ وذلك أنَّ أشرف الجهات العلو، وهي الجهة اللائقة بالله تعالى، فالجهات ستٌّ: أمامٌ وخلف، ويمينٌ ويسار، وفوقٌ وتحت. أشرَفُها العلوُّ وهو اللائق به سبحانه وتعالى، ولا يَحوي اللهَ مخلوقٌ، بل الله هو الذي فوقَ المخلوقات. ومن أدلَّة الفطرة: قصةٌ مشهورة، جاءت عن أبي عَليٍّ الهمَذانيِّ أنه كان في مجلسِ إمام الحرَمَين أبي الْمَعالي الجُوينيِّ - وهو مِن أساطينِ الأشاعرة وعُلَمائهم، ومُنَظِّرِيهم، وهو الذي جرَّ الأشاعرةَ بمَذهبِهم إلى طريقة المعتزلةِ والتأويل بما عليه عامَّة المتأخِّرين، وهو الذي مَزَج أصولَ الفقه بعلم الكلام في كتابه المشهور: "البرهان في أصول الفقه" - في درسه أخذ يَجلِب الأدلَّةَ على نفيِ عُلوِّ الله، وتأويل استوائه على عَرشه، وقد أُوتِي قدرةً عَقليَّة في الكلام والمناظَرة، ويَلْوي أعناق الأدلة، وبضاعتُه في الحديث بِضاعة مُزْجاة، فكان إذا أشكَل عليه كتَب به إلى زَميله الإمام أبي بكر محمَّدِ بن الحسين البيهقيِّ يَسأله عنه. وهو في هذا الخِضَمِّ - تأويل وصَرْف الأدلة عن معناها إلى مذهبه الرَّديء - قال له تلميذُه الهمَذاني: "دَعْنا - يا أستاذ - من هذه الأدلة، لكن أخبِرْنا عن هذه الضرورة التي يَجِدها أحَدُنا في قلبه إذا دعا ربَّه بتَوجُّهه في دُعائه إلى العلو، فكيف نُجيب عنها؟!". ما مِن داعٍ يدعو ربَّه إلا وتتَّجِه فِطرتُه ونيته إلى العلو؛ إلى السماء. فوضَع يدَه على رأسه وقال: "حيَّرَني الهمَذاني، حيَّرَنِي الهمذاني!"[4] ؛ أي: إنه أتاني بما لا أستطيع دفْعَه، وهذه جناية التأويل على شريعة الله وأدلَّته، والله المستعان. المنحرفون في علوِّ الله عز وجل: والمنحرفون في العلوِّ على ثلاثة مذاهب: 1- المذهب الأول: الممثِّلة؛ قالوا: إن الله حالٌّ في خلقِه؛ ولهذا ظهر عندهم مذهَبُ الحلول، ومذهب الاتِّحاد الذي أفضى إلى مَذهبِ وَحْدة الوجود. 2- المذهب الثاني: مُتقدِّمو الجهمية وهم أصحاب مذهب الحلوليَّة؛ قالوا: إن الله مع خلقه، حالٌّ بهم. وعلى هذا متأخِّرو الأشاعرة والماتريدية، الذين يَعتقدون أن الله في كل مكان؛ ولهذا لو لم يكن مِن لَوازم هذا المذهب الخبيث إلا أن يَكون الله في الأماكنِ القذرة والنجسة؛ كالحمامات، وأدوار السِّباع النجسة؛ كالكلاب، والذئاب، والخنازير - لكفى بهذا القول فسادًا وقبحًا. 3- المذهب الثالث: مذهب النُّظَّار؛ مذهب المعتزلة، ومنهم الزيديَّة، والإمامية، ومتكلِّمو فلاسفة الأشاعرة والماتوريدية، الذين قالوا: إن الله لا داخِلَ العالم، ولا خارجَه، ولا فوقَ ولا تحت، ولا مُماسَّ ولا مُحايِد! وهذا حقيقته المعدوم، فهرَبوا مِن قبيح مذهبهم، وشَناعة أصولهم الفاسدة؛ من تشبيه الله بالموجودات، فشبَّهوه بما هو أقبحُ منها؛ بالمعدومات، والله جلَّ جلالُه عَلا خلقه جميعًا قبلَ خلقِ السَّموات وبعدَ خلقِ السموات، وحديث أبي رَزينٍ العُقَيليِّ لَمَّا جاء أهلُ اليمن، فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ كَانَ اللهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ؟ قَالَ: ((كَانَ فِي عَمَاءٍ؛ مَا فَوْقَهُ عَمَاءٌ، وَمَا تَحْتَهُ عَمَاءٌ))؛ أي: كان في العُلوِّ المطلق؛ بأنه لا يَحويه مخلوق، وليس فوقَه مخلوق. [1] رواه مسلم (537)، من حديث معاوية بن الحكم السُّلَمي رضي الله عنه. [2] رواه مسلمٌ (1218)، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. [3] انظر: شرح العقيدة الطحاوية. لابن أبي المعز (2/ 448). [4] انظر: شرح العقيدة الطحاوية. لابن أبي المعز (2/ 445). |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (15) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات صفة المعية لله عز وجل وَقَوْلِهِ: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4]: هذه الأدلَّة دلَّت على إثبات صفةٍ مِن صفات الله وهي صفة المعيَّة؛ معية الله لخلقِه، وصفة المعية تَنقسِم إلى نوعين: 1- الأوَّل: مَعيَّة عامَّة، وهي معيَّة الله لجميع خَلقِه معيَّةً عامة، وهي مِن صفات الله الذاتيَّة، وليس مَعناها أنَّ الله مَعهم؛ بمعنى أنه مُمازجٌ لهم مخالطٌ لهم حالٌّ فيهم؛ كما هي الظنون الفاسدة التي يَقول بها أهل الفساد وأهلُ الانحراف والبدع، ولكنها صفةٌ ذاتية؛ بمعنى أنها متعلِّقة بذات الله، ليست متعلِّقةً بالمشيئة، وهذه المعية العامَّة هي التي جاءت في قول الله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]، معيَّة لا تَقتضي المخالطةَ ولا الممازجة، وإنما تقتضي أنه سبحانه وتعالى مطَّلِع عليهم لا يَخفى عليه شيءٌ من أمرهم مُصاحبٌ لهم؛ ولهذا يقول العلماء: إن المعية العامة معيَّة بعلم الله (معية عِلمية)؛ لأن الله تعالى يبدَأ هذه الآياتِ ويَختُمها بالعلم؛ ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4]. وَقَوْلِهِ: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7]: وهذه تَقتضي إحاطتَه واطِّلاعه على خلقه، وأنه لا يَخْفى عليه منهم خافية. 2- النوع الثاني: معيَّة خاصة، وقد جاءت في القرآن والأدلة على نوعين: أ- معية لأشخاص. ب- ومعية لأعمال وأوصافٍ قامت بعبادِ الله المؤمنين. وجاءت معيَّة الأشخاص في قولِه تعالى عن نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار وهو الصِّديق في الآية التالية: وَقَوْلِهِ: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40]. وهذه معية خاصة، ولما بعث موسى وهارون إلى فرعون، فقال: وَقَوْلِهِ: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46]. هذه معيَّة خاصَّة، والمعية الخاصة لأشخاص، إذا جاء في القرآن فهي أعلى قَدْرًا وخصوصيَّةً وشرفًا مِن المعية التي تَأتي لغير مُخَصَّصِين، وإنما لأوصافٍ عامة كمَعيَّة الله للصابرين وللمحسنين وللمتقين: وَقَوْلِهِ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، وَقَوْلِهِ: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]: وكلا هاتين المعيَّتَين: المعية لأشخاص اختصهم الله بذلك، أو المعية لأوصاف الصابرين والمحسنين والمتقين - معية خاصة، وهي من صفات الله الفعلية، التي تكون لمن شاء الله من خلقه؛ كرامة لهم، وجزاء لهم على إيمانهم، وتوحيدهم، وصدقهم؛ ولهذا فإن الفرق بين المعيتين أن المعية العامة من صفات الله الذاتية، والمعية الخاصة من صفات الله الفعلية، وتقتضي المعيةُ الخاصة الحفظَ والتأييد، وهذا معنًى أخَصُّ مِن معنى المعية العامة المقتضية للاطلاع، وأنه لا يخفى عليه من خلقه خافية. والمعية الخاصة والعامة جاءت اللغة بإقرارِهما من غير أن تكون بممازجة، أو مخالطة؛ تقول: سِرتُ والقمَر معنا؛ فليس المعنى أن القمر نزل ومَشى معنا، وإنما المعنى أن القمر مُصاحبنا، وهو ظاهرٌ فوقنا، نوره يَبلُغنا، فإذا كان هذا في مخلوق - وهو القمر - مع مخلوق لم تَقتضِ المعيةُ الممازجةَ والمخالطةَ والحلول، فكيف بمعية الخالق مع خَلقه؟! المعنى أشملُ وآكَدُ وأعمُّ أنها لا تقتضي اتحادًا، ولا حلولاً، ولا ممازجةً. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (16) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات صفة الكلام لله عز وجل .. وَقَوْلِهِ: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: 116]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164] وَقَوْلِهِ: ﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 253]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ [الأعراف: 143]. هذه الأدلَّة ساقها شيخ الإسلام لإثبات صفة الكلام، وأن الله يتكلَّم، وأن له كلامًا هو صفةٌ مِن صفاته، وأن هذا الكلام ليس خاصًّا بالقرآن؛ لأن الله كلَّمَ آدَم وناداه، ونادى حواء، وكلم موسى، وناداه، وناجاه، وكلم عيسى، وأن الله كلامه يُسمى كلامًا، وحديثًا، وقولاً، ونداءً، ومناجاة، وهذه أنواعٌ من الكلام؛ ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 95]؛ فكيف يَصدُق وهو لا يتكلَّم؟! ففي هذا إثباتُ الكلام لله تعالى صفةً من صفاته، والمؤلِّف هنا اختصَر، وإلاَّ فإن هناك أدلةً دلَّت على الكلام، ومن ذلك أن الله عابَ على أصنام المشركين أنها لا تتكلَّم، وعاب ذلك على عِجْل السامريِّ أنه لا يَرجِع لهم قولاً، إذا كانت هذه لا تتكلَّم ويُدَّعى فيها الإلهية دلَّ على عجزها وعلى نَقصِها؛ ﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا ﴾ [طه: 89]، وأنهم لا تكلمهم: ﴿ فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 63]، دلَّ على أنها لما كانت لا تَنطِق دلَّ ذلك على عجزها، وأنها لا تستحق أن تكون ربًّا، فدل على أن مِن معاني الربوبيَّة الكلام. كلام الله قديم النوع، متجدد الآحاد: وكلام الله تعالى مَذهَب أهل السُّنة فيه أن الله يتكلَّم بما شاء، بأيِّ شيءٍ يَشاؤه من أمر ونهي، ولا يتكلم إلا بالحسَن، فلا يكون في كلام الله قُبح، ولا يكون في كلام الله ما يُستحى مِن ذِكْرِه، ويتكلم كيف يشاء، لا نَعلم كيفيَّة كلامه، ويتكلم سبحانه وتعالى إذا شاء؛ ولهذا فصفة الكلام صفة ذاتية من حيث النوع، متعلقة بذات الله أزلاً وأبدًا، وهي صفة فعلية من حيث الأفرادُ - أي: من حيث أنواعُ الكلام - تكلم بالتوراة بعدما تكلَّم في صحُف إبراهيم، وتكلم بالإنجيل بعد كلامه بالتوراة، وتكلم بالقرآن بعد كلامه بالإنجيل، ويتكلم يوم القيامة غيرَ كلامه في الدنيا. أنواع كلام الله عز وجل: كلام الله أنواع؛ فهو قول، وهو حديث، وهو نداء (بصوت عالٍ)، وهو نِجاء (بصوت منخفض)، وكلاهما ثبت لموسى عليه السلام: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [مريم: 52]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشعراء: 10]. وَقَوْلِهِ: ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ﴾ [الأعراف: 22]: وهذا في حقِّ آدم وحواء، ويُنادي أهل النار: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65]. فهذا أنواع من النداء. كلام الله بحرف وصوت: ومِن ذلك أخَذ العلماءُ أنَّ كلامَ الله بحرفٍ وصوت، بحرف لأن الكلام لا يكون كلامًا مفهومًا حتى يَشتمل على حروف تتكوَّن منها الكلمات، وقد دل على ذلك قوله تعالى: ﴿ الم ﴾ [البقرة: 1]، ﴿ المص ﴾ [الأعراف: 1]، ﴿ المر ﴾ [الرعد: 1]؛ فإن هذه الحروف التي جاءت في أوائل السور مَعناها تحدٍّ وإعجازٌ لهؤلاء الفصحاءِ البلغاء أنَّ هذا الكلام الذي تُحُدُّوا به من جنس حروفهم التي يتكلمون بها، وفي الصحيح من حديثِ ابن مسعود رضي الله عنه: قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ حَسَنَةً؛ لا أَقُولُ: ﴿ الم ﴾ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ))[1]، والذي قال هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أعرف الناس بالله، وهو بصوت؛ لأنه جاء في الصحيح: ((أَنَّ اللهَ يَتَكَلَّمَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِكَلامٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ))[2]، وفي آية سبأ: ﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23]؛ فالملائكة تَسمع كلامَ الله، وتَضرِب بأجنحتها خُضْعانًا لقوله، وتخشع لأنها سَمعَت كلام الله تعالى، فكلامُ الله بحرف، وكلامُ الله مسموع؛ كما دلَّت على ذلك الأدلة، ولو لم يكن لَمَا فُرِّق بين النِّداء وبين النِّجاء؛ فالنداء بصوت مرتفع، والنِّجاء لا يسمعه إلا الْمُناجَى وحده، وهذا في أدلة إثبات كلام الله. وكلام الله يدل على كماله؛ لأن الذي لا يتكلَّم عاجز، إما مِن عدم القابليَّة للكلام؛ كالجدار، والجمادات - وإن كانت الجمادات صحَّ عنها أنها تتكلم بتسبيح الله، بكلامٍ لا نَفقهُه ولا نفهمُه - أو الكلام ممن هو عاجز عن الكلام خرَسًا، والله له الكمال، ويتنزه سبحانه وتعالى عن النقص. المنحرفون في صفة الكلام: الذين انحرفوا في كلام الله: الجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة، والباطنية، ولكن الجهمية والمعتزلة أعظم مَن انحرف في كلام الله، وجرُّوا على الإسلام والمسلمين أعظمَ بَليَّة، وما محنة الإمام أحمد ومحنة أهل السُّنة في زمنه عن أخباركم ببعيدة، ووقف أهل السنة لها هذا الموقف. آثار نفي الكلام عن الله عز وجل، ونفي صفة الكلام عنه: يَنتُج من الزَّعم بأن الله لا يتكلم، أو أن كلامه مخلوق كسائر خلقه - لَوازمُ خطيرة؛ منها: أولاً: تكذيب الأدلة؛ لأن الله يقول: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ﴾ [آل عمران: 55]؛ كأنهم يقول: ما قال الله: يا عيسى! وأن موسى ما خاطبه ربُّه، وإنما خاطبَته الشجرة، وليس معقولاً أن تَقول الشجرة: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾ [طه: 14]؛ هذا شرك، وحاشا ربنا عن ذلك، والله يقول: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 6]: ما قال: خلق الله. فأضاف الكلام لله. وقال: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75]، وَقَوْلِهِ: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الفتح: 15]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ [الكهف: 27]: وقال: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، ففرَّق بين الخلق وهي المخلوقات، وبين الأمر الذي هو كلامه، ومخلوقاتُه تكون بكلامه. اللازم الثاني: وصفُ الله بضدِّ الكلام وهو العَجْز والخرس؛ تعالى الله عن قولهم علوًّا عظيمًا. اللازم الثالث: إبطال الشرائع وإبطال الوحي؛ فالقرآن عندَهم ليس كلامَ الله، وهو خلقٌ كسائر خَلقِه لم يَبْدُ القرآن مِن الله، ولا يَرجع إليه، وفي الأحاديث أنَّ القرآن كلامٌ من الله بدا؛ أي: ظهَر؛ بدا من البدُوِّ، وهو الظُّهور، وبدأ ابتدأ الله الكلامَ به، وكلاهما معنَيان صَحيحان، دلَّت عليهما الأدلة، وإليه يَعود (في آخر الزمان)، وذلك إذا استغنى الناسُ عن كلام الله بغيره. اللازم الرابع: أنه يَلزم مِن نفيِ الكلام صفةً من صفاته إبطالُ الشرائع كلها، فلا أمر ولا نهي. اللازم الخامس: التحلُّل من هذه الشرائع، وهذا المعنى الذي فطن له العلماء، ووقَفوا له هذا الموقف العظيم، حتى بذَلوا في ذلك دماءهم، وذممَهم، وأعراضهم، وثبتهم الله، حتى إن الإمام أحمد قال لمناظريه في حضرة الواثق: "القرآن مِن عِلم الله، فمَن زعَم الله أن عِلم الله مخلوقٌ فقد كفَر؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61]، فسَمَّى الله القرآن علمًا". ومِن المذاهب الأخرى مِن مذاهب المبتدعة مذهبُ الأشاعرة، الذين قالوا: إنَّ القرآن الذي معنا عبارةٌ أو حكايةٌ عن كلام الله، إنَّ كلام الله هو المعنى الذي قام في نفسِه، أما الذي سَمِعه جبريلُ وأسمَعَه محمدًا فليس هو عين كلام الله، وإنما عبارةٌ وحكايةٌ عن كلام الله! ولهذا فقولهم هذا يَؤُول إلى قول الجهميَّة المعتزلة، بأن الذي معَنا مخلوق، وليس كلامَ الله حقيقة، وهو ما صرَّحَت الماتوريدية، فكانوا بهذا المذهب الفاسد مِن إخوانهم الأشعرية. وقولهم بالكلام النَّفْساني، أو الكلام المعنوي فهذا القول مِن أمكَرِ الأقوال؛ لأنه استِخْفاء، كقول الواقفة: لا أقول: كلام الله مخلوق، ولا غير مخلوق. فهذا أشدُّ ممَّن صرح بمذهبه، وشيخ الإسلام له ردٌّ عليهم في كتاب كبير، وهو كتابه (التسعينية)، وكذا له ردٌّ على ما قال بالنفساني: تِسْعون وَجْهًا بَيَّنَتْ بُطْلانَهُ ♦♦♦ أَعْني كَلامَ الْحَقِّ ذا الوَحْدَانِي ونَجد في بعض الأسانيد أسانيد القَّراء الإجازات أنَّها لما كانت مَدارها على كثيرٍ من هؤلاء الأشاعرة مُنتهاها هكذا: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن اللوح المحفوظ، أو عن اللَّطيفة، أو عن الهواء؛ وذلك لِيَنفوا أن يَكون جبريلُ سَمع الكلامَ مِن الله؛ لأنَّ مِن مُعتقَدِهم ومذهبِهم المبتدَعِ أنَّ جبريلَ ما سَمع الكلام النفسيَّ - وأنَّى له ذلك أن يَسمع كلامًا هو معنًى نفسيٌّ في ذات الله؟! - فيكون الذي معَنا عبارةً وحكايةً عن كلام الله، فيكون لازمُ مذهبِهم أن هذا الذي معَنا كلامٌ مخلوق، ليس هو عينَ كلام الخالق، الذي ليس بِمَخلوق. ولا بد أن تنتبَّه إلى الفرق بين القراءة والمقروء، واللفظ والملفوظ، والتلاوة والتالي، والحافظ والمحفوظ. فإن المحفوظ المتلوَّ المقروء الملفوظَ هو عينُ كلام الله، أما الحافظ والقارئ والتالي والسامع فهو أنا وأنت وغيرنا من المخلوقين، والإمام أحمد رحمه الله شدَّد على مَن قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ أن هذا في مقام الإلباس والتلبيس، أما إذا قال: إنَّ فِعلي وحركةَ لساني وخَطَّ يدي وحفظي هذا مِن فعلي، وأنا مخلوق وفِعلي مخلوق فهذا لا إشكال فيه، أما المقروء المحفوظ الملفوظ عين كلام الله، فهذا ليس بمخلوق، وهذا عينُ ما قاله الإمام أحمد، ومضى عليه أئمة السُّنة بعده؛ كالإمام البخاري، وغيره. أدلة إثبات صفة الكلام تثبت صفة العلو: وَقَوْلِهِ: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ [الأنعام: 92]، وَقَوْلِهِ: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 101 - 103]. هذه الأدلَّة فيها إثباتُ أن القرآن الذي هو كلامُ الله أنه منزَّل من عند الله، وفي هذا إثباتُ صِفَتَين: إثبات صفة علوِّ الله؛ لأن القرآن نزَل من عنده، والتنزُّل يكون مِن أعلى إلى أسفل، وفيها إثباتُ أن الله متكلِّم؛ ولهذا مَن نفى هاتين الصفتين: العلو والكلام فما قدَر الله حقَّ قدره؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى ﴾ [الأنعام: 91]؛ لأنه إذا نَفى عُلوَّ الله، ونفى أن يَكون الله متكلمًا فقد وصَف اللهَ بالنَّقائص، ولم يَقدُر الله حقَّ قدره، وهذا يُفضي إلى وصفِ الله بأقبح أوصاف التَّعطيل، وهو العبَث، كما يُفضي إلى أن الله في السُّفل، وأن الله لا يتكلَّم، فالقرآن مُنزلٌ من عند الله، سَمعه جبريل من الله، وأسمعَه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ففي هذا إثباتُ أن القرآن منزل. نزول القرآن: وقد نُزِّل القرآن حسب الحوادث منجَّمًا حسب المناسبات، في ثلاث وعشرين سنة، والكتب التي قبلَنا أُنْزِلت جملة واحدة؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136]، والفَرق بينهما أنه لما جاء ذِكْر القرآن قال: نزَّل؛ بالفعل المضعَّف، الذي دلَّ على أن النزول مُتكرِّر بحسَب الحوادث، ومنجَّمًا بحسب المناسبات، والكتاب الذي أُنزل مِن قبل، فجنس الكُتب التي قبلنا - وهي كثيرةٌ - لا نَعلم منها إلا أربعة: صحُف إبراهيم على إبراهيم، والزَّبور على داود، والإنجيل على عيسى، والتوراة على موسى، ولله كتبٌ غيرها لا نَعلَمها، نزلَت جملة واحدة. شبهة والرد عليها: الجهمية قالوا: إن القرآن مضافٌ إلى الله في هذه الآيات إضافةَ خَلق؛ كقوله: ﴿ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 6]، وقولِه: ﴿ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ﴾ [الشمس: 13]، وقوله: ﴿ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾ [البقرة: 125]، وهذا مِن جَهلِهم، وعُجمتِهم في عدَم فَهمِهم كلامَ الله عز وجل؛ لأنَّ المضافَ إلى الله في الأدلَّة نوعان: 1- النوع الأول: أعيان؛ كالناقة والبيت والكعبة والمساجد بيوت الله، فهذه أعيانٌ تُضاف إلى الله، وهي مخلوقة، لكن إضافتها إلى الله إضافةُ تَشريفٍ وتكريم. 2- النوع الثاني: معاني؛ أي: إنها لا تَكون أعيانًا مستقلَّة موجودة بذاتها، وإنما هي معنًى كعِلْم الله، وسمع الله، وبصَر الله، وحياة الله، وكلام الله، فهذه مَعانٍ أُضِيفَت إلى الله، وكل معنًى أُضِيف إلى الله فإنه صفةٌ من صفاته تعالى. [1] رواه الترمذي (2910)، والحاكم (1/ 555)، وصححه، وصححه الألباني. [2] متفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (17) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات رؤية الله بالأبصار يوم القيامة وَقَوْلِهِ: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]: فيها إثباتُ صفةِ رؤية الله عز وجل عيانًا بالأبصار يوم القيامة، وهي صفة التجلِّي لله عز وجل، وقد دلَّ عليها القرآنُ في آيات كثيرة، وقد جمَعها الشيخ هاهنا في أربع آيات، وفي القرآن جاءت خمسُ آيات على إثبات رؤية الله: 1-وأصرحُ ما جاء في القرآن على أن الله يُرى في الآخِرَة آية القيامة: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22]؛ مِن النَّضْرة، وهي الكمال والبهاء والحُسْن؛ لأنها ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 23]. ووجهُ أنَّ هذه الآيةَ أصرَحُ ما دلَّ في القرآن على النظر إلى وجه الله - ثلاثةُ أدلة: أوَّلاً: أضاف النظر إلى الوجوه التي هي مُشتمِلة على العينين. ثانيًا: عدَّى النظر بـ (إلى)، والنظر إذا تعدى بإلى فإنَّ معناه الْمَعايَنة بالبصَر، وإذا تعدَّى النظر بنفسِه فإن معناه الانتظار: ﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ﴾ [الحديد: 13]، وإذا تعدى النظر بحرف (في) فمعناه التفكُّر. ثالثًا: أنه أخلى الآيةَ عن قرينةٍ صارفة لهذا الظاهر عن مَعناه المتبادر، فقال: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22]؛ أي: إنها كاملة في حسنها، وبهائها، وجمالها؛ لأنها إلى ربها ناظرة. 2- وَقَوْلِهِ: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴾ [المطففين: 35]. 3- ومن الأدلة على إثبات رؤية الله قوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]، والإمام الشافعي - ويُروى أيضًا عن مالك - جاءَته رقعةٌ (ورقةٌ) مِن صعيد مصر، يَسألونه عن هذه الآية، فقال: "لَمَّا حُجِبَ أعداؤه بالسُّخْطِ - أي: بسبب سخط الله عليهم - دل على أن أولياءه يرَونه بالرضا"، قال عن أهل سِجِّين الكفار: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]؛ حُجِبُ هؤلاء عن الله سُخطًا عليهم، فدل على أن أولياءه يرَونه بالرِّضا. 4-ولهذا لَما ذكر الأبرارَ أهلَ عليين قال: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾ [المطففين: 23، 24]، وأعظم نعيم يرتدُّ على وجوههم إنما يكون بنظَرِهم إلى وجه الله تعالى؛ لا حرَمَنا الله هذه النعمة وهذه المنزلة. 5- وَقَوْلِهِ: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، وَقَوْلِهِ: ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 35]. وهذا مما جاء في إثبات رؤية الله تعالى؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم - كما روى مَسلم في الصحيح من حديث صُهيب رضي الله عنه - فسَّر الزيادة بأنها النظرُ إلى وجه الله تعالى[1]، ويفسرها آية: ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 35]، والمزيدُ هو رؤية وجه الله إذا كشف الحجاب عن وجهه، وهذا يكون في يوم الجمعة لعامَّة أهل الجنة، ويكون لِخُلَّص أهل الجنة في اليوم مرَّتَين؛ يَرونه صُبحًا وعَشيًّا. أما الأحاديث في إثبات الرؤية فقد بلَغَت مبلغ التواتر، رَواها عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثرُ من ثلاثين صحابيًّا، كلها باللفظ الصريح الدالِّ على رؤية الله، ودل على ذلك إجماعُ أتباع الأنبياء والمرسلين على أن الله يُرى، ودلَّ على ذلك العقل الصحيح؛ فإن ربًّا آمَنَّا به في الدنيا ولم نرَه - لِعَجْزِنا نحن، لا لخفائه سبحانه وتعالى - لا بد أن يكون هناك دارٌ أخرى يَرى المؤمنون ربَّهم، وجاء في الجنة أنَّ فيها ما لا عينٌ رأت، ومما لم ترَه العيون في الدنيا؛ تعالى ربُّنا. المنحرفون في صفة الرؤية لله عز وجل: والذين خالَفوا في الرؤية هم الجهميَّة، والمعتزلة، والإمامية، والخوارج؛ فقد أنكروا رؤية الله، والخوارج هم الإباضيَّة؛ لأنهم هم الذين تَقمَّصوا، وتحمَّلوا مذاهبَ الاعتزال، أما الأوائل الصفوية، والأزارقة، والنجدات - فانحرافهم في مسألة تكفير المؤمن وفي مرتكِب الذنب. والأشاعرة أثبَتوا أن الله يُرى، لكن قالوا: يُرى لا في جِهة. فتناقَضوا؛ لأن مِن مذهبهم إنكارَ العلوِّ، فأشغَب عليهم، وضَحِكَ عليهم الجهميةُ المعتزلة، فقالوا: كيف يُرى لا في جهة؟! هذا هو المتناقِض، فلا أنتم الذين وافَقتُمونا في نفي الرؤية كما نفَيتُم العلوَّ مِثلَنا، ولا أنتم الذين وافَقتم أهلَ السُّنة في إثبات العلو كما أثبتُّم الرؤية! فصاروا مُذبذَبين بين ذلك؛ لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، وهذا هو أثر التناقض الذي يُجرُّ إليه مَن خالف وحادَ عَن جادَّة الوحيين؛ عن جادة الأنبياء، وجادة الطريق المستقيم. مقامات رؤية الله عز وجل: والأدلة في إثبات رؤية الله كثيرة، ولكن مما نُلخِّصه في الرؤية أن الرؤية لها ستَّةُ مقامات: 1- المقام الأول: رؤية الله في الدنيا. وهذه لن تكون لأحد؛ بأن يُرى الله في الدنيا عيانًا أبدًا، والدليل فيها قولُه تعالى لموسى: ﴿ لَنْ تَرَانِي ﴾ [الأعراف: 143]، وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَتَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ))[2]. 2- المقام الثاني: رؤية الله للكفار. والكفار لا يرون الله أبدًا؛ لا في الدنيا، ولا في الآخرة. 3- المقام الثالث: رؤية الله للمنافقين. والمنافقون سيَرَون الله عز وجل يوم يَكشِف سبحانه عن ساقه، كما في قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ [القلم: 42، 43]، وكما جاء في حديث أبي سعيدٍ الخدري، لكنهم يتَحسَّرون ويتأذَّون ويتعذَّبون بهذه الرؤية، فلا يتنعمون بها كما هو لأهل الإيمان، وهذه رؤية الله في العَرَصات يراه المؤمنون والمنافقون؛ فهي للمؤمنين نعيم، وللمنافقين عذاب؛ لِمَا جاء في الحديث: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَنْ كَانَتْ تَعْبُدُ[3]، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّجَرَ الشَّجَرَ، وَالْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَالشَّمْسَ الشَّمْسَ، فَيَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ بِصُورَةٍ غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهُ بِهَا...)). فالله تعرَّف إلينا بأسمائه وصفاته، فصُورته بما تعرَّف به إلينا، وهذا كما أن الدجَّال يأتي الناسَ في الدنيا بصورةٍ عوراء، ويقول: أنا ربُّكم! فيُكذِّبه الموحِّدون المؤمنون، فيأتيهم الله بصورة غير الصورة التي يَعرفونه بها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت لستَ ربَّنا؛ يُنكِرونها؛ لأن أثر إيمانهم بأسماء الله وصفاته التي تعرَّفَ الله بها إليهم، وعَرَّفَه بها رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم: ((ثُمَّ يَأْتِيهُمْ بِصُورَتِهِ التَّيِ يَعْرِفُونَهُ بِهَا فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَخِرُّ الْمُؤْمِنِينَ للهِ سُجَّدًا، فَيَذْهَبُ الْمُنَافِقُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْجُدُوا، فَتَكُونُ ظُهُورُهُمْ كَخَشَبَةٍ لا تَسْتَطِيعُ هَوِيًّا)). 4- المقام الرابع: رؤية الله في الجنان؛ وهي لأهل الإيمان خاصة، وهم في قُربِهم من الله كقُربهم من الخطيب يوم الجمعة، وعامة أهل الجنة يرَون الله في يوم المزيد، يوم الجمعة، وخُلَّصُهم يرون الله في اليوم مرتين. 5- المقام الخامس: رؤية الله في المنام؛ والصَّحيحُ أن الله يُرى في المنام، يراه الإنسان في منامه في الدنيا، لكن هذه الرؤية في المنام من باب ضرب المثل، بحسَب اعتقاد هذا الرائي؛ فإن كان مِن أهل التشبيه رأى الله بصورة التشبيه، وإن كان من أهل التعطيل رأى الله بصورة التعطيل، وإن كان مِن أهل الإيمان والإثبات رأى الله بما يُناسب إيمانَه واعتقاده؛ ولهذا فقد تواتر عن بعض أئمة السُّنة أنهم رأَوُا الله في المنام، يرَون الله على هيئة نورٍ يُكلِّمهم ويُخاطبهم، وممن رأى اللهَ الإمامُ أحمد قال: "رأيتُ ربِّي في المنام، فقلت: يا رب! ما أفضلُ ما تَقرَّب العبادُ به إليك؟ فقال: كلامي يا أحمدُ. فقلت: يا ربِّ! بفهمٍ، أو بغير فهم؟ قال: بفهم وبغير فَهم". ورؤية الله في هذه المقامات تكون تثبيتًا من الرُّؤى الصالحة: أ- لا يجوز أن يُعتقد أن الله في ذاته، وفي صفاته، وفي أسمائه كما رآه الرائي في منامه. ب- لأن المنام ضربُ مثل، ينعكس بانعكاس اعتقاده، وما قام في قلبه. ج- أن رؤية كل إنسانٍ هي بحسب عقيدته في الله، وأسمائه وصفاته. 6- المقام السادس: رؤية النبيِّ ربَّه في ليلة المعراج، وهل رأى ربه، أم لم يره؟ الصحيح أنه لم يرَ ربَّه بعينَيْ رأسه، وإنما رأى النبي ربه بقلبِه؛ كما دل عليه حديثُ معاذٍ عند أهل السنن؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَا يَخْتَلِفُ الْمَلأُ الأَعْلَى؟ فَقُلْتُ: لا أَعْلَمُ. فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ عَلَى ظَهْرِي، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ فِي صَدْرِي، فَقُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ وَالدَّرَجَاتِ))[4]؛ فهذه رؤيا قلبية وليست رؤية بصرية. ولما سأل أبو ذر رضي الله عنه - والحديث في الصحيح - قال: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: ((نُورٌ، أَنَّى أَرَاهُ؟!)). وفي رواية قال: ((رَأَيْتُ نُورًا))[5]، وهو نور الحجاب، ولما سأل مسروق عائشة رضي الله عنها فقال: يَا أُمَّاهُ، أَرَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟ قَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ - أي: إنه أصابتني القُشَعْريرةُ - مَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ))[6]، وهذه المسألة من المسائل التفصيلية المتعلقة بالعقيدة، والتي وقع فيها خلاف سائغٌ بين العلماء؛ بِناءً على فقههم، وما بلغَهم من الأدلة؛ ومثلها أيضًا مسألة الفرق بين النبيِّ والرسول، والمقام المحمود، ولا يجوز أن تُتَّخَذ ذريعة للشِّقاق والنزاع بين أهل السنة والجماعة، كما لا يجوز أن تُتَّخذ شبهة لدعوى خلاف أهل السنة في مسائل العقيدة؛ لما سبق التنويه عليه. سبب عدم رؤية الله عز وجل: والسبب في أننا لا نطيق أن نرى الله في الدنيا بأبصارنا هو عَجزُنا وضَعفُنا، لا خَفاءُ ربِّنا جلَّ جلالُه؛ بدليل أن الله تجلَّى للجبل الأصَمِّ الصُّلبِ الأشَمِّ، الذي لا ثوابَ له ولا عِقاب، فلما تجلى الله له ما أطاق الجبلُ هذا التجلِّيَ، فاندكَّ وتهدهد، وغدا ترابًا، ولهذا غُشِي على موسى، ولو كان غير موسى لطار قلبه من جسده، فدل على أنَّ الناس والمؤمنين خاصة، وخُلَّص المؤمنين من أنبياء الله ورسله لم يرَوُا الله في الدنيا؛ لعجزنا وضعفنا، لا لخفاء ربِّنا علينا، ولهذا يوم القيامة يُكَمِّلُ الله ضعفنا وقُوانا فنُطيق النظر إليه، بل ويتلذَّذ المؤمنون بالنظر إلى وجه سبحانه وتعالى، وفي الحديث: ((تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ)). وهذا في صحيح مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه. تشبيه رؤية المؤمنين لله برؤية الشمس والقمر في الدنيا: جاء في حديث أبي سعيد، وجرير بن عبد الله البجلي، وأبي هريرة - وكلها في الصحيحين - تشبيه رؤيتنا لله برؤية الشمس والقمر[7]، فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، أي: لفعلنا لرؤيتنا ربنا برؤية الشمس ليس دونها سحاب، والقمر ليس دونه حجاب. ووجه تشبيه رؤيتنا لله برؤية الشمس والقمر عدة أوجُه: 1- الأول: أن الشمس والقمر يُرَيان من العلو، وربُّنا سبحانه وتعالى سيُرى وهو في عُلوِّه. 2- الثاني: أن الشمس والقمر كلٌّ منهما واحد، والرَّاؤون له كثيرون، لا يُضامون؛ فلا يُصيبهم ضَيم، ولا يُضارون؛ فلا يصيبهم ضرر في رؤيتهما، والله واحد، وسيَراه كلُّ أهل الجنة، من غير أن يُصيبهم ضيمٌ ولا ضرر، ولله المثل الأعلى؛ فلو أنه جاء موكبُ مَلِك، أو عالم، أو شريف فإن الذين يرَونه بوضوح الذين أمامه، وأما الذين في الخلف فإنهم يتَناطعون برِقابهم حتى لعلَّهم يرَون، أو لا يرون ويُصيبهم ضيم، أما الله تعالى فإنه سيُرى رؤيةً واضحة: ((سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ لا تُضَامُّونَ))[8]؛ أي: ليس يصيبكم ضيم، أو مضامة، أو مزاحمة في الرؤية. 3- الوجه الثالث: الشمس والقمر يُريان بوضوح لا خَفاء فيه، بشمسٍ ليس دونها حجاب، وببدرٍ ليس دونه سحاب، وربُّنا كذلك سيُرى بوضوح. 4- الوجه الرابع: أنَّ رؤيتنا للشمس والقمر رؤيةُ مُقابَلة، بلا إحاطةٍ ولا إدراك، وكذلك رؤية المؤمنين لله تعالى بلا إحاطةٍ ولا إدراك، وفرقٌ بين الرؤية والإدراك؛ فإن الإدراك هو الإحاطة بالمرئيِّ من جميع الجها،. أما الرؤية فلا، وقد قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 61، 62]، وقوله: ﴿ كَلَّا ﴾ ليست نفيًا للرؤية، بل هي نفي للإدراك، أما الرؤية فقد أثبَت الله تعالى أنَّ كل جمعٍ رأى الآخَر، فرأى فرعونُ وملؤه موسى وقومَه، ورأى موسى وقومُه فرعونَ وملأَه، فلما تراءى الجمعان: (جمع موسى مع جمع فرعون) قال أصحاب موسى: إنا لمدرَكون؛ أي: الآن يُحيطون بنا، الآن يُدرِكوننا. قال: كلا. والنفي للإدراكِ لا للرؤية، فدل على أن الإدراكَ قدرٌ زائد على الرؤية. وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الْحَقِّ: هذا الباب (باب الأسماء والصفات) في القرآن كثير، لكن يَحتاج إلى مَن يتدبَّر القرآن، ويتأمل فيه، ويستبصر، ويقرؤه قراءةَ المعتَنِي المتأمِّل المتفكر، بشرط أن يكون طالبًا للحق - لا للشُّبَه ولا لِمَا يُخالِفُ مذهبه - والهدى، عندئذٍ يتبيَّن له طريق الحق، وهذا فيه أصلٌ عظيم: أنَّ مَن قرأ النصَّ أو الدليل؛ يطلب منه الهدى، يُوفَّق للهدى، أما من طلب الدليل ليوافق مذهبه، أو ليوافق أصلَه فهو هنا ما طلب الدليل، وإنما طلب ما يَنصُر قوله، وهذا التعصب، وهذا لا يُوَفَّق للهدى، وإن وُفِّق للحقِّ أحيانًا لكنه بهذا المنهج لا يُوفق للهدى. والمؤلف بهذا يَعتذر عن أنه لم يُحط بجميع الأدلة الدالة على الصفات، وإنما أتى بهذا على جهة التمثيل، وأحال بالبقية إلى كتاب الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول - في حديث هو الأصل في الحوالة، ولم يأتِ في الحوالة في الصحيحين -: ((وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ))[9]، قد أحال على مَليءٍ على كلام الله تعالى، فلا بد أن نَقبَل هذه الحوالة. [1] رواه مسلم (181)، عن صهيب رضي الله عنه. [2] رواه البخاري (4581)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. [3] رواه البخاري (4581)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. [4] رواه أحمد والترمذي (3235)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وصححه الألباني. [5] رواه مسلم (178). [6] رواه البخاري (4855)، ومسلم (177)، وغيرهما. [7] رواه البخاري (7437، 7439، 554، 573)، ومسلم (182، 183، 633). [8] رواه البخاري (7437، 7439، 554، 573)، ومسلم (182، 183، 633). [9] رواه أحمد في المسند (2/ 463)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (18) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل الأصل الثاني: السُّنة "فَصْلٌ / فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنَهُ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِهِ رَبَّهُ عز وجل مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقُبُولِ وَجَبَ الإِيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ". لَما ذكر المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعضَ الشواهد والدلائل من الأصل الأول - وهو القرآن - على ما وصَف الله به نفسَه، وسمَّى به نفسَه، يَذكر لنا رحمه الله في هذا الفصل بعضَ الشواهد والأدلة من السنة الصحيحة؛ وذلك أن مصادرَ تلقِّي العقيدةِ الأصليةَ ثلاثة: 1- الكتاب. 2- والسنة الصحيحة. 3- والإجماع. وسيَأتي قولُ الشيخ: والأصل الثالث الإجماع. والإجماع الذي يَنضبط: ما كان عليه الصحابة والتَّابعون وتابِعوهم؛ إذ بَعدَهم كَثُر الخلاف وانتشرَت الأمة. وهذه المصادر الثلاثةُ هي المصادر الأصلية في تلقي العقيدة، وثَمة مصادرُ لكنها غير أصلية، بل مُسانِدة؛ كالفِطرة؛ فإن الفطرة أصلٌ في التوحيد، وكدلالة العقل فإنها مُؤَيَّدَةٌ في الكتاب والسنة؛ على أن العقل والفطرة لا يَستقلاَّن بمعرفة تفاصيل أمور العقيدة، قد يُعرِّفانها إجمالاً، أما بالتفاصيل وما جاءت به الأخبارُ فإن العقول والفِطَر لا تستقلُّ بذلك. مكانة العقل في العقيدة: وأهل السنة في مسألة العقل بين طرفين: 1- الطَّرَف الأول: طرف أهل التعطيل من الفلاسفة، والجهمية، والمعتزلة، والمتكلِّمين الذين غَلوا في هذا العقل، فأنزَلوه أعلى مِن منزلته التي يجب أن يكون عليها. 2- والطرَف الثاني: الصوفية، والمشبِّهة الذين عطَّلوا عقولهم، وألغَوها. أما هذه الشريعة فجاءت للعقل بدوره، وفي مجاله اللائق به. فَصْلٌ: ومعنى الفَصل أنه سيَنتقل من موضوع إلى موضوع آخَر فصَلَه بهذا الفاصل، وهذا من تطوُّر التأليف؛ فإن المؤلفين الأوائل ما كانوا يُعنَون بالأبواب ولا بالفصول؛ يُسمِّي بالله ثم يَنثُر ما عنده، فلما تطور التأليف احْتِيجَ إلى الكتب والأبواب والفصول، سواء في المطوَّلات، أو المتوسطات، أو المختصَرات، عند المعاصِرين يرتِّبونه: الفصل الأول فيه كذا، والفصل الثاني فيه كذا... وهكذا، فجاء فيه نوعُ ترتيبٍ يتناسب مع اهتمام الناس، ومع عَنْصَرَتِهم التي تُسمَّى: (العنصرة المدرسية). حسب ما يدرسونها. فَصْلٌ: فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: في بعض النسخ: فَصْلٌ: ثُمَّ سُنة رسول الله. فعطَف السُّنة، ورتَّبها على الكتاب، وهذا أولى؛ لأنه ذكَر في أصل أهل السنة أنَّهم لا يَصِفون الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفَه به رسوله صلى الله عليه وسلَّم مِن غير تحريف ولا تكييف، ومن غير تمثيل ولا تعطيل. معنى السنة وإطلاقاتها: السُّنة في اللغة: الطريقة. سُنَّة مَن قبلكم، أي: طريقتُهم. والسُّنة لها عند أهل العلم إطلاقات: 1- فالفقهاء يُطلقون السُّنة ويريدون بها المستحَب، وهو ما أُثِيب فاعله ولم يُعاقب تاركه. 2- والأصوليُّون يطلقون السنَّة يريدون بها المصدر الثانيَ من مصادر التشريع[1]. 3- والسنة عند علماء العقيدة تُطلق في مقابل البدعة، فالسنَّة والبدعة قَسيمان، أحدهما قَسيمُ الآخر. 4- والسنة عند المحدِّثين: ما أضيفَ إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم مِن قول، أو فعل، أو تقرير، أو وصف خَلْقِي، أو خُلُقِي. والمراد بالسنة العقيدةُ والشريعة جميعًا؛ ولهذا إذا نظرت في كتب السنن التي ألَّفَها أهلُ السُّنة نجد أنهم يُدخِلون مع العَقيدة أركانَ الإسلام: الشهادتين، الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد. والكتب المسمَّاة (شرح السُّنة) يُدخلون أولها العقيدة، ثم يُتبعونها بأركان الإسلام. مكانة السنة في الإسلام: والسُّنة هي المصدر الثَّاني الذي تُستَقى منه العقيدة، وتُستقى منه هذه الجملة فيما يتعلَّق بأسماء الله وصفاته، فأبان بعدَ هذا عن مِقدار السنة، ومنزلتها، وأهميتها، وتأكُّدِها؛ جمَعَها في أربع كلمات - هي أجمعُ ما رأيتُ مِن كلام أهل العلم وأخصَرُه في بيان أهمية هذه السنَّة - فقال: فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ: ولو تأمَّلنا هذه الكلمات: "فالسنة تفسر القرآن" بمعنى أن ما جاء مجمَلاً في القرآن فسَّرَته السنة، وهذا كثير؛ إن كان في العقائد، أو في العبادات: ومن الأمثلة في العقائد أن أصول الإيمان ستة، لكنها جاءت في القرآن مجملة خمسةً في آيتَيِ البقرة والنساء؛ ففي سورة البقرة قال: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة: 177]، وفي آية النساء قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136]، فجاءَت الأصول في القرآن خمسة، والسنَّةُ فسَّرَتها - كما في حديث جبريل عليه السلامُ - قال: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))[2]. ومن الأمثلة في الشريعة قوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، وصُوَر البيع المحرَّمة، وصور الرِّبى المحرمة لم يأتِ في القرآن تفصيلُها، بل السُّنة فسرتها. بيان السنَّة للقرآن: وَتُبَيِّنَهُ: التَّبيين يشمل تخصيص العامِّ، أو إطلاقَ المقيَّد، أو تقييدَ المطلَقِ أو البيان، ونَسْخ المنسوخ... فجاءت الأحكامُ في القرآن مجمَلة، وبيَّنَتها السنة على التفصيل، إلا أبوابًا يَسيرة من أبواب العلم جاءت في القرآن مفسَّرة، وجاءت فيها السنة زيادةَ بيان. ومن ذلك: المواريث، والفرائض؛ فإنها جُمِعَت أصولُها في القرآن في آيات سورة النساء في أوَّلها، وفي آخرها، والسُّنة جاءت بزيادةِ بيان، لكن البيان اسْتُقِلَّ به في القرآن. كذلك أحكام الطلاق فقد جاء في القرآن مفصلاً، وفي هذا من الْحِكَم عنايةُ القرآن بالمرأة في أحكامها؛ لأنَّ الطلاق يتعلَّق بها كما يتعلَّق بالرجل، ولو لاحَظْنا آياتِ الطلاق فيها حفظٌ لحقوق المرأة، وحقوق الميت؛ لأن الميت يُغفَل عنه؛ فالمواريث - وهي نصف العلم - لتعلُّقِها بالنصف الآخر وهم الأموات، جاء القرآن ببيانها وتفصيلِها. وَتَدُلُّ عَلَيْهِ: السُّنة دالَّة على القرآن؛ لأنه لا غِنى للقرآن عن السنة، ولا للسنة عن القرآن، والعلماء ذكَروا في الأصول أن السنة تُخصِّص عامَّ القرآن وتنسخه، فالسنة قد تنسخ أحكامًا في القرآن، كما أن القرآن قد ينسخ أحكامًا في السنة وهو نادر، وأشهر أمثلته عند العلماء نسخُ آية الممتحنة لما جاء في صلح الحديبية، من ردِّ الرجال فقط دون ردِّ النساء المسلِمات المهاجرات، وإنما يرد عليهم المهر الذي دفعوه لهن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 10]؛ وذلك لأنهما من مشكاة واحدة، فكلاهما من الله، واختَلفا بأن القرآن لفظُه ومَعناه من الله، والسنة لفظها من الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناها من الله، والسنة تَدلُّنا على وجوب الرجوع إلى القرآن: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي))[3]. وَتُعَبِّرُ عَنْهُ: أي: إن ما جاء في القرآن مأمورًا به، أو منهيًّا عنه فإن السنة تعبر عنه، وتؤكد هذا الأمر، وتفصِّله، وتبينه. ومراد الشيخ من هذا أن السنة والكتاب شأنُهما واحد، لكن لاِحْظ كيف قُيِّدَت السنة بالسنة الصحيحة، وهذا القيد مُعتبَر؛ لا سيما في أمور العقيدة؛ لأن العقائد - وهي ما ينعقد عليه القلب - لا ينبني على الأخبار الواهية والضِّعاف؛ ولهذا فإن أخبار بني إسرائيل لا يَنبَني عليها اعتبارٌ في العقيدة حتى يدلَّ عليها أصلٌ صحيح. وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِهِ رَبَّهُ عز وجل: الله وصَف وسمَّى نفسه - وقد مرَّ ذلك - والوصفُ يُطلَق على الاسم والوصف جميعًا، والرسول وصَف وسمَّى اللهَ، فسمَّاه في قوله لعائشةَ لَمَّا سألَته ما تقول إن وافقَتْ ليلة القدر؟ فقال: ((قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي))[4]، فأخبَر أن الله عَفوٌّ، ووصف الله لما قال: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ))[5]، وكما سيأتي في الأحاديث الآتية، وهي ستَّة عشر حديثًا ساقها لنا رحمه الله على جهة الانتخاب، وإلا فإنه سيُحيلُنا كما أحالنا في أدلة القرآن. مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ: يُشترط في هذه السنة أن تكون صحيحة، وهذا يُخرِج السُّنة الضعيفةَ، أو الواهيةَ، أو المكذوبةَ الموضوعةَ على جَنابه صلى الله عليه وسلم، مع عِظَمِ شأن الكذب على جنابه: ((إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))[6]، ومن اللطائف أن هذا الحديث بلَغ عند أهل العلم مبلغَ التواتر، بل قالوا: إنه أكثرُ الأحاديث المتواترةِ وُرودًا. الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ: وهذه الأحاديث الصِّحاح شأنها أنه تلقَّاها أهلُ المعرفة - وهم أهل الشأن أهلُ الصناعة الحديثيَّة في الرواية والدِّراية - بالرِّضا والقَبول، أي: إنهم قَبِلوا ورَضوا أن يَنسبوها إلى مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ويَعُدُّوها من ألفاظه، وأقواله، وأفعاله، وتقريراته. وَجَبَ الإِيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ: كما جاءت عن رسول الله لا نُحرِّفها، ولا نُكَيِّفُها، ولا نعطِّلها، ولا نمثِّلها؛ كما مضى في الأصل الأول أصل القرآن، والإيمان بها هو الواجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدَّث بهذه الأحاديث لم يخصَّ بها أقوامًا دون غيرهم، ولم يأمرنا، ولم يحثَّنا، ولم يوجب أن نَحملها على غير ظاهرها، ولم يقل: إنَّ لها تأويلاً ومعنًى يخالف معناها المتبادر. وإنما ألقى هذه الأحاديث، والأخبار الصحيحة، فسمعها منه وحملها عنه العالِمُ وغير العالِم، الجاهلُ والمتعلِّمُ، والحضري والبدوي، والإنس والجن، بل المؤمن والكافر؛ كما في حديث أبي مسعود: لَمَّا جَاءَ الْحَبْرُ مِنَ الأَحْبَارِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَاضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. فَضَحِكَ النَّبِيُّ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ [الزمر: 67]؛ أخرجه في الصحيحين[7]؛ فهذا الحديث ألقاه حتَّى على الكافر؛ ما قال: لا، نَسكت عنه حتى نُعَلِّم به المؤمنين بعضهم مع بعض. وهذا - وهو الإقرارُ بها والإيمان بها كما جاءت كذلك - يَنسِف أصولَ أهل التعطيل كلَّها، الذين حرَّفوا وأوَّلوا، وكَيَّفوا، وأهل التشبيه والتمثيل كلها الذين مثلوا وعطلوا. إثبات صفة النزول لله عز وجل: والشيخ رحمه الله ساق لنا أحاديث، واشترط أن تكون أحاديثَ مقبولة محلاًّ للاحتجاج؛ لأنه قال: تلقَّاها أهلُ الحديث بالقَبول؛ أي: إنها أحاديثُ مُحْتَجٌّ بها، وهو ما أراد الاستِطْراد والاستيعاب، وإنما قال: مِثْلُ: أتى بها على جهة التمثيل. ومن هذه الأحاديث الحديث المخرَّج في الصحيحين، المروي عن أبي هريرة، وعن أنس، وعن جابر، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم وها هو يسوق الحديث: قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟))[8]: هذا الحديث اشتمل على عدة صفات: 1- أولها: علوُّ الله تعالى؛ لأن النزول من العلو، ولو كان الله في كل مكان - كما تقوله الجهمية والأشاعرة - لَمَا كان لهذه الصِّفة مَعنًى، ولذَهب معناها بالكلية، ولهذا فإنَّ هذا الحديث من أعظم القواصم على قلوبهم. 2- الصفة الثانية: إثبات النزول لله تعالى؛ فكما أن علوَّ الله علوٌّ يَليق به، لا نَعرف كيفيته، فكذلك نزوله نزولٌ يَليق بعظَمتِه وجلاله، لا نعرف كيفيَّته، ولهذا إذا كنَّا لا نعرف كيفية النزول فلا يجوز أن نتطرَّق إلى التحكُّم في هذه الصفة بأهوائنا، ومَدارِك عقولنا القاصرة الضيِّقة، التي يتَلاعب بها الشيطان، ونزوله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا يليق بجلاله. وقد جاء النزول في غير الثلث الأخير من الليل: نزوله ودُنوُّه عشيَّةَ عرَفة؛ يُباهي بأهل عرفة ملائكتَه، ونزوله يوم القيامة للقضاء بين العباد، فهذا نزولٌ يليق بجلاله سبحانه. وهو في الثلث الأخير مِن الليل؛ أي: في آخر الليل؛ إشارة لشرف هذا الوقت فيحرص عليه المؤمن. مزية العبادة في جوف الليل: العبادة في جوف الليل أفضل؛ لمعنيين: معنًى نصِّي، ومعنى عقلي؛ المعنى النصي ما جاء في الحديث: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْقِيَامِ؟ فَقَالَ: ((أَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُ نَبِيِّ اللهِ دَاودَ؛ كَانَ يَنَامُ شَطْرَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ))[9] قيامه في ثُلث الليل يشمل الثلثَين الثانيَ والثالث، نصف الثلث الثاني مع النصف الأول من الثلث الثالث، فهذا وقتُ قيامه، وهو أفضلُ القيام، وهو مشتمل على وقت التَّنَزُّل الإلهي؛ قالوا: ولأن هذا الوقت وقت غفلة، والعبادة في الغفلات أفضل منها في غيرها، ولهذا حُثِثْنا على عبادة الله، والاشتغال بها وقت الفتن؛ لأن الفتنة غفلة، وجاء في فضلها ما رواه مسلمٌ في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الْعِبَادَةَ زَمَن الْفِتْنَةِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ))[10]. 3- الصفة الثالثة: أن الله يقول - والقول نوعٌ من الكلام -: ((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟))؛ إذًا فقد وعَد الداعيَ بالاستجابة، بشرط أن تجتمع الشروط وتنتفيَ الموانع، فلا يَدْعوَ بقلبٍ غافل، ولا يدعو بإثم، ولا بقطيعة رحم، ولا يدعو ومطعَمُه حرامٌ، ومكسَبُه حرام، وغُذِّي بالحرام. ((مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)): وعَد الله بالعطاء على كل سؤال، وعلى أي سؤال، ما لم يكن محرمًا، ووعد بالمغفرة لمن يستغفره، وهذا في حقوق العبد مع ربه، وكذلك حقوق العبد مع العباد، لكن يتوقف كَمالُ الاستغفار وكمال المغفرة على الاستباحة من هذا العبد الذي قد ظلمتَه. أسئلة مبتدَعة على مسألة النزول الإلهي: وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((حَتَّى يَطْلُعَ الصُّبْحُ))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الحديث صحيح، وأهل البدع أحدثوا أسئلة، فقالوا: هل يَخلو منه العرش إذا نزَل أو لا يخلو؟ وهذا سؤالٌ بِدْعي مُحدَث، كما أنهم أحدَثوا سؤالاً آخر - وهو شَهير الآن - وهو أن ثلث الليل يتَفاوت بتفاوُت البلدان شَرقِها وغربها؛ فما عندنا ليل عند غيرنا نهار، وما عندنا ثلث الليل عند غيرنا أول الليل، فكيف ينزل؟ وهذا السؤال أيضًا سؤالٌ مبتدَع. وكِلا السؤالين وما جاء في معناها ناشئٌ من تكييف العقول بنزوله سبحانه وتعالى؛ كيَّفَت العقولُ نزولَه سبحانه وتعالى فأحدثَت هذه الأسئلة، ولو أنَّها آمنَت بها كما جاءت؛ على المعنى اللائق بالله، المتبادرِ مِن هذا الكلام، غيرِ المشتمِل على نقصٍ - لَمَا كان حاجةٌ إلى مِثل هذا التطاول، ولا التكلُّف، ولا التنطع، وقد أهلك النبي المتنطِّعين؛ فقد روى مسلم في الصحيح: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ))[11] قالها ثلاثًا. مواقف المنحرفين من أدلة الصفات: المتكلِّمون والمعطِّلة مَذهبُهم مِن هذه النصوص وأمثالها مذهبان: الأول: يردُّونها؛ لأنها أخبارُ آحادٍ لا تَنبني عليها العقائد. وهذا أحَدُ طواغيتهم في ردِّ نُصوص النبي صلى الله عليه وسلم وأدلته الصحيحة، وقد نسَف ابنُ القيم هذا الأصلَ - بأن الأحاديث تُفيد الظنَّ ولا تفيد اليقينَ - في (الصواعق المرسلة)، في أكثر من مئتين وسبعين وجهًا ودليلاً. الثاني: يحرِّفونهذا النزولَ عن معناه بما يُسمونه تأويلاً. وهو في الحقيقة التأويل الفاسد، فيَقولون مثلاً: إنه يَنزِل ملَك. ويقولون: إنه تَنزل رحمةُ الله، أو أمرُ الله. وسبحان الله! ما أقبحَ هذا القولَ بمِثل قُبحِهم في مذهبِهم الفاسد في كلام الله أن الذي يتكلَّم مع الله مخلوق؟! إذًا الشجرة هي التي قالت: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾ [طه: 14]، وهنا الْمَلَكُ يقول: ((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟))! وهذا لا يليق أن يقوله الْمَلَكُ، وكفى بطلانًا بهذا القول أن يُنسب هذا القول إلى الْمَلَك. أما قولُهم: ينزل أمرُ الله، أو تنزل رحمته. فهذا باطل من جهتين: أنه تحريفٌ للكلم عن معناه؛ عن ظاهرِه وعن موضعه، وأن أمرَ اللهِ وملائكتَه ورحمَتَه تَنزل في كل وقت. فليس هنا مَعنًى مِن أن تُخصَّص في الثلث الأخير من الليل، لكن هذه جنايةُ التأويل الفاسد على أدلة الشرع الحنيف. [1] لأن مصادر التشريع المتفق عليها أربعة: الكتاب العزيز، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس. وذِكْرُ المصدر الثاني هذا عددًا لا ترتيبًا؛ أي: لا يُرتب السنة على القرآن، بل كلها في مرتبة واحدة من حيث التشريع، لكن من حيث العدد المصادر أربعة، على أنه يُختلف في السنة عند الأصوليين السنة عموماً حتى الضعيف يُستأنس بها في الأحكام فقد يُستدل على بعض الأحكام، كما هو في أصول الإمام أحمد أن الحديث الضعيف أحب إليه من آراء الرجال؛ لأن الحديث الضعيف فيه نسبة يسيرة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله، لكن في العقيدة لا؛ لا بد أن تكون الصحيحة صحيحة. [2] رواه مسلم (1، 8)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. [3] رواه مسلم (61). [4] تقدم تخريجه. [5] رواه مسلم (153)، من حديث أبي هريرة. [6] رواه البخاري (1291)، ومسلم (177)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. [7] رواه البخاري (4811)، ومسلم (2786)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. [8] رواه البخاري (7494)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [9] رواه البخاري (2/ 63)، ومسلم (3/ 165) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. [10] رواه مسلم في كتاب الفتن (2631)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. [11] رواه مسلم (2670)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (19) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَقَوْلِهِ: ((لَلَّهُ أَشَدُ فَرَحًا بَتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ))... الْحَدِيثَ؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[1]. وهذا حديث قوي، جاء في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم، من رواية عدة من الصحابة، فيقول: ((لَلَّهُ أَشَدُ فَرَحًا بَتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ فِي فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَطَلَبَهَا، فَلَمْ يَجِدْهَا، فَأَيْقَنَ عَلَى الْمَوْتِ، فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ، فَغَفَتْ عَيْنَاهُ، فَانْتَبَهَ وَإِذَا خِطَامُهَا يَتَدَلَّى بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ - أي: إن عليها أسباب نجاتِه، وبذَهابها يكون سبب هلاكه - فَأَخَذَهَا مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ! أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ))[2]. وفرح الله بتوبة عبده أشدُّ مِن هذا براحِلَتِه والحالةُ هذه، وهذه فيها إثباتُ أن الله يفرح، وصفة الفرح صفةٌ لائقة بالله تعالى، دلَّت عليها الأدلة الصحيحة، ولكن لا بُد أن يُعرف أنَّ فرحة العبد من حاجةٍ إلى ما يَفرح به؛ فالإنسان يَفرح بحبيبه، وبالقادم، وبمن يُعزُّه؛ لحاجته إليه، فيفرح بولده إذا جاء، وبأهله إذا قدم عليهم من حاجته إليهم، أما فرح الله بتوبة العبد مِن غير حاجة الله إلى عبده، وبها يَزول معنى التشبيه والتمثيل الذي قد يتَبادر إلى بعض القلوب المريضة، أو الفاسدة. ففرَحُ الله يليق بجلاله لا كفرَحِ المخلوق، ففرَحُ المخلوق من حاجته إلى المفروح به، وليس فرح الله مِن حاجة كما في الحديث القدسي: ((يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا))[3]؛ ففيها إثبات أن الله يفرح، وفرحه يليق بجلاله وعظمته، لا نعلم كيفيته. إثبات الصفات الكاملة لله بنفي ضدها: وضد الفرح الحزن، وضد الضَّحِك البكاء، ونَنفي عن الله الضدَّ إذا كان هذا الضدُّ يُنافي الكمال؛ فإنَّ الضدَّين إذا وُجِدَ أحدهما انتفَى الآخَر، والمؤوِّلة (أهل التعطيل مِن الجهمية، والمعتزلة، والمتكلمين) نفَوْا عن الله الضَّحك، ولهم فيها مسلكان: 1- الأول: إما أن يُفسِّرونها بصفة أخرى؛ بأنَّ الفرح إرادةُ الثواب أو إرادةُ الإكرام، ففَسَّروها بالإرادة. 2- والثاني: يؤوِّلونها إلى فِعلٍ مِن أفعال الله، وخَلْقٍ مِن خلقه بأنَّ فرَح الله هو إثابتُه لعبده؛ أي: إنه سبحانه وتعالى يُثيبه، وهذا تفسيرٌ للصِّفة بلازمٍ مِن لوازمها، نعَم؛ فإن مِن آثار فرَحِ الله أنه يُكرِم عبدَه ولكن ليس معنى الفرح هو إكرام وإثابة العبد، وإنما هذا من آثار ولَوازم هذه الصفة. إثبات الضحك لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. هذا الحديث له قصَّة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ساقه قال: ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ))، فَقَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْمَقْتُولُ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟! قَالَ: يُقْتَلُ الْمَقْتُولُ مُؤْمِنًا، فَيَكُونُ شَهِيدًا، وَيَقْتُلُهُ الْكَافِرُ، ثمَّ يَمُنُّ اللهُ عَلَى الْكَافِرِ بالإِيمَانِ وَالإِسْلامِ، ثُمَّ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ))[4]. وضحكه تعالى لأنَّه عَلِم مآلَ هذا وهذا، وهذا الذي خَفِي على العباد، فالله يَضحك ضحكًا يَليق بجلاله، كما أنَّه يَرضى ويَغضب كما يَليق بعَظمتِه. وفي حديثٍ عند أحمدَ وغيره بإسنادٍ جيد، من حديث وَكيعِ بنِ عُدُسٍ، عن أبي رَزينٍ العُقيليِّ أن النبيَّ قال: ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ))[5] والقنوط: هو شدة اليأس؛ ولهذا جاء في الحديث: ((ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ؛ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أَزِلِينَ قَنِطِينَ)). وجاء في لفظ عند أحمد: ((وَقُرْبِ غيثِهِ)). فقال أبو رَزينٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ يَضْحَكُ رَبُّنَا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((نَعَمْ)). ما قال: لا. فهل لهذا تأويل؟! وهل له معنى آخر – هو: أنه يُثيبهم - في مَقامٍ يجب فيه البيان؟! وتأخير البيان عن وقت الحاجة كما يَقول الأصوليُّون - وهذا مِن دواخل علم الكلام عليهم -: "إنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم". وهذه العبارة غيرُ لائقةٍ مع رسول الله، وإن كان معناها ومُؤدَّاها صحيحًا، لكن ليس فيها أدب، والعبارة المؤدَّبة اللائقة بهذا المقام أن نقول: إنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يُتصوَّر في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا أشد ما يكون الحاجة إلى البيَان؛ لأن السائل سأله فقال: أوَيضحَك ربُّنا؟ سؤالَ مُستفهِمٍ، وقد يكون فيه تعجُّب، وقد يكون فيه نوعُ إنكار، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((نَعَمْ))، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: إِذًا لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا. فَهِم الصفة على ما يَليق بالله تعالى، ولم يُمَثِّل، فإذا كان الله يَضحك إذًا فالخير عنده سبحانه وتعالى وبوجهه؛ لأن وجهَ الذي يَضحَك غيرُ وجهِ الذي لا يضحك. ففيه إثبات أن الله تعالى يضحك ضحكًا يليق بجلاله، ولا تؤول الضحك كما تؤول الفرح؛ بأنه إرادة الثواب، أو بأنها الإثابة والإكرام، وفيها إثبات العلم لله تعالى، وهذا بدلالة التضمُّن؛ لأن ضحكه ناشئٌ عما سبَق به عِلمُه. إثبات صفة العجب لله تعالى: وَقَوْلِهِ: ((عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ)): القُنوط هو شدَّة اليأس، وعندنا أمران: اليأس، والقنوط. وأشدُّهما اليأس والقنوط مِن رحمة الله، واليأس من فرَج الله، كِلاهما من كبائر الذنوب؛ في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ))[6]. قوله: ((عجب ربنا)) هذا فيه إثبات صفة العجب، والعجب فيها من معاني الضحك، فبَينها وبَيْن الضحك عمومٌ وخصوص. ((وقُرب غِيَرِه)): أي: تغييرِ حال عباده مِن حالٍ إلى أحسنَ منها. وجاء في لفظ: ((وَقُرْبِ غَيْثِهِ))؛ لأنَّ الغيث رحمةُ الله التي يزول معها أسبابُ قُنوطهم من رحمة الله. ((وقُرب غيره))؛ أي: قُرْبُ تغيير حالهم الذي بلغوا معهم شدة اليأس. بلغ معهم في قلوبهم القنوط، واستبعاد الرحمة والفرج أنَّ تغيير حالهم أنه قريب. ((يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلين قَنِطين، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ، يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)): ينظر إليكم أَزِلين؛ أي: واقعين في الشدة. قَنِطين: حالكم حال القانط، أو بعضكم، فيظل يضحك، فجاء إثبات صفة الضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب - وفيه إثبات صفة العلم - وهم مع ذلك عندهم هذه العجَلة. حَدِيثٌ حَسَنٌ. حكَم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه حديث حسن، وهو حديثٌ رَواه عُبادةُ بن الصَّامت، ورواه أبو داود، وبعضُ أهل السنن، والإمامُ أحمد، وبالمناسبة فإن شيخَ الإسلام محدِّث كبير، وحافظ، وناقدٌ للمتون والأسانيد، لا يُشق له غبار. إثبات صفة القدم لله عز وجل: وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟)): هذا الحديث جاء من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟)). إلى أن يُستنفَد الإنس والجنُّ والحجارة، ومن يستحق دخولَ النار، وهي لم تَشبَع مع كثرة من يَدخلها ومَن يَلِجُها؛ إما خلودًا، أو دخولاً على حسب ذنبه، وهي تقول: هل من زيد؟ ((حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ)). وفي رواية: ((عَلَيْهَا قَدَمَهُ)): وفي رواية في الصحيحين: ((حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ)). ((فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وفي رواية: ((قَدْنِي قَدْنِي))؛ أي: يكفيني، يكفينِي. وفي هذا الحديث إثبات الرِّجل، وهي القدَم - وكلاهما بمعنًى - لله تعالى، فالقدم معناها الرجل؛ لأن الروايات يُفسر بعضها بعضًا، ومن منهج السلف الصالح في تَلقِّي العقيدة والاستدلال عليها أن النصوص والأدلة يُبين بعضها بعضًا، ويفسِّر بعضها بعضًا؛ ففيها إثبات هذه الصفة الذاتية من صفات الله، وأنها صفة لائقة بالله، كما ثبت أن لله تعالى ساقًا في حديث أبي سعيد - في الصحيحين - وفيه: ((فَيَكْشِفُ الرَّحْمَنُ عَنْ سَاقِهِ وَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا، إِلاَّ الْمُنَافِقُونَ))، وقولِه تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ [القلم: 42، 43]؛ بدلالتها على الصفة محل احتمال، وهو أحد القولين للسَّلف، فجاء تفسيرُها عن ابن عباس أنه يوم القيامة؛ لشدته وكربته؛ كما يُقال: كشَفَت الحربُ عن ساقها؛ أي: عن شدتها. وهذا من تفسير التنَوُّع، وجاء فيها أن الله يَكشِف ساقَه الحقيقيَّة اللائقةَ بجلاله سبحانه وكمالِه، التي لا تُشبه سِيقانَ المخلوقين، ولا صفاتِ المخلوقين، كما أنَّ له قَدمًا لا تُشبه أقدامَ وأرجُلَ المخلوقين، وإنما هي ساقٌ عظيمة بعظمة الله، وقدمٌ لائقة بعِظَمِ الله. ولهذا فجهنَّم التي لا تَشبع يكون مِن آثار ذلك أنه ينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قطني قطني. ولهذا يُفسر حديثُ أبي سعيدٍ ما في القرآن، والسياقُ يَدل عليه: ﴿ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ [القلم: 43]؛ لأنهم قَبلَ ذلك ما كانوا يَسجُدون حالَ السلامة، أما الآن فلا يُمكِنهم السجود؛ لأنهم لم يَسجُدوا من قبل، أو سجَدوا ظاهرًا لا باطنًا؛ خوفًا مِن الناس، ورياءً لهم، لا طَلبًا لثواب الله، ففيها إثباتُ هذه الصفة الذاتية من صفات الله. تنبيه: ومهما تخيَّل صفاتِه سبحانه، أو ذاتَه المقدسةَ المتخيلون، أو توهَّم المتوهمون، أو شبَّهه الممثِّلون، أو عطَّل المعطلون - فالله عز وجل في ذاته، وصفاته، أفعاله فوق ذلك، فلِمَ؟ لأنَّه ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ولأنهم ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]. المنحرِفون في صفة القدَم: أمَّا المعطِّلة - من الفلاسفة، والجهمية، والباطنية، والمعتزلة - فيُنكِرون هذه الصفات أشدَّ النكير. أما الأشاعرة فقالوا: يضَع فيها رِجلَه، الرِّجْلُ هو الطائفة من الخلق ومن الناس، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي أيوب رضي الله عنه: ((كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ))؛ أي: طائفة من جراد. وهذا تحريف: لأن جهنم لم تشبع من الناس، ولا من الخلق، ولا من الحجارة؛ هذا أولاً. والثاني لأن الحديث فُسِّر: جاءت الرِّجل، وفسرته بأنه القدَم. والثالث أنه جاءت الروايات أنه يضَع قدَمه فيها، وفي رواية: عليها. تدل على أن هذه صفة، إذًا دل بما لا مجال فيه للردِّ ولا للهوى أن المراد بها الصفةُ اللائقة به تعالى. ثبوت القدمين لله عز وجل: قد يَسأل سائلٌ فيقول: هل يَصحُّ أن نُثبِت لله قدمَين؟ وقد راجعتُ هذه المسألة فوجدتُ فيها أثرَين صحيحَين عن صحابيَّين؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إِنَّ الْكُرْسِيَّ مَوْضِعُ قَدَمَيِ الرَّحْمَنِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ))[7] وهذا أثرٌ صحيح؛ أخرجه ابن خزيمة في التوحيد، وأخرجه البيهقيُّ في الأسماء والصفات، ورواه جملةٌ ممن ألَّفوا في السُّنة، والعلماء صحَّحوه إلى أبي موسى، وأبو موسى ممَّن لم يُعرَف بالأخذ عن بني إسرائيل، وليس هذا مِن قَبيل الرأي، فيكون معناه مما له حُكمُ الرَّفع، ويتعزز هذا ويتأيد بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا عليه أنه قال: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ قَدَمَيِ الرَّبِّ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَلا يَقْدُرُ قَدْرَ الْعَرْشِ إِلاَّ هُوَ. فإن هذا مع هذا يُضَاف لإثبات أنَّ لله قدمَين مع الأصل الذي جاء في الصحيحين: ((أَنَّ اللهَ عز وجل يَضَعُ رِجْلَهُ أَوْ قَدَمَهُ عَلَى جَهَنَّمَ أَوْ فِي جَهَنَّمَ، فَتَقُولُ: قَطٍ قَطٍ، أَوْ قَدْنِي قَدْنِي))[8]. قد يقول قائل: هل لله قدَمان؟ نقول: لم تأت النصوص إلا بما سمعنا، ومذهبنا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وآمَنَّا واعتقدنا. ولا نتدخل في هذا مُتهوِّكين بآرائنا. أما اليَدان فقد ثبَت أنهما ثنتان، أما القدم فنقف على ما سَمِعنا، وعلى ما آمنَّا؛ ولهذا - يا أيها السُّني - إذا عطَّل عليك المعطِّل على أيِّ مذاهب التعطيل كان، وأورد عليك مِثلَ ذلك فلا تُجِبه إلا بما تعلم من الأدلة، وما لا تعلم فقل: الله أعلم. وقولك: الله أعلم. لا يجعل لأحدٍ عليك مَدخلاً؛ لأننا لا نَعرِف مِن صفات الله إلا ما عَرَّفَنا به، وعَرَّفَنا به رسولُه صلى الله عليه وسلم. [1] رواه البخاري (11/ 102). [2] رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه. [3] رواه مسلم (2577)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. [4] رواه البخاري (2826)، ومسلم (1890)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [5] رواه أحمد (4/ 11)، وابن ماجه (281)، والبيهقي في الأسماء والصفات (987)، وحسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة. [6] المعجم للطبراني، ومصنف عبدالرزاق. [7] رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة (586)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (248)، والحاكم في المستدرك (2/ 282). [8] تقدم تخريجه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (20) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات صفة الكلام لله عز وجل وَقَوْلِهِ: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ))؛مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[1]. ففي هذين الحديثين إثبات صفة الكلام لله تعالى، وحديث أبي سعيد فسَّره حديث أبي هريرة، وكلاهما حديثان صحيحان ثبتا في الصحيحين. ((يَا آدَمُ)): هذا نداء يُنادي الله آدمَ على رؤوس الأشهاد. ((فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ)): وهذه فيها مقامات للأدب مع الله، ولهذا فالحُجَّاج يتأدَّبون بهذا، فينادون مُحرِمين في إحرامهم: لبَّيك اللهم لبَّيك. ((فَيُنَادِي بِصَوْتٍ)): والذي قال: إنه ينادي بصوت هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فليس قولَ أحدٍ مِن أهل العلم، وإنما هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظَمِ الناس وأعلَمِهم بالله، وما يجبُ له، ويجوز أو يمتنعُ عليه، فهو الذي أثبت أن الله يُنادي، وأثبت أنه يُنادي بصوت. إذًا فالله يتكلم، والكلام أنواع، ومنه النداء، وهو الكلام بصوت عالٍ، ولهذا قال: بصوت. فدل على أنَّ كلام الله بصوت، كما أنه بحَرف، وما قُلنا: إن كلام الله بصوتٍ ولا بحرف مِن جَرَّاء أنفسنا، ولا من استنباطات عقولنا، واجتهاداتنا، وإنما وقَفْنا فيها كما جاءت في الأدلة، وهذا الذي يجب الإيمان به. ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثَ ذُرِّيَّتِكَ إِلَى النَّارِ. قَالَ: مِنْ كَمْ يَا رَبِّ. قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُ مِئَةٍ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ)). إذًا من بني آدم مِن كل ألفٍ إلى النار واحدٌ إلى الجنة. فعَظُم ذلك على الصحابة جدًا، وقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ يَضْمَنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَاحِدَ؟! فجاءت البُشرى على لسان البشير صلى الله عليه وسلم لَمَّا قال: ((مِنْكُمْ وَاحِدٌ وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعُ مِئَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ))، فَكَبَّرَ الصَّحَابَةُ تَكْبِيرًا عَظِيمًا فَرَحًا بِهَذِهِ الْبُشْرَى. وهذا يدل على خصوصيَّةٍ لهذه الأمة أنهم أكثر أهل الجنة دخولاً، وأن أكْفاءهم وأعدالهم من التسع مئة وتسعةٍ وتسعين من يأجوج ومأجوج، فدل ذلك على كَثرتهم، وعلى كُفرهم؛ فإنَّ يأجوجَ ومأجوج قومٌ كُفَّار فُجَّار فُسَّاق، ولهذا هم أهل النار. والشاهد منه أنَّ الله يتكلم، وأن كلامه نداء. وجاء في حديث أبي هريرة: ((إِنَّ اللهَ يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتٍ، يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ))؛ أي: إنه لا يخفى، وهذا فيه أن كلام الله بصوت. ومَرَّ أن الله عز وجل نادى الأبوَيْن في الجنة: ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا ﴾ [الأعراف: 22]، وجاء أن الله يُنادي الكفار في النار: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65]، وثبَت النِّداء والنِّجاء لكليم الله موسى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [مريم: 52]. وَقَوْلِهِ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانَ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ وَرَاءَهُ فَإِذَا النَّارُ))[2]. في هذا دليلٌ على إثبات أن الله يتكلم كلامًا يَليق بجلاله؛ ردًّا على مَن قال: إن كلام الله مخلوق كما تقوله الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، والخوارج، أو كلام الله معنًى نفسيٌّ في ذاته؛ كما تقوله الكلابية، والأشاعرة والماتردية، وإن كان مذهبُ الماتردية أقربَ إلى مذهب الجهمية بأن كلام الله مخلوق. وممَّن كلَّمه الله تعالى كِفَاحًا مِن غير ترجمان في الدنيا: عبدالله بن حَرامٍ والدُ جابر رضي الله عنهما؛ كلَّمه الله فقال: ((تَمَنَّ عَلَيَّ يَا عَبْدِي))[3]؛ الحديث المشهور، وفيه أنزل الله تعالى قولَه: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ﴾ [آل عمران: 169]؛ ففيه إثباتُ أن الله يتكلم، وأنه مَن وقف بين يديه سيكلِّمه مِن غير ترجمان بمختلِف الألسنة، وليس الناس لسانهم واحد، والله يكلمهم جميعًا من غير ترجمان، فدل على أن كلامه لا ككلامنا، وأنه تعالى قد أحاط بكل شيء علمًا، وحكمة، وسمعًا، وبصرًا؛ فسبحانه لا إله إلا هو. إثبات صفة الرحمة لله عز وجل: وَقَوْلُهُ- فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ -: هذا حديث الرقية المشهور، وقد رواه أبو داود، وحسَّنه الشيخ، وصححه غيرُ واحد من العلماء، وممن صححه الحاكم في (المستدرك)، والذهبي في كتابه (العلو)، وقال: "إنه بإسناد صحيح"، وقد رواه أحمد، والطبراني، والبيهقي في (الأسماء والصفات)، ورواه غيرهم. ((رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)): في السماء؛ أي: في العلو. وإذا أُرِيدَ بالسماء المبنية - على السماء - فإنَّ (في) تكون بمعنى (على)؛ فيكون: على السماء المبنيَّة، وأما إذا كانت (في) على بابها فإن السماء هو العلو، إذًا ففيها إثبات علوِّ الله الذاتي على خلقه، كما أن له العلوَّ في القدر والمنزلة، وله العلو في القهر والغلبة. ((تَقَدَّسَ اسْمُكَ)): أثبت لله الاسم المقدَّس، المنزَّه من كل عيب، ونقص، وخلل. ((أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)): أمر الله الذي لا يمكن أن يغادره شيء أبدًا، وهو نوعان: 1- أمر كوني قدري. 2- وأمر شرعي ديني. ((كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ)): رحمة الله في السماء، ورحمة الله نوعان: صفته، وخلقه للرحمة. فصِفة الله الرحمة، التي من آثارها خلقه للرحمة، ورحمة الله المخلوقة منها الجنة، ومنها الرحمة التي يجعلها بين الخلائق يتراحمون بها. ((اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا)): الحوب، قالوا: إنه عظيم الذنب وعظيم الإثم؛ ولهذا يُطلق الْحَوْبَة في الذنوب بين العباد بعضهم مع بعض، وهذا موجود حتى في أسئلة الناس: هذه حوبة فلان على فلان؛ أي: أثر ذنبه عليه. والخطايا هي الخطايا دون الكبائر. ((أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ)): الله رب الطيبين، ورب غير الطيبين، ولكنه خصه بذلك؛ لأن المقام مقامُ توسُّل، ومقام استعطاف منه سبحانه وتعالى. ((أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَاءِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ فَيَبْرَأَ)).حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاودَ، وَغَيْرُهُ[4]. قوله: ((أنزل)) يسمِّيه الأصوليون واللغويون طلبًا، ونسميه نحن دعاء، ندعوك بأن تُنزِل رحمةً مِن رحمتك، وشفاء من شفائك، فدلَّ على علوِّ الله من وجهٍ آخَر؛ لأن الإنزال من أعلى إلى أسفل. القاعدة في الأوامر كالتالي: 1- الأمر من الأعلى إلى الأدنى يُسمى أمرًا، وطلبًا. 2- الأمر من الأدنى إلى الأعلى يُسمى دعاء. 3- الأمر من المساوي إلى مثله يُسمى استدعاء. إثبات العلو لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ((أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ؟!))؛حَدِيثٌ صَحِيحٌ[5]. هذا فيه إثبات علو الله تعالى على عرشه، والحديث له قصة، وذلك أنه: لَمَّا قَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمُ الْغَنَائِمَ فَقِيلَ لَهُ: اعْدِلْ. فَقَالَ: ((أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ)). فأثبت أن الله في السماء في العلو، وإذا كان المراد بالسماء المبنيَّة فيكون معنى (في): على السماء. وَقَوْلِهِ: ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، واللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ))؛حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاودَ، وَغَيْرُهُ[6]. أول الحديث: ((إِنَّ مَا بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عامٍ، وَفَوْقَ السَّمَاءِ بَحْرٌ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلاهُ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، واللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، لا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)). وهذا الحديث يُسمى عند العلماء حديث الأوعال، وقد حسَّنه شيخ الإسلام رحمه الله هاهنا، فقال: رواه أبو داود وغيره. ففيه إثبات صفتين: علوُّه، وهي صفة ذاتية، واستواؤه على عرشه. وفيه أن عرش الرحمن على الماء، وهو الماء الذي فوق السماوات السبع، كما أن عرش إبليس على الماء؛ أي: على بحر الدنيا. كما في حديث عبدالله بن الصياد لما قال النبي صلى الله عليه وسلم له: ((مَاذَا تَرَى؟)) قَالَ: يَأْتِينِي حَقٌّ وَبَاطِلٌ وَأَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ. قَالَ: ((ذَلِكَ عَرْشُ إِبْلِيسَ)). وَقَوْلِهِ لِلْجَارِيَةِ: ((أَيْنَ اللهُ؟)) قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَال: ((مَنْ أَنَا؟))قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: ((أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ))[7]. هذا حديثُ مُعاوية بنِ الحكَمِ السُّلميِّ رضي الله عنه: لَمَّا أَنْ كَانَتْ جَارِيَةٌ لَهُ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ جِهَةَ سَلْعٍ، فَعَدَى الذِّئْبُ عَلَى أَحَدِهَا، فَأَكَلَهَا، فَلَمَّا جَاءَتْ إِلَيْهِ وَغَنَمُهَا مَنْقُوصَةٌ صَكَّهَا صَكَّةً عَلَى وَجْهِهَ،ا ثُمَّ نَدِمَ، فَأَدْرَكَ مَعَ النَّبِيِّ الصَّلاةَ، فَلَمَّا صَلَّى عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ. فَرَمَقَهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقَالَ: وَاثَكْلَ أُمِّيَاه! فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، يَقُولُ مُعَاوِيَةُ: يُصَمِّتُونِي. حَتَّى إِذَا فَرَغَ النَّبِيُّ مِنْ صَلاتِهِ فَوَاللهِ مَا كَهَرَنِي، وَلا نَهَرَنِي، وَإِنَّمَا قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآن)). معاوية بن الحكم لما رأى هذا الانشِراح، وهذا السَّمت، وعدمَ التثريبِ عليه من النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر النبيَّ بخبَرِه، وأنه ندم على ضربه إياها، ويريد أن يُعتِقَها، قال: ((ائْتِنِي بِهَا))، فَلَمَّا جَاءَهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم: ((أَيْنَ اللهُ؟)) فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. وَأَشَارَتْ إِلَى الْعُلُوِّ، فَقَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ - فعرف أنها مميزة وحكم عليها من هذينِ الجوابين بأنها مؤمنة؛ لأن هذين الأمرين يتوقف عليهما الإيمان فيما يتعلق بالله عز وجل من جهة صفاته، وما يتعلق بالإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا مؤدَّى التوحيد؛ لأن (لا إله إلا الله) هذا في توحيد الله بأنواع التوحيد الثلاثة، و(محمد رسول الله) هو الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والنبي سألها هنا استفهامًا منها ليَعرِفَ جوابَها يَسألها، يمتحنها، وهذا ردٌّ على مَن يظنون أن هذا الحديث - وهو أشدُّ عليهم مِن كثير من المقامع - فيه ابتلاءٌ للعباد، امتحانٌ بأمر العقيدة، والامتحان في أمر العقيدة لا بأس به؛ ليَتميَّز المؤمنُ وغير المؤمن، فالنبي امتحن هذه المرأةَ، وسألها، فدل على أن هذا من الدِّين، لكن امتحان الناس كلهم من غير موجِبٍ لذلك؛ هذا الذي نص عليه البربهاري في عقيدته بأن الامتحان بدعة[8]. وَقَوْلِهِ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ؛ فإنَّ الله قِبَل وجهِه، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قدَمِه))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[9]. أفاد هذا الحديثُ قُربَ الله من عبده، وأنه قِبَلَ وجهِه على ما يَليق بجلاله عزَّ وجل، فإذا تطرق السؤالُ إلى قَلبِك، أو إلى عقلك، أو إلى مَدارِكِك: كيف يكون الله قِبَلَ وجهِ المصلِّي؟! فقل: آمنتُ بالله على مُراد الله، وآمنتُ بما جاء عن رسول الله على مُراد رسول الله. واحذر أن تتدخَّل في هذا بعقلك وقلبك متهوِّكًا، أو متنطعًا، أو متكلفًا؛ فإن هذا مزلَّة الأقدام التي جعلَت طوائف الانحراف في هذا الأصل ينحرفون فيه الانحرافَ العظيم؛ فالممثِّلة شبَّهوا، وأدَّاهم ذلك إلى تشبيه الخالق بالمخلوق، أو تشبيه بعضِ صفات الخالق بصفات المخلوق، والمعطِّلة شبَّهوا، فاستقبَحوا التشبيه، فعطَّلوا، فجمعوا الخطيئتين، فشبَّهوا أولاً في قلوبهم، ثم دفَعوا هذا التشبيه بالتعطيل، ونفَوْا هذه الصفة وأمثالَها عن الله، ثم حرَّفُوها، وأَّولوها، واتهموا الأحاديثَ بأنها ظَنِّية لا تُفيد العلمَ ولا اليقين. وجاء هذا المعنى في أحاديثَ أخرى: ((إِنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فِي صَلاتِهِ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ وَيَسْتَقْبِلُهُ، فَإِذَا انْصَرَفَ وَالْتَفَتَ انْصَرَفَ اللهُ جَلَّ وَعَلا عَنْهُ))؛ وهذا على ما يليق بجلال الله وعظمته. وأما قوله تعالى: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ﴾ [المائدة: 97]، وقوله: ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 150]، وقوله: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]؛ فإن هذا المراد به القِبلة، ووجهُ الله؛ أي: الجهة التي أمرَكم الله باستِقبالها؛ لأن الوجه يأتي بمعنى الجهة، ويأتي بمعنى الصفة، ويُحدِّد ذلك سياقُ النَّص، وسياقُ الدليل أيهما المعنيُّ، ولهذا مَن فسَّر هذه الآية ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115] بالجهة فهو صحيح، ومن فسَّرها بالوجه فصحيح؛ على معنى أن المصلِّيَ إذا قام في صلاته استقبل الرحمنَ، واستقبله الرحمنُ بوجهه، وهذا ما يُستفاد من هذه الصفة، ويُستفاد أيضًا قُربه تعالى، فالله قريبٌ مِن عبده وإن كان هو في علوِّه على عرشه، لكنه قريبٌ من عبده؛ كما سيأتي في حديث مسلم في قيام الليل. [1] رواه البخاري (7483)، ومسلم (1101) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [2] رواه البخاري (6539)، ومسلم (1016)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. [3] رواه الترمذي. [4] رواه أبو داود (3892)، وأحمد (6/ 20)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. [5] رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [6] حديث الأوعال رواه العباد بن عبد المطلب رضي الله عنه، وقد رواه أبو داود في سننه (4723)، في باب الرد على الجهمية، ورواه الطبراني، والذهبي أورده في العلو، (ص/ 39)، وقد حسَّنه شيخ الإسلام وغيره. وللحديث طرق وشواهدُ عديدة. [7] رواه مسلم (537)، من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه. [8] ومما بُلِي به بعض الشباب الآن من قول: ما تقول بفلان، ما رأيك بالمذهب الفلاني والجماعة. على جهة الامتحان والاختبار، وينتج عنها التصنيف، والتبديع بغير وجه حق، وينتج عنها اتهام النوايا واتهام القلوب، وهذا من البدع المحدثة، أما الاستفهام عن صفات الله لبيان موضع الحق فيُثبت، والباطل فيُنكر هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلينتبه طالب العلم حتى لا يلتبس عليه الأمران فإن التبس فإن الالتباس ناشئ منه ومن تقصيره، وقواعد الشريعة جاءت على هذا الأصل تأكيد وتمييزًا. [9] رواه البخاري (405)، ومسلم (547)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (21) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات المعية من صفات الله عز وجل وَقَوْلِهِ: ((أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ))؛ حَدِيثٌ حَسَنٌ [1]: هذا الحديث رواه الطبراني، والإمام أحمد، وغيرهما، والشيخ يحسِّنه. أفضل الإيمان؛ أي: أكمله، ومعلومٌ أن هذه مرتبة الإحسان، والإحسان له درَجتان كما جاء ذلك في حديث جبريل، وقد رواه مسلمٌ في الصحيح بطوله، ورَوى جملته مما يتعلق بالإيمان البخاريُّ أيضًا، وفيه أنه قال: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، وَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ: ((الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ))[2] ؛ فإن رتبة الإحسان مشتمِلةٌ على أن أفضل الإيمان أن تَعبد الله كأنه معك. الإحسان ومراتبه: وهذا الإحسان له درجتان: 1- أعلاهما أن تعبد الله كأنك تراه. كحال الذي يرى الله أمامه، يعبد الله وهو بارز أمامه، ويُستأنس لهذا لما جاء في حديث حارثة بن زيد رضي الله عنه وإن كان الحديث فيه ضعفٌ، لكن معناه مما صحَّ في الأدلة الأخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟)) قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا يَا رَسُولَ اللهِ. قال: ((يَا حَارِثَةُ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَانْظُرْ حَقِيقَةَ مَا تَقُولُ))، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَزِئَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِي، وَعَظُمَتِ الآخِرَةُ فِي قَلْبِي، وَأَصْبَحْتُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا أَمَام َعَيْنَيَّ - وهذا الشاهد بأنه عبَدَ الله كأنه يراه - وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا. فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَدْرِ حَارِثَةَ، وَقَاَل: ((يَا حَارِثَةُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ))، ثُمَّ قَالَ: ((رَجُلٌ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ بِالإِيمَانِ)). 2- الدرجة الثانية: أن تعبد الله كأنَّه يراك؛ لقوله: ((فإن لم تكن تراه))؛ أي: إنك لم تصل إلى هذا اليقين، وهذه المعرفة الكاملة التي تكون في قلبك بتصور أنك ترى الله وأنت تعبده، فاعبده كأنه يراك، أي: متصورًا الحال التي تعبده والله يطلع عليك. مع أن إيمان المؤمن باطلاع الله عليه إيمانٌ لا بد منه، ضروريٌّ، وهو مقتضى رُبوبية الله وألوهيته وأسمائه وصفاته؛ أنَّ الله مُطَّلع على عبده، يَسمع كلامه، ويرى مكانه، ولا يخفى عليه حالُه، لكن هذا اليقين في قلبك الذي هو مِن كمال الإيمان، ومن درجاته العالية، وهو أحد رُتبتَيِ الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الشعراء: 217 - 220]، هذا السِّياق وإن كان في سِياق النبي؛ فإنه يدلُّ على أحَدِ مَقامَيِ الإحسان، وإلا فإن الله لا يَخفى عليه مِن خلقه أحدٌ كائنًا مَن كان؛ دقيق في دِقِّه، أو عظيمٌ في عِظَمِهِ، خفيٌّ في خفائه، أو ظاهرٌ في ظهوره... كلهم عند الله سواء، لا يخفون عليه. فأفضل الإيمان أكمله، وأعلى درجاته أن تصل إلى هذه الرتبة أن تعبد الله كأنه أمامك، وهذا له علاقة بالصفات من جهة قربه واطلاعه على عبده، وأنه لا يخفى عليه منه خافية. بطلان مذهب الحلولية: ولا يُفهَم من ذلك الحلولُ أو الاتحاد؛ كما هو مذهب أهلِهما (أهل الحلول، وأهل الاتحاد)، فالحلولية رُتبة قبل رُتبة الاتحاد، والرتبة الثالثة: وَحْدة الوجود. فالحلولية المعتقِدون أن الله قد حلَّ بالمخلوقات، وأنه معهم معيَّةَ حلول، حالٌّ بهم، مخالِطٌ لهم، ممازجٌ لهم كما هو مذهب عامة الجهمية، وعامةِ المتكلمين من الأشاعرة، والماتوريدية، وأهل الاتحاد، وهم غُلاة الصوفية، وغلاة الجهمية، والأشاعرة الذين يقولون: إن الله اتَّحد بالمخلوق، ما زال المخلوق في تريُّض ورياض، وتجرُّد وتفكرٍ ومكاشفة إلى أن يتحد بالخالق، فهما شيئان ثم أصبحا متحدَين. وأقبحُ مِن هذا، وأعظمُ كفرًا وزندقةً وَحْدة الوجود؛ أي: إنه ليس ثَمة خالقٌ ولا مخلوق، ولا عابد ولا معبود، وإنما هو شيء واحد، فعين الخالق هي عين المخلوق، والاختلاف إنما هو في الصورة، وهذا أقبح ما علمنا من مذاهب الكفر، ومذاهب الزندقة، ومذاهب الردى التي دَرَجت على فِئامٍ من غُلاة المتصوِّفة، والغنوصية، وغلاة الباطنية، والروافض، وأضرابهم؛ والعياذ بالله. تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء الله: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن. وَقَوْلِهِ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ...))[3]: هذا الحديث من أذكار النوم التي حثنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولها الإنسان إذا أوى إلى فراشه، وفيها التوسل إلى الله تعالى بربوبيته هذه المخلوقاتِ العظيمةَ: ((اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ! أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ))؛ هذا هو الشاهد بمعاني هذه الأسماء التي سمى بها الله نفسه كما في قوله: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]. وفسَّر هذه الأسماءَ بمعانيها نبيُّنا، وهذا شاهدٌ لما عَنْوَنَ عليه المؤلِّف هذا الفصل بقوله: "فصل، ثم السُّنة تفسر القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه"؛ فسَّرَها صلى الله عليه وسلم، وبَيَّنَ ما معنى أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء. فاسم الله الأول يَقتضي صفة الأوَّلية، ومعناها أنه لا شيءَ قبل الله، والمتكلمون والفلاسفة أخبَروا عن الله بأنه أزلي، وأنه قديم، وهذه أخبار فيها حق نَقبل به، وفيها معانٍ باطلة نردها، ولكن لا يجوز أن نسمي الله بها، أو نصف الله بها، أو نتقرَّب إلى الله وصفًا، ودعاء، وتوسلاً بها، فلا يجوز أن تسمي ولدك: عبدالقديم، عبدالأَزَلي. أو تقول: يا أزلي، يا قديم! اغفر لي. فهذا لا يجوز؛ لأنها لم تَصحَّ لله أسماءً يُتقرَّب إلى الله بالإيمان بها، ولا صفةً، وإنما تقول: يا أوَّل، وهنا: ((أنت الأول فليس قبلك شيء))، وهذا الخبر على جهة التوسُّل إلى الله تعالى، وتسمِّي ابنك بعبدِ الأول. ((وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ)): الآخِر من أسماء الله، ومعناه: الذي يَبقى إلى زوال خلقه، وليس بَعدَهم مِن خَلقِه شيء؛ ولهذا كان]في الآخر معنى الباقي. ((وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ)): والظاهر اسم الله؛ دلَّ على مدلول اسم الله العليِّ والأعلى؛ فإن العليَّ الذي فوق جميع خلقه بأنواع العلوِّ الثلاثة، والظاهر: الذي ليس فوقه مِن خلقه شيء. ((وَأَنْتَ الْبَاطِنُ)): والباطن بمعنى اسم الله القريب: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]؛ كما سيَأتي في حديث أبي موسى رضي الله عنه لما دعَوُا الله ورفَعوا أصواتهم. ((فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ))؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أي: لا شيء أقرب منك إلى خلقِك. وهذا فيه صفة قرب الرب من خلقه، فالله قريبٌ مع علوِّه، ظاهرٌ مع قُربه، آخِر مع أوَّليته، وأول مع آخريته سبحانه وتعالى. يَتطرَّق إلى بعض الأفهام والأذهان: كيف ذلك؟ فنقول: ليس هذا المقام مقام السؤال عن هذا بكيف؛ لأن كيف لو كان لها معنى هاهنا، أو نطيق - ونحن المخلوقون المربوبون - لَأُبِينَ لنا ذلك، ولكن لما كُنَّا لا نُطيقه، ولا نُدركه، وإنما تقصر عنه أفهامنا، وعقولنا، ومداركنا لم يُبَيَّن لنا ذلك، واكْتُفِي لنا بما نعقله، ونفهمه، ونؤمن به بأن مقتضى إخبارنا بهذه الأدلة وبهذه النصوص في الكتاب والسنة معرفتُها، وهو الإيمان بها، ولي ِإيمانًا مجردًا عن العلم كما هو مذهب أهل التَّفويض، الذين يؤمنون بهذه من غير أن يعرفوا معناها، كأنها ألغاز، أو كأنها طلاسِمُ، أما أهل السُّنة فيؤمنون بمعانيها، أما كيفية ذلك وحقيقته وكُنهُه فإنهم لا يَعرفونه؛ لأنهم لم يُفادوا منه بعلم، ولا بخبَر، وشأنهم هو التَّسليم والاستسلام والإذعانُ لما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولسانُ حالهم ومَقالهم: سَمعنا وأطعنا، غُفرانك ربَّنا وإليك المصير. إثبات صفة القرب لله عز وجل: وَقَوْلِهِ للصَّحَابَةِ لَمَّا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ))[4]: هذا حديث أبي موسى الأشعري، وهو أنهم كانوا مع النبي في سفر، ورفعوا أصواتهم بالدعاء، يدعون الله، ورفعوا أصواتهم بهذا الدعاء، فقال: ((أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ))؛ أي: ارفقوا بأنفسكم، ولا تتكلَّفوا، ولا ترفعوا أصواتكم بالدعاء. ((فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا)): وهذا فيه الصفات المنفيَّة، وربما تُسمَّى: الصفات السلبية. والاصطلاح في أنها سلبيَّة أصله اصطلاحُ متكلِّمين، لكن تَواضَعَ عليه بعضُ أهل العلم؛ لأن معنى النفي سَلْب، وإنما الذي يُعبِّر عنه مُحقِّقو أهل السنة بأنها صفات منفيَّة، والصفات المنفية في الكتاب والسنة نفيُها متضمِّن كمالاً، وهو كمال ضد المنفي؛ ((فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ))؛ لكمال سمع الله، ((وَلا غَائِبًا))؛ لكمال حياته، وقربه، وحضوره، وهذا يُثبت هاتين الصِّفتين من ضد هاتين الصفتين المنفيتين عن الله، والتي نَفاهما عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما تدعون سميعًا بصيرًا، فالله سميع يسمع دُعاءكم ولا يخفى عليه، وإن كان هذا الدعاء بالسِّر أو بين الإنسان وبين نفسه فالله يسمعه؛ لأنه السميع الذي أدرَك المسموعات سماعًا لها، بصير يَراكم ويرى حالكم؛ عز وجل. ((إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)): فالمسافرون لَما كانوا يُسافرون على الرواحل يركب على شداد، والشداد على الظهر، وفي يده خِطام الناقة، ويقرب عنه الراحلة، ويبتعد عنه بحسب مشيه وحجزه، ((إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)) ومعنى هذا إثبات صفة القرب لله تعالى؛ كما قوله تعالى: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]؛ فالله قريبٌ مع علوِّه وظهوره، وهذا المعنى جاء في القرآن: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 186]، فلا تظنوا - أيها السَّائلون، أيها العباد - أن الله بعيدٌ قد يَخفى عليه سؤالُكم، فالله قريب، ومقتضى قربه أنه يَسمع ويرى، ولا يخفى عليه حالك وسؤالك: ﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ﴾ [البقرة: 186]، إذا استشعرَ المؤمنُ أن الله قريبٌ منه فإن اللائق به أن يتعبَّده بهذا الدعاء، ويَنكَسِر بين يديه وينطرح بين يديه دعاءً له؛ لأن ربَّه تعالى قريبٌ منه يسمع دعاءه ولا يخفى عليه حاجته، هذا هو اللائق مِن آثار الإيمان بهذه الأسماء والصفات علينا في سلوكنا وفي أفعالنا وفي أقوالنا. وهنا مسألة: فمِن هذا الحديث حديث أبي موسى عبدالله بن قيس الأشعريِّ اليماني رضي الله عنه، وكثيرٍ من الصحابة ممن عُرِفُوا بكُناهم أُبْهِمَت، وخَفِيَت عند الناس أسماؤهم، كأبي موسى، وأبي سعيد، وأبي الدرداء رضي الله عنهم، حتى ربما ذُكِرَ الاختلاف في أسمائهم، فأبو الدرداء قيل: عُويمر. وقيل: عامر. والاختلاف في: هل هو عامر أو عويمر أو عبدالله؛ لاشتهاره بكنيته شهرةً أخفَتِ اسمه. الدعاء سِرٌّ، والذِّكر علانية: هذا الحديث فيه استحبابُ أن يكون الدعاء خفية وإسرارًا؛ لأن الدعاء عَرضٌ من الداعي حاجتَه على ربه تعالى، وهذا الدعاء أجلى مَظاهر العبادة، أجلى صور العبادة ومظاهرها الدعاء، والدليل قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18]، وعبَّر بالدعاء مع أن العبادة أنواعها كثيرة، لكن عبَّر بالدعاء؛ لأنه أجلى وأظهرُ مظاهر العبادة، ويؤيد هذا ما رواه الترمذيُّ وبعضُ أهل السنن من حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)). وهذا اللفظ حسن صحيح، وأصحُّ من حديث أبي هريرة: ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةُ)). وقد رواه الترمذيُّ وحسَّنه. فهذا الدعاء الذي هو تَعبُّدٌ، وتذلل، وانكسار، وانطراحٌ فيه معنى الإخلاص بإخفائه، وهو لا يَخفى على الله. مقام آخَر مقام الذكر، فالشريعة جاءت باستحباب إظهار الذِّكر ورفع الصوت به، ومن الذكر التَّلبية، ومنه تسبيح الله عند كلِّ منخَفَض، وتكبيره عند كلِّ مرتفع، ومن الذِّكر دعاء السَّفر؛ ولهذا يُستحب الجهر به؛ لأن رفع الصوت بالذكر هاهنا رفع الصوت بتوحيد الله. ومن هذا رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة المفروضة، كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين أنه قال: كَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال: كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ الصَّلاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِدَوِيٍّ لِذِكْرِ اللهِ فِي الْمَسَاجِدِ. وعنه أيضًا: كَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلاةِ. وقوله: "كان" في هذه الثلاثة تدل على الاستمرار، خلافًا لمن ذهب من بعض أهل العلم، بل هم الجمهور من أهل العلم الذين يرَون أن هذا على جهة التعليم، والصحيح أن هذا على جهة التعليم وجهة الاستمرار، وقد ألَّف بعض أهل العلم رسائل في مدلول هذا الحديث، منهم الشيخ سليمان بن سحمان الخثعمي، المتوفَّى (1352ﻫ)؛ ألف رسالة سماها: (الإنصاف في رفع الذكر باللسان عقب الانصراف من الصلاة). إذًا رفع الصوت بالذكر مشروع، وهو سنة، أما رفع الصوت بالدعاء فإنه خلاف السنة؛ لهذا الحديث، حديث أبي موسى، الذي دل على قُرب الله تعالى وعلى سمعه وبصره. إثبات الرؤية لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْن رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ))[5]: هذا الحديث جاء من رواية عدة من الصحابة؛ جاء من رواية جرير بن عبدالله البجَلي، وجاء من رواية أبي سعيد الخدريِّ سَعدِ بن مالكِ بن سِنان، وجاء من رواية أبي هريرة عبدالرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنهم: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْن رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا سَتَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ)). ((لا تَضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ)): ((لا تُضَامُونَ)) هذه رواية، والرواية الثانية: ((لا تُضَامُّونَ))، والثالثة: ((لا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ)). 1- أما الأولى: ((لا تُضَامُونَ))؛ بمعنى أنكم لا يصيبكم ضيم، وأن بعضكم يرى بوضوح أكثر من الآخر، فلو جاء الآن موكب، أو شيء ينتظره الناس فمن في الصف الأمامي يرونه أوضح من الصفوف الخلفية، فأصاب بعضَهم ضَيمٌ، بمعنى أنه نقَص عن الأول في رؤيته. 2- وأما ((لا ُتضَامُّونَ)) فمعناها: لا يضمُّ بعضُكم بعضًا ويتزاحم على هذه الرؤية. 3- ولفظة: ((لا تُضَارُّونَ)): لا يلحقكم ضررٌ حِسِّي أو معنوي. وهذا وجه تشبيه رؤية المؤمنين لله في الدار الآخرة برؤية الشمس والقمر، فالشمس والقمر يُرَيَان ليس دونهما حِجاب ولا سحاب، من جميع الناس، مِن غير مُضامَّة، ولا ضيم، ولا مضارَّة، ويُرَيانِ وهما في العلو، ويراهما جمع غفير، كلاهما واحد؛ الشمس واحدة، والقمر واحد، فالله تعالى سيُرى كذلك؛ سيُرى كما يُرى القمر ليلةَ الستِّ بعدَ ثمانٍ؛ أي: ليلة الرابع عشر. وهو أوضَحُ ما يكون القمر فيها بدرًا ليس دونه سحاب. الإيمان ثمرته في العمل الصالح: ((فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[6]. وهذا فيه التأكيد على فريضتي: الفجر، والعصر. وفي هذا حُجَّة لأهل السنة الذين قالوا: إن إدراك هذه الفضائل في الجنان، وهذه الفضيلة في رؤية المنان تعالى إنما تتَأتَّى بالإيمان، والعمل الصالح. فالعمل الصَّالح من الإيمان؛ ولهذا أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هاتين الفريضتين بالمحافظة عليهما، وهذا معنى حديث أبي موسى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ))؛ تأكيدًا لهاتين الصلاتين من بين بقية الصلوات كما في القرآن: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]. ففي هذا إثبات أن الله يُرى، والأحاديث في إثبات رؤية الله قد بلغَت مبلغ التواتر، رواها عن النبي نيِّفٌ وثلاثون صحابيًّا، وفيها إثبات أن الله يتجلى لخلقه، كما أنه يُرى إذا نُزِع الحجاب، وكشف الحجاب، وتجلى لخلقه، إذا كان الله تجلَّى في الدنيا لمن لا ثواب له ولا عقاب، وليس هو مأمورًا ولا منهيًّا - وهو الجبل - فلم يُطق الجبل هذا التجلي، وإنما تدهدهَ، وخرَّ، وغدا ترابًا؛ ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾ [الأعراف: 143]، فالجبل ما أطاقَ - وهو أصَمُّ وأَشَمُّ - فالمخلوق الذي هو أقلُّ خَلقًا مِن الجبل من باب أولى ألا يُطيق، وفي هذا دليل على أن عدم رؤيتنا لله في الدنيا لا لخفاء الله ولكن لعجزنا وضعفنا؛ لا نطيق ذلك، فإذا كان يوم القيامة كمَّل الله للمؤمنين قُواهم ومداركَهم، فأطاقوا نعيمَه، وتلذَّذوا به كما يُطيق الكفارُ عذابَ الله في نار جهنم. أحاديث صفات الله عز وجل: إِلَى أَمْثَالِ هَذِه الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ: مِن صفات الله مِن الكمالات اللائقة بالله، أو مما يُنزه الله عنه؛ كقوله: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ))[7] ، ((إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ شَيْئًا))[8] ، ((يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا))[9] ، وهذا حديث قدسي رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، فهذه إلى أمثلها؛ أي: نؤمن بها. والشيخ لم يُرِد بهذا الاستيعابَ، وإنما ساق لنا ستة عشر حديثًا، وأحال إلى بقيتها من الصِّحاح في قوله: "إلى أمثال ذلك من الأحاديث الصحاح التي يُخبر فيها النبيُّ عن الله ما يخبر به"؛ أي: إنه يجب علينا أن نؤمن بها، ولا نتكلفها، ولا نتأولها، ولكن نؤمن بها على وجه يليق به سبحانه وتعالى؛ مِن غير تكييفٍ فلا نكيفها، ومن غير تحريف فلا نحرفها فيما يسمونه تأويلاً، من غير تمثيل، ولا تعطيل. [1] رواه الطبراني في الأوسط والكبير في مجمع الزوائد (1/ 60)، والبيهقي في الأسماء والصفات (907). [2] تقدم تخريجه. [3] رواه مسلم (2713)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [4] رواه البخاري (6610)، ومسلم (2714)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [5] رواه البخاري (554)، ومسلم (633)، من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه. [6] رواه البخاري (554)، ومسلم (633)، من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه. [7] رواه مسلم (179)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [8] رواه البخاري (7449) بلفظ: ((فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا))، ومسلم (7191) بلفظ: ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً)). [9] تقدم تخريجه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (22) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إجمال مذهب السلف في باب الأسماء والصفات فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ، وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ لا تَكْيِيفٍ، وَلا تَمْثِيلٍ: ردَّد هذا الأصلَ مرة ثانية لأنه طال عنه العهد، فردده مرة ثانية لَمَّا ذكَر أحاديث السنة؛ ليربطك به مرة ثانية، وهذا الأصل هو أن إيمان أهل السنة والجماعة إيمان الفرقة الناجية بهذه الأخبار المشتملة على أسماء الله وصفاته إنما هو إيمانٌ على الحقيقةِ اللائقة بالله تعالى؛ بعظَمِته وجَلاله، من غير تشبيه، من غير تمثيل، من غير تعطيل، من غير تحريف، من غير تكييف. وسطية أهل السنة والجماعة: بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ: الآن يَذكر لنا خَصائص أهل السنة، فأعظمُ خصائصِهم الوسَطيَّة؛ فإن أهل السنة والجماعة هم الوسط بين الفرق، كما أن هذه الأمةَ - أمَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم - هي الوسط بين الأمم. أمة النبي أمَّتان: أمة الإجابة الذين استَجابوا له وآمَنوا به، وأمة الدعوة الذين يُدعَوْن إلى دين الله. أمة الإجابة أمة النبي بِفِرَقِها غير الفِرَق الكفرية؛ لأن الفِرَق الكفرية خرجَت عن معنى كونها أمةَ إجابة إلى كونِها أمة دعوة. معنى الوسطية: يَظنُّ بعض الناس أن الوسط هو الشيءُ المتوسِّط بين الطَّرَفين وهذا مفهومٌ خاطئ غالط؛ بدليل أن هذه الأمة هي طرَفُ الأمم بالنسبة إلى ترتيبها الزماني والمكاني، فنحن آخِرُ الأمم، نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة، فليس معنى الوسطية هو الوسطَ بين الطَّرفين، وقد يكون هذا المعنى حقًّا لكنه ليس مطَّرِدًا دائمًا، وإنما معنى الوسطية: الخيار العدل، أصحاب المنهج السوي المستقيم، القائم على دين الله الحق. ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]؛ وسطًا عدلاً خيارًا، فلا يُظَنُّ أن الوسط هو ما كان متوسطًا بين الطرفين؛ فهذه الأمة وسطٌ بين الأمم بمعنى أنها خِيارها وعُدولها، وأهل السُّنة الفرقة الناجية هم الوسَط بين الفرق؛ أي: المنتسبةِ إلى هذه الأمة؛ أي: إن خيارها وعدولها لاستقامتهم على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه. وسطية أهل السنة في باب الصفات: فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سبحانه وتعالى بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ: بدأ بهذه الخِصِّيصة: فهم - أهل السنة والجماعة، الطائفة الناجية - وسطٌ في باب أسماء الله وصفاته بين طائفتين: بين أهل التعطيل الجهمية والمعتزلة، وبين أهل التشبيه الممثِّلة والمشبهة. وبدأ بالصفات مع أنَّ ثمة مسائل أعظم من الصفات؛ كمسائل توحيد العبادة، ومسائل الإيمان، ومعرفة الله (مسألة الأسماء والأحكام)، لكن بدأ بالصفات لأنها هي محورُ هذا البحث في العقيدة، ولأن هذه المسألة جليلة؛ لتعلقها بجلال المسمى والموصوف. المعطِّلة - جهمية أو معتزلة أو متكلمون، أو من تأثَّر بهم - أهلُ تحريف وتعطيل لله تعالى عن الصفات أو بعضِها، والممثِّلة المشبهة شبَّهوا صفات الله بصفات خلقه، أما أهل السُّنة فإنَّهم وسَطٌ بين هؤلاء وهؤلاء؛ أثبتوا لله الأسماءَ والصِّفاتِ من غير تشبيه، وإنما تنزيهًا من غير تعطيل، فهُم أولى الناس بوصف الإثبات، لكن من غير تشبيه، ومن غير تمثيل، وهم أولى الناس بوصف التنزيه (تنزيه الله تعالى عن النقائص وعن العيوب)، لكن من غير تعطيل، فأثبتوا لله الأسماءَ والصفاتِ على ما يليق بالله جلالةً وعظمةً وكبرياءً، لا يَعلمون حقائقَ أسمائه، ولا حقائقَ صفاته؛ لأنهم لا يَعلمون كيفية ذاته في الأصل، ولهذا صاروا في هذا الباب (بابِ الأسماء) وسطًا بين هؤلاء المنحرِفين. وسطية أهل السنة في باب القدَر: وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ اللهِ سبحانه وتعالى بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ: المراد بأفعال الله القضاء والقدر (القدَر الكوني والقدَر الشرعي)؛ لأن القضاء والقدر أفعالُ الله يفعلها بخلقه، فهُم وسَط في هذا الباب بين الجهميَّة الجبرية وبين القدرية وهم المعتزلة. سبحان الله! لم يجتمع مذهب التعطيل بين هذه الفرق المتضادة إلا في نفي صفات الله وأسمائه؛ ففي القدَر هم ضدان؛ أي: الجهمية ضد المعتزلة. وفي باب الإيمان هم ضدان؛ لأن الجهمية مرجئة والمعتزلة وَعيديَّة، أهل السنة وسط في أفعال الله في القضاء والقدر بين هاتين الفرقتين والطائفتين المنحرفتين؛ فالجهمية قالوا: إن العباد مجبورون على أفعالهم، والأفعال كلها من خلق الله لكن أُجبِر العبد عليها. والقدرية قالوا: لا، الله ما خلق الأفعال، ولا قدَّرها، وما قضاها، وإنما العبد يفعل باختياره المحض. ونلاحظ أن كل مذهب عنده حقٌّ وعنده باطلٌ كثير، ولو أخذتَ الحق الذي عند كل مذهب لاجتمَع لك مذهبُ أهل السُّنة؛ فالحقُّ عند الجهمية أن الأفعال كلَّها لله؛ قدَّرها، وقضاها، فنؤمن بذلك، لكن لا نوافقهم أن الله سلب قدرة العبد عليها وإرادته، وأنَّه صار مجبورًا؛ فهذا خطأ وباطل، والحق الذي عند المعتزلة أن العبد يختار بنفسه، وفِعلُه مخلوق له، منسوب إليه وهذا حق، لكن الباطل هو نَفيُهم قدرةَ الله، وتقديره، وكتابته، وإرادته، ومشيئته، وخلقه لفِعل عبده، وغُلاتُهم يَنفون علمَ الله وكتابتَه لما يكون من المقدرَّات. وسطية أهل السنة في مآل أهل الذنوب: وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: الوعيد في الآخرة الوعيدُ على الذنوب؛ ((لَعَنَ اللهُ شَارِبَ الْخَمْرِ، وَآكِلَهَا، وَمُؤْكِلَهَا))، ((لَعَنَ اللهُ شَارِبَ الْخَمْرِ وَحَامِلَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُحْتَمِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ))، ((لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَمِؤْكِلَهُ))[1]هؤلاء هم أهل الوعيد. وأهل السُّنة وسَطٌ فيهم بين طائفتين: بين المرجئة الذين قالوا: لا يكون مع الإيمان ذنب. والمرجئة يشمل عدة فرق، فيشمل الجهمية - وهي أم الإرجاء - والأشاعرة، والماتريدية، والكرَّامية، وأقلهم إرجاءً مرجئة العراق، وبين الوعيدية من الخوارج القدرية وغيرهم. القدرية وصفٌ للمعتزلة، وسُمُّوا قدرية لأنهم ينفون القدر، ولقب القدرية يطول فئتين: 1- الجهمية؛ ويُسمَّون قدرية لأنهم يغلون في إثبات القدَر، وينفون قدرة العبد. 2- والمعتزلة؛ يُسمَّون قدرية لأنهم ينفون القدر، حتى صارت القدَريةُ في العصور المتأخرة وصفًا للمعتزلة. أهل السُّنة وسطٌ في باب الوعيد - على أهل الذنوب يوم القيامة، وعلى أهل الكبائر، وعلى أهل المعاصي - بين الوعيدية من القدرية الذين قالوا: إن صاحب الذَّنب في النار، مخلَّد فيها، وإن لم يكن مشرِكًا. وبين المرجئة الذين قالوا: إنه لا يَضرُّ مع الإيمان ذنب ولا معصية. وسطية أهل السنة في أسماء الإيمان: وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الإِيمَانِ وَالدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ: أسماء الناس في الدنيا: هل هو مؤمن، هل هو كافر، هل هو عاصٍ؟ والوعيد هي أحكامهم في الآخرة؛ ولهذا يُسمى هذا: باب الأسماء والأحكام. أسماء الإيمان والدِّين؛ أي: إن اسمه مؤمن أو غير مؤمن، ودينه هل هو كافر أو غير كافر؟ هل هو في الجنة أو ليس في الجنة؟ في هذا الباب هم وسط بين الطائفتين، بين الوعيدية من الخوارج، والمعتزلة "القدَريَّة": أ- فالخوارج سَمَّوا صاحب الذنب في الدنيا كافرًا كُفرًا أكبر، وهذا مذهب عامة الخوارج؛ ولهذا كفَّرُوا عثمان، وكفَّروا عليًّا، وكفروا الصحابة رضي الله عنهم، فحكَموا عليهم في الدنيا بأنهم كفار، والإباضية وهي إحدى فرق الخوارج؛ حيث الخوارج أشهر فرقها أربع: 1- الأزارقة: أتباع نافع بن الأزرق. 2- والنجدات: أتباع نجدة بن عامر اليمامي. 3- والصفرية: أتباع ابن أبي صفرة. 4- والإباضية أتباع عبدالله بن إباض التميمي. فالإباضية من الخوارج قالوا: إن صاحب الذنب كافرٌ كُفرَ نعمة لا كفر ملَّة، وقالوا: كفر نعمة؛ لئلاَّ يوجبوا عليه لوازم الكفر، فيستبيحوا دمَه، أو يُقيموا عليه الحد، أو يُطلِّقوا منه زوجتَه، أو لا يُوَرِّثوا منه أهلَه، فقالوا: هو في الدنيا كافرٌ كُفرَ نعمة، وإذا مات فهو في النار؛ ولهذا فإن مذهب الإباضية هو الذي بقي مِن مَذاهب الخوارج. ب- وبين مذهب المعتزلة الذين قالوا: إن صاحب الذنب في الدنيا فاسق، فيُسمُّونه الفاسقَ المِلِّي، فيقولون: الفاسق الملي هو الذي خرَج من الإيمان ولم يَدخل الكفر، وإنما بَقي في منزلةٍ بينَهما. وهذه أولُ بِدَعِهم بالمنزلة بين المنزلتين. إذًا فالخوارج والمعتزلة اختلَفوا في اسمه في الدنيا؛ فمِنهم مَن عدَّه كافرًا كُفرَ مِلَّة، ومنهم مَن عدَّه كافرًا كفرَ نعمة، وهم الإباضية، ومنهم من عده لا مؤمنًا ولا كافرًا، وهم المعتزلة أصحاب المنزلة بين المنزلتين، واتفقوا على أن حكمه في الآخرة التَّخليد في النار. والذي حمل الإباضيَّةَ على مذهبهم - وكذلك المعتزلة - هو الجُبْنُ والخوَر؛ لئلاَّ يُعامِلوا صاحب الذنب مُعامَلةَ الكافر؛ كما صرح به أولئك. ومذهب الخوارج يحمل في نفسه آثار الزوال، لا يبقى بهذه الصفة، وهكذا كل متشدِّد في أحكامه على الناس لا يَحمل مذهبُه وتشدُّده أسبابَ البقاء وإنما يَزول، وهذه نلاحظها مُطَّرِدةً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ))؛ ثَلاثًا[2]، وقولِه: ((إِنَّ هَذَا الدِّينِ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيِه بِرِفْقٍ))، ((وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ)). يقابل هؤلاء الوعيدية المرجئة الذين يرَون أن صاحب الإيمان لا يضره شيءٌ من الذُّنوب التي يفعلها، فيقولون: إن الإيمان لا يَضرُّ معه ذنب. وهذا المذهب موجودٌ عند المرجئة، عند عَوامِّ عوامِّهم. عوامُّ الأشاعرة، وعوام الماتوردية إذا أُمِرُوا بالمعروف ونُهُوا عن المنكر قالوا: الإيمانُ في القلب. يقول هذا وهو مُتلبِّس بالمعصية كَتَركٍ للصلاة أو مقارَفةِ مُنكَر؛ لأن عندهم - من آثار المذهب الذي هم فيه - أنَّه لا يضر مع الإيمان معصية، وهذا من مذهبهم، فعندهم صاحب الذنب يُسمى مؤمنًا كامل الإيمان وإن أتى ذنبًا. وتَوسَّط بينهم العدولُ الخيارُ أهلُ السُّنة والجماعة، فقالوا: إن صاحب الذنب في الدنيا يُسمَّى مؤمنًا ناقصَ الإيمان؛ مؤمنٌ بإيمانه، ناقصُ الإيمان بذنبه؛ إما بكبيرة فيكون فاسقًا، أو بمعصيته فيُسمى عاصيًا؛ ولهذا فأهل السنة عندهم أوصاف: مؤمن، مسلم، مؤمن كامل، مؤمن ناقص الإيمان يُسمى فاسقًا، أو عاصيًا، والكافر. وسطية أهل السنة في الصحابة رضي الله عنهم: وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ: في باب الصحابة والإمامة هم وسط بين طائفتين: 1- الروافض الذين غلَوْا في عليٍّ وفي بعض آله رضي الله عنهم[3]: 2- وبين النواصب، والنواصب هم الخوارج الذين ناصَبوا عليًّا العداء، وقاتلوه، وكفَّرُوه، وحاربوه في (صِفين)، ثم في (النَّهروان)، ثم كان آخرهم عبدالرحمن بن مُلجم، هذا الشقي الخبيث الذي قَتل عليًّا رضي الله عنه. ناصَبوا عليًّا، وناصَبوا الصحابة الذين مع عليٍّ العداء، وناصَبوا بقية الصحابة العداء؛ ولهذا عند الخوارج لا يَسلَمُ منهم إلا أبو بكر وعمر، ومَن كان في عَهدِهما فقط، حتى عثمان ما سَلِم منهم، أما الروافض ما سَلِم منهم مِن الصحابة أحدٌ إلا الأربعة: سَلْمان، وأبو ذرٍّ، والمقداد، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم. فأهل السُّنة وسطٌ في هؤلاء الصحابة بين هؤلاء وهؤلاء؛ على ما سيأتي مِن بيان وسطيَّتِهم. [1] رواه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. [2] تقدم تخريجه. [3] وأقول: بعض آلِه؛ لأنهم ما غلَوا في جميع آل البيت؛ فإن آل الحسن، وآل جعفر، وآل عباس ما غلَوا فيهم، وآل الفضل ابن عبَّاس، وهم بالاتِّفاق من آل البيت، وهذه سيأتي لها نكتة؛ لأن غُلوَّهم في بعض آل البيت، هذه العقيدة التي اندرجَت عند السذَّج، والبُلْه، والأغبياء الذين ليس لهم عقول، فضلاً عن أن تكون لهم معرفة بالأدلة والنصوص، وهؤلاء الروافض لما غلَوا في بعض آل البيت سَبُّوا وكفَّروا بقية الصحابة، فلم يَسلَم مِن كفرهم إلا ثلاثةٌ أو أربعة أو خمسة؛ لا يتجاوزون أصابعَ اليد، وممن سلم من تكفيرهم عمار، وسلمان، وأبو ذر والمقداد رضي الله عنهم، ويسبون الصحابة ويُكَفِّرونَهم. الروافض لهم أربعة أصول؛ أعظمها أصل الإمامة، وفي أصل الإمامة جعلوا سب الصحابة، فقالوا: المستحق للإمامة نصًّا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ولهذا كفروا الصحابة؛ لأنهم لم يُصيِّروا عليًّا خليفة، وخالفوا نص الله، ونص رسوله؛ ولهذا فسبُّ الصحابة ليس أصلاً في ذاته، وإنما يندرج تحت أصلهم بالإمامة. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
|
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (24) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ: الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 186]. وَقَوْلُهُ للصَّحَابَةِ لَمَّا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)). وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ - لا يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلَيٌّ فِي دُنُوِّهِ قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ. وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ: الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 186]: دخل في ذلك؛ أي: الإيمان بأسمائه وصفاته على جهة التفصيل. والإيمان بأنه قريب ومجيب: لأن هذا الذي أخبر به عن نفسه: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ ﴾ [البقرة: 186]؛ يجيب لأنه سبحانه مجيبٌ لمن دعاه وسأله، واستغاثه والتجأ إليه، فالله قريب مع علوه، من غير أن نقول: كيف؟ وإنما هي أول باب للظنون الكاذبة، وإنما هو قريب في علوه كما أخبرَنا بذلك عن نفسه، وأخبرَنا به أعرَفُ الخلق به؛ آمنَّا بهذا وصدقنا من غير أن ندخل فيها بعقولنا وظنوننا متهوكين، متجرئين، طالبين ما ليس لنا به علم. وَقَوْلُهُ للصَّحَابَةِ لَمَّا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ))[1] وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ - لا يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ: لما قال صلى الله عليه وسلم للصحابة لما كانوا في سفر ورفعوا أصواتهم بالدعاء: ((أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ))[2] - دلَّ على قربه سبحانه وتعالى مع كونه بذاته على عرشه، على جميع خلقه، لكنه لا يَخفى عليه شيءٌ من خلقه، وهو مع ذلك قريبٌ منهم، وهذه معية خاصة لأوليائه، وهي من معاني قربه منهم. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي نُعُوتِهِ: هو سبحانه ليس كمثله شيء لئلاَّ تقول: كيف يكون هذا؟ لأن الله لا يُشبِهه شيء، ولا يماثله شيء، ولا يساميه شيء، ومِن انفراده أنه ليس كمثله شيء؛ لأحديته وفردانيته أنه في جميع نعوته (صفاته) لا يُماثل بخلقه، ولهذا لا تدركه العقول. وَهُوَ عَلَيٌّ فِي دُنُوِّهِ قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ: في قُربه، فمعنى الدنوِّ القُرب، وهو قريبٌ في علوه؛ ولهذا يقول النبي: ((إِنَّ اللهَ يَدْنُو إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ))[3] يدنو إلى سماء الدنيا وهذا نزول، كما دلت عليه أحاديث النزول إلى ثلث الليل الآخر؛ لأنه جاء في بعض الروايات: ((إِنَّ اللهَ يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَيُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ مَلائِكَتَهُ))[4] هذا الدنو في علو الله، والقرب في علو الله - مما تتقاصر دونه أفهام الناس، ولا تدركه، ولا تحيط به عقولهم، إلا المؤمنون الموحدون، الذين عرَفوا ضعفهم وعجزَهم وعدمَ إحاطتهم، فكانوا واقفين على حد البحر لم يلجوا في لججه، ولا في أمواجه، ولا في ظلماته، وإنما هم على حدِّ البحر، على حد العلم الذي أُعْلِمُوا إياه، لم يتطاولوا ذلك ويتعدَّوه بعقولهم. يقول أبو المعالي[5] قبل أن يموت، وقد بلَغ من الحيرة مبلغها - وهذه نقَلَها عنه شيخُ الإسلام، ونقلها عنه شارح الطحاوية - يقول: "أيها الناس - وهو يبكي - لقد خضت البحر الخضم، وتركت على أهل الإسلام على بره، وقد نهَوْني أن أخوض فيما خُضت فيه، ولم أحصل علمًا ولا يقينًا، والآن أموت على عقيدة عجائز نيسابور، وإن لم يتداركني الله برحمته فلا أدري شيئًا". أي: إنه وصل بعد هذه الاستطالات والخوض فيما لا يُحسِن، وفيما أُخْفِيَ عن علمه - وصل إلى تمني أن يموت على عقيدة العوام، أما أهل الإيمان فإنهم فوق عقيدة العوام لأنهم في مصافِّ العلماء، ولهذا لما قال الشهرستاني عبدالكريم: لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا ♦♦♦ وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ معالم البحث، والجدل، والمناظرة، وطلب ما يُسمى عندهم بالحقائق. فَلَمْ أَرَ إِلاَّ وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ♦♦♦ عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ ما أوصَلَتهم هذه المعلومات والمنطوقات والقواعد والنظر والجدل إلا إلى الحيرة؛ إمَّا واضعًا كفَّه على ذقنه، أو قارعًا سن نادم (سن الندم والحيرة). ابن الأمير الصنعاني لما قرأ هذا الكلام في الدرس على نُسخته أنشَأ بيتَين جادت بهما قريحته؛ لأنه تصور الحال التي أدركها هؤلاء بما يسمُّونه علومًا - وهو علم الكلام الفاسد - فأوصلَهم إلى هذه الدركات من الحيرة والضلال والشك التي يتمنى الإنسان عندَها أن يكون على عقيدة العوام، قال له ابن الأمير الصنعاني: لعلك أهملتَ الطواف بِمَعْهَدِ الـ ♦♦♦ ـرَسُولِ وَمَنْ لاقَاهُ مِنْ كُلِّ عَالِمِ أنت صحيح قد طُفتَ بكل المعاهد إلا معهدًا واحدًا ما أتيتَه، ولا قربت عنده؛ لأنهم كانوا يَحتقِرون أهله ويزدرونَهم: هؤلاء حشوية نابتة مجسمة، هؤلاء سذج لا يضرُّونكم، ليس عندهم إلا قال الله وقال رسوله، هذا المعهد أهملتَ الطواف به. فَمَا حَارَ مَنْ يَهْدِي بِهَدْيِ مُحَمَّدٍ ♦♦♦ وَلَسْتَ تَرَاهُ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ لأنَّه على يقين، على طُمَأنينة، على انشراح، على سَكينة الإيمان التي أفضى بها إليه أنَّه عرَف قدره، وانتهى بعِلمه إلى ما علَّمه الله إياه ورسولُه، الله ما عَلَّمَنا كيفية صفاته ولا كيفية أفعاله، ولا كيفية ذاته؛ لأن عقولنا ومداركنا تقصر وتقل فهمًا لهذه المعاني، فأُعْلِمْنا ما نفهم ونعقل، وغُيِّب عنا ما لا ندركه ولا نفهمه. ومن ذلك أنه عليٌّ في دنوه، هو مع كونه عليًّا فإنَّه دانٍ وقريب، وهو قريب مع علوه، نؤمن بذلك لأنه جاءنا عن الله وعن رسول الله، ولا نتهَوَّك في ذلك بأهوائنا وظنوننا الكاذبة والفاسدة. [1] تقدم تخريجُه. [2] كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه أخرجه في الصحيحين. [3] رواه مسلم (1348)، من حديث عائشة رضي الله عنها نحوَه. والعشية تبدأ مِن بعد العصر، مأخوذة من تعشية الإبل والبهائم، فإنها من بعد العصر وهي تعشي. [4] رواه مسلم (1348)، من حديث عائشة رضي الله عنها نحوه. [5] وقد خاض في هذه المعاني الكلامية، والقواعد الفلسفية، والقيل والقال، حتى إن كتابه (الإرشاد إلى قواطع الأدلة) لا تكاد أن تقرأ فيها آيةً واحدة. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (25) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل فَصْلٌ: وَمِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَكُتُبِهِ: الإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ كَلامُ اللهِ حَقِيقَةً لا كَلامُ غَيْرِهِ. وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلامِ اللهِ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْهُ، بَلْ إِذَا قَرَأَهَ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ بِذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً؛ فَإِنَّ الْكَلامَ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لا إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا، وَهُوَ كَلامُ اللهِ حُرُوفُهُ وَمَعانِيهِ، لَيْسَ كَلامَ اللهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي وَلا الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ. وَمِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَكُتُبِهِ: الإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ: الآن يفصِّل في مسألة كلام الله؛ لأنها من المسائل العظيمة الجليلة، التي هي مِن أوائل ما وقَع فيها الانحرافُ في مسائل الصفات؛ فإن أول من عُرِفَ عنه الانحراف في الصفات هو الجعد بن دِرْهَم؛ فقد نفى أن يكون الله كلم موسى تكليمًا، واتخذ إبراهيم خليلاً، فأنكر صفة الكلام، وأنكر صفةَ الخُلَّة، وتَلقَّفَها عن الجعدِ الجهمُ. ولهذا فابنُ القيم لما بدأ في نَظمِه في الكافية الشافية (النونية) بدأ يتغزل، والشعراء إذا بدَؤوا أشعارهم يتغزلون بمحبوباتهم: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ♦♦♦ مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ وقال: لِخَوْلَةَ أَطْلالٌ بِبَرْقَةِ ثَهْمَدِ ♦♦♦ تَلُوحُ كَبَاقِي الْوَشْمِ فِي ظَاهِرِ الْيَدِ ومنهم من يبدأ بالأطلال يتوجد عليها. وابن القيم سلَك هذا المسلَك، فتغزَّل - وظنَّه كثيرٌ مِن الشُّراح أنه يتغزَّل بامرأةٍ على عادة الشعراء وهو يتغزل - ولكنه يتغزل بالعقيدة؛ حيث يقول: أَنَّى وَقَاضِي الْحُسْنِ نَفَّذَ حُكْمَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَلِذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ الْخَصْمَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَأَتَتْ شُهُودُ الْوَصْلِ تَشْهَدُ أَنَّهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حَقٌّ جَرَى فِي مَجْلِسِ الإِحْسَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif صَوَّر العقيدة كأنها محبوبة معشوقة، وهذا من الخيال الخصب عند ابن القيم؛ ولهذا بدأ بهذا الإجمال العام، ثم بدأ بشعائر الإسلام، ثم بدأها بالحج وشعائره. وَرَقَتْ إِلَى أَعْلَى الصَّفَا فَتَيَمَّمَتْ ♦♦♦ دَارًا هُنَالِكَ لِلْمُحِبِّ الْعَانِي وفي بعض النُّسَخ: "للمُحثِّ العاني". إلى أن قال - الذي بيَّن أنه يتغزل بالعقيدة الصحيحة -: إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةَ الَّذِي حَدَّثْتِنِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَعَلَيْكِ إِثْمُ الْكَاذِبِ الْفَتَّانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif جَهْمِ بْنِ صَفْوَانٍ وَشِيعَتِهِ الأُلَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif جَحَدُوا صِفَاتِ الْوَاحِدِ الدَّيَّانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى أن قال: وَلأَجْلِ ذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خَالِدُ الْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قَسْرِيُّ يَوْمَ ذَبَائِحِ الْقُرْبَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إِذْ قَالَ: إِبْرَاهِيمُ لَيْسَ خَلِيلَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كَلا وَلا مُوسَى الْكَلِيمَ الدَّانِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صَاحِبِ سُنَّةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif للهِ دَرُّكِ مِنْ أَخِي قُرْبَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فأول المسائل التي وقع فيها الانحرافُ في صفات الله فيها: مسألة كلام الله، وتطوَّرَ ذلك إلى أن أنكَرَته الجهمية، ثم تلقَّفَها عن الجهميةِ المعتزلةُ، وامتحَنوا الناس في عهد المأمون بها، ووقَف لها فُحولُ وأساطينُ السُّنة، وساداتُ الناس فيها وأئمتها، وما موقف الإمام أحمد في هذه الفتنة ببعيد. وأُولى مسائل العقيدة التي حصَل فيها انحرافٌ مسألة كلام الله، وإنكار صفاته الذي هو مذهبٌ خبيث أُثِرَ عن الجعد، وتحمَّلَه عن الجعدِ ونشَرَه الجهمُ، فنُسِبَ إليه، وتحمَّله عن الجهم المعتزلة، فنُسِبَ إِليهما مذهبُ الجهمية والمعتزلة. وأما أُولى مسائل العقيدة انحرافًا فهي مسألة صاحب الذنب التي هي مفصل الافتراق بين أهل السُّنة وبين الوعيدية وبين المرجئة، ثم مسألة القدر لما أنكر مَعبد بن خالدٍ الجهني قدَرَ الله على خلقِه، فحَكَم عليه التابعون - ومنهم الأوزاعيُّ - بقتله، فقتَله عبدالملك بن مروان. من الإيمان بالله وكتبه الإيمانُ بأن القرآنَ كلامُه؛ لأن الإيمان بالله إيمان بذاته، وأسمائه، وصفاته، ومن صفات الله أنه متكلم يتكلم، وكلامه أنواع: نداء، ونجاء، وقيل، وقول، وحديث. وكذلك الإيمان بكتبه؛ لأن كتبه التي تَكلَّم بها وأنزلها على الأمم هي مِن كلامِه سبحانه؛ إذ مقتضى الإيمان بالكتب أن تؤمن بصفة الله الكلام، وأن تؤمن بصفة الله العلو؛ لأنَّ كتبه مُنزَّلة من السماء. الإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ: الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، هذا هو مذهب السلف في القرآن أنه كلام الله؛ أي: صفة الله الذي أضافه له؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 6]، وقوله: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ [المائدة: 41]؛ مِن بعدِ ما سمعوه، من بعدِ ما عقَلوه. المعتزلة قالوا: إنه منزل؛ لكنه - مثل إنزال الحديد - مخلوق، ولهذا أضاف أهل السنة: منزَّلٌ غيرُ مخلوق. وممن يقول: إن القرآن مخلوق الجهميةُ والمعتزلة والماتوريدية، وحقيقة قول الأشاعرة لأن الذي معنا - عند الأشاعرة - هو مخلوق ليس عينَ كلام الله تعالى، وهو قول الخوارج، وهو قول الإمامية؛ لأن الإماميةَ والخوارجَ بعد القرن الثالث معتزلة، هذا في تأريخ الفرق؛ فالخوارج في أواخر القرن الثاني وأول الثالث، وكذلك الإمامية في أول الثالث - أضحَوْا معتزلة، مع أن متقدِّمي الروافض ممثِّلةٌ مشبِّهة: هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي. مِنْهُ بَدَأَ: أو يُقال: بدَا؛ كلاهما رسمان صحيحان، فمنه بدأ؛ أي: إن القرآن ابْتُدِئ من الله، فالله ابتدأ الكلام به، ومنه بدا بالألف بدون همز فإن القرآن ظهَر من الله، بمعنى أنه كلام تكلم به. وَإِلَيْهِ يَعُودُ: هذا من اعتقاد أهل السنة أن القرآن يعود إلى الله في آخر الزمان كما جاءت بذلك الأخبارُ الصادقة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((يُسْرَى عَلَى الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ، فَيَفْتَحُ النَّاسُ مَصَاحِفَهُمْ، فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ، لَيْسَ فِيهَا مِنْ كَلامِ اللهِ شَيْءٌ؛ قَدْ أُسْرِيَ بِالْقُرْآنِ))[1]؛ أي: رجع إلى صاحبه، إلى المتكلم به. وذلك لما أهمله الناس، وتركوا الهداية منه، وتركوا قراءته فإنه يرجع إلى صاحبه، وإليه يعود. وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً: تكلم الله به حقيقة، وأما كيف تكلم به؟ فلا نعلم، لكن نعلم ونؤمن ونوقن بأن الله تكلم به حقيقة، ومقابل الحقيقة ليس مجازًا تأويلاً كما يسميه المتكلمون، قالوا: إن تكلم الله مجازًا. إضافة الكلام إلى الله من جهة المجاز، لكن أهل السنة يقولون: تكلم به حقيقة. ولا يَعلمون كيفية التكلُّم به. وهذا القيد له فائدة أن القرآن أنزل على محمد، لم يُنزل على عيسى، ولا موسى، ولا داود، ولا إبراهيم عليهم السَّلام، وإنما أُنزل عليهم كتبٌ غير القرآن، ونحن نعلم من كتب الله تفصيلاً بأسمائها خمسة، وهي: القرآن على محمد، والإنجيل على عيسى، والتوراة على موسى، والزبور على داود، وصحف إبراهيم على إبراهيم. هُوَ كَلامُ اللهِ حَقِيقَةً لا كَلامُ غَيْرِهِ: هذا الكلام - أي: هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد - هو كلام الله الذي تكلم الله به، سمعه جبريل من الله، وسمعه محمد من جبريل، لا كلام غيره. والأشاعرة يقولون: إنه كلام جبريل، أو كلام محمد، أو كلام الهواء، أو اللطيفة. إذًا نؤمن بأن هذا القرآن الذي أنزله على رسوله ونقرؤه نحن هو كلام الله حقيقة. وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلامِ اللهِ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْهُ: يُشير الشيخ بهذا إلى مذهبَيِ الأشاعرة والكلابية الذين قالوا: إن هذا القرآن الذي معنا عبارة عن كلام الله. وقالت الكلابية: إن هذا القرآن الذي معنا نقرؤه هو حكايةٌ عن كلام الله؛ وذلك لأن كلام الله – في اعتقادهم الفاسد - هو ذلك المعنى النفسي الذي قام بالله ولم يسمعه منه أحد، وهذا القرآن وقبله الإنجيل والتوراة والزبور هي عبارة - كما هو قول الأشاعرة - أو حكاية - كما تقول الكلابية - عن كلام الله. وقوله: بالعبارة والحكاية بدعةٌ ابتدعها هؤلاء، وخُصُّوا بها عن عامة الجهمية والمعتزلة والمعطلة، ومؤدى هذه البدعة أن الذي معنا ليس هو عينَ كلام الله، وإنما الذي معنا كلامٌ مخلوق؛ لأن كلام الخالق معنى نفسي قام بالله تعالى ولم يقم بغيره. بَلْ إِذَا قَرَأَهَ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ بِذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً؛ فَإِنَّ الْكَلامَ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لا إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا: إن الشيخ لخَّص لنا في هذين السطرين اعتقادَ أهل السُّنة في كلام الله القرآن، أن هذا القرآن - إذا قرأه الناس القارئون، أو رتله المرتلون، أو سمعه السامعون، أو كتبه النُّساخ، أو طبَعه الطابعون - لم يخرج عن كونه كلامَ الله؛ لأن المقروء كلام الله، والقارئ هو الإنسان، والمتلو كلام الله، والتالي هو المرتل، والمكتوب هو كلام الله، والكاتب والحبر والجلد والورق مخلوق، والمحفوظ كلام الله والحافظ هو الإنسان وطالب العلم والمؤمن، وقد يحفظ القرآنَ غيرُ المؤمن؛ ولهذا ذُكِرَ عن بعض المستشرقين حِفظُهم للقرآن، وعن بعض النصارى في لبنان وغيرها حفظهم للقرآن؛ ليجودوا ألسنتهم من ناحية العربية، أخبرني أحد الدكاترة أن أستاذهم الذي درسهم في (كمبرج) قديمًا يقال له: (يوسف شخب) - وهو مستشرق يهودي، مجَريُّ الأصل - أخبرني هذا أنه كان يحفظ القرآن، ويحفظ المسند "مسند الإمام أحمد"، ويحفظ الأم للشافعي، وهو يهودي خبيث مستشرق، كما ذكر الله عمن قبلنا أنهم كالحمير تَحمل أسفارًا، فالعلم على ظهورها وهي ما تستفيد؛ ولهذا يقول القائل: وَمِنَ الْعَجَائِبِ وَالْعَجَائِبُ جَمَّةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قُرْبُ الشِّتَاءِ وَمَا إِلَيْهِ وُصُولُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif الماء على ظهورها ولم تَستفِد منه، والله تعالى وصَفَ في آية الجمعة مَن قبلَنا - ممن أوتوا العلم - بأنهم كالحمير تحمل أسفارًا، أسفار العلم، وكتب العلم على ظهورها، وهي لم تستفد منه. هذا القرآن كيفما تصرَّف فهو كلامُ الله، أما فِعل المخلوق - مِن حفظه، وقراءته، وترتيله، وصوته، وكتابته، وإسماعه - فهذا فِعله هو؛ ولهذا فإن القارئين مختلفون، فهذا يقرأ بصوت حسن، وهذا بصوت أحسن، وهذا يجود وهذا أقلُّ تجويدًا، والمقروء شيء واحد، لكن الأصوات، والأداء، والترتيل اختلف باختلاف المخلوقين، الكتابة هذا يكتبه بقلم لين، وهذا بقلم أقل جودة، وهذا يطبع أحسنَ طباعة، والمطبوع والمكتوب شيءٌ واحد، لكن الكتابة والنفس مختلفة، فالقرآن كيفما تصرف - حفظًا في الصدور، أو قراءةً بالألسن، أو كتابةً بالأسطُر - هو كلام الله عينًا. ثم إن الكلام إنما يُضاف إلى مَن قاله ابتداء، لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا؛ لأن الله قال: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الحاقة: 40 - 42]، وقال: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾ [التكوير: 19، 20]، والمراد بالرسول الكريم في سورة التكوير جبريل؛ لأنه هو الموصوف بأنه ذو قوةٍ عند ذي العرش، مَكينٌ؛ أي: متمكن، له منزلته وقدره، والرسول في سورة الحاقة هو محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي اتُّهِمَ بأنه شاعر، وأتى الناسَ بشِعر. أضاف الله القول هنا في آية الحاقة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضافه في التكوير إلى جبريل، وهذه تُسمى إضافة البيان والتبليغ والأداء؛ أضافه الله إليهما قولاً لهما؛ لأنهما المؤدِّيان، المبلِّغان عن الله، وحقيقة الإضافة لمن قاله مبتدئًا فيقال: هذا كلام الله. فلو أني وقفت وألقيت أبياتًا نحو: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكَذَّبٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لَدَيْنَا وَلا يُعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يُوَالِي إِلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثم قلتُ: أنا الذي قلتُ هذه القصيدة - فسوف أُكَذَّب لأني لم أقلها، بل ألقيتها أداء، أما القائل الأول فهو أبو طالب؛ هو الذي أنشأها، فالقول يُنسَب لمن قاله ابتِداءً لا لِمَن قاله أداء وتبليغًا. وَهُوَ كَلامُ اللهِ حُرُوفُهُ وَمَعانِيهِ، لَيْسَ كَلامَ اللهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي، وَلا الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ: (وهو) الضمير يعود إلى القرآن هو كلام الله، حروفه مِن الله، ومعانيه من الله؛ لأنه مرَّ علينا أن القرآن حرفٌ وصوت، وأن الحروف مجموعها كلمات، والكلمات مجموعها آيات، والآيات مجموعها سُور، وهذه الكلمات لها مَعانٍ ومَضامينُ ودلالات، فالقرآن كلام الله الحروف والمعاني جميعًا، وقد نسب الكلامَ إلى الله حرفًا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم لما قال: ((اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ حَسَنَةٌ إِلَى عَشَرَةِ أَضْعَافِهَا، لا أَقُولُ: ﴿ الم ﴾ [البقرة: 1] حَرْفٌ. وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ))[2]؛ فالقرآن حروفه ومعانيه كلها من الله، ليس كلام الله الحروف دون المعاني كما تقوله يراجع التسجيل، ولا المعاني دون الحروف كما تقوله الأشاعرة والكلابية الذين قالوا: إن كلام الله المعنى دون الحرف. فكلام الله هو مجموع هذه المعاني والحروف. [1] رواه الطبراني في مجمع الزوائد (1/ 330)، وقال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح، لكنه موقوف؛ فتح الباري (13/ 16). [2] رواه الترمذي (2910)، والحاكم (1/ 555)، وصححه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (26) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل فَصْلٌ وَقَدْ أَيْضًا دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِهِ وبِكُتُبِهِ وَبِرُسُلِهِ الإِيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا يَشَاءُ الله سبحانه وتعالى. فَصْلٌ: هذا تفصيلٌ من الشيخ في المسائل التي وقع فيها الخلافُ الكبير بين أهل السُّنة والجماعة وبين المنحرِفين عنهم من أهل الأهواءِ والبدع في مسائل الصفات؛ كمسألة كلام الله، ومسألة عُلوِّه تعالى، وهذه المسألة؛ مسألة رؤية الله بالأبصار في الدار الآخرة. وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِهِ وبِكُتُبِهِ وَبِرُسُلِهِ: علاقة الإيمان برُؤية الله تعالى بالإيمانِ بالكتب والإيمانِ بالرُّسل مسألةٌ متعلِّقة بالصفات؛ متعلقة بالله؛ بأنَّ الله يُرى لأنه يتجلَّى، وعلاقتها بالإيمان بالكتب أنه جاء التصريح برؤية الله في الوحيينِ؛ في كتابه القرآن، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي وحيٌ ثانٍ، وقد دلَّت عليها أدلةٌ كثيرة؛ منها خمس آيات: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، وهي أصرحُ آيةٍ في القرآن في إثباتِ رؤيةِ الله عيانًا بالأبصار بثلاث اعتبارات: أولاً: أن الله أضاف النَّظر أولاً إلى الوجوه، والوجوهُ مُشتمِلة على العينين. وثانيًا: عدَّى النظَر بـ (إلى)، فقال: ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾، والنظر إذا تَعدَّى بـ (إلى) لم يحتمل إلا المعاينةَ بالبصَر. وثالثًا: أخلى الآيةَ عن قرينةٍ صارفة ومُعارِضةٍ لهذا المعنى. من آيات إثبات رؤية الله قولُه تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، وقد فسَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الزيادةَ بأنها النظر إلى وجه الله؛ كما في حديث صُهيبٍ عند مسلم. ومن الأدلة أيضًا قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 35]؛ فإن المزيد هو الزيادة، وهو النظر إلى وجهه تعالى. وقوله تعالى - في آيةِ سورة المطففين عن أهل سِجِّين -: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]؛ أي: يوم القيامة، فلما حُجِب أعداؤه في السُّخط دلَّ على أن أولياءه يرَونه في الرِّضا. ثم لَمَّا ذكر الأبرار أهل عِلِّيين قال: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾ [المطففين: 23، 24]، وهذه يُفسِّرها آيةُ القيامة ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]. والأحاديث قد بلغَت مبلغَ التَّواتُر، وعلاقة رؤية الله بالإيمان بالرسل لأن الرسل عليهم السلام أخبَروا أُممَهم بذلك، فَرَدُّ هذه الأحاديث تكذيبٌ للرسل، وهذا يَقدُح في الإيمان بالرسل. الإِيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ؛ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ: قوله: "عيانًا" يُخرِج الرؤيةَ القلبيَّة، والرؤيةَ المنامية، وقوله: "بأبصارهم" يُخرج رؤية القلوب؛ فهذا فيه التصريح بأنهم يرونه عيانًا، وساق لفظه كما جاء في حديث جرير وأبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهم: ((يَرَوْنَهُ كَمَا يَرَوْنَ الشمس صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، وَمِثْلَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ))[1] ، ومر شرحُ لا يُضامون، ولا يُضامُّون، ولا يُضارُّون على ثلاثة ألفاظ جاءت في الأحاديث. يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ، كَمَا يَشَاءُ الله سبحانه وتعالى. أي: إن كيفيَّة الرؤية لا نَعلمُها، وإنما على الصفة التي يَشاؤها الله، لكن أُخبِرْنا بأن المؤمنين يرَون الله فنؤمنُ بذلك؛ لا نتكلَّف، لا نتنطع، لا نتدخل فيما لم نُعطَ مِنه علمًا (الكيفيَّة)، أما الرؤية فنثبتها كما أثبتها الله لنفسه، وكما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم. ومَقامات رؤية الله ستَّة: رَاتِبُنَا مِنَ الرِّبَاطِ سِتُّ ♦♦♦ وَمَنْ يُرِدْ زِيَادَةً يُزَتُّ أوَّلاً: رؤية الله في الدنيا، وهذه ممتنعة؛ لضعف الرائي، لا لخفاء المرئي. وثانيًا: ورؤية الكافرين لله، وهي ممتنعة؛ لأن الله حجَبهم عنه: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]. ثالثًا: رؤية المنافقين، ويَرَون اللهَ في العرَصات، لكن رؤيةَ تحسُّر، لا يتنعمون فيها كما دلَّ عليها حديثُ أبي سعيدٍ الطويلُ وهو في الصحيحين. رابعًا: رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم لله ليلةَ المعراج، وهذه منتفِيَة؛ لم يَرَه بعينَي رأسه. خامسًا: رؤية المؤمنين لله في الآخرة في العرَصات أوَّلاً، ويوم يدخلون الجنة. وهذه ثابتة، وهي التي أنكرَها المنحرِفون. سادسًا: رؤية الله في المنام. انحرَف في الرؤية عدَّةُ فِرَق: أولاً: المشبِّهة الممثِّلة، وأثبتوا أن الله يُرى كما يُرى المخلوق، فهذا من تشبيهِهم وتمثيلِهم، وقولُهم باطل، وهو كفرٌ؛ لأنهم شبَّهوا الخالقَ بالمخلوق. ثانيًا: جمهور المعطِّلة من الجهمية والمعتزلة ومَن تبعهم من الإمامية والإباضية؛ فإن العلماء إذا قالوا: "الخوارج يُنكِرون الرؤية" فإنهم يريدون بهم الإباضية، أمَّا متقدِّمو الخوارج فلَم يُنكِروها؛ كالأزارقة، والصفرية، والنجدات؛ لم يُنكِروا رؤية الله، وإنما أنكرَها الإباضية لَمَّا تأثروا بالمعتزلة. فجمهور المعطلة ينكرون الرؤية، ويَذهبون إلى أنَّ الله لا يُرى. والأشاعرة قالوا: إن الله يُرى، لا في جِهة. فصاروا أُضحوكةً للمعتزلة؛ قالوا: كيف يُرى لا في جهة؟! الذي يُرى لا في جهة هذا مستحيل؛ لأنَّ الأشاعرة يَنفون عُلوَّ الله، فلا يُريدون أن يُثبتوا أن الله يُرى مِن فوق، فوقَعوا في التناقض. ونكَّت رحمه الله بقوله: "يرونه سبحانه وهم في عرصات يوم القيامة"؛ وذلك كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يَقُولُ اللهُ - جَلَّ وَعَلا - يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ؛ فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ يَتْبَعُ الشَّمْسَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْحَجَرَ يَتْبَعُ الْحَجَرَ، فَيَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهِمْ مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ بِصُورَةٍ غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهُ بِهَا)). وهذا فيه إثبات الصورة لله، وأن لله صورةً، وهي صفةٌ من صفاته، والصورة تأتي بمعنى الهيئة (مجموع الصفات)، والله تعرَّف إلينا بأسمائه وصفاته ((فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ لَسْتَ بِرَبِّنَا)). كما أنكَر الموحِّدون الدجَّالَ أن يَكون ربَّهم في الدنيا؛ لأنه أعورُ والله ليس بأعورَ، ((ثُمَّ يَأْتِيهِمْ بِصُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَهُ بِهَا (التي آمنوا بها) وَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا، إِلاَّ الْمُنَافِقَ يَبْقَى ظَهْرُهُ كَالْخَشَبَةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ))[2] وذلك تأويل قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ [القلم: 42، 43]. المقام الثاني: مقام رؤية الله في الجنة؛ يوم يجمعهم الله تعالى إلى يوم المزيد، وجاء في الأثر: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَرَى اللهَ فِي الْجَنَّةِ مَرَّتَيْنِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا)). فَصْلٌ وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، مِمَّا يَكونُ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَيُؤْمِنُ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ، فَأَمَّا الْفِتْنَةُ: فَإِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَيُقَالُ للرَّجُلِ: ((مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيُثَبِّتُ اللهَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ؛ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: اللهُ رَبِّي، وَالإِسْلامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم نَبِيِّيَ. وَأَمَّا الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ. فَيُضْرَبُ بِمَرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلا الإِنْسَانُ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصَعِقَ)). وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ: الإيمان باليوم الآخر أصلٌ من أصول الإيمان، وركنٌ من أركانه الستة، والإيمان باليوم الآخر هو الإيمانُ بما يكون بَعدَ الدنيا، والإيمان باليوم الآخر يتضمن الإيمان باثنتي عشرة مرحلة (مسألة) وهي: 1- الإيمان بأشراط الساعة؛ لأن أشراط الساعة من الإيمان باليوم الآخر. 2- الإيمان بالنَّفختَين: نفخة الصَّعق والفزَع، ونفخة البعث وقيام الناس لرب العالمين. 3- الإيمان بالبرزخ وما يكون فيه من الفتنة والعذاب والنعيم؛ كما صدَّرها الشيخ. 4- الإيمان بالحشر؛ حَشْر الأبدان، والأرواح، والأجساد لرب العالمين. 5- الإيمان بالشفاعات بأنواعِها، وأعظمُها الشفاعة العظمى. 6- الإيمان بالحساب، وهو تعريف الناس مقاديرَ أعمالهم. 7- الإيمان بتطاير الصحف؛ فمِن آخذٍ كتابَه بيمينه، ومن آخذٍ كتابه بشماله. 8- الإيمان بحوض النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الحوض المورود، ولكل نبي حوض. 9- الإيمان بالميزان. 10- الإيمان بالصراط، وهو الجسر المنصوب على متن جهنم. 11- الإيمان بالقنطرة بعد الصراط. 12- الإيمان بالجنة والنار. هذه هي مقتضَيات، أو مَراحلُ الإيمان باليوم الآخر؛ فالإيمان باليوم الآخر تضمن الإيمان بهذا كلِّه، ولأن هذا من الغيب، والغيبُ يَفتقِر إلى الوحي؛ فقد جاءنا ذلك في الوحي، ولهذا يسمِّي المتكلمون هذه المسائلَ - ما يتعلق بالقبر وأشراط الساعة وما يكون بعد الموت - بالسَّمعيات؛ لأنها مأخوذةٌ مِن السمع، لا مجال للعقل فيها. ومسائل العقيدة في تصنيفها عند المتكلمين ثلاثةُ أشياء: إلهيَّات، ونبوَّات وهو الإيمان بالأنبياء، وسمعيَّات وهو الإيمان بالأمور الغيبية؛ هكذا يقسمون العقيدة، أما أهل السُّنة فيقسمونها على أساس حديث جبريل، فليُفطَنْ لهذا، فإذا مرَّ علينا هذا من السمعيات، أو النبوات، أو الإلهيات - فإن هذا أصلُه اصطلاحُ المتكلِّمين، وليس اصطلاحَ أهل السُّنة السَّلفيِّين؛ السائرين على نهج السلف الصالح. قوله: ومن الإيمان باليوم الآخر: هذه (مِن) التبعيضيَّة. الإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَكونُ بَعْدَ الْمَوْتِ: وقال هذا القولَ مع أنه جاء في القرآن الإيمان بما يكون بعد الموت من إخراج الروح: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ [الأنعام: 93]، وقال في إثبات عذاب القبر: ﴿ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ﴾ [الطور: 47]؛ أي: قبلَ عذاب الآخرة. ودون ذلك في البرزخ؛ لأن مِن الكفار مَن مات في الدنيا وهو لم يُعذَّب لا بقتلٍ، ولا بغيره، ومثل قوله: ﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 45، 46]. الإيمان بكلِّ ما أخبَر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشمل القرآنَ والسُّنة، وأيضًا الإيمان بما أخبر به الرسول من حديثه؛ لأنه أخبرنا تفصيلاً بعد إجمالِ ما في القرآن؛ لأنه مر معنا أن السنة تفسر القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه. فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ: ومما يكون بعدَ الموت الفتنةُ في القبور، وهو السؤال، وعذابُ القبر ونعيمُ القبر على من يستحقهما، أما الفتنة فهذه لكلِّ أحد، إلا مَن جاء الشرع باستثنائِه، ومِنهم سعدُ بن مُعاذ رضي الله عنه؛ فقد جاء في الحديث: ((أَنَّهُ أُمِنَ الْفَتَّانَ)). ومنها ما رواه الإمام أحمد بإسناد جيد من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ لَيْلَتَهَا أُمِنَ مِنَ الْفَتَّانَ)). ومن هؤلاء ما روي في المسند والطبراني وغيرهما - والحديث محلُّ بحث عند أهل العلم -: ((أَنَّ مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ صَلاةً فِي مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم لا تَفُوتُهُ تَكْبِيرَةُ الإِحْرَامِ كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ الفَتَّانِ وَمِنَ النِّفَاقِ))؛ بمعنى أننا نصدق أن كل من استثناه النبي من الفتان فإنَّه يُستثنَى منه، وليس المعنى أنه لا يُسأل، بل يُسأل، لكن السؤال عليه لا يكون فتنة، وإنما يكون مثبتًا. فَأَمَّا الْفِتْنَةُ: فَإِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَيُقَالُ للرَّجُلِ: الفتنة في القبور هي السؤال مِن الملَكين العظيمين، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين قوله: ((إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ لتُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا))[3] وفي رواية: ((إِنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ)). وليس له مرادٌ خاصٌّ بأمته كما فَهِمه بعض المتكلمين، وإنما هذا لعموم الأمة؛ لأن الفتنة في القبر ثبتَت عند اليهود وعند النصارى، ومرَّ صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين وإذا هي تُعَذَّب، والفتنة لفظٌ عام؛ يشمل العذاب ويشمل السؤال، لكن هاهنا المراد به السؤال. ((مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيُثَبِّتُ اللهَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ. فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، وَالإِسْلامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم نَبِيِّي)). وهذه الأسئلة الثلاثة قد تواترَت بها الأحاديثُ تواترًا معنويًّا: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ ولأنها أسئلة عظيمة بَنَى عليها شيخ الإسلام رسالته العظيمة (ثلاثة الأصول)، مبنيَّةً على ما سيُسأل عنه الإنسان في قبره: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ وفي أهوال القبور يَذهب حِفْظُ الحافظ، وذكاء الذكي، وفطنة الفطين، وَلَمَاعَةُ الألمعي ولو كان في الدنيا مِن أحفظ الناس، وأذكى الناس، وأقدر الناس؛ لِما يراه عند خروج روحه من جسده من هول المطلَع، ثم في سؤال الملَكين يذهب معه كلُّ علمٍ حَفِظه، إلا مَن ثبَّته الله عز وجل؛ ولهذا جاء في قوله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾؛ أي: إنه يُسأل الآن في الدنيا بالنسبة إلينا وإن كان الميت قد مات وهو مقبورٌ ﴿ وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27]؛ أي: يوم القيامة في العَرَصات عند السؤال. وهذه الجملة التي ساقها الشيخُ إنَّما لَخَّصها من الأحاديث، وقد جاءت الأحاديثُ متواترةً بهذا المعنى، وأوسَعُها وأطولُها حديثُ البرَاءِ بن عازبٍ رضي الله عنه، الذي رواه بعضُ أهل السنن، ورواه أحمد، ورواه ابنُ حِبَّان والحاكمُ في صحيحيهما؛ قال البراء: انْطَلَقْنَا فِي جَنَازَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَبَلَغْنَا الْقَبْرَ وَلَمَّا يُلْحَدْ لَهُ، ثُمَّ جَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ عُودٌ يَنْكُثُ بِهِ الأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: ((اسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، اسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، اسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ))... ثم ذكَر الحديث بطولِه: ((إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي إِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ مَلائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ كَفَنِ الْجَنَّةِ، وَحَنَوطٌ مِنْ حَنُوطِهَا، فَجَلَسُوا عِنْدَ رَأْسِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ: يَا أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ))، قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((فَتَخْرُجُ رُوحُهُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ - أي: بكل سهولة - وَيَخْرُجُ مَعَهَا كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ وُجِدَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، فَإِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ لَمْ تَدَعْهَا الْمَلائِكَةُ فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَتَضَعُهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَذَلِكَ الْحَنُوطِ الَّذِي هُوَ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُرْتَفَعُ بِهَا فَلا يُمَرُّ بِهَا عَلَى مَلأٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلاَّ قَالُوا: مَنْ هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ؟ فَيُقَالُ: رُوحُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ؛ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُشَيِّعُهَا الْمَلائِكَةُ، حَتَّى يَبْلُغَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا، فيُفْتَحُ لَهَا، وَتُشَيِّعُهَا مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الْجَبَّارَ فَوْقَ عَرْشِهِ)). وهي في تشييع من ملائكة الرحمن كرامة وإكرامًا لروح المؤمن الموحِّد، ((فَإِذَا بَلَغَتْ تَحْتَ الْعَرْشِ يَقُولُ - جَلَّ وَعَلا -: أَعِيدُوا رُوحَ عَبْدِي فِي جَسَدِهِ؛ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيُقْعَدُ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، وَإِنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ مُشَيِّعِيهِ رَاجِعِينَ إِلَى أَهْلِيهِمْ))[4]؛ أي: بعدَما وارَوْه بالتراب؛ ولهذا قال عمرُو بن العاص رضي الله عنه عند احتضاره: إِذَا أَنَا مِتُّ، وَوَارَيْتُمُونِي فِي التُّرَابِ، فَامْكُثُوا عَلَى قَبْرِيِ قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا؛ أَسْتَأْنِسُ بِكُمْ وَأَنْظُرُ بِمَا أُرَاجِعُ رُسُلَ رَبِّي. دل على أن السؤال بعد الدفن مباشرة، وهذا معنى قولِه صلى الله عليه وسلم: ((سَلُوا لأَخِيكُمُ التَّثْبِيتَ؛ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ))؛ ولهذا يُستحب بعد الدفن الوقوف يسيرًا، وسؤال الله لهذا الميت المؤمن بالثبات. جاء في حديث البراء: ((فَيُسْأَلُ الْمُؤْمِنُ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ)). جاء في لفظ عند أبي داود، وعند الحاكم، وعند ابن حبان سؤال رابع: ((وَمَا يُدْرِيكَ؟))، وفي لفظٍ: ((وَمَا عِلْمُكَ؟))؛ أي: ما عِلمُك بما أجبتَ؟ ((فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ فَعَرَفْتُهُ. فَيُنَادِي مُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ: صَدَقَ عَبْدِي، فَافْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِها وَطِيِبهِا وَنَعِيمِهَا، ويُفْتَحُ لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ إِلَى النَّارِ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَنْزِلاً مِنَ الْجَنَّةِ. فَيَعْظُمُ عِنْدَئِذٍ سُرُورُهُ وَحُبُورُهُ، وَيَأْتِيهِ شَابٌّ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟! فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي لا يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ. فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. ويُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي. فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ))؛ لأن أهنأ ليلة ينامها الإنسان في الدنيا ليلة عُرسه، وهذا من باب التقريب بالتشبيه، لا من باب المطابَقة؛ فإنَّ المؤمن في قبره أهنأُ مِن هذه الليلة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ((وَأَمَّا الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ. فَيُضْرَبُ بِمَرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ، إِلا الإِنْسَانُ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصَعِقَ))[5].. الكافر والمنافق يُسأل: مَن ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ الكافر يقول: هاه! لا أدري. ولو كان من أذكى الناس، وأفطن الناس، رأى من هولات القبور ما لا قدرة له عليه، والمنافق الذي أظهر في الدنيا خلاف ما يبطن يَقُولُ: هَاه هَاه لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يقولون كذا وكذا. ومن المسائل في هذا أن السائلَين الملَكين اللَّذينِ يَسألان العباد يَختلفان، فهُما للمؤمن مِن ملائكة الرحمة، لكن للكافر والمنافق والفاجر مِن ملائكة العذاب؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الكافر: ((فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ مَهِيبَانِ، مَهِيلانِ، يَطَآنِ الأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا، أَعْيُنُهُمَا كَبَرْقٍ خَاطِفٍ، وَأَصْوَاتُهُمَا كَرَعْدِ قَاصِفٍ، فَيُقْعِدَانِهِ فَيَسْأَلانِهِ: مَنْ رَبُّكَ، وَمَا دِينُكَ، وَمَنْ هَذَا الرَّجُل الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟))... حديث البراء بن عازب. فرَّقَ بين الملَكين في وصفِهما، فلم يَذكُر هذا الوصفَ في المؤمن وذكَره في الكافر؛ ولهذا جاء في الأحاديث الأخرى أن الملكين اللذين يسألان الكافر والمنافق والفاجر يُقال لأحدهما: مُنكر. ويقال للآخر: نكير. وهذان الاسمان يَدُلان على عظمتهما، وعلى شناعتهما، وعلى عظيم هيبتهما. فيصيح الكافرُ صيحةً عند ضربه تَسمعُها مخلوقاتُ الله إلا الثَّقلَين الإنس والجن، ولهذا نلاحظ أن المقابر لا يكون حولها كثير من البهائم، وإنما تفزع منها؛ لأنها تسمع ما لا يسمعه الإنس والجن المكلَّفون. [1] رواه البخاري ( 7437، 7439، 554، 573 )، ومسلم ( 182، 183، 633 ). [2] رواه البخاري (4581)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [3] رواه مسلم (2867)، وأحمد (5/ 190)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. [4] رواه أحمد (4/ 287 - 295 - 296)، وأبو داود (4753) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. [5] رواه الإمام أحمد (4/ 287)، وأبو داود (4753)، وصححهما ابن خزيمة في كتاب التوحيد، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (27) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ إِمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، إِلَى أَنْ تَقُومُ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأَجْسَادِ، وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً، عُرَاةً، غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيَلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ، وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ: ï´؟ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ï´¾ [الأعراف: 8، 9]، وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ (وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ)، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ، وَمِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى: ï´؟ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ï´¾ [الإسراء: 13، 14]. وَيُحَاسِبُ اللهُ الْخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وأَمَّا الكُفَّارُ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لا حَسَنَاتٍ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالَهُمْ فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا، وَيُقَرَّرُونَ بِهَا، وَيُجْزَوْنَ عَلَيْهَا. ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ إِمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ: هذه كما جاءت في الأحاديث مصرَّحًا بها، وجاءت في القرآن. وأحوال الناس في القبور بعد السؤال ثلاثٌ: الحال الأولى: إما نعيم دائم، وهو مُتفاوتٌ فيهم بتفاوت إيمانهم وهؤلاء المؤمنون. الحال الثانية: وإما في عذاب دائم، ويتفاوتون فيه تفاوُتَ كفرهم؛ فإن المنافق أشد من عامة الكفار، وهذه المسألة هي التي يبحثها العلماء بمستقر الأرواح بعد الموت، وأين مستقَرُّها بعد الموت وهي في هذه المضامين. الحال الثالثة: وإما في عذاب منقطِع، وهم أصحاب الكبائر والذُّنوب؛ إذا شاء الله أن يُعذَّبوا بها في البرزخ فيُعذبون على قدر ذلك؛ كما جاءت الأحاديث في أخبار الزواني والزُّناة، وآكل الربا، وشارب الخمر، ومن يكذب الكذبة مِن بيته فتطير بالآفاق، والنائم عن الصلاة المكتوبة... وغيرها مما جاءت بهم الأحاديث بأنهم يُعذبون في برزخهم، وهذا العذاب منقطع بحسب ذنبه وكبيرته، ليس كالكافر دائمًا أبدًا سرمديًّا؛ ولهذا فمِن أسباب تكفير الذنوب ما يُلاقيه المؤمنُ عند سكرات الموت، وما يلاقيه في قبره، وما يلاقيه في الدنيا الأسباب العشرة التي ذكَرها ابنُ القيم، ونقلها عنه شارح الطحاوية. إِلَى أَنْ تَقُومُ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأَجْسَادِ، وَتَقُومُ السَّاعَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ: الشيخ رحمه الله ما ذكَر النفختين من باب الاختصار والإجمال، وإلاَّ فإن هناك نفختَين: نفخةً أولى طويلة، أوَّلها فزَع وآخرها صَعق، وبهذا تجتمع النصوص في قوله تعالى: ï´؟ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ï´¾ [النمل: 87]، وقال: ï´؟ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ï´¾ [الزمر: 68]، فسمَّاها فزَعًا وصعقًا؛ لأنها نفخةٌ طَويلة، وهذا له مَثلٌ يُقاربه الآن وهو الأبواقُ العالية كأجراس التحذير؛ فإنها أول ما تبدأ خفيفة، ثم بعد ذلك تكون مشتدة، فهذا يقارب نفخة الصُّور الأولى؛ أولها خفيفة فزع يَفزَع منها الخلق.. فهُما نفختان، وبعض أهل العلم عَدَّها ثلاثَ نفخات: صعق، وفزَع، وبعث. وهذا ليس بتحقيق، فالمحقِّقون على أنها نفختان: النفخة الأولى: نفخة الفزع. أولها فزع - وآخرها صعق، ثم النفخة الثانية: نفخة البعث، وقيام الناس لرب العالمين، وبين النفختين أربعين؛ قيل لأبي هريرة: أَرْبَعِينَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قِيلَ: أَرْبَعِينَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قِيلَ: أَرْبَعِينَ عامًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ؛ أي: لا أعلم. حديث في الصحيحين. والموكَّل بالنفخ هو ملَك واحد، وهو إسرافيل، وليس له إلا هذه الوظيفة؛ جاء في الحديث أن إسرافيل ((عَيْنُهُ عَلَى الْبُوقِ وَالْعَيْنُ الأُخْرَى عَلَى عَرْشِ الرَّحْمَنِ؛ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ))، وهو بُوقٌ عظيم، وسورٌ كبير، لا نعلم وصفَه ولا كيفيته، وهو مِن مخلوقات الله. النفخة الثانية هي نفخة البعث، ينفخ فيه فتطير الأرواح، وتنزل على أجسادها التي خرجَت منها بعدما يُنْزِل الله على الأرض مطرًا كماء الرجال، وتَنبُت منه أجسادهم من عَجْب الذَّنَب؛ أي: من رأس العُصعُص، فتكون أجسادًا لا أرواح فيها، فيأمر الله إسرافيل، فينفخ في الصور، فتطير الأرواح على أجسادها، فيخرجون كأنَّهم جراد منتشر، وهذا الوصف جاء في القرآن تفصيلاً بما لم يأتِ في الكتب السابقة؛ لأن آخر الأنبياء نبيُّنا، وآخر الكتب المنزَّلةِ القرآن، فجاء بوصف القيامة فيه بما لم يأتِ وصفُه في كتُبِ مَن قبله، ولهذا قال الفلاسفة: إنه لم يُصرِّح بالمعاد وبعث الأجساد إلا محمد؛ لأن البيان جاء - في شَرعه، وفي قرآنه الذي أُنْزِلَ عليه - أعظمَ مما جاء في الكتب السابقة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْقِيَامَةِ رَأْيَ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: ï´؟ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ï´¾ [التكوير: 1]، وَلْيَقْرَأْ: ï´؟ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ï´¾ [الانفطار: 1]، وَلْيَقْرَأْ: ï´؟ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ï´¾ [الانشقاق: 1]. والإيمان باليوم الآخر دلَّ عليه القرآن، ودلت عليه السُّنة في أحاديثَ كثيرة، ودل عليه إجماع أتباع الرسل جميعًا، كلُّ نبي أخبر أمَّته بالبعث، حتى آدم: ï´؟ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ï´¾ [البقرة: 36]؛ إلى أجَل، فليس دائمًا أبدًا سرمديًّا، وإنما إلى أجَل، ودل عليه العقلُ ودلت عليه الفطرة. فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ وَيَلْجَمُهُمُ الْعَرَقُ: أي: لا أحذيةَ تَحتَهم، عُراة ليس عليهم مِن ألبستهم شيءٌ كما ولَدَتهم أمَّهاتهم، غُرلاً مِن آثار الوضوء؛ علامات الوضوء في أطرافهم نور: ((إِنَّ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُبْعَثُونَ غُرْلاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ)). تَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ - والروايات اختلفَت فقيل: إنها على قدر ميل. وقيل: على قدر ثلاثة أميال - وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ))؛ أي: يتَصبَّبون عرقًا، حتى جاء في الحديث: ((إِنَّ الْعَرَقَ يَنْزِلُ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا))، ثم يتفاوَت بعد ذلك حسَب الإيمان، فمِنهم مَن يبلغ كعبَيه، ومنهم من يَبلغ رُكبتَيه، ومنهم مَن يَبلغ حِقوَيه، ومنهم من يبلغ ثديَيه، ومنهم من يُلجمه (يُغرِقه) العرقُ إلجامًا. وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ ï´؟ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ï´¾ [الأعراف: 8، 9]، وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى: ï´؟ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ï´¾ [الإسراء: 13، 14]. مما يكون يوم القيامة كشفُ الدواوين، وهي الصُّحف الْمُنَشَّرة، المعطاة كلاًّ بيمينه أو بشماله أو مِن وراء ظهره، وآخذها باليمين هو المؤمن السعيد، وآخذها بشماله أو من وراء ظهره هو الكافر الشقي، وهذه الصحف فيها كل شيء، أُحْصِيَ على الإنسان: عُدَّ، وكُتِبَ عليه: ï´؟ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ï´¾؛ أي: ما عمله أحصي عليه وعُدَّ، ï´؟ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ï´¾ [الإسراء: 13، 14]؛ يقول تعالى في الحديث القدسي من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه: ((يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ، أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ الْخَيْرَ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ))[1]. وهذه الكتب عدَّ فيها العادُّون، والكرامُ الكاتبون كلَّ شيء، حتى عَزْمه ونيَّته في قلبه، تُكتب له؛ لأن الله وصَف ملائكته بقوله: ï´؟ كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ï´¾ [الانفطار: 11، 12]. ومما يدل على نشر الدواوين - وهي صحائف الأعمال - حديث البطاقة، وهو الحديث الذي رواه أحمدُ بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((يُنْشَرُ رَجُلٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ، فَتُخْرَجُ لَهُ سِجِلاَّتٌ تِسْعٌةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ، وَقَدْ أُحْصِيَ فِيهِ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍ)) وهذه السجلات فيها شر سيئاته وذنوبه ((فَيُقَرَّرُ إِيَّاهَا فَيُقُّر، فَيَقُولُ اللهُ: أَظَلَمَتْكَ مَلائِكَتِيَ الْكَتَبَةُ؟ يَقُولُ: لا، يَا رَبِّ)) يتذكر الوقت الذي نسيه، وغفل عنه في الدُّنيا ((فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ لَكَ مِنْ حَسَنَةٍ؟ فَيَطِيشُ، وَيَنْسَى حَسَنَتَهُ مَعَ هَذِهِ السَّيِّئَةِ الَّتِي عُدَّتْ وَأُحْصِيَتْ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: لا - يَا رَبِّ - لَيْسَ لِي مِنْ حَسَنَةٍ. فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: إِنَّكَ لا تُظْلَمُ. فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) فِيهَا ذِكْرُ اللهِ، ((وَيُؤْتَى بِالْمِيزَانِ)) [2]، وهذا من دلائل أهل السنة أن الميزان له كِفَّتان كما جاء عن ابن عباس أنه قال: الْمِيزَانُ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ. واللسان الذي يبين رجحان هذه على هذه ((وَيُؤْتَى بِالسِّجِلاَّتِ، فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ، وَتُوضَعُ الْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَتَطِيشُ الْبِطَاقَةُ باِلسِّجِلاَّتِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ)) قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((وَلا يُثْقَلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ)). هذا نشر الصحف والدواوين، وهناك نشرٌ آخر، لكنه لا يخرج عن هذا المعنى، وإنما هو من قبيل اختلاف التنوع، روى الطبراني وغيره عن النبي أنه قال: ((يَنْشُرُ اللهُ جَلَّ وَعَلا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاثَةَ دَوَاوِينَ: فَدِيوَانٌ لا يَغْفِرُهُ اللهُ وَهُوَ الشِّرْكُ بِهِ، وَدِيوَانٌ لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ، وَهُوَ مَا سِوَى الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَدِيوَانٌ لا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ ذُنُوبِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ))[3]. ومما يكون بعد هذا الحساب قال: وَيُحَاسِبُ اللهُ الْخَلائِقَ: أي: إنه تعالى يُعَرِّفُهم أعمالهم ومقاديرها عَمِلْتَ كذا وعملت كذا، ومن الحساب المناقشة، وفي الحديث: ((مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّب)) [4]، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: ï´؟ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ï´¾ [الحاقة: 18]، فَقَالَتْ: أَلَيْسَ هَذَا الْحِسَابُ؟ قَالَ: ((لا يَا عَائِشَةُ، هَذَا الْعَرْضُ؛ تُعْرَضُ عَلَى النَّاسِ أَعْمَالُهُمْ، وَصُحُفُهُمْ، وَكُتُبُهُمْ، مَنْ أَخَذَهَا بِيَمِينِهِ، أَوْ بِشِمَالِهِ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ))؛ لأنَّ هناك مَن يُكابر، ويعاند، ويكذب، وتكون أحوالهم متفاوتة، منهم من يكابر فيُقرَّر، ثم يُقِر، ومنهم من يستمر في عناده ومكابرته حتى يُختم على فيه، وينطق لسانه بما قال، وجوارحه كلها تتكلم؛ لأن في ذلك المقام يحاول أن يتخلص بأدنى مخلِّص، ولن يُخلِّص من ذلك الموقف إلا توحيدُ الله، والإيمانُ به، وما قدَّمه الإنسانُ مِن عمل صالح يُرضي ربَّه تعالى. ومن الحساب الوزنُ؛ وزن الأعمال، وقد جاءت الأدلة - كما ساقها الشيخُ - وغيرُها من الأدلة أن الذي يوزَن العمل كما يوزن العامل: ï´؟ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ï´¾ [الأنبياء: 47]؛ فهي موازينُ وليس ميزانًا واحدًا، وقوله: ï´؟ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ï´¾ [المؤمنون: 102، 103]، وقال: ï´؟ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ï´¾ [القارعة: 5 - 9]؛ أي: مأمومة رأسه. فالمأمومةُ هي أصل الرأس في الهاوية. وقد جاءت الأحاديث أنه يوزَن العمل مع عاملِه، ومِمَّا جاء في ذلك ما رواه البخاريُّ وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالرَّجُلِ الْعَظِيمِ السَّمِينِ، فَلا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: ï´؟ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ï´¾ [الكهف: 105])). ومما جاء في الصحيح: أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه رَقَى عَلَى شَجَرَةِ أَرَاكٍ يَجْنِي عُودًا مِنْ أَرَاكٍ، فَكَفَأَتِ الرِّيحُ عَنْ سَاقَيْهِ، فَضَحِكَ الصَّحَابَةُ، وَتَعَجَّبُوا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((مِمَّ تَضْحَكُونَ؟)) قَالَ: قَالُوا: مِنْ دِقَّةِ سَاقِ عَبْدِاللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((إِنَّهُمَا لأَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ))[5]. فدلَّ الحديثان مع النصوص الأخرى على أن الوزن يوم القيامة يكون للأعمال، ويكون للعاملين. وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ: ومما يكون يوم القيامة إذا حاسب الله الخلائقَ شأنٌ لله مع عبدِه المؤمن، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ أن الله تعالى يُدْني عبده، فيخلو به، فلا يَسمع حديثَهما غيرُهما، فيقرر الله عز وجل عبدَه المؤمن بذنوبه، فيقرُّ العبد بذنوبه، يقول الله: عبدي، فعلتَ كذا وكذا وكذا؛ لا يَفضَحُه الله، وإنما يستره في ذلك المقام المشهود، لا يفضحه بعمَلِه، وإنما يقرره: فعلتَ كذا: يقول: نعم - يا رب - فعلت كذا. فتزداد مِنَّة الله، وتَعْظُمُ على عبده، فيقول: يا عبدي! ستَرتُها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك الآن. وهذا للمؤمن الموحِّد؛ كَرامةً من الله له لا لغيره، ولو أذنب ولو فعَل ما فعَل، خَلا الشِّرك بالله؛ فإن رحمة الله تسَعُه، ولهذا إذا قرَّر الله عبده في ذلك المقام أقر العبد، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ))[6]، يُقرُّ العبد بهذا، فإذا أقرَّ وقرَّره ربُّه ذلك واعترف، أتم سبحانه ستره في الآخرة، فلم يفضَحْه على رؤوس الخلائق، ولا في ذلك الموقف الرهيب العظيم، وإنما يُتم عليه ستره ورحمته كما ستره عليه في الدنيا، فنسأل الله الكريم من فضله. كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أي: إننا نؤمن بهذا الذي أخبرَنا به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق به إلا من وحيٍ يوحيه الله إليه. وأَمَّا الكُفَّارُ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لا حَسَنَاتٍ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا، وَيُقَرَّرُونَ بِهَا، وَيُجْزَوْنَ عَلَيْهَا: عرَفْنا حال المؤمن في أمر الحساب والمُجازاة، أمَّا الكافر فلا يُحاسَب محاسبةَ مَن توزن حسناته وسيئاته، والمؤمنون على أنواع في يوم القيامة؛ فمِنهم مَن لا سيئات لهم؛ قد مُحِيَت وغُفِرَت - ويا سَعْدَ هؤلاء - ومنهم من لهم حسنات وسيئات فهؤلاء تحت مشيئة الله، إذا كانت سيئاتهم دون الشرك فإما أن يعفو عنهم، وإما أن يعذبهم، مع تحقق الوعيد المجمَل أنه لا بد أن يمسَّ العذابَ طائفةٌ مِن أهل الوعيد مِن أهل الكبائر، وأما مَن هم هؤلاء؟ فالله أعلم، لكن لا بد أن يتحقق فيهم وعيدُه؛ لأن الله لا يتخلف وعدُه ولا وعيدُه، ومنهم مَن تدخل أعماله تحت الموازَنة بين حسناته وسيئاته؛ ولهذا جاءت الأحاديث بأنه: ((وَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ آحَادُهُ عَشَرَاتِهِ))؛ غلبَت سيئاتُه كَثرةً حسناتِه قِلةً، وهذا ممن يمَسُّه الوعيد المجمل وهو العذاب. الكفَّار ليس لهم حسنات تَبقى يوم القيامة، قد يكون لهم حسناتٌ في الدنيا؛ صِدقٌ في الحديث، وفاءٌ بالعهد، بِر، صدقة، عدم ظلم... لكنهم يُجازَون عليها في الدنيا، فلا يموتون إلا وقد وُفُّوا حسناتهم التي عَمِلوها، فإذا قَدِموا على الله فليس عندَهم حسنات ترجح مع سيئاتهم، ليس إلا السيئات المحضة، ويدل عليها قولُ النبي صلى الله عليه وسلم - لما ذكر له عمر حال كسرى وقيصر، وحال الفرس والروم فيما هم فيه من أسباب النعيم - قال: ((يَا عُمَرُ، أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةَ؟ أُولَئِكَ أَقْوَامٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ حَسَنَاتُهُمْ، وَنَحْنُ أَقْوَامٌ أُخِّرَتْ لَنَا حَسَنَاتُنَا))؛ ولهذا كان السلف الصالحون والعباد إذا رأَوا أسباب نِعم الله عليهم مُتوارِدَة خافوا من هذا، وخَشُوا أن تكون الحسناتُ قد عُجِّلَت لنا، وأن تكون سيئاتنا ومظالمنا قد أخرت علينا. الكفار ليس لهم حسنات، وإنما تُعد عليهم سيئاتهم، وتُحصى ويُقَرَّرُون، فمنهم مَن يقر، ومنهم من يكابر، ومنهم من يعاند، ومنهم من يتهم الملائكة الكتبة، ومنهم من لا يقبل إلا شهيدًا على نفسه مِن نفسه، فيُنطِق الله جوارحَه عليه، فيقول: تبًّا لكنَّ الدهرَ كلَّه؛ فعَنكنَّ كنتُ أدافع! فهؤلاء إذا قُرِّروا بأعمالهم، وأوقفوا عليها ولم يُنكِروها جوزوها بها عندئذ، ولهم النار السَّرمدية الأبدية، لا يخرجون منها، وهؤلاء الكفار على اختلاف كُفرِهم ودركات كفرِهم. [1] تقدم تخريجه، رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه. [2] رواه أحمد (2/ 213)، والترمذي (2639)، وابن ماجه (4300) وغيرهم، من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. [3] تقدم تخريجه. [4] رواه البخاري (6537)، ومسلم (1016). [5] رواه أحمد (1/ 421). [6] تقدم تخريجه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (28) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ: الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَنْ يَشْرَبْ مِنْهُ شَرْبَةً لا يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا. وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّم - وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّم؛ فَإِنَّ الْجَسْرَ عَلَيْهِ كَلالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ: العرصة والعرصات هي مواقف القيامة، والقيامة على أرض الشام، لكنها أرض كالزلفة، ليس فيها هضاب، ولا أودية، ولا مرتفعات، ولا منخفضات، وإنما صعيد واحد ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [إبراهيم: 48]، وفي هذا الموقف العظيم تحصل هذه الأهوال، هذه العرصات. الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ: وفي ذلك الموقف من مراحله الحوض المورود، والحوض مجمع الماء، والمورود الذي يرده الواردون، ولكل نبي حوض كما جاء في الحديث: ((وَحَوْضُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُهَا، وَحَوْضُ صَالِحٍ حَوْضُ نَاقَتِهِ)). الحوض جاء في القرآن في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1]، والكوثر نهرٌ أعطاه الله نبيَّنا في الجنة، يصب منه ميزابان عظيمان إلى حوضه، وجاءت السنة المتواترة، حتى إن أحاديث الحوض نافت على ستين حديثًا، عُنِيَ بها علماء السلف، وجمعوها، وحققوها، جاء من أوصافه: أَنَّ مَاءَ حَوْضِهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَشَدُّ حَلاوَةً مِنَ الْعَسَلِ، وَأَشَدُّ بَرْدًا مِنَ الثَّلْجِ مِنْ غَيْرِ مَا ضَرَرٍ، وَأَنَّ عَلَى الْحَوْضِ كؤوسًا وكيزانًا، لا إِحْصَاءَ لِعَدَدِهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((بِعَدَدِ نُجُوم السَّمَاءِ))[1] ؛ أيْ: كَثرةً؛ لئلا يظنَّ الظانُّ أنه سيُشاحُّ في هذه الكؤوس والكيزان، وأن هذا الحوض طويلٌ مربع، طوله كعَرضه، جاء في الروايات: ((طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ)). وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بُصْرَى)). وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَيْلَةَ))[2] ؛ إلى بيت المقدس، وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُمَانَ، أَوْ إِلَى صَنْعَاءَ)). كل الأحاديث التي جاءت فيها متفاوتة في ذكر الحدود، لكن تفيد أنه حوض طويل واسع، وهذا مما تواترَت به السُّنة، وأجمع عليه أهلُ السنة، ولكن في ذلك المقام الذي هو أشد ما يكون رهبة، وخوفًا، ووجلاً، وعظمة، وعطشًا، يَرِدُ الناسُ الأحواض، أقوامٌ مِن هذه الأمة سيُذادون؛ بمعنى أنهم يُمنعون مِن وُرود الحوض، جاء في الصحيحين قولُه صلى الله عليه وسلم: ((فَيُذَادُ بِأَقْوَامٍ مِنْ أُمَّتِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي، أُمَّتِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ))؛ أي: غيَّروا، وبدلوا من دينك، وسُنَّتك، ((فَأَقُولُ: بُعْدًا بُعْدًا لِمَنْ أَحْدَثَ بَعْدِي))[3] ، فأفاد الحديث أن المبتدع بأي: إنواع البدع سواء بالقول، أو بالاعتقاد، أو الفعل، أو في المكان، أو في الزمان، أو في الحال، أو الهيئة أنه متوعد بأنه لا يرد حوضه صلى الله عليه وسلم ويُمنع منه؛ لتبديلِه سُنةَ النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تحقيقٌ قاعدة: الجزاء من جنس العمل؛ كما قال تعالى: ﴿ جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 26]؛ وذلك أنه لَمَّا بدَّل أو غيَّر في سُنته صلى الله عليه وسلم ما بدل وغيَّر إلاَّ اتباعًا لهواه وشهوته، واتباعًا لجماعته وحزبه كان الجزاء أن يُمنع أن يرد حوضه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يرده إلا المستمسك بسنته. وقد زعمَت الرافضة أن هذا الحديث دليلٌ على أن الصحابة كفروا؛ لأنه جاء في بعض الألفاظ: ((أَصْحَابِي، أَصْحَابِي))[4] ، وجاء في أكثر الألفاظ في الصحيحين - بعد تتبُّعي -: ((أُمَّتِي، أُمَّتِي))، فظَنوا بذلك - مِن قبيح مذهبهم - أنَّ الصحابة كفَروا، وهم أولى وأخلَقُ أن يكونوا ممن يُمنَعون ويُذادون عن الحوض؛ لأنهم أعظم الناس تغييرًا وتبديلاً لدينه وسنته صلى الله عليه وسلم. وقوله في بعض الألفاظ: ((أَصْحَابِي أَصْحَابِي)) هذا اللفظ لا يردُّ اللفظ الآخر، فيُفهم بمجموعه؛ لأن الإطلاق العام في صحبة الأتباع، فأصحاب الرجل أتباعه، سواء ممن أخذوا عنه، أو ممن أخذوا عمن أخذوا عنه، كما أن الشيعة أتباعه؛ ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴾ [الصافات: 83]، على أنَّ أكثر الألفاظ في الصحيحين قوله: ((أمتي أمتِي)). الحوض والأحواض التي تكون في العرصات، والميزان والوزن الذي يكون فيها مما أنكرته الجهمية والمعتزلة، حتى قال قائلهم - ويا سُخفَ ما قال، وسذاجتَه، وبلادته! -: إن الميزان لا يَحتاج إليه إلا الفوَّالُ والبقال! وكذَّبوا ما جاء عن اللهِ وعن رسول الله، وهذا نتاج تدخل العقول في الغيبيات، كما أنكروا عذاب القبر ونعيمَه، فقالوا: إذا فتحنا القبور ما وجَدنا لا عذابًا ولا نعيمًا. فأنكروا هذا العالَم الغيْبِي، الذي هو غير محسوس لنا إلا ما أظهره الله لنا، قال تعالى في عذاب القبر ونعيمَه: ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100]، الدنيا والآخرة وبينهما البرزخ وهو القبر، ففي الدنيا يكون العذاب والنعيم على الأبدان، والأجساد، وقد يلحق الروحَ شيءٌ من ذلك، وفي القبر يكون العذاب والنعيم على الروح، وقد يصيب الجسدَ بعضٌ من ذلك، أمَّا الدار الآخرة فهي أكمل الأدوار، والعذاب والنعيم على الروح والجسد جميعًا؛ لأنها أكمل الحياة: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]؛ أي: لهي الحياة الكاملة، التي لا نقص فيها. فهؤلاء منكِرون لما يكون في البرزخ. وممن أنكره مِن الفلاسفة، الذين أنكروا أن يكون البعث كله، كذلك أنكره المشركون والملاحدة، فلاسفة المسلمين؛ كابن سينا، والفارابي، والكِنْدي وأضرابِهم؛ قالوا: إن البعث للأرواح لا للأجساد؛ ليقربوا بين الفلسفة وبين الشريعة، وأنى لهم ذلك؟! أما أهل الإثبات - أهل السنة، أهل القرآن - فإنهم مُصدِّقون بما جاء في كتاب الله، وما صح عن رسول الله من أمور المعاد، لا ينكرونه وإن لم تَبلُغه عقولهم ومَداركهم؛ شأنهم سمعنا وأطعنا، وحالهم أسلَمْنا وأذعَنَّا، وكانوا بهذا أحسنَ دينًا مِن أولئك. وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّم - وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ: مِن مراحل اليوم الآخر: الصراط، وهو ذلك الجسر المنصوب على متن جهنم، الذي هو أدقُّ مِن الشعر، وأحدُّ مِن السيف، وهو معوجٌّ ومظلم، ودَحضٌ، وعليه كلاليبُ أُمِرَت بخطف أقوام، والناس يمرون عليه كما نطقَت بذلك الأخبار الصادقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يمرون بحسب أعمالهم؛ أي: بحسب إيمانهم. وأحاديث الصراط من أدلة أهل السنة في أن العمل مِن الإيمان؛ لأن في غالب الأحاديث يقول صلى الله عليه وسلم: ((فَيَمُرُّ النَّاسُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ))، فدل على أن العمل من الإيمان؛ ولهذا عبَّر بالعمل عن الإيمان. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ: أي: سرعة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ: مثل أجاويد الخيل؛ الخيلُ الجياد السريعة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّم[5]: ومنهم من يمر مثلَ أجاويد الركاب؛ أي: الإبل. ومنهم من يمر يَعْدو عدْوًا، ومنهم من يمر يَسعى سعيًا - والعدوُ أعظمُ من السعي وأسرعُ - ومنهم من يمر يمشي، ومنهم من يمر يحبو - والحبو جاءت فيه بعض الأحاديث - ومنهم من يمر يُقدِّم رجلاً ويؤخِّر أخرى، وهذا أضعف مَن يمر على الصراط، وقد ذكر النبيُّ في الحديث عند أحمد وغيره: ((أَقَلُّهُمْ رَجُلٌ إِذَا أَضَاءَ لَهُ فِي إِبْهَامِهِ نُورٌ قَدَّمَ رِجْلاً، فَإِذَا أَخْفَتَ وَقَفَ))؛ لأن الصراط مُظلِم؛ حيث إنه على متن جهنم. فَإِنَّ الْجَسْرَ عَلَيْهِ كَلالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ[6]: وعلى الصراط حسَكٌ وكلاليبُ، والحسَكُ أصله نوعٌ من أنواع الشوك، يُشبه شوك السَّعدان، الذي يَكثُر الآن في الصَّحاري والبراري من نتاج الربيع، والكلاليب معروفة، وهي ما تُقَيَّد به الأرجل، وما يُصاد به الصيد، قد أُمِرَت بخطف رجال؛ بخطف أناس، والنبي عند أدنى الصراط رافعٌ يديه، يقول: ((اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ))، قال صلى الله عليه وسلم: ((فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَكْدُوسٌ مُكَرْدَسٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)). والصِّراط (الجَسر المنصوب على متن جهنم) جاء ذِكرُه في القرآن في قوله: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71، 72]؛ أي: يَجْثون على رُكَبِهم، وهو مذكورٌ على سبيل الإشارة لا التصريح فيما يقَع بين المؤمنين والمنافقين يوم يُضرَب بينهم بسُور؛ ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]؛ وذلك أن المنافقين يَتبعون المؤمنين في عرَصات القيامة حتى إذا أقبَلوا على الصراط سبَقهم المؤمنون سبقًا. وبعضُهم استدل على الصراط بقوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، وهذا الاستدلال ليس بالقويِّ من عدة جهات: أُولاها: أن الصراط المستقيم في آية الفاتحة هو دين الله القويم، وهو الإسلام الذي مَن استمسَك به فهو مهديٌّ لأنه قال في بدله بعد ذلك: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]، فدلَّ على أن الصراط المستقيم هو صراط الإسلام، غير طريق اليهود وغير طريق النصارى بعد التبديل. ثانيها: هناك مَن يعبر على الصِّراط فيَنجو، وهناك مَن يمر على الصراط فيَكْبو وهو مِن المؤمنين، لكنه أكباه ضعفُ عمَلِه، وطالِحُ كسبِه، ومعلومٌ أن المهديَّ الصراطَ المستقيمَ لو كان المراد به الجَسْر على متن جهنم لكان عابرًا، ومن المؤمنين من أصحاب الذنوب مَن يخبو ويكبو، فيكون في جهنَّم على قدر سيئته، فدل على أن الصراط المستقيم هو الإسلام، وليس الجسر على متن جهنم. ثالثُها: أن الصراط على متن جهنم ليس مُستقيمًا وإنما مُعوجٌّ ودحض. رابعُها: أن مَن هُدِيَ إلى الصراط المستقيم - وهو دين الله القويم - فسيُهدى على الصراط برحمة أرحم الراحمين، وبسبب ما يُقدِّمه من عملٍ صالح. وأما آية مريم فقد استدل بها السلف - عائشةُ وأبو هريرة وجابرٌ وغيرهم رضي الله عنهم - على أنَّ المراد به هو الجَسْر على متن جهنم؛ ولهذا كان كثيرٌ من السلف - من الصحابة ومن التابعين ومَن بعدهم - إذا مرَّ على هذه الآية يخشع لِمَا قام في قلبه من الخشية، ويقولون: "أَنَّى لَنَا الصُّدُورُ بَعْدَ الْوُرُودِ!" الورود في قوله: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ﴾ [مريم: 71]؛ أي: وُرودُهم على متن جهنم؛ لأن الصراط على مَتنِها، وهذا دليلُ أهل السنة على أن الصراط على متن جنهم، جَسْر على متنها، فيقولون: "مَنْ يَضْمَنُ لَنَا الصُّدُورَ"؛ أي: النجاة "بعد الورود"؛ فإنَّ الله ذكَر الورودَ وأنَّ كلاًّ سيَرِدُها، لكن لم يَضمَنْ سبحانه وتعالى بالورود إلا للمؤمنين: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا ﴾؛ أي: محتومًا ﴿ مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71]؛ مبرَمًا في قضائه القدَريِّ والشرعي، ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]، وهذا يدل على ما كان عند السلف من كمال الخشية لله تعالى، وعدم الاغترار بأعمالهم وإن عَظُمَت، في مُقابل الخلَف الذين أُعجِبوا بأعمالهم القليلة، وتفريطهم الكثير، وعَظُم عندئذ رجاؤهم في رحمة الله[7]. والصِّراط دلت عليه الأحاديث المتواترة فيه تواترًا معنويًّا، وأجمع عليه أهل السُّنة، وخالف فيه طوائفُ من الجهمية والمعتزلة؛ فإنهم خالفوا في هذا الصراط، وعمدُة هؤلاء المنكِرين له أن الصراط لم يُذكَر في القرآن وإنما جاء في أخبار الآحاد، وهذه مطيَّتهم العَفِنة في ردِّ الأمور الغيبية التي لا توافق مَعقولاتهم، وإلا فإنه قد تواترَت فيه الأحاديثُ تواترًا معنويًّا، وليست على شرطِهم بأنها أخبارُ آحاد. ومما جاء في وصف الصِّراط أنه دقيق؛ أحَدُّ مِن الشعر، وأدقُّ من السيف، وأنه دَحْض، وأنه مُظلِم، وأن الناس يَعبُرون عليه على قدر إيمانهم. ومما يجب أن يُنْتَبه له أنَّ مِن أسباب الجُثِيِّ مِن على الصراط على وجوههم كما قال الله: ﴿ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]، إنَّ مِن أسباب ذلك ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه الطويل، لما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفَرٍ، ثم قال في آخِر حديثه: أَوْصِنِي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((كُفَّ عَنْكَ هَذَا)) وَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، أَوْ بِلِسَانِ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ إِنَّا مُؤَاخَذُونَ بِمَا نَقُولُ؟ قَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))؛ فقوله: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - وهذا من باب التعبير بالبعض عن الكل - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)) أفاد ذلك أنَّ من أسباب الجُثيِّ في النار - على وجهه وعلى مَنخِره - نِتاجَ لسانِه إذا صار مشذارًا مهذارًا، سابًّا، لعَّانًا، شتَّامًا، مغتابًا، نمامًا، قادحًا في أعراض الناس، قادحًا في شرفهم؛ لأن العِرْضَ يشمل عِرض الدين في أن يُتَّهم في دينه، أو يُتهم في عقيدته، أو يُتهم بنِسْبته إلى منهج فاسد، أو يُتهم في شرَفه وهو عِرضه النَّسَبي؛ فإن هذا من أسباب الجثي على وجوههم في نار جهنم. والصراط جديرٌ بمن أنكره أن يكون ممن لا يَعبُرَه؛ كمَن أنكر رؤية الله ألا ينالَها، وكمَن أنكر ما يكون في البرزخ أن يُصيبه ضدُّ ما أنكَر؛ طردًا على القاعدة الشرعية: الجزاء من جنس العمل: ﴿ جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 26]؛ ولهذا فإن الذين أنكَروا هذه الأشياء جديرون بأن يَخسَروا، ويرسبوا فيها، ويُرديَهم فيها سيِّئ اعتقادهم، وسيئُ قصدهم! ولا حول ولا قوة إلا بالله. فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ دَخَلَ الْجَنَّةَ: أي: إنه في الجملة يدخل الجَنَّة؛ فمِنهم مَن يدخلها مباشرة، ومنهم مَن يبقى على الجَسر؛ على القنطرة بعد الصراط، وهي قنطرةٌ قبل الجنة، يُقتصُّ فيها للمؤمنين بعضِهم مِن بعض مما يكون بينهم من أسباب الخصومات التي لم تُستوفَ بالعرَصات. وقوله: "ومَن عبر الصراط دخل الجنة"؛ أي: إنه نَجا من النار؛ لأن النار تحت الصراط، فالصراط جَسر عليها وهي تحتَه، ولو لم يكن مِن عرَصات القيامة وأهوالِها وشدائدها إلا العبور على الصراط الذي هذه صفته؛ دقيق، ومزلة، ومظلم، ودحض، وعليه حسَكٌ وكلاليبُ، وتحته نارُ جهنمَ سوداءُ مظلمة - لكفى بهذا نذيرًا ووعيدًا، وتخويفًا للمؤمنين ولغير المؤمنين. فَإِذَا عَبَرُوا وُقِفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ: هذه القنطرة - وهي مرحلة بين الصِّراط وبين الجنة - هي للمؤمنين فقط خاصَّة، فلا يَعبُرها كافر، وقد يَعبرها مسلمٌ عليه ظُلامةٌ لإخوانِه، فيكون الاقتصاص في ذلك المكان، ومن المؤمنين مَن سيَسقط من على الصراط على جهنم، وهذا بحسَب ذنبه وكبيرته، لا على جهة الخُلود؛ ولهذا في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72] لم يَقل: نُنجِّي الذين آمنوا؛ لأن مِن المؤمنين مَن يقع فيها، ولم يقل: ونذَر الكافرين فيها جثيًّا؛ لأن وصف الظلم يَطول الكافرَ - وظُلمُه الظلمُ الأكبر - ويَطول الفاسقَ - وظلمه ظلم الأصغر - ولهذا في القرآن إذا جاء وصفُ الظلم والكفر والفسق والنفاق فإنه يُراد به إما الأكبر أو الأصغر، ويُحدِّد ذلك السياقُ والآياتُ الأخرى التي يُرجع لها في تفسير هذا النصِّ وهذه الآية. في القنطرة يُقتصُّ للمؤمنين بعضِهم من بعض، مما لم يُستوفَ قبل ذلك في مراحل الآخرة؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم - ونقَله الشيخُ بلفظ الحديث، وحديث القنطرة حديثٌ في الصحيحين -: ((فَإِذَا هُذِّبُوا، وَنُقُّوا))؛ أي: لم تقم عليهم سيئة، ولم تبقَ عليهم ملامة هُذِّبُوا من آثار الذنوب وأسبابها، ونُقُّوا من ملامات الخلق ((أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ))[8] ، والإذن لهم بعد الإذن للنبي؛ لأنَّ مِن الشفاعات الخاصة به أنه يستفتح له وللمؤمنين بدخول الجنة إذا أخذ بحَلقَةِ باب الجنة. وهذا فيه تشبيهٌ للمؤمنين بالذَّهَب؛ فإن المؤمن كالذهب، والذهب كلما زِيدَ في صِليِّه النارَ نَقِيَ وصَفا مِن الشوائب، شوائبك - يا أيها المؤمن - هي ما تَحمَّلتَه من أسباب الذنوب والمعاصي، والتفريط؛ إن كان في حق الله، أو في حق عباد الله، وهكذا المؤمن تَزداد عليه البلايا والمِحَن، وصِلِيِّه النار إلى أن يتخفف من هذه الذنوب، ولهذا لن يدخل أحدٌ الجنة وعليه خطيئةٌ أو سيِّئة، فإما أن يُجازى بها بأنواع الجزاءات - وهي الأسباب العشرة المسقِطة للذنوب - أو أن يشمَله الله برحمته، وهو أرحمُ الراحمين، فلن يدخل أحدٌ الجنةَ إلا مؤمن، ولن يدخلها مؤمنٌ وعليه خطيئةٌ أو سيِّئة. [1] رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292)، عن عبدالله بن عمرو بن العاص. [2] رواه أحمد (3/ 230). [3] رواه البخاري (6582) ومسلم (2304)، من حديث أنس بن مالك. [4] تقدم تخريجه. [5] لما رواه البخاري (7439)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد الخدري. [6] نفس السابق. [7] رواه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، والإمام أحمد (5/ 231)، من حديث معاذ بن جبل. [8] رواه البخاري (7439)، من حديث أبي سعيد الخدري. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (29) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَأَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ، وَلَهُ فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ: أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُولَى: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ، بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ: آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى ابْنُ مَريَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ. وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ. وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَلاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا. شيخ الإسلام رحمه الله أخَّر الكلامَ عن الشفاعة إلى هذا الموضع - مع أن حق الكلام عن الشفاعة أن يُقدَّم إذا قام الناس من قبورهم في أول عرصات القيامة - وذلك لثلاثة أمور: أولاً: إن هذا المتن مختصَر، وقد علَّقه مِن غير تحضير، ولا ترتيب، بل جاءه وليُّ الدِّين الواسطيُّ القاضي، وطلب عقيدته أن يكتبها له؛ ليدين بها هو وأهله، فكتبها له بين العصر والمغرب، وما وضع لها مخططًا، ولا عرَضه على الأقسام ليفحَصوه، وما ذهب، ولا أتى، وإنما أملاها من قلبه؛ ولهذا فإن ما يحصل فيها من التقديم والتأخير فإنه رحمه الله معذور. ثانيًا: ها هنا جاء ذِكرٌ لنوعٍ مِن الشفاعة الخاصةِ به (وهي الشفاعة بدُخول الجنة)، والشفاعات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم عند الاستقراء أربع، أو خمس، والشفاعات كلُّها ثَمان، ونَذكُرها هنا تفصيلاً؛ لأن الشيخ لم يُرِد الاستيعاب وإنما ذكَرها لنا من باب ذِكْر أشهَرِها: أُولى الشفاعات الخاصة به: الشفاعة العظمى، التي أشار إليها الشيخ، وهي شفاعةٌ إلى الله ليَجيء إلى فصل القضاء، يوم يتخلَّى عنها كلُّ عباد الله ومُصطفَيْه، فيأتي الناسُ آدمَ وهم في عرَصات القيامة وشدتها، فيَعتذِر بأن الله غَضِب اليوم غضبًا لم يغضب مثلَه قط، ولن يغضَب مِثله قط - وهذا فيه إثباتُ الغضب لله تعالى - وأنه قد عَصى الله بأكلِه من الشجرة، ثم يأتون نوحًا فيعتذر كذلك بهذا العذر؛ بأن الله غضِب غضبًا لم يغضَب مثله قط، ولن يغضبَ مثله قط، وأنه سأل الله ما ليس له به عِلم، وهو نجاة ابنه كنعان، فنوحٌ له أربعةُ أبناء: كبيرهم كنعان، والثلاثة: سام، وحام، ويافث. وكنعان هو الذي كان مِن المغرَقين؛ لأنه كان كافرًا، ثم يأتون إبراهيمَ فيعتذر كذلك، ثم موسى، فعيسى، وعيسى لا يعتذر بذَنب، وإنما يعتذر بغضَب الله، ويقول: ((اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ؛ عَبْدٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ)). فيَأْتُون نبيَّنا صلى الله عليه وسلم فيقول: ((أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا))[1]، فيذهب، فيَخِرُّ ساجدًا تحت العرش، ويفتح الله عليه أنواعًا مِن مَحامِدِه؛ أي: مِن الثناء عليه، وتمجيدِ ربِّه، لم يكن قد فتَحها عليه في الدنيا، فلا يزال ساجدًا هكذا، حتى يأتيَ الإذنُ مِن الله عز وجل: ((يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ))[2]، وهذا قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، وهذا المقام المحمود الذي يَغبِطه عليه الأولون والآخِرون، وهو الشفاعة إلى الله في الموقف العظيم؛ ليجيء لفصل القضاء، ويُريحَ الناسَ مما هم فيه من الهمِّ العظيمِ والبلاء. والشفاعة إلى الله مِلكٌ لله تعالى في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 44]، ولا تنفع الشفاعة إلا بشرطين: الأول: إذن الله للشافع بالشفاعة: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]، ملوكُ الدنيا مهما عَظُم مُلكهم يُشفَع عندهم بغير إذنهم، إلا مَلك الملوك جل جلالُه؛ فلَن يشفَع أحدٌ عنده إلا إذا أَذِن له. الثاني: رضا الله عن المشفوع له؛ ولهذا فإن الكافرين والمنافقين لا ينفعهم الشافعون ولو شفعوا. وهذه الشفاعة العُظمى - مع أنها تَطول المؤمن والكافر، والكفار تبعٌ للمؤمنين - لكنها لا تنفَعهم هذه الشفاعة، وإنما تُعَجِّلُ بعَذابهم وسعيرهم، وصِليِّهم النارَ وجَزائهم، فالرسول مع أن شفاعته طالت هؤلاء إلا أنها لا تنفعهم، والله تعالى قال: ﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 48]، ولم يقل: ولا يَشفع فيهم الشافعون. الشفاعة الثانية الخاصةُ به صلى الله عليه وسلم: ما أشار إليها الشيخُ من قولِه: ((فَيَشْفَعُ إِلَى اللهِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ))؛ وذلك أنه جاء في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ آخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، فَقَالَ: أَنَا، فَأَسْتَفْتِحُ، فَيُقَالُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ))، فيُفتَح له؛ لأنَّه يَشفَع إلى الله بدخول الجنة، فهو أول الداخلين إلى الجنة من بني آدم، ومن المكلفين إنسًا وجنًّا، وأمته أول الأمم دخولاً إلى الجنة، وهذا كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((نَحْنُ الآخِرُونَ - أي: زَمانًا - السَّابِقُون يوم القيامة))[3]؛ أي: السابقون إلى الجنان. وأمته في الجنة، ذُكِر أنهم يَبلغون شطرَ، بل ثُلثَي أهل الجنة؛ وذلك أنه جاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه فقال: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَكَبَّرَ الصَّحَابَةُ كَانُوا فِي سُرَادِقٍ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلْثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَعَظُمَ تَكْبِيرُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَكَبَّرُوا حَتَّى ارْتَجَّ السُّرَادِقُ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)). وهذه كرامة لهذه الأمة وخَصِيصَةٌ من الله لها على سائل الأمم. الشفاعة الثالثة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب؛ فقد جاء في صحيح مسلم من حديث العباس رضي الله عنه أنه قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، أَبُو طَالِبٍ فَعَلَ، وَفَعَلَ، وَفَعَلَ - يعدد مآثره وحميته على رسول الله - وَقَدْ حَدَبَ عَلَيْهِ ظَهْرَهُ، فَهَلاَّ نَفَعْتَهُ بِشَيْءٍ؟"، وأبو طالب هو الذي ربَّى النبي، وقد حدب أبو طالب ظهره على رسول الله ثلاثًا وأربعين سنة من عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ أن كان عمر النبي ثمانيَ سنوات إلى وفاة أبي طالب بعد البَعْثة بعشر سنين؛ ثلاث وأربعون سنة وأبو طالبٍ حادبٌ ظهرَه على رسول الله، وما كانت قريشٌ ولا غيرُها يستطيعون أن يَنالوا من رسول الله شيئًا وأبو طالب حي، أبو طالب كان شأنه عجَبًا مع رسول الله، وكان دافِعُ ذَلك الحميَّة، مع أنه صرَّح بصِدْق رسول الله، وصحة دينه بلِسانه، لكنه لَمَّا أبى أن يقول: لا إله إلا الله. كان كفرُه كفرَ إباءٍ، وهو أحد أنواع الكفر الخمسة، وأبو طالب هو القائل: وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لَوْلاَ الْمَلامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَابْشِرْ فَقَرَّ بِذَاكَ مِنَّا عُيُونَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أليس هذا القول قولَ مَن آمن بالرسول؟ بلى، هذا قوله، لكنه أبى أن يقول: لا إله إلا الله. وهو الذي قال في لاميته: وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثِمَالِ الْيَتَامَى عِصْمَةٍ لِلأَرَامِلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تَلُوذُ بِهِ الْهُلاَّكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يُوَالِي إِلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَوَاللهِ لَوْلا أَنْ أَجِيءَ بِسُبَّةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تُجَرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لَكُنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مِنَ الدَّهْرِ طُرًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّخَاذُلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكَذَّبٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لَدَيْنَا وَلا يُعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومع ذلك لم يؤمن؛ أَبَى أن يقول: لا إله إلا الله، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه يسعى وهو يعالج السكرات، فقال: ((يَا عَمَّاهُ، قُلْ كَلِمَةً أُحَاجَّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، قُلْ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))، واستدل بها طوائف المرجئة على أن مجرد قول: "لا إله إلا الله" يكفيه وينفعه، وهذا من جهلهم بحال أبي طالب وبحال النبي معه، بل مِن جهلِهم بتوحيد الله والإيمان به؛ لأن أبا طالب صدَّق بشِعره، لكنه أَبى أن يَقولها، فلما أَبَى أن يقولها لم ينفَعْه ذلك؛ لأنه أبى مع قدرته، وهذا دليلٌ عند أهل السنة على أن الإيمان لا بد فيه مِن النطق باللسان مع اعتقاده ومع قوله. فالعبَّاس يقول للنبي صلى الله عليه وسلَّم: أَبُو طَالِبٍ هلاَّ نَفَعْتَهُ بِشَيْءٍ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((نَعَمْ، يُخْرِجُهُ اللهُ بِي مِنْ دَرْكِ النَّارِ فَيَجْعَلُهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ))[4]، والضَّحضاح في اللغة: هو الماء إذا مَشى على الأرض، وبلَغ أسفَل القدَم، ولم يُجاوِز الكعبين يُسمَّى ضحضاحًا، سواء كان يَسيل أو كان راكدًا. قال النبي: ((فَيُوضَعُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ))؛ أي: إن النار لا تلبسه جميعًا، وإنما إلى كعبيه يَغلي منهما رأسه؛ يَظنُّ أنه أشدُّ الناس عذابًا، وهو في الحقيقة أقَلُّهم عذابًا، قال صلى الله عليه وسلم: ((وَلَوْلايَ لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))؛ أي: لولا شَفاعتي فيه لكان في الدرك الأسفل من النار. وجاء في الحديث الآخَر: ((إِنَّ أَقَلَّ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا رَجُلٌ يُلْبَسُ نَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا نَفُوخُهُ، يُرَى أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا، وَهُوَ أَقَلُّهُمْ عَذَابًا))! فأبو طالب لم تنفعه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه من النار. الشفاعة الرابعة: شفاعته في السبعين ألفًا: وفيها خلاف بين أهل العلم. الشفاعة الخامسة: شفاعته في أهل الأعراف، وهم - على الراجح - مَن تَساوَت حسَناتُهم وسيئاتُهم، يشفع فيهم في دخولهم الجنان، وهذه فيها خلافٌ بين أهل العلم. الشفاعة السادسة - وهي ليست خاصة به، بل هي له ولغيره من الأنبياء، والشهداء، والملائكة، والصالحين -: شفاعته في رفع درجات المؤمنين في الجنان؛ بأن يكونوا في درجات دنيا، فيُرفَعون إلى درجات عليا، ومن ذلك شفاعة الآباء في أبنائِهم، وعكسها من شفاعة الأبناء لآبائهم. الشفاعة السابعة: شفاعته لأهل الكبائر: وقد ادَّخر صلى الله عليه وسلم شفاعته إلى يوم القيامة لأمته: ((شَفَاعَتِي لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي))[5]، وهذه التي يُنكِرها المعتزلةُ والجهمية (المسمَّون بالوعيديَّة)، بل الواقع أنهم لا يُقِرُّون إلا بشفاعةٍ واحدة، وهي العظمى، ويُنكِرون ما سواها. الشفاعة الثامنة: شفاعته في أقوام قد دخلوا النار، وذاقوا صليَّها وعذابها، فيشفع هو والأنبياء عليهم السَّلام، والشهداءُ والصالحون إلى الله في خروجهم منها. وفي شفاعته الثامنة يحدُّ له الله أربعةَ حدود كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه، وفي الصحيحين فيَحُدُّ الله له حدًّا، ويقول: ((يَا مُحَمَّدُ، أَخْرِجْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرِجُهُمْ، ثُمَّ يَحُدُّ لَهُ حَدًّا ثَانِيًا: أَنْ أَخْرِجْ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. ثُمَّ يَحُدُّ لَهُ حَدًّا ثَالِثًا فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. ثُمَّ يَحُدُّ لَهُ حَدًّا رَابِعًا، فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ))[6]؛ أي: إنهم لم يعمَلوا خيرًا ينفعهم، وقوله: ((قَطُّ)) على جهة التغليب، وأن سيئاتهم العظيمةَ غلبَت حسناتهم غلَبةً، حتى كادت الحسنات تضمحلُّ مع هذه السيئات، وليس معناها أنهم لم يَعمَلوا أعمالاً أبدًا؛ لأنَّ هذا الدليل استدل به المرجئة على نفيِ العمل عن الإيمان، ومعلومٌ أن العمل يَشمَل عملَ القلب وعمل الجوارح؛ فإن قالوا: إنه لم يعمَل عملاً، لا عمل قلب، ولا عمل جوارح. صار مذهبُهم مذهبَ غُلاة المرجئة، ومعلوم أنه لا إيمانَ لمن لا عمل له، سواء بالعمَلَين عمل القلب وعمل الجوارح؛ فإن فصَّلوا فأثبتوا عمل القلب دون عمل الجوارح فقد تحَكَّموا على دليل بغير مستَدَلٍّ. نقول: من أين بالدليل قال: ((لم يعمل عملاً قط)) - أي: عمل الجوارح - إما أن تنفوا الجميع، أو تثبتوا الجميع. وليس لهم مَناصٌ عند السَّبْر والتقسيم إلا هذا؛ ولهذا فإن هذا الحديث في هذا الباب يعدُّ مشكِلاً إذا نُظِرَ إِليه بمجرَّده، أما إذا ضمَمتَه إلى بقية نصوص الوعد والوعيد يَزول الإشكال والاشتباه، كما عليه محقِّقو أهل السنة من أن هذا نَصُّ وعدٍ يُرجَع فيه إلى بقية نصوص الوعيد، فعندئذ يلئتم الأصل، ويجتمع عليه الشمل، ولا يختلف عليه قول أهل السنَّة. ((ثُمَّ يَأْخُذُ اللهُ تَعَالَى بِيَدِه غَرْفَةً مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ: هَؤُلاءِ إِلَى رَحْمَتِي، وَلا أُبَالِي)). وهذه ليست شفاعةً، وإنما هي محضُ تفضُّلٍ من الله. انحرف في الشفاعة أقوام، وممن انحرف فيها الوعيدية من الخوارج، والمعتزلة، وهم كادوا لا يثبتون إلا العظمى، وبعضهم يثبت شفاعة النبي في التنقُّل في الجنة، والتدرُّج فيها، وغلاةُ المرجئة يُنكِرونها؛ لأن الشفاعة إنما جاءت في الأحاديث، وهي عندهم مظنَّة الآحاد! وهي خارمةٌ لأصلهم؛ فإن مِن المرجئة مَن يقول: إن مَن عرَف الله مؤمن! فإذا كان العارف مؤمنًا فلا حاجةَ له إلى شفاعة، ومن قال: "لا إله إلا الله" وهو مؤمن كما هو مذهب الكرَّامية، فلا حاجة له إلى شفاعة، وهذا نتاج أصولهم الفاسدة، وعقائدهم في الإيمان الكاسدة. وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغَيْرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ: أي: إنه يبقى في الجنة فضلٌ لم تمتلئ الجنة، والنار - وهي أقل مِن الجنة - لا تمتلئ حتى يضَع الرحمنُ فيها رِجلَه وقدَمَه، فتقول: قَدْني، قدْني. الجنة إذا دخلها كلُّ أهلها - ممن كتَب الله لهم دخولها، ومَن شفع فيهم الشافعون - يَبقى في الجنة فضلٌ؛ أي: مكانٌ لم يَدخله أحد، فيُنشئ الله لها أقوامًا يخلقهم لها، فيُدخلهم الله الجنة رحمةً منه؛ لأن الخلق خلقُه، والملك ملكُه، ولا يُسأل عما يَفعل، وهم يُسألون. وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ - مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ - وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْأَثَارَةِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِةِ عَنْ الأَنْبِيَاءِ. وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنْ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ: الأصناف هي الأنواع؛ أي: أنواعُ مَن يدخل الجنة، وما يقَع في اليوم الآخر من أنواع المواقف في العرَصات؛ مِن تطايُر الصحف، والحساب، والحوض، والميزان، والشفاعات، والصراط، والقنطرة بعد الصراط، والجَسْر على متن جهنم، وما يكون فيها من إقرار الإنسان بعمله... فكل هذه الأصناف (الأحوال) مذكورة في كتب الله المنزلة، ومذكورة فيما أوحاه الله على رسُلِه من أثَارة العلم (العلم المأثور) عن أنبياء الله. هذا حكاية من الشيخ لإجماعِ المرسَلين على الإيمان بهذه التفاصيل، تفاصيل اليوم الآخر؛ لأنها كما ذُكِرَت لنا ذُكِرَت له، لكن جاء في شريعة نبِّينا - من التفاصيل وذِكْرِ آحاد الأمور وأفرادها - ما لم يأت فيمن قبلنا؛ لأن شريعتنا هي الخاتمة، ومحمد هو خاتم المرسلين؛ ولهذا أبان من تفاصيل اليوم الآخر إبانة تفصيلية ما لم يذكرها نبي قبله، ولهذا جاء في الصحيحين: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْغَدَاةَ (الْفَجر)، ثُمَّ وَقَفَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، وَلَمْ يَنْزِلْ حَتَّى زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَمَّ خُطْبَتَهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَمَّ خُطْبَتَهُ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَمَا تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ إِلاَّ وَأَخْبَرَهُمْ مِنْهُ خَبَرًا، قَالَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم: عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ؛ أي: نسيه من نسيه. فإن الجهل هاهنا بمعنى النسيان؛ دلالة على أنه أبان لهم ذلك إبانة واضحة لا مرية، ولا التباس فيها. [1] رواه البخاري (4712)، ومسلم (194)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [2] نفس السابق. [3] رواه البخاري (6624)، ومسلم (855)، من حديث أبي هريرة. [4] رواه البخاري (3883)، و (6208)، ومسلم (209) عن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه. [5] رواه أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، وأحمد (3/ 213)، من حديث أنس بن مالك. [6] رواه البخاري (7510)، ومسلم (193، و326)، وأحمد (3/ 116). |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (30) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ - أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ: فَالدَّرَجَةُ الأُولَى: الإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِمَا الْخَلْقُ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقِدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِه أَزَلاً وَأَبَدًا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ؛ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي، وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ؛ فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهْ الْقَلَمَ؛ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلامُ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، وَقَالَ: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]. وَهَذَا التَّقْدِيرُ - التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ - يَكَونُ فِي مَوَاضِعَ جَمْلَةً وَتَفْصِيلاً؛ فَقَدْ كَتَبَ فِي اللوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ. وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا الْقَدْرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدْرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ. وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ: وهو الأصل السادس من أصول الإيمان، كما أبانها سيد الأنام صلى الله عليه وسلم في إجابته لسيد الملائكة جبريل عليه السلام قال: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، وكرَّر الفعل (تؤمن) مع القدَر خاصَّة مِن بين أصول الإيمان الأخرى؛ لأمرين: أولاً: من باب التأكيد والتنويه بشأن هذا الأصل. وثانيًا: أن الإيمان بالقدر هو من الإيمان بالله؛ لأن القدر قدر الله، وهو فعل الله تعالى. والإيمان بالقدر ينتظم في الإيمان بمراتبه الأربعة، والتي قسمها إلى درجتين فقال: وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: وهذا التقسيم له حِكْمَةٌ؛ لأن غُلاة الْقَدَرِيَّة نفَوُا الدرجة (المرتبة) الأولى: العلم والكتابة، فكل درجة متضمِّنة لدرجَتَين، هذه المرتبة الأولى نفَتْها غلاة القدرية. والقدَر له أربع درجات، فقال: كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ: فَالدَّرَجَةُ الأُولَى: الإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِمَا الْخَلْقُ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقِدِيمِ، الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِه أَزَلاً وَأَبَدًا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ؛ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي، وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ، فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهْ الْقَلَمَ؛ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلامُ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، وَقَالَ: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]. وَهَذَا التَّقْدِيرُ - التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ - يَكَونُ فِي مَوَاضِعَ جَمْلَةً وَتَفْصِيلاً؛ فَقَدْ كَتَبَ فِي اللوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ، وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا الْقَدْرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدْرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ. هذه هي الدرجة الأولى؛ فقد أحاط الله بكل شيء علمًا قبل أن يقَع، فقد عَلِمَه سبحانه وتعالى قبل وقوعه بمدة طويلة، وكتبه في اللوح المحفوظ: ﴿ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ﴾؛ أي: مِن قبل أن نخلقها ﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]. وقال: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الحج: 70] هنا (ما) بمعنى الذي؛ فهي موصولة فيَعلم الذي في السماء، والذي في الأرض، وأنه سبَق به عِلمُه؛ ﴿ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ ﴾؛ أي: كتبه وهو اللوح المحفوظ ﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، وعِلم الله السابقُ بكلِّ شيء، وكتابتُه له في اللوح المحفوظ مفهومةٌ من حديث القلم: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّي، وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ))[1] ؛ ولهذا يجب أن تعلم وتؤمن بأن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، رُفِعَت الأقلام، وجفت الصحف وهذا منطوق حديث النبي، ولهذا فعُبادة بن الصامت - وهو أحد رُواة حديث القلم الذي رواه عُبادة وعبدالله بن عمرو رضي الله عنهم - أوصى ابنَه عند موته قال: "يَا بُنَيَّ! اعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبُكَ، وَأَنَّكَ لَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَكُنْتَ فِي النَّارِ". هذا الاعتقاد بعلم الله السابقِ الشاملِ لكل شيء قبل وقوعه، وكتابته له في اللوح المحفوظ - لا يتَناقض مع أقلام أخرى وتقديراتٍ أخرى، والقلم الشامل هو الذي جَرى بكل شيء - دقيقٍ أو قليل، أو عظيمٍ أو حقير - إلى قيام الساعة، هذا القدر الشامل المسبوقُ بعلم الله وبكتابته يؤخذ منه أقدار أخرى؛ منها: أولاً: القدر العمري؛ كما جاء في حديث ابن مسعود يقول: أَخْبَرَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أَحَدُكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ مُضْغَةً مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ))[2] ، وهذا التقدير خاص بكل إنسان، إذا نُفِخَ فيه الروح في رحم أمه. ثانيًا: التقدير الحولي (السَّنوي): ﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ يُنزل كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ﴾ [الدخان: 1 - 5]، يُفرق أي: يُؤخذ من اللوح المحفوظ تقاديرُ العام الجديد، وهذا في ليلةِ القدر. ثالثًا: التقدير اليومي؛ كما دل عليه قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]، وهذه الآية نزلَت ردًّا على اليهود الذين قالوا: إن الله يوم السبت لا يَعمل شيئًا! فأكذَبَهم الله تعالى بأنه كلَّ يوم هو في شأن؛ يخلق ويرزق، ويُحيي ويميت، ويُعِز ويُذِل، ويفعل ما يَشاؤه، وقد رَوى أبو القاسم الطبرانيُّ في معجمه الكبير حديثًا مختلَفًا فيه، لكن له شواهد من الأدلة الأخرى، قال: ((إِنَّ اللهَ خَلَقَ لوحًا محفوظًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، صَفَحَاتُهُ نُورٌ، وَقَلَمُهُ نُورٌ، للهِ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سِتُّونَ وَثَلاثُمِائَةِ لَحْظَةٍ - وفي رواية: نَظْرَةٍ - يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَفْعَلُ سُبْحَانَهُ مَا يَشَاؤُهُ)). هذه التقادير مأخوذةٌ من القلم الشامل، الذي جرى يوم خلقه الله قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ومرَّ بِنا في المعراج: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا زَالَ فِي عُلُوٍّ حَتَّى بَلَغَ إِلَى مُسْتَوًى سَمِعَ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ. والصَّريف هو صوت الكتابة؛ احتكاك القلم بالصُّحف؛ ولهذا فغالب أسماء الأصوات على فَعيل، ومنه الصَّرير: صوت الباب الذي ما زُيِّت، والخرير صوت الماء إذا كان نازلاً من مَكان عالٍ، أما إذا كان على الأرض وله صوت فيُسمى أَسيلاً، وصوت الحمام هَديل، وصوت الخيل صَهيل، والنَّهيق للحمير. والأقلام هي أقلامٌ تُؤخَذ من اللوح المحفوظ، إما قلَمٌ حوليٌّ، أو أقلام يوميَّة أو أقلام عمرية لكلِّ إنسان، وقد وُكِّلت لها الملائكةُ الكتَبة، التي تَكتب هذه المقادير؛ ولهذا جاءت الأقلام مجموعة، وجاءت مفرَدة، والمفرد هو الشامل: ((أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ))[3]، والمجموعة هي هذه: "حتى بلغ مستوًى سمع فيه صريف الأقلام". وفي حديث آخر: ((رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ))[4] أي: إنه لا تغيير ولا تبديل ولا تحويل لِمَا قَضاه الله وكتبَه، هاتان المرتبَتان أنكرها غُلاة القدريَّة وهم أوائل القدرية، أول ما بُدئ في مذهب القدر الغلاة، نُفاةِ العلم والكتابة، ومَن نَفى العلم والكتابة سيَنفي المرتبتين الأُخريَين، جاء في صحيح مسلم بسنَدِه أن يحيى بن يَعمَرَ وحُميدَ بن عبدالرحمن انطلَقا من البصرة حاجَّين، فمرَّا بالمدينة، فقالا: لو لقينا أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخذنا عنه! فلَقِيا عبدالله بن عُمر، يقول: فاكتنفتُه أنا وصاحبي، فظننتُ أن صاحبي سيَكِل الكلام إليَّ، فقلتُ: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا فِي البَصْرَةِ قَوْمٌ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لا قَدَرَ، وَإِنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ؛ أي: مستأنَف يُبدأ فيه من جديد، لم يَسبق له علمٌ ولا كتابة ولا تقدير[5]، والحنابلة عندَهم أن الإمام إذا أحدث وهم في الصلاة فإنَّهم يَستأنفونها، وإذا ناب الإمامَ في صلاته حدَثٌ استأنَفوا الصلاة؛ أي: بدَؤوا فيها من جديد؛ قال: يقولون: إنه لا قدر، وإن الأمر أُنُفٌ. فقال رضي الله عنه: أَخْبِرُوهُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَهُمْ مِنِّي بُرَآءُ؛ تبرَّأ منهم ثم قال: حدثنا عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، قال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم... فساق حديثَ جبريل. غُلاة القدرية أوائلُهم، وأهل الغلوِّ منهم يَنفون المراتبَ الأربعة، خصوصًا علم الله وكتابته، وهؤلاء يقول شيخ الإسلام: "في زمننا قليلٌ"، مع أنه الخبير؛ وشيخ الإسلام هو الخبير بهذه المقالات والمذاهب وأهلِها، ولا نعلم أحدًا أشدَّ منه خبرة ولا علمًا بها، فيقول: "في زماننا قليل، لكن في زمن السلف كثيرون، وهؤلاء الذين أكفرهم السلف وتبرؤوا منهم". ومن نفى العلم والكتابة فإنه سيَنفي المرتبتين الأخيرتين وهي الإرادة والخلق، وهؤلاء الذين قال فيهم الإمام الشافعي: "ناظِروا القدرية بالعلم"؛ أي: بعلم الله، هل عَلم الله الأشياءَ قبل وقوعها أو ما عَلم؟ فإن أقروا بأن الله عَلم به خُصِموا، وإن أنكَروه كفَروا بأمرين: بإنكارهم علمَ الله، وبإنكارهم القضاءَ والقدر. وهذا مَدْعاة قولِ الشيخ: "إنه في زمن السلف كثير"؛ لأن الشافعي قال: "ناظِروهم"؛ لأنَّ لهم وجودًا، ولهم شوكةً، ولهم أهلاً؛ ولهذا أوصى الناس بأن يناظروهم بهذه الحجة الدامغة لهم ولأمثالهم. عامَّة القدرية (المعتزلة) يَنفون مرتبة الإرادة والمشيئة ومرتبةَ الخلق، والمحرِّرون في القدر طائفتان هما: القدرية، والجبرية. القدرية مصطلح عند العلماء على المعتزلة نُفاةِ القدر، والجبرية هم الجهمية الذين غلَوْا في إثبات القدر حتى نفَوْا قدرة العبد، وإن كان أصلُ مصطلح القدرية يَطول الطائفتين: يطول الغلاة في إثبات القدر (الجهمية الجبرية)، ويطول نُفاة القدَر، وهم المعتزلة. فالجبرية مذهبهم، وموقفهم من علم الله، ومن كتابته أنهم أقروها، وغلَوا في إقرارها حتى سلَبوا قدرة العبد. [1] رواه أبو داود (4700)، والترمذي (2155) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه. [2] رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. [3] تقدم تخريجه. [4] تقدم تخريجه. [5] وأما ما نسمعه من قول: "نستأنف الدروس" فهذا خطأ؛ فالاستئناف هو البدء من جديد، ومراد القائلين بالاستئناف هو الإكمال، وهذا خطأ. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (31) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانيَةُ: فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلا سُكُونٍ إِلا بِمَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ، لا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إِلا مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ إِلا اللهُ خَالِقُهُ؛ سُبْحَانَهُ لا خَالِقَ غَيْرُه، وَلا رَبَّ سِوَاهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَلا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، واللهُ خَالِقُ أَفْعَالَهُمْ. وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي وَالصَّائِمُ. وَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أفْعَالِهِمْ وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28، 29]. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَيَغْلُو فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الإِثْبَاتِ حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخْرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا. ♦ ♦ ♦ وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانيَةُ: فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ. وَهُوَ الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلا سُكُونٍ إِلا بِمَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ، لا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إِلا مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ إِلا اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُه، وَلا رَبَّ سِوَاهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وَالْمُحْسِنِينَ، وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَلا يُحِبُّ الْفَسَادَ: المرتبة الثانية وفيها درجتان: مرتبة الإرادة والمشيئة، وهذه مرتبة واحدة؛ أن ما شاءه الله وأراده واقعٌ، وكل مقدَّرٍ فقد شاءه الله وأراده كونًا، الدرجة الرابعة خلقُ الله لأفعال العباد؛ فكلُّ مقدَّرٍ فإن الله خالقُه، قال تعالى في المرتبة الثالثة: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28، 29]. فمَشيئة الله سابقةٌ ومحيطةٌ بمشيئة العبد، وإرادتُه نافذة، وهذه الإرادة هي الإرادة الكونية العامَّة الشاملة القدرية، لها أربعة أسماء: إرادة شاملة، وكونيَّة، وقدَرية، وعامة. هي بمعنى المشيئة؛ ولهذا فإن مشية الله تأتي بمعنى الإرادة العامة، ولا تأتي بمعنى الإرادة الخاصة وهي الإرادة الدينية، وكل شيء مقدَّرٍ من المقدرات ومقضيٍّ فقد شاءه الله وأراده، ودليل العقل ما أشار إليه الشيخُ أنه لا يمكن أن يقع في ملك الله ما لم يشَأْه ولم يُرِده، وهذا يَقدَح في ربوبيته من جهة قدحِه في مُلكِه. وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، واللهُ خَالِقُ أَفْعَالَهُمْ. وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي وَالصَّائِمُ. وَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أفْعَالِهِمْ وَلَهُمْ إِرَادَةٌ. وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28، 29]: المرتبة الأخرى: خلق الله أفعالَ العباد؛ فالله هو خالق العباد، خالق الخلق، وأفعال الخلق هي خلقٌ لله؛ لأن المخلوق وما فعَل كلَّه لله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، وقال: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، فعمَلُه - مِن صومه وجهاده، وبنائه وإفساده - اللهُ خلَقَه، لكن الثواب والعقاب يَنزل عليه هو؛ لأنه فعَل ذلك بمحضِ إرادته واختياره، والثوابُ والعقاب على ما يَختاره العبد ويفعله، وليس على مَحضِ القدَرِ وما يَمضي به القدَرُ مما عَلِمه الله وكتبه وشاءه وخلَقَه؛ وذلك لأن الثواب والعقاب رُتِّبا على اختياره. فالله أبانَ لنا الخير، وأبان لنا الشرَّ، وجعل لنا الخير، وفي طريقه مرغِّبات محفزات، وجعل لنا في الشر منغصِّات ووعيدًا، وهنا وعد، وهنا وعيد، وترك لنا الخيار، فما نفعله بمحض اختيارنا يَكون عليه الثواب أو العقاب؛ ولهذا فإن الأفعال غيرَ الاختيارية لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب؛ فالنظرة الأولى معفيٌّ عنها لأنها ليست باختيارنا، وأما النظرة الثانية فعليها ثواب وعقاب؛ لأنها متعلقة بإرادتنا واختيارنا، كما أن الحركة الكثيرة مبطِلة للصلاة، فلو صلى المرتعِش فإن صلاته لا تَبطُل؛ لأن حركته بغير اختياره، وجرَيان الدم في عروقه بغير اختياره، فلم يرتِّب عليه ثوابًا ولا عقابا، أما ما نفعله بمحض الاختيار والإرادة فعليه الثواب والعقاب. وأي فعل فعلناه مهما كان لن يخرج عن دائرة قضاء الله وقدره؛ لأنَّ علم الله تام وقدرته شاملة، وملكه كامل غير ناقص، ولا يمكن أن يقع في ملكه وفي إرادته ما لم يسبق به علمه ولا إرادته، ولا اختياره ولا خلقه، فإذا عرفنا هذا الأصل يَنحلُّ عندنا إشكال هؤلاء القدرية، والمعتزلة، والجهمية بأنواعهم. المرتبة الرابعة: الخلق؛ دل عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم - وأصله في مسلم ولفظه في السنن -: ((إِنَّ اللهَ خَالِقٌ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ))؛ ولهذا فالثواب والعقاب يكون على ما يفعله الإنسان بمحض اختياره، وهذه المرتبة التي فيها الدرجتان - درجة الإرادة، ودرجة الخلق - يُنكِرها عامة القدرية (المعتزلة) الذين سمَّاهم النبي مجوسَ هذه الأمة، والحديث رُوِي عن خمسةٍ من الصحابة؛ عن ابن عمر، وجابر، وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم، قال صلى الله عليه وسلم: ((الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ، إِذَا مَاتُوا فَلا تَشْهَدُوهُمْ، وَإِذَا مَرِضُوا فَلا تَعُودُوهُمْ))[1]، وتشبيههم بالمجوس وجهُه أن المجوس أثبتوا خالقَينِ اثنين: النور يخلق الخير، والظلمة تخلق الشر. وهؤلاء القدرية أثبتوا خالِقِينَ كثيرين فقالوا: العباد يخلقون أفعالهم من غير إرادةٍ من الله، ولا خلقٍ لله لها. وفي مقابلهم الجبرية الذين غلَوا في إثبات القدر، وقالوا: إن العبد مجبور على فعله، لا قدرة له ولا اختيار. وهذا ما سيأتي له مزيدُ بيان. مذهب القدرية مذهبٌ متهافت في الفِطَر والعقول السويَّة، أما العقول المريضة بعلم الكلام ومرض القلوب فإنها تستَسيغه، وأقربُ شواهد ذلك ما ذكَره العلماء أن أعرابيًّا دخل البصرة، فسُرِقَت ناقته، فبحث عنها، وطلبها، ولم يجدها، فدخل الجامع فإذا فيه شيخ له لحية، وعنده طلاب، فاغترَّ به - وقد أحسن به الظن، وكان هذا الشيخ في جامع البصرة هو عمرو بن عبيد القدَري إمام المعتزلة - فقال له: يا شيخ، أنا أتيت من الأعراب (البر) وقد سُرِقت ناقتي، فادع الله أن يردها علي. أي: إنه لا حيلة لي أن أرجِعَ إلا بهذه الناقة، فرفع عمرو بن عبيد يديه قال: اللهمَّ إنك لم تُرِد - أي: لم تُقدِّر - أن تُسرَق ناقته فسُرقَت، اللهمَّ رُدَّها عليه. فقال الأعرابي: مَهْ؛ إذا كان الله عز وجل لم يُقدِّر، ولم يُرِد أن تُسرق ناقتي فسُرِقَت، فأخشى أن يُقدِّر أن ترجع لي ولا ترجع؛ إذا كان يقَع في ملكه ما لا يُقدِّره ولا يريده. فخَصَم الأعرابيُّ وحَجَّ بفِطرته ذلك القدريَّ بمذهبه الفاسد الكاسد. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ: الدرجة المتضمنة لمرتبتين: مرتبة الإرادة والمشيئة، ومرتبة الخلق. يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ، الَّذِينَ سَمَّاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ: أي: عامة المعتزلة؛ فالمراد بالقدرية هاهنا المعتزلة، وكما قلنا: إن وصف القدرية يُطلق على غلاة الإثبات وهم الجبريَّة، ويُطلق على غلاة النفي، ونفاة القدر وهم المعتزلة، وإن إطلاقه على المعتزلة في استعمال العلماء أكثرُ وأشهر. وَيَغْلُو فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الإِثْبَاتِ حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ: وهم الجبرية، والجبرية هم الجهمية، والعجيب أن الجهمية اشتركوا مع المعتزلة في نفي الصفات، فالجهمية شيوخهم، والمعتزلة لهم تبع، فمذهبهم في الصفات مذهب واحد، بل حتى في الأسماء عند التحقيق؛ لأن المعتزلة موقفهم من أسماء الله على قولين: فغلاتهم ينفون أسماء الله تعالى كما ينفون الصفات، وعامتهم يقولون: إن الله تعالى له أسماء لا تدل على ذات، ولا على معنى، بل هي أعلام محضة مجردة. والعلم المحض المجرد الذي لا يفيد صفة، فبالتالي أثبتوا الاسم ظاهرًا، ونفوا معناه وحقيقته، وأما الجبرية الجهمية والمعتزلة في باب القدر فهم على ضدَّين، وقولهما متناقض، فالقدرية المعتزلة ينفون القدر، والجهمية الجبرية يغلون في إثبات القدر، حتى أفضى بهم ذلك إلى سلب قدرة العبد، وأن العبد ليست له قدرة، وإنما هو كريشة في مهب الريح، مثل ورق الشجر إذا حركته الرياح، وكالميت بين يدي مُغسِّله لا قدرة له ولا اختيار، فجعلوا العبد مسلوب القدرة؛ ولهذا سُمُّوا جبرية؛ لأنه بزعمهم أن الله قد أجبره على هذا الفعل، وهذا من أقبح الأقوال وأشنعها؛ أن يُعْتَقد أن الله أجبر خلقه ثم عذبهم، وهذا هو الظلم الذي لا يليق أن يُنسب إلى خلق الله، فكيف بنسبته إلى الله عز وجل؟! وهؤلاء الذين سلبوا العبد قدرته واختياره جعلوا أفعال العباد كلها أفعالاً اضطرارية غير إرادية، وأفعال العباد على نوعين: الأول: أفعال اضطرارية؛ كحرَكة الدَّمِ في العروق، والنفَس، وارتعاش المرتعش، والنظرة الأولى... فهذه كلها غير إرادية، وكل فعل غير إرادي لم يُرتَّب عليه لا ثواب ولا جزاء. والنوع الثاني: الأفعال الاختيارية الإرادية التي يَفعلها الإنسان بمحض إرادته واختياره؛ فهذه التي يُرتَّب عليها الثواب إن أحسن، أو الجزاء إن أساء، وهذه المشكلة لم تتبيَّن لهؤلاء، ولا لأولئك؛ لا للجبرية ولا للقدرية، وإن كانت قد تبينت لهم، لكنهم عاندوا وكابروا؛ اتباعًا لأصولهم الفاسدة ومذاهبهم الكاسدة. وممن شابه الجبريةَ الأشاعرةُ فقالوا بالكسب، والكسب يَؤول إلى القول بالجبر، ولهذا قال العلماء إن هذه الاصطلاحات: لا حقيقة لها: كسب الأشعري، وطفرة النظامي، وأحوال أبي هاشم تُسمى (الأحوال البهشمية)، والطفرة والأحوال من مذاهب المتكلمين الفلاسفة، كسب الأشعري - منتسب إلى المذهب الأشعري لا إلى الحسن، هذا الكسب الأشاعرة أنفسهم مختلفون في حَدِّه ومعناه، وأقرب ما يُقرب به إلى أذهاننا أن الكسب عندهم وقوع القدر عند المقدور لا بالمقدور، وضربوا له أمثلة، فقالوا: النار من صفاتها أنها حارة تحرق، والإحراق حصل عند النار لا بالنار، القطع حصل عند السكين لا بالسكين. هذا هو الكسب، وحقيقته ومآله إلى الجبر أن الإنسان ليس له قدرة، ولا إرادة، ولا اختيار؛ ولهذا فالأشاعرة في باب القدر أقرب إلى الجبرية، وكذلك هم في باب الإيمان أقرب إلى الجبرية، فكلاهما من المرجئة كما سيأتي. ويستدلون بآيات في القرآن؛ ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17]، فقالوا: إن الله سلَب محمدًا الفعلَ وأثبته لنفسه، وهذا مِن أبطَلِ الباطل، وأسفَهِ السَّفِه، والآية: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17]؛ النبيُّ صلى الله عليه وسلم باشَرَ الرمي، فحَمل التراب تراب بدر، ثم رمى به وجوههم، وقال: ((شَاهَتِ الْوُجُوهُ)). فعَل الأسباب فرمى، ولكن الله تعالى أوصل هذا التراب إلى وجوهِ المشركين جميعًا، وليس معناه: سلب فعله صلى الله عليه وسلم. والعجيب أن هؤلاء الجبرية ومن كان على طريقتهم لا يَنفون الفعل... وإنما يستدلُّون بالقدر في باب المعاد، بمعنى أن هذا الجبريَّ لو أتيتَ وضربتَه على وجهه لا يقول: هذا مجبورٌ فدَعوه. بل ينتقِم لنفسه، ولا يُعوِّل في هذا الباب على القدر، بينما في باب الطاعات، أو ترك المحرمات يبرِّر لنفسه فِعلَه بأنه مجبور، ينتج من ذلك نفيُ الحكمة والتعليل عن أفعال الله تعالى، ولهذا قال: وَيُخْرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا: الجبريَّة - ومعهم الأشاعرة - يَنفون الحكمة والتعليلَ عن أفعال الله، ويترتَّب عليها مسألةُ التَّحسين والتقبيحِ المشهورةُ عند الأصوليِّين، وهي لها علاقة بمذهب المعتزلة والأشاعرة، وهي مِن بِدَعِهم في باب أصول الفقه، وفي باب القضاء والقدَر؛ فهُم ينفون الحكمة والتعليلَ عن أفعال الله. القدرية يَغلون في إثبات الحكم والتعاليل حتى إنَّهم يجعلون لكل شيء حكمة، وأفعال الله كلها لحكم، بعضها عَلِمناها بإعلام الله لنا، وبعضها لم نعلمها؛ قال تعالى: ﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴾ [القمر: 5]، ومن أسمائه سبحانه وتعالى الحكيم؛ أي: الذي له الحكمة التامة في أقواله، وأفعاله، وأوامره، وفي قضائه وقدره. ويَنفون التعليل، والتعليل في الأحكام على نوعين: تعليلٌ في القدَر؛ فهذا مما أبان الله لنا فيه الحكمة، ومنه أنه لا يتأتى الأولاد إلا بالزواج، ولا يتأتى الزرع إلا بالحرث؛ أي: ببذل أسبابه. وقد تأتي خوارقُ على غير هذا؛ كآدم، وحواء، وعيسى عليهم السَّلام. وهناك تعليلات في أوامره تعالى، منها ما هي مبيَّنة؛ كعِلَّة الإسكار في تحريم الخمر، وعلة التعبُّد في كثيرٍ مِن الأحكام، وعلَّة النجاسة في لحم الخنزير والحمار، وهناك من أوامر الله ما لا نعلم حُكمَه؛ كعدد ركعات المغرب ثلاثًا، والفجر ركعتين فهذه لا نعلم حكمتها. فالأشاعرة والجهمية (وهم الجبرية) في هذا الباب ينفون عن الله تعالى الحكمة في أفعاله، والحكمة في قضائه قدره، وفي أوامره. التحسين والتقبيح هذان المذهبان الخبيثان في هذه المسألة على طرَفَي نقيض؛ فالقدرية المعتزلة يرَون أن التحسين والتقبيح عقليٌّ فقط، والأشاعرة يرون أن التحسين والتقبيح شرعي فقط، وأهل السنَّة وسط في هذا الباب، فالتحسين والتقبيح، ومعرفة حُسن الأشياء وقُبحها يكون بالشرع ويكون بالعقل، وهذا هو التوسُّط. [1] رواه أحمد (2/ 86)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ورواه أبو داود (4691) عن حذيفة رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (32) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الدِّينَ...: الدين ما يُتَديَّن به، ويُطلق الدين على الحق وعلى الباطل؛ ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]. والمراد بالدين هنا ما يُتعبد لله به. وَالإِيمَانَ: وهذا من باب عطف الشيء على نفسه؛ لأن الدين الحقَّ هو الإيمان، ولنعلم أن الواو العاطفة أصلها لمطلق الجمع، وقد تُفِيد أحيانًا المغايرة؛ إما المغايرة المعنوية، أو اللفظية بحسب السياق، فقوله: "أن الدين والإيمان" هذا لِمُطلَق الجمع، وهما شيء واحد. قَوْلٌ وَعَمَلٌ؛ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَأَنَّ الإِيمَانَ: يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ: هذا مذهب أهل السنة أن الإيمان والدين قول وعمل، والقول يشمل قول القلب، وهو الاعتقاد باعتقاده بالله، وأسمائه وصفاته، وما له، وقول الجوارح بلا إله إلا الله، والتسبيحات، والتهليلات، والذكر، والأذان. والعمل عملان: عمل القلب بالنية والتوكل والرجاء، وعمل الجوارح بالجهاد والصوم والحج وغيرها. هذا على جهة الإجمال، أما على جهة التفصيل فالإيمان عند أهل السنة والجماعة يقوم على خمسة أسُس فهو: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يَزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان. وعلى هذا أجمعَ السلف؛ على أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهذا محل إجماع لا يتخلَّف. هذا المذهب لأهل السنة في الإيمان له أثره، وهو الذي أشار إليه قبل ذلك: "وهُم في باب أسماء الإيمان والدين وسط بين الوعيديَّة من الخوارج والمعتزلة، وبين المرجئة"، هذه الوسطيَّة تتبيَّن لنا بعد أن عرَفنا أن الإيمان عند أهل السنة قولٌ واعتقادٌ وعملٌ، يزيد وينقص. أهل السنة والجماعة في هذا القيد بالإيمان خالفوا الوعيدية، والوعيدية هم الخوارج والمعتزلة، فالإيمان عند الخوارج والمعتزلة - ومسماه وحدُّه عندهم - هو قول واعتقاد وعمل، لكنه لا يَزيد ولا ينقص، فزيادته إيمان، ونقصانه كفر، وتفلسَف متأخِّروهم فقالوا: الزيادة في الصحة، والنقص في الذهاب. وهذا ليس تحته كبيرُ طائل، فهُم وافقوا أهل السنة في بعض مسمَّى الإيمان لكن خالفوهم في حقيقته، فالإيمان عندهم إذا ذهب إما أن يذهب جميعه أو يبقى جميعه. وسُمُّوا بالوعيدية لأنهم غلَّبوا نصوصَ الوعيد، وأهملوا وردوا وتركوا نصوص الوعد. وهم على مذهبين، يظهر مذهبهما في الفاسق، في صاحب الذنب: فجمهور الخوارج أن صاحب الذنب كافرٌ ليس بمؤمن، وهذا اسمه في الدنيا، وحكمه في الآخرة خالد مخلد في النار، وهذا قول جمهور الخوارج من الأزارقة، والنجدات، والصفرية. وقالت الإباضية: إن صاحب الذنب كافرٌ كفرَ نعمة، لا كفر ملة؛ فالكافر كفر الملة هو الذي خرج من الإسلام، أما كفرُ صاحبِ الذنب فَيعدونه نعمة؛ لئلا يُجْروا عليه أحكام الكافر؛ مِن قتلِه، وعدم الصلاة عليه، وعدمِ توريث أولاده منه، والتفريق بينه وبين زوجته... فسمَّوه كافرًا كفرَ نعمة، وهذا المذهب قريبٌ من مذهب المعتزلة؛ لأن الإباضية تأثروا تأثرًا كبيرًا بالمعتزلة؛ فالمعتزلة يقولون: صاحب الذنب في منزلة بين المنزلتين، ليس بالمؤمن ولا بالكافر، بل في منزلة بينهما، خرج من الإيمان ولم يدخل الكفر. ويسمونه اصطلاحًا عندهم بالفاسق الملِّي، والفاسق الملي هو مَن كان في منزلة بين منزلتين، وهذا اسمه في الدنيا، فلا يسمونه مؤمنًا، ولا ناقصَ الإيمان، ولا يسمونه كافرًا، وفي الآخرة اتفقت الوعيدية كلُّهم - من الخوارج والإباضية والمعتزلة - على أن صاحب الذنب في الآخرة خالد مخلد في النار. ومن هذا الباب أطلقَ العلماء على المعتزلة لفظًا - وليُنْتَبه له؛ لأن أهل الزمان يطلقون هذا اللفظ على معنى سيِّئ، وأهل العلم يطلقونه على معنى عِلمي - وهو المخنَّث، فالمخنث هو المتشبِّه بالنساء أو الذي يُؤتى فيُفعل فيه الفاحشة، والمخنث عند الفقهاء هو الذي ما تُميِّز هل هو ذكَر أو أنثى، له عضوان: عضو الذكورة، وعضو الأنوثة. فإن كان عنده عضوان ويبول منهما جميعًا يُسمى بالخنثى المشكل، وهذا عند الفقهاء الخنثى المشكل الذي ما تبينَت فيه ذكوريته ولا أنوثته. والعلماء قالوا: إن المعتزلة مَخانيثُ الخوارج؛ وذلك أنهم في اسمهم في الدنيا خالَفوا الخوارج في الاسم، فالخوارج جعلوه في الدنيا كافرًا، وهم جعَلوه في الدنيا في منزلة بين منزلتين، واتفقوا معهم في حُكمه الأخروي على أنه خالد مخلَّد في النار، ولهذا اختلفوا في الاسم في الدنيا، واتفقوا في النتيجة والحكم في الآخرة، ولهذا سُمُّوا مخانيث الخوارج، وسبب ذلك هو جُبن هذا المذهب (مذهب المعتزلة والإباضية)؛ لأنهم لم يُكَفِّرُوا صاحب الذنب كفر ملة، فيلزمهم أن يُجْروا عليه هذه الأحكام، أحكام الكفر؛ كفر المعيَّن، المشتهرة عند التكفيرين قديمًا وحديثًا. ولهذا يقول الشيخ: وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ: أي: أهل السنة؛ لَمَّا جعلوا الإيمان قولاً باللسان، واعتقادًا بالجنان، وعملاً بالأركان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان. لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ: وهم مع ذلك لا يُكَفِّرُون أهل القبلة، فلا يَحكمون على مسلمٍ مُصلٍّ، يَستقبل القبلةَ - بالكفر بمُطلَق المعاصي والكبائر، فإنَّ أهل القبلة - وهو وصفٌ للمصلين المسلمين، الذين استقبَلوا القبلة للصلاة، وهذا فيه أصلُ اتفاق السلف على أن الصلاة فيصلٌ بين المسلمين والكافرين - المصلُّون، ومن ليس مصليًا فليس من أهل القبلة؛ لأنه لم يصل، ولم يجعل الفيصل الفارق بينه وبين أهل الكفر وأهل الشرك. أهل السنة لا يُكفِّرون المسلمين بمطلق المعاصي والكبائر، فإذا أتى الإنسانُ معصيةً أو كبيرة لا يُكَفِّرُونه كما يفعله الخوارج، ولم يقل الشيخ: كما يفعله الوعيدية؛ لأن الوعيدية يختلفون في اسمه في الدنيا؛ فالخوارج جمهورهم يكفِّره، والإباضية يكفِّرون كفر نعمة، والمعتزلة لا يحكمون بكفره ولا يحكمون بإيمانه، وأهل السنة يُسمون صاحب المعاصي عاصيًا، وصاحب الكبيرة فاسقًا. الأصل أن المعصية هي الكبيرة، والكبيرة هي المعصية، لكن إذا اجتمَعتا جميعًا فيراد بالمعاصي الصغائر، وبالكبائر الكبائر، أهل السنة لا يكفِّرُون مسلمًا بمجرد المعصية، أو بمجرد الكبيرة. وأما الحد بين الكبيرة والصغيرة فقد ذكر العلماء فيه أقوالاً كثيرة؛ فمِنهم من أبلغها إلى عشرين أو ثلاثين قولاً، أصحها وأضبطها ما حققه شيخ الإسلام ومحققو العلماء أن الكبيرة ما جمعت وصفًا من الأوصاف السبعة: الأول: كل ذنب رُتِّب عليه حد في الدنيا؛ كالسرقة، والقذف، والقتل. الثاني: أو رُتِّب عليه وعيد في الآخرة بالنار؛ ((مَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ))[1]. الثالث: أو وعيد في الآخرة باللعنة؛ ((لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ))[2] ؛ فالرِّشوة كبيرة؛ لأنه تُوُعِّد عليها باللعنة. الرابع: أو تُوُعِّد عليه في الآخرة بالغضب؛ كقول الله - في المرأة الملاعَن منها - ﴿ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [النور: 9]. الخامس: أو تُوُعِّد بنفي الإيمان عنه؛ ((وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَخَابَ وَخَسِرَ))، قَالُوا: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ ((الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). وسيأتي حديث: ((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[3] ؛ فدل على أن هذه الأفعال كبائر؛ لأنه نفى الإيمان عن صاحبه. السادس: أو تُبُرِّئَ منه؛ ((مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا))[4] ، وفي لفظ: ((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا))[5] ، وكِلا اللَّفظَين في الصحيحين، فقوله: ((مَن غش)) يشمل المؤمنَ وغير المؤمن، وقوله: ((من غشنا)) يَخصُّ المسلمين، ومن الأمثلة كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا))[6] ، ((وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ خَطَبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا، وَلا زَوْجًا عَلَى زَوْجَتِهِ)). السابع: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. فالكبيرة ما جمعَت أحدَ هذه الأوصاف السبعة، وما دونها صغيرة. والسلف يؤكِّدون في هذا الباب على قاعدة مهمة؛ أنه قد يحتفُّ بالكبيرة - من الندمِ وعظيمِ المراقبة، والقلقِ في النفس مِن مؤاخَذة الله عليها - ما يُصَيِّرُ هذه الكبيرةَ عند الله في حقِّ هذا العبد صغيرةً؛ لِمَا احتفَّ بها من هذه الأحوال، وعكسها أنه قد يحتف بالصغيرة من الاستهتار، وعدم المبالاة، وقلة الخشية ما يُصيِّر هذه الصغيرة عند الله في حق العبد كبيرةً، وهذا كثير؛ ومِن الناس مَن إذا مر عند هذه المسألة لا يشيد بها، أو لا يشير إليها، والسلف كانوا يُعنَون به جدًّا. صاحب الصغيرة يسمى عاصيًا، وصاحب الكبيرة يُسمى فاسقًا، وقد يُطلق هذا على هذا عند الافتراق وعدم الاجتماع، وهذا مذهب أهل السنة. وفي مُقابلِ الوعيدية طائفة وهم المرجئة، والمرجِئَةُ عدَّهم العلماء - كأبي الحسن الأشعري صاحب (المقالات في مقالات المسلمين) - اثنتي عشرة فرقة، لكن نحن نكتفي منها بأربع طوائفَ شهيرة، وهي: الطائفة الأولى - وهي أولها ظهورًا -: الوعيديَّة، أول ما ظهر بظهور الخوارج، فقابلَتهم المرجئة في أواخر المائة الأولى، وكان أول أمر الإرجاء إرجاءَ أمر المتقاتِلين من الصحابة رضي الله عنهم في موقعتَي الجمل وصفِّين، ثم من لحقهم بأنهم يُرجون إلى الآخرة، فالله أعلم بهم، فتطور الإرجاء إلى إرجاء أصحاب الذنوب. والمرجئة أربع طوائف كبار، وأشدُّهم إرجاء وغُلوًّا في الإرجاء - ويُسمون بالمرجئة الخالصة - هم الجهمية، وهذه هي المسألة الثانية التي افترق فيها الجهمية عن المعتزلة، والأصل الثاني الذي تبايَنَ فيه قولُ المعتزلة مع الجهمية: الإيمان، فالجهمية المرجئة المحضة الإيمان عندهم معرفة الله، فمن عرف الله فهو مؤمن، والكفر عندهم الجهل، فقالوا: مَن جهل بالله فهو كافر. فيلزم على مذهبهم - وهذا مِن أقبح اللوازم - أن يكون فِرعونُ مؤمنًا؛ لأن فرعون يَعرف الله، قال الله في موسى أنه قال في حقه في آخر سورة الإسراء: ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 102]، وقال في آية النمل: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، بل أقبح من هذا أنه يلزم على ذلك أن يكون إبليس على مذهب الجهمية مؤمنًا؛ لأن إبليس يعرف ربه؛ ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ [الحجر: 39]، وقال: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 82]؛ فالكافر عند الجهمية مَن جهل ربَّه، قال شيخ الإسلام: "ولا أحد أجهل بالله مِن جهم؛ فإنه نفى عن الله الأسماء والصفات، والوجود، فلم يجعل لله وجودًا إلا وجودًا مطلقًا، بشرط الإطلاق، وليس له وجود إلا في الذهن". فبالتالي يكون الجهم على مذهبه كافرًا؛ لأنه جهل ربَّه تعالى، وهذا يُسمى بقَلْب الحجة، وقَلب الدليل، وقلب الدَّعوى على المدعي. الطَّائفة الثانية: الأشاعرة، والإيمان عند الأشاعرة هو التصديق فقط، وربما استدلوا بقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17]، وليس معنى الإيمان في اللُّغة تصديقًا فقط، بل تصديقًا مع إقرار؛ ولهذا فإن معنى الآية: ما أنت - يا يعقوبُ - بمُقِرٍّ لنا على دَعوانا؛ لما جاؤوا على قميص يوسف بالدم، وزعموا أنه دمُ يوسف وأنَّه أكلَه الذئب، وهو دمُ شاة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾، ولكن قلبك ما اطمأنَّ، وما أقرَّ لنا بهذا القول، وهذا الواقع مِن يعقوب عليه السَّلام أنه ما أقرَّ لهم؛ ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]. يتبع |
رد: شرح العقيدة الواسطية
فالإيمان عندهم هو التصديق، أما الكفر فهو التَّكذيب، وكلُّ مَن حصَر الكفر في التَّكذيب فهو قائلٌ بقول الأشاعرة؛ دَرى أو لم يَدرِ، عَلم أو لم يعلَم؛ ولهذا مَن حصَر الكفر وقال: الكفر لا يكون إلا بالتكذيب، وما هو أبلغُ مِن التكذيب كالجحود؛ فإن الجحود تكذيبٌ وزيادة، فمن حصر الكفر في التكذيب أو بالجحود فهو قائلٌ بقول الأشاعرة؛ شعَر أو لم يَشعُر، درى أو لم يدرِ. وهذا وقَع فيه بعض المنتسبين للسُّنة؛ جهلاً منهم، ثم كابَروا، وعاندوا، وهم لا يدرون أنهم وقَعوا في قول الأشاعرة، ثم لما نُبِّهوا أبَوْا أن يعترفوا، فحافوا حيفة حمُر الوحش، وأتوا بالتأويلات، واللَّف والدوران، ولو أنهم أقرُّوا بخطئهم لما احتاجوا لمثل هذا كله، وهذا مستقِرٌّ عند أهل العلم، وعند طلبة العلم؛ أن هذا قول الأشاعرة الذي ردَّ عليهم فيه أهلُ السُّنة. الطائفة الثالثة: الكرَّامية؛ أتباع محمد بن كرَّام السِّجستاني، ومحمد بن كرَّام توفي عام (255ﻫ)، وهو مشبِّهٌ في باب الصفات، وهو مرجئٌ في باب الإيمان، قالت الكرَّامية: إن الإيمان هو النُّطق باللسان، فمَن قال: لا إله إلا الله، فهو مؤمن وإن لم يُصلِّ، وإن لم يؤدِّ أركان الإسلام، فما دام أنه نطَق فهو مؤمن! ولهذا فأقبَح ما يَلزم على مذهبِهم من فَسادِ اللوازم أن يكون المنافقون مؤمنين، والله تعالى حكَم على المنافقين بأنهم في الدرك الأسفل من النار. الطائفة الرابعة: مرجئة الفقهاء: ودخل فيهم الماتوريدية أتباع أبي منصور الماتوريدي، الذين قالوا: إنَّ الإيمان نطقٌ باللسان، واعتقادٌ بالجَنان. واختلفوا في النطق؛ هل هو ركنٌ أصلي، أو ركن زائد؟ فعِند أهل العراق أتباعِ أبي حنيفة هو ركن أصلي، وعند أبي منصور الماتوريدي وأتباعه هو ركن زائد، والفرق بينهما فرقٌ يسير، لا نُطيل الكلام عليه، فأخرَجوا العمل عن الإيمان. هذه أشهَر طوائف المرجئة، وهم موجودن في زماننا وجودًا كثيرًا؛ عامة الصوفية وعامة الأشاعرة على الصنف الثاني من أصناف الإرجاء؛ ولهذا نلاحظ الإرجاءَ عندهم في أعمالهم، فإذا أُمِرُوا بالمعروف، أو نُهُوا عن المنكر قالوا: يا هؤلاء! دعونا؛ الإيمان في القلب! وهذا مِن أثر الإرجاء؛ لأن الإيمان عندهم التصديق فقط، بلا قول ولا عمل. بِل الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي: المعاصي تشمل الصَّغائر والكبائر، فمَن فعل معصية أو كبيرة وهو مؤمن، تَبقى له الأخوَّة الإيمانية، والدليل: كَمَا قَالَ - سُبْحَانَهُ - فِي آيَةِ الْقِصَاصِ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 178]. أَخُوه هم أولياء الدَّم، فجعل أولياء الدَّم إخوانًا للقاتل، مع أن القاتل أتى بأعظمِ الذنوب بعد الشِّرك بالله، ولنتأمَّل في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ﴾؛ أي: ماكثًا فيها مكثًا طويلاً، ولهذا لم يَقُل: أبدًا، ﴿ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]؛ خمسةُ أنواع من الوعيد، واحدةٌ منها تَكفي أن يكون ذلك كبيرة؛ ولهذا عُدَّ قتلُ المؤمن ظلمًا وعدوانًا أقبحَ ذنبٍ بعد الشرك بالله. فأقبحُ ذنب بعد الشرك بالله قتل النفس المؤمنة المعصومة، وأقبح أنواع الذنوب من قتل النفس المعصومة قتل المؤمن، وأقبح أنواع قتل المؤمن أن يَقتل ذا رَحِم، وأقبح أنواع قتل ذي الرَّحم أن يقتل أبوَيه، وأعظم ذنب من قتل الأبوين قتل الأم، وهذا تدرُّج بأعظم الذنوب بعد الشرك بالله تعالى. قال: "فالأخوة الإيمانية ثابتة لمن أتى هذا الذنب"؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 178] فعدَّ القاتل أخًا لأولياء المقتول، وقال تعالى: وَقَالَ: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾: فعد الطائفتين من المؤمنين. ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ﴾: تعدت، وظلمت، وبغت. ﴿ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾: حتى ترجع فتترك عنها هذه الكبيرة. ﴿ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9]: أي: احكموا بالعدل. فالقاسطون هم العادلون. ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10]: جعَل الطائفةَ المقاتلة للأخرى إخوةً لها، فأبقى بينهما الأخوَّة الإيمانيَّة. وَلا يَسْلِبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمَ الإِيمَان بِالْكُلِّيَّةِ: ذكَر أهل السُّنة أنهم لا يَسلبون الفاسق المليَّ اسمَ الإيمان، والفاسق المليُّ عند أهل السنة هو المؤمن الذي على الملة لكنَّه أتى ذنبًا، فسَق به فصار عاصيًا، أو فاسقًا، ولا يسلبون الفاسق المليَّ اسم الإيمان بالكلية، فصاحب الذنب عند أهل السنَّة لا يَكفُر، ولا يقال: إنه غير مؤمن. وإنما يُقال: مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، أو عاصٍ بمعصيته. أو قالوا: مؤمنٌ ناقص الإيمان. والنقص جاء مِن هذه الكبيرة التي أتاها، والإيمان من التوحيد الذي عنده. وَلا يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّارِ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَة: أي: إنهم في الدنيا لا يسلبونه اسم الإيمان، فلا يقولون: هو غير مؤمن. إنما يقولون: مؤمن ضعيفُ الإيمان، ناقص الإيمان. مؤمن بإيمانه، فاسق بذنبه وكبيرته. وفي الآخرة لا يُخلِّدونه في النار كما تقوله المعتزلة والخوارج، فالمعتزلة في الدُّنيا يَسلبونه اسمَ الإيمان، فيسمونه بالفاسق الملي على اصطلاح المعتزلة، وهو مَن كان في منزلة بين المنزلتين، والمنزلة بين المنزلتين هي أولُ بِدعِ المعتزلة، فأوَّلُ بدعة ابتدعتها المعتزلة القول: بين المنزلتين؛ وذلك أنه دخل رجل البصرة، فإذا بجامعها - وكان مخاضُ الناس وقيلُهم وقالُهم في ذلك الزمان عن أصحاب الذنوب، أما مخاضهم الآن في زماننا عن: فلانٌ حزبيٌّ أو غيرُ حزبي، مبتدعٌ أو غيرُ مبتدع، إخواني أو غير إخواني، تبليغي، أو سلَفي... هذا هو مخاض أكثرِ الناس في زماننا، مخاضهم في زمن الحسَن البصري، في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم وأول التابعين - فلان مؤمن أو غير مؤمن، مِن جَرَّاء ما دخل من الفتن - الحسن البصري، فدخَل رجلٌ مع طلابه، فقال: صاحبُ الذَّنب يا إمام! أمؤمنٌ أم كافر؟ فتَطفَّل واصل بن عطاء، فقال: أنا أقول: إنه ليس بمؤمن، ولا بكافر - والمسؤول هو الحسن البصري، وهذا أجاب جوابًا تطفليًّا - فتطاول على شيخه، وعلى هذا السَّائل، فقال: أنا أقول لا مؤمن ولا كافر. ثم اعتزل هو وعمرُو بن عُبيد حلقةَ الحسن في جامع البصرة، فصاروا في ناحية، فسمَّاهم الناس معتزلة؛ أي: إنهم اعتزلوا حلقة إمام أهل السُّنة - إمام المسلمين في زمانه - بهذه البدعة، أنهم سمَّوه لا مؤمن ولا كافر؛ في منزلة بين المنزلتين، وهذه أول بدعهم. وأيضًا الخوارج - في اسمه في الدنيا - يَسلبونه اسمَ الإيمان، فيسمون الفاسق المليَّ في منزلةٍ بين المنزلتين، أما الخوارج فسموه في الدنيا كافرًا. بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ﴾ [النساء: 92]: لو أنَّ هذا صاحب الرقبة مؤمن لكنَّه يَسرق، أو يزني، أو يشرب الخمر، أو يأكل الرِّبى؛ فإنه يصح إعتاقه حتى عند هؤلاء المعتزلة، ومما يُناسب ذِكرُه أن المعتزلة أكثرهم في القرن الثالث على مذهب الإمام أبي حنيفة؛ يُمضون أن هذا مؤمن فيُعتق، خلافًا لمذهبهم في الأصول، يخالفونه في مذهبه في الفقهيات والعملية. وَقَدْ لا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2]. عندنا إيمانٌ مطلَق، وعندنا مطلقُ الإيمان، ومطلق الإيمان هو الإيمانُ العامُّ الذي يَشمل كاملَ الإيمان، وضعيفَ الإيمان، والمؤمنَ الفاسق، والمؤمنَ العاصيَ، أمَّا الإيمان المطلقُ فهو الإيمان الكامل، وقد لا يدخل صاحبُ الكبيرة عند أهل السُّنة في اسم الإيمان المطلق (الكامل)، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2]؛ فإن المؤمنين في هذه الآية هم المؤمنون إيمانًا كاملاً، أصحاب الإيمان المطلق الكامل، ولا يُدخِل أهلُ السنة صاحبَ الذنب في الإيمان الكامل؛ فقد نقَص إيمانُه بكبيرته وذنبه، ولا يُدخِلونه في الإيمان الكامل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يُسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[7]: أي: إنَّه في هذه الكبائر يُنْفَى عنه الإيمانُ المطلق، الإيمانُ الكامل، ولا يُنفى عنه أصلُ الإيمان عند أهل السُّنة، أما عند الوعيدية فإنَّهم يَنفون عنه أصل الإيمان، أما المرجئة فيعدون هذا كامل الإيمان وإيمانه مطلق؛ لأن الإيمان عندهم لا يؤثِّر فيه الذنوب، ولا يؤثر فيه تَركُ العمل. وَيَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ؛ فَلا يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ بِكَبِيرَتِهِ: هذا قولُ أهل السُّنة والجماعة في أنه لا يُسلب الإيمانَ الكامل، ولا يُسلب مطلقَ الإيمان؛ أي: مجرَّدَ اسم الإيمان. أما أدلة أهل السنة والجماعة على أن الإيمان يَزيد وينقص فكثيرة جدًّا في القرآن والسنة، وفي الآثار السلفيَّة، وأدلة أهل السنة على إدخال العمل في الإيمان كثيرة جدًّا؛ منها قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [البقرة: 277]؛ فإنَّ عطف العمل على الإيمان مِن باب عطف البعض على الكل؛ عطف الخاصِّ على العام، وهذا يَعني مُطلَقَ الجمع، خلافًا لمن أخرج العمل عن الإيمان بأن جعل الواو للمغايرة، فالواو هنا لمطلق الجمع؛ كما قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]؛ لا شكَّ - بإجماع المسلمين - أنَّ الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر مِن الإيمان بالله. وقال تعالى لما حوَّل القِبلة في آخر الآيات: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]، والمراد بإيمانكم بالاتفاق الصلاة، فيمن صلَّوا ستةَ عشَر شهرًا إلى بيت المقدس، ثم تحولت القبلة وماتوا قبل تحوليها؛ فإن الله لا يُضيع صلاتَه؛ حيث قال - متفضلاً ممتنًّا -: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]، فسمى الصلاةَ إيمانًا مع أن الصلاة عمل، إلا أنه وللأسف خيض فيها في الأزمان المتأخرة، ووقف لها علماؤنا - كالشيخ ابن باز، والشيوخ أعضاء اللجنة الدائمة - موقفًا ثابتًا، فما تزحزَحوا، وأبانوا فيها غلط الغالطين، وأصدروا فيهم البيانات؛ لعلهم أن يرجعوا، فمن رجع منهم فقد أصاب، ومن كابر فإنما فضح نفسه، ودل على مخالفته مذهب أهل السنة في هذا الأصل. ولكنه لما أُخِذ العلم عن غير أهله، وتُلُقِّي عن غير أصحابه أصبح مخاضُ الناس المتعالمين: هل العمل شرطُ كمال، أو شرط صحَّة؟ وهل العمل مِن الإيمان أو ليس من الإيمان؟ فلو أن هؤلاء حَفِظوا هذه العقيدة، وتلقَّوها كما تلقاها العلماء عن أشياخهم لَما طرَأ هذا الطارئُ على قلوبهم، لكن هؤلاء علومهم من الكتب ومن الصحف لا مِن ثَنيِ الرُّكَب عندَ أهل العلم، ومن كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه؛ يَفهم الشيء على غير معناه، ويظنه حقًّا وهو على غير معناه! [1] رواه البخاري (5787)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] رواه أحمد (2/ 164، 190)، وأبو داود (3580)، والترمذي (1337)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. [3] رواه البخاري (6016)، من حديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه. [4] رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). [5] رواه مسلم (102)، من حديث أبي هريرة. [6] رواه البخاري (7070، 7071)، ومسلم (98، 100)، من حديث عبدالله بن عمر، وأبي موسى. [7] تقدم تخريجه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (32) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل .. وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِئِهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ مَا هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ؛ إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ: هذا موقف أهل السنة مما جرى بين الصحابة؛ وهو الإمساك والكف، وعدم الخوض فيه باللسان، والقيل والقال، والتحليلات والشائعات، وتصويب فلان على علان، ومثالبهم التي تُرْوَى في كتب التاريخ، وشُحِنَت بها كتب الأدب؛ يتبرؤون منها، ويُنَزِّهون الصحابة منها، قال القحطاني في نونيته[1]: دَعْ مَا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي الْوَغَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بِسُيُوفِهِمْ يَوْمَ الْتَقَى الْخَصْمَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَقَتِيلُهُمْ مِنْهُمْ وَقَاتِلُهُمْ لَهُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَكِلاهُمَا فِي الْحَشْرِ مَرْحُومَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وَاللهُ يَوْمَ الْحَشْرِ يَنْزِعُ كُلَّ مَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تَحْوِي صُدُورُهُمُ مِنَ الأَضْغَانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهذه الأخبار والمرويات عند السبر هي على أنواع؛ فهي إما أنها كذب وهو أكثرها؛ ولهذا فإن أكثر روايات الفتنة التي جرت بين الصحابة من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى الرافضي الشيعي الغالي، وهو غير مُعْتَبر، أو أنهم منها بُرآء، أو أنهم مما يُذكر في الحوادث التي هي مثالب معذورون، ولهذا يَذمُّ أهلُ السنة من يخوض في أمر الفتنة بالتفصيل؛ اعتمادًا على كتب التأريخ غيرِ المحرَّرة ولا المحقَّقة، ولا الْمُفَتَّش في أسانيدها، وما قد يصح من ذلك فإنهم رضي الله عنهم معذورون؛ بين مجتهد مأجور، وبين مجتهد مخطئ، فمن اجتهد وأصاب فله أجران: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة. ومَن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد، وهو أجر الاجتهاد؛ ولهذا فإن أهل العلم ما زالوا يعيبون على مَن يخوض في تفاصيل ما جرى بين الصحابة مدحًا أو ذمًّا، نفيًا أو سلبًا، تجريحًا أو تعديلاً، ويعيون بمذمته ونقيصتِه[2]، ومنهج التحقيق في الروايات وتصويبها هي طريقة علماء أهل السنة المحققين، الذين وقفوا على هذا العلم، فنقدوه نقدَ الرواية؛ بقَبول صحيحها ورد سقيمها. وَهُمْ - مَعَ ذَلِكَ - لا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ: لَمَّا ذكَر هذه المكانةَ أتى بهذه الفقرة حتى لا يَتصوَّر متصوِّر، أو يَظنَّ ظانٌّ أن أهل السنة يعتقدون بعصمة الصحابة؛ سواء من الكبائر، أو الصغائر، وبهذا يَردُّ ما قد يأتي من إيراد؛ فإن الروافض لَمَّا أحبُّوا آل البيت غلَوْا فيهم، واعتقدوا في أئمتهم أنهم معصومون مِن الخطأ، ومِن الكبيرة، بل جعلوا لآل البيت مقامًا ومنزلة لم يبلغها نبي مرسل، ولا ملك مقرب. وأهل السنة ليسوا كذلك؛ فهُم يَعرفون لهؤلاء الفضلَ، لكن لا يُقدِّسون الأشخاص، وينزهونهم عن الذنوب والكبائر، فهم بشَر يُخطئون ويصيبون ما يُصيب البشَر، وهذا مقتضى الحديث مِن قوله: ((كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ))[3]، وفي رواية: ((كُلُّكُمْ خَطَّاءٌ)). ويقول النبي لأصحابه: ((لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لأَتَى اللهُ بِأَقْوَامٍ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ))[4]. وَلَهُمْ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْس لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ: السوابق هي الفضائل والمكارم والمناقب التي سبقت لهم ولم تكن لغيرهم، وقد عُنِيَ أهل السنة ببيانها، بل صنَّفوا فيها المصنفاتِ المفرَدةَ والمجموعة؛ المفردة كفضائل الصحابة للإمام أحمد، وفضائل الصحابة للنَّسائي وغيرها، والمجموعة كما في الصحيحين مِن كتاب المناقب، وكتاب الفضائل يُعنون فيها بفضائل الصحابة ومَناقبهم وسَوابقِهم، وإن وقع منهم ذنوبٌ ومَعاصٍ لكنها تَضيع في بحر سوابقهم وفضائلهم وحسناتهم. ومِن ذلك أنهم صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا معه، ونزلَت عليهم الأحكام، وتلَقَّوها منه إلينا، وحملوها منه إلينا، وحسبُنا بهذا فضائل، كيف وقد جاء فيهم فضائلُ متنوعة؟! ومنها قوله: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي)). فجعلهم خير الناس، ومنها ما جاء في الفضائل في مجموعهم في سابقتِهم: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 100]، ومنها ما جاء في بعضهم في أهل بدر في أهل الشجرة: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾ [الفتح: 18]، وفي الصحيح يقول النبي: ((لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)). ومنها ما جاء في الفضل الخاص لبعضهم على بعض. وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذَا تَصَدَّقَ بِهِ أَحَدُهُمْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ إَذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ ذَنْبٌ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بِحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَوْ غُفِرَ لَهُ بِفَضْلِ سَابِقَةٍ: موقفنا من ذنوبهم إما أنه قد تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإما أنه ضاع في بحر حسناته، ومن أعظم حسناته صُحبته وسابقته، وجهده وجهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو يُغفر له بسبب سابقته التي حصلَت له. أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ: وهذه الرابعة؛ فإنه إن لم يُغفر له بالأسباب الثلاثة الماضية تبقى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأولى من تطوله شفاعته أصحابه رضي الله عنهم. أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاءٍ فِي الدُّنْيَا كَفَّرَ بِهِ عَنْهُ: حصل له بلاء في الدنيا؛ إما بفقر، أو بغيبة، أو بمقتَلَة، فتكون هذه البلايا من مكفرات الذنوب، ولهذا لما قيل لعائشة رضي الله عنها: إِنَّ قَوْمًا يَنَالُونَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، وَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ: "مَهْ، وَمَا تَكْرَهُونَ مِنْ ذَلِكَ؟! قَوْمٌ انْقَطَعَ عَنْهُمُ الْعَمَلُ، فَمَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُمُ الثَّوَابَ والأَجْرَ بِمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الأَجْرِ النَّاشِئِ مِنْ كَلامِ مَنْ بَعْدَهُمْ فِيهِمْ بِالسُّوءِ وَالْمَذَمَّةِ))[5]. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ فَكَيْفَ بِالأُمُورِ الَّتِي كَانُوا فِيهِ مُجْتَهِدِينَ: إذا كان في الأمور المحققة التي تحققنا أنها ذنب، أنها تُغفر؛ إما برحمة الله، أو بشفاعة الشافعين، أو أنها تضيع في بحر الحسنات، أو في مقابل ما يُصاب به الإنسان في الدنيا من أنواع الفتن، والمحن، والملمات، فكيف بما هم فيه مجتهدون؟! قد يكون مذنبًا، وقد يكون مخطئًا، وقد لا يكون مخطئًا. إِنْ أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ: هذا مبناه على الحديث الْمُخَرَّج في الصحيحين، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابِ فَلَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ الاجْتِهَادِ، وَأَجْرُ الإِصَابَةِ. وَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ))[6] ، وهو أجر الاجتهاد، ويذهب عنه أجر الإصابة. ثُمَّ الْقَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ، مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: هذه قاعدة: القدر الذي يُذكر في مَثالبهم، أو في النقد عليهم قدرٌ يَسير إذا صحَّ إلى بعضهم؛ من خطأ في قول، أو في فعل، أو في تصرفٍ فإنَّه يَضيع في بَحر حسناتهم وسابقتِهم وفضائلهم، لكن الشأن من ذلك الأعور، الذي لا يَنظر إلا إلى هذا النزر اليسير، وتَعْمى عينُه عن هذه الفضائل الكثيرة، كما هو شأن الروافض والنواصب جميعًا؛ فإن الروافض لم يَنظروا إلى هذه الفضائل في القرآن والسنة والسوابق، وما حصل لهم من كريم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وعشرين سنة، وإنما جحَدوها، وتتبعوا أشياءَ فردية أكثرها هم فيها معذورون، إذا لم يكن جلها وكلها. والخوارج مذهبهم من الصحابة أنهم يترضَّون عن أبي بكر وعمر ومَن مات في عهدهما، ويَسبُّون ويُكفِّرون عثمانَ وعَليًّا ومن رضي بحُكمِهما، ولهذا لو قال قائل: إن الخوارج يسبون الصحابة جميعًا. نقول: هذا خطأ على الخوارج، فلا بد من هذا التفصيل. وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ، لا كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلَهُمْ، وَأَنَّهُمْ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ، الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ، وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ جَلَّ شَأْنُهُ. هكذا يصل الإنسان إلى هذه النتيجة بالنظر فيما قاله الشيخ رحمه الله بعلم البصيرة وعين العلم، لا بعَين الهوى والبغي أو الشَّنَآن، أو بعين الغِلِّ وقضاء المآرب، فمَن نظر في سِيَرهم المرويَّةِ عنهم بعين البصيرة والعلم عرَف ما لهؤلاء القوم من المكانة، التي ما كان ولا يكون في أتباع الأنبياء مثلهم، وهذه النتيجة لو ضُرِبَت إليها أكباد الإبل لما كان يَسيرًا أن يَصِل إليها المؤمن، وهكذا الآن فيمن ضعف إيمانه، أو حصل عنده خمول، أو قصورٌ أو فتور، ثم رجع إلى سير الصحابة، فنظر إلى الإيمان وآثاره فيهم، ونظر إلى جهادهم وقتالهم، وتضحيتهم وفدائهم، نظر إلى هجرتهم، نظر إلى ما سبقوا فيه من العلم، والفقه، والإمامة في الدين، والله إن ما معه من النقص يَزداد بذلك، وهذه مِن الأسباب التي يزداد بها الإيمانُ بعد قراءة الوحيَيْن؛ قراءة سيرته صلى الله عليه وسلم، ثم سيرة زوجاته وأصحابه، وما كان لهم من الفضائل والسوابق. [1] نونية القحطاني. [2] ولهذا فإن أشرطة الفتنة للدكتور طارق السويدان هو اعتمد على كتب التاريخ كالبداية والنهاية، وتاريخ ابن جرير التي هي روايات مبنية في الجملة على روايات أبي مخنف لوط بن يحيى وأضرابه، وقد أجمعت اللجنة الدائمة بمصادرة هذه الأشرطة، وعدم سماعها، وعدم حِلِّ بيعها وتوزيعها ؛ لأنها تنشر المثالب من غير تحقيق، ولا تمحيص، وفيها إيغار الصدور على أولئك الجلة، الذين هم في مجموعهم أهل عدالة لصحبة النبي صلى الله عليه زسلم. [3] رواه أحمد في المسند (3/ 198)، والترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، والحاكم (4/ 244)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. [4] رواه أحمد، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (1951): حسن لغيره من حديث.. أنس رضي الله عنه. وورد عند مسلم نحوه (2748)، من حديث أبي أيوب رضي الله عنه. [5] رواه ابن الأثير في جامع الأصول (8/ 554)، وعزاه لرزين. [6] رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (35) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ: إنَّ هذا مِن التبعيض؛ أيْ: تبعيضٌ لذِكْر أصولهم، أنهم يصدقون بكرامات الأولياء. وكرامات الأولياء فرعٌ عن آيات الأنبياء، فيسميها السلف بالآيات، ويسميها المتكلمون بالمعجزات، وآيات الأنبياء أو معجزاتهم: هي كل أمر خارق للعادة، يجريه الله على يد نبي من أنبيائه، ويتحدى بها الخلق. أما الكرامة: فهي كل أمر خارق للعادة، يُجريه الله على يد ولي من الأولياء، ويتحدى بها أو لا يتحدى. فالفارق بين الآيات وبين الكرامات أن الكرامات على الأولياء فقط، وأما الآيات فهي للأنبياء، وكرامات الأولياء هي للأنبياء الذين أُومِنَ بهم وصُدِّق بهم - هي في حقِّهم آيات؛ لأن الكرامة لا تتأتَّى للولي حتى يُصدِّق بالنبي، ويؤمن به. وأما أولياء الله الذين تقع عليهم الكرامات فهذا مَقامٌ انحرفَت فيه الطوائف انحرافًا عظيمًا، فقصَرَت الروافضُ ولاية الله تعالى في أئمتهم، الذين ادَّعَوا لهم العصمة، على اختلافِ طوائف وأصناف الروافض، فالاثنا عشرية يجعلونها في الأئمة الاثني عشر، والإسماعيلية يجعلونها في الأئمة السبعة إلى إسماعيل بن جعفر، والصوفية يجعلون ولاية الله لمن اتصف برسومٍ وأوصافٍ وأحوال، فمِن أوصافه: لبس خِرَق، وسُبَحٍ، وجُبَبٍ. ومِن أحواله تكلُّمه بالأمور الغيبية، أو هرطقته، وهم مَن يُسمون بالمجاذيب، يعدُّهم الصوفية أولياء. وأهل السنة والجماعة انضبَطوا في وصفِ الولاية بضابط الشرع، فيما جاء في الكتاب والسنة؛ فإن الأولياء عند أهل السنة هم كل مؤمن تقي، فكل مؤمن تقي هو لله ولي؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [يونس: 62 - 64]؛ فالمؤمن التقي هو لله ولي، ولهذا فالأولياء يتفاوتون في درجاتهم؛ فمنهم من له الولاية الكاملة، ومنهم من له دون ذلك بحسب إيمانه وتقواه، فكلما زاد الإيمان وزيدت التقوى نال من الولاية أعلى مراتبها. وأولياء الله تعالى لا بد أن يكونوا مؤمنين؛ فالكافر لا يكون لله وليًّا، ولهذا ينقسم الناس في أمر العداوة والوَلاية إلى ثلاثة أقسام: الأول: مَن له الوَلاية الكاملة. وهم كُمَّل المؤمنين من الأنبياء والمرسَلين، والصدِّيقين والشهداء؛ فهؤلاء لهم الوَلاية الكاملة. الثاني: مَن لهم العداوة الكاملة وهم الكفار. الثالث: من له ولايةُ محَبة مِن جهة، وعداوة من جهة. وهو المؤمن صاحب الذنب. وكرامة الأولياء - الكرامة التي يؤيد الله بها وليَّه - يُفارقها شيء يُظن أنه كرامة، وهو ليس بكرامة، وهي الخوارق الشيطانيَّة؛ في الأحوال، في المغيبات، في المعلومات، في أنواع الخوارق الشيطانية، والخوارق الشيطانية من الشياطين، تُعين بها أولياءها لِتُفسد على الناس دينَهم، أو تفسد دنياهم. ولهذا فإن هناك فروقًا بين كرامات الأولياء وخوارق الشياطين، وهي: أولاً: الكرامة من الله، ليست من ذات الولي، وإنما هي تأييد يؤيد الله بها وليه، أما الخوارق فهي من الشياطين. ثانيًا: الكرامة لا تكون عند رغبة الولي؛ فليست هي بأمره وإشارته وإرادته، أما الخارق الشيطاني فتكون عند إرادة ولي الشيطان، فإذا أراد الخارق الشيطاني أوصى وليَّه، فجاءه به؛ بإخبارٍ عن غيب، أو بإعلام عن مستقبَل، في إتيانٍ بشيء بعيد، يمشي على الماء، يطير في الهواء... إلى غير ذلك مما ذكَر طرَفًا منه شيخ الإسلام في كتابه: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان". ثالثًا: الكرامة لا تقَع إلا عند الحاجة إليها، وأما الخارق الشيطاني فيقع عند الحاجة إليه وعند عدم الحاجة إليه. رابعًا: الكرامة سببها الإيمانُ والتوحيد والسنَّة، والخارق سببه البدعة والكفر والضلالة. الكرامات أنواع؛ قال رحمه الله: وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ: أي: إنه يُحسن فيها، فتجده يُحسِنُ علمًا لم يتَلقَّه عن أحد مما جعله الله فيه، وأنواع المكاشفات؛ أي: إن الله يكشف له فقهًا واستنباطًا، وربما غيبًا لم يكشفه لغيره، ومثال ذلك أن عمر كان يخطب على منبر النبي في المدينة، وقد بعَث جيشًا، وجعل عليه ساريةَ بن حارثة إلى أرض فارس، فأحاط بهم المجوسُ مِن ثلاث جهات، وكادوا أن يَفتِكوا بهم، فكُشِفَ الأمر لعُمرَ حتى كأنه يَراهم وهم في فارس، فلم يكن هناك نقلٌ مباشر، ولا تصويرٌ بالأقمار الصناعية، وإنما هو كشفٌ كشَفه الله تعالى لعمر لَمَّا احتِيجَ إلى ذلك مِن المؤمنين، فنادى بأعلى صوته وهو يخطب: يَا سَارِيَةَ، الْجَبَلَ، يَا سَارِيَةَ، الْجَبَلَ[1]، فسَمِع ساريةُ قولَ عمر ونِداءه وهو في أرض المعركة، وليست ثمة وسائلُ اتصالات تنقل قول عمر، فانحاز بالمؤمنين إلى الجبل، فسَلِموا من عدوهم. وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ: أنواع القدرة هي ما يُقْدِرهم الله عليه، فيَصبرون على ما لا يصبر عليه غيرُهم، ويتحمَّلون ما لا يتحمل غيرهم، وربما يتحملون من العذاب والأذى ما لا يُطيقه غيرُهم، وهذه كرامة، ومن ذلك أن خالد بن الوليد رضي الله عنه تحدى أكيدر دومة، فشرب السُّم، والمعتاد أن من يشرب السم يَهلِك، لكن الله تعالى أيَّد خالدًا بالقدرة على تحمل هذا السم، فلم يضره. وأنواع التأثيرات؛ أي: التأثيرات في الناس؛ مِن سرعة الفهم، وقوة البيان، وعطف القلوب؛ فإن من يحبهم المؤمنون، ويُجعل لهم القبول في الأرض هذه كرامة لهم؛ لأن هذا خارج عن مألوف العادة أن يجتمع في حب الإنسان البر والفاجر، القريب والبعيد، وضرب رحمه الله مثالاً لهذا، فقال: كَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا: ذكَر الله تعالى في سورة الكهف نوعين من الكرامات التي وقعَت لمن قبلَنا، منها قصَّة فِتية الكهف، وهم فتية لم يتَجاوزوا العشرين عامًا في عامَّة قول المفسِّرين، اختلفوا فيهم، فقيل: خمسة عشر. وقيل أقل من ذلك، وقيل أكثر من ذلك، ولم يُجاوزوهم العشرين، فناموا في كهفهم هذه المدة الطويلة ثلاثمائة سنة شمسية، وازدادوا تسعًا؛ أي: قمَرية؛ من غير حاجة وافتقار إلى طعام وشراب، فلم تتغيَّر حالهم، وهذا مما أقدرهم الله عليه. وكذلك من الكرامات ما وقع لهذا الملِك الصالح ذي القَرنَين، وهو الإسكندر ذو القرنين؛ فإنه كان مَلِكًا صالحًا موحِّدًا، طاف الأرض من مشرقها إلى مغربها، وابتنى السد على يأجوج ومأجوج كما قصَّه الله تعالى في آخر سورة الكهف. وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ فِرَقِ الأُمَّةِ: انتقل إلى أنواع الكرامات التي وقعت للصحابة رضي الله عنهم، والكرامات الواقعة في الصحابة أقلُّ منها في التي وقعَت للتابعين، والتابعون أكثرُ كراماتٍ من الصحابة، وتابعو التابعين أكثرُ كرامات من التابعين؛ وهذا فيه دليلٌ على أن الكرامة إنما تقع عند الاحتياج إليها، أما إذ لم يُحتَجْ إليها لم تقع. والكرامات وخوارقُ العادات التي يُجريها الله على يد أوليائه إلى قيام الساعة يؤيد الله بها مَن شاء مِن عباده، وهاهنا مسائلُ: المسألة الأولى: هل من شرط الولاية حصول الكرامة؟ ليس من شرط الولاية حصول الكرامة، لكن كم مِن المؤمنين لم يثبت أنه وقع لهم كرامات، فهذا أبو بكر رضي الله عنه لم تثبت له كرامة بذاته[2]، وإنما الذي وقَع له مع النبي صلى الله عليه وسلم كما كان في الغار، وكذلك غيره من كُمَّل المؤمنين، فليس من شرط الولاية حصول الكرامة. المسألة الثانية: ليس كل ما يُدَّعى أنه كرامة يكون كذلك؛ لأن الشياطين لهم تهويلات على النفوس، ولهم تأثيرات، ولهم وساوسُ، حتى ربما يتهول ويتوسوس الموسوس فيظن الشيء كرامة وهو ليس بكرامة، ولهذا نسمع إلى عهد قريب في بعض المعارك أنه شُمَّت رائحة المسك، فهذا قد يقَع كرامة، لكننا لا نستطيل مع كل خبر يُروى في هذا الجانب، وقد تتبَّعنا بعضَ هؤلاء، فقالوا: في الحقيقة نحن ذهبنا في موجة الدعاية، وإلا ما أحسست به إلا بعدما قيل: إن هذا وإن هذا رائحته مسك. فتصوَّر هذا المسك كالذي يهول الأمر، أو ينفخ بالكذبة حتى يكون هو ممَّن يُصدِّقها، وما جاء في الحديث: ((مَا مِنْ مُجَاهِدٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ)). وهذا في يوم القيامة، لكن قد يقع في الدنيا، أما أن يُستطال فيه، وفي ذكر الروايات والأخبار، والغلو فيها بهذا النحو الذي وقع عند طوائف من الناس فإن هذا أمر مما يُستبله فيه؛ أي: إنه يُعتقد فيه البلاهة من غير اعتقاد لرد الكرامة. المسألة الثالثة: أنواع الناس في الكرامات: النوع الأول: من الناس من تأتيهم الكرامة فتزيد إيمانه، بحيث يكون ضعيف إيمانٍ فيؤيده الله بكرامة فيزداد إيمانه. والنوع الثاني: من تأتيه الكرامة فلا يتغير حاله، بل يبقى حاله قبل الكرامة وبعدها واحدًا؛ لأنه في حال من الإيمان والكمال فيه لم تؤثر فيه الكرامة. وهذا حال الْكُمَّل من المؤمنين، ومنهم عُمر. والنوع الثالث (وهو الأكثر): من تقع عليهم الكرامات فتفتنهم، أو تصيبهم بالعُجْب والفخر، أو تصيبهم بأنواع الغرور الذي يكون صارفًا لهم عن دين الله. مسألة: الكرامات مَنوطةٌ بالحاجات: حاجة في الدنيا، أو حاجة في الدين. وتقع الكرامة عند حاجة في الدنيا، أو حاجة في الدين. مسألة: من أنكر الكرامات؟ الكرامات غلا فيها طوائف، وهم الروافض في آل البيت، والصوفية فيمن يعتقدون فيهم الولاية، حتى ربما يبول الرجل على نفسه فيظنونها له كرامة! ويبول في المسجد ويقولون: هذه كرامة. ويكون مجنونًا خفيف عقل ويعتقدون أن هذه كرامة، قد يَكون في الشوارع مخبولون لَبِسوا الجبب، وعلقوا المسابح، ورفعوا أصواتهم، وغمغموا، فيُعتقد فيهم عند العوام والْبُلْه أنهم من الأولياء وأن هذه لهم كرامات. وفي المقابل أنكرَت الجهميةُ والمعتزلةُ وبعض الأشاعرة وليس كلهم - أنكَروا الكرامة؛ وقالوا: لئلاَّ تَختِلط الكرامةُ بالمعجزة؛ فلا يتميز عندئذٍ النبي من الولي! وهذا من تحكيم العقل، وردِّ الشرع، والتكذيب بالواقع، ومن ميز بين كرامة الولي وآية النبي لم يلتبس عليه الأمران. وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قد يقول قائل: هل ثَمة مثالٌ على الكرامات إلى قيام الساعة؟ فنقول: نعم، منها ما يقَع في الملحمة العُظمى بين المسلمين وبين أعدائهم، عندما ينطق الحجَر والشجر، فنُطقُ الحجر والشجر هذا لهم كرامةٌ؛ للمؤمنين المجاهدين، ومثال آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه في آخِر الزمان يَكفي المؤمنين مِن الطعام والشراب ذِكرُ الله كما كفى ذِكرُ الله الملائكةَ؛ أي: إنَّهم يَذكرون الله بقُلوبهم وألسنتهم وجوارحهم ذِكْرًا يُغنيهم عن الطعام والشراب، فيتقلَّلون منه جدًّا، كما أنَّ الملائكة طعامهم وشرابهم في ذِكْر الله تعالى، وهذا يكون في آخر الزمان، وهذا بالنسبة إلى غيرهم ممن لا يَشبعون من طعامهم ولا من شرابهم. [1] رواه البيهقي في دلائل النبوة، وذكرها ابن كثير في البداية (7/ 131)، وقال : "إسناده حسن جيد". وحسنها الألباني في السلسلة الصحيحة (1110). ثبت لأبي بكر رضي الله عنه كرامة كما في ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في (الفرقان بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان)، والشيخ ابن عثيمين في شرح العقيدة الواسطية، والشيخ صالح الفوزان في شرح العقيدة الواسطية. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (36) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل فصل: ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاطِنًا وَظَاهِرًا: لَمَّا ذَكر لنا طرَفًا مِن أصولهم أعاد الحديثَ مرة ثانية في طريقتهم (مِنْهاجهم)؛ فإن المراد بالطريقة المنهجُ الذي يَسيرون عليه، أصولهم في تَلقِّي العقيدة، والاستدلال عليها، ومنهجهم في الديانة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا. أهل السنة إذا نظرت إليهم في كل زمان، وطالعت تراجمهم، ونظرت إليهم في زمانك وإذا أليق الناس، وأحرص الناس، وأولى الناس بهديه صلى الله عليه وسلم؛ إن كان في عباداتهم، إن كان في أقوالهم، إن كان في أفعالهم، إن كان في عقائدهم؛ ولهذا تدور بينهم وفيهم أحاديث صلى الله عليه وسلم فلا تجدهم يرفعون رؤوسًا، ولا يعظمون ولا يُجلُّون بعد كلام الله إلا كلام رسوله. وقول الشيخ: "باطنًا وظاهرًا"؛ باطنًا في الأمور الباطنة؛ كمسائل الإيمان والاعتقاد، وفي العبادات عبادات الخلوات، تجده يتحرى السنة، يتحرى هديه صلى الله عليه وسلم فيستقيم عليه ويقدمه، وربما أفنى وقته يتحرى، ويبحث عن هذا الهدي، يفتش عنه في الكتب، ويسأل عنه العلماء، يتلمسه في دراسته ليتمثل به؛ كما يُعنَون به ظاهرًا. وللأسف فإنه قد وُجِدَ بعض المنتسبين للسنة في هذه الأزمان وقبلها من يُعنَى بالسنة ظاهرًا لا باطنًا أمام الناس، لا في خلواته، وهذا ضربٌ من أضرُب النفاق، وضربٌ من أضرُب الرياء، وهو بِضاعةُ إبليسَ التي درجَ بها على هؤلاء، شعروا أو لم يشعروا، ولهذا ربما يأتيه من هذا الجانب؛ إذ يرى فيه حُبًّا للسُّنة، وتعظيمًا لها، وتطبيقًا لها، فيَزيدها في قلبه وهو لا يشعر فيما يكون أمام الناس؛ في عبادته، في صلاته، في ذِكْره في غير ذلك، أما في خلواته فإنه لا يُعنى بها، وهذا مدخلٌ عظيم من مداخل الشيطان، يفترس فيه أولياءه وهم لا يشعرون، فليُفطَن لهذا. ومن هذا الأصل، ومن هذا المظهر - ظهَر ما نراه من عناية الكثيرين بالسنَّة المستحبة، في مقابل تَضييعِهم الفرضَ الواجب؛ في رمضان نجد من الناس من يُعنى بالتراويح، بتتبع الأصوات والمساجد، وإذا نظرت إليه في الفريضة إذا هو مفرط فيها، ومن النساء مَن تخرج إلى صلاة التراويح في المسجد متعطِّرة متزينة، تُحَصِّلُ سنة في سبيل ارتكاب المحرَّم! وهذا من مداخل الشيطان. وأحسنُ ما رأينا في بيان هذه المداخل، ونجاة الناس منها كتاب ابن القيم "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"؛ فإنه نوَّع في أنواع المصائب التي يصيب بها الشيطان، ويلقي شباكه على الناس وهم لا يشعرون. وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ومن طريقة أهل السنة والجماعة اتباعُ آثارِ الصحابة، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ممَّن لهم السابقة؛ سابقة الإيمان والهجرة والجهاد، وصُحبةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مرَّ معنا بيانُ مَراتب الصحابة في الفضل، ورتَّبناها إلى مراتب، فأهل السنة يعظمون آثار الصحابة، بل يتلمسون معانيَ القرآن، ومعانيَ الأحاديث بآثار الصحابة؛ لأنهم هم الذين شهدوا التنزيل، وعليهم نزلَت الأحكام، وهم رضي الله عنهم أول من خُوطِب في الكتاب والسنة في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 104]؛ ولهذا يُعنى أهل السنة بآثارهم، لكن لا يدعون لآثارهم المكانة التي يجعلونها لمكان النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإن مَجالسهم وعلومهم، وتصانيفهم وتدريسهم محشوَّةٌ بآثار الصحابة مع آيات القرآن وأحاديث النبي، ويفعلون ذلك لأن هؤلاء هم أهل النجاة، وهم الذين أُمِرنا باقتفاء طريقتهم؛ كما في حديث العِرْباض بن سارية رضي الله عنه، الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنَّة، قال: وَعَظَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجَلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا. قَالَ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا))[1]، وقد وقع ما أخبَر به صلى الله عليه وسلم، والاختلاف يزداد وينتشر، ويتفرَّع ويكثر، كلما بعد الناس زمانًا وحالاً عن زمن النبوة، فالافتراق في زماننا أكثر منه في الزمان الماضي، والزمن القادم أكثر منه في الزمن الحالي، فقال: حَيْثُ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي)): ذكر الْمُستْعَصْمَ من هذا الاختلاف والافتراق، والنجاة من هذا التشرذم، فقال: ((عليكم بسنتي))؛ أي: ديني وطريقتي التي علمتكم إياها. ((وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي)): الخلفاء هم الذين يخلفون النبي، ويَخلُف بعضُهم بعضًا، والراشد الذي عمَلُه صائب موفَّق؛ لأنه قائم على ما جاء عن الله، وعن رسوله، والمهديُّ الذي يعمل بهدى من الله، وهذا نوع من أنواع الكرامة في العلوم، وفي التأثير، وفي القدرة. وقد اتفق العلماء على أن الخلفاء الأربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا رضي الله عنهم هم أعظم الخلفاء الراشدين، وألحقوا بهم عمرَ بن عبدالعزيز، وجاء النصُّ في أبي بكر وعمر بالذات في قوله صلى الله عليه وسلم: ((اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ))[2]، وقوله: ((بعدي)) يُخرِج الخلفاء الراشدين قبلَه في الملوك السابقين قبله. ((تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)): أي: تمسكوا بهذه السنة والطريقة. والنواجذ هي الأنياب، أو الأضراس، وهذه مبالغة وكنايةٌ عن شدة التمسك، وعدم المجاملة في أمر الاستمساك بالسنة، بل تكون عندك مستمسكًا كأنك عاضٌّ عليها بنواجذك. ثم ذكَر ضدَّ السنن، فقال: ((وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ)): كل أمر محدَث مبتدَع مخترَع في الدين فاحذَرْه واتَّقِه وتجنَّبْه، بل وفي أمر الدنيا مما يتوقف عليه أمر الدين؛ كأمر الاجتماع، والولاية، والإمارة، فالأمر المحدث اجتنبه؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ((فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالةٌ)): (كل) مِن ألفاظ العموم، وهذا الصادق المصدوق يقول: ((كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالةٌ))؛ فلا يمكن أن يتأتى ما يقوله بعض الناس، وخصوصًا المبتدعة أن هناك بدعًا حسنة، وبدعًا قبيحة، بل هذا اعتراض على تعميمه صلى الله عليه وسلم، ثم منهم من يقول: إن البدع تنقسم بحسَب أقسام الحكم التكليفي أنها قد تكون: واجبة، ومكروهة، ومحرَّمة، وسنة، ومباحة. وممن قال ذلك العزُّ بن عبدالسلام، وتبعه عليه بعض الحفاظ، وهذا غلط؛ لأنه تقسيم للبدعة على غير تعميم النبي صلى الله عليه وسلم، ودل على أن أعظم ما ينافي ويناكف طريقة الرسول هي البدع؛ ولهذا فإن أهل السنة أشد الناس تحذيرًا من البدع. وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ: أي: ويعلم أهلُ السنة أن كلام الله أصدقُ من كل أحد. وحتى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلام النبي نوعان: كلام خاص به من نفسه، وكلام هو وحي يوحيه الله إليه. والكلام الذي يوحيه الله إليه هذا مِن كلام الله، أما كلامه الذي من نفسه كما كان في أمرِ تأبير النخل، وأمثال ذلك، فكلامُ الله أصدقُ منه، ولا يَضير ذلك رسولَ الله؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [آل عمران: 95]، ويقول: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ويقول: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]. وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَيُؤْثِرُونَ كَلامَ اللهِ عَلَى كَلامِ غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ؛ وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: خير الهدي هو خير الطرق والمنهاج والمناهج، فخير طريقة ومنهاج هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث رُوِي فيها بضبطين: ((وَأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ))[3] ((وَأَنَّ خَيْرَ الْهُدَى))[4] هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وكلاهما بمعنى متفق، فالْـهَدي والْـهُدى هو الطريقة؛ أي: السنة. ولهذا فإن أهل السنة والجماعة يؤثِرون أن يقدموا ويعظموا كلام الله على كلام غيره من أصناف الناس؛ بَرِّهم وفاجرِهم، صالحهم وطالحهم، رَسولهم والمرسَل إليهم، ويقدمون هديه صلى الله عليه وسلم على كل هدي، وطريقتَه وحكمه على كل حكم؛ ولهذا يعتقدون في نواقض الإيمان أن مَن اعتد أن طريقة غير الرسول أحسنُ من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه فقد كفر. ولهذا فالدساتير التي يُحكَم بها هي تنظم أمور الناس في المعاش، بمعنى أنها طريقة ومنهاج لهم، أما نحن فاكتفينا بهذا وكُفِينا بطريقة النبي وحكمه وهديه، فلا أحسنَ ولا أكمل من هديه وحكمه، وبهذا سُمُّوا أهل الكتاب؛ لتعظيمهم واتباعهم الكتابَ، وسموا أهلَ السنة؛ لتعظيمهم واتباعهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فتسميتهم بأهل الكتاب والسنة لأنهم الذين عظموا سنَّته وهديه؛ ولهذا في حديث الافتراق لما ذكر: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً))، قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قاَلَ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي))[5]؛ أي: إن طريقته تطابق طريقة سنته صلى الله عليه وسلم. وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِي الاجْتِمَاعُ: وسموا الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الافتراق، فاجتمعوا على الحق ولم يَفترقوا، وليس القصدُ بالجماعة كثرةَ العدد كما يظنُّه الناس، فالجماعة والحق الذي معها لا يُناط بالكثرة أبدًا، والدليل أن الله تعالى قال: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]؛ فأكثرُ الناس غير مؤمنين، وليست الجماعة مَنوطةً بالكثرة، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116]، بل ذكر الله تعالى عبدًا من عباده، وهو إبراهيم الخليل عليه السلام بأنه أمَّة في آخر سورة النحل: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120]؛ قالوا: ولم يكن مؤمنًا موحِّدًا في زمنه إلا هو، لكن لَمَّا كان إيمانُه بهذا الثَّبات وهذه العَظَمة جعلَه الله كإيمان الأمة، فالحق لا يُعرف بكثرة أتباعه، ولا بكثرة المنتسِبين إليه، ولا بكثرة العدد، وإنما الحق بقوة ما هو عليه، والجماعة المجتمعون على الحق الموروث عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا قِلَّة. وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ: ضد الاجتماع: الافتراق، فالافتراق كله مذموم، والاجتماع ممدوح، والاختلاف منه ما هو مذموم ومنه ما هو ممدوح: فالاختلاف المذموم كل خلاف أوصل إلى فرقة، أو إلى تعصب، أو إلى مذمة الغير، أو اختلاف في مقابل الأدلة والحجج الصحيحة - فهذا مذموم؛ يُذم عليه فاعله، وعلى هذا تُنَزَّل النصوص والأدلة التي فيها مذمَّة الاختلاف. ويأتينا اختلاف ممدوح وهو الاختلاف بتلمس الحق من الدليل، ويدخل فيها اختلاف التنوع؛ كاختلاف العلماء وغيرهم في تفسير الآيات على ما تقتضيه اللغة، وتحتمله معانيها، فهذا اختلاف ممدوح، وهو المسمى باختلاف التنوع، وأما الأول باختلاف التضاد. لَمَّا ذكَر الاجتماعَ وأنه ضد الافتراق، وأن أهل السنة سُمُّوا الجماعةَ أو أهلَ الجماعة؛ لاجتماعهم على الحقِّ وإن قل عددهم، ونأَت ديارهم، فقال: وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ: أي: إنه صار يُطلق في نفسه على القوم المجتمعين، فيُقال للجماعة: جماعة المسجد، وجماعة الأقارب، وجماعة المجتمعين في مكانٍ ما، ثم نُوِّع في الجماعات.. كجماعة الإخوان المسلمين، وجماعة حِزب التحرير، وجماعة كذا وكذا، فيُصبح لفظ الجماعة مُضافًا إلى وصفٍ يُقيِّدها، وليس هذا هو المرادَ بالجماعة، وإنما المرادُ بالجماعة جماعةُ المسلمين المجتمعون على الحق، الذي هو السُّنة. وفي الغالب الأعمِّ المطَّرِد لا بد لهؤلاء الجماعةِ مِن إمام لهم، في أعناقهم له بيعة، يَسمعون له بها ويُطيعون، لكن قد يَأتي زمانٌ في آخِر الزمان، أو في بعض الأطراف البعيدة تكون جماعةٌ مجتمعون على الحق وليس لهم إمام، بل مستضعفون تحت حُكم غيرهم، وهذا يقع، ووقوع هذه الحالة لا يُخرج هؤلاء من وصف الجماعة الحقَّة؛ لاجتماعهم على الحق، لكن عنوان هذه الجماعة وأساسها، وعلامتها الصحيحة أن يكون لهم إمامٌ قد أعطَوه صفحَة أعناقهم بالسَّمع له والطاعة. ولَمَّا ذكر هذا وذكر الأصلين وهما الكتاب والسنة قال: وَالإِجْمَاعُ: هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ: الإجماع هو الأصل الثالث لمصادر تلقي العقيدة، والاستدلال عليها. الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ: الدين يَعتمد على الكتاب العزيز، وعلى السُّنة الصحيحة، وعلى الإجماع، وكذلك العلم، و(أل) في (العلم) أي: العلم المعهود في فَضلِه، والحرص عليه، وهو علم الشريعة. يقوم على هذه الثلاثة، وهي مصادر تلقي العقيدة. وفي التشريع يُضاف على الكتاب والسنة والإجماعِ: القياسُ، ويدخل في القياسِ مسائلُ الاجتهاد. وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِهِ الأُصُولِ الثَّلاثَةِ: الضمير (هم) يعود على أهل السنة، وأنهم يَزِنون الناسَ بمعنى يَحكُمون عليهم، ويُخطِّئون المخطِئ ويُصَوِّبُون المصيبَ، ويُعَدِّلُون ويجرحون؛ بناء على هذه الأصول الثلاثة. فهذه المعاييرُ الثلاثة - الكتاب، والسنة، والإجماع - هي معايير تقويم العباد في أسمائهم، وأحكامهم، أما أهل البدعة وأهل الأهواء فإن ميزانهم الذي يزِنون به الناس هو الهوى، ويزِنون الناس بأصولهم التي تلقَّوها عن أشياخهم، وعن أحزابهم، وعن جماعاتهم، وللأسف فإن هذه المعايير تغيب عند الناس فيُظهرها قولاً، ثم يُخالفها بفِعله وتطبيقِه، وربما يدَّعيها ثم يخالفها بتطبيقه وعمله، وربما ينتسب إليها في أول الأمر، ثم يسترسل مع هواه ورغبته وشيطانِه، وأهواءِ جَماعته وجُلَسائه، إلى أن يكون وَلاؤه وبَراؤه وزِنَة الناس به على أصول جماعته التي تلقَّاها عن شيخه، وعن رُبعه، وعن حِزبه، وهذه من الدواخل العظيمة، وهي من أعظم الصَّوارف عن السنَّة، وإن زعَم أهلُها أنهم يتبعونها، فالعبرة ليست بمجرد الدعوى، وإنما العبرة والاعتبار في حقيقة الانتماء، وحقيقة إظهار اتباع طريقة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وطريقة أصحابه. جَمِيعَ مَا عَلَيهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ بَاطِنَةٍ وَظَاهِرَةٍ: فأقوالهم يَعرضونها على هذه الأصول؛ فإن كانت عبادةً قولية؛ هل جاء بها الشرع؟ هل جاءت بها السُّنة؟ هل عليها الإجماع؟ فإن كان كذلك فالحمدُ لله، وإلا ردُّوها، وإن كان فعلاً كذلك، وإن كانت اعتقادًا (الأعمال الباطنة) كذلك، فالميزان هذه الأصولُ الثلاثة من أقوالٍ وأعمال ظاهرة وباطنة. مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ: أي: مِن أمور الدين، ويَدخل "مما له تعلُّق بالدين" في السياسات الشرعيَّة، أما أمور الدنيا المحضَةُ؛ كالصِّناعات، والزراعات، والاختراعات، والمصالح الدنيوية المحضة، التي لا تعلق لها بالدين فإنَّهم لا يَربِطونها بالكتاب والسنَّة والإجماع؛ لأن الكتاب والسنَّة والإجماع فيما له علاقة بأمر الدين، أو ما له تعلُّق بالدين، وإنشاء المصانع إذا أراد شخصٌ أن يَأخذ رخصةَ مصنع فإننا لا نقول له: أعطِنا الدليل من الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن هذا ظلم، فهذه من أمور الدنيا المحضة، وكذا إشارة المرور لا تعلُّقَ لها بالدين، إلا فيما يتعلَّق بالسمع والطاعة ومَصالح الناس، أما هي فأمور دنيوية محضة، وهكذا. وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ: الإجماع هو الأصل الذي يُعتمد عليه في العلم والدين، والإجماع كثيرٌ مَن يدَّعيه، والإجماع المنضبط الذي يُمكن أن يُفتى به إجماعًا ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وتابعي التابِعين؛ أي: إلى القرن الثالث. هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ: هؤلاء يُجمِعون، ويُضبَط إجماعهم؛ لأنهم مَحصورون في الزمان والمكان؛ فزمانهم القرونُ الثلاثة، وأماكنهم في أمصار المسلمين؛ مكة، والمدينة، وبلاد الشام، والعراق، ومصر، وما انتشر بعدُ في الآفاق. إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلافُ وَانْتَشَرَتِ الأُمَّةُ: بعد هؤلاء القرون المفضلة كثر اختلاف الناس، وكلما ابتعَدوا زمانًا عن زمان النبوة وزمان الصحابة كَثرَت الاختلافات، وانتشرَت الأمة حتى بلَغوا أقاصيَ الدنيا وأدانيَها، هذا هو الإجماع المنضبط؛ ولهذا فالإجماع ينضبط في أصول الدين، وأصول الإيمان، وأركان الملة، أما إذا حكى إنسانٌ إجماعَ المتأخرين في المجامع الفقهية مثلاً على مسألة فلا ينضبط ذلك؛ فقد يأتي مَن يُخالفه، أو يُبحث في التصانيف عمَّن يخالف، ولهذا قال الإمام أحمد: "مَن يدَّعي الإجماع فهو كاذب"؛ أي: في غير مسألةٍ اسْتُقِرَّ على الإجماع فيها، وضُبِط في القرون المفضلة. وكان مِن أحفظ الناس، وأكثرِهم عنايةً بالإجماع في القرن الثالث محمدُ بن نصرٍ المَرْوزيُّ، الملقَّب بالشافعي الثاني، توفي عام 294ﻫ، له كتاب اسمه (اختلاف الفقهاء)، وهو مِن أضبَطِ الناس في حكاية الإجماع، وبعده يأتي شيخُ الإسلام ابن تيميَّة، وابن المنذر، وابن عبدالبر، حكاياتهم للإجماع تحت النظر والدراسة، فأحيانًا يَذكرون الإجماع ويُريدون به إجماعَ المذاهب الأربعة، أو قولَ جماهير الفقهاء. والوزير ابن هُبيرة مِمَّن له عناية بالإجماع في كتابه (الإفصاح)؛ فإنه إذا ذكَر وقال: "اتفقوا"؛ أي: الأئمَّة الأربعة، وإذا قال: أجمعوا فإنَّه يَعني علماءَ المسلمين، فالمرادُ بالإجماع إجماعُ العلماء الذين لهم الاجتهاد في الحكم، وفي الفتيا في هذا الذين؛ فهؤلاء إجماعُهم معتبَر، والرعايا وعامَّةُ الناس لهؤلاء تبع، يتبعون هؤلاء العلماء. [1] رواه الترمذي (2676)، وأبو داود (4603)، وابن ماجه (42)، ورواه أحمد (4/ 126، 127). [2] رواه أحمد (38215)، والترمذي (3662)، وابن حبان (6902)، والحاكم (3/ 75)، من حديث حذيفة رضي الله عنه. [3] رواه مسلم (867)، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. [4] نفس السابق. [5] تقدم تخريجه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (37) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل أهل السنة والجماعة - كما أن لهم عناية بأمر المعتقد وتصحيحه وتنقيته من الشوائب والبدعِ والأخطاء، ولا سيما توحيد العبادة، ويليه توحيد الأسماء والصفات، ويليه توحيد الربوبية، ويُنافحون عنه، ويَردُّون على المنحرفين فيه والمخالِفين له - لا يُغفِلون الشعائر الأخرى مِن شعائر الإسلام، بل يَعتقدون العمل بها، وإظهارَها دينًا؛ لأن عقيدتَهم أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، لا يؤدِّي بهم أمرُ الاعتقاد إلى إهمالِ وتهميشِ أمر العمل، كما ظهر ذلك عن بعض المتأخرين ممن يَنتسب إلى أهل السنة والجماعة، وهذا الظهور ناشئٌ مِن جهلهم بحقيقة اعتقادِ أهل السنة، وجهلهِم بحقيقة مَنهجهم وطريقتهم، فكما أنهم يُعنَون بأمر الاعتقاد، ويولونَه العناية الفائقة، فإنَّهم لا يهملون أمور العبادات وأمور العمل؛ لأنها هي المتمِّمة والمطبِّقة لأمر الاعتقاد، فلا يفصلون بين الاعتقاد والعمل، ولا بين القول والعمل؛ كما هو آثار مذاهب الإرجاء، أو من تأثر بالمرجئة. ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ: مِن أصول المعتقَد عند أهل السُّنة أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وهذه الشعيرة العظيمة مِن آكَدِ الشعائر؛ ولهذا جعَلها مَن جعَلها مِن العلماء في مكانتها ورتبتها كالرُّكنِ السادس من أركان الدين، ونلاحظ أن الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر تقوم عليه كلُّ أركان الدين؛ كما قال تعالى في آل عمران: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، فقَدَّم الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر - على الإيمان بالله؛ مِن باب الاهتمام، وهي من باب عطف العامِّ على الخاص، فالخاصُّ هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعام هو الإيمان على ما توجبه الشريعة ليس على ما يوجبُه الأهواءُ والعاداتُ والأعراف، ورغباتُ الناس واستحساناتهم وأذواقهم، وإنما على مُقتضى الشريعة؛ ولهذا فالقيام بهذا الأمر يُسمَّى عند العلماء قديمًا بالحِسْبة، وكانت مهمَّة العلماء أنهم يَحتسبون على الناس؛ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في مجامعهم في الأسواق، وفي المجامع العامة في المساجد، وهي وظيفة الشُّرَط، ووظيفة جهاز الهيئات الآن؛ ولهذا فإن مِن أخص خصائص هذه البلاد التي وفَّقها الله لها - وبها تَظهر على غيرها مِن الدول، مع تحكيم الشريعة وقيامها بها - أنها تُولي الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر المكانةَ اللائقة، ولهذا فإنَّ هذا الجهاز وهذا المرفق بمثابة وزارة في هذه الدولة المباركة؛ الدولة السعودية، وليس هذا مِن باب الخيرة، وإنما هذا أمرٌ أوجبَتْه الشريعة، وقام بذلك وُلاتها، فصار ذلك مِن خصائصهم التي يُمْدَحون بها على الملأ، ويَمتازون بها عن غيرها من الدول. وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ: هذه مِن الشعائر العامة: الحج والجهاد، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مِن الشعائر العامة الظاهرة، والحج هو الحجُّ إلى بيت الله العتيق، وأنه ركنُ الإسلامِ الخامسُ، والجهاد الذي هو ذِروةُ سَنَام الإسلام، والجهاد مشروعٌ في ديننا؛ سواء جهاد الدفع، أو جهاد الطلَب، لكن بضوابطه وأصوله، وقواعدِه المقرَّرةِ في جميع كتب العلماء؛ سواء الفقهاء أو المحدِّثين، وكلهم يَجعل كتابًا مُستقلاًّ في الجهاد، كما يجعلون كتابًا مستقلاًّ في الحج، والزكاة، والصيام، والصلاة. وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ: الجُمَع جمع جمُعَة، وهي صلاة الجمعة في الأسبوع، والأعياد صلاة العيَدين، إذ لا ثالثَ للعيدين عند المسلمين. مَعَ الأُمَرَاءِ؛ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا: أي: الذين يُقيمون الجُمَع والأعياد؛ لأنها شعائرُ عامة تحتاج إلى الإيمان، وكل هذه العبادات - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - تَفتقر إلى إذنه، وكذلك إقامة الجُمَع؛ أي: تعيين المسجد الفلاني بإقامة الجُمَع يَفتقر إلى إذنِ الإمام، لا أن الصلاة والشعيرة يُفتقَر في إقامتها إلى إذنه، وهذا أمرٌ التبَس على كثيرٍ مِن الناس وعلى بعض الطَّلَبة؛ فالعُلماء إذا قالوا: الجُمَع تَفتقر إلى إذنِ الإمام؛ فإنَّهم يَعنون: تعيين المسجد الذي تُقام فيه الجمعة. أما الشعيرة بذاتها فلا تَفتقر إلى إذن الإمام، ومثال ذلك أنه لو عيَّن الإمامُ في بلدٍ ما لهم خطيبًا يُصلِّي بهم؛ فإنهم لا يَتركون الصلاة ويُصلونها ظهرًا، بل يُقيمونها، وإذا لم يُعيِّن فإنَّ هذا مِن تقصيره وتقصيرِ نُوَّابه. وكذلك الأعياد وهي صلاةٌ مَشهودة يُقيمونها مع الأمراء؛ لأن الأمراء هم الذين كانوا يُقيمون هذه الشَّعيرة، يُصلُّون بالناس بها ولو كان عندَهم فُجورٌ أو نقصٌ أو ضعف، يصلونها معهم؛ لأن هذا مِن دَواعي الاجتماع ودَواعي الائتلاف، فيتَحمَّلون ما يكون مِن فُجور هذا الإمام وضعف إيمانه ونقصه مقابل المصلحة العليا في الاجتماع، ويتركون الصلاة معه إذا أتى الكفر البواح، الذي لهم فيه من الله برهان؛ ولهذا صَلَّى ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه خلفَ الوليدِ بن عُقبة، صلَّى بهم الفجرَ أربعَ ركعات[1]؛ لأنه كان سكرانًا، ومع ذلك صلَّوا خلفه، وهذا عُنوان يجب أن يُظهَر ويُعلم ويُعرف، ويُعرَّف به الناسُ - مِن طريقة ومِنهاج أهل السنة والجماعة؛ لأنهم يحافظون على الجماعات. وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ: وقال الشيخ رحمه الله: "على الجماعات" عطفًا على "الجُمَع"، ولم يقل: على طريقةِ الجماعة؛ وذلك لأنَّ الجماعات متنوِّعة، فمنها: جَماعة الفريضة، وجماعة الجمعة، وجماعة العيد، وجماعة الحج، وجماعةُ الجهاد، وجماعةٌ هي الاجتماع حول الإمام الأعظم، الذي له على الناس ولايةٌ بالسَّمع والطاعة، فقال: جماعات؛ أي: إن أهل السنة أشد ما يكونمحافظة على هذه الجماعات بإقامتها، وهم بالتالي أشد ما يكون تحذيرًا وتنفيرًا وإنذارًا مما يثلب ويُفرِّق أمر الاجتماع، حتى ولو ترتب على ذلك بعضُ المعاصي والذنوب والكبائر، يحتملونها في مقابل المصلحة. نعم لا يتَغاضَون عن هذه المنكرات، ولا يَسكُتون عن إنكارها، ولا يُهملونها، وإنما لا يترتب على هذه المعاصي خروجٌ على هؤلاء الوُلاةِ لأجل هذه المعصية الدُّنيا، التي يترتب عليها مفسدة عُظمى، وهذه مِن أصولها العامة التي بها صلاحُ دُنياه، وصلاح دينهم ودنياهم. وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ لِلأُمَّةِ: أي: إن مِن دينهم الذي يتقرَّبون به لربهم ويتعبدون به إلى الله: النصيحة؛ أي: نُصْحَ مَن ولَّاهم الله أمرَهم، وليست النصيحةُ لفئةٍ دون فئة، بل للأمة جميعًا، وهذا كما جاء في حديث أبي رقيَّة تَميمِ بن أوسٍ الداري رضي الله عنه - عند مسلم - قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدّينُ النَّصِيحَةُ))، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ))[2]. النصيحة لله بالقيام بدينه، وعدم التعبُّد بغير ما تعبَّدَنا به، والنصيحة لكتابه القرآن بتَعلُّمه وحفظه، والعمل به، وتعليمِه ونَشرِه بين الناس، والنصيحة للرسول باتباعه، وألا يُقدَّم هَديُ غيرِه على هَديِه، والنصيحة لإمام المسلمين بالسمع والطاعة له بالمعروف، والنصيحة لعامَّتِهم بحَملِه على هذه الأصول الثلاثة - الكتاب والسنة والإجماع - وما دلَّت عليه. في حديث جَريرِ بن عبدالله رضي الله عنه وهو في الصحيحين قالت: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ[3]. وكلُّ مسلم - مَهما عَلا في رتبته أو نقَص - له على إخوانه حق النصيحة. وهناك فرقٌ بين النصيحة وبين التَّعيِير، واقرؤوا بسنَدِ الحافظ ابن رجب الفرقَ بين النصيحة والتعيير؛ فإنَّ مِن الناس مَن يُعيِّر غيره ويسمِّيها نصيحة، وهذه ليست نصيحة، وتُعْرَفُ تعييرًا عند أولي الأفهام وأولي الغير، الذين يَعرِفون النصيحة ومُؤدَّاها، والتعييرَ والتشهيرَ وبَواعِثَه وآثارَه. وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا))،وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ[4]: أي: إن هذا اللفظ كما أنه لفظٌ يتعبَّدون لله به فإنَّهم أيضًا يعتقدون معناه، وهو معنى الأخوة الإسلامية، وأن حال المسلمين يجب أن يكون بعضهم مع بعض كالبنيان الذي يشتد بعضه ببعض، وإن نأَت ديارُ المسلمين بعضهم مع بعضهم، وإن تباينَت ألوانهم، وتفرَّقَت لُغاتهم، لكن يجب أن يَكون في قلوبهم من المودة والرحمة والموالاة تُجاه بعضهم البعض ما مَثَّله النبيُّ بهذا مثلاً عظيمًا، فقال في حديثه الآخر: وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ))[5]: توادهم: محبتهم، وتراحمهم: رحمة بعضهم بعضًا، وتعاطفهم: بعطف بعضهم على بعض؛ كمَثَل الجسد الواحد، فلننظُرْ إلى روعة هذا المثال النبوي: ((إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ))؛ إذا انجرح إصبعك الصغير في رجلك فإنك تجد ألَمَه في رأسك! وهكذا يجب أن يكون حالُ المسلم مع إخوانه - وإن نأت ديارهم، وابتعدوا عن عَينه، ولم يَسمع بهم، أو صاروا بَعيدِين عنه - يجب أن يكون قلقُه لقلَقِهم، وحزنُه لحزنهم، وفرحُه لفرحهم؛ كهذا المثل الذي ضرَبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى وإن كان يَخبو ويَضعُف فإن خُبوَّه وضعفه مرتبطٌ بضَعف الإيمان، فإذا ضَعف الإيمانُ ضَعفت هذه الآثارُ؛ النصيحة، ورحمة المؤمنين، وموالاتهم، وظهر ضدها بآثار ضعف التوحيد، وضعفِ الإيمان. وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ: ومِن طريقة أهل السُّنة أنهم يَأمرون بالصبر عند البلاء؛ لأن البلاءَ لا بد منه وهو الابتلاء، وقد يكون البلاءُ في الدنيا، وقد يكون في المال، وقد يكون في الدِّين، وأشدُّه وأعظمُه البلاءُ في الدين؛ فالبلاء في الدين هو أشد أنواع البلاء، والبلاء مَنوطٌ بقوة الإيمان؛ يَزيدُ كلَّما زاد الإيمان، قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3]، وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: لَمَّا سأله سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه: أيُّ الناس أشَدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثمَّ] الأَمْثَلُ فَالأَمثْلُ، مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ]))[6]. والبلاء متنوِّع بتنوُّع الفتنة؛ فتكون أحيانًا بالسراء، وأحيانًا بالضرَّاء: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]؛ أي: إنه يُنوَّع البلاء؛ ليكون شأنُ المؤمن مع ذلك الصبرَ، والصبرُ هو شِعار أهل السُّنة الذي يَستقبِلون به مُرَّ الحياة وأسبابَ البلاء فيها، يقول الإمام أحمد: "ذَكَر الله الصبر في القرآن في نيِّفٍ وتسعين آيةً؛ من باب التنويه، والتأكيد على شأنِه وعِظَمِه"، وكل أمرٍ وكل بلاءٍ ما عُولجِ بعلاجٍ أنفعَ ولا أنجعَ من الصبر. وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ: ويأمرون الناس بالشكر، وهو الاعتراف بالمنعم باللسان وبالقلب والجوارح، والشكر عند الرخاء، وذلك عندما يصيبهم الرَّغد وتَتوالى عليهم النِّعم يأمرون الناس بشكر الله وحَمدِه؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28]، ((إِنَّ اللهُ يُحِبُّ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمُ الأَكْلَةَ أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا شَرِبَ الشَّرْبَةَ أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَيْهَا))[7]، ومما أَذكُر أنَّ شيخَنا ابنَ باز عزمَنا على العشاء، فلاحظتُ أنه كلما أكل أكلةً أو أكلتَينِ حَمِد الله، وإذا شرب من الماء شربة، ثم وقف للنَّفَس حمد الله، فسألتُه وقلتُ له: يا سماحة الشيخِ، ما الدليل على هذا؟ فقال: الحديث: ((إِنَّ اللهُ يُحِبُّ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمُ الأَكْلَةَ أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا شَرِبَ الشَّرْبَةَ أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَيْهَا))؛ ولهذا فالمؤمن شأنُه أعظم شأنًا مِن غيره مِن المكلَّفين؛ فهو حامدٌ شاكرٌ لله في الضرَّاء وفي السراء؛ ولهذا كلما كان حمده وشكره أعظمَ بقلبه قبل جوارحه كان شأنه في الإيمان وعند الله تعالى أعلى. وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ: مُرُّ القضاء بالنسبة لما يقع على الناس، أما بالنسبة لفعل الله فكلُّ أفعال الله كاملةٌ وجميلةٌ وجليلة، وذاتُ حِكَم عظيمة، لكن هذا القضاء المرَّ بالنسبة لك - يا أيها الإنسان - بموت صديق، أو حبيب بابتلائه بالمرض، بالنقص، بالهم، بالغم، بأنواع البلايا... هذا مُر، وقد جاءت الشريعة بتسمية هذه كما في حديث أصول الإيمان عند مسلم؛ قال: ((وَأَنْ تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللهِ عز وجل))[8]، فالحلو والمرُّ باعتبار مَن يقع عليهم القضاء، لا باعتبار مجرَّدِ ومَحضِ أفعال الله وأقداره. وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ: ومِن منهجهم، ومن أصولهم التي تُضاف إلى تلك الأصول: أنَّهم يَدْعون الناسَ إلى مَكارم الأخلاق ومَحاسن الأعمال، فلَيسوا جُفاة، ولا قُساة، ولا مُتعالين، ولا مُتغطرِسين، وإنما أهل السنة مِن آثار استمساكهم بالكتاب والسنة أنَّهم أولى بالناس بمَكارم الأخلاق ومَحاسن الأعمال، يَدْعون إليها بأنفُسِهم تطبيقًا وقدوة، وإلى غيرهم بألسنتهم وبأفعالهم. وهذا الجانب قد يَخبو ويخفت عند من يَنشغِل بالرد على المخالفين، فيغفل عن هذه المعاني، وربما يستطيل على هذه المخالف، أما علماء أهل السُّنة الذين تمثَّلوا هذا المنهجَ فتجدهم أرحَمَ الناس على مُخالِفيهم وإن كانوا مِن أشَدِّ الناس بِدَعًا وضلالاً، فموسى وهارون عليهِما السَّلام رَسولا ربِّ العالمين أرسَلَهما الله إلى أطغى بَني آدم؛ إلى فرعون، فقال تعالى: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]؛ وذلك لأنَّ المقصود الهداية، وليس المقصودُ مجرَّدَ بَراءةِ الذمَّة؛ فأهل السنَّة هم أليَقُ بذلك، فإذا وُجِدَ عند بعض أهل السنة قَسوة أو شدَّة في جانبٍ مع إغفال هذا الجانب فإن هذا دليلٌ على تشدُّدهم في أنفسهم، وعلى ضيق أفقِهم، وضعف فقههم، وقلة علمهم، رد على أهل السنة؛ لأنهم يدعون الناس إلى مكارم الأخلاق؛ إلى الكرم، إلى الشجاعة، إلى الإيثار، إلى المحبة، إلى الصبر، وإلى محاسن الأعمال؛ وذلك لأنهم: وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا))[9]: يَعتقدون معنى مدلولِ ومضمونِ قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا)). وهذا من أدلة أهل السنة على أنَّ العمل يؤثِّر في الإيمان؛ لأن الخلُق عملٌ؛ إما باللسان، وإما بالجوارح، أما الخلُق في القلب فلا أحدَ يعلمه حتى يَظهر أثرُه على اللِّسان بالأقوال، وعلى الجارحة بالأفعال. وإذا حَسنَت أخلاقه عَلا إيمانه، ولو كان العمل لا يؤثر في الإيمان لم يزدَدِ الإيمان بحُسنِ الخلق، فمِن آثار هذا أنَّ أهل السنة والجماعة هم أعدل الناس في أحكامهم تجاه الناس، أهل عدل، أهل إنصاف، وليسوا أهل غَمْط وظُلم، ومن كان عِندَهم غمطٌ لغيرهم وظلمٌ لغيرهم فهو راجع على نفسِه بالنقيصة، لا على مذهب أهل السنة بفعلته. [1] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 398)، وفي معرفة السنن والآثار (13/ 51)، وليس فيهما ذكرُ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. [2] رواه مسلم (55)، من حديث تيم بن أوس الداري رضي الله عنه. [3] رواه البخاري (57)، ومسلم (56)، من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه. [4] رواه البخاري (6026)، ومسلم (2585)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [5] رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. [6] أخرجه أحمدُ في مسنده (1481)، والنَّسائي في السنن الكبرى (7638)، وابن ماجه في سننه (4023)، والترمذي (2398)، وغيرُهم، من حديث سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه. [7] رواه مسلم (2734)، من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: ((إن الله ليرضى)). [8] تقدم تخريجه. [9] رواه أحمد (2/ 250)، والترمذي (2612)، وأبو داود (4682)، وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (38) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك: يَندبون؛ أي: أهلُ السنة والجماعة، وهذا الندب في استخدام اصطلاح الفقهاء والأصوليين؛ فإن المندوب في هذين الفنَّين هو المستحَب، وهو ما يُثاب فاعله ولا يُعاقَب تاركه؛ أي: إن هذه المندوبات مِمَّا يَزيدُ الإيمان بإتيانها، أما تركها فإنه لا يَنقُص الإيمانَ إلا باعتِبار التَّفاضُل، فمَن أتى بها فهو أكملُ ممن لم يأتِ بها، لا أن مَن لم يأت بها يكون ناقصَ الإيمان بإتيانه ذنبًا، وإنما هو أقل إيمانًا بالنسبة لمن أتى بهذه المندوبات. إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ: فهذه الخصال الثلاث مندوبةٌ ليست واجبةً، والقطيعة هاهنا؛ أي: إنها في أولي الأرحام فهي أيضًا في الأصحاب، والزملاء، والعشراء؛ مَن تعاشرهم، والجلساء، وفي صلة الرحم؛ القطيعة واردة؛ لأنها من أخلاق الجاهلية، ومن مداخل الشيطان على الناس؛ قال تعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ [محمد: 22]، فعَدَّ قطيعة الأرحام نوعًا وضربًا من أضرُبِ الإفساد في الأرض. وقطيعة الرحم على مَراتب؛ أشنعُها قَطيعة الوالدَين بالعقوق بهما، ويليها قطيعة الرحم التي يجب أن تُوصل، وكلما قرُبَت الرحم منك عظم أمرها، على أن الرحم التي يجب أن تُوصل هي ما كان إلى الجد الرابع؛ ومأخذ ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أوصى ببني هاشم، وبنو هاشم هم أبناء جَدِّه الرابع، واستئناسًا بما جاء عن عمر أنه أمَر عبدَالله بنَ عمر رضي الله عنهما أن يَنظر في وَفاء دَينه في مالِ آل عُمر؛ فإن لم يَفِ به فآل الخطَّاب، ثم قال: "فِي آلِ عَلِيٍّ، وَلا تَعْدُهُمْ إِلَى غِيرِهِمْ"، وهو جَدُّه الرابع، وهذا من جهة صِلة الرحم التي تجب، وهذا تقديمٌ لها، وإلا فإنه سيأتي في قوله رحمه الله: ويأمرون ببر الوالدين وصلة الرحم. إذا قطعك الرحم بأن أساء إليك، وابتدأ الظلامة منه فإنك لا تُؤمر بوصلِه، وإنما تُندب إلى وصله، وألاَّ تُقابلَه بالقطيعة، وهاهنا أصلٌ يَفهمه بعضُ الناس فهمًا خاطئًا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَإِنَّمَا الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا))[1] ، ومعناها أنه ليس الواصل الذي إذا وصَله أرحامُه كافأَهم بهذا الوصف؛ فإن هذا يَردُّ جَميلَهم، ويردُّ مَعروفهم، والواصل حقيقة هو الذي يَبتدئ الرَّحِمَ الذين قطَعوه فيَصِلُهم بعدما قطعوه، ولهذا - في صحيح مسلم - لما شكا رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي أَبْنَاءَ عُمُومَةٍ أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَنِي، قَالَ: ((إِنْ كُنْتَ كَمَا تَقُولُ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ - وهو الرماد الحارُّ - وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ))[2]. وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ: ويندبون إلى أن تُعطيَ مَن حرمك؛ سواء من أقاربك، أو من جيرانك، أو ممن كان رئيسًا عليك، ثم أصبحتَ رئيسًا عليه، فتعطيه وقد حرَمك؛ إما مالاً، أو حقًّا، أو نصيبًا، وتعفو عمَّن ظلمك؛ فإن العفو عمن تعدَّى عليك من الكمالات، أما إذا لم تعف، ولم تَطِب نفسُك بالعفو، وإنما أردتَ القصاص فهذا لك، قال تعالى في آخر سورة النحل: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [النحل: 126]، ثم قال: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، وقد مدَح الله في آل عمران الكاظمين الغيظَ؛ ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]. ولنتأمَّل تفسيرَ آية النحل بآيةِ آل عمران؛ فالقرآنُ مَثانٍ، يُفسِّر بعضُه بعضًا، فهذه من الكمالات التي يعلو فيها مقام الإنسان عند الله وعند عباد الله عز وجل. وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَينِ: انتقل من النَّدب إلى الأمر والأمر، والندب ليس مِن محض اختيارهم، وتَشهِّي أهل السنة، بل مِن انصِياعهم، واستجابتهم لحُكم الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويأمرون ببر الوالدين لأنَّ الله عظَّم ذلك، وأمر به، فأمر ببر الوالدين والنصوص في هذا كثيرة، في آية الحقوق العشرة في النساء: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]، وقال: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]. ونلاحظ أن الأمر ببرِّ الوالدين جاء أمرًا عامًّا بالإحسان إليهم والبرِّ بهم، وكل أمر جاء عامًّا يُرد في إنفاذه إلى ما تَعارف الناس عليه من البر، ففي بعض الأعراف مِن بِرِّ الوالدين أن تُقَبِّل رأسه، أو جَبينه، وفي أعرافٍ أخرى تُقَبِّل أنْفَه، وفي بعض الأعراف تقبِّل يده، وفي بعضها تقبل رِجلَه، وكل ما عُدَّ في العرف بِرًّا فهو كذلك، ولهذا إذا جاء أمرٌ مِن الشريعة لم تَتحدَّد أوصافُه، أو هيئاته أو مَعانيه، يُرجع فيه إلى العرف؛ يقول الناظم: والعُرْفُ مَعمولٌ بهِ إذا ورَدْ ♦♦♦ حُكمٌ مِن الشرعِ الشريفِ لم يُحَدّ وَصِلَةِ الأَرْحَامِ: وأعظم الرحم التي تُوصل الوالدان، ثم الأدنى، فالأدنى، والرحم التي يَجب وصلها إلى الجدِّ الرابع، وما زاد عن الجد الرابع فصِلتُها سُنَّة مستحَبَّة. وَحُسْنِ الْجُوَارِ: حسن الجوار، وإعطاء الجار حقَّه هذا من الأمور الواجبة، وليست من الأمور المستحبة؛ ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه في الصحيحين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ))، قَالُوا: مَنْ - يَا رَسُولَ اللهِ - خَابَ وَخَسِرَ؟! قَالَ: ((الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ))[3] ؛ أي: سيَجعله مع الورَثة. والجار أنواعٌ ثلاثة: النوع الأول: جار مسلِمٌ قريب؛ فله ثلاثة حقوق: حقُّ الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة. النوع الثاني: جار مسلم؛ وله حقان: حق الجوار، وحق الإسلام. النوع الثالث: جار غير مسلم؛ وله حق واحد، وهو حق الجوار. وحق الجوار عظَّمَته الشريعة جدًّا، وعُدَّ مِن مَحاسن ديننا، ومن مكارم الأخلاق التي يزكو فيه الإنسانُ بإحسانه إلى جيرانه، وأذيته جيرانه أعظمُ مِن أذيته غيرهم، والشيطان يَنزَغ دائمًا فيما بين الجيران وفي أمور قليلة جدًّا؛ كموقف السيارة، أو إزعاج الأطفال إذا تغاضبوا وتخاصموا، ونحوِ ذلك مِن أقلِّ الأشياء التي يوقدها الشيطان بين الجيران إلى أن تكون بينهم المشاكل والمخاصَمات، وربما وصَل الأمر إلى القتل، فكم سَمِعنا من إقامة حدود القصاص على مَن تعدَّى على جاره في مزرعته، أو في أرضه، أو في داره، ثم تشابكا إلى أن قَتل أحدُهما الآخَر! والزنى بحليلة الجار أعظمُ خَطرًا وجُرمًا من الزنى بغيرها؛ لأن الشريعة - وهذا من أصولها العامة - إذا أمنت جانب الشخص، وجاء الخراب من جهته فإنه تشتدُّ عليه عندئذٍ العقوبة؛ فالزنى بذوَات المحارم حَدُّه القتل؛ لأن الشريعة أمَّنت الإنسان على محارمه، فأباحت للمرأة أن تكشف له، فإذا جاء الخطر والنَّقص مِن جهته كان الجزاء فيه مغلَّظًا؛ يقول صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ فَاقْتُلُوهُ))، كذلك الجار المؤمن، والمظنون أن الجار سترٌ على جاره، فإذا جاء الأذى من الجار على حَليلةِ جاره كان شرًّا من عشر زنيات كما جاء بذلك الحديث. والجار أقربُ إلى الإنسان من كثيرٍ مِن أقاربه، فالجار أقربُ حتى مِن الإخوة البَعيدين، بل قد يكون أقربَ مِن الوالدين في الحوائج، وفي المصائب، وفي الأحزان، وفي الأتراح. وَالإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ: الإحسان وصفٌ عام مِن أوصاف الكمال وأوصاف الفضائل، وفي الحديث: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ))[4]. والإحسان إلى اليتامى بعطفهم، والتربيت على رؤوسهم، حتى الفضل العظيم ((مَنْ رَتَّبَ عَلَى شَعْرِ الْيَتِيمِ كَانَ لَهُ بِعَدَدِ شَعْرِ رَأْسِهِ حَسَنَاتٌ))، بل قال صلى الله عليه وسلم: ((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ)) وَمَدَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى[5]، واليتيم هو مَن فقَدَ أباه، وجوَّز العلماء على أنه من فقد أمه ما لم يبلغ الْحُنْثَ، فإن بلغ انتقل مِن وصف الأيتام؛ فاليتيم إلى أن يبلغ. ينتشر الآن في الجمعيات كَفالة اليتيم، والكفالة المشهورة في هذه هي مِن الصدقة، وليست هي الكفالة التي نُصَّ عليها الأجر في هذا الحديث وفي غيرِه؛ لأن هذه كفالة ماليَّة، فتَدخل في الصدقة عليه، وأما الكفالة الكاملة أن تأخذه، وتربِّيَه مع أولادك وفي بيتك، فتجمع عليه المال - النفقة المالية - والحنان، والعطف، والتربية. وصفُ المسكين إذا أُطْلِقَ دخَل فيه الفقير، وإلا فإنَّ المسكين هو المقِلُّ، والفقير المعدِم إذا اجتمَعا، والفقهاء يقولون: إن الفقير من لا يجدُ قوت يومه، والمسكين مَن يجد قوت شهره ولا يجد قوت عامِه. ابن السبيل هو المسافر المنقطِع البعيدُ عن وطنه وأهله، وهذا ملاحَظ أنَّ مَن ابتعد عن وطنه وأهله يكون عنده نوعُ ذلَّة، ونوعُ ضعف، ويحتاج إلى مَن يعطف إليه، ويُحسِن إليه، ولهذا أباحت الشريعة لابن السبيل المنقطع أن يُدفَع له من الزكاة ولو كان في بلده غنيًّا؛ ولهذا جاء في الصحيحين، في خبر الثلاثة: الأعمى، والأقرع، والأبرص. أنه لما بُلُوا جاءهم المبتلَى على هيئاتهم قبل أن يُعافَوا، فيقول: ((مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبِيلٍ قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ السُّبُلُ، فَلا بَلاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ شَعْرَكَ (للأقرع)... أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ (للأعمى)... أَسْأَلُكَ بِالَّذِي آتَاكَ جِلْدًا حَسَنًا لِلأَبْرَصِ))[6]. والله تعالى عظَّم هذه الأمور، ونوَّه بها في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾ [البقرة: 177]. وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ: المملوك هو الرقيق، وأصل الرِّقِّ كان عند العرب له مَواردُ كثيرة؛ فمِنها السلب والنهب، فسَلمانُ رضي الله عنه كان ممن سُرِقَ، سرقه الأعرابُ ثم باعوه، فجاءت الشريعة، فسَدَّت أبواب الرقِّ إلا بابًا واحدًا، وهو باب الجهاد في سبيل الله، إذا كان المجاهدُ مِن الكفار. والرِّق عرَّفه الفقهاء بهذا التعريف الجامع بأنه: عجزٌ حُكمي، سببه الكفر بالله؛ ولهذا فإنه لا يجوز أن يُسترقَّ المسلم على الصحيح. هذا المملوك وما تناسل منه يجب أن يُرفَق به، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((حَقُّ الْخَادِمِ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يُطْعِمَهُ مِمَّا طَعِمَ، وَأَنْ يَكْسُوَهُ إذا اكتسى، وَأَلاَّ يُكَلِّفَهُ مَا لا يُطِيقُ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا لا يَطِيقُ فَأَعِينُوهُمْ))؛ الحديث بمعناه في الصحيحين[7]. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلاءِ وَالْبَغْيِ: وينهون عما نهى الله عنه ونهى عنه رسولُه صلى الله عليه وسلم من كثيرٍ من الأخلاقِ والأقوال الفاسدة، ومنها الفخر؛ التفاخر على الناس والتعاظُم عليهم، والخُيَلاء وهو الكِبْر، والبغي وهو الظلم والاستطالة على الناس، والتعدِّي عليهم. الفخر والخيلاء من كبائر الذنوب، ومن الثلاثة الذين لا يَنظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ((مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ خُيَلاءَ))[8]، ولأن الخيلاء والْعُجْبُ والكبرياء والكبر مُنازَعة لخصيصة مِن خصائص الله تعالى. والبغي هو الظلم والاستطالة والاعتداء؛ ولهذا قال: وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ: الاستطالة أن يأخذ حقه وزيادة يستطيل، يستعرض، يتطاول؛ فإن تطاول بحق فهذا حرام؛ لأنه أخذ ما زاد عن حقه، ولهذا في حديث عبد الله بن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا)). قال منها: ((إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ))[9] أي: إنه زاد في الخصومة، وتعدى في أخذ حقه وزيادة، فإذا أخذ حقه فإن عفا عن حقه فهذا مندوب؛ فإن زاد فأخذ حقه وزيادة فهذه الاستطالة، وإن كان أصلها في حق لكن هذا الزائد نهي عنه، وأما الاستطالة بغير حق فهو البغي، والبغي ضرب من ضروب الظلم والعدوان. بعدَ أن ذكَر هذه الأمورَ المفصَّلةَ أتى بأمورٍ جامعة، فقال: وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاقِ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَافِهَا: أهل السُّنة يأمرون بمعالي الأمور، والسموِّ بالنفس وبالدِّين وبالأخلاق، وينهَون عن سفاسفها (سواقطها ومراذلها) وهذا وصفٌ جامع يجمع الخير، ويجمع الشر. وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ: كل ما يقولونه من الأقوال التي يرشدون إليها، أو يأمرون بها. وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ: من هذه المشار إليها بأعيانها، أو في غيرها مما لم تُذكر في هذا المختصر. فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أي: إنهم لا يأمرون، ولا يَعملون بشيءٍ مما أَلِفوه أو اعتادوه إلا إذا كان قد جاء الدليل بالكتاب والسُّنة؛ لأنهم أهلُ طريقة أثر، فطريقتهم طريقةُ الأثر، واتباع ما جاء في الكتاب والسنَّة، فهُم مَحكومون في أخلاقهم، محكومون في تعاملاتهم، محكومون في أقوالهم، محكومون في عباداتهم، محكومون في عقائدهم - بما جاء في كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إن كان أمرًا، أو ندبًا، أو تحريمًا، أو خبرًا، والأخبار هي باب العقائد، وأما الأمر والتحريم والنَّدب فهي مِن باب الشرائع؛ لأن الدين عقيدة وشريعة: فالعقيدة هي مقتضى الأخبار؛ أخبرَنا الله عن نفسه، عن أسمائه، عن صفاته، وعن الغيب، وواجب ذلك الإيمان به. وأخبرنا سبحانه عن شريعته؛ إما أمرًا به، أو ندبًا إليه، أو تحريمًا، أو كراهة، أو إباحة، وهذا بابه الباب الثاني: باب العمل. وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإِسْلامِ: أي: إن منهجهم هو دين الإسلام؛ لأنه هو الصراط المستقيم الذي بيَّنه ورسمَه لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فشريعتُه في ثلاثٍ وعشرين سنَة هي بيانٌ لطريقة الإسلام، ولما ضرب المثَل في حديث ابن مسعود رضي الله عنه خطَّ خطًّا مستقيمًا، وخط عن جنباته خطوطًا، فقال: ((هَذَا صِرَاطُ اللهِ))؛ أي: هذا دين الله، هذا المنهج الذي جاء في القرآن، وهذه سُبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، مَن أجابه إليه قذَفوه في النار. الإسلام إسلامان: إسلامٌ عام، وإسلامٌ خاص؛ فالإسلام العامُّ هو التوحيد الذي جاء به جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، كلُّهم جاؤوا بالإسلام العامِّ الذي هو التوحيد، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والخلوص مِن الشِّرك وأهله، كل الأنبياء جاؤوا به ولا سيما الرسل، والإسلام الخاصُّ هو شريعة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم المبنيَّة على التوحيد، وعلى الشعائر الخاصة بهذه الأمة؛ ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]؛ أي: جعلنا كلَّ أمة من الأمم على شريعة من الأمر ليتبعوها. الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم: لئلاَّ يأتيَنا آتٍ فيقول: ما دام أن الأنبياء كلهم جاؤوا بالإسلام فسوف أتعبَّد إلى الله بشريعة موسى أو بشريعة عيسى أو بشريعة داود عليهم السَّلام، وهذا لا يجوز، ولو أن شريعة موسى لم تُحرَّف ولم تُغَيَّر ولم تُبدَّل لا يجوز أن يتعبَّد بها؛ لأن شريعة موسى وشريعة عيسى وشريعة إبراهيم وغيرِهم مِن الأنبياء والمرسَلين لو لم تُغَيَّر، ولم تُبدَّل لكانت منسوخة، منتهى أمَلها ببعثة وشريعة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولأن شريعة نبينا استوعبَتها؛ فإن كان أمرٌ قد مُنِعوا منه فقد رُفِعَ هذا الغُلُّ في شريعتنا؛ بمعنى أنها نُسِخَت؛ ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157]. كيف وهذه الشرائع والعقائد التي أُنْزِلَت على هؤلاء والأنبياء والمرسَلين قبل نبيِّنا قد حُرِّفَت وغُيِّرَت، وبُدِّلت، واشْتُرِيَ بها ثمنًا قليلاً، وعدم تصحيحنا لشرائعهم لا يَعني أننا نَظلِمُهم، أو نبغي عليهم، أو نقتلهم؛ وإنما نؤدي لهم حقَّهم، وهذا الجانب غُفِلَ عنه من جرَّاء الجهل الذريع بأصول الملَّة وقواعد ومقاصد الشريعة، حتى ظنَّ بعض الشباب ممن يتسمى بالجهاد - وهو في الحقيقة خارجي - ظنَّ أن قتل هؤلاء، وسفكَ دمائهم، وإذهابَ عِصمة أموالهم وأعراضهم أنه جهاد، وغفل عن هذه المعاني؛ فإن دمَ غير المسلم في الشريعة ينقسم إلى أنواع؛ فالكفار في دمائهم على ستة أنواع: الأول: الكافر المرتد، وهذا إذا كان مسلمًا ثم ترك الإسلام مرتدًّا عنه، فهذا قد أذهب عنه العصمة، والذي يقيم عليه الحدَّ والحكمَ الحاكمُ الشرعي؛ لأن المسائل ليست فوضى. الثاني - إلى السادس وهم الكفار الأصليون -: الكافر الذمي، وهو كل كافر أعطانا الجزيةَ عن يدٍ وهو صاغر، وقبلها منه ولي أمر المسلمين؛ فإن له عصمة بقَبولنا الجزيةَ منه، حتى يُخلَّ بشرطٍ مِن شروطه التي جعلها عليه ولي الأمر. الثالث: الكافر الْمُعَاهَد، أعطاه ولي الأمر أو نوَّابه عهدًا، ومن العهد (الفيزا) بأنواعها، سواء (فيزا) إقامة، أو عمل، أو (فيزا) مرور، فهذا الذي أُعْطِيَ عهدًا له عصمة إلى أن ينتهي عهده، في صحيح البخاري من حديث عبدالله بن عمرو قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا - زَاد أحمد بإسناد صحيح - لَهُ عَهْدٌ لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ)). الرابع: الكافر الْمُستأمَن، أعْطِيَ أمانًا إمَّا أنه خائفٌ في بلده على نفسه على ماله، وعلى نفسه وعلى أهله، يُسمى بالآن بالعُرف (اللاجئ السِّياسي)، وأما إن كان خائفًا على مالِه فيُسمَّى باللاجئ الاقتِصادي، وهذا كان مُشتهِرًا وقتَ التأميم عند الشيوعيِّين لما أمَّموا الأموال والشركات، فإذا أُعْطِيَ أمانًا فهذا يَجب أن يُبلغ له أمانه إلى مدته، وهو معصومٌ في عقد الأمان؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6]؛ أي: إلى مُنتَهى أمانِه إن كان بزمانٍ أو بمكان، وهذا في الكافر المستأمَن، وبين المستأمن والمعاهد عمومٌ وخصوص. الخامس: الكافر الذي لم يَحمل علينا السِّلاح، ولم يقاتلنا؛ كالمرأة في بيتها، والراهب في صومعته وديره، والصغير، والمُزارِع، ومن لم يقاتلنا فلا يجوز لنا أن نسفك دمه ابتداء: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا ابتعَث سريَّة أمَرَهم: ((أَلاَّ يَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَلا شَيْخًا كَبِيرًا، وَلا امْرَأَةً، وَلا رَاهِبًا فِي صَوْمَعَتِهِ))، واسْتُثْنِي من ذلك مَن له دلالة وإعانةٌ للعدو؛ فإن هذه العصمة تَزول منه، كالشاعر المشهور دُريد بن الصِّمة أَذِن النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقَتلِه في غزو الطائف؛ لأنه له رأي ودلٌّ يعين به الكفار. السادس: الكافر المحارِب، وهذا هو الذي يُجاهد ولا عصمة لدمه، وهو مَن حمل علينا السلاح. هذا الترتيب والتصنيف يَغيب بسبب الجهل، وبسبب الهوى، وبسبب التحزُّب، التحزب حول ربعه وجماعته الذين وثق بهم حتى أعمى عينَه من الحق، وإن كان بعضُهم فطرتُه أحيانًا تُنبِّه إلى أن هذا الفعل خطأ؛ لكن غلبة المعاشرين والجلساء من حزبه وجماعات تَغلب على ما تبقى من فطرته وعقله، تَغيب هذه المعاني عند هؤلاء المساكين؛ لأنهم أوتوا مِن جوانب الجهل والهواء، وغلَبة جلسائهم عليهم. فطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا دين يُقبل إلا دينه؛ ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85]، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ))[10] ، وقال: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي))[11]. [1] رواه البخاري (5991)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. [2] رواه مسلم (2558)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [3] رواه البخاري (6014)، ومسلم (2624)، من حديث عائشة رضي الله عنها. [4] رواه مسلم (57)، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. [5] رواه البخاري (6005)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. [6] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [7] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه. [8] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [9] رواه البخاري (34)، ومسلم (58)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. [10] رواه مسلم (153)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [11] رواه أحمد في مسنده (15156). |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (39) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً: إذا كان الدين واحدًا، والطريقة واحدة، لكن أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق كَما افترقت الأمم التي قبلَها، والحديث في هذا قد بلغ مبلغ التواتر؛ إذ روى حديثَ الافتراق عن النبي صلى الله عليه وسلم ستَّةَ عشر صحابيًّا، وهو مُستفيضٌ إلى قوله: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً))، إلى هذا القدر متواترٌ؛ كما نص شيخ الإسلام في رسالةٍ شرح فيها هذا الحديث، ثم الروايات بعد ذلك مُتفاوتة، والمقصود من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وفي رواية: مِلَّةً - وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وفي رواية: مِلَّةً - وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً))[1] وفي رواية: ((مِلَّةً))، الفرق بين قوله: ملة، أو فرقة: أن الفرقة في أولها فُرْقَة عن الجماعة، ثم لا تزال هذه الفُرْقَةُ تعظم، وتشتهر، وتترسَّخ في التاريخ، حتى تكون عند أهلها كالملَّة، كالدِّيانة، والآن بعض الناس يقول: أنا مسلمٌ شيعي! فأصبح الرَّفض والتشيُّع في حق أهله كأنه ملَّة، (ديانة) يتدينون بها. والحديث أفاد أنَّ افتراق النصارى أكثرُ مِن افتراق اليهود، وأن افتراق اليهود أقلُّ مِن افتراق النصارى، كما أفاد أن افتراق هذه الأمة أكثرُ من الأمتين قبلنا، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً)). مسألة: العدد هنا هل معناه أن هذه الفرقَ لم تتَجاوز الثلاث والسبعين، فيكون العدد مُرادًا منه حقيقةُ المعدود؟ أو أن العدد يُراد منه بيانُ الكثرة؟ قولان لأهل العلم، والأظهَرُ الثاني؛ لأن الأعداد في الشريعة تأتي على ضربَين، فتأتي أعدادٌ يُراد منها حقيقةُ المعدود، من نحو قوله تعالى: ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ﴾ [المائدة: 89]، فلو أطعم تِسعًا لا يكفي، بل لا بد مِن إتمام العشرة، وكذلك في فِدية الأذى في الإحرام إطعامُ ستَّة مساكين، أو صيامُ ثلاثة أيام، ولو أطعَم خمسةً لا يكفي، وكذلك في كفارة القتل، والظِّهار، وكفارة الوطء في رمضان في صيام شهرين مُتتابعَين؛ فإن لم يجد - وهذا بعد العتق - فإطعامُ ستِّين مسكينًا، لو صام شهرًا وثمانيةً وعشرين يومًا لا يُجزئ فلا بد من التتابع، ولا بد من شهرين، وكذلك في الإطعام، إذًا هناك أعدادٌ تأتي يُراد منها حقيقة المعدود، وهذا قليل، وليس كثيرًا في الشريعة. والضرب الثاني: تأتي أعداد يُراد منها بيانُ الكثرة، وأكثر الأعداد في الشريعة على هذا النحو، الأعداد التي في القرآن والسنة، ففي القرآن قال تعالى في المنافقين: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 80]؛ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَاللهِ لَوْ أَنِّي عَلِمْتُ أَنِّي أَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ مَرَّةً أَسْتَغْفِرُ لَهُمْ فَيُغْفَرُ لَهُمْ، لاسْتَغْفَرْتُ لَهُمْ))! لو استغفر لهم النبي مليون مرة لا يُغفر لهم، فهنا أُرِيدَ مِن العدد بيانُ الكثرة؛ بمعنى أنك لو استغفرتَ لهم يا محمد مراتٍ كثيرة فلن يُغفَر لهم. ومِن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ كَذَّابُونَ ثَلاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ)). لو استعرضنا مَن ادَّعى النبوة فإنهم على مرِّ التاريخ أكثرُ من ثلاثين، فدل على أن المراد هاهنا بيان الكثرة. ومن ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً)). وفي رواية: ((بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً))[2]، وهذا لا يدل على تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أراد بقوله السبعين والستين بيانَ كثرة خصال وشُعَبِ الإيمان؛ ولهذا لما عُنِيَ العلماء بجمع خصال الإيمان نوَّعوا فيها، حتى زاد بعضهم بها عن التسعين، وبعضُهم زاد بها عن المائة، فهذا العدد يُراد منه بيانُ الكثرة. ومن هذا - والله أعلم - حديث الافتراق؛ أي: إن هذه الأمة ستفترق افتراقًا كثيرًا أكثر من افتراق الأمتين قبلنا. لكن مما ينبغي أن يُعلم أن هذه الفِرَق كلَّها في النار، وهذا وَعيدٌ أنَّها في النار، والوعيد على قِسمين؛ فمِنها ما هي في النار خالدةٌ مخلَّدة، وهي الفرق المرتدَّة التي أتَت ناقضًا مِن النواقض، ومكفِّرًا من المكفرات، ومنها فرقٌ متوعَّدة بالنار على ضلالها لا على كفرها، وهي مَن أتت بِدعة مفسِّقة، وهذا أيضًا تقسيم للبِدَع من حيث الحكمُ؛ فبِدعٌ مكفِّرة، ومبدعٌ مفسِّقة. كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)). وهذه فرقة، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فرقة، وهي الفرقة الناجية المنصورة التي مرَّ التنويه بها، وبأوصافها، وخصائصٌهم في أول شرح العقيدة، وهم الجماعة كما جاء في بعض الروايات، وفي بعضها: ((هُمُ السَّوَادُ الأَعْظَمُ)). وهذا يفسِّر الجماعة، وفي بعضها: ((هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي))[3]؛ أي: على سنَّتِه، فهَديُهم ومِنهاجهم هو طريقة وهديُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه. مسألة: ما هي أصول الفرق التي عنها تتفرَّق فرقٌ أخرى كثيرة، تَزيد عن السبعين؟ أصول الفرق بحسب ظهورها: أولاً: الخوارج، في أنفُسِها افترقت، وقادت الخوارجُ بدعة الروافض؛ فإن الرفض بدعةٌ نشأَت مقابل الخروج، ثم بدعة القدَرية؛ نُفاة القدر، وهم المعتزلة، قابَلتْها بدعةُ الجبرية؛ بدعة الجهم، والخامسة المرجئة وهي ردَّة فعل لمذهب الوعيديِّين؛ فإن مذهب أهل الوعيد الخوارج والمعتزلة الذي نشأ في القرن الأول قابله بِدَع المرجئة بأصنافهم. والفرقة السادسة فرقة الصوفية، وهي فرقٌ كثيرة: قادرية، وشاذلية، ورفاعية، ونقشبَنْديَّة، وتيجانية، وسهروردية، وسمارية، وختمية... إلى فرق كثيرة، البطائحية الذين مر أن شيخ الإسلام ناقشهم، وناظرَهم. طائفة البطائحية، وفرقة البطائحية هم فرقة الرِّفاعية المنسوبة إلى أحمد الرفاعي، ولم أسمع أن الجهميَّة صوفية، لكن يوجد مِن بعض أفراد الصوفية مَن يكون في باب الاعتقاد متجهمًا، أو في باب القدر جَبريًّا. إذا عرَفنا حديث الافتراق وهو حديثٌ عظيم، وأعجبُ مِن المتعالِمِين ممن يُضَعِّف هذا الحديثَ وهو متواتر، الروايات مختلفة في تعيين أوصاف الفرقة الناجية، وأكثر الروايات على أنها ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)). صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإِسْلامِ الْمَحْضِ، الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: المحض؛ أي: الخالص من الشوائب؛ ذهَبٌ محض؛ أي: لا شائب فيه. وسُنَّة محضة: لا بدعةَ فيها، صار المتمسكون بالإسلامِ المَحضِ السالم من الشوائب هم أهلَ السنة والجماعة، وأهلُ السنة والجماعة هذا وصفٌ، وأما الاسم فهو اسم الإسلام والإيمان؛ كما سمَّانا الله تعالى بذلك، فقال عن إبراهيم الخليل: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ﴾ [الحج: 78]، أما الوصف فيُوصَفون بأهل السنة، ويُوصفون بالجماعة، وقد يغلب الوصف بكثرة استعماله حتى يكون في مؤدَّاه عَلمًا، لكن لا ينبغي أن تُحْدَث أوصافٌ عند المتأخرين تكون أعلامًا تُستبدَل بالأعلام والأسماء التي سمَّى الله عباده وأولياءه. وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ: أهل السنة والجماعة فيهم الصدِّيقون وهم أعلاهم، لم يَذكر الأنبياء لأنه مُتَّفقٌ عليهم أنهم هم سادةُ هؤلاء، لكنْ فيهم الصديقون، وأولهم أبو بكرٍ رضي الله عنه، مَن بلَغ رتبة الصدِّيقية، وهو كمال الإيمان في القلب، وفيهم الشهداء وفيهم الصالحون. وَمِنْهُمْ أَعْلامُ الْهُدَى: وهم العلماء، الذين هم في أقوامهم وأزمانهم وأحوالهم أعلامٌ يُتأسى بهم يُقتدى ويُسترشد بهم، وأصل العلَم الجبَل، فيُسمى عَلمًا كما قالت الخنساء في أخيها صخر: "كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ"، أي: إنه جبل في رأسه نار. وَمَصَابِيحُ الدُّجَى: الدجى هي الليلة الظلماء؛ فإن المصباح فيها يُضيء لنفسه، ويضيء لغيره، فيُهتَدى به. أُولُو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ: بما مدَحهم الله ومدحهم نبيُّه لاستقامتهم على دينه، وأنهم يهدون من ضل عن دين الله؛ ولهذا جاء في الحديث: ((إِنَّ اللهَ يَجْعَلُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مَنْ يُبَيِّنُ لَهَا دِينَهَا، وَيَصْرِفُ عَنْهَا تَحْرِيفَ الْمُحَرِّفِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)). وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ: فضائل العلم والابتداء، ولهذا فإن أعظم الأعمال إلى الله قُربةً هو العلم؛ تعلمًا، وتعليمًا، وبذلاً. وَفِيهِمُ الأَبْدَالُ: أي: في أهل السنة الأبدال. والأبدال هم الذين جاء فيهم الحديث: ((إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا))؛ ولهذا فإنه في كل قرن يبرز فيه علماءُ يَكونون مجدِّدين لهذا القرن، اصْطُلِحَ على تسميتهم بشيوخ الإسلام، هذا الوصف الذي اصطلح عليه العلماء - وصف شيوخ الإسلام - على من يجدد للناس أمر الدين، وليس لازمًا أن يأتي في رأس القرن، أو في أوله، أو في أوسطه، إنما في كل قرن، وهؤلاء هم الأبدال، وجاء فيهم الحديث: ((الْأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ رَجُلًا...))؛ ولهذا جاءت الأحاديث الكثيرة أن العلماء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل؛ أي: إنَّ وظيفتَهم ودَورهم كدَور الأنبياء في بني إسرائيل؛ في إبانة دين الله عز وجل. في نسخةٍ من نُسخ الواسطية المخطوطة يقول الشيخ: "وفيهم الأبدال، ومنهم الأئمة". وهنا قال: "وفيهم الأبدال الأئمة"؛ على أن الأئمة بدلٌ مِن الأبدال؛ أي: إن هؤلاء الأبدالَ هم الأئمَّة العلماء، وفي النسخة الأخرى: "ومنهم العلماء"؛ أي: إن الأبدالَ ممكنٌ أن يَكونوا مِن غير العلماء؛ ففيهم صَلاحٌ سواء في الإمارة والسِّياسة، وسواء في البذلِ والعطاء، وسواء في إصلاح ذات البَيْن، قد لا يكون عالِمًا لكن له شأنٌ في سياسة الناس، أو في إصلاح ذات بينهم. الأَئِمَّةُ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ: إذًا لا بد من هذا الوصف أن يُجمعوا على هدايتهم، وأنهم مَهديُّون، ليسوا أهلَ ضلالة ولا أهلَ بدعة ولا أهل خطأ. وعلى درايتهم؛ أي: على عِلمهم، وإن الدراية المراد بها العِلم والفقه، وهؤلاء المستمسكون بالإسلام المحض: وَهُمْ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةِ: أي: إن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، ناجية من العذاب، والهلكةُ في الدنيا باتباع البدعة، والهلكة في الآخرة بأن يكونوا من أهل النار. وهي المنصورة التي وعدها الله بالنصرة فلا تُخذل كما جاء في الحديث: الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ))[4]: لا يضرهم مَن خذَلهم؛ أي: لم يُناصِرهم، ولم يُعِنهم. ولا مَن عاداهم مع كثرة الأعداء عليهم، ووصفِهم بالأوصاف القبيحة والشينعة، ومُحاربتهم، ومطاردتهم. هم مُستمسكون على الحق ظاهرون؛ أي: غير مقهورين على غيره. وإنما ظاهرون بالحق، مقتنعون به ديانةً وعقيدة، وهم أهل السنة والجماعة. ((حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)): أي: حتى قُربِ الساعة؛ جمعًا بين هذا الحديث وحديث نوَّاس بن سمعان الطويل، وفيه: ((أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَقْبِضُ الْمُؤْمِنِينَ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَلا يَبْقَى فِي الأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللهَ اللهَ. وَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةِ)). لما بيَّن لنا هذا رحمه الله في أصولهم وطريقتهم ومَصادرهم، وبيَّن لنا أن الافتراق يقَع، وحثَّنا على معالي الأخلاق، ونهانا عن سفاسفها - دعا بهذه الدعوات المباركة فقال: فَنَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ: وهذا دعاء، ودعاء بعد تبيُّن الطريق وترسُّمه بما أبانه رحمه الله في هذه العقيدة؛ فإنه أبان في هذه العقيدة هذا الطريقَ، الذي مَن سلَكه انتسَب إلى هذه الطائفة الناجية، ولا يُعجَب بعمَله، ولا يغتر، وإنما يَسأل الله هداية أن يكون منهم؛ ليكون منصورًا غير مخذول. وأَلاَّ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَيَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً، إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ: وهذا تضمينٌ مِن آية في سورة آل عمران، في أوائلها: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، وهذا الدعاء دعاءٌ عظيمٌ جامع، ينبغي ألا يَغيب عن طلب المؤمن؛ ولهذا كان الصديق رضي الله عنه مِن فقهه - وهو ذو الهدي الراشد المهدي الذي أُمِرْنَا باقتفائه - كان يدعو بهذه الآية، ويقرؤها في الركعة الثالثة في صلاة المغرب: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]. وَاللهُ أَعْلَمُ: وهذا شأنُ العالم حقًّا؛ يَكِل العلمَ إلى عالِمه مهما أوتي من الفهم والحفظ، والتحقيق والسَّبر، ودقة البصيرة - يجب أن يَعرف أن الله أعلمُ منه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76]، وكما هو منهج أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهم يَكِلون العلمَ إلى عالمه، وكان يُقرُّهم على ذلك رسولُه؛ ففي حياته كانوا يقولون: "اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"، إِذا سُئِلُوا عن شيء لم يَعلموه، وبعد موته صلى الله عليه وسلم لا يَقولون إلا: الله أعلم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا: ثم ختمَها بما بدأها؛ بالصلاة والسلام الكثيرين على محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي هدانا الله به، ودلَّنا الله به طريق الهداية، وهو الذي رسم لنا هذا المنهاج، وهذا بعضُ حقِّه على أمته صلى الله عليه وسلم. وبها يتم الكلام في هذه العقيدة العظيمة الجليلة؛ "العقيدة الواسطية"، جعَلنا الله وإياكم مِمَّن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. [1] تقدم تخريجه. [2] رواه البخاري (9)، ومسلم (35)، من حديث أبي هريرة. [3] تقدم تخريجه. [4] تقدم تخريجه. |
الساعة الآن : 09:10 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour