فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين . http://www.alwihdah.com/images/stori...man_alodah.jpg فإن هذا العنوان يذكرني بعنوانٍ قديم كنت ... ألقيته قبل عشر سنوات وربما أكثر من ذلك ، وكان بعنوان ( الأمة الغائبة ) وأذكر على إثر تلك المحاضرة أن إحدى الأخوات اتصلت بي آنذاك وكانت مغضبة، وكان من عتبها: أن الزعم بأن الأمة غائبة معناه: الادعاء بأن الأمة تعيش في جاهلية وضلال وفساد وضياع ، وأنه لم يبق على الأرض أحد ممن يوصف بأنه من المسلمين، وكأن هذا الفهم -في تقديري- قد أبعد النُّجعة عن المعنى المقصود . إننا حينما نتكلم عن الأمة الغائبة إنما نعني: أن الحضور المشهود الحقيقي الوارد في القرآن عن هذه الأمة : " لتكونوا شهداء على الناس " قد ضعف جداً، ولم يعد له ذلك الوجود القوي التاريخي المتألق المعروف ، وإلاّ فإن المتفق عليه عند المسلمين كافة من أهل العمل والدعوة وغيرهم أنه لا جاهلية مطلقاً بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأن الأمة لا يزال فيها كثير من أهل الخير ، والتقوى ، والصلاح ، والأمة في جملتها: هي أمة مسلمة اجتمعت على كتاب ربها وعلى سنة نبيها - محمد صلى الله عليه وسلم -، وهم من أهل القيام بأركان الإسلام ، ومن أهل الإيمان بأركان الإيمان ، ومن أهل أداء الواجبات والالتزام بالأخلاق الكريمة في الجملة . ولا تخلو الأمة من مثل هؤلاء بل غالب الأمة ملتزم بأصل ذلك ، ونحن - بحمد الله - ممن يعتقد: أن الأصل في هذه الأمة الإسلام . وأنه حتى أولئك الذين وقعوا في بعض ما وقعوا فيه من المكفرات إلا أنهم وقعوا في ذلك عن جهل في الغالب ، ومن كان مثلهم جاهلاً ولم يوجد من يعلمه ، ويرفع عنه الجهل ، ويقيم عليه حجة الرسالة، فالأصل بقاؤه على الإسلام ما دام يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإن كان وقع منه ما يُعدُّ كفراً إلا أنه يحكم على الفعل، ولا يُحكم على الأشخاص والأعيان بأنهم من الكافرين إذا كان مثلهم يجهل ، أو كانوا من المتأولين . فالمقصود: أننا من أشد الناس نهياً عن الوقوع في تكفير الأمة ، فضلاً عن تكفير الأفراد والأعيان ، فإن هذا مزلق في غاية الخطورة وله أسوأ الآثار ، وربما أقول : إن من أسباب طرقي لموضوع الأمة الواحدة: هو مثل هذه المعاني التي تنتشر أحياناً عند بعض الشباب ، وتجعلهم يختزلون الأمة في طائفة أو مجموعة أو فرقة أو فئة ، ويبتعدون عن سواد الأمة وعامتها ودهمائها وإن كان فيهم ما فيهم ، إلا أنه فرق بين من يشفق على الأمة وينصح لها ، ويحرص على إصلاحها ويشعر بأنه فرد منها ، يؤلمه ما يؤلمها ويسعده ما يسعدها ويحرص على تداركها ، وبين من يبتعد عن هذه الأمة فيرميها بالعظائم من التكفير أو التبديع أو التفسيق أو التضليل أو غير ذلك . إنه لا جاهلية مطلقاً بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما في الحديث الذي رواه البخاري لأبي ذر : (إنك امرؤ فيك جاهلية) رواه البخاري (30)، ومسلم (1661). يرشح لمعنى أن الجاهلية قد تطلق على المعاصي ، ولهذا بوّب البخاري - رحمه الله - في صحيحه : " المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك " فالجاهلية تطلق على معنى الكفر ، وقد تطلق على ما دونه من المعاصي، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدَّ تعيير أبي ذر للرجل الذي كانت أمه أعجمية ـ وقال له : يا بن السوداء ـ من الجاهلية. وروى مسلم (934) من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب ... ) ولا يلزم من هذا تكفير الأمة ، ومع ذلك فنحن نقول : لا داعي لأن نطلق لفظ الجاهلية على الأمة كلها ، فإنه لا جاهلية مطلقاً في الأمة . نعم. قد توجد الجاهلية في أفراد، وقد توجد في بلد دون بلد، أو في مكان دون مكان لكن أن تكون الجاهلية في الأمة كلها مطلقاً بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذا لن يكون إلا في آخر الزمان كما في حديث حذيفة الذي رواه ابن ماجه (4049) بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله - عز وجل - في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة : لا إله إلا الله، فنحن نقولها ) . |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
فالمقصود أن الأمة باقية ولله الحمد ، وقد رأيت أن أحد الباحثين المجوّدين وهو الدكتور ماجد الكيلاني ، كتب كُتباً في الأمة وذكر أن الأمة تمر بثلاث مراحل : المرحلة الأولى : مرحلة القوة ، وهي تعلق الأمة بالرسالة ، وقد يسميها مرحلة الصحة أو العافية . المرحلة الثانية : مرحلة المرض، وهي مرحلة تعلق الأمة بالأشخاص سواء كانوا قبائل أم أفراداً أم أسراً أو ما أشبه ذلك. المرحلة الثالثة : مرحلة الموت ، وهي مرحلة تعلق الأمة بالشهوات والمال والسلطان والجاه وغيرها من الأمور الدنيوية. وكأن هذا التقسيم مقتبس من المثل الذي يقول : العظماء يتعلقون بالأفكار ، والمتوسطون يتعلقون بالأشياء، والضعفاء يتعلقون بالأشخاص . وفي تقديري أن هذا التقسيم لا يخلو من ملاحظة ، خصوصاً في شِقّهِ الأخير فإن الأمة المسلمة تمرض لكنها لا تموت ، تمر بمرحلة المرض لكن يدافع هذا المرض دواءٌ ربانيٌ نبويٌ هو التجديد الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها ) رواه أبو داود (4291) بسند جيد . ثم إن لفظ الأمة في القرآن الكريم ورد بمعان عدة ، حتى إن الفيروز آبادي في (بصائر ذوي التمييز) ذكر له عشرة معانٍ ، وأظن أن هذه المعاني يمكن اختصارها إلى خمسة: المعنى الأول: أمة بمعنى: إمام أو قدوة كما في قوله تعالى في سورة النحل: " إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين" فمعنى قوله : أمة أي أنه كان قدوة في الخير كما نقل عن أكثر المفسرين والسلف، ويجوز أن يكون المعنى في هذه الآية (كان أمة ) يعني: أنه كان أمة وحده؛ لأنه لم يكن في الأرض مؤمن سواه ، ولهذا جاء هذا المعنى عن ابن عباس - رضي الله عنه - وجاء عن سعيد بن جبير ، وقال فروة بن نوفل الأشجعي: قال ابن مسعود: إن معاذاً كان أمة قانتا لله حنيفا فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن ، إنما قال الله :" إن إبراهيم كان أمة "، فقال: تدري ما الأمة؟ وما القانت؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الأمة الذي يعلم الناس الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله، وكذلك كان معاذ يعلم الخير، وكان مطيعاً لله ورسوله. [انظر تفسير ابن كثير، الآية 123 من سورة النحل]. المعنى الثاني : الأمة بمعنى: المدة من الزمن " وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة " يعني بعد زمن ، وكذلك قوله تعالى :" ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه " يعني إلى وقت محدود ، فقد تطلق الأمة ويقصد بها: الزمن، وهنا نلحظ نوعاً من الترابط بين الأمة وبين الزمن ؛ لأن الأمة لها زمن تنتهي فيه ، ولهذا يقول الله تعالى : " ولكل أمة أجل " فكأن المعنى أخرنا عنهم العذاب إلى أجل ، وادَّكر بعد أجل ، بعد فترة معينة فهذا رابط بين المعنيين . المعنى الثالث : المذهب والطريقة سواء كانت حقاً أو باطلاً " بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة "، " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة " يعني على طريقة ومنهج ، وإن كان منحرفاً وضالاً لكنهم التزموه ؛ لأنهم وجدوا عليه الآباء والأجداد . المعنى الرابع : الجماعة من الناس أو الطائفة حتى ولو كانت قليلة تسمى أمة ، كما في قوله تعالى : " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون " أي جماعة ، وكذلك قوله تعالى : " كلما دخلت أمة لعنت أختها " يعني طائفة أو جماعة . المعنى الخامس وهو الأخير والمقصود : أن الأمة في القرآن تطلق ويراد بها: القوم المجتمعون على الدين الواحد ، وقد ورد هذا في آيات كثيرة جداً من القرآن منها قوله تعالى : " كان الناس أمة واحدة " فقد صح عن ابن عباس وغيره أنه قال : كان الناس أمةً واحدة على الهدى؛ وكان بعد آدم عليه الصلاة والسلام عشرةُ قرون من ذريته كلهم كانوا على الإيمان والتوحيد ، حتى جاءت الشياطين فاجتالتهم عن دينهم فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . فهذا معنى قوله : (أمة) وكذلك قوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " فالمقصود: أنهم كانوا أمة خير للبشرية لم يُخْرَجُوا لأنفسهم ليعيشوا لذواتهم وهمومهم الخاصة، وإنما أخرجوا ليعيشوا للناس معلمين ، ومرشدين ، وهادين ، وقائدين لهم إلى الجنة، قال أبو هريرة رضي الله عنه كما في صحيح البخاري (4557) لما تلا هذه الآية : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " : خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام ، و جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال في قوله : (( كنتم خير أمة أخرجت للناس )): هم الذين هاجروا مع الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة . وقال عمر - رضي الله عنه - وقد تلا هذه الآية: لو شاء الله عز وجل لقال : أنتم ، فكنّا كلّنا . ولكنه قال : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " في خاصة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن صنع مثل صنيعهم ، و قال أيضاً –رضي الله عنه- : تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا ( انظر تفسير الطبري ، والدر المنثور- الآية 110 سورة آل عمران ) وكأنه –رضي الله عنه- لمح هذا المعنى في قوله : ((كنتم )) فهو فعل ماضٍ ، وهم كانوا في عصورهم الأولى " خير أمة أخرجت للناس" حين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ؛ أما إذا فرّطوا في ذلك وتحالفوا على غير تقوى الله والإيمان به وقصّروا فيما أمر الله به من الشهادة على الناس فإنه لا يكون لهم ذلك . وقال قتادة : بلغنا أن عمر بن الخطاب في حجة حجها رأى من الناس رعة (أي هيئة غير حسنة) فقرأ هذه الآية (( كنتم خير أمة أخرجت للناس )) ثم قال : من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله - تعالى - فيها ) رواه ابن جرير في تفسيره ( الآية 110 من سورة آل عمران) .وشرط الله الذي أشار إليه عمر هو قوله تعالى : (( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) . |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
إن هذه الآيات وغيرها مما في معناها قررت لنا قاعدة إسلامية عريضة عظيمة إجماعية وهي : أن الله سبحانه وتعالى قد عقد راية الإخاء والولاء والمودة والمحبة بين أهل الإسلام ، وهذا قرار إلهي عظيم صارم لا مجال للتردد فيه ، يقول الله - سبحانه وتعالى -: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " والشيء اللافت للنظر في هذه السورة واسمها (الأنبياء) أن الآية نفسها تكررت في سورة بعدها وهي سورة (المؤمنون) ولاحظ الاسمين الأنبياء ، والمؤمنون ، في السورة الأولى ذكر الله قصص الأنبياء وأسماءهم ، ذكر موسى وإبراهيم وهارون وعيسى وزكريا ويحيى وذا الكفل وذا النون وغيرهم من الأنبياء ، ثم أثنى عليهم بما أثنى به ، ثم قال : " إن هذه أمتكم أمة واحدة " وأدخل معهم مريم - عليها السلام - ولو لم تكن من الأنبياء ولكن الله تعالى ألحقها بهم لفضلها ومزيتها، ولأنها كانت أمَّاً لعيسى عليه الصلاة والسلام ، فذكر الله هـؤلاء الأنبياء ، ثم قرر هذه القاعدة : " إن هذه أمتكم أمة واحدة " فما مرجع الضمير ؟ وهل المقصود أن الأنبياء أمتكم ؟ أو المقصود هذه الأمة المحمدية الخاتمة هي أمتكم ؟ اختلف المفسرون في هذا المعنى ، والأقرب - والله تعالى أعلم -: أن هذه آيات كرَّس الله تعالى فيها معنى الأمة الواحدة ، وأنها بدأت بوجود آدم عليه الصلاة والسلام ، وعَبَرت المراحل والسدود والحدود والأزمنة كلها ، حتى آلت النوبة فيها إلى خاتم الرسل وسيدهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فكان حامل الراية وخاتم المرسلين ، وإمامهم في الدنيا ويوم الدين ، وكانت أمته هي خير الأمم وآخرها ، وهي وريثة هدي الأنبياء ودعوتهم ، ولهذا لا يوجد على ظهر الأرض منذ بُعث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أمة تحمل النور المتمثل في القرآن الكريم، وهذا الكتاب المعصوم من التحريف والتبديل، والزيادة والنقص " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " . والأمة التي تُمثل قدراً من الالتزام بقيم القرآن ومعاييره وأوامره ونواهيه عبر العصور وإن كان يحصل لها من الخلل ما يحصل وإن كان فيها من النقص والجهل والظلم والانحراف الشيء الذي لا يخفى إلا أنها مع ذلك تظل أفضل من الأمم الكتابية الأخرى بمراحل ، فعندها في مقابل ذلك من الخير والهدى والإيمان والعلم وآثار النبوة ما ليس عند غيرها في واقع حياتها العلمي والعملي ، فضلاً عن أنها تمتلك النور الذي لو عملت به لصلحت، وأصلحت ألا وهو الكتاب والسنة الصحيحة . وإشارته سبحانه وتعالى بعد ذلك " وتقطعوا أمرهم بينهم " هي إشارة إلى ما وقعت فيه الأمم الكتابية السابقة من الخلاف والتناحر والتباغض، واختلاف القلوب والمواقف، وتحذير من الله - تعالى - أن هذه الأمة التي أخبر الله أنها أمة واحدة يجب عليها أن تلتزم بالوحدة وألا تسلك مسلك الأمم الكتابية قبلها في الخلاف وأنهم تقطعوا أمرهم بينهم، كأن هناك أمراً واحداً بجمعهم فقاموا وتقطعوه ، فكل فئة منهم أخذت قطعة من هذا الأمر ، وهذا هو المعنى الذي تجده في السورة الثانية ، وهي سورة (المؤمنون) فإن الله ذكر الأنبياء موسى وعيسى وهارون ثم قال سبحانه : " وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " فأكد المعنى نفسه وقرر وحدة الأمة وأنها ليست أُمماً ، ثم قال : " وتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون " فهم تقطعوا هذا الأمر بينهم ، ثم قال: "زبُراً " والزبُر : جمع زَبور والزبور : هو الكتاب ؛ لأنه مزبور ، أو مسطور ، أو مكتوب قال الشاعر : تمنى كتاب الله أول ليله تمني داود الزبور على رِسْلِ " وآتينا داود زبوراً " فالزبر هي الكتب ، هؤلاء تقطعوا أمرهم بينهم زبراً كأن كل فئة أخذت بجزء من الدين وجانب منه وغفلت عما سواه ، وفرحت بهذا الذي أوتيت من العلم وغفلت عما عند غيرها " فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً " . وهذا فيه إشارة إلى مشكلة الخلاف العلمي الذي يعصف بالأمة والذي لا يكون مبنياً على حجة شرعية ولا على أصول صحيحة ، وإنما داخله شيء من الهوى، أو الغرور، الذي جعل الأمر خلاف تضاد لا خلاف تنوع، فهي إشارة إلى خطورة الخلاف العلمي، أو التجاذب العلمي الانتقائي ، الذي يتجلبب بجلباب العلم ولكنه يأخذ ببعض الكتاب ويدع بعضاً ، أو يضخم بعض الأمور على حساب بعضها الآخر ؛ ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى -: " كل حزب بما لديهم فرحون " فهذا يوحي إلى أنهم نسوا انتماءهم إلى الأمة وتحولوا إلى أحزاب متناحرة ، وليس الخلاف المشروع المنسجم مع الأصول الشرعية والقواعد المرعية والذي كان موجوداً في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وسواهم . |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
فاجتماع هذه الأحزاب ليس على عواصم الدين ومحكمات الشريعة وقواعد الملة، وإنما هو على خصوصية معينة اختزل الدين فيها واختارها وغفل عما سواها ، فهم اجتمعوا على الخصوصيات لا على الأعمال ، وهؤلاء فهموا شيئاً وتحالفوا عليه، ونابذوا من خالفهم فيه وأولئك تحالفوا على شيء آخر ، وهكذا وُجِد الخلاف في الأمة " كل حزب بما لديهم فرحون " .
وهنا أُشير إلى معنى مهم وهو أن الله - سبحانه وتعالى - في مواضع من القرآن الكريم ومن السنة النبوية منه ما يبلغ مبلغ التواتر وهو أن الله - سبحانه وتعالى - جعل للمسلمين من المظاهر والعقائد والمعاني والأحوال والأحكام ما يخالفون به غيرهم من الأمم المنحرفة كاليهود والنصارى ، ونهانا الله - سبحانه وتعالى - عن التشبه بهم كما في قوله تعالى : " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم " فنهانا عن التشبه بهم في أعمال القلوب ، كما نهانا عن التشبه بهم في الخلاف ، ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى - لما ذكر اليهود وما جرى لهم : " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " فأشار إلى أن الخلاف الذي يصل إلى هذا الحد لا يقع إلا من قوم ضعف عليهم الدين، وضعف عليهم العقل أيضاً ؛ لأن العقل يقتضي أن يكون بينهم نوع من التناصر والتلاحم والتقارب يستطيعون أن يتغلبوا به على مشكلاتهم وعلى ما يواجههم ، فالمحكمات في القرآن والسنة دلت على أن هذه الأمة ينبغي أن تكون متميزة عن الأمم الأخرى في أعمالها ، وعقائدها ، وسلوكها ، وخصوصياتها لكن ليس هذا التميّز مطلباً شرعياً داخل هذه الأمة إلا عن المنحرفين كأهل البدع، وأهل المعاصي والفسوق وغيرهم ممن يجاهرون بذلك ويتظاهرون به ، وإلا فالأصل ألا يحرص المسلم على ألا يتميز عن إخوانه المسلمين ، بمعنى أن يكون التميز هدفاً بذاته ومقصداً يختاره إما في هيئته ولباسه أو في عمله أو غير ذلك ، إلا ما كان من أمر الدين ومن أمر الشرع الذي أهمله الناس فهو يحيي ما اندرس من أمر الملة ، فإنه يحيي السنة التي قد أميتت ، أما كون الإنسان يتعمد أن يخالف الناس في أشياء ليست من السنة ، فإن هذا قد يكون من الشهرة التي ورد النهي عنها والتحذير منها كما في حديث ابن عمر مرفوعاً : ( من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة) رواه أبو داود (4029) وابن ماجه (3606) بسند حسن . وقد كان السلف يكرهون الشهرة حتى في بعض الأعمال التي قد يكون لها أصل ، لكن هذا الأصل ليس بظاهر أو ليس بقوي ، فيحبون موافقة الناس ويكرهون مخالفتهم إذا لم يكن في الأمر تشريع أو سنة صحيحة، وقد رأيت بعض الإخوة من جراء انغماسهم في الولاء الخاص وغفلتهم عن الولاء العام يضخمون ويبالغون في بعض الوارد ، فليس من الفقه فيما يبدو لي الحرص على التميز عن جمهور المسلمين بمعنى معين لذات التميّز ؛ لأن هذا نوع من العلو أو التفوق عليهم ، أو طلب الرياسة فيهم ، وإنما يتميز الإنسان بسنة أهملوها فيعمل بها ، أو بتقصير شاع عند الناس فيتخلى عنه ، أو بعمل خير عمله وقصد أن يقتدي الناس به وهذا باب واسع وبين هذا وذاك فرق ليس يخفى . إن الله - تعالى - عقد أواصر الأخوة بين المؤمنين ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أكد هذا المعنى في كثير من الأحاديث التي بينت حقوق المسلم على أخيه ، ولا يتسع المجال لسرد هذه الأحاديث ، لكن أذكر بعض هذه الحقوق على سبيل الإجمال : أولاً : الحقوق القلبية ، وأعني بها : ما يتعلق بقلب المسلم ومحبته لأخيه المسلم وحسن ظنه به وسلامة صدره قِبَله ، والفرح بما يصيب إخوانه المسلمين من الخير والحزن لما يعرض لهم من الشر ، فإذا علم المسلم بأمر خير أصاب إخوانه المسلمين وجب عليه أن يُسـَّر بذلك ويفرح ويغتبط " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا " لأنه يرى أن ما أصاب إخوانه المسلمين من الخير أصابه ، وما كسبوه من المال كأنما كسبه ، وهكذا كل خير وقع لهم ، وعلى النقيض من ذلك يحزن لكل مصاب يقع بهم ، حتى ولو كان فرداً عثر في شرق الأرض أو غربها ، أو مسلمة انتهك عِرضها ، أو شعب من الشعوب نزل به نازلة، أو أصابته جائحة أو اعتدى عليه معتدٍ ، فيشعر بالحزن لهذا ، وهذا أقل ما يجب للمسلم على المسلم وهذا النوع من الحزن حزن مشروع ، نعم. لم يتعبدنا الله - سبحانه وتعالى - بالأحزان وحدها ، لكن هذه المعاني القلبية هي الوقود والدافع الذي يحمل الإنسان على الفعل ، فإن أقل ما يفرزه هذا الشعور -إذا كان صحيحاً- الفرح للمسلمين إن أصابتهم سراء أو الحزن إذا أصابتهم بأساء أو ضراء أن ينتج : ثانياً : الحقوق اللسانية : لأخيك المسلم عليك ، كرد السلام ، وتشميت العاطس والثناء بالخير على من يستحقه ، والتعليم للجاهل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر والدعاء والتضرع لهم وهذا بعض أثر الشعور القلبي الذي تحمله لإخوانك المسلمين فإن الدعاء لهم أمر لا يستهان به ، وربما دفع الله بالدعاء شراً عن المسلمين ، وكما قال الله سبحانه وتعالى : " ادعوا ربكم" وقال جل شأنه : " ادعوني أستجب لكم " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الدعاء هو العبادة " والحديث صحيح رواه الترمذي (3247)، وأبو داود (1479). ومن مأثور قول الشافعي -رحمه الله- : أتهزأ بالـــــــدعاء وتزدريه وما تدري بما صنع الدعاء؟ سهام الليل لا تخطي ولكن لهــا أجل وللأجل انقضاء ولو لم يكن من آثار هذا الشعور الطيب وهذا العمل الذي يعمله المسلم من حركة اللسان بالثناء على أهل الخير ، أو التوجيه، أو التعليم ، أو النصرة ، أو الدعاء ، إلا تحقيق معنى الانتماء لهذه الأمة لكفى ؛ لأنه لا يصح بحال من الأحوال أن تنتمي لهذه الأمة وتزعم أنك فرد من أفرادها ، ثم لا تقدِّم لإخوانك الذي يشاركونك هذا الانتماء أي مشاركة، وسيان عندك فرحوا ، أم حزنوا ، انتصروا أم انهزموا ، أخطؤوا أم أصابوا. فهذا لا يكون أبداً ، وإنما الحال كما قال القائل : بالشـام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطــاط جيـراني ولــــــي بطيبة أوطـان مجنـحة تسمو بروحي فوق العالم الثاني دنيا بناها لنــــا الهادي فأحكمها أعظـم بأحمد من هادٍ ومن بانٍ ولست أدري سوى الإسلام لي الشــام فيه ووادي النيل سياني وأينمــــا ذكر اسـم الله في بـلدٍ عددت ذاك الحـــــمى من لـب إذاً ينبغي أن نحقق الانتماء لهذا الدين ، بالتعاطف مع إخواننا المسلمين ولو كان ذلك باللسان، وأقل ما يستطيع أن يقدمه الإنسان كلمة حق، أو دعوة صالحة لأخيه المسلم بظهر الغيب . ثالثاً : الحقوق المالية ، كالصدقة ، والزكاة ، والإحسان ، وإطعام الجائع ، وكسوة العاري ، وغير ذلك من الحقوق التي جعلها الله في أموال المسلمين ، قال الله تعالى : " والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم " وقال بعض العلماء بل ورد مرفوعاً ولكنه لا يثبت في المال حق سوى الزكاة . وقد يكون عند المسلمين في بعض الظروف من الفاقة والفقر وشدة الحاجة والعوز ما يوجب على أهل الغنى ، والجدة ، واليسار أن ينفقوا ، ويبذلوا لإخوانهم المسلمين . |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
رابعاً : الحقوق البدنية ، كنصرة المظلوم ، وفك الأسير ، وإغاثة المستغيث ، ونجدة الملهوف ، والمساعدة بما يستطيعه الإنسان ، كما ورد تفصيل ذلك كثيراً في السنة ، بل هناك ما هو أبعد وأوسع من هذا التقسيم ، وهو ما يعبر عنه بعض العلماء المعاصرين بأنه : توفير الحاجات الإنسانية لكل منتمٍ لهذه الأمة ، ويصنف العلماء المتأخرون الحاجات الإنسانية إلى خمسة أصناف تقريباً : الأول : الحاجات الحيوية ، كالطعام ، والشراب ، واللباس والمسكن ، والزواج فهذه الأشياء إذا نقصت الإنسان فإنه يفكر بها ، ولا يعود قادراً أن يقدم خيراً لأمته ، أو لبلده أو لأسرته ، أو لوالديه فلهذا كانت أول الحقوق ، وهكذا تجد الترتيب في القرآن الكريم . الثاني: الحاجة إلى الأمن ، وهو أن يأمن الإنسان على حاجاته الأساسية ، ويتحرر من الخوف سواء كان خوفاً من الإيذاء الجسدي أو الإيذاء النفسي والمعنوي ، أو خوفاًً من الحرمان من حاجاته الضرورية كحرمانه من الطعام أو الشراب أو اللباس ، أو السكن أو ما أشبه ذلك ، ولهذا هنا تجد في القرآن الكريم في غير موضع كما في قوله تعالى : " الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " فبدأ بالحاجات الحيوية العضوية ، وثنّى بالحاجات النفسية " وقال الله – تعالى - في الآية الأخرى : " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف" فإن الخائف لا يستطيع أن ينتج، ولا أن ينجز، ولا أن يقوم بعمل. الثالث: الحاجة إلى الانتماء ، وذلك أن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي جبله الله - سبحانه وتعالى - على حب الأُنس بالآخرين ، والركون إليهم ، والحديث معهم ، ولهذا يقال : إن الإنسان لو جلس فترة طويلة لا يتكلم ربما يموت ، وقد جرى أن ملكاً من ملوك قبرص جمع مجموعة من الأطفال وأبقاهم فترة طويلة معزولين عن الناس ووفر لهم حاجاتهم، فهم يأكلون ويشربون ، لكن لا يكلمهم أحد، ولا يكلمون أحداً ، فلم تمر بهم فترة طويلة حتى ماتوا . فالإنسان محتاج لمن يكلمه ، ويأخذ عنه ، ويحاوره ، وقديماً قيل: ولابد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجــــع وأنت ترى الإنسان يكلم شخصاً وهو لا يقصد أن يشتكي إليه بقدر ما يقصد أن يبوح له بهمه، ويسمعه مايقاسيه من العناء ، وهنا جانب مهم جداً وهو الشعور بالانتماء ، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش في عزلة عن الناس ، ولذا تجد الخطاب في القرآن الكريم خطاباً جماعياً " يا أيها الذين آمنوا "، " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وقال الله - تعالى -: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " ، " وقل للمؤمنات " وقوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وفي هذا إيماء وإشارة إلى حاجة الإنسان لمعنى الانتماء ، وأنه لا يتحقق معنى الإسلام بدونه ، فالصلاة جماعة ، والحج جماعة ، والصوم جماعة ، فكيف نستطيع أن نطبق أخلاقيات الإسلام إلا بالمعايشة ؟ كيف تعرف إن كنت حليماً أم لا؟ إن كنت صبوراً أم لا؟ إن كنت كريماً ؟ إن كنت شجاعاً ؟ إلا من خلال مجموعةٍ تُعايِشُهم ، وتعاملهم وتتفاعل معهم، يصبرون عليك وتصبر عليهم ، يحلمون عنك وتحلم عنهم ، إلى غير ذلك . الرابع: الحاجة إلى التقدير ، وذلك أن الإنسان بعد ما ينتمي إلى هذه الأمة يكون عنده حاجة فطرية إلى أن يجد منهم التقدير ، و ينال احترام الآخرين الذين ينتمي إليهم ، ويشعر أنه مفيد لهم ولو في بعض الأمور ، وأن له بعض التأثير فيمن حوله، حتى إن الإنسان لولم يحصل على مثل هذه الأشياء لربما لجأ إلى ما يسميه العلماء (السلوك التدميري ) ، أو (النشاط المشوش غير الناضج) من أجل إثبات ذاته ، ولهذا ترى كيف أثنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قبائل ، وعلى أشخاص ، وعلى أمم وعلى بلاد ، وعلى جهاد أناس بأعيانهم ، وهذا كثير جداً في السنة ، حتى صنف فيه أهل العلم ، كمصنف الإمام أحمد في (فضائل الصحابة) ، وفيه ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وأشج عبد القيس ، وما أثنى به عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهم يستحقونه ، ويكفيهم فخراً أن يثني عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك ثناء الله عليهم - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار" إلى غير ذلك من المواطن ، وتجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً يثني على حديث العهد بالإسلام ، ولا يلزم أن يكون الأمر ثناءً مجرداً ، فأحياناً تكون لفتة لها معنى كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم: ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) رواه مسلم (1780) وقال لهم : (من أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن) رواه أبو داود (3022) . فمن الذي سيترك بيته، أو بيت الله الحرام ويدخل دار أبي سفيان ، ولكن هذه كانت لفتة فيها نوع من الاعتبار والتقدير لأبي سفيان ، وفيها تأليف له على الإيمان وعلى الإسلام ، وكان آنذاك حديث عهد بالإسلام، كما تألَّف قلوب أقوام بالأموال وغيرها ، فإن الجاه له مكانة في النفس لا تقل عن مكانة المال ، فحاجة الإنسان إلى ذلك أمر فطري جبلي ركبه الله فيه ، وجعل في الشريعة ما يكمله وما يلبيه . الخامس: الحاجة إلى تحقيق الذات ، يحتاج الإنسان أن يحقق ذاته تلبيةً لشعور داخلي فنجد أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم (3084) : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له) ورواه الترمذي (1376)، والنسائي (3651) يتردد في أذهان كثير من الناس فيفكرون في هذه المعاني فيسعون لتمثلها من خلال مضاعفة العمل والإنتاج ، ومحاولة أن يخلِّد الإنسان نفسه بعمل معين ، طمعاً فيما عند الله - سبحانه وتعالى - من الثواب ، تجد من يحرص على أن تكون وراءه صدقة جارية تبقى بعد موته ، أو علم ينتفع به ، ويتداول ويترحم عليه بسببه بعد موته ، أو ولد صالح يكون امتداداً لأبيه وبقاءً لاسمه ، وبقاءً لأجره وثوابه ، فهذا مما يدخل في تحقيق الذات . |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
وهذه هي الحاجات التي تدور حولها متطلبات الإنسان .
إن مما يجدر تأكيده تتمة لما سبق: أن هذه المطالب التي شرعها الله - تعالى - من حق المسلم على أخيه ، ومن حق المسلم على الأمة التي ينتمي إليها مرتبطة بأصل النسبة لا بكمالها، فكل من صدق عليه أنه من المسلمين فله جزء من هذه الحقوق ، حتى لو كان مفرطاً ، أو عاصياً أو متلبساً ببدعة معينة ، نعم هناك تفاوت كبير في الحقوق ، هذا التفاوت يعتمد على عدة أشياء ، فحق الوالدين ليس كحق غيرهم، وحق القرابة ليس كحق الأباعد ، وحق المجاور ليس كحق البعيد ، وحق العالم ليس كحق الجاهل ، وحق الفاضل ليس كحق المفضول، وحق الإنسان الذي له تأثير ونكاية بالعدو ، ونفع في الأمة ليس كحق آحاد الناس الذين ليس لهم ذلك . فأصل الحق مرتبط بأصل الانتماء ، وكمال الحق مرتبط بكمال الانتماء . لكل مسلم على أخيه حق وعليه له واجب ، عليك حق أن تنصحه ، وترشده ، وتدعوَ له وتذكره ، وتعلمه ، وتساعده ، ولك عليه حق ، فمن قام بواجبه فيمكنه أن يطالب بحقه لكن إذا فرط في واجبه فليتوقع أن يخل الناس بواجباتهم . إن المسلمين يتفقون على أصل الدين ، وعلى المحكمات القطعية التي جاء الدين بها ، هم يؤمنون بإله واحد لا شريك له ، في ذاته ، وفي أسمائه وصفاته، و في ربوبيته ، و في ألوهيته ، فهو المستحق للعبادة وحده ، وهم يؤمنون بنبيّ واحد هو خاتم الأنبياء والمرسلين وإمامهم ، جاء بأفضل الشرائع وآخرها ، وهو واجب الاتباع إلى قيام الساعة ، ويتجهون إلى قِبلة واحدة ، ويقرؤون قرآناً واحداً -يقطعون كلهم بأنه محكم محفوظ من الزيادة والنقصان لم تَطُلْه يد التحريف والتبديل والتغيير في ألفاظه ومجملات معانيه - ويصومون شهراً واحداً ويحجون بيتاً واحداً، ويقفون بعرفة موقفاً واحداً ، تاريخهم واحد ، ومصيرهم ومستقبلهم واحد ، حتى التحديات التي تواجه المسلمين هي تحديات واحدة في الجملة ، فإننا نجد الأذى الذي موجهاً إلى المسلمين يوجه إليهم شعوباً وأمماً بلا تمييز بين أقوياء الإيمان وضعفاء الإيمان ، وبين العلماء والجهلاء ، وبين الصلحاء والفاسدين ، وهذا يؤكد على الأمة: ضرورةَ أن تعمل على تحقيق معنى هذا الانتماء . لقد أشار ابن عباس - رضي الله عنه - إلى المحكمات في الدين التي هي القواعد العامة التي ينبغي الاجتماع عليها ، يقول: إن في الأنعام آياتٍ محكماتٍ هنّ أم الكتاب، ثم قرأ: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم "… الآيات أخرجه الحاكم في المستدرك (2/317) وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال:من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي عليها خاتمة، فليقرأ هؤلاء الآيات: " قل تعالوا أتلُ ما حرم ربكم عليكم ألا تشركُوا به شيئاً " إلى قوله : " لعلكم تتقون " أخرجه الترمذي (3072) وحسنه. والآيات من سورة الأنعام هي قوله تعالى : " قل تعالوا أتلُ ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشُدَّه وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلى وسعها وإذا قُلتم فاعدلوا ولو كان ذا قُربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون. وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ". |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
حاول أن تتأمل هذه الأوامر ومدى اهتمامنا بها ، ومدى التركيز في الحديث والخطاب الشرعي عليها ، ومع انهماكنا وانشغالنا بقضايا قد لا تمتّ لهذه الآيات بصلة "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده" "وأوفوا المكيال والميزان بالقسط" "لا نكلف نفساً إلا وسعها" "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" "وبعهد الله أوفوا" " ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل" أمر بالوحدة على صراط الله المستقيم ، ونهى عن اتباع السبل فتفرق بكم عن سبيله " ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" . إذاً ، نحن أمام محكمات قطعية تتعلق بالعقائد ، والأخلاق ، وبالعمل والسلوك ، أمر الله - تعالى - بما كان من خير ، ونهى - سبحانه وتعالى - عن ما كان من شر ، أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك ، هذه الأشياء العامة هي التي ينبغي أن يجتمع المسلمون حولها ، ويدندنوا في محيطها . إن هذه المسلّمات ، وما شابهها مما اتفق عليه أهل اللللعلمم على أ نـه لا ينقص منها ولا يزاد عليها ، وما سواها يتفرع عنها إلى : القسم الأول : هنا يقع - أحياناً - نوع من الإضافات فيما ينبغي أن يجتمع الناس عليه ، فمن الإضافات ماهو انحرافات وبدع وأساطير تلبّسها الناس وأقحموها في الدين ، بل ظنوها من أصول الدين ، وربما والَوا فيها ، وعادَوا عليها وأحبوا من أجلها ، وأبغضوا من أجلها ، وقد تكون مناقِضةً لما بعث به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كثير جداً في معظم المجتمعات الإسلامية ، ولكل قوم شيء من ذلك ورثوه عن الآباء والأجداد ، وظنوه ديناً يتدينون به ، هذا القسم الأول . القسم الثاني: أشياء تكون من الدين ، أو تكون اجتهاداً مبنياً على نص ، ولكن القوم يرفعونها من كونها فرعاً إلى جعلها أصلاً ، أو من كونها أمراً خلافياً اجتهادياً إلى كونها أمراً قطعياً ضرورياً. القسم الثالث: أشياء هي من الدين يقيناً بلا خلاف ، وقد تكون من أصول الدين ولكن يقع فيها - أحياناً - نوع من الإلحاح الزائد حتى تكبر في نفوسهم ، وتعظم عما جعل الله - تعالى - لها من القدر ، وربما هذا يكون على حساب أصول أخرى يقع فيها إجحاف وتفريط، وأمثلة ذلك كثيرة ربما يأتي شيء منها. إن هناك انتماءات وانتسابات بديلة، أو مزاحمة لهذا الانتساب الشرعي الديني الذي تحدثنا عنه، وكثير من المصلحين والغيورين والمحبين يجتهدون في الإلحاح على جوانب النقص الموجودة في الأمة عملاً على استدراكها ؛ فيتولد من ذلك نوع من الانخزال عن الأمة أو الانكفاء عنها ، بل ربما يغفلون عن التأكيد على معاني الأخوة الإيمانية . هناك من يرى أن الحديث عن الأمة ومجالاتها وكثرتها وعددها وعديدها وامتدادها نوع من فقدان التركيز أو فقدان العناية والخصوصية ، وهنا سؤال يتكرر : ما بالنا تردد –دائماً- أن الأمة مليار ومائتا مليون مسلم ؟ وأقول : بل لماذا لا نكرره ؟ ينبغي أن يكرر هذا المعنى ويُبدأ ويُعاد ؛ لأن هؤلاء لهم أصل الانتماء في مجملهم إلا من خرج عن الإسلام منهم . وبعضنا لا يكاد يتذكر الأمة في مجملها إلا عند الشدائد والمصائب ، فكأننا غافلون نحتاج إلى مِطرقة معينة حتى نستيقظ ، فإذا حصلت للمسلمين مصيبة في إندونيسيا مثلاً ، وشاهد الناس جثث القتلى المتفحمة من أثر النار ، أو رأوا التمثيل بالجثث ، أو رأوا من يأكلون لحوم الأحياء من المسلمين نكاية وبغضاً وكراهيةً تحركت العواطف والمشاعر تجاه إخواننا حركة وقتية عارضة ثم ما تلبث أن تنطفئ وبسرعة كاحتراق السعفة ، وإذا وقع للمسلمين معاناة في إفريقيا كمجاعة أو جفاف أو حروب طاحنة ، أو غير ذلك ، فإن المسلم قد يتفطن لذلك خصوصاً إذا أفلحت وسائل الإعلام في التوكيد وإبراز هذا المعنى ، وسرعان ما تنطفئ هذه الجذوة ونعود إلى غفلتنا وإذا لاحت لنا نذر أزمة -في أفغانستان مثلاً- لهجنا بذكرها وخفنا عليها ، فإذا ذهبت هذه الأشياء عدنا أدراجنا إلى ما كنا عليه . إن ثمة ضرورة إلى أن نؤكد للمسلم العادي وللشاب المتدين في محل التعليم ، أو في حلقة الدرس أو في المجلس أوفي المحضن التربوي أهمية انتسابهم لهذه الأمة وشعورهم بالأخوة لكل من كان داخل هذا الإطار ، وإن كان شعوراً يرتفع وينخفض ويزيد وينقص . |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
أما الانتماءات التي زاحمت الانتماء الأصلي فهي كثيرة منها : أولاً : الانتماء للقوميات والشعوب : الإسلام دين عالمي كوكبي ليس له قومية معينة ليس ديناً عربياً وليس ديناً كما يقول بعضهم (أفرو آسيوي) ؛ لأن معظم انتشاره في إفريقيا وآسيا، بل تجد الإسلام ينتشر في أوروبا شرقيها وغربيها في أستراليا في الأمريكيتين ينتشر بقوة ، ويكتسب كل يوم أنصاراً جدداً ومواقع جديدة وقد قرأت كتاباً للدكتور (جمال حمدان) قبل سنوات طويلة وكان يقول فيه : إن عدد المسلمين حوالي ثلاثمائة وخمسين مليوناً، وهم يشكلون –ربما- سبع سكان الكرة الأرضية ، و يتوقع أن يزداد عدد المسلمين، وأن يرتفع إلى خمس سكان الأرض ، فتقرأ اليوم أن عدد المسلمين حسب الإحصائيات فعلاً خمس البشرية . الإسلام دين يزحف بقوة ، بالفطرة ، وبجهود الدعاة ، ولو أن الإسلام وفق لدعاة مخلصين يعرفون كيف يعرضونه، وكيف يتسللون به إلى القلوب لاكتسح الديانات الأرضية كلها . مشكلة الانتماء إلى القوميات والشعوب هي إحدى المشكلات القديمة ، فتجد كثيراً من الناس ينتمون إلى قومية كالقومية العربية مثلاً ، وتعرفون تراث القومية العربية وأدبيات القومية العربية، وكيف كان يقول أحد شعراء الشام النصارى : هبوا لـــي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم ألا حبذا كــــــــــــفر يوحد بينهم وأهلاً وسهـــــــــلاً بعده بجهنم وآخر يقول : آمنت بالبعث رباً لاشريك له وبالعـــــروبة ديناً ماله ثان فكان غلاة القوميين خصوصاً يطرحون القومية العربية كانتماء بديل عن دين الإسلام، ونحن لا نرى أن مجرد الانتساب للعرب بديل عن الإسلام ، وإن كانت هذه نسبة لها فضلها ومكانتها ، والذين كانوا يبغضون العرب كانوا منحرفين عن الدين، وكانوا يسمون (الشعوبيين) ، وقد كتب الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) فصولاً جيدة في هذا الباب. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
وخلاصة الأمر: أن الانتماء إلى القوم، أو إلى الشعب ليس مشكلاً؛ هذا الشعب المصري ، وهذا السوري وهذا العراقي ، وهذا السعودي وهذا الكويتي أو غير ذلك ، بل هذا أمر عادي كأن ينسب الإنسان لشيء آخر فليست المشكلة في مجرد الانتماء المشكلة أن يكون هذا الانتماء على حساب الانتماء الأصلي والولاء الأصلي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين وأن تكون هذه النسبة لها تداعياتها، فيكون أهل هذا الشعب يتناصرون فيما بينهم وعندهم معان خاصة ، ولهم من الشعوب الأخرى موقف معين ، وقد تشيع بينهم مفاهيم وتصورات عن الشعوب الأخرى ، وكلما نزلت نازلة أوجدّت قضية تحالفت هذه الشعوب بعضها ضدّ بعض ، فأصبح هذا الشعب ضد الشعب الآخر ، وصار هناك اضطهاد في كل نازلة وفي كل قضية ، فصار هذا الانتماء الشعبي –أحياناً- مقدماً على الانتماء الإسلامي . أما لو كانت هذه الشعوب تشعر –باستمرار- بالتكاتف فيما بينها ، كما يحدث -على سبيل المثال- حينما تتكاتف الشعوب الإسلامية مع معاناة الشعب الفلسطيني ، فتجد المغربي والعراقي والشامي والمصري والخليجي والكردي ، والغربي من المسلمين يشعرون بالتلاحم يشعرون بالمعاناة ، فيدعون لإخوانهم وينصرونهم ، ويتكلمون في قضاياهم ، ويدعمونهم بالمال وبما يستطيعون من الإمكانيات فلا إشكال في هذا. ثانياً : الانتماء للوطنيات والدول ، فإن هذه الوطنيات مرتبطة –غالباً- بما ذكرناه قبل قليل من أمر الشعوب وأيضاً لا نقصد إلى إنكار محبة الإنسان الفطرية لوطنه كما قيل: وحبب أوطـان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالك إذا ذكـروا أوطـانهم ذكّرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلك والرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر لكثير من البلاد الإسلامية فضلها ، كفضل مكة والمدينة وجزيرة العرب واليمن ، والشام ، وعمان ومصر ، إلى غير ذلك فمجرد أن تكون منتسباً إلى وطن ليس مشكلاً المشكلة أن يتحول هذا إلى ولاء بديل عن الولاء الأصلي ، كما قال أحمد شوقي في قصيدته المشهورة: وجه الكنانة ليس يغضب ربكم أن تجعلوه كوجهه مــــــعبودا ولوا إليه في الدروس وجوهكم وإذا فزعتم فاعــــبدوه هجودا فتراه يستخدم الألفاظ الشرعية الخاصة بعبادة الله - سبحانه وتعالى - ويجعلها موجهة للوطن ومن قصيدة للزركلي مشهورة يقول: وطني لو صوروه لي وثناً لهمـــــمت ألثم ذلك الوثنا وهناك في المقابل بعض التعبيرات التي لا تستحسن، مثل تحريف كلمة الوطنية إلى وثنية؛ لأنها قد تعطي انطباعاً خاطئاً عند بعض الناس وأنهم يرون أن الإسلام ضد خدمة الإنسان لأهل بلده ومحبته لهم ، وهذا ليس صحيحاً ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - جعل للجيران حقوقاً فالجار الأدنى له حق ، والجار الأبعد له حق ، وهكذا الأقربون وهم أولى بالمعروف ، وحق أهل بلدك عليك أكثر من حق الأبعدين إذا تساوت الحاجة ، فليس هناك تناقض بين محبة الإنسان لوطنه, أو عنايته بأهل بلده تعليماً , ودعوة , وخدمة , وإصلاحاً , وغير ذلك وبين انتمائه للإسلام ، إنما التناقض هو أن يكون انتماء الإنسان لوطنه بديلاً عن انتمائه لدينه أو على حساب انتمائه لأمته الإسلامية . ثالثاً: الانتماء للقبائل : وهذا كثير ، والله - سبحانه وتعالى - قد امتن علينا ، فقال : " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " فليست المشكلة في كون الإنسان ينتمي إلى قبيلة كذا أو كذا ، إنما المشكلة هي العصبية لهذه القبيلة ، ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب ...) رواه مسلم (934) المشكلة النصرة بالباطل والمنافرة والمفاخرة والمباهاة ، والحب والبغض وأن تكون هذه الأشياء هي علامة الولاء ، فتجد الواحد يسعى إلى تقريب من كانوا من قبيلته في الإدارة التي هو فيها ولو كان غيرهم أكفأ منهم ، وهكذا في التجارة وفي التزويج ، وغير ذلك، فيكون هناك استقطابات داخل المجتمع المسلم ، بل داخل البلد الواحد والمدينة الواحدة تجد نوعاً من التجاوزات والتحالفات هذا قَبَليّ ، وهذا غير قَبَليّ، وهذا من قبيلة كذا ، وهذا من قبيلة كذا ويترتب عليه معانٍ عظيمة وليست مجرد انتساب يقصد به التعريف فقط . رابعاً: المذاهب والنحل : كالمذاهب الفقهية التي كانت في يوم من الأيام سبباً للخصومة وسالت بسببها دماء ، وقطعت بسببها أرحام وأواصر ، بل ربما كانت في وقت من الأوقات فرصة لتدخل الأعداء وضربهم بلاد المسلمين . خامساً : الشيوخ والقادة: فإن كثيرين يتعصبون لشيخ أو شخص ، ويوالون فيه ويعادون ، وربما يكون هو ممن ينهاهم عن التقليد ، فيقلدونه ، وينتقلون من تقليد الفاضل إلى تقليد المفضول . سادساً : الجماعات والأحزاب : سواء كانت جماعات علمانية أو سياسية ، فتجد كثيرين قد يرشحون شخصاً ، وهم يعرفون أنه يطرح مشروعاً علمانياً ، أو منحرفاً ، ويرون أنهم يفصلون بين انتمائه السياسي وبين انتمائه الديني ، المهم أنه من هذا الحزب أو هذه المجموعة ، وهكذا الجماعات ، والأحزاب الإسلامية التي يتربى الكثير من الأفراد فيها أحياناً على الانتماء إلى الجماعة والتشبع بمفاهيمها وأفكارها ، ويكون هذا على حساب الانتماء العام ويقع بسبب ذلك نوع من الجفوة بين المجموعات. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
ومما يضعف الانتماء العام المسائل والأغلوطات التي يتشاغل بها كثير من طلبة العلم ؛ كمسألة العذر بالجهل ، فقد أصبح كثير من الجماعات الإسلامية وطلبة العلم يفرزون إلى مجموعات : هؤلاء يعذرون ، وهؤلاء لا يعذرون ، أو مسألة الحاكمية مثلاً وما يتعلق بها ، انقسموا أقساماً كثيرة بسبب اختلافهم في هذه القضية التي فيها مجال للاجتهاد ، أو مسألة دخول العمل في مسمى الإيمان ، هل يدخل أولا يدخل ؟ ولم تتحول هذه القضايا إلى قضايا علمية تبحث بهدوء و بنفس راضية ، وتدارس للأدلة والوجوه ، إذ لو كان الأمر كذلك لكان مطلوباً ، ولكن المسألة تحولت إلى نوع من التجاذبات والتحزبات ، حتى إن كثيرين ربما لا يتقنون هذه المسائل ولا يعرفون أبعادها ولا أدلتها ، ولا درسوها ، لكن هؤلاء تعصبوا لهذا ، وهؤلاء تعصبوا لهذا ، وترتب عليه قبولهم بهذا القول أو ذاك . إن هناك عوامل كثيرة تدعونا إلى ترميم وحدة الأمة على الأقل من الناحية النظرية ، من هذه العوامل : 1/ التمزقات والفتن الداخلية التي تعصف بالمسلمين ، وتجعلهم يضطربون إزاء كل قضية مستجدة تطرأ عليهم . 2/ التحديات الخارجية، والمتمثلة -على وجه الخصوص- فيما نسميه (العولمة) عولمة السياسة، والاقتصاد ، والثقافة ، والقيم ، وأخيراً عولمة القوة . إن الطريق - أيها الأحبة – طويل، ويحتاج إلى تربية وإعداد وبناء ، ولا يجوز أن تسيطر المصدر: موقع الإسلام اليوم |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
أُمّةُ المِليارِ مِليارُ أُمّة!!/ سلمان بن فهد العودة
عاشت أمتنا قروناً تنيّف على العشرة، وهي واسطة عقد الزمان، مجدها في الجوزاء أو أعلى، ونورها كالشمس أو أجلى، الجناب مهيب، والراية خفّاقة، والكلمة مدوّية. وما برح الزمـانُ يــدورُ حتى == مضى بالمجـد قومٌ آخرونـا وأصبح لا يُرى في الركب قومي == وقـد عاشـوا أئمتَـه سنينا وآلـمـني وآلـم كــلَّ حـرٍ == سؤالُ الدهر: أين المسلمونا؟ وهي اليوم بعد عقود من الهوان والتخلف وتراجع دورها الحضاري تبحث عن مخرج. إن بناء الأمم هدف شريف، ينشده المصلحون، ويبذلون جهدهم وعرقهم ودمهم لتحقيقه. وصناعة الإنسان هي الهدف الأول في منظومة الإصلاح الأممي، والركيزة الأساس التي تُعقد عليها الآمال، وتُناط بها التطلعات. ومحال على أمة تعاني في ذاتها من الأدواء المريرة، والعلل المستعصية أن تكون قادرة على مدِّ يدِها إلى الآخرين بالنور والهداية والعلاج الناجع. والعكوف على إصلاح حال الأمة هو المدرج لتحقيق خيريّتها، وإعادة اعتبارها، وجعلها في مقام القدوة؛ فرقيّنا العلمي والعملي هو السبيل لقدرتنا على إصلاح العالم. إن من غايات هذا الدين العظيمة الحفاظ على وحدة الأمة وتماسكها من التهتّك والتمزّق والشتات. إن هذه الغاية الشريفة (اجتماع الكلمة) ينبغي أن تكون محلّ اتفاق راسخ من قبل كل من ينتمي لهذه الأمة سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو أحزاباً أو دولاً أو غير ذلك. إن الأمّة لا تقبل تنازعاً ولا تفاوضاً ولا مساومة في أمر يُعدّ سراً من أسرار البقاء، والصدارة على أمم الأرض. والانتماءات الفرعيّة لا يجوز أن تكون على حساب الانتماء الأعظم ولا أن تكون انشقاقاً أو شغباً عليه. كل شعب قام يبني نهضةً == أرى بنيـانَكم منقــسما في قديم الدهر كنتم أمةً == لهف نفسي!! كيف صرتم أُمما؟! إن معرفة ( قواعد توحيد الكلمة) ومن ثم تنزيلها على أرض الواقع يصنع صفاءً في النفوس، وجمالاً في الأخلاق، وإشراقاً في الوجوه، ونجاحاً في العمل، وتذويباً للمشكلات العالقة، ودفعاً للنوائب الحادثة. إنه هدف سامٍ وسبب رئيس لصناعة الأمم العظيمة التي تستطيع تجرّع الغصص، وتحمّل عظائم الأمور؛ حفاظاً على ريادتها ومسؤوليتها. إن الاجتماع من شعائر ديننا الحنيف؛ فالصلاة والاجتماع عليها في الفرائض وغيرها، والاحتشاد خلف إمام واحد، والحج الذي تحتشد له الأشتات من كل فجّ عميق، تزدحم بهم الرحاب بلباس واحد، وهتاف واحد. بل حتى في السفر دعاء للاجتماع؛ فالرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلاَثَةُ رَكْبٌ .. رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم. وفي الحديث الصحيح يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- داعياً للوحدة ومحذراً من الفرقة: فيما رواه الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ». فمتى فُتح المجال لجرثومة الفرقة وفيروس الاختلاف؛ فإن العاقبة مخيفة، والثمن مدفوع من قوة الأمة وجهدها، والدافع له غالباً هو ضعف النفوس وفساد الأخلاق، والطمع في الجاه والمال والرياسة. ويقيني أننا بحاجة لا تُؤجّل لأن نغرس في نشئنا الصاعد حبَّ الوحدة والاجتماع، والنفور من الفرقة، والاحتفال بقضايا الاتفاق وإبرازها، وتحجيم عوامل الفرقة وعزلها، ولن نصنع ذلك ما لم نتغلّب على روح الـ(أنا) الطاغية. فَلْنُعْلِنْها حرباً بلا هوادة على أنانية الفرد، وأنانية الحزب، وأنانية الشعب، ونردد (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103] إننا نتغنى كثيراً بمعاني الأخوة والوحدة؛ فهي شعار الساسة والعلماء والشعراء والوعاظ.. ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً== الشام فيه ووادي النيــل سيان وحيثما ذُكــر اسمُ الله في بلــد == عددْتُ ذاك الحمى من لبّ أوطاني وهي هتاف تُبحّ به أصواتُ الجماهير من الخليج إلى المحيط في مناسباتها وأعيادها وأزماتها بيد أن مفهوم (الأمة الواحدة) يتعرض لامتحان عسير أمام تعمّق عوامل النفور والخصام. واستشراء أدواء الفرقة والخلاف، واحتكام الكثيرين إلى الانتماءات العرقية أو الفكرية أو الثقافية الخاصة فلا يجدون أنفسهم إلا بها ومعها وإليها. وحين يكون الحديث عن (الأمة الواحدة) يشعرون بالتلاشي والذوبان والضآلة، فكأنّ الفرد أو الحزب يبحث عن كيانه وذاتيّته وحضوره بالانفصال عن تاريخ الأمة أو دينها وثقافتها، أو واقعها ومعاناتها. أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِّوى == فَلَم يَستَبينوا النُصحَ إِلّا ضُحى الغَدِ فَلَمّا عَصوني كُنتُ مِنهُم وَقَد أَرى == غِوايَتَهُم وَأَنَّنـي غَيرُ مُهتَــدي وَهَل أَنا إِلّا مِن غَزِيَّةَ إِن غَوَت == غَوَيتُ وَإِن تَرشُـد غَـزيَّةُ أَرشدِ هل يُعقل أن يكون الفرد في الأمة أمة وحده في فردانيّته، وتمرّده على روح الفريق والجماعة، واستهتاره بمصالح الأمة العليا، وإيثاره لمصلحته الذاتية؟! ها هنا السر العظيم بين مثل هذه الحالة الانشقاقيّة القاتلة، وبين وصف الله تعالى لإبراهيم عليه السلام أنه كان (أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: من الآية120]. كان في مقام أمة بعلمه، وصدقه، ودعوته، وعمله كأَنَّهُ وَهْوَ فَرْدٌ مِنْ جلالَتِهِ == في عَسْكَرٍ حينَ تَلْقَاهُ وفي حَشَمَِ ولكنه كان شديد الاندماج، والقرب، والصلة بكل الحنفاء في عهده، ومن قبله، ومن بعده. دعنا نعيش في الأحلام, وننام ونصحو على أمل برنامج يحفظ وحدة هذه الأمة، ويجمع جهد رجالها وقادتها ومصلحيها على كلمة سواء والله وحده المستعان ولاحول ولا قوة إلا به. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. المصدر: موقع الإسلام اليوم |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
الفكر المأزوم/ سلمان بن فهد العودة
ليس بإمكان المرء أن يعتزل المشاكل العامة، والخاصة بالذات حين يعيش في العالم الإسلامي فـ: 28 من 30 صراعاً في الكرة الأرضية هي في العالم الإسلامي، وحين نتحدث عن العالم الإسلامي فلسنا نتجاهل أزمات العالم كله، ولكن الفرق الرئيس العجيب أن أزماتهم ناتجة عن فائض القوة والتقنية، وأزماتنا ناتجة عن فائض العجز والتخلف!. هذا واقع مرٌّ مأزوم؛ بيد أنه من الخطأ أن نتحول إلى أناس مأزومين نفسياً وعقلياً؛ فتؤثر الأزمة في تفكيرنا.. في حياتنا العامة، وعلاقاتنا مع الآخرين، وحياتنا الزوجية الخاصة و في طريقة تناولنا للأشياء. إن الاستغراق في المشكلات والأزمات وإخراجها من سياقها، ونسيان تيار الحياة اللجب المتدفق بانسياب وإيجابية، واختصار الأمة في أزمة يحوّلها إلى أزمة شعورية وداخلية ونفسية، وينسيك هذا كله أن الحياة مكتظة بالفرص والإيجابيات، وأن الحكمة والذكاء تحويل الأزمة إلى فرصة. إن التعامل السلبي مع أي أزمة هو تجاهل للواقع العام، واحتكار له في أحداث أو جوانب معينة.. وكل ذلك أو بعضه يكفي بجدارة لصناعة عقلية مأزومة وفكر مشوّه مريض. وهناك فرقٌ بين من يذكر أيَّ مشكلة أو أزمة في سياقها، وبين من تسيطر عليه وتصنعه، ويلحّ عليها إلحاحاً كبيراً، وقد تصنع عنده موقفاً فكرياً وعاطفياً ونفسياً وتصنع شخصيته، وينجم عن ذلك تضخيم للمشكلة، وتأزيم للفكر، وكأنها نهاية التاريخ وهرمجدون آخر الزمان ومؤذن المهدية. إن عنصر الزمن يعطي المشكلة حجمها الحقيقي، ويكشف الفرق بين تخيلنا وبين واقع الحال؛ ولهذا يقول بعض العلماء: إن الفتن إذا أقبلت عرفها العلماء، وإذا أدبرت عرفها كل الناس. والغالب في الأزمات أن نتائجها وآثارها السلبية أقلّ مما نظن، وأن التحليلات الإعلامية تعطي بعداً إضافياً للأزمة، وأن الخيال يجنح ويجمح في تطوراته المستقبلية، وقد قال أبو الطيب: كُلُّ ما لَم يَكُن مِنَ الصَعبِ في الأَنـ فُسِ سَهلٌ فيها إِذا هُوَ كانا وقال آخر: وَكُلُّ الحادِثاتِ وإن تَناهَت فَمَوصولٌ بِها فَرَجٌ قَريبُ إن المعاناة في فلسطين أو العراق – مثلاً - هي مجرد انفجار موضعي للأزمة لا يجوز أن ينسينا الأزمة القابعة في عقل ونفس كل فرد فينا.. دعونا نعترف بمشاكل تفكيرنا وأزماتنا الشرقية؛ من التخلف والضعف والمهانة: أزماتنا في الشرق تخطف حولنا كتلٌ تبدّت حولها أشلاءُ فتطرفٌ وتخلفٌ وتعصبٌ وهشاشةٌ وتعاسةٌ وخواءُ بؤساءُ لا يبغون عن عاداتهم حِولاً وما لفهومهم أخطاءُ رُزِئوا بتقديس الذوات كأنهم رسلٌ يعزز قولهم إيحاءُ دعونا نعترف بأننا نمارس تسلطاً واستبداداً في الرأي بحسب وسعنا وطاقتنا.. آخذين بقول العربي عمر بن أبي ربيعة: إِنَّما العاجِزُ مَن لا يَستَبِد ونمارس ترفعاً على النقد والمراجعة والتصحيح والاعتراف بالخطأ، وإعجاباً بالرأي وأحادية في الفكر ومصادرة لآراء الآخرين، وانشقاقاً ذاتياً أصبح معه شبه مستحيل أن نتعايش أو نتفاهم أو نتفق على عمل مشترك أو برنامج مشترك؛ حتى عجزنا عن رد الظواهر لأسبابها، والمشاكل لعللها في كسل عن التفكير المنطقي الطبيعي، وتباطؤ عن العمل البحثي أو العلمي أو الدعوي أو الفكري النافع. وأصبحنا لا نرى الألوان الرمادية فإما معنا أو ضدنا؛ أبيض أو أسود، لا نرى مناطق الوسط والحلول الوسطية، إما حكم بالبراءة أو الإعدام، ومجتمع الملائكة أو الشياطين، قعر الجحيم، أو قمة الفردوس. فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيتَ في البِلى وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ بيد أن منهج الشريعة في البحث والتقصي يعتمد على الفرز والتفصيل والتحرير، وعدم الجزاف. والفكر المأزوم مشوش بفعل التعصب مما يعني صعوبة الإصلاح؛ بسبب تترس أخطائنا بالدين، واختلاط الأمر لدينا بين الثبات على الحق، وبين الجمود على الرأي المجرد، ومن مظاهر هذا الفكر تدافع وتبادل التهم، وانتقائية أو جزئية في الطرح والتقييم والتفكير، وقطعية في غير موضعها. وفي هذا العالم الإسلامي الكبير أزمة واحدة – أحياناً - كافية لبث الانشقاق والاحتقان للتراشق، والانشغال بالغير مما يبرز سوءات النفس البشرية من التعصب والهوى، والتوسع في التأويل للكذب والعدوان، والبغي والقتل بأوهى الحجج وأضعف التأويلات، والسعي الجاد في إسقاط الآخرين وكأنهم هم العائق في وجه النجاح! ومأزوم الفكر يغيب عنه في لحظة الحدث بل في حياته العامة التفكير المنطقي السليم، ويتهرب من الاعتراف بقانون السببية يفعل ذلك لردم أخطائه ومشاكله ومظاهر الخلل والتخبط والظلم في منطقه وتفكيره: هذا من الناحية العلمية والفكرية. وَتَغلُّبُ الأثرة والإطاحة بالمخالف والتشنيع عليه، والكيل بالمكيالين في الناحية التربوية السلوكية، وتحيله المشاكل إلى عاملٍ من عوامل ضياع ثروات الأمة البشرية والمادية والاقتصادية، والإخفاق في إدارة الأزمات الشخصية فضلاً عن المجتمعية من الناحية الإدارية، وهي تجعل الفرد فاشلاً على مستواه الشخصي والعملي والوظيفي وربما تجده مع هذا كله متحدثاً جيداً عن مشكلات العالم الإسلامي، وربما العالم كله من غير أن يطرف له جفن أو تهدأ له عين. وبعد: فإن هذه الأزمات كلها شيء، وأن تكون في الفكر المأزوم قناعة الرضا بالذات، واعتقاد عدم وجود الخطأ أزمة أخرى؛ لأن معنى هذا الأخير هو عدم وجود القابلية للتصحيح والمراجعة، ومعناه – باختصار - فقدان الخطوة الأولى في طريق التصحيح وهو الجهل المركب –كما يسميه فقهاؤنا: الذي لا يعرف ولا يعلم أنه لا يعرف؛ فحين لا يحس المرء بمشكلة في تفكيره وحين يشعر بالرضا عن الذات، والكمال المطلق فهذه أم المشاكل: يقضى على المرء في أيام (أزمته) حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن إن طلب الهداية من الله في سورة الفاتحة في كل صلاة تشير إلى ضعف الإنسان المستمر، وحاجته للتصحيح في كل وقت، ونزع خصلة الرضا المطلق السلبي عن الذات؛ لأن معنى هذا الشعور هو التوقف والجمود, نعوذ بالله من ذلك.. بسم الله الرحمن الرحيم "الحمد لله رب العالمين(1)الرحمن الرحيم(2) مالك يوم الدين(3) إياك نعبد وإياك نستعين(4) اهدنا الصراط المستقيم(5) صراط الذين أنعمت عليهم(6) غير المغضوب عليهم ولا الضالين(7)" آمين. * د. سلمان بن فهد العودة : كاتب سعودي المصدر: موقع الإسلام اليوم |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
كلمة في جمع الأمة/ الشيخ سلمان العوده
* مقدمة: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه؛ الذين قَضَوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعلى أزواجه وذريته، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: إنني أحبكم في الله تعالى. أُحبُّكُمْ حُبَّ الشَّحِيحِ مَالَهُ قَدْ ذَاقَ طَعْمَ الْفَقْرِ ثُمَّ نَالَهُ إِذَا أَرَادَ بذْلَهُ بَدَا لَهُ أحبكم حباً لا تفسير له إلا هذه الرابطة التي جعلها الله صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين، يحنُّ بعضهم إلى بعض، وإن تناءت بهم الديار، وتباعدت الأقطار، إلا أن رابطة الحب في الله سبحانه وتعالى تجمعهم. أُحِبُّكَ لا تَفْسِيرَ عِنْدِي لِصَبْوَتِي *** أُفَسِّرُ مَاذَا وَالْهَوَى لا يُفَسَّرُ؟! فإذا ألمت بك مُلمّة، أو نزلت بك نازلة، أو أغلقت دونك الأبواب، أو تعسرت الأسباب؛ فتذكر أن قلوباً تصطف، تأسى لأساك، وتحزن لحزنك، وتفرح لفرحك، وتتابعك، وإن كنت لا تعرفها وكانت لا تعرفك. فَإِنْ رَأَتْكَ عَلَى خَيرٍ بَكَتْ فَرَحًا *** وَإِنْ رَأَتْكَ عَلَى سُوءٍ بَكَتْ أَلماً ولعل كلمة الحب تصلح لجمع الكلمة، فمع الحب تذوب المشكلات بين الزوجين، بين الشركاء، بين الأصحاب في العمل، بين المتخالطين، بين الجيران، بين المختلفين، لكن إذا تنافرت القلوب فلا ينفع حينئذٍ وئام ولا اتفاق. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
أولاً: الفرق بين الاختلاف والتفرق
يجب أن ندرك أن ثمت فرقاً بين التفرق والاختلاف فالله سبحانه وتعالى في تنزيله نهى عن التفرق مطلقاً؛ ولهذا فكل تفرق فهو مذموم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن التفرق بالأجساد. كما في حديث أَبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِي قَال: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلاً؛ تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ). فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلاً إِلاَّ انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالُ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ "(1)، فالتفرق مذموم في الأحوال، والأقوال، والمذاهب، والمواقف، والأبدان؛ إذا كان تفرقاً مبنياً على غير سبب؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) (آل عمران: من الآية105). أما الاختلاف فليس مذموماً بالإطلاق، فمنه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى في الآية بعدها: (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: من الآية105)، فالاختلاف المذموم هو الاختلاف في الكتاب، والاختلاف على الكتاب واتباع الهوى، وهو أن يختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وإلا فقد يكون اختلافاً محموداً، ومن أمثلة الاختلاف المحمود اختلاف التنوع، مثل أن يذكر كل من المختلفين من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، كاختلافهم في تفسير قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) (فاطر: من الآية32)، قال بعضهم: السابق الذي يصلي أول الوقت والمقتصد في أثنائه والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. وقيل: السابق المحسن بالصدقة والمقتصد بالبيع والظالم بأكل الربا. واختلاف التنوع في الأحكام الشرعية قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخرى، فالأول مثل أن يجب على قوم الجهاد وعلى قوم الصدقة وعلى قوم تعليم العلم، وهذا يقع في فروض الكفايات أيضاً ولها تنوع يخصها وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره؛ فقد تتعين في وقت أو مكان وعلى شخص أو طائفة كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفتيا والقضاء، قال ابن تيمية: وكذلك كل تنوع في الواجبات يقع مثله في المستحبات. ومن اختلاف التنوع أيضاً أن يعمل الإنسان خيراً وآخر يعمل خيراً غيره، أو هذا يرى رأياً باجتهاده وهذا يرى رأياً مختلفاً وما أشبه ذلك، فالاختلاف منه المذموم ومنه المحمود، أما التفرق فمذموم بالإطلاق. إن التنوع سنة ربانية قامت الحياة على أساسها؛ فالله سبحانه وتعالى خلق من كل شيء زوجين، وجعل التنوع في أشكال الناس ومظاهرهم وألوانهم وأصواتهم، وفي مخلوقاته سبحانه وتعالى وفيما يراه الإنسان من حوله، فهذا التنوع جزءٌ من ثراء الحياة الإنسانية، وجزء من التجدد والطرافة فيها؛ ولذلك يقول المتنبي: تَخَالَفَ النَّاسُ حَتَّى لَا اتِّفَاقَ لَهُمْ ** إِلا عَلَى شَجَبٍ وَالْخُلْفُ فِي الشَّجَبِ فَقِيلَ تَخْلُصُ نَفْسُ الْمَرْءِ سَالِمَةً ** وَقِيلَ تَشْرَكُ جِسْمَ الْمَرْءِ فِي الْعَطَبِ يريد أن الناس يتخالفون في كل شئ والإجماع على الهلاك، فكلهم يقول إن منتهى الناس والحيوان الموت، ثم تخالفوا في الروح بعد الموت، فقوم يقولون: إن الروح تفنى كالجسم، وآخرون يقولون: الأرواح تسلم من الهلاك ولا تفنى بفناء الأجسام، والمقصود الذي يتفق عليه الجميع من هذه الأبيات هو أن الاختلاف شيء عميق في الحياة البشرية. والتفرق المذموم هو اتّباع لسنة أهل الكتاب الذين: (تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات) ؛ ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى عن اتباع هديهم وسنتهم، ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ) قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ (فَمَنْ؟) (2)، والتفرق المذموم هو مخالفة لمقتضى المصلحة والعقل والرشد والبصيرة؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى عن اليهود: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر: من الآية14)، فاختلافهم بسبب نقص عقولهم. والتفرق هو نقض لأساس من أسس الشريعة؛ فإن الشريعة جاءت بوحدة المسلمين؛ ولهذا كان الخطاب في القرآن الكريم جماعياً، في كثير من الآيات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، (وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإنْسَانَ لَفِي خُسْر*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر)، وجلُّ أحكام الشريعة لا يمكن تنفيذها إلا من خلال وحدة واجتماع. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
كيف تستطيع أن تطبِّق الأخلاق الإسلامية، كيف تستطيع أن تعرف إن كنت صبوراً، أو حليماً، أو كريماً، أو كنت شجاعاً إلا من خلال الاختلاط بالناس؟!
كيف تستطيع أن تؤدي شعائرك فتصلي أو تصوم أو تحج أو تعتمر إلا من خلال الاختلاط بالناس؟! حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِ الَّذي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) (3)، فالتفرق إذن اتباع لسنة أهل الكتاب، ومخالفة لما تقتضيه العقول السليمة والبصائر المستقيمة، وهو نقض لأساس من أسس الشريعة. إن الحديث عن التفرق ليس حديثاً خاصاً عن الدعاة، والاختلافات التي تقع بينهم، أو العلماء واختلافهم في الفتوى، أو التيارات الإسلامية وتنوع مشاربها ومذاهبها فحسب، إنما الحديث عن: التفرق والاختلاف بين المسلمين، الاختلاف الذي يضرب هذه الأمة، وإذا كنا نشهد في التاريخ الإسلامي ألواناً من الاختلافات التي لم يكن لها سبب ولا مسوغ ولا مبرر، والتي قضت على وحدة المسلمين، وأكلت جهودهم وطاقاتهم، ومكنت أعداءهم منهم في غير مرحلة فإننا نشهد في واقع المسلمين اليوم ألواناً وأنماطاً كثيرة من هذا الاختلاف، وهي جديرة بمبضع الجراح الذي يقوم بعلاجها. إخوة الإيمان: إن الله سبحانه وتعالى يقرر لنا أن المؤمنين إخوة، يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: من الآية10)، ويقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92)، ويقول جل شأنه: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون:52)، وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (4)، فالأخوة ليست في العروبة، ولا في الأرض؛ فَإِنَّ الأَرْضَ لاَ تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الإِنْسَانَ عَمَلُهُ، وليست في المصلحة المشتركة، ولا في التاريخ المشترك، وإنما الأخوة الحقيقية هي التي تظلل الناس في ظل هذا الدين. إِنْ يَخْتَلِفْ نَسَبٌ يُؤلِّف بَيْنَنَا ** دِينٌ أَقَمْنَاهُ مَقَامَ الْوَالِدِ أَوْ يُنْتَقَصْ مَاءُ الوِصَالِ فَمَاؤُنَا ** عَذْبٌ تَحَدَّرَ مِنْ زُلَالٍ وَاحِدِ وهذه الأخوة تشرق وتتجلى، فلا تختص بوقت دون وقت ولا بمكان دون مكان وفي أحلك المواقف وأشدها حتى حينما يقع عليك عدوان أو ظلم من أخيك، فهذا لا يعني أن أخوته قد زالت وحبال المودة تقطعت، تأمل قول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: من الآية10)، أي بين طائفتين؛ وصل الأمر بهم إلى حد الاقتتال (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (الحجرات: من الآية9)، ومع ذلك سماهم إخوة، وقال سبحانه وتعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء) (البقرة: 178)، وذلك في شأن القاتل الذي قتل أخاه المسلم، ومع ذلك سماه الله سبحانه وتعالى أخاً، فالقاتل أخٌ للمقتول، والمقتول أخٌ للقاتل، فهذه الأخوة التي عقدها الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن تقضي على أساسها أو تزيلها عوامل الفرقة والاختلاف حتى العدوان الذي يقع بين المسلم وأخيه، وقد تجد من الناس من يقع له نوع تقصير في دينه -مثلاً- فيكون عنده انحراف أو معصية أو غير ذلك، لكن ما دام يصح له وصف الإسلام؛ فله أصل الحقوق. وإذا تم له كمال الإيمان؛ كملت له الحقوق، وهناك قاعدة مهمة في التعامل، وهي كُلُّ مَنْ صَحَّ أَنْ يُوَصَفَ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ؛ فَلَهُ حُقُوقُ الْمُسْلِمِ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سبحانه وتعالى قَالَ: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ) قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ) (5)، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وعيادة المريض، وغير ذلك من الحقوق مما لم يذكر في هذا الحديث، فكل من صح له وصف الإسلام - ولو كان في الدرجة الدنيا منه- فله قدرٌ من هذه الحقوق، لكن كلما عَظُم قدره في الإسلام كلما عظمت حقوقه؛ ولهذا كان أعظم الحقوق على المسلمين بعد حق الله سبحانه وتعالى حق النبي صلى الله عليه وسلم ثم حق الصحابة رضي الله عنه ثم حق أهل العلم، وحقوق الوالدين، والمقصود أن الحق باقٍ لكل من صح أن يوصف بأنه من المسلمين، وإن كان فيه نقص أو زلل أو تفريط، أو لديه شيء من الخطأ؛ ولذلك قد يقول البعض: هذه أخوة عامة، وأخوة خاصة، والأفضل عدم استعمال هذا المصطلح؛ لأن الأخوة العامة والخاصة أجراها النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين والأنصار، فآخى بين فلان وفلان، هذا مهاجر وهذا أنصاري، وكان بينهم نوع من الاندماج، حتى في أموالهم وفي سكنهم وفي أمورهم، فعن إِبْرَاهِيم بْن سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه: "لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالاً، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أَي زَوْجَتَي هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا"(6)، وهذا الحديث في صحيح البخاري، فهذه أخوة خاصة كانت بين عبد الرحمن وسعد رضي الله عنهما، لكن الأخوة بين المسلمين قائمة، ولا مانع أن تتفاوت هذه الأخوة في درجاتها، فليس حق آحاد الناس أو حق شخص مضيّع أو مفرّط كحق شيخك العالم الجليل صافي المشرب والمذهب، صادق السريرة، صالح القول والعمل المؤثّر عليك. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
* تقسيم مشهور:
في معظم أو كل المجتمعات الإسلامية؛ تسمع بهذا التقسيم المشهور، القسم الأول: أناس ملتزمون. القسم الثاني: أناس غير ملتزمين، وهذه القسمة شاعت وذاعت، حتى أصبحنا نجد كثيراً من الشباب قد يتصل بك أو يقابلك فيقول لك: أنا شخص غير ملتزم، ولكني أحب الخير، ومحافظ على الصلوات، فتتعجب لذلك. أولاً: ما هو معيار الالتزام؟ هل نقصد بالالتزام: أن يكون مظهر الإنسان متفقاً ومنسجماً مع سنة النبي r وهديه فقط؟ أو نقصد بالالتزام التمسك بالدين؟ هناك نوعان من الناس: الأول إنسان مفرط في مظهره وعنده معصية ظاهرة، لكنه قد يكون من جهة أخرى ملتزماً، فتجده مبكراً للصلوات، حريصاً على الجماعات، باراً بوالديه، كثير الإنفاق في سبيل الله، ولديه جوانب عظيمة من الخير فهو ملتزم بهذا الاعتبار، وإن كان عنده تفريط. والثاني: إنسان عنده التزام في هديه الظاهر وسمته الخارجي؛ في ملابسه في شكله في شعره في هيئته، ولكن هل يمنع هذا أن يكون عنده نقائص داخلية وعيوب خفية؟! فقد يكون مفرطاً في صلاة الفجر مع الجماعة، أو لديه نوع من التقصير في حق الوالدين، أو ما أشبه ذلك من الأخطاء. فينبغي ضبط المعايير حينما نقول: هذا ملتزم أو غير ملتزم. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
ثانياً: تبعات هذه القسمة
من الخطأ أن تقتضي هذه القسمة أو هذه التسمية عندنا نوعاً من الانفصال بين الناس بعضهم البعض وتفريقهم إلى فرق وأحزاب وجماعات؛ فإذا كنت أنا غير ملتزم بهذا الاعتبار الذي ذكرناه قبل قليل فأنا محتاج إلى أولئك الملتزمين؛ لأستفيد منهم، وأنهل من علمهم، وأقتدي بأخلاقهم، وأقتبس من مشكاتهم، والملتزم- أيضاً- محتاج إلى أن يسوِّق بضاعته ودعوته التي يريد بها وجه الله عند من يسميهم بغير الملتزمين، وعلى هذا فهي مجموعات داخل هذا المجتمع يحتاج بعضها إلى بعض. النَّاسُ لِلنَّاسِ مِنْ َدْوٍ وَحَاضِرَةٍ ** بَعْضٌ لِبَعْضٍ- وَإِنْ لَمْ يَشْعُرُوا- خَدَمُ وعلينا ألا نسرف في استخدام هذه الكلمة، وألا نجعلها ديدناً، وأن نضع لها الضوابط التي تحدّ من الإفراط فيها، وألا نسمح بأن توجد نوعاً من الانفصال أو الإقصاء أو الولاء والبراء على أساسها. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
* مؤثرات على الشباب:
هناك مؤثرات خارجية -من الخطورة بمكان- على كثير من شبابنا، بل لها تأثير قد يكون أقوى نتيجة وأعمق أثراً من تأثير أب عاجز أو أم فاقدة للسيطرة أو الضبط لأبنائها، فمن هذه المؤثرات الأرصفة، الاستراحات، المنتديات، المدارس، القنوات الفضائية، مواقع الإنترنت، المجلات، السفريات، العلاقات الخاصة والمجموعات، وغير ذلك، ولا يشك عاقل في أن هذه المؤثرات تؤتي ثماراً مرة في غياب وعي المسؤولين عن الشباب من والدَيْن ومربين وموجهين، وفي كثير من الأحيان يستطيع الزملاء في المدارس- ومن في نفس سن أبنائنا- أن يؤثروا عليهم تأثيراً بعيداً عميقاً إذا حانت لهم الفرصة في ظل أب عاجز وأمّ خرجت عندها ضوابط التربية عن طوقها. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
* ألوان التفرق:
هناك ألوان ونماذج من تفرق الأمة الإسلامية ماضياً وحاضراً: أولاً: الانتساب للمذاهب الفقهية حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي وأوزاعي وظاهري إلى غير ذلك، فهذا الانتساب هو نوع من التفرق إذا ترتب عليه تعصب؛ لأنه في الأصل من الاختلاف المحمود؛ فإن اختلاف الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من الأئمة المتبوعين ليس اختلافاً على القرآن والسنة، ويصدق عليهم قول القائل: وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ ** غَرْفاً مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفَاً مِنَ الدِّيَمِ لكنهم اختلفوا لاعتبارات أخرى معروفة مبسوطة في كتب الفقه وأصوله. لكن إذا تحول الأمر إلى نوع من العصبية والتمسك والتشدد وتقديم قول الشيخ على قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يصبح لوناً من التفرق المذموم؛ لأنه بُني على تعصب، بل يصل أحياناً فيكون عند البعض معقد الولاء والبراء، فتجد من يوالون بعضهم بعضاً؛ لأنهم من المذهب الفقهي الفلاني، وقد يجافون من لا يوافقهم في المذهب أو في المشرب، وهذا مشاهد ويقع كثيراً، فتجد مثلاً حنبلياً يقول: أَنَا حَنْبَلِيٌّ مَا حَيِيتُ وَإِنْ أَمُتْ ** فَوَصِيَّتِي لِلنّاسِ أَنْ يَتَحَنْبَلُوا و هذا ليس بصواب؛ فإن المطلوب من الناس أن يتبعوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو إمام الأئمة وهو الوحيد الذي يجب على الناس اتباعه مطلقاً، وأما الأئمة فما منهم إلا رادّ ومردود عليه، وما منهم إلا ويؤخذ من قوله ويترك، واعتبار أن هذا الإمام أياً كان هو معقد الولاء والبراء، وأن الحق محصور في قوله أو مذهبه خطأٌ محضٌ لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا حظ له من نظر. مثال للتعصب: إن التاريخ والواقع قد حفل بنماذج تسترعي النظر والوقوف عندها، ومع أن المالكية ليسوا شديدي التعصب، لكن هذا نموذج مما أحفظه لأحدهم يقول: عَذِيرِي مِنْ قوْم يَقُولُونَ كُلَّمَا ** طَلَبْت َ دَلِيلاً هَكَذَا قَالَ مَالِكُ فَإِنْ قُلْتَ: قَالُوا: هَكَذَا قَاَلَ أَشْهَبٌ ** وَقَدْ كَانَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْمَسَالِكُ فَإِنْ قُلْتَ: قَالُوا: قَاَلَ سُحْنُون مثلهُ ** وَمَنْ لَمْ يَقُلْ مَا قَالَهُ فَهْو آفِكُ فَإِنْ قُلْتَ: قَالَ اللهُ ضَجُّوا وَأَعْوَلُوا ** وَصَاحُوا وَقَالُوا: أَنْتَ قِرْنٌ مُمَاحِكُ وَإِنْ قُلْتَ: قَدْ قَالَ الرَّسُولُ فَقَوْلُهُمْ ** أَتَتْ مَالِكاً فِي تَرْكِ ذَاكَ الْمَسَالِكُ! يعني: أن مالكاً - رحمه الله- أَولَّ هذا الحديث أو وجهه وجهة معينة؛ كأن رآه ضعيفاً أو منسوخاً أو ليس عليه عمل أهل المدينة أو غير ذلك. بل من أصحاب المذاهب من كان يقول: كل ما خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول. وعلى هذا فالمذاهب الفقهية تصنع –أحياناً- اختلافاً بين المسلمين، وأحياناً أخرى تغرس لوناً من التفرق. ثانياً: الانتساب لجماعة أو مجموعة أو حزب أو حركة من حركات الدعوة في العالم الإسلامي، إننا كثيراً ما نسمع من يقول مثلاً هذا من الإخوان، وهذا من السلفيين، وهذا من التبليغ، وهذا من هذه الفئة، وذاك من تلك، وأحياناً تلاحظ ولعاً وانهماكاً واندماجاً في التصنيف والتعديل والتجريح بشكل عجيب، حتى أصبح هذا فناً يُدرس وعلماً يُلقى. نعم. التعاون على البر والتقوى مطلوب ومرغب فيه، قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: من الآية2)، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من دين الله عز وجل واجتماع المسلم مع إخوانه، والتّشاور معهم، وتنسيق المواقف، والاستفادة منهم كل ذلك طيب ولا حرج فيه، وكل هذه المعاني تعني مزيداً من الصلة والتلاحم والترابط بين المؤمنين، لكن لا تعني مجافاة من قد يكون له اجتهاد آخر، أو يسكن في بلد معين، أو يكون في واجب، أو فرض كفائي آخر يقوم به، فهذه المعاني التي ذكرتها ينبغي ألا تتحول إلى حواجز بين المؤمنين، وألا نحاكم الناس أو نحاسبهم أو نصنّفهم على أساس القائمة، فليس بلازم أن نحكم بالخطأ والتضليل والانحراف على فلان طالما أنه مع المجموعة الفلانية أو يتعاون مع الجماعة الفلانية ومن ليس معنا فهو ضدنا؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً*لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً*وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم من الآية 95:93)، لم يقل سبحانه وتعالى: كلهم سوف يأتون جماعات ويحشرون في قوائم، قد يكون الشخص مع مجموعة فيها نوع من التقصير، وهو فاضل، وقد يكون مع مجموعة فاضلة، وهو مقصر. إن كثرة الاشتغال بمحاسبة الناس، ومحاكمتهم، والقيل والقال ليس من الأعمال الفاضلة المحمودة؛ فإن من أكمل الناس وأفضلهم أعفهم لساناً، حتى حينما يريد أن يصحح أو يعدل؛ لأننا لا نزعم أن التجمعات أو العناوين الإسلامية عبارة عن مجموعات للكملة والفضلاء، أو أنها هي الإسلام، بل قصارها أن تكون كالمذاهب الفقهية: مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرها، وهي أيضاً اجتهادات معينة يستند أصحابها -في الأصل- على الكتاب والسنة، ولكنهم يخطئون ويصيبون، والتعصب مرذولٌ في أن تقبل فلاناً، خطأه وصوابه؛ لأنك تحبه، أو أن ترد كل ما عنده؛ لأنك لا تحبه. ثالثاً: التعصب للقبيلة، وهذا أمر عريق عند العرب، فقد كان العربي الأول يقول كما قال أمية بن أبي الصلت: أَمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرِجِ الِّلوَى ** فَلَمْ يَسْتَبِينُوا النَّصْحَ إِلَّا ضُحَى الغَدِ فَلَمَّا عَصَوْنِي قُلْتُ مِنْهُمْ وَقَدْ أَرَى ** غِوَايَتَهُمْ أَوْ أَنَّنِي غَيْرُ مُهْتَدِ وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غُزَيَّةَ إِنْ غَوَتْ ** غَويتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غُزََّيةُ أَرْشُدِ وفي صحيح مسلم عن أَببي مَالِكٍ الأَشْعَرِي رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (7)، فنحن نجد اليوم التعصب القبلي يضرب بجرانه في كثير من البلاد والمجتمعات الإسلامية، ليس ثمت مشكلة أن يعرّف الإنسان نفسه بأنه من قبيلة كذا وكذا، لكن المشكلة أن يتحول هذا إلى ولاء وبراء، بحيث تجد أن فزعة هذا الإنسان، وقيامه، ومحبته وبغضه وجهده ينصرف إلى من يوافقه في هذا الانتساب، ولو جاء إليه شخص من قبيلة أخرى، وربما يحتفظ بذكريات تاريخية، أو قصص من الآباء والأجداد فإنه يتجافى عنه، وقد لا يساعده أو يعينه ولو استطاع أن يضرّه فربما فعل ذلك، فهنا تحول الانتساب القبلي إلى نوع من الانفصال والانشقاق داخل المجتمعات الإسلامية. رابعاً: الانتساب لمنطقة أو إقليم أو شعب من الشعوب أو جنسية من الجنسيات، فهذا نجديّ، وهذا حجازيّ، وهذا غربيّ وهذا شرقيّ، وهذا خليجيّ، وهذا شاميّ، وهذا مصريّ، وهذا عراقيّ، وهذا كذا، وهذا كذا، فهذه الانتسابات إذا كانت مجرد تعريف فلا تضر، وقد كان الصحابة ومَن بعدهم يتعرفون بمثل هذه الأشياء، ولا يضير أن يقول الإنسان: إنه من بلد كذا، لكن إذا تحولت -كما هو الواقع عند كثير من الناس- إلى نوع من العصبية ونوع من الولاء على هذه النسبة فإن هذا خطأ كبير، وقد تجد أن الكثيرين إذا التقوا فيما بينهم، يتبادلون النكت والطرائف المضحكة الدالة على تنقص فئة أخرى، فإذا اجتمعنا وكلنا من قبيلة معينة، أو من منطقة معينة، أو من جنسية معينة لم نجد حرجاً أن نستطرد في إصدار الأحكام التعميمية أن أهل الإقليم الفلاني فيهم كذا وكذا، وأن الشعب أو القبيلة الفلانية فيها كذا وكذا، ثم يأتي هذا بقصة، وهذا يأتي بنكته، وهذا يأتي بتجربة مر بها، وهكذا حتى تشبعت نفوس الكثيرين منّا بأنواع وألوان من الانفصال قضَت أو أضعفت من الأخوة الدينية القائمة بين المؤمنين، وهذا ربما يستغله الأعداء في كثير من الأحيان، كما نلاحظ على سبيل المثال القوى الغربية وبالذات القوة الأمريكية المتغطرسة اليوم، التي إذا أردنا أن نسمي الأمور بأسمائها لقلنا: إنها تسعى إلى إعادة استعمار العالم بشكل جديد، وأنها تضرب برأي الناس عرض الحائط، وتصرّ على مقاصدها وعلى اتجاهاتها وعلى نياتها، وأنها لا تبالي أن يموت الناس أو يحيوا، المهم أن تنفذ مآربها وأهدافها. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
نلاحظ أنها كثيراً ما تعتمد على إثارة هذه الاختلافات، وعلى توظيفها من أجل تحقيق أهدافها ومآربها، وهذا يؤكد علينا أهمية أن نكون في يقظة تامة، وتبصّر عميق، وأن نحوّل هذه المعاني إلى واقع عملي لتجنب كل ما يخدش أو يعكر صفاء الأخوة الإيمانية:
مَا بَيْنَنَا عُرْبٌ وَلَا عَجَمٌ ** مَهْلاً يَدُ التَّقْوَى هِيَ الْعُلْيَا خَلُّوا خُيُوطَ الْعَنْكَبُوتِ لِمَنْ ** هُمْ كَالذّبَابِ تَطَايَرُوا عُمْيَا وَطَنِي كَبِيرٌ لا حُدُودَ لَه ** كَالشَّمْسِ تَمْلأُ هَذِهِ الدُّنْيَا فِي إِنْدُونِيسيَا فَوْقَ إِيرَانِ ** فِي الْهِنْدِ فِي رُوسِيَا وَتُرْكِيا آسْيَا سَتَصْهَلُ فَوْقَهَا خَيْلِي ** وَأُحَطِّمُ الْقَيدَ الْحَدِيدِيَا وَلَسْتُ أَبْغِي سِوَى الإسْلَامِ لِي وَطَنًا ** الشَّامُ فِيهِ وَوَادِي النِّيلِ سِيَّانِ وَحَيْثُمَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ فِي بَلَدٍ ** عَدَدْتُ ذَاكَ الْحِمَى مِنْ لُبِّ أَوْطَانِي بِالشَّامِ أَهْلِي وَبَغْدَاد الْهَوَى وَأَنَا ** بِالرَّقْمَتَيْنِ وَبِالْفِسْطَاطِ جِيرَانِي وَلِي بِطَيْبَةَ أَوْتَارٌ مُجَنَّحَةٌ ** تَسْمُو بِرُوحِي فَوْقَ الْعَالَمِ الْفَانِي وَمَا بُرَيْدَة مَهْمَا لَجَّ بِي دَمُهَا ** أَدْنَى إِلَى الْقَلْبِ مِنْ فَاسٍ وَتَطْوَانِ دُنْيَا بَنَاهَا لَنَا الْهَادِي فَأَحْكَمَهَا ** أَعْظِمْ بِأَحْمَدَ مِنْ هَادٍ وَمِنْ بَانِ كذلك التعصب للشيخ أو للمتبوع أو المربي أو الأستاذ فينبغي أن يعتدل الإنسان، ويحفظ لكل أحد قدره دون أن يتعصب له، أو يبالغ في ذلك، أو يتبع أقواله بمفرداتها؛ فإن الاتباع للمنهج لا للأقوال المفردة، ولذلك عندما نسمع قولاً لأحمد أو الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة، فالعبرة بالدليل والعبرة بالإجماع؛ فإذا خالفه من خالفه، أو وُجد الدليل فيما يظهر لنا على خلافه، لم نجد حرجاً في رده، وهكذا من عايشناهم وعاشرناهم واقتبسنا منهم، ينبغي أن نطبّق معهم هذا. الانتساب لمذهب من المذاهب الفكرية أو الدعوية، فلا ينبغي أن يمتحن الناس في الأسماء والألقاب، وإنما ينبغي أن تكون العبرة بما يقوله الإنسان وما يعمله إزاء هذا التخالف الكبير الذي نتفق جميعاً على أنه عاصف بالمجتمعات الإسلامية اليوم. إن الحديث ليس عن مجموعة ضخمة وهائلة من الدول العربية والإسلامية، ولا عن داخل الدولة الواحدة، بل ولا عن داخل الإقليم أو داخل القبيلة، بل الواقع أنك كلما دخلت إلى دائرة أضيق وجدت مجموعة من الخلافات حتى تصل إلى مدينة، أو ربما قرية، فتجد فيها عدداً من التقاطعات في كل شيء، تقاطعات بين الأحياء، هذا الحي وذك الحي، تقاطعات بين الانتسابات، بين من ينتسبون إلى هذه القبيلة أو تلك، أو بين من ينتسبون إلى قبيلة ومن لا ينتسبون إلى قبيلة أصلاً، إضافة إلى التقاطع والاختلاف بسبب المصالح الدنيوية، فالعالم الإسلامي يضج اليوم بألوان من الاختلافات التي تحتاج إلى نوع من العلاج، وإزاء هذا الاختلاف الكبير نجد أن من الصدق مع النفس القول بأن هذا الخلاف يستنزف المجهودات الإسلامية، بينما عدونا استطاع أن يستوعب الخلاف، فأحزاب اليمين واليسار، فيما يسمى الآن (بدولة إسرائيل) كيف استطاعوا أن يستفيدوا حتى ممن يعتبرون متطرفين بمعاييرهم من الأحزاب الليكودية والأحزاب اليمينية المتطرفة؟ كيف دخلت إلى عالمهم وإلى موضع القرار والمشاركة، وأصبح لها دور كبير ولها جمهور وشعبية؟ إضافة إلى اليساريين، إضافة إلى ألوانهم وأصنافهم، السفرديم والأشكناز، اليهود العرب، واليهود الأوروبيون وغيرهم، كلهم يشاركون في صناعة وصياغة وبناء هذا المجتمع اليهودي؛ لأنهم يشعرون بالخطر، وأنهم جزيرة في بحر عربي إسلامي يرفضها ويلفظها، ولا يتقبلها ولا يتواكب أو يتطبع معها. وكذلك نجد مثل هذا في الدول الغربية، فأوروبا استطاعت أن تؤسس لوحدتها، مع أن كل دولة منها ربما كانت تُعد قارة بأكملها، أو إمبراطورية، كفرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا، ومع ذلك فهم يسعون في تحقيق ما يسمى بالوحدة الأوروبية، ونجحوا فيما يتعلق بالحدود، والجمارك، وفيما يتعلق بالعملة، ولديهم خطط قوية في هذا. وعندما تنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي هي عبارة عن خمسين ولاية، انضم بعضها إلى بعض، فتكوّن هذا الكيان الهائل القوي الضخم، هذه الإمبراطورية التي أصبحت تمارس نوعاً من التسلط، والبغي، والنفوذ كما هو واضح، فعدونا استطاع أن يوظف هذا الاختلاف، وأن يحيط نفسه كلما همَّ بشيء بمجموعة من الأحلاف، فيضع معه في اتجاهه من يستطيع أن يضعهم من الأسماء المعروفة وغير المعروفة. فلم يبق أمامنا نحن المسلمين ونحن نعيش في هذا العالم المضطرب، ونواجه هذه التحديات الصعبة التي أصبحت تستهدف ديننا وإيماننا وعقائدنا، ووحدتنا وإخاءنا، وخيراتنا وثرواتنا، وحاضرنا ومستقبلنا، وأجيالنا الحاضرة وأجيالنا القادمة،لم يبق لنا إلا أن نلتزم بضرورة المنهج الشرعي النبوي في التعامل مع الخلاف، الشرع الذي أقر الخلاف، واعترف به كجزء من الطبيعة البشرية، إلا أنه وضع مفردات في منهج التعامل مع هذا الخلاف. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
* مهمات في منهج التعامل :
أولاً: المجادلة بين المتخالفين بالتي هي أحسن، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:من الآية125)، (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: من الآية46) ؛ فإذا كان القرآن الكريم يرشدنا إلى مجادلة اليهود والنصارى بالتي هي أحسن، فإنه لم يقل بالحسنة وإنما بالتي هي أحسن، أي بأفضل ما يمكن من الألفاظ والعبارات والطرائق والأساليب والحجج، فكيف بمجادلة من يتفقون معك في أصل الدين وأصل الانتماء، ولكن قد يختلفون معك في اجتهاد أو رأي أو موقف أو حتى مصلحة دنيوية، أو موقف دنيوي، وهنا تأتي قضية المجادلة بالتي هي أحسن تبدأ من علاقة الإنسان مع زوجته، مع طفله في المنزل، مع شريكه في العمل، مع رئيسه، مع مرؤسه، وتنتهي بالحوار العام مع جميع فئات الأمة وطوائفها. ومن المجادلة بالتي هي أحسن استخدام لغة راقية بعيدة عن الشتم والسب والاتهام، وقدرة الإنسان على أن يسيطر على عواطفه، وألا يسمح للاستفزاز أن يتحكم فيه؛ ولهذا قال أهل العلم كابن تيمية وابن القيم والغزالي والشاطبي وغيرهم: لو كان الغَلَبُ في المجادلةِ والمناظرةِ للسبِ والشتم لكان أكثر الغالبين هم من الجهال، وإنما الغلبة بالحجة وقوتها، وإن كان الصوت منخفضاً. وعلى هذا فإن رفع الصوت والصخب والضجيج ليس من عوامل النجاح في الخصومة والمجادلة، وكذلك استخدام العبارات القاسية بالتهجم على صاحبه، وتشبيهه بالحيوانات أحياناً، أو بالرَّخَم والطيور أحياناً أخرى، أو اتهامه، أو تجريحه، أو ما أشبه ذلك!!! ليس من الصواب في شيء ولا مدخل لها في الحوار أصلاً. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
ثانياً: التفريق بين الشأن الشخصي والموضوع العلمي.
فحينما تبحث مسألة علمية، فقهيةً أو دعويةً أو ما أشبه ذلك عليك ألا تدخل فيها القضية الشخصية مع الشخص الذي تتحدث معه أو تحاوره، ومن طريف ما يذكر في هذا أن داود الظاهري ناظر رجلاً وجادله، فقال له ذلك الرجل بعد قليل من بداية المحاورة: أنت يا داود. يا أبا بكر. قلت كذا وكذا وكذا، فقد كفرت، والحمد لله. قال له داود الظاهري: سبحان الله! متى عُهد أن مسلماً يفرح ويستبشر بكفر أخيه المسلم. يعني: لو قلت فقد كفرتَ ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون لكان معقولاً، أما أن تقول كفرت والحمد لله، كأنك كنت مغتبطاً بأنه وقع في الكفر من حيث لا يدري ولا يريد، وربما لا يكون كفراً، لكن هكذا فسر الآخر. ثالثاً: عدم الدخول في قضية أو مسألة لا يد للإنسان فيها ولا يدرك الإنسان أبعادها، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36). إن كثيراً من الناس ربما يتكلمون في قضايا ويتحدثون عنها كما لو كان الواحد منهم ابن بجدتها، ويقول: أنا عذيقها المرجب، وجذيلها المحكك، ويتكلم في هذه القضية كأنه يدركها تماماً، بينما لو أخذت معه وأعطيت ربما تجده لم يفقه أصل المسألة، فضلاً عن تفاصيلها، وأقوال الناس فيها، وأدلتهم، والراجح والمرجوح، ولهذا فإن من الحكمة والذكاء أن يكف الإنسان عن كثير من الأسئلة والمناقشات والمجادلات التي لا يملك الإنسان دليلها ولا حسن النظر فيها. بعض الأحيان يصبح الحوار سواء كان حواراً في القنوات الفضائية، أو في المجالس، أو في الإنترنت كأنه نوع من التصفيق، وكأننا في حلبة مصارعة أو ملاكمة، هؤلاء يصفقون لهذا، وهؤلاء يصفقون لذاك، وربما لو أمسكت بأحدهم وسألته ما الموضوع أو ما الخطب؟ لم تجد عنده معلومة دقيقة سوى أنه يحب هذا، ولهذا يصفق له، أو يكره هذا، ولهذا يحاول تحطيمه، وهذا ليس من العقل ولا من الرشد في شيء. ولازلت أذكر أستاذاً كان يدرسنا في الجامعة، فجرى نقاش بينه وبين أحد الطلاب يوماً من الأيام، وكان نقاشاً علمياً هادئاً، لكن كان هناك طالب في آخر الفصل عنده نوع من سوء الأدب وقلة الحياء، وأحبَّ أن يستفز المدرس، فكان كلما حصل مقطع من النقاش صرخ هذا الطالب العابث بأعلى صوته، وقال: واحد صفر. يعني: لصالح الطالب! واصل!! ومع ذلك كان المدرس لبقاً وذكياً، ولذلك عامل الموضوع بهدوء حتى انتهى النقاش. من آداب المجادلة بالتي هي أحسن الحرص على التي هي أحسن كما ذكر ربنا: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: من الآية83)، (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر: من الآية18)، ولاحظ التعبير بالأحسن؛ وأن الله سبحانه وتعالى حتى فيما أنزل ما هو حسن وأحسن. وعلى الإنسان أن يختار الأفضل والأحسن بقدر المستطاع؛ لأن الشيطان ينزغ بينهم، يقول الله جل شأنه: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) (الإسراء:53). كان الإمام الشافعي - رحمه الله- يقول للربيع، وهو أحد تلامذته: يا ربيع. اكس ألفاظك. يعني: ألبسها كسوة، لا تخرج اللفظ عارياً، أو بعيداً، أو غليظاً، وإنما حاول أن تضع عليه لباساً جيداً. ودخل عليه الربيع مرة يعوده من مرض، فقال له: قوى الله ضعفك يا إمام. قال الشافعي: لو قوّى ضعفي لقتلني. فقال الربيع: والله ما أردت إلا الخير. قال الشافعي: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير(8)، والمقصود أنه أصاب المعنى وأخطأ اللفظ، ولا شك أن اختيار الألفاظ الجيدة هو من الأدب الذي ينبغي أن يأخذ النشء به أنفسهم، فالمجادلة والمحاورة والمحاجة تكون بالتي هي أحسن دون صخب أو ارتفاع أصوات، أو استخدام ألفاظ سيئة. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
* أمثلة سريعة:
عندما يختلف الزوجان في مسألة من المسائل تلاحظ -في بعض الحالات- أن الزوج ربما يأتي بما قدم وما حدث، ويقول لزوجته: تذكرين من يوم أن تزوجنا، وأنا في نكد وتعب وعناء، وقلة راحة وتَكَدُّرِ خَاطرٍ. وكلام من هذا القبيل، ويسرد لها تاريخاً طويلاً، بينما كانت القضية محدودة، وليست بحاجة إلى استدعاء تاريخ قديم يضاف إلى الواقع الحالي؛ فتصعب المعالجة، وإنما على الإنسان أن يعالج الموقف الموجود دون أن يستدعي إليه ما يزيده إشكالاً. وكذلك المرأة ربما غضبت على زوجها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: (مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) ((9)، وحاولت أن تطيح بكل ماضيه وكل عمله، فعلى الإنسان حينئذ أن يحرص على ضبط نفسه، وهذه هي قيمة الإنسان الحقيقية. أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ** فَأَنْتَ بِالرُّوحِ لا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ قيمة الإنسان في قدرته على ضبط نفسه ومشاعره، فلا تحرص على الإتيان بالعبارات القوية الفجّة التي تظن بها الانتصار على الطرف الآخر، ولا أقول خصماً، فليست زوجتك خصمك، وكذلك الوالد أو الزميل أو الصديق أو رفيق السفر أو أي مجادل لك في مسألة علمية أو دعوية، أو مختلف معك في أي أمر من الأمور. ثانياً: أن تنصف الآخرين من نفسك، حينما نحاول أن نزن حسنات الآخرين وسيئاتهم تجدنا في الغالب نضع إصبعنا على طرف الكفة؛ لترجح هنا أو هناك بحسب ميلنا أو هوانا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ) (10)، فحينما يكون لك علاقة بهذا الطرف أو تحشر نفسك معه؛ فإنك تميل إليه، وقد قال عمار رضي الله عنه:" ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ، الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ"(11)، ومعنى الإنصاف من نفسك: هو الجري على سنن الاعتدال والاستقامة على طريقه الحق وأن تضع نفسك في موضع الطرف الآخر؛ فتعامله كما لو كنت أنت في مكانه، وبالتجربة والمعايشة للناس في هذه القضية، ربما لا تستطيع أن تظفر بإنسان يوصف بأنه منصف من نفسه، لكن بعض الناس مسرف، وبعض الناس متوسط أو معتدل، وكما قيل: أَتَمَنّّى عَلَى الزَّمَانِ محالاً ** أَنْ تَرَى مُقْلَتَايَا طَلْعَةَ حُرِّ أي تحرر من قيد النفس ومن قيد الهوى، يستطيع أن يلاحظ ما للآخرين ويلاحظ ما على نفسه. وَلَمْ تَزَلْ قِلَّةُ الْإِنْصَافِ قاطعة ** بَيْنَ الرِّجَالِ وَلَوْ كَانُوا ذَوي رَحِمِ وتجد كثيرين إذا غضب الواحد منهم على شخص أطاح به، ونسي جميع حسناته، وفضائله وإذا تكلم عنه -حتى لو كانوا إخوة لأم وأب أشقاء واختلفوا في قطعة أرض أو في تجارة أو في عمل- تكلم بما لا يتكلم به أشد الناس عداوة، ثم تأتي للآخر فتجده ليس أحسن حالا منه، فمتى يمكن أن تزول هذه الفواصل وتذوب هذه الحواجز المهلكة والسدود المقيتة؟! نعم. إذا تمسك كل واحد بما عنده، وقال: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا، وَأَنْتَ بِمَا ** عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأيُ مُخْتَلِفُ |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
ثالثاً: الالتزام بنظام الخُلق الإسلامي من حسن الأدب، وحسن الحديث مع الآخرين، وحسن الاستماع، وحسن الظن بهم، والتماس المعاذير، والرفق، والصبر، والصفح.
وهنا لدينا مستويات: الأول: أن لا يبدأ الإنسان أخاه بشيء من الشر؛ فإن البادئ أظلم. فكونك تبدأه بذلك تكون استثرته. المستوى الثاني: هو أنه إذا بُدئ بشيء من ذلك؛ فعليه ألا يرد، وهذا مستوى راقٍ، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيم) (فصلت:35)، وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَسَبَّ رَجُلٌ رَجُلاً عِنْدَهُ، قَالَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمَسْبُوبُ يَقُولُ: عَلَيْكَ السَّلاَمُ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (أَمَا إِنَّ مَلَكاً بَيْنَكُمَا يَذُبُّ عَنْكَ كُلَّمَا يَشْتُمُكَ هَذَا قَالَ لَهُ بَلْ أَنْتَ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيْكَ السَّلاَمُ قَالَ لاَ بَلْ لَكَ أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ). إن الرد والمخاصمة -في كثير من الأحيان- لا يزيد النار إلا اشتعالاً وخصومة، ومن الخطأ أن يظن البعض أن كثرة اللجاج والقيل والقال سبب في إزالة الإشكال ووضوح النية وصفاء النفوس، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً. * تسعة أسباب لكظم الغيظ: كلنا نواجه هذا اللون من الاستفزاز الذي هو اختبار لقدرة الإنسان على الانضباط، وعدم مجاراة الآخر في ميدانه، وهناك تسعة أسباب ينتج عنها أو عن واحد منها ضبط النفس: |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
أولاً: الرحمة بالمخطئ والشفقة عليه، واللين معه والرفق به.
قال سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر) (آل عمران: من الآية159). وفي هذه الآية فائدة عظيمة وهي أن الناس يجتمعون على الرفق واللين، ولا يجتمعون على الشدة والعنف؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: من الآية159). وهؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، والسابقين الأولين فكيف بمن بعدهم؟! وكيف بمن ليس له مقام رسول الله سبحانه وتعالى من الناس، سواء كان من العلماء أو الدعاة أو ممن لهم رياسة أو وجاهة؟! فلا يمكن أن يجتمع الناس إلا على أساس الرحمة والرفق. َقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه لِرَجُلٍ شَتَمَه: "يَا هَذَا لَا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا فَإِنَّا لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ"، وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ له الشَّعْبِيُّ: "إنْ كُنْتُ كمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ"، وشتم رجل معاوية شتيمة في نفسه، فدعا له وأمر له بجائزة. فالقدرة على تعويد النفس على الرضا والصبر واللين والمسامحة هي قضية أساسية، والإنسان يتحلّم حتى يصبح حليماً، وبإسناد لا بأس به عن أَبي الدَّرداءِ قالَ: قالَ رسولُ الله سبحانه وتعالى: (إِنَّما العلمُ بالتعلُّم، وإِنما الحِلْمُ بالتحلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّ الخيرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشرَّ يُوقَه ُ) (12)، فعليك أن تنظر في نفسك وتتريث وتضع الأمور مواضعها قبل أن تؤاخذ الآخرين، وتتذكر أن تحية الإسلام هي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقولها لأهلنا إذا دخلنا؛ بل قال الله سبحانه وتعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) (النور: من الآية61)، وأن نقولها للصبيان والصغار والكبار ومن نعرف ومن لا نعرف. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما - أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَي الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) (13). وعن عمار رضي الله عنه:" ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ"(14) لهذه التحية معان، ففيها معنى السلام: أن تسلم مني، من لساني ومن قلبي ومن يدي، فلا أعتدي عليك بقول ولا بفعل، وفيها الدعاء بالسلامة، وفيها الدعاء بالرحمة، وفيها الدعاء بالبركة… هذه المعاني الراقية التي نقولها بألسنتنا علينا أن نحولها إلى منهج في حياتنا، وعلاقتنا مع الآخرين. ثانياً: من الأسباب التي تدفع أو تهدئ الغضب سعة الصدر وحسن الثقة؛ مما يحمل الإنسان على العفو، ولهذا قال بعض الحكماء: "أحسنُ المكارمِ عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ وَجُودُ الْمُفْتَقِرِ"، فإذا قدر الإنسان على أن ينتقم من خصمه غفر له وسامحه، (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى:43)، وقال صلى الله عليه وسلم لقريش : (مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟) " قَالُوا : خَيْرًا! أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: (اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ) (15)، وقال يوسف لإخوته بعد ما أصبحوا في ملكه وتحت سلطانه: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف:92). ثالثاً: شرف النفس وعلو الهمة، بحيث يترفع الإنسان عن السباب، ويسمو بنفسه فوق هذا المقام. لَنْ يَبْلُغَ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ عَظمُوا ** حَتَّى يَذِلُّوا وَإِنْ عَزُّوا لأْقوامِ وَيُشْتَمُوا فَتَرَى الْأَلْوَانَ مُسْفِرَةً ** لا صفْحَ ذُلٍ وَلَكِنْ صَفْحَ أَحْلامِ أي: لابد أن تعوِّد نفسك على أنك تسمع الشتيمة فيُسفر وجهك، وتقابلها بابتسامة عريضة، وأن تدرِّب نفسك تدريبًا عمليًّا على كيفية كظم الغيظ. وَإِنَّ الذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي ** وَبَيَن بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَا فَإِنْ أَكَلُوا لحَمْي وَفَرْتُ لُحُومَهُم ** وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا وَلَا أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيم عَلَيهِم ** ولَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحِقْدَا |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
رابعاً: طلب الثواب عند الله.
إن جرعة غيظ تتجرعها في سبيل الله سبحانه وتعالى لها ما لها عند الله عز وجل من الأجر والرفعة، فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ) (1)، والكلام سهل وطيب وميسور ولا يكلف شيئاً، وأعتقد أن أي واحد من الممكن أن يقول محاضرة خاصة في هذا الموضوع، لكن يتغير الحال بمجرد الوقوع في كربة تحتاج إلى الصبر وسعة الصدر واللين فتفاجأ بأن بين القول والعمل بعد المشرقين. خامساً: استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة المخطئ، وقد قال بعض الحكماء: "احْتِمَالُ السَّفِيهِ خَيْرٌ مِنْ التَّحَلِّي بِصُورَتِهِ وَالْإِغْضَاءُ عَنْ الْجَاهِلِ خَيْرٌ مِنْ مُشَاكَلَتِه"، وقال بعض الأدباء: "مَا أَفْحَشَ حَلِيمٌ وَلَا أَوْحَشَ كَرِيمٌ"، وَقَالَ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ وهو أحد حكماء العرب وشعراءهم: وَقُلْ لِبَنِي سَعْدٍ فَمَا لِي وَمَا لَكُمْ ** تُرِقُّونَ مِنِّي مَا اسْتَطَعْتُمْ وَأَعْتِقُ أَغَرَّكُمْ أَنِّي بِأَحْسَنِ شِيمَةٍ ** بَصِيرٌ وَأَنِّي بِالْفَوَاحِشِ أَخْرَقُ وَإِنْ تَكُ قَدْ فَاحَشْتَنِي فَقَهَرْتَنِي ** هَنِيئًا مَرِيئًا أَنْتَ بِالْفُحْشِ أَحْذَقُ وقال آخر: سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ ** وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ إلَيَّ الْجَرَائِمُ فَمَا النَّاسُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ ** شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ ** وَأَتْبَعُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لَازِمُ وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَأَحْلُمُ دَائِبًا ** أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَإِنْ لَامَ لَائِمُ وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا ** تَفَضَّلْت إنَّ الْفَضْلَ بِالْفَخْرِ حَاكِمُ وفي حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف، وقد ردوه شر رد تقول عائشة - رضي الله عنها - زَوْجَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ؛ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَي ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) (1). |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
سادسًا: التدرب على الصبر والسماحة فهي من الإيمان.
إن هذه العضلة التي في صدرك قابلة للتدريب والتمرين، فمرّن عضلات القلب على كثرة التسامح، والتنازل عن الحقوق، وعدم الإمساك بحظ النفس، وجرّب أن تملأ قلبك بالمحبة، فلو استطعت أن تحب المسلمين جميعًا فلن تشعر أن قلبك ضاق بهم، بل سوف تشعر بأنه يتسع كلما وفد عليه ضيف جديد، وأنه يسع الناس كلهم لو استحقوا هذه المحبة، فمرّن عضلات قلبك على التسامح في كل ليلة قبل أن تخلد إلى النوم، وتسلم عينيك لنومة هادئة لذيذة، سامح كل الذين أخطؤوا في حقك، وكل الذين ظلموك، وكل الذين حاربوك، وكل الذين قصروا في حقك، وكل الذين نسوا جميلك، بل وأكثر من ذلك...انهمك في دعاء صادق لله -سبحانه وتعالى- بأن يغفر الله لهم، وأن يصلح شأنهم، وأن يوفقهم، ستجد أنك أنت الرابح الأكبر، وكما تغسل وجهك ويدك بالماء في اليوم بضع مرات أو أكثر من عشر مرات؛ لأنك تواجه بهما الناس، فعليك بغسل هذا القلب الذي هو محل نظر الله سبحانه وتعالى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) (1)، فقلبك الذي ينظر إليه الرب سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات احرص ألا يرى فيه إلا المعاني الشريفة والنوايا الطيبة، اغسل هذا القلب، وتعاهده يوميًّا؛ لئلا تتراكم فيه الأحقاد والكراهية والبغضاء، والذكريات المريرة التي تكون أغلالاً وقيودًا تمنعك من الانطلاق والمسير والعمل، ومن أن تتمتع بحياتك. سابعاً: قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم، وهذا لا شك أنه من الحزم. حُكِيَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ: وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت وَاحِدَةً لَسَمِعْت عَشْرًا. فَقَالَ لَهُ ضِرَارٌ: وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً. وَفِي الْحِلْمِ رَدْعٌ لِلسَّفِيهِ عَنْ الْأَذَى ** وَفِي الْخَرْقِ إغْرَاءٌ فَلَا تَكُ أَخْرَقا فَتَنْدَمَ إذْ لا َنْفَعَنكَ نَدَامَةٌ ** كَمَا نَدِمَ الْمَغْبُونُ لَمَّا تَفَرَّقَا وقال آخر: قُلْ مَا بَدَا لَك مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبِ ** حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ وبالخبرة وبالمشاهدة فإن الجهد الذي تبذله في الرد على من يسبك لن يعطي نتيجة مثل النتيجة التي يعطيها الصمت، فبالصمت حفظت لسانك ووقتك وقلبك؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لمريم عليها السلام: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً) (مريم:26)، والكلام والأخذ والعطاء، والرد والمجادلة؛ تنعكس أحياناً على قلبك، وتضر أكثر مما تنفع. ثامناً: رعاية المصلحة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على الحسن رضي الله عنه بقوله: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (1 فدل ذلك على أن رعاية المصلحة التي تحمل الإنسان على الحرص على الاجتماع وتجنب المخالفة هي السيادة. تاسعاً: حفظ المعروف السابق والجميل السالف؛ ولهذا كان الشافعي - رحمه الله- يقول: إِنَّ الْحُرَّ مَنْ رَاعَى وِدَادَ لَحْظَةٍ وَانْتَمَى لِمَنْ أَفَادَه لَفْظَةً. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ) (2) وأمثلة ذلك كثيرة. المسألة الرابعة: اختلاف الاجتهاد بين العلماء والدعاة ونحوهم، وهذا الاختلاف أمر طبعي لا حيلة فيه، بل من المصلحة بقاؤه، والله سبحانه وتعالى يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4)، فهذا جزء من خلقة الإنسان، فالناس مختلفون في البصمة (عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه) (القيامة:4)، مختلفون في حدقة العين، مختلفون في العقل والنظر في الأمور ومجرياتها وفي التفكير، مختلفون في نبرة الصوت، فكل إنسان له نبرة، وبصمة، وحدقة مختلفة عن غيره، فالسبب الأول من أسباب الاختلاف هو الاختلاف في التكوين الفطري والنفسي والجبلي في المزاج الذي ركب منه هذا الإنسان، فأبو بكر يختلف عن عمر، عن عثمان، عن علي، كل واحد له تكوين خاص يختلف عن الآخر. السبب الثاني هو الاختلاف في التحصيل، أي: قدر ما حصله هذا الإنسان من المعرفة، والعلم، والفهم، والإدراك. السبب الثالث هو الاختلاف في الظرف الذي يعيشه هذا الإنسان، فقد يعيش شخص ظرفاً معيناً يختلف عن الآخر، بحسب تغير الأحوال، والظروف، والمجتمعات، والسلم والحرب، والقوة والضعف، والصحة والمرض، وغير ذلك. السبب الرابع الهوى الخفي، وقل من يسلم منه، حتى ذكر الإمام ابن تيمية - رحمه الله- أنه قد وقع فيه كثير من الأكابر من أهل الفضل والعلم، ومن السابقين من الأئمة والعلماء. فالإنسان يوجد عنده -أحياناً- نوع من الهوى الخفي الذي قد لا يشعر به هو نفسه، ولا يُلام عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضله واسع وعظيم وإن كان على الإنسان أن يراقب نفسه بشكل جيد، لكن يقع للإنسان نوع من الهوى الخفي الذي لا يدركه، وقد يحمله على بعض المواقف وردود الأفعال تجاهها سلباً وإيجاباً. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
ومن الحكمة الربانية اختلاف التنوع الهائل الضخم الذي بموجبه تعمر هذه الدنيا، فلقد اختلف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم أنبياء الله ورسله، اختلف موسى وهارون، (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْه) (الأعراف: من الآية150)، واختلف موسى والخضر، (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف:66)، (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) (الكهف: من الآية71)، (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) (الكهف: من الآية74)، (لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (الكهف: من الآية77)، واختلف موسى وآدم، فعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَ أَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ لَهُ آدَمُ يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلاَمِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُني عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى) (1)، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به، ومر على موسى يقول صلى اله عليه وسلم: (فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاَةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ. فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ وَضَعَ شَطْرَهَا. فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ، فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ. فَقَالَ هِي خَمْسٌ وَهْي خَمْسُونَ، لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَي. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ. فَقُلْتُ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي) (1)، فالاختلاف موجود حتى بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكذلك اختلف الصحابة رضي الله عنهم في أسرى بدر فانظر كلام عمر رضي الله عنه وهو الرجل الذي في جبلته، وطبيعته، وتكوينه الفطري أو النفسي الخلقي نوع من القوة، والشجاعة، والجرأة حتى كان الشيطان يخاف منه، وقارن بينه وبين أبي بكر وما بينهما من اختلاف في الطبائع والآراء، فعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاَءِ الأَسْرَى). قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَأْنِ بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. قَالَ وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. أَخْرَجُوكَ وَكَذَّبُوكَ قَرِّبْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. قَالَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. انْظُرْ وَادِياً كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ثُمَّ أَضْرِمْ عَلَيْهِمْ نَاراً. قَالَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَطَعْتَ رَحِمَكَ. قَالَ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئاً. قَالَ فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ نَاس:ٌ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ. وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ. قَالَ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَشُدُّ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: (مَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى قَالَ: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ قَالَ: (رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ مُوسَى قَالَ: (رَبِّ اشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِم فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) أَنْتُمْ عَالَةٌ فَلاَ يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ).
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ سُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الإِسْلاَمَ. قَالَ: فَسَكَتَ. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَي حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى قَالَ: (إِلاَّ سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ). قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّSmile مَا كَانَ لِنَبِي أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (1)، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد القضية إلى نوع من التركيب الموجود حتى عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وتجد أيضاً الخلاف عند الأئمة كأئمة الفقه والتفسير والحديث في الأحكام، وفي الحكم على الأحاديث، وفي تخريجها، وما أشبه ذلك من ألوان العلوم؛ فهذه كلها موجودة وقائمة. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
إذا اختلفت مع أخيك في مسألة علمية، أو شرعية فاطرح على نفسك ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: هل أعتقد أو أقول عن نفسي: أنا أعلم من فلان بالدين والشرع ولذلك اختلفت معه، أو أعتقد أنه قد يكون له من العلم مثل ما عندي وأفضل؟ السؤال الثاني: هل أعتقد أنني أعقل منه، وأنني قد أوتيت من الغريزة العقلية الفطرية المركبة في أصل تكويني من قوة الإدراك، وحدة الفهم ما لم يؤت، فأنا أعقل منه وأذكى منه، ولذلك أدركت ما لم يدركه؟ السؤال الثالث: هل أعتقد أن عندي من الصدق مع الله سبحانه وتعالى والإخلاص وسلامة النية والغيرة شيء ليس عنده، ولذلك اختلفت معه؟ هذه المعاني من المفترض ألا يزكي الإنسان فيها نفسه، وإنما يقول: لعل أخي أعلم مني، ولعله أعقل مني، ولعله أصدق وأخلص وأغير مني، فهذا لا يعني: أن أتابعه ولكن يعني: أن أعذره. * مسائل في الاختلاف، في الانتسابات الدعوية، والاجتهادات العلمية، بين الدعاة وبين العلماء وغيرهم: الأولى: نسبة الإنسان رأيه واجتهاده إلى الدين، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: (... وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ) (1)، ومع ذلك فالبعض إذا اختلفت معه، ربما نسب قوله إلى شريعة الله، وحكم على من يخالفونه بأنهم يردّون على الله ورسوله ويخالفون الملة الحنيفية، فيقول مثلاً: من قال كذا وكذا؛ كأنه يقول لا سمع ولا طاعة لك يا رسول الله. مع أنه لا يوجد أحد من المسلمين يقول هذا، وإنما هم ينازعونك في القول الذي تقوله، هل يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا يقوله؟ فينبغي أن يتعود الإنسان على احتمال وجهات نظر الآخرين فيما يحتمل مثل هذا. الثانية: التعاون على البر والتقوى بين المختلفين، والتنسيق بين الدعاة من غير أنفة، ولا ترفع ولا استعلاء؛ فإن الميادين اليوم مكشوفة، والحاجة إلى الدعوة وإلى جهود الدعاة ضخمة جداً، فينبغي أن يكون ثمة تعاون، وأن يضع كل منا يده في يد أخيه. قد يمتنع البعض من التعاون بدافع تنظيمي كما يقال، أي: يرى أنه ليس من المصلحة ذلك، ولهذا لا يقوم به، والبعض قد يمتنع بدافع تنظيري، أي: يرى أنه لا يجوز أو لا يُشرع له أن يتعاون مع إخوانه في الله سبحانه وتعالى. إنه لمن الحكمة والحزم الاستفادة ممن هم دونك مهما كانوا بالانتفاع بتجاربهم أو التعاون معهم، والله سبحانه وتعالى أمر بذلك في محكم تنزيله، فهذا الأمر من الواجبات (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة:2)، فالأَوْلى أن نعزّز روابط التعاون والأخوة والتنسيق بين المؤمنين ونتجنب عوامل الفرقة والاختلاف. الثالثة: العناية والتركيز على جوانب الاتفاق أكثر من جوانب الاختلاف؛ لأن هذه الجوانب التي نختلف حولها قليلة، ولكنها تكبر بالتركيز عليها وتكريسها، مثال بسيط، عندما تصلي في الجماعة، ويصلي إلى جوارك أخوك المسلم، تجد أنك تراقبه كيف يهوي في سجوده؟ أين يضع يديه؟ كيف يحرك إصبعه السبابة في التشهد؟ فهذه من الأمور التي تعودنا أن نراقبها ونحكم عليها، حتى بعد الصلاة ربما أمسكه وأقول أنت تفعل كذا لماذا؟ بينما نسيت أنك تتفق معه في أصول الدين، وفي أركان الإيمان، والإسلام، وفي عصمه الكبار، تتفق معه في صلاة الجماعة، في أركان الصلاة، في شروط الصلاة، في واجبات الصلاة، بل في معظم سنن الصلاة. 90% تتفق مع أخيك عليها والخلاف هو في 10% من السنن فقط، ومع ذلك كبرها الشيطان وأدارها في الرأس وربما جعلها أصولاً بعد أن كانت فروعاً فلم يُبق غيرها، وقد ذكر أبو بكر بن العربي أن شيخه الطرطوشي ذهب إلى بلاد الأندلس، وصلى عند حاكم هناك، فكان يرفع يديه عند التكبير، وعند الركوع، وعند الرفع منه. قال: فأمر هذا الحاكم بأن يُقتل الشيخ. قال أبو بكر بن العربي: فأصابني ما قَرُب وما بَعُد. وأتيت إليه وقلت: غفر الله للأمير، أصلح الله الأمير، هذا شيخ الأمة، هذا فقيه الوقت، كيف يقتل بمثل هذا؟ قال: لماذا يرفع يديه؟ قال: فمازلت به حتى بيّنت له أن هذه هي السنة، وأن هذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقولٌ لكثير من أهل العلم. قال: فسكن، وإلا كاد أن يقتله. وهدد أحدهم أخاه -وقد رآه يحرك إصبعه بطريقة معينة- هدده بأنه سوف يقطع إصبعه. ونحن نتكلم الآن عن تجنب الخلاف، وعدم التركيز على عوامل الفرقة أذكر لكم هذه الحادثة التي وقعت لي شخصياً، قبل أسبوع صليت بجوار أحد الشباب، فلما كنا في التشهد جاءني وتسلل إليّ الشيطان وقال: انظر هذا الشاب كيف يحرك إصبعه، فنظرت فوجدته يحرك إصبعه محنية، ويحركها باستمرار، فبدأ الشيطان يهمس لي وقال: ألا تلاحظ أنه يعتمد على حديث ضعيف، وهو أنه حناها شيئاً، وهذا الحديث لا يثبت عند أهل العلم، والشيطان أحياناً يصدق وهو كذوب وقد ينقل الإنسان من المفضول إلى الفاضل، بدلاً من أن تُقبل على صلاتك، وتخشع فيها وتتدبر قراءتك يحاول أن يشغلك بذكريات من الأمور العلمية التي هي موجودة ومستقرة، وهولم يضف جديداً، لكنه بعثها وكبرها وأشغلك بها، ثم قال أيضاً: إن كثرة حركته للإصبع لا تتناسب مع خشوع الصلاة وسكونها وهدوئها، فصرت في حديث وحوار في هذا الموضوع، واستيقظت على سلام الإمام. إننا بحاجة كبيرة جداً إلى أن نتدرب مرة، وعشرة، ومائة، وألف على قضية التركيز على عوامل الاجتماع، وجوانب الوحدة بيننا، وهي كثيرة وعظيمة جداً، وعزل جوانب الاختلاف، وألا نلغيها، ولكن لا نضخمها أو نبالغ فيها. الرابعة: قضية التخصص والتناوب في الأعمال، بحيث يكون اختلافنا من اختلاف التنوع كما يقال أو كما يطلق بعضهم: كلانا على خير، هذا مشغول بدعوة، وهذا مشغول بإغاثة، وهذا بتعليم، وهذا بعلم، وهذا بإصلاح، وفي كل خير ولا أحد يستطيع أن يستوعب الخير كله. هذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان قائداً للجيوش، ولما انتهت مهمته في الحرب كان يصلي بالناس فيقرأ بقصار المفصل، ويقول: شغلني الجهاد عن القرآن. بينما أبو هريرة رضي الله عنه لم يَقُدْ جيشاً ولا معركة، وإنما كان معروفاً بنقل العلم وروايته وحفظه، فينبغي أن ندرك أن شمولية الإسلام ليس معناها أو مقتضاها شمولية المسلم. الإسلام دين شامل للحياة كلها، لكن المسلم ليس تعبيراً كاملاً عن الإسلام ولا لشموليته؛ ولهذا قد يتخصص في شيء دون آخر، أو ينشغل بشيء دون سواه، أو يعتني بأمر دون غيره. الخامسة: الخطوط المتوازية، فلا يلزم أن نتقاطع دائماً إذا اختلفنا، أو يدمّر بعضنا جهود بعض، حتى لو لم يكن لديك قناعة بما يفعله الآخرون، دع الأمر للوقت، ربما يتبين مع الأيام أن ما كان يفعله صواب أو خطأ، أو أن فيه بعض الصواب وبعض الخطأ. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
أحياناً فرط إحساسنا بالمسؤولية- كأننا مسئولون عن الأمة، وعن الناس، وعن الدعوة، وعن العلم- يحملنا على توزيع البطاقات الْحُمر ذات اليمين وذات الشمال، مع كل من نختلف معهم في الرأي أو في الاجتهاد أو في القول أو في الانتساب أو حتى في المزاج أحياناً، وربما نقوم بمراقبة الآخرين ونفتح ملفات لأخطائهم، فعندنا قائمة طويلة؛ بماذا أخطأ فلان وبماذا أخطأ علان، وهذا في الواقع إلى الله سبحانه وتعالى وليس إلى البشر؛ ولهذا كان من أقوال عيسى عليه السلام، فعن مَالِك -رحمه الله - أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَقُولُ:" لاَ تُكْثِرُوا الْكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِي بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ وَلاَ تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلاَءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ "(1)، وَعَنْ سُفْيَانَ قال: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ إيَاسٍ؛ فَنِلْتُ مِنْ إنْسَانٍ. فَقَالَ: هَلْ غَزَوْت الرُّومَ وَالتُّرْكَ؟ فَقُلْت: لَا.
فَقَالَ: سَلِمَ مِنْك التُّرْكُ وَالرُّومُ وَمَا سَلِمَ مِنْك أَخُوك الْمُسْلِمُ!! وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لِيَكُنْ حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْك ثَلَاثَ خِصَالٍ: إنْ لَمْ تَنْفَعْهُ فَلَا تَضُرَّهُ ،وَإِنْ لَمْ تَسُرَّهُ فَلَا تَغُمَّهُ، وَإِنْ لَمْ تَمْدَحْهُ فَلَا تَذُمَّهُ. ولذلك تجد أن كثيراً منا ربما لا يستخدم الأسلوب نفسه مع أعداء الإسلام، ولو قيل له في ذلك لم يُعرْ اهتماماً لهذا، وقد لا يعتني بمتابعة الأحوال، والأوضاع، والأخبار، والمتغيرات التي لها أثر عميق وعظيم في واقع الأمة، وفي سلوكها، وفي حاضرها ومستقبلها، ورجالها ونسائها، وربما يرى أن الاشتغال بمثل هذه الأشياء نوعاً من الفضول، ويعتني ببعض الخلافات التي تقع مع إخوانه المسلمين. وفي هذا المجال قضية التعاون وأن الاختلاف لا يفسد للود قضية كَتَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله مَا لَفْظُهُ: قَالُوا يَزُورُك أَحْمَدُ وَتَزُورُهُ ** قُلْت الْفَضَائِلُ لَا تُفَارِقُ مَنْزِلَهْ إنْ زَارَنِي فَبِفَضْلِهِ أَوْ زُرْتُهُ ** فَلِفَضْلِهِ فَالْفَضْلُ فِي الْحَالَيْنِ لَهْ فَأَجَابَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: إنْ زُرْتنَا فَبِفَضْلٍ مِنْك تَمْنَحُنَا ** أَوْ نَحْنُ زُرْنَا فَلِلْفَضْلِ الَّذِي فِيكَا فَلَا عَدِمْنَا كِلَا الْحَالَيْنِ مِنْك وَلَا ** نَالَ الَّذِي يَتَمَنَّى فِيك شَانِيكَا وأحمد - رحمه الله- كان يقول: الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن؛ فهل ترى لهذين من عوض أو عنهما من خلف!! وكان يقول أيضاً: كنا على خلاف مع أهل الرأي من أصحاب أبي حنيفة من أهل الكوفة، حتى جاء الشافعي فأصلح بيننا. وكثيراً ما كان يقول: إني قلما أصلي إلا ودعوت الله سبحانه وتعالى له. ومالك هو أحد شيوخ الإمام الشافعي، وهكذا تجد أن هؤلاء الأئمة كانوا كلهم كأنهم عائلة واحدة وأسرة واحدة. السادسة: الثوابت والمتغيرات، من المهم أن نفرق بين الثوابت والمسلمات القطعية المعروفة الضرورية في الدين، وبين الاجتهادات والمتغيرات القابلة للأخذ والرد. |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
بالنسبة للثوابت والمسلمات: هي محكمات في دين الله عز وجل لا مجال للاختلاف حولها من نصوص الكتاب والسنة، وإجماعات السلف الصالح رضي الله عنهم الصادقة القطعية، وهذه هي معقد الولاء والبراء بين المؤمنين، وهي أصل الدين، ولهذا يسميها ابن تيمية - رحمه الله-:" الدين الجامع" لأنه لا خلاف حولها، وهناك الأمور التي يقع فيها اختلاف.
والبعض قد يصير له خلل، فربما يشكك في المحكمات، كما تجد في بعض المدارس الفكرية المعاصرة في كثير من المؤلفات، والمصنفات، والكتب - أصبحت تشكك في بعض محكمات الدين، وقطعياته، وضرورياته، وتحاول إعادة قراءة القرآن الكريم، أو إعادة فهم القرآن الكريم، وهذا لا شك أنه انحراف خطير يُفضي بأصحابه إلى خارج الدائرة الإسلامية، لكن ثمت خلل آخر يقع وهو أن يقوم البعض بما أسميه التخريج على الثوابت، وأعني به أن يلحق الإنسان بثوابت الدين وقطعياته ما ليس منها؛ ليعزز اختصاصه بشيء، أو تميزه بشيء، أو ليخرج غيره ممن يختلفون معه، وعلينا أن ندرك أن كلمة (المنهج) لا تعني إلا الكتاب والسنة والدين الصحيح، فعندما نحكي أو يحكي الإنسان المنهج، وما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم يجب ألا يعتمد فيها على الرأي المجرد، أو الاجتهاد الخاص، وإنما على النقل المحقق، حتى القول لواحد من أئمة السلف كأن يكون قولاً لأحمد أو الشافعي أو مالك أو الأوزاعي أو سفيان أو الزُهري فإنه لا يتحول إلى منهج بمجرد كونه قولاً قاله، وإنما المنهج هو ما أجمعوا واتفقوا عليه وانطلقوا منه، فالخلاف لا يكون في الثوابت والمسلمات؛ وإنما يكون فيما وراء ذلك، في الفقهيات والفروع، وهي كثيرة جداً كالخلاف في بعض المسائل في الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج وكان الصحابة رضي الله عنهم يختلفون فيها، أيضاً يكون الاختلاف في الوسائل، وليس في الغايات، فالغاية واحدة، لكن الاختلاف في وسيلة معينة، هل نستخدم هذه الوسيلة أم تلك؟ |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
قد يتحدث بعض الدعاة عن الاختلاف في استخدام التقنيات الحديثة، في الدعوة إلى الله عز وجل أو استخدام طريقة معينة، في دعوة الشباب، في الأساليب لا في الأهداف، فالأهداف واحدة، لكن أسلوب الدعوة قد يكون بشدة أو بلين، أو بطريقة أو بأخرى، أو بصورة فردية أو جماعية، هذا أيضاً أسلوب لا يؤثر الاختلاف فيه، مثل ذلك الاختلاف في نوازل الأمة التي تلاقيها؛ فإن الخلاف في هذه النوازل والأمور الواقعة الحادثة الجديدة التي لها سابق يحتاج إلى نظر وتأمل واستنباط (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم) (النساء: من الآية83).
السابعة: أهمية إعطاء الأزمات والمحن حقها؛ فإننا اليوم نعيش في أزمة ومحنة لا يعلمها إلا الله عز وجل ولو قلتَ إنه منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم لم يطرق ناموس هذا العالم مثل هذه المصائب الضخمة الهائلة التي تحيط بالمسلمين من كل مكان لم تكن بعيداً عن الصواب. إن مثل هذه المعاناة التي نجدها اليوم توجب علينا، وإن لم يكن المقام مقام الحديث عن هذه الأزمة أن نوحد صفوفنا، وأن نتقارب فيما بيننا، وأن نهدئ من عوامل الفرقة والانشقاق في وجودنا وفي أشخاصنا وفي حياتنا. إن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم) (الأنفال: من الآية46). إن من السخرية أن تهيمن على الحياة الإسلامية نظم غربية، وأن تبدأ القوى الإمبراطورية باحتواء المسلمين سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، بينما نجد أن كثيراً من المسلمين يلتقطون كِسرة خبز، ويتصارعون حولها في زاوية صغيرة، وكأنهم لا يحسون بصخب الحياة وضجيجها من حولهم، لا أزيد على ما تعرفونه من معاناة المسلمين في أرض فلسطين من الصلف اليهودي الجائر، والعدوان الغادر، وقتل الرجال والنساء والصبيان والأطفال، وهدم المنازل، وتجريف المزارع، واستهداف الرجال بكافة وسائل القتل والاغتيال، وسفك الدماء. أيها الأخ الكريم لا تقتصر على أن يكون همك نفسك، و اجعل همك واسعاً همَّ الأمة كلها، أشركهم في دعائك: وَإِنّي لَأدْعُو اللهَ حَتَّى كَأَنَّمَا ** أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِ مَا اللهُ صَانِعُ أشركهم في دموعك، أعطهم دموعاً تذرف من قلبك، حينما ترى هذه المصائب التي تنزل بهم، أشركهم في إمكانياتك وقدراتك. إن كان عندك شيء من مال « تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ صلى الله عليه وسلم: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ »(1). |
رد: فقه الأمة الواحدة / للشيخ سلمان العودة
اصنع الحياة، لا تقتصر على مجرد معالجة الأزمة أو الوقوف معها، ابن نفسك بناءً أخلاقياً، علمياً، تربوياً، دعوياً، اكتسب المهارات، والمواهب، والقدرات، ربّ إخوانك وأولادك ومن حولك، دعونا نصنع الحياة الإسلامية المستقرة؛ فإن هذه الأشياء المطلوبة من الأمر بالمعروف، لا ينبغي أن تتوقف بسبب أزمة عابرة مرت بنا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالغيب, ربما تكون الأيام المقبلة لا تختلف اختلافاً كبيراً عن الأوضاع التي يعيشها الناس اليوم.
نعم. قد تتفاوت؛ فأشياء سوف تسوء، وأشياء سوف تتحسن، سوف تأتي أمور صعبة، وأمور ربما تتحول إلى فرص، لن يكون هناك كبير شيء في المستقبل إلا ما يصنعه الناس بجهودهم وصبرهم ومعاناتهم، وعليك ألا تفقد صبرك، واتزانك، وتفكيرك، عليك أن تخطط؛ فإن عدوك إنما غلبك بالتخطيط وبُعد النظر، وألا تقبل بالاستفزاز، بل وعليك ألا تسمح لهذه الأزمات أن تقلق راحتك، أو تزيل سكينتك، أو تنقلك من هدوئك، وأقترح عليك أن تسعد وأنت نائم وأنت مستيقظ وفي مأكلك ومشربك ومع زوجتك ومع صبيانك، احضنهم وداعبهم واضحك معهم وعلمهم وتعلم منهم، ولا تظن أن هذا يتنافى مع صدق الإحساس بالمصيبة التي تنزل بالأمة، بل ربما هو المناسب؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1)، في ظروف ومحن صعبة كان يواجهها صلى الله عليه وسلم وكان الدين يواجه خطر الاستئصال أيضاً، ومع ذلك فإن انشراح الصدر، وهدوء النفس، وقرة العين، والسكون هو أهم شيء من شأنه أن يجعل الإنسان يتصرف، ويعمل بشكل صحيح. اللهم أنزل على إخواننا من فضلك، ورحمتك يا حي يا قيوم ما تلم به شعثهم، وتهدي به قلوبهم، وتصلح به شؤونهم، وتهديهم به إلى ما تحب وترضى. اللهم أصلح من ذاتهم وذرياتهم، وارزقهم العلم النافع والعمل الصالح، واجمع قلوبهم على البر والتقوى، واجعلهم من ورثة جنة النعيم. * د. سلمان بن فهد العودة : المشرف العام على موقع الإسلام اليوم. المصدر: موقع الإسلام اليوم |
الساعة الآن : 05:16 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour