ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=91)
-   -   شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=302017)

ابوالوليد المسلم 05-03-2024 10:39 PM

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(2)

اعداد: الفرقان





الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب: في قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة}
2123. عن أَبي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [ فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ يُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ، فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ «.
الشرح:
الحديث الأول في الباب الأول: في سورة البقرة في قوله تبارك وتعالى: {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} وهذه الآية من الآيات التي ذكر الله تبارك وتعالى فيها نعمته على بني إسرائيل، وقد عدد الله عز وجل في سورة البقرة ما أنعم به على بني إسرائيل، كقوله قبل هذه الآية: {وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (البقرة: 57).
فهذا من نعم الله عز وجل التي امتن بها على بني إسرائيل: وهي تظليل الغمام عليهم التي يقيهم حر الشمس لما كانوا في صحراء سيناء، وأنزل عليهم المن الذي هو شبيه بالعسل، والسلوى الذي هو طائر يأكلون منه ما يشاؤون، وغير ذلك من النعم التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى عليهم قبل هذه الآية في سورة البقرة.
ثم ذكرهم الله عز وجل بنعمة أخرى هاهنا فقال لهم: {وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية} وهذه القرية هي: بيت المقدس على المشهور عند أهل التفسير، فالله سبحانه وتعالى أمرهم بدخول بيت المقدس، وان يأكلوا مما سبق من – المن والسلوى - أو مما حبا الله به بيت المقدس من أشجار وبركات وخيرات.
ثم قال لهم {وادخلوا الباب سجدا} أي: خاضعين خاشعين راكعين، وقال بعض أهل التفسير: أي كهيئة الركوع. وقلنا بذلك مع أن الآية تقول (سجدا) لأنه لا يتصور دخول الإنسان الباب وهو ساجد على جبهته، ولذلك قال أهل التفسير المقصود: أمرهم بان يدخلوا بيت المقدس خاضعين خاشعين، معترفين بنعمة الله تعالى عليهم.
وان يقولوا: (حطة) وهو من الحطط، يعني: اللهم احطط عنا خطايانا، يعني: اللهم اغفر لنا.
وقوله تعالى: {وسنزيد المحسنين} هو وعد من الله سبحانه وتعالى للمحسنين بالمغفرة، بأعمالهم الحسنة مع الله تعالى ومع عباده، عاجلا أو آجلا.
فاستهزأ الظالمون منهم والمعاندون، فقال سبحانه وتعالى عنهم {فبدل الذين ظلموا منهم} وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى ومن إنصافه لهم، إذ قال {فبدل الذين ظلموا منهم} ولم يقل: فبدلوا، فلم يعمهم بهذا الفعل الذي هو التبديل والتحريف في القول، بل وتحريف في الفعل؟! فقد حصل التبديل من بني إسرائيل في القول والفعل؟! أما الفعل فالله سبحانه وتعالى قال لهم {ادخلوا الباب سجدا} فلم يفعلوا، فلم يدخلوا ساجدين ولا خاضعين ولا راكعين، وإنما دخلوا مستهزئين مستكبرين رافعي رؤوسهم، يزحفون على أستاههم ؟! أي: على أدبارهم ؟! فأيّ كفرٍ بالله تعالى واستهزاء هذا؟؟!
وقال الله تعالى لهم {قولوا حطة} فقالوا: حبة في شعره , وفي رواية أيضا في الصحيح قالوا: «حنطة»؟! وقال بعضهم: حبة في شعرة؟ أو حبة في شعيرة؟! وكل ذلك من تحريف القول الذي وقعوا فيه. أي: بدلا من أن يقولوا حطة , وهو طلب حط الخطايا والذنوب، قال الذين ظلموا منهم من المعاندين والمستكبرين والمستهزئين ما قالوا، فبدلوا قول الله تعالى، وبدلوا ما أمرهم الله سبحانه وتعالى به فعلا.
قال رسول الله [: «قيل لبني إسرائيل {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} والجدير بالذكر: أنه لا يزال هناك باب في المسجد الأقصى اسمه « باب حطة « إلى يومنا هذا، وهو الباب الذي أمروا أن يدخلوا من عنده.
فلما بدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاهم ويقولون مستهزئين حنطة بدلا من أن يقولوا حطة، ولهذا أنزل الله سبحانه وتعالى بهم بأسه وعذابه الذي لا يرد عن القوم الظالمين، بسبب خروجهم عن طاعته، قال سبحانه فيهم {فأنزلنا على الذين ظلموا} وهذا أيضا تنبيه على عدل الله عز وجل، أنه إذا وقعت المعصية في قوم، نزل عذاب الله على القوم الظالمين منهم فقط، إذا تميزوا عن غيرهم، كما في قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة وخنازير.
وقوله {رجزا من السماء بما كانوا يفسقون} أنزل الله تعالى عليهم رجزا وعذابا من السماء، لأنهم خالفوا أمره، واستخفوا به، واستهزئوا وبدلوا القول والفعل، قال ابن عباس (رجزا) يعني: عذابا أليما، وكل شيء في القرآن رجز فهو العذاب.
وقال بعض أهل التفسير وهو قول سعيد بن جبير وغيره: أن الرجز هو الطاعون، أنزله الله تعالى عليهم.
وروى البخاري ( 3473 ) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: قال رسول الله [: « الطاعون رجز أُرسل على طائفةٍ من بني إسرائيل – أو على من كان قبلكم – فإذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه «.
وقد روى جماعة من الصحابة أيضا منهم: سعد ابن أبي وقاص وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت: عن رسول الله [ أنه قال: « الطاعون رجز عذابٍ، عُذّب به من كان قبلكم « رواه النسائي في سننه.
وقد جعله الله تعالى لهذه الأمة رحمة ومغفرة، بل شهادة، فمن أصابه فهو شهيد، لقوله [: « الطاعون شهادة لكل مسلم « متفق عليه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله [ عن الطاعون فأخبرني « أنه عذابٌ يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، فليس من أحد يقعُ في الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كَتب الله له، إلا كان له أجر شهيد « رواه البخاري في الأنبياء ( 3473 ).
فكون الطاعون رحمة إنما خاص بالمسلمين، وهو شهادة لهم ورحمة، ورجز على الكافرين والعاصين.
وقد وقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما يدل على أن الطاعون ينشأ عند ظهور الفاحشة والمجاهرة بها، كما في الحديث عند ابن ماجة ( 4019 ) والبيهقي بلفظ: « لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا..» نسأل الله المعافاة في الدنيا والآخرة.
وقوله {بما كانوا يفسقون} الباء هنا باء السببية، يعني: بسبب فسقهم وخروجهم عن قول الله تعالى وعن أمره وشرعه، عذبهم الله بهذا العذاب المؤلم الشديد، فأنزل الله سبحانه وتعالى عليهم طاعونا عذابا لهم.
وأخرج أحمد ( 1/402 ): عن ابن مسعود ] عن النبي [: « ما ظهر في قوم الربا والزنا، إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل «. وانظر الفتح لابن حجر ( 10/193).





ابوالوليد المسلم 06-03-2024 08:50 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(3)

-{وأتـوا البيــوت مـن أبوابـها}

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
الباب الثاني: باب في قوله تعالى: {وليس البر ...}.
2124- عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولَ: كَانَتْ الْأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَرَجَعُوا لَمْ يَدْخُلُوا الْبُيُوتَ إِلا مِنْ ظُهُورِهَا، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ بَابِهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} (البقرة: 189).
الشرح :
الباب الثاني هو في تفسير قوله تعالى: {وليس البر بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}، وهي الآية التاسعة والثمانون بعد المائة من سورة البقرة، وقد روى الإمام مسلم فيها حديث البراء رضي الله عنه : أن الأنصار كانوا إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها وليس من أبوابها , فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} . وقد رواه البخاري في الحج ( 1803) وفي التفسير.
وما جاء في هذا الحديث: هو عادة كانت عند أهل الجاهلية من الأنصار، وجاء مرسلا: أن سائر العرب كانوا كذلك إلا قريشا، فروى ابن خزيمة والحاكم: عن جابر ] قال: كانت قريش تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من الأبواب، فبينما رسول الله [ في بستان فخرج من بابه فخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله، إن قطبة رجل فاجر، فإنه خرج معك من الباب، فقال: ما حملك على ذلك؟ فقال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت، قال: «إني أحمسي» قال: فإن ديني دينك، فأنزل الله هذه الآية.
فهذه العادة وهي أن أحدهم إذا حج أو جاء من سفر، كما في إحدى الروايات -وهي رواية أبي داود الطيالسي – «أن الأنصار كانوا إذا قدموا من سفرهم» وهذا أعم، يعني سواء كان حجاً أم غيره من الأسفار، فإذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من جهة الباب، وإنما من الجهة الخلفية للبيت؟! فنزلت هذه الآية, التي يأمرهم الله فيها بأنهم إذا جاء أحدهم من السفر أن يدخل من الباب، ولا يدخل من ظهر البيت.
وقيل: كانوا يفعلون هذا الأمر في الحج؛ لأنهم يعتقدون أن المحرم إذا أحرم، لا يجوز أن يحول بينه وبين السماء حائل، فكانوا يتسنّمون ظهور بيوتهم، وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة والتابعين، كما روى ذلك الزهري وغيره عند الطبري في التفسير.
وروى عبد بن حميد بسند صحيح – كما في الفتح 3/622- عن الحسن - رحمه الله - قال: كان الرجل من الجاهلية يهم بالشيء يصنعه، فيُحبس عن ذلك، فلا يأت بيته من قبل بابه، حتى يأتي الذي كان يهم به.
قال الحافظ ابن حجر معلقا: فجَعل ذلك من باب الطيرة، وغيره جعل ذلك بسبب الإحرام انتهى.
قوله: «فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ بَابِهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ» أي: أنكروا عليه، لماذا لما رجع من الحج دخل من بابه ولم يدخل من ظهر البيت؟ وخالف ما كان عليه الناس في الجاهلية، فقيل له: لم تخالف؟
فعند ذلك ذكر للنبي [، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} وهذه الآية فيها فوائد أخرى منها:
1- أن كل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله عز وجل، فهي باطلة مردودة عليه، فأهل الجاهلية من الأنصار وغيرهم كانوا يتعبدون الله بهذا الفعل، فإذا جاء الرجل من الحج لم يدخل منزله من الباب، وإنما يدخل من خلف البيت؟! وإن لم يكن للمنزل باب آخر تسور السور، كما جاء في رواية بن أبي حاتم وغيره أن الرجل كان يتسوّر السور، إذا لم يكن للبيت إلا باب واحد. فمثل هذا التكلف وهذا الفعل الذي يربطونه جهلا بعبادة الحج أو غيرها، هو فعل لم يأذن الله تعالى به، ولا كلّف عباده به أيضا، ولهذا فهو مردود على فاعله.
فنأخذ من هذا قاعدة شرعية عظيمة، دل عليها حديث المصطفى [: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد» متفق عليه. أي: مردود على صاحبه؛ لأن الأصل في العبادات التحريم، ولا يجوز لإنسان أن يشرع لنفسه عبادة ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ولا برهان.
2- قال أهل العلم: إن هذه الآية فيها توجيه وإرشاد للخلق: أن الأمر إنما يؤتى من بابه، ولا يؤتى من المكان البعيد، فأنت إذا أردت الأمر فاته من بابه القريب، ولا تأته من بابه البعيد؟! لأن هذا أرفق بك وبمن معك، فتقصير الطريق تخفيف ورحمة وحكمة ورفق. فالإنسان إذا أراد العلم مثلا، فإنه يأتيه من أبوابه التي نبه عليها العلماء، فيتعلم العلم من أهل الاختصاص، ويقرأ عليهم الكتب العلمية النافعة، ويحرص أولا على الشيخ القريب عنده قبل البعيد، فلا يذهب إلى الشيخ البعيد عن داره أو بلده وهو قادر على القريب، ولهذا كان من هدي السلف رحمهم الله: أن الواحد منهم لا يرحل عن بلده لطلب العلم، إلا بعد أن يأخذ عن شيوخ أهل بلده جميعا، فيستنفد ما عندهم من العلوم والروايات، ثم بعد ذلك يرحل إلى البلد البعيد لاستكمال الطلب، فهذا التوجيه الرباني نافع في مثل هذا، بألا يأتي المسلم الأمر البعيد، ويترك القريب، إلا لمانع، كأن يكون علماء بلده مثلا: من أهل البدع والأهواء.
وهذا أمر دلت عليه أيضا الفطرة المستقيمة، والعقل السليم، فلا يطول الإنسان الطريق على نفسه من غير داعِ ولا حكمة ولا مصلحة، لأنه أمر ترفضه الفطرة ويرفضه العقل الصحيح.
3- قول الله عز وجل في تمام الآية: {واتقوا الله لعلكم تفلحون} أي: اتقوا الله سبحانه وتعالى، فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه، {لعلكم تفلحون} أي: في الدنيا والآخرة، والفلاح هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، فأنت إذا أخذت بقول الله، وبأحكام شريعة الله تعالى، فإنك تصيب كل خير وصلاح.
4- وأيضا: هذه الآية تدل على وجوب الالتفات إلى أمور البر، وأعمال الخير التي شرعها الله عز وجل، دون غيرها مما لم يشرع، فهذا الواجب علينا معاشر المسلمين. أما إن تعبدت الله بعباده لم يشرعها الله عز وجل، فإنك حتما ستترك ما شرع الله، وتشتغل بالبدع والمحدثات؟! وتترك السنن التي سنها الله ورسوله [ للأمة، وهذا ضلال، وإتيان للأمر البعيد الصعب، وترك للقريب السهل؟!
ولا يخفى أن في الاشتغال بما أنزل الله وبما شرع، غنية وكفاية عما أحدثه الناس من البدع والأمور المحدثة التي لا دليل عليها ولا برهان، والحمد لله الذي أتم علينا النعمة، وأكمل لنا الدين، ورضي لنا الإسلام دينا.


ابوالوليد المسلم 09-03-2024 08:31 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(4)

ليـس الخـبرُ كالمعاينـة



اعداد: الفرقان





إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
باب: في قوله تعالى: {رب أرني كيف تحيي الموتى}
فيه حديث أبوهريرة ] وقد تقدم في كتاب الفضائل ( 1608)
الشرح: باب: في قوله تعالى {رب أرني كيف تحي الموتى} وهذه الآية الستون بعد المائتين من سورة البقرة يقول الله عز وجل {وإذا قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تُؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال فَخُذ أربعةً من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبلٍ منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم}. هو سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لربه سبحانه في طلبه لرؤية كيفية إحيائه الموتى.
قول المنذري: فيه حديث أبي هريرة ] وقد تقدم في الفضائل. والحديث لفظه: أن رسول الله [ قال: « نحن أحقّ بالشك من إبراهيم، إذ قال {رب ارني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} وقال: «ويرحمُ الله لوطاً لقد كان يؤوي إلى ركن شديدٍ، ولو لبثت في السجن طولَ ما لبث يوسف، لأجبتُ الداعي».
وهذا الحديث أورده الإمام مسلم في كتاب الإيمان، وأيضا أعاده في كتاب الفضائل.
وأما معنى الآية والحديث: فهو أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سأل ربه عز وجل فقال: {رب ارني} يعني: اجعلني انظر كيف تحيي الموتى، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى يحيي الموتى، ولا يجوز أن نظن بنبي من أنبياء الله، بل بخليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، وهو معصوم عن الكبائر، أنه كان يشك في أن الله عز وجل يحيي الموتى أو لا يحييهم؟! بل الصحيح أنه كان يعلم علم اليقين أن الله تعالى يحيي الموتى، وكما قلنا: إن الرجل الصالح منا لا يشك في إحياء الله تعالى الموتى، فكيف بنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟!
لكن المقصود: أن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، من العلم اليقيني إلى المعاينة بالبصر، فيريد أن يرى بعينيه كيف يحي الله الموتى، وقد صحّ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في الحديث الصحيح: «ليس الخبر كالمعاينة» رواه أحمد والطبراني في الأوسط.
فأنت إذا أخبرك إنسان بخبرٍ وأنت مصدّق له، لا يكون تأثيره عليك كما لو إذا رأيته بعينك، هكذا جبلت النفوس البشرية، ولهذا جاء في تتمة حديث: «ليس الخبر كالمعاينة» قال: «إن الله أخبر موسى بما صَنعَ قومُه في العجل، فلم يُلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا، ألقى الألواح فانكسرت».
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو أبو الأنبياء، وإمام التوحيد، وكل الأنبياء الذين جاءوا من بعده كانوا من نسله عليه الصلاة والسلام، أراد أن يرى كيف يحيي الله الموتى وأن ينظر إلى ذلك، فقال الله تعالى له {أولم تؤمن قال بلى} وهذا ما يؤكد إيمانه بالله وباليوم الآخر، وبقدرته سبحانه على إحياء الموتى {قال بلى} ولكن ليطمئن قلبي لأزداد إيماناً ويقينا، قال الله عز وجل له {فخذ أربعة من الطير} وخص الطير بذلك، قالوا: لأن الطائر من أظهر المخلوقات وأبينها وأوضحها دليلا على الإحياء والبعث {فخذ أربعة من الطير} ولا يهمنا ما هي هذه الطيور؟ وما هي أنواعها؟ وهل هي في الحرم أو في غيره؟ هذا كله ليس بمهم، ولذلك لم يذكر الله سبحانه وتعالى أسماء الطيور، ولا حاجة لنا في أن نخوض في أسمائها ولا في أنواعها.
فالمقصود أن الله تعالى أمره أن يأخذ أربعة من الطير، يعني أربعة أنواع من الطير أو أربعة أشكال مختلفة، سواء كانت من الحمام أو من غيره من الطيور، وأمره بأن يقطعهن فقال: {فصرهن إليك} أي: اجمعهن إليك بحيث تراهن بعينك، ثم قطعهن ومزقهن، واخلط هذه الطيور بعد تقطيعها بريشها وعظامها ولحمها وعصبها {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا} أي: اجعل على رأس كل جبل من هذه الطيور جزءا {ثم ادعهن} أي: ناديهن، أي: نادي هذي الطيور تحصل لهن الحياة سريعا، ففعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فجمع أربعة طيور وقطعها وخلط عظامها بلحمها بدمها بريشها، ثم جعل هذا الخليط أربعة أجزاء، فوضع كل جزء منها على جبل، ثم بعد ذلك نادي هذي الطيور، فقامت العظام والتأم كل عظم إلى صاحبه، وكل بدن إلى صاحبه، فجاء اللحم إلى هذا الطير وهذا اللحم إلى ذاك الطير، وركب الريش كل ريشة في الطائر الذي يخصه، وإبراهيم عليه السلام ينظر إلى ذلك بعينيه، وجاءت الطيور طائرة إليه.
وقوله {يأتينك سعيا} يعني طائرة بقوة وبحياة كاملة، وربما تكون ماشية على الأقدام، فالمقصد أنها جاءته [ حية بعد موتها، ثم قال الله تعالى {واعلم أن الله عزيز حكيم} أي: عزيز لا يغلب، ولا يرد أمره سبحانه وتعالى، فما شاء الله كان، ومالم يشأ لم يكن، فلا يمتنع على الله سبحانه وتعالى شيء، بل كل شيء منقاد لعزته، لأنه عز وجل عزيز.
وهو حكيم في ذلك، فلا يفعل شيئا إلا لحكمة، ولا يترك شيئا إلا لحكمة، فالبعث كائن لحكمة عظيمة، كما قال سبحانه {إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} (يونس: 4).
وقال تعالى {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذي أحسنوا بالحسنى} (النجم: 31 ). فهذا من أعظم حكم البعث، أن الله سبحانه وتعالى يجمع العباد لأجل أن يجازي كل عامل على عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
فالحاصل: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما قلنا لا يجوز أن نعتقد انه شك في قدرة الله على إحياء الموتى، فهذا ينافيه عصمة الأنبياء لا يجوز على الأنبياء الشك، لأن الشك في هذا نوع من الكفر، وهذا مما يتعارض مع عصمة الأنبياء، فإنهم متفقون على الإيمان بالبعث والنشور، ولا سبيل للشيطان عليهم كما هو معلوم، لأن النبي من الأنبياء معصوم من الشيطان، ولهذا لا يمكن أن يشك، ولكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما قلنا إنما سأل لأجل أن يشاهد كيفية إحياء الله تبارك وتعالى للموتى، وكيفية جمع الله تعالى لأجزاء الموتى المتفرقة من الأرض.
فالإنسان إذا مات تفرقت أجزاءه، واضمحلت ذهب اللحم وذهب العصب، العظام، واختلطت بالتراب، فكيف يحصل إحياء الله تعالى للموتى، فهذا من العجب العجاب، ولكن الله عز وجل يخبر بأنه عزيز قادر على كل شيء، وأراد إبراهيم عليه السلام أن يرتقي من علم اليقين إلى عين اليقين.
وقول الرسول [: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» يعني إن كان إبراهيم \ قد شك في إحياء الله للموتى، فنحن أحق بالشك منه، وهذا قاله دفاعا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أن إبراهيم لم يكن ليشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وإنما هو قال ذلك لأجل أن يرى ذلك بعينه، فينتقل - كما قلنا - من علم اليقين إلى عين اليقين.
وقال بعض أهل التفسير إن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله، فروى ابن أبي حاتم: عن ابن المنكدر: أنه قال التقى عبدالله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم فقال: ابن عباس لابن عمر: أي آية في القرآن أرجى عندك؟ - أي: ما هي أرجى آية عندك؟ فهي من أرجى الآيات التي تتكل عليها وتطمع من خلالها برحمة الله - فقال عبد الله بن عمر: قول الله عز وجل {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} فقال ابن عباس: لكني أنا أقول {َإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى }فرضي من إبراهيم قوله: بلى.
فهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه: إذا كان الله تبارك وتعالى لم يؤاخذ إبراهيم على سؤاله: كيف تحيي الموتى؟ فهذا دالٌ على سعة رحمته جل جلاله، ومغفرته لعباده، وأن انه عز وجل لا يؤاخذ عباده ولا يحاسبهم لو طرأ عليهم شيء من الشك العارض، فإن الله تبارك وتعالى يعفو عنه، ولكن من علِم قدرة الله عز وجل العظيمة العجيبة، التي لا يعجزها شيء، أيقن بأن البعث واقعٌ لا محالة، فالأمر هين عليه، كما قال سبحانه {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدة} (لقمان: 28).
فجميع الخلق على كثرتهم واختلافهم وتنوعهم، إنما خلقهم وبعثهم بعد موتهم وتفرقهم، كنفس واحدة، بلمح البصر، وهذا مما يحير العقول والألباب!
قال بعض السلف: والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، فلكم في ذلك آية في كل يوم وليلة.
أي: الموت والبعث حاصل لك كل يوم، فأنت تتوفى وتنقطع عن الدنيا كل يوم، فالإنسان إذا نام ينقطع عن الحياة، فلا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يأكل ولا يشرب، ولو ناديته لا يجيب، ولو حذرته لا يستجيب، ولا يكتسب شيئا من الأعمال، فكأنه ميت، وقد سمى الله سبحانه وتعالى النوم وفاة، في قوله {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (الزمر: 42).
والاستيقاظ من النوم نوع من البعث، هو نوع من البعث الذي يحصل في كل يوم وليلة، وهو من آيات الله تبارك وتعالى، ودليل عقلي واضح على المعاد، وصحّ عن النبي [: أنه كان إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول: «اللهم باسمك أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، واليه النشور» رواه البخاري في الدعوات (6312، 6314).
فقوله « وإليه النشور» أي: البعث يوم القيامة، يقال: نشر الله الموتى فانتشروا، أي أحياهم فحيوا، كما في قوله {ثم إذا شاء أنشره} (عبس).
فقيامك من النوم إذن هو نوع من رجوع الحياة لك بعد الموت، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.





ابوالوليد المسلم 11-03-2024 12:59 AM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(5)

لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها

اعداد: الفرقان



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
باب: في قوله تعالى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}
2125. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ: َفاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ [، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا نُطِيقُهَا ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟! بَلْ قُولُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} قَالُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ نَعَمْ: رَبَّنَا {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قَالَ: نَعَمْ {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قَالَ: نَعَمْ.
الشرح:
الباب الرابع من كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري هو في قوله تبارك وتعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} الآية من أواخر سورة البقرة، وقد روى فيها الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، حديثا في سبب نزولها، وقد أخرجه مسلم في الإيمان ( 125). والحديث أنه:
لما نزل على رسول الله [ أولها، وهو {لله ما في السموات وما في الأرض} أي: لله سبحانه وتعالى ما في السموات وما في الأرض مُلكاً وخلقا، فالجميع خلقه والجميع عبيده، والجميع ملكه، فرزقهم على الله، وتدبيرهم على الله، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعا، إلا ما شاء الله، ثم قال تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ}، لما نزلت هذه الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله [، وشقّ عليهم، وهو أن الله سبحانه وتعالى يحاسبهم على ما أخفوا في الضمائر، فيحاسب الإنسان على ما أسر في نفسه، أي: ما جال في صدره، وخطر في قلبه من الخواطر، يحاسبه الله عليه، فكانت هذه شديدة على الصحابة؛ لأنه ما من إنسان، إلا ويخطر في باله أشياء قد يفعلها وقد لا يفعلها.
ولهذا قال الصحابة رضي الله عنهم: «يا رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها «فقولهم» ولا نطيقها» يعني: كيف يحاسبنا الله سبحانه وتعالى على ما نحدث به أنفسنا، ولا يسلم أحدٌ من البشر من ذلك ؟!
لكن النبي [ حذّرهم من مشابهة أهل الكتاب الذين كانوا يقولون: سمعنا وعصينا، أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، فكانوا يسمعون أوامر الله ثم يخالفونها عمدا! فقال: « أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا» أي: استجيبوا لله سبحانه وتعالى، وانقادوا لأمره، وقولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.
ولما طلب منهم رسول الله [ ذلك، استجابوا وقرأوه بألسنتهم، وذلوا لأمر الله سبحانه، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تبارك وتعالى، فأنزل هذه الآية: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...} (البقرة: 286).
- إذاً: فقول الله سبحانه وتعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ}، هذا منسوخ؛ لأن راوي الحديث ينص على النسخ لفظا، وهذا لا يكون إلا بعلم من رسول الله [، والنبي [ أمرهم أن يأتوا بالسمع والطاعة لما أنزل الله عز وجل، فلما فعلوا ذلك ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوبهم الإيمان، واستسلموا لله، وهذا هو معنى الإسلام، هو الاستسلام لله عز وجل بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، بطاعته عز وجل فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، لما فعلوا ذلك، رفع الله عز وجل عنهم الحرج، ونسخ عنهم هذا التكليف. ومعلوم أن النسخ له طريقان: العلم به إما بخبر من الراوي أو بخبر من رسول الله [، وإما أن يعرف النسخ بالتاريخ، وقد اجتمعا في هذه الآية، فهذه الآية فيها نص الراوي على حصول النسخ، وفيها أيضا بيان ترتيب النزول وتاريخ الخبر؛ فإن هذه الآية فيها خبر لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} فهذا خبر عن التكليف والمؤاخذة بما تحدث بها أنفسها، ثم جاء الخبر برفع الحرج والمؤاخذة.
ومن أهل العلم من قال: إنه لا نسخ في الآية؛ لأن الصحابة فهموا شيئا لا يريده الله تعالى، فقالوا: إنما أخبرهم الله عز وجل أنه يؤاخذهم بما تستقر عليه الأمور في نفوسهم، ولا يؤاخذهم بالخواطر العابرة؛ لأن ما استقر بالقلب صار همّاً وعزما، يؤاخذ به الإنسان، والله سبحانه وتعالى ما جعل في دينه من حرج، لا في الأوامر ولا في النواهي.
فالحاصل أن الأمور التي تشق على النفوس، ليست هي من دين الله عز وجل؛ لأنه ليس في دين الله عز وجل تكليف بما لا يطاق.
لكن الحديث يدل على حصول النسخ، وأنهم لما أمروا بذلك وشق عليهم، رفع الله تعالى عنهم ذلك، لما ذلوا لله وانقادوا لله سبحانه وتعالى.
وهاتان الآيتان الأخيرتان من سورة البقرة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه...ِ} (البقرة: 285 - 286)، هما آيتان عظيمتان، وقد جاء في الحديث أنهما نزلتا من كنز تحت العرش، وورد في الحديث: « أنهما لا تقرأن في دار فيقربها شيطان ثلاث ليال «. وورد في الحديث عند مسلم أيضا: «من قرأ بالآيتين الأخيرتين من سورة البقرة كفتاه «. قال أهل العلم: أي كفتاه من كل شر. وقال بعضهم: كفتاه من قيام الليل؛ لعظمة ما في هاتين الآيتين.
وأما المعنى الإجمالي لهاتين الأيتين: فأولا ابتدأ الله تعالى قوله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} ابتدأه بالشهادة لرسوله عليه الصلاة والسلام بإيمانه بما أنزل إليه من ربه، وصار كالمؤمنين في ذلك الإيمان، فالمؤمنون شاركوا الرسول عليه الصلاة والسلام في الإيمان بما أنزل إليه من ربه، ومن آمن بما أنزل إليه من ربه، فقد ضمن إعطاءه ثواب الإيمان من الله عز وجل. وقال أهل العلم: إن إيمان الرسول عليه الصلاة والسلام بما أنزل إليه من ربه، هو زيادة على ثواب الرسالة والنبوة، لأنه شارك المؤمنين في الإيمان، وامتاز عنهم بالرسالة والنبوة. وقوله تعالى: {بما أنزل إليه من ربه} يتضمن أن القرآن كلام الله، ومنه نزل لا من غيره، كما قال تعالى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بالحق} (النحل: 102). وقال {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (الواقعة: 80).
ثم شهد تعالى للمؤمنين بأنهم آمنوا بما آمن به رسولهم من الإيمان بالله تعالى، وملائكته وكتبه ورسله، وهذه قواعد الإيمان الخمسة التي لا يكون أحدٌ مؤمنا إلا بها، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
ثم حكى عن أهل الإيمان أنهم قالوا {لا نفرق بين أحد من رسله} أي: لا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؛ لأنهم لو فعلوا ذلك ما نفعهم إيمانهم بالله، فلو آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم ما نفعهم الإيمان؛ ولذلك هم لا يفرقون في الإيمان بين أحد من رسله؛ لأن الجميع جمعتهم الرسالة الإلهية، فالذي يفرق بينهم يكون مؤمناً ببعض كلام الله كافرا ببعضه، مصدقا ببعض كلام الله مكذبا ببعضه. وتضمنت أيضا هذه الآية: الإقرار بركني الإيمان الذي لا يقوم الإيمان إلا بهما: وهما أولا: السمع {وَقَالُواْ سَمِعْنَا} فالسمع هاهنا بمعنى القبول، لا مجرد سماع الصوت لأن سماع الصوت أمر مشترك بين المؤمنين والكافرين، لكن قولهم: سمعنا، بمعنى: قبلنا.
الركن الثاني: الطاعة {وأطعنا} أي: انقدنا لأمر الله سبحانه وتعالى، وامتثلنا أمره، وهذا عكس عمل الأمة الغضبية، وهم اليهود الذين قالوا: سمعنا وعصينا. ثم قالوا: {غفرانك ربنا وإليك المصير} لما علموا أنهم لن يوفوا مقام الإيمان حقه من الطاعة والانقياد الذي يقتضيه منهم، بل لا بد أن تحصل منهم غلبات الطباع، والدواعي البشرية للوقوع في بعض التقصير في واجبات الإيمان، وعند ذلك لا بد لهم من مغفرة الله سبحانه وتعالى لهم.
{وإليك المصير} مصيرهم ومردهم الذي لا بد لهم منه، هو الرجوع إلى الله عز وجل، وهو المرجع لجميع الخلائق.
ثم قال سبحانه وتعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، في هذه الآية نفى الله عز وجل ما توهموه، من أنه يعذبهم بالخطرات التي لا يملكون دفعها، وبين أنهم غير مؤاخذين بمجرد الخواطر القلبية، وأخبر عز وجل أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها. ودلت هذه الآية أيضا: على أن جميع ما يكلف به الإنسان في الإسلام هو مما يطيق؛ لأن الله تعالى قال في هذه الآية: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، فهذا دليل على أن ما كلفك الله عز وجل به أنت مطيق له.
وفيه ردٌ صريح على من زعم خلاف ذلك، فالله سبحانه وتعالى أمر خلقه بعبادته، وضمن لهم أرزاقهم، فكلفهم من الأعمال ما يطيقون وأعطاهم من الرزق ما يسعهم، فهذا هو اللائق برحمة الله سبحانه وتعالى وفضله وبره وإحسانه وحكمته وغناه.
ثم أخبر الله عز وجل أن هذا التكليف يعني أن هذه الأعمال الصالحة ثمرتها عائدة عليهم، وأنه سبحانه وتعالى لا يستغني بكسب العباد شيئا، ولا يتضرر بتركهم للاكتساب، فقال تعالى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فلا يتضرر الله عز وجل بتركنا للأعمال الصالحة، بل الكسب نفعه لنا وتركه ضرره علينا، فمن رحمة الله عز وجل أن أمر عباده بما يحتاجونه، ونهاهم عما يضرهم، فهذا من رحمة الله وإحسانه.
وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} دليل على أن الإنسان لا يؤاخذ بكسب غيره، بل أنت مسؤول عن عملك ولست مسؤولا عن كسب غيرك.

وأيضا: أنت لا تأخذ كسب غيرك ونفعه وثوابه، بل كل إنسان يأخذ ثواب عمله هو، فلا الأبناء يأخذون اكتساب آبائهم، ولو كانوا أبناء الأنبياء فإنهم لن يأخذوا ما اكتسب آباؤهم من الأعمال الصالحة، والدرجات العالية، والعكس أيضا صحيح، فلا يضرهم ما فعل آباؤهم، كما قال الله عز وجل: {ولاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقال عز وجل: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم: 39).
وأيضا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ردٌ على الجبرية الذين يقولون: الإنسان ليس له فعل ولا كسب، وأنه مجبور على عمله ؟! فهذا فيه إثبات الكسب، وأن الإنسان يدخل في طاقته اكتساب الأعمال الصالحة.
ثم قال عز وجل: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، كما قلنا لما كلف الله سبحانه وتعالى عباده بما هو عبارة عن عهود ووصايا وأوامر يجب مراعاتها والمحافظة عليها، وألا يقصر العبد في شيء منها، لكن الإنسان تغلبه طباعه أحيانا التي فيها النسيان والخطأ والضعف والتقصير والغفلة؛ لذلك أرشدهم الله عز وجل أن يسألوه مسامحتهم، وأن يغفر لهم فقالوا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا}.
ثم قال {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} والإصر هو العهد الثقيل، {كما حملته على الذين من قبلنا} فالله عز وجل قد شدد على بعض الأمم، بعصيانهم وفسوقهم وخروجهم عن الطاعة، كما شدد الله عز وجل على أهل الكتاب فقال: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً} (النساء: 160). فسألوا الله عز وجل التخفيف، ثم سألوه سبحانه وتعالى العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء، وهذه الأربعة تتم بها النعمة المطلقة، فسألوه سبحانه وتعالى أولا العفو والمغفرة، والعفو يعني ترك المؤاخذة على ما فعلوا من سيئات، والمغفرة تعني محو ما بدر منهم من السيئات، والرحمة معروفة وهي تطلق على أشياء كثيرة، ومن أعظمها الجنة، فالجنة أعظم رحمة خلقها الله سبحانه وتعالى، كما قال: {يدخل من يشاء في رحمته}، ثم سألوه النصر على الأعداء الكافرين به، فهذه الأربعة تتم بها النعمة المطلقة، ولا يصفو عيش في الدنيا والآخرة إلا بها، وعليها مدار السعادة والفلاح.
وبالنصر على الأعداء يتمكن الإنسان من إعلاء دينه، ومن إعلاء كلمة الله عز وجل في الأرض ، فبالنصر يحصل قهر الأعداء، وشفاء الصدور منهم وذهاب غيظ القلوب، فتوسلوا إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الدعاء بأنه عز وجل مولاهم الحق الذي لا مولى لهم سواه، وهو ناصرهم وهاديهم وكافيهم ومعينهم ومجيب دعواتهم سبحانه وتعالى.
هذه كلمات مختصرة في معرفة مقدار هذه الآيات عظيمة الشأن، والتي خص الله سبحانه وتعالى بها محمدا [ وأمته من كنز تحت العرش، كما قلنا.
وقد قال أهل العلم: أوتينا من العلوم والحكم والمعارف ما تعجز عقول البشر عن الإحاطة به.
نسأل الله عز وجل ألا يحرمنا وإياكم الفهم في كتابه.





ابوالوليد المسلم 12-03-2024 05:06 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(6)

-المحكم والمتشابه



اعداد: الفرقان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
2126. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ[: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ».
الشرح:
الباب الخامس من كتاب التفسير ، باب قوله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} (آل عمران : 7).
وأورد في الباب، حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: تَلا رَسُولُ اللَّهِ[: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 7). قالت: قال رسول الله[: «إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» هذا الحديث رواه الإمام مسلم، في كتاب العلم، وبوب عليه الإمام النووي: باب النهي من اتباع متشابه القرآن ، والتحذير من متبعيه ، والنهي عن الاختلاف فيه .
ولكن لما كان له تعلقٌ بتفسير الآية ، جاء به الإمام المنذري في كتاب التفسير هاهنا .
قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} فيه أن القرآن نزل من عند الله تعالى ، لا من عند جبريل عليه السلام، ولا من الرسول محمد[، وقوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الإحكام له معنيان: فأولا: كتاب الله سبحانه وتعالى محكم كله، بل في غاية الإحكام، بمعنى في غاية الإتقان والحسن ، والبلاغة والبيان، كما قال سبحانه: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1)، فهو كتاب عظيم محكم، مشتمل على الغاية في الحكمة والعدل والإحسان ،كما قال سبحانه وتعالى: {ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50).
والمعنى الثاني : أن القرآن منه آيات محكمات، يعني: واضحات الدلالة، ليس فيها اختلاف، ولا شبهة ولا إشكال، ولا التباس على أحد، لأنها واضحة الدلالة جدا.
وقوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: هي معظمه وأكثره، وهي أصله الذي يرجع إليه ما تشابه من الكتاب.
وأما المتشابه فكذلك، فالقرآن أولا: كله متشابه من حيث أن آياته متشابهه من حيث المعنى العام، وما تدعو إليه من التوحيد والأخلاق الحسنة، والمبادئ الفاضلة، ومن حيث الإتقان والحسن والبلاغة، فالقرآن يصدق بعضه بعضا ، لفظا ومعنى.
وهناك تشابه بمعنى آخر : وهو الذي قصده الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، وهو الذي ورد ذكره في الحديث ، وهو أن في القرآن (آيات متشابهات) أي: يلتبس معناها على كثير من الناس؛ لأن دلالتها مجملة وخفية، ومحتملة لأكثر من معنى، فيلتبس معناها على كثير من الناس، فتحتاج في تفسيرها إلى الرد إلى المحكم الواضح، لفهم المراد منها، وأكثر القرآن محكم - كما قلنا - وواضح الدلالة، لا إشكال ولا التباس فيه ، وفيه آيات تشكل على بعض الأذهان ، فالواجب على المسلم الذي يريد الحق، أنه إذا التبست عليه آية من كتاب الله ، أن يردها إلى الواضح ، أي : يرد المتشابه الذي التبس عليه معناه ، وأشكل عليه فهم المراد منه ، يرده إلى الواضح المحكم ،كي يفهم المعنى المراد ، لأن كتاب الله ،كما قلنا يصدّق بعضُه بعضاً ، ويبين بعضه بعضا، فإذا فعلت ذلك زال عنك الإشكال بحمد الله ، وانتفت عنك المعارضة والمخالفة ، وهو ما حكاه الله عن أهل العلم والاستقامة على الصراط المستقيم .
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي : في قلوبهم زيغٌ وميل عن الاستقامة ؛ لأن لهم مقاصد فاسدة، وقد انحرفوا عن الصراط المستقيم، وابتعدوا وضلوا، فقلوبهم فيها زيغ، يعني: فيها انحراف، والانحراف قد يكون بالنية والقصد.
وقد يكون الزيغ والانحراف في طريقة فهم الآيات ، وفي المنهج الذي يسير عليه هذا الإنسان لمعرفة المعنى .
قوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ي : يتركون المحكم، ويتبعون المتشابه ، يتركون الواضح الجلي، ويذهبون إلى الذي فيه التباس وإشكال، وهذا عكس ما عليه أهل الإيمان والعلم .
وهكذا قوله[ في الحديث هنا : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه» .
قال تعالى : {ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ فلو سأل سائل: لماذا يفعلون ذلك؟! فالجواب: قصدهم الفتنة، وصدّ الناس عن الحق الذي تضمنه كتاب الله سبحانه وتعالى؛ لأن المحكم الصريح الواضح، لو ترك على حاله لاهتدى به الخلق، لكنهم يقصدون صد الناس عن سبيل الله بالمتشابه ابتغاء الفتنة .
قوله: {وابتغاء تأويله} أي: تأويلا فاسداً، وتفسيرا محرفا ، وصرفه عن المراد منه .
قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} فيها قولان لأهل العلم: فمن المفسرين من قال بالوقوف على لفظ الجلالة {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وهم أكثر أهل العلم.
وبعضهم يصل الآية ويعطف فيقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}.
وهو محتمل للأمرين، فإذا قصد بالتأويل حقيقة الشيء، أو ما يؤول إليه الأمر ، فإن الصواب الوقوف عند لفظ الجلالة ، فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأشياء عن الجنة والنار ، وما يكون عليه الحال يوم القيامة ، وهذه أمور مسلم بها ومعروف معناها ، لكن كيف تكون ؟! ما حقائقها ؟ وما كيفياتها وصفاتها ؟ فحقائق هذه الأشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى .
وأما إذا قصدت بالتأويل في: {وما يعلم تأويله} معنى تفسيره والمراد منه، فأهل العلم يعلمون تفسيره ومعناه ، لا سيما أهل العلم الراسخين في العلم ، والراسخون في العلم هم الثابتون المستقيمون على الحق، الذين ليس من حالهم التغير والتقلّب ، كحال أهل البدع والأهواء ، عافانا الله من ذلك ، بل هم راسخون في العلم ، ثابتون على طريق الله عز وجل وعلى دينه ، فعلمهم راسخ ثابت ، نسأل الله عز وجل أن يثبت قلوبنا على دينه ، فهؤلاء أيضا يعلمون معنى كتاب الله سبحانه وتعالى، ولهذا يجوز أن تصل {والراسخون في العلم} ولا تقف عند لفظ الجلالة .
أما التأويل الذي هو بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤل إليه ، فهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، كحقائق اليوم الآخر، وكيفيات صفات الله عز وجل، التي لم يطلعنا الله عليها ، فالله سبحانه وتعالى لم يطلعنا على كيفيات صفاته ، ولا حقائق أوصافه، وكذلك حقائق يوم القيامة، ولهذا لما قال السائل لمالك رحمه الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5)، كيف استوى؟ أنكر الإمام مالك هذا السؤال، وقال: الاستواء معلوم ، والكيف مجهول - أي كيفية الاستواء مجهولة بالنسبة لنا ، ولا يجوز لنا السؤال عنها - والسؤال عنها بدعة ، وأمر بطرد هذا الرجل. لأنه من الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
فالسؤال عن كيفيات الأسماء والصفات بدعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن أسمائه وصفاته ولم يخبرنا بكيفياتها، فيجب الوقوف على ما حد خبر الله تعالى لنا، أما أهل الزيغ فإنهم يتبعون الأمور المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ، أما الراسخون في العلم فيعلمونها ويؤمنون بها .
ويقولون آمنا به فهم يؤمنون بهذه الآيات، ويكلون علم حقائقها إلى الله تعالى ، فَيُسَلِمون ويَسْلمون، فأنت لا تَسْلَم حتى تُسلِّم ، كما قال السلف:لا تَسْلَم في آيات الصفات وأحاديثها، حتى تُسَّلِم ، فإذا سَلّمتَ سَلِمت ، وإذا لم تُسَلِّم لم تَسْلَم.
قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} يعني: المحكم والمتشابه كله من عند الله عز وجل، وليس فيه تعارض، ولا تناقض، بل هو متفقٌ، يصدّق بعضه بعضا، ويشهد لبعضه البعض، ولهذا عندنا أصل كبير ، وهو: أنه إذا حصل التباس في فهم آية ، رددناه إلى المحكم من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله[.
وهل في كلام النبي[ محكم ومتشابه؟ الجواب: نعم، فيه كذلك محكم ومتشابه، فهناك أحاديث واضحات الدلالة صريحة، لا لبس فيها ولا إشكال ، وهناك أحاديث قد تشكل على بعض الناس أحيان ، فالخلاص من الإشكال، هو رد هذه الأحاديث المشكلة إلى الأحاديث الواضحة ، التي لا إشكال فيها، ولا لبس ، ولا غموض فيها.
قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) وما يذكر من التذكر، الذي هو من الذكرى، وهي الموعظة والتذكير، أي: لا يتعظ بأوامر الله ونصحه وإرشاده إلا أهل العقول ، وهم أولوا الألباب ، أهل العقول الراجحة الرزينة ، لأن العاقل هو الذي دُلّ على ما ينفعه اتبعه وفعله ، وإذا حذّر مما يضره تركه ، لكن صاحب العقل الضعيف لا يستجيب ، فلو عندك طفل صغير ، فلا ينفع معه أن تقول هذا ينفعك وهذا يضرك، لأن عقله ضعيف ، وهكذا بعض الخلق تقول له: هذا ينفعك، وهذا حلال، وهذا حرام ، هذا يجلب لك غضب الله ، هذا يجلب لك لعنة الله ، فلا يستجيب .
وهو ليس بمجنون بل قد يكون ذكيا ، وقد فرق أهل العلم بين الذكاء وبين العقل، فالعقل هو الذي يمنعك مما يضرك، ويحثك على ما ينفعك، وهناك أذكياء اخترعوا الذرة والصاروخ، والأجهزة الدقيقة، وفعلوا وفعلوا، ولكن لم يستجيبوا للإيمان ولا ينقادون لله عز وجل ، ولا لرسوله[، ولذلك هم بحكم الشرع ووصف القرآن (قوم لا يعقلون) (لا يعلمون ) هذا وصفٌ الله عز وجل لهم في الكتاب، وقال: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} (سبأ: 6-7 ) أي : يبتغون الظاهر من الحياة الدنيا، وما يظهر لهم بالسمع ، والبصر ، وبالذوق ، وبالحس ، فيأخذون بالأسباب الحسية فقط، ولا ينظرون إلى مسبّب الأسباب، {وهم عن الآخرة غافلون} لأن قلوبهم وإراداتهم متوجهة للدنيا وشهواتها فقط .
ومما يجب التنبه له: أن أسماء الله عز وجل وصفاته الثابتة بالكتاب والسنة ليست من المتشابه، كما أراد أهل البدع أن يدخلوها فيه؟! فصفات الله عز وجل الثابتة بالقرآن أو بالسنة الصحيحة ليست من المتشابهات، لأنها واضحات المعاني، أي مفهومة لغةً ومعنى، لكن المتشابه من الأسماء والصفات، هو الكيفيات فقط، والله عز وجل علمنا كيف نرد التشبيه بكلمة إجمالية، وكيف نثبت بكلمة إجمالية أيضا ، فقال سبحانه وتعالى في نفي التشبيه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فالله سبحانه وتعالى لا شبيه له ولا نظير، وكذلك في قوله سبحانه وتعالى: {ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص: 4)، كفوا، يعني: كفؤا،كما في بعض القراءات يعني: مكافئا، أي: ليس لله عز وجل مكافئ ، ولا مشابه ولا نظير.
وكذلك الإثبات في قوله عز وجل: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ([الشورى : 11) إثبات لصفتي للسمع والبصر ، فلا يثبت لك الإيمان بالله عز وجل، إلا بنفي وإثبات، فكما أنك لا تشهد لله عز وجل بالوحدانية إلا بنفي وإثبات ، فتقول : لا إله إلا الله، لكن إذا قلت وسكت: (لا إله) لا تكون مؤمنا؟! لو قلت: الله إله وسكت ؟لم تكن مؤمنا، وكذلك لو قلت : (ليس كمثله شيء) ووقفت عند ذلك، لا يتم الإيمان، وهذا واقع فيه المعتزلة وأشباههم ، فإنهم بالغوا في النفي فقالوا: ربنا ليس بكذا ولا في داخل العالم، ولا في خارج العالم، وليس فوقنا، وليس بكذا، وليس بكذا، لكن أين الإثبات؟ وأين الإيمان؟ لا إثبات ولا إيمان؟! بل إذا قالوا: هو السميع البصير! إذا سألهم سائل: هل تؤمنون أن السميع معناه الذي يسمع؟ يقولون : لا، ويقولون: هو البصير ، فتسألهم: هل هو الذي يبصر؟ يقولون: لا؟! وهكذا قولهم في الرحيم والعليم والحكيم.. وهو تناقض عظيم لا تقبله العقول .
قال لهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: قولكم سميع بلا سمع؟ بصير لا بصر؟ عليم بلا علم؟ حي بلا حياة؟ كقول الإنسان: هذا حلو بلا حلاوة ، مرٌ بلا مرارة، قوي بلا قوة، جميل بلا جمال؟! وهذا نوعٌ من الجنون والهذيان، وعدم العقل عن الله سبحانه وتعالى، وعن رسوله [، ولذلك قال السلف -رحمهم الله جميعا-: «صفات الله عز وجل معناها وعلمها، ليس من المتشابه، بل المتشابه هو الكيفيات فقط».
وقول النبي[: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» فيه: التحذير من أهل البدع والأهواء.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: وفيه التحذير من مخالطة أهل الزيغ، وأهل البدع، ومن يتبع المشكلات بالفتنة، فأما من سأل عما أشكل عليه منها بالاسترشاد، وتلطّف في ذلك، فلا بأس عليه ، وجوابه واجب انتهى
إذن الأول لا يجاب، أي الذي يسأل عن المتشابه لأجل الفتنة، هذا لا يجاب ! بل يهجر ويعزّر؟! كما عزّر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغ بن عسل، حين كان يتتبع المتشابه، فقد جاء إلى المدينة وهو يتتبع المشكلات والمتشابهات من الآيات، فبلغ ذلك عمر، وأنه يشكك الناس، ويسأل عن أشياء، فدعاه عمر وقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ ! فضربه عمر على رأسه بالدَّرة – وهي عصاه - وقال له : أنا عبد الله عمر! فلم يزل يضربه ويعيده إلى الحبس ، حتى قال له صبيغ: والله لقد شفاني الله عز وجل! أي تأدب بذلك، فأمر بإخراجه من المدينة ، ونفاه إلى الكوفة ، ونهى الناس عن مجالسته ، حتى تاب إلى الله سبحانه وتعالى من هذا المسلك ، وهو اتباع المتشابه والتشكيك ، والذي يسلكه بعض الكتاب اليوم، للأسف الشديد، في الجرائد والفضائيات، فيشكك بالآيات والأحاديث، وبأصول الدين، التي لا يعرف فيها اختلاف، صارت محل تشكيك مستمر عند بعض من ينتسب للإسلام، فأمثال صبيغ بن عسل اليوم كثر والعياذ بالله منهم .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا جميعا لما يحب ويرضى .
وصلى اللهم وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد .





ابوالوليد المسلم 12-03-2024 05:08 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(7)

من أحب أن يُحمَد بما لم يفعل





اعداد: الفرقان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
باب في قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}.
2127. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: « أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ [، كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ [ إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ [، فَإِذَا قَدِمَ النَّبِيُّ [ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ}.
2128. عنَّ حُمَيْد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ لِبَوَّابِهِ، إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُالْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ ! إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} هَذِهِ الْآيَةَ وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَهُمْ النَّبِيُّ [ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ إِيَّاهُ مَا سَأَلَهُمْ عَنْه ُ.
الشرح:
الباب السادس من مختصر الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله، للحافظ أبي بكر المنذري رحمه الله، هو في قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ} (آل عمران: 188).
ذكر فيه الإمام مسلم، حديث أبي سعيد الخدري، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب صفات المؤمنين وأحكامهم. وقول الراوي: نزلت في كذا وكذا، هذا نص في سبب نزول الآية، وأسباب النزول منصوص عليها بأقاويل الصحابة، وأحيانا على لسان الرسول [، وأسباب النزول تعين على فهم الآيات؛ لأن واقعة الحال تعين على فهم الآية النازلة فيها.
فالذي كان من المنافقين في عهد رسول الله [ أنهم تخلفوا عنه في الجهاد، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم النبي [ من سفره، اعتذروا إليه وحلفوا له كذبا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت الآية: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: 188).

فيقول أبو سعيد الخدري: « إن رجالا من المنافقين في عهد الرسول [، كانوا إذا خرج النبي [ إلى الغزو تخلفوا عنه، وهذه صفة للمنافقين، ذكرها الله سبحانه وتعالى عنهم في كتابه أنهم يتخلفون عن الجهاد، ويكرهون الغزو في سبيل الله، مع رسول الله [، فكانوا يتثاقلون عن ذلك، ويميلون إلى الدنيا وشهواتها، ويكرهون الموت في سبيل الله، إذا دعت الضرورة إلى ذلك والحاجة، وإلا فالإنسان بطبعه يكره الموت ويدافع ذلك، لكن إذا حضر القتال الواجب، فإنه لا يجوز للإنسان أن يترك هذا الواجب كراهية الموت، قال تعالى عنهم: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون} (التوبة: 81 – 82).
فهم مع تخلفهم عن رسول الله في فرح وسرور! وهذا قدر زائد على المعصية؛ لأنه فرح ورضا بها.
وقال أيضا: {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} (التوبة: 86-87).
والخوالف هم النساء المتخلفات عن الجهاد.
وقال سبحانه وتعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة: 38)، وغيرها من الآيات التي تبين حرمة التقاعس عن الجهاد في سبيل الله مع الإمام المسلم، خصوصا مع رسول الله [، فهذا أقبح وأشد حرمة، وكان المنافقون إذا تخلفوا فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، والحقيقة لو كانوا يعقلون: أن التخلف عن الرسول عليه الصلاة والسلام ذنبٌ ومعصية، فليس هو من الأمور التي يفرح بها الإنسان، وإذا فرح الإنسان بالمعصية، أو فرح بالذنب، دلّ ذلك على فساد قلبه، وضعف عقله وسفهه، وعدم علمه بعاقبة هذا الفعل، فالفرح الحقيقي إنما يكون بالطاعة والقربة والحسنة، وإنما يكون بالرحمة وفضل الله، كما قال الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58).
وكانوا إذا قدم النبي عليه الصلاة والسلام، ورجع من الجهاد، أو رجع من الغزوة اعتذروا إليه، وقالوا: يا رسول الله {شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا} ويتقدمون له بالأعذار الواهية، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم كاذبون، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يتركهم ويعرض عنهم، ويستغفر لهم، وقد عاتبه الله تعالى فيه فقال: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة: 43).
ولما عفا عنهم النبي عليه الصلاة والسلام وظن أنهم أصحاب أعذار، أحبوا أن يحمدوا بذلك، وقد حمدوا بغير ما فعلوا وبغير حق، فنزلت الآية فيهم {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ} أي: من ترك الجهاد والتخلف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ويحبون أن يثنى عليهم بما لا يستحقون.
قال عز وجل مهددا لهم {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ} بمفازة يعني ينجاة من العذاب، أي: لا تحسبنهم بمنجاة من العذاب، بل لهم عذاب أليم.
وهذه الآية يدخل فيها أهل الكتاب أيضا، كما في حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان - وهو ابن الحكم الأموي - كان أميرا على المدينة ومكة، قال: « اذهب يا رافع لبوابه» رافع هو اسم البواب أو الحاجب الذي كان يعمل عند مروان.
قوله: «اذهب إلى ابن عباس رضي الله عنهما» وخص ابن عباس بالسؤال لأنه كان مشهورا بتفسير كتاب الله تبارك وتعالى، وذلك أن النبي [ دعا له كما في الحديث الصحيح: «اللهم علمه التأويل، وفقه في الدين» متفق عليه.
قوله: « فقال له قل له لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعون» أي: إذا كان كل واحد منا يفرح بما أتى من العمل الصالح، أو يفرح بما أعطاه الله تعالى من الخير ومن الفضل، ويكون في نفسه محبا أن يحمد بما لم يفعل، لكن يحب أن يحمد بين الناس، فهل هذا يكون سببا من أسباب العذاب؟!
قوله: « فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما لكم ولهذه الآية؟! إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس قوله تعالى {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران: 187)، يعني: أن هذه الآية نزلت في آل الكتاب، وليست فيكم أيها المسلمون.
وهذا سبب نزول آخر غير السبب الأول، وهل يمكن أن تتعدد أسباب النزول والآية واحدة؟ الجواب: نعم ممكن أن تتعدد والأسباب وتكون الآية النازلة في هذه الأسباب واحدة، أو قد تنزل الآية أكثر من مره لأسباب متنوعة؛ وذلك لسعة مفهوم الآية، فالآية يكون لها مفهوم واسع يشمل أمورا كثيرة، فبمفهومها الواسع تشمل هذه الأسباب المتنوعة؛ لأنها صور متعددة، تدخل بمنطوق هذه الآية.
قال ابن عباس: إن هذه الآية نزلت في أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم والكتاب، ولم ينقادوا للرسول [، ولم يدخلوا في الإسلام وقالوا: نحن على علم، وعندنا كتاب من الله، ونحن أتباع موسى ونحن أصحاب حق، وفرحوا بما عندهم من العلم، كما هو الحال اليوم من النصارى الضالين، الذين يفرحون بما عندهم من الكتاب المحرف، والطقوس الدينية التي هي أشبه باللغو واللعب والغناء والتمتع، ومخالفة الرب سبحانه وتعالى، وزعمهم الابن والولد لله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، فيفرحون بما عندهم من الكفر، ويفرحون بما عندهم من الكتاب المبدل، ويتركون الكتاب العزيز، والقرآن العظيم، الكامل التام الذي حفظه الله تعالى من التحريف والتغيير. وهكذا يدخل في هذه الآية بالمفهوم: أهل البدع الذين يفرحون بما عندهم من البدع والضلال، سواء كانت بدعا قولية، أم بدعا فعلية، فهم يفرحون بما عندهم من الباطل.
وهكذا كل من فرح بما عنده من الباطل القولي أو الفعلي وأحب أن يحُمد عند الناس بما لا يستحق، فهذا لا تحسبنه بمفازة من العذاب، لا تحسبنه بمنجاة من العذاب. وقول ابن عباس: سألهم النبي [ عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره قيل: إن المقصود بذلك أن النبي [ سألهم عن صفته، وهي في التوراة موجودة ومكتوبة، فكتموا وكذبوا وقالوا: إن صفة النبي الذي يبعث في آخر الزمان، لا تنطبق عليك يا محمد، [، فصفة النبي الذي عندنا في كتابنا، والذي بشرت به الرسل، أو بشر به عيسى عليه السلام على وجه الخصوص، هي لا تنطبق عليك يا محمد؛ لأنهم حرفوا الكتاب حتى قال بعض أهل التاريخ والسيرة، أنهم قالوا إن النبي الذي يبعث في آخر الزمان، سبط الشعر، أزرق العينين، أبيض الوجه، جاءوا بصفات محرفة، من أجل ألا تنطبق على النبي [، فالنبي [ تركهم وخرج، وفرحوا هم بهذا الباطل الذي أدوه وظنوا أنهم استطاعوا أن يصرفوا الناس عن الإسلام، وصرفوا أتباعهم، وهم في الحقيقة بهذا العمل يكونون قد أوقعوا أنفسهم في غضب الله وعذابه، وأيضا تحملوا أوزار الذين يضلونهم بغير علم، وهذا أعظم مع أن وزر الواحد فيهم كاف في عذابه، فكيف إذا حمل أوزار العالمين على ظهره؟!
وهكذا دعاة الباطل ودعاة الكفر: فإنهم يتحملون آثام من يتبعهم على باطلهم، كما قال [: « من دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى باطل كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص من آثامهم شيئا» رواه مسلم وغيره.
وأيضا أهل الكتاب وقعوا في ذلك، كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران: 187)، فالله تعالى قد أخذ العهد والميثاق على الأنبياء، وعلى أتباع الأنبياء من ورثتهم، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، فإذا كتم العلماء الحق الذي جاء في كتاب الله، فقد خالفوا الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى عليهم، وصح في الحديث أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول [: «من سئل علما يعلمه فكتمه، ألجم بلجام من نار» أخرجه الترمذي.
ولفظ أبي داود: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة». وهذا دليل على حرمة كتمان العلم مع القدرة على إظهاره، أي إذا كان الإنسان قادرا على إظهار هذا العلم، ولم يمنعه من إظهاره شيء من الموانع التي تمنع من إظهار العلم كالخوف على النفس من القتل، وما أشبه ذلك فهذا محرم.
أما أن يحمد الإنسان على الاستقامة والطاعة، ويحمد على الصفات الجميلة، ويحب ذلك من غير رياء ولا سمعة، دلت الآية بمفهومها على أنه غير مذموم، فلو أحب الإنسان أن يحمد، وأن تكون له سمعة حسنة طيبة بين الناس، وحرص على ذلك بأعماله الصالحة وصفاته الجميلة، وأصلح من نفسه، وعامل الخلق بما ينبغي محبا للسيرة الحسنة بين الناس، ولم يكن في ذلك قصد الرياء، هذا غير مذموم - بل دعت الأنبياء بذلك – فقد قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (الشعراء: 84) أي: اجعل لي لسان ثناء عند الناس، أن الناس تثني علي بخير، وتكون لي سيرة حسنة فيهم وكذلك في قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74)، هذا يدل على أنه لا مانع أن يكتسب الإنسان السمعة الطيبة بين الخلق.





ابوالوليد المسلم 14-03-2024 04:05 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(8)

العدل مع اليتيم

اعداد: الفرقان



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
باب: في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (النساء: 3)
وقوله: {ويَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} (النساء: 127).
2129. عن عُرْوَة بْن الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3). قَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مَالِهِ، فَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنْ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ . قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ [ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ويَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قَالَتْ: وَالَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَوْلُ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتهِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ، إِلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ.
الشرح:
هذا الحديث الأول في سورة النساء، وهو في بيان معنى قوله تبارك وتعالى {ويَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وأورد فيه المنذري حديث عروة رضي الله عنه، وقد رواه مسلم في كتاب أول كتاب التفسير أيضا .
سأل عروة خالته عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) وهذه الآية لها تعلق بقوله عز وجل: {ويَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} فالآية الأولى تقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} أي: إن خفتم ألا تعدلوا في النساء اليتامى اللاتي في حجوركم وولايتكم، فانكحوا سواهن، إذا خفت ألا تعدل في اليتيمة، وألا تنصف هذه اليتيمة وتقوم بحقها، من المهر وغيره، فانكح سواها، مما طاب لك من النساء سواها، من ذوات الدين والخلق والجمال والمال، مثنى وثلاث ورباع .
ومعنى ( مثنى وثلاث ورباع ) يعني: من أحب أن يتزوج اثنتين فليفعل، أو ثلاثا فليفعل، أو أربعا فليفعل، ولا يزيد على ذلك، ولا نقول معنى الآية: اثنين وثلاثا وأربعا، فيكون المجموع تسعا من النساء ؟؟!
بل الصحيح هو الأول، وهو الذي عليه عامة أهل الإسلام، فعامة أهل العلم يقولون: إن المقصود بمثنى وثلاث ورباع، أن يتزوج الرجل اثنتين أو ثلاثا أو أربعا من النساء، وقد دل على ذلك أيضا، عدة أحاديث صحيحة، منها: حديث غيلان الثقفي رضي الله عنه: أنه لما أسلم كان عنده عشر نسوة، فقال [: «أمسك أربعا وفارق سائرهن» وهذا حديث صحيح رواه الترمذي.
وكذلك حديث قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فأتيت النبي [ فذكرت له ذلك، فقال: «اختر منهن أربعا» رواه أبوداود وابن ماجة .
وكذلك حديث نوفل بن معاوية الديلي، أخرجه الشافعي في مسنده .
فإجماع المسلمين إذاً: على أن الرجل لا يحل له في الشريعة الإسلامية: أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة في عصمته .
وأما الآية الثانية: وهي قوله تعالى {ويَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} (النساء: 127) . فالاستفتاء: هو طلب السائل معرفة حكم الله تعالى من العالم به، فيسأل الرجل أو المرأة العالم أو الفقيه، عن حكم الله تبارك وتعالى في النازلة، أو عن معرفة الحكم الشرعي في ذلك الشيء الذي يسأل فيه .
لكن الله تبارك وتعالى يقول هاهنا {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} أي: الذي يتولى بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة هو الله سبحانه وتعالى بنفسه، فهو الذي تولى بيان هذا الحكم الشرعي للمؤمنين، وليس رسول الله [ ولا غيره، فقد كان الصحابة يستفتون الرسول [، ويرجعون إليه في معرفة الأحكام الشرعية؛ لأنه رسول من الله تعالى، فقال ربنا سبحانه وتعالى: {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وهذا يدل على أن هذا الأمر عظيم، وهو أمر اليتامى، وأن وظيفة الإفتاء، أيضا وظيفة عظيمة جليلة، إذ كان الله سبحانه وتعالى يقول: أنا أفتيكم فيها لأنه قال: {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}.
هذا من جانب، ومن جانب آخر: أن الفتيا شيء مهم وخطير، لعظم أثرها؛ وشدة حاجة الناس إليها، ولخطر أثرها؛ لأنها متعلقة بالحلال والحرام في كل شؤون الدين والدنيا، وكان بعض السلف يفتي الناس وهو وجل خائف، ويقول: ها أنا يتعلم مني ما تُضرب فيه الأعناق، وتُستحلّ به الفروج .
فكلام المفتي أثره عظيم؛ لما قد يترتب عليه من الأحكام الشرعية، فقد يسأله السائل فيقول: أنا تزوجت امرأة وحصل كذا وفعلت كذا ؟ فيقول: زواجك صحيح، أو يقول: زواجك باطل ! أو يقول: فلان يستحق القتل، أو الجلد أو الرجم، أو يسأله إنسان يشتري ويبيع فيقول له: هذا حلال وهذا حرام وهكذا، إذاً الأمر متعلق بالدماء والأعراض و الأموال .
ومن هاهناكانت وظيفة الإفتاء عند المسلمين، وظيفة لها شروطها المطلوبة وأهليتها، ولها آدابها؛ فلا ينبغي أن يقدم الإنسان على إفتاء الناس، أو على بيان حكم شرعي إلا بعلم من الكتاب والسنة ومعرفة بأقوال الفقهاء والعلماء، ولا بد أن يسكت عن المسائل التي لا يعرفها فيقول: الله أعلم، أو يقول لمن يسأل: اصبر حتى أسأل لك، أو حتى أراجع، وما أشبه ذلك .
قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} أي: في يتامى النساء، سواء كن زوجات أم صغيرات، فاتركوا ظلمهن، وقوموا بحقوقهن .
قوله: {وما يتلى عليكم في الكتاب} وهذا نوع من الربط بين الآيات في كتاب الله سبحانه وتعالى، أي: ما جاءكم في كتاب الله تبارك وتعالى في يتامى النساء فارجعوا إليه؛ لأن الله تبارك وتعالى قد تحدث عنه في موضع سابق، فقال {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} فهذا إخبار عن الحالة الواقعة في زمنهم، فاليتيمة تكون على حالتين: اليتيمة التي تكون تحت وليها من الرجال، فإذا كانت تحت ولاية رجل ثم هذه اليتيمة بلغت، وأراد أحد الناس أن يتزوجها، يتقدم إلى وليها فيطلب الزواج بهذه اليتيمة، فعند ذلك بعض الأولياء يظلم هذه اليتيمة، فيمنعها من الزواج؛ خشية أن يذهب زوجها بمالها، أو أن تذهب هي بمالها، بأن تأخذ حقها منه، والذي أكل بعضه أو أكله كله فيمنعها من الزواج طمعا في مالها، أو أن يطلب مهرا عاليا من الرجل الذي يريد الزواج بها، من أجل أن يعدل عن الخطبة، ويمسكها ظلما وعدوانا، هذا إذا كان لا يريد أن يتزوجها.
أما الحالة الثانية: أن تبلغ اليتيمة عنده، وهو ليس من محارمها، وإنما هو وصي عليها، ويريد أن يتزوج بها، لكن لأنها يتيمة ليس لها أهل أو ولي، فإنه لا يقسط لها، أي لا يعطيها حقها الذي تأخذه مثيلاتها من النساء، بالنسبة للمهر، لأنها يتيمة !
فمثلا مهر اليتيمة ألف أو ألفان أو ثلاثة، فيعطيها خمسمائة فقط !! لأنها يتيمة فلا يعدل في مهرها، لا يعدل في حقها لأنها عنده، وهذا ظلم يدخل تحت هذه الآية .
إذاً فقول الله عز وجل، {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} له معنيان: ترغبون أن تنكحوهن يعني: ترغبون عن نكاحهن - لا ترغبون بالزواج بهن - وتمنعوهن مع ذلك من الزواج بغيركم من أجل المال .
والمعنى الثاني: وترغبون أن تنكحوهن، يعني: ترغبون بالزواج بهن، فإذا أردت ذلك فلا بد أن تقسط في مهرها وتعطيها حقها؛ لأن اليتيمة في هذه الحال مستضعفة، والله سبحانه وتعالى قد أفتاكم في المستضعفين من اليتامى والولدان والنساء، أن تعطوهم حقهم من الميراث، وألا تستولوا على أموالهم، ولا تبخسوهم إياها، على وجه الظلم، والقهر والاستبداد، فالله تعالى قد قال: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط} يعني: بالعدل، وهذا يشمل القيام على أموالهم بالقسط، بألا تأكل أموالهم، ولا تأكل بعضها، ولك أن تشاركهم فيها إن كنت محتاجا فتأكل بالمعروف، كما سيأتي في الآية التي بعدها، فالله سبحانه يأمر هؤلاء الأولياء بالقيام على أموال اليتامى بالقسط، ومن ذلك استثمارها لهم وتنميتها وتكثيرها بالاتجار فيها، وألا يقربوها إلا بالتي هي أحسن أي بالحال التي تصلح بها أموالهم، فلا يحابون في أموال اليتامى أحدا، ولا يضيعونها بالهدايا أو إعطاء الأموال للناس محاباة من مال اليتيم !! لا يجوز له أن يفعل ذلك! بل عليه ألا يقربها إلا بالتي هي أحسن، كما قال الله عز وجل:{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} حتى لا تقع في الظلم وهضم الحقوق.
وقوله: {والمستضعفين من الولدان} أي: ويفتيكم في المستضعفين من الولدان الصغار أن تعطيهم حقهم من الميراث، وألا تستولوا على أموالهم وحقوقهم ظلما وعدونا، وقد بين الله تعالى جزاء من يفعل ذلك في قوله سبحانه: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم وسيصلون سعيرا} (النساء: 10), فما أكلوه بغير حق، سيكون نارا تتأجج في أجوافهم، وسيصلون نارا محرقة، وهذا يدل على أن هذا الأمر من الكبائر العظيمة .
ثم حثّ الله سبحانه وتعالى على الإحسان، فقال: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} (النساء: 127).
يعني: سواء كان هذا الخير لأنفسكم من عبادة وقربة وصلاح، أو كان خيرا متعلقا بالغير كالنفقة على الأهل والأقارب، والزكاة والصدقات للفقراء والمساكين، فإن الله عليم بكل شيء، أحاط علمه بكل شيء، سواء كان قليلا أو كثيرا، حسنا أو غير حسن، فسيجازي كلا بعمله .
فهذه الآية إذاً: توجيه لأولياء الأيتام الذين تكون اليتيمة في حجورهم بالعدل فيهن على كل حال.
وشبيه بذلك أيها الإخوة اليوم: ما يفعله بعض الآباء هداهم الله، الذين يمنعون بناتهم من الزواج، طمعا في رواتبهن؟! أو طمعا في الأموال التي عند ابنته، فيمنعها من الزواج، ويرد الخطاب من أجل هذا الشيء ؟! فيكون سببا في تعاستها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مع أن الأب في العادة أرحم الناس بأبنائه، لكن لهذه القاعدة شواذ، عافانا الله جميعا من منكرات الأخلاق والأعمال.





ابوالوليد المسلم 14-03-2024 04:07 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(9)

أموال اليتامى


اعداد: الفرقان


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله. ذكرنا في الحلقة السابقة حاجة اليقظة الإسلامية، والشباب المهتدي إلى الضوابط الشرعية، التي تضبط له منهجه وطريقه، ورجوعه إلى الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنه سيخسر جهده ووقته، ويخسر أفراده، ويضيع كل ذلك سدى. ومن الكتب النافعة المفيدة في هذا المضمار، كتاب: «الاعتصام بالكتاب والسنة» من صحيح الإمام البخاري، وقد اخترنا شرح أحاديثه والاستفادة من مادته المباركة.
2130. عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْله {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 6). قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِي وَالِي مَالِ الْيَتِيمِ، الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُهُ، إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ.
- الشرح: الحديث رواه مسلم أيضا في التفسير من كتابه الصحيح. وهذه الآية في أموال اليتامى من سورة النساء، يأمر الله سبحانه وتعالى فيها أولياء الأيتام - كما ذكرنا في الحديث السابق - بالعدل والقسط في أموال اليتامى التي يلونها، إذ يقول في أولها {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبداراً أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً} (النساء: 6).
فيأمر الله تعالى فيها أولا باختبار اليتامى فيقول: {وابتلوا اليتامى} وذلك بأن يدفع لليتيم الذي بلغ الحلم شيئا من ماله ليتصرف فيه، وينظر هل يتصرف فيه برشد، أم بسفه ؟ كأن يبذره، أو يصرفه فيما لا فائدة فيه، أو في المعاصي، فبذلك يتبين رشده من سفهه، فإن كان لا يحسن التصرف بماله، لم يدفع له بقية المال؛ لأنه باق على سفهه، ولو بلغ عمرا كبيرا.
أما إذا تبين رشده وصلاحه للتصرف بالمال، فإنه يدفع له ماله كاملا موفراً، لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} رشدا: يعني: صلاحا في دينهم، وحفظا لأموالهم، قاله الحافظ ابن كثير.
وقوله: {ولا تأكلوها إسرافا} أي: مجاوزة للحد الذي أباحه الله لكم في الإنفاق، ومن غير حاجة ضرورية.
وقوله: {وبداراً أن يكبروا} أي: مبادرة قبل بلوغهم، فهم صغار لا يمكنهم منعكم من أخذها أو أكلها.
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} من كان في غنية عن مال اليتيم، فليستعفف عنه فلا يأكل منه شيئا، الغني عن أموال اليتامى، ينبغي له أن يستعفف عنها؛ لأن الله سبحانه قد أغناه ، وما دام قد أغناه الله فلا يمد بصره ويده إلى مال اليتيم، ولا يأكل منه إلا معه على وجه المشاركة، التي لا يمكن فيها الفصل، مثل أن يشتري طعاما من ماله ومن مال اليتيم، فيتشاركان في الأكل، أو يتشاركان في السكن في بيت اشتري بمالهما جميعا، أو ما أشبه ذلك.
فالغني إذاً عليه أن يستعفف بما أحل الله له من الطيبات عن مال اليتيم.ومن كان فقيرا محتاجا، فليأكل بالمعروف، أي: بما تعارف عليه الناس .
قالت عائشة رضي الله عنها: بقدر قيامه عليه. رواه البخاري. أي: يقدر أجرته بقدر قيامه وعمله في مال اليتيم، كالموظف لذلك.
وقال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين: أجرة مثله أو قدر حاجته. فالفقير له أن يشارك اليتيم في ماله بالمعروف، بما تعارف عليه الناس، لا يسرف في أموال اليتامى، بحجة أنه يأكل مع اليتيم، ولا يشتري شيئا خاصا له من مال اليتيم، كأثاث لبيته أو شيء لأولاده، ولا يستأثر بأموال اليتامى دون اليتامى، والله سبحانه وتعالى قد حذر من أكل أموال اليتامى ظلما، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء: 10)
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله [ فأنزل الله {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم} (البقرة: 220)، قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم. رواه أبوداود والنسائي وابن جرير في تفسيره.
وقوله {وإن تخالطوهم} أي: وإن خلطتم طعامكم بطعامهم فلا بأس.
{والله يعلم المفسد من المصلح} أي: الله عليم بمن قصده ونيته الإصلاح أو الإفساد.
وولي اليتيم عليه القيام بإصلاح مال اليتيم والمتاجرة فيه قدر المستطاع، وتكثيره بأحسن الطرق، وأبعدها عن الخطر، كما جاء في الأثر عن عمر ] أنه قال: « اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة».
فولي اليتيم عليه كما قالت عائشة رضي الله عنها: أن يقوم عليه ويصلحه، وهذا هو الواجب، أن يقوم على هذا المال وأن يصلحه ويستصلحه، وان يطلب له الأحق، وأن يتجنب ما يهلك هذا المال أو يعطبه، بأن ينميه له ويكثره بالطرق المشروعة .
وولي اليتيم قد نهي أيضا أن يقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، قال سبحانه وتعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} (النساء: 6).
وقال بعضهم: إن هذه الآية نسخت قول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 6).
والصحيح أن الآية ليست منسوخة، وإنما على والي اليتيم أن يأكل بالمعروف، يعني المتعارف عليه بين الناس، فلا يترف ويتوسع في أموال اليتامى ويبالغ في التمتع أو التنعم بالمطعوم والمشروب والملبوس، وإنما يأكل بقدر الحاجة.
جاء في مسند الإمام أحمد، وأصحاب السنن إلا النسائي، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا سأل النبي [ فقال: « ليس لي مال، ولي يتيم» فقال [: « كُل من مال يتيمك غير مسرفٍ ولا مبذّر، ولا متأثل مالا « رواه أحمد.
وروى ابن حبان وصححه: عن جابر ]: أن رجلا قال: يا رسول الله، فيم أضرب يتيمي؟ قال: « ما كنت ضاربا منه ولدك، غير واق مالك بماله، ولا متأثل مالاً ».
وروى ابن أبي الدنيا: عن أمير المؤمنين عمر ] قال: « إني أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت اسقترضت، فإذا أيسرت قضيت» وإسناده صحيح.
وهذا الرأي بناء على قول من قال: إن من أكل من مال اليتيم، عليه أن يقضي إذا أيسر. والقول الثاني: أن له أن يأكل بالمعروف، دون أداء البدل. وهو الصحيح إن شاء الله. فقول النبي [ لولي اليتيم: « كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر» التبذير والإسراف حرمهما الله عز وجل، والإسراف هو المبالغة في الشيء، والتبذير هو الإنفاق فيما لا ينفع.
« ولا متأثل مالا» أي: لا تتخذ لنفسك مالا تجمعه من مال اليتيم، ولا أن تأخذ لنفسك من مال اليتيم شيئا خاصا بك، لا نفع له فيه، كأن تشتري لنفسك سيارة مثلا، أو تؤثث بيتك الخاص، فهذا لا نفع لليتيم فيه، بل هو نفع خاص بك أنت.
وقوله « غير واقٍ مالك بماله» يعني: ألا تتقي مالك بماله، بأن تضع مالك في الحفظ والحصون، وتصرف من مال اليتيم ؟! هذا محرم، لكن أن تشاركه في التجارة، فتضع شيئا من عندك وهو يضع شيئا من عنده وتشتركان في الشيء الذي تنتفعان به، فلا مانع في ذلك.
وهذا الحديث: فيه تفسير وبيان منه عليه الصلاة والسلام، بمقدار الأكل من أموال اليتامى بالنسبة للفقير والمحتاج والوصي.
والله تعالى أعلم، وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



ابوالوليد المسلم 15-03-2024 04:41 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(10)

باب في قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}


اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2131- عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ[ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِ[َ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَقْتُلُهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا فَنَزَلَتْ {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْن}.
الشرح :
الباب التاسع من كتاب التفسير من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري، هو في قوله تبارك وتعالى من سورة النساء وهي الآية الثامنة والثمانون: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، والآية بتمامها يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء: 88).
هذه الآية أورد فيها الإمام مسلم رحمه الله، حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقد ذكره في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم: أن النبي[ خرج إلى أُحد، فرجع ناسٌ ممن كان معه، فكان أصحاب النبي[ فئتين، قال بعضهم: نقتلهم، وقال بعضهم: لا، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وشرح الحديث: أن النبي[لما خرج إلى غزوة أحد، خرج معه عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه، فلما كانوا ببعض الطريق خذلوا رسول الله[ ورجعوا إلى المدينة؟! كيدا ومكراً! فحصل من جراء ذلك خلخلة وبلبلة في جيش المسلمين، لرجوع بعض الجند منهم ، بعد ما خرجوا من المدينة وعزموا على ملاقاة عدوهم . قال ابن إسحاق: أن عبدالله بن أبي رجع بثلث الجيش، رجع بثلاثمئة وبقي النبي[ في سبعمائة.
وهم أرادوا أن يحصل مثل هذا، في صفوف أصحاب رسول الله، فلما قرب القتال اعتذروا بأعذار واهية، وقالوا كما حكاه القرآن: {وليَعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ}، وهذا كذبٌ منهم، فإنهم يعلمون حنق المشركين وغيظهم على المسلمين ، وأنهم يتحرقون على قتالهم، بما أصابوا منهم يوم بدر، من قتل ومال، قال تعالى: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم}؛ لأنهم منافقون، يظهرون مالا يبطنون في قلوبهم، ومنه قولهم هنا {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ}، ولكن المنافقين ظنوا أن هذا العذر يروج على المؤمنين ، قال الله تعالى مهددا لهم: {والله أعلم بما يكتمون}.
فكان أصحاب النبي[ بعد ذلك، لما رجعوا إلى المدينة اختلف فيهم أصحاب النبي[ فيهم فرقتين، فقالت فرقة: نقتلهم، لأنه حصل منهم خيانة عظيمة للنبي[ وللمسلمين، وخذلان للإسلام، ومحاولة لبث الفرقة والزعزعة في صفوف الجيش وإضعافه.
وقالت طائفة: لا نقتلهم؛ لأنهم مسلمون يظهرون الإسلام، فنزلت الآية: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء: 88).
فلأنهم يظهرون الإسلام، توقف فيهم بعض أصحاب النبي[، ولكنهم في الحقيقة منافقون، ودلّت أعمالهم على ما في قلوبهم.
قال زيد بن ثابت فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْن}.
وقوله: {وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ} يعني: أن أعمالهم وما كسبت أيديهم، سبب في ارتكاسهم في الكفر، ووقوعهم فيه, ومثل هذه الأعمال الكفرية، يستدل بها على كفر الإنسان، وعلى خبث طويته، وظلمة قلبه .
وقوله: «أتريدون أن تهدوا من أضل الله» فمن أضله الله فلا هادي له، وهؤلاء قد أضلهم الله بسبب ما كسبت أيديهم، وما أضمروه من العداوة لله والرسول، ومجرد إظهار الإسلام، لا يدل على إسلامهم؛ لأن قرائن أفعالهم يحكم بها العاقل عليهم .
وقال بعض أهل التفسير: المراد بالمنافقين هنا، هم من أظهروا الإسلام ولم يهاجروا إلى رسول الله[، فقد كانت الهجرة واجبة في زمن النبي[ قبل الفتح، وكل من أسلم، وجب عليه أن يهاجر إلى رسول الله[، وأن يفارق قومه المشركين إلى المدينة النبوية، فقال الله تعالى لهم: لا تتحرجوا من قتالهم.
ولكن الآية التي بعدها تبين أن المراد بالمنافقين هاهنا، هم المنافقون الذين لم يهاجروا، أظهروا الإسلام ولكنهم لم يهاجروا، بدليل قوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} (النساء: 89)، هذا أيضا مما أطلعنا الله سبحانه وتعالى من ضمائرهم، وما انطوت عليه قلوبهم، وهو أنهم يودون لو أن المسلمين كفروا وارتدوا عن إيمانهم وإسلامهم إلى الكفر، فيكونون سواء، يعني: لا يقتل بعضهم بعضا، لأن الجميع سواسية في الكفر ، فلا تفضلونهم بالإسلام ! فهذا خبر من الله عز وجل عن هؤلاء المنافقين .
وهذا والعياذ بالله من الأمراض القلبية، أن الإنسان إذا انحرف عن الصراط المستقيم، يود لو أن الناس كلهم صاروا مثله، فبعضهم إذا رأى شابا مستقيما، تضايق وحاول أن يغريه ويضله عن سبيل الله؛ لأنه يكره أن يراه متميزا عليه بالصلاة وبالاستقامة وبالخوف من الله، واتقاء حدود الله عز وجل ومحارمه، فيود لو أنه انحرف كما انحرف، وكفر كما كفر، وفسق كما فسق، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} (النساء: 89).
فالآية تبين أن المنافقين الذين حصل فيهم الاختلاف وانقسم فيهم الصحابة إلى فرقتين، هم هؤلاء المنافقين الذين أظهروا الإسلام ولم يهاجروا ، والسبب في إظهارهم الإسلام هو أنهم يريدون أن يأمنوا جانب النبي[ وأصحابه فلا يقاتلونهم، ولم يهاجروا في سبيل الله لأنهم مستفيدون بالبقاء في أهليهم وديارهم وفي أموالهم، فلا يريدون أن يخسروا شيئا بالهجرة.
ولهذا قال الله تبارك وتعالى: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ} (النساء: 89) أي: إن تولوا عن الهجرة، يعني: لم يهاجروا، فلا تتحرجوا من قتالهم، بل {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ} (النساء: 89) أي: في أي وقت وزمان، وفي أي محل ومكان.
وهذه الآية من الأدلة التي يستدل بها على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول الجمهور؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ}، والمخالفون يقولون: هذا نص عام، تقيده نصوص تحريم القتال في الأشهر الحرم.
ثم استثنى الله سبحانه وتعالى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فرق: فرقتين أمر بتركهم وأوجب ذلك ، الفرقة الأولى: من يصل إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فمن يصل من هؤلاء المنافقين إلى قوم بينكم أيها المسلمون وبينهم ميثاق وعهد، فهؤلاء لا تقاتلونهم لأنهم صاروا في صفوفهم وحكمهم، فمن انضم إلى قومِ صار له حكمهم بالدم والمال.
والفرقة الثانية: من قال تعالى فيهم: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} (النساء: 90) يعني: ضاقت أنفسهم بقتالكم، فلم تسمح أنفسهم بقتالكم، فتركوا قتالكم، وتركوا قتال قومهم ، فهؤلاء أيضا أمر الله سبحانه وتعالى أن يتركوا، وألا يقاتلوا، وأخبر سبحانه أنه لو شاء لسلط هذه الفرقة التي تركت قتالكم، فقال: {ولو شاء لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} فاقبلوا من الله عافيته واحمدوه .
أما الفرقة الثالثة: فهم قوم يردون مصلحة أنفسهم والسلامة، بغض النظر عن احترامكم، كما قال سبحانه وتعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ} (النساء : 91)، فهؤلاء الذين أمر الله سبحانه وتعالى بقتالهم حيث وجدتموهم، هم كالفرقة التي اختلف فيها الصحابة سابقا؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين أن حكمهم واحد، أن لم يعتزلوا قتال المؤمنين إلا لمصلحة أنفسهم، فالواجب قتالهم.
فإذاً ربنا سبحانه وتعالى أنكر على الصحابة عندما اختلفوا في قتال الفرقة المارقة، التي ظهرت منها علامات الكفر والردة والإلحاد.
وفي هذا الحديث أيضا: زاد في آخره: قال النبي[: «إنها طيبة « يعني المدينة النبوية ، فسماها النبي[» طيبة و طابة من الطّيب، وأمر أن تسمى بذلك، بدلاً من اسمها في الجاهلية ، وهو يثرب، لخلوصها من الشرك، وتطهيرها منه.
قوله: «وأنها تنفي الخبث، كما تنفي النار خبث الفضة»، فالمدينة تنفي الخبيث من الناس، كما تنفي النار خبث الفضة، أي:كما أن من أراد أن ينقّي الفضة أو الذهب أو الحديد أو غيرها من المعادن، فإنه يضعها على النار، ليخرج منها الخبث، ويخرج منها الزبد {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء} (الرعد: 17)، فإذا وضعت المعدن على النار حصل له النقاء، بخروج الخبث منه، فهكذا الفتن والشدائد تنقي الناس ، وتبين معادنهم، فإن الناس في حال الرخاء لا يكادون يعرفون، ففي حال الرخاء لا تكاد تعرف المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، من ضعيف الإيمان، لكن إذا جاءت الفتن - عافانا الله وإياكم - سواء فتنة السراء أو فتنة الضراء، فعند ذلك تخرج أحوال الخلق، وتبلوا معادن الناس، فتعرف ما في قلوبهم من أعمالهم، أي بقرائن أفعالهم تعرف أحوال الناس ومعادنهم.





ابوالوليد المسلم 15-03-2024 04:43 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(11)

تعظيم قتل النفس المؤمنة

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2132. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلِـمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَتَلَوْتُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْفُرْقَان:ِ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ، نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}.
الشرح: الباب العاشر: باب قوله تبارك وتعالى من سورة النساء أيضا، وهي الآية الثالثة بعد التسعين، قوله سبحانه وتعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء: 93).
وقد رواه الإمام مسلم في كتاب التفسير أيضا. والحديث عن سعيد بن جبير، وسعيد بن جبير هو الأسدي مولاهم الكوفي، ثقةٌ ثبت فقيه، أحد الأئمة في التفسير، ومن أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما المكثرين من الرواية عنه.
يقول: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال لا، قال فتلوت عليه هذه الآية في الفرقان، وهي: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان: 68 – 70).
يعني أن الله سبحانه وتعالى أخبر في هذه الآيات أن من تاب إليه، تاب الله عليه؛ لأنه يقول: {إِلّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} فكيف تقول ليس له توبة؟!
قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ، نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا}. أي قال ابن عباس رضي الله عنهما ردّا عليه: هذه آية مكية، وسورة الفرقان سورة مكية نزلت بمكة، فنسختها آية مدنية، وهي الآية التي في سورة النساء: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} فهذه آية مدنيه نسخت هذه الآية المكية، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما هاهنا.
قال الإمام النووي رحمه الله: هذا هو المشهور عن ابن عباس - أي إنه كان يقول ليس لقاتل المؤمن توبة - وروي عنه أن له توبة، وجواز المغفرة له؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء: 110).
قال: وهذه الرواية الثانية هي مذهب جميع أهل السنة والصحابة والتابعين، ومن بعدهم - يعني أن لقاتل المؤمن توبة - قال: وما روي عن بعض السلف مما يخالف هذا محمول على التغليظ، والتحذير من القتل، والتورية في المنع منه، وليس في هذه الآية التي احتج بها ابن عباس رضي الله عنهما أنه يخلّد، وإنما فيها أنه جزاؤه جهنم، ولا يلزم منه أنه يجازى، وقد سبق تقرير هذه المسألة وبيان معنى الآية في كتاب التوبة. انتهى.
فهذه الآية التي ذكرها ابن عباس من سورة النساء، وهي آية عامة، ومن سورة مدنية وهي قوله: {ومن يعمل سوءا...} أي: عملاً سيئا، وهي تعم جميع الذنوب والمعاصي والكبائر {أو يظلم نفسه} يعم جميع أنواع الظلم {ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} وعدٌ بالمغفرة لها جميعا إذا هو ندم وتاب واستغفر.
أما قوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء: 93).
فيخبر الله سبحانه وتعالى أن قاتل المؤمن متعمدا جزاؤه جهنم خالدا فيها، لكن ربنا سبحانه وتعالى قد يصرف عنه هذا العذاب بأشياء كثيرة، وبأعمال متعددة، وأعظمها التوحيد، ثم الأعمال الصالحات، والمصائب المكفرات، فيصرف الله سبحانه وتعالى الخلود عنه في نار جهنم بتلك الأمور، وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلام جميل في هذه الآية، وبيان ما في هذا الوعيد الشديد الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، في قاتل المؤمن، وأنه وعيد ترجف له القلوب، وتنصرع له الأفئدة، وينزجر منه أولو العقول، ولم يرد في شيء من الكبائر من الوعيد، أعظم من هذا الوعيد، فلم يرد في كتاب الله تبارك وتعالى تشديد ووعيد في ذنب من الذنوب مثل ذنب قتل المؤمن عمدا، فالله سبحانه وتعالى ذكر فيه خمسا من أنواع التشديدات: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} فهذه خمسة أنواع من التشديدات، الأول: أن جزاءه جهنم , الثاني: خالدا فيها. الثالث: غضب الله عليه، الرابع: لعنه الله، الخامس: أعد له عذابا عظيما، نسأل الله العافية من ذلك كله.
وهذه الآية أيضا: دليل على أن قاتل المؤمن ليس بمؤمن؛ لأن القتل ينافي الإيمان الصحيح، الإيمان الكامل التام، فالمؤمن حقا لا يمكن أن يقتل مؤمنا؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في الآية التي قبلها: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} (النساء: 92).
أي لا يتصور أن المؤمن يقتل مؤمنا أبدا! إلا أن يقع منه خطأ دون عمد، كأن يحصل منه إهمال أو استعجال، مثل أن يرمي طيرا فيقع في مؤمن، أو أن يكون سائرا بسرعة، أو مهملا وغافلا فيقع في قتل مؤمن، أما القتل العمد، فهذا العمل لا يصدر عن المؤمن أبدا؛ لأنه مما ينافي إيمانه بالله، واتباعه لشريعة الله، وقال [: « الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن « رواه أحمد وأبوداود.
والفتك: هو القتل غفلة وخديعة والاغتيال، فالمؤمن لا يفعل ذلك.
ولكن القتل من الكبائر، وأئمة أهل السنة والجماعة متفقون على أن كل الكبائر لا تخرج الإنسان من حد الإيمان والإسلام، فلا توجد كبيرة ولا ذنب إذا فعلها الإنسان يكون كافرا بالله تعالى، إلا إذا استحلها، وإلا الشرك بالله بأنواعه وصوره، والكفر بالله بأنواعه وصوره، وأما ما كان دون الشرك والكفر، فقد قال سبحانه تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48).
فما دون الشرك، فإن الله سبحانه وتعالى يغفره للعباد، وخالف في ذلك الخوارج والمعتزلة، فقد أخرجوا الإنسان من الإيمان والإسلام بذنوبه، فالخوارج والمعتزلة يقولون: إذا سرق العبد كفر ! وإذا زنى كفر ! وإذا شرب الخمر كفر! وهكذا.
وهذا طبعا خلاف الأدلة الكثيرة التي وردت في كتاب الله تبارك وتعالى، وفي سنة رسوله [، ومن أظهر وأوضح الأدلة على عدم كفر القاتل: أن أولياء الدم إذا عفوا عن القاتل، ورضوا بالدية، سقط القصاص عن القاتل، فلو كان القتل كفرا على كل حال لكان يجب قتله على كل حال، ولا يقبل منه عفو.
ومن الأدلة أيضا: أن الله سبحانه وتعالى سمى القتيل أخا للقاتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 178).
وأيضا: شارب الخمر يجلد ويترك، فلو كان شرب الخمر كفرا، لكان يجب أن يقتل على كل حال ! وكذلك السارق تقطع يده ويترك، ولو كان كافرا لكان يجب أن يقتل. وهذه بعض الأدلة من الأدلة الكثيرة، من كتاب الله تبارك وتعالى، والتي ذكرها أهل العلم ردّا على الخوارج والمعتزلة.
وقال الإمام المحقق شمس الدين ابن القيم رحمه الله في «المدارج»، بعد أن ذكر تأويلات الأئمة وانتقدها، قال: وقالت فرقة إن هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة، ومقتضى لها.
أي: إن الله سبحانه وتعالى ذكر أن ذنب القتل يقتضي دخول النار، والخلود فيها واللعنة والغضب، لكن هذا المقتضي قد يكون له موانع، وقد قام الدليل على ذكر الموانع، بعضها بالإجماع وبعضها بالنص، فالتوبة مانع من العقوبة بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة من الخلود في النار، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، وكذا المصائب مكفرة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص، فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين، ولا بد من الموازنة بين الحسنات والسيئات، واعتبار مقتضي العقاب ومانعه، وإعمال الأرجح منها.
قالوا: وعلى هذا المنوال بناء مصالح الدارين ومفاسدهما، أي: على هذا النهج الذي هو الموازنة بين الحسنات والسيئات، والنظر لمقتضي العقوبة والمانع منها، بناء مصالح الدارين، دار الدنيا والآخرة، وعلى هذا أيضا بناء الأحكام الشرعية، فالأحكام الشرعية مبنية على هذا، على الموازنة بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد، وهكذا الأحكام القدرية التي يجري بها قدر الله سبحانه وتعالى، وهي مقتضى الحكمة السارية في الوجود، وفيه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا.
ثم قال: « وقد جعل الله سبحانه لكل ضدٍ ضداً يدافعه ويقاومه، ويكون الحكم للأغلب منهما، فالقوة مقتضية للصحة والعافية، وفساد الأخلاق وبغيها، مانعٌ من عمل الطبيعة وفعل القوة والحكم للغالب منهما، وكذلك قوى الأدوية والأمراض، والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه؛ فإذا ترجح عليه وقهره، كان التأثير له.
ومن هنا يُعلم انقسام الخلق: إلى من يدخل الجنة ولا يدخل النار، وعكسه: من يدخل النار ولا يدخل الجنة، ومن يدخل النار ثم يخرج منها، ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث، في سرعة الخروج وبطئه، ومن له بصيرة منوّرة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه، من أمر المعاد وتفاصيله، حتى كأنه يشاهده رأي العين، ويعلم أن هذا مقتضى إلهيته سبحانه وربوبيته، وعزّته وحكمته، وأنه مستحيلٌ عليه خلاف ذلك، ونسبة ذلك إليه، نسبة ما لا يليق به إليه، فيكون ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره، وهذا يقين الإيمان، وهو الذي يحرق السيئات كما تحرق النار الحطب، وصاحب هذا المقام من الإيمان، يستحيل إصراره على السيئات، وإن وقعت منه وكثرت، فإن ما معه من نور الإيمان، يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه. وهذا من أحب الخلق إلى الله» انتهى كلامه وجزاه عن الإسلام خيرا.
فمقتضى الإيمان ولازمه: أن العبد لا يصر على الذنب وعلى الكبيرة، بل يتوب إلى الله سبحانه وتعالى في كل وقت وحين، بل يتوب إلى الله عز وجل عدد الأنفاس؛ لأن الإصرار على المعاصي مما يخالف الإيمان، وباب التوبة مفتوح، لم يغلق ولن يغلق، حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذا الباب مفتوح لكل عاص، ولكل من قصد الدخول فيه، بل لو وقع في الشرك الذي هو أعظم الذنوب وأشدها، فإن التوبة تمحوه إذا تاب إلى الله توبة نصوحا قبل موته.
وكذلك لو دخل الإنسان في هذا الباب ثم خرج منه، يقبل منه أن يرجع إليه مرة أخرى، أي: من دخل في باب التوبة ثم خرج منه، بأن غلبته نفسه ورجع إلى الكبيرة مرة أخرى، فإنه إن تاب وندم بعدها ورجع، يقبل منه توبته.
ولو تكرر منه ذلك عشرات المرات، فكيف بما دون ذلك من المعاصي؟!
لكن قال أهل العلم بالنسبة لقاتل العمد: إنه لا بد له من الاعتراف بالنفس وتسليم نفسه للقصاص؛ لأن من توبته الصحيحة ردّ الحقوق إلى أصحابها، أما مجرد التوبة من القاتل عمدا وعزمه على ألا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف ولا تسليم نفس فهذا توبته فيها نقص، ولا نقطع بقبولها، بل مرد أمره إلى الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، وهو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.





ابوالوليد المسلم 19-03-2024 03:19 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (12)

خطـر التكفـير!

اعداد: الفرقان





الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب: في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}.
2133. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقِيَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا تِلْكَ الْغُنَيْمَةَ، فَنَزَلَتْ {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وَقَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ {السَّلَامَ}.
الشرح:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الباب الحادي عشر من كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري: باب في قوله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وهي الآية الرابعة والتسعون من سورة النساء، وقد روى الإمام مسلم هذا الحديث في كتاب التفسير. وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله: لقى ناس من المسلمين رجلا في غنيمة له فقال: السلام عليكم، فأخذوه فقتلوه وأخذوا تلك الغُنيمة، فنزلت {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قرأها ابن عباس: السلام.
هذا الحديث هو حكاية حادثة حدثت على عهد النبي[، ونزلت فيها آية الباب، وهي أن رجالا من الصحابة كانوا في غزوه مسافرين، وفي أثناء السفر لقوا رجلا يرعى غنما له، فسلّم عليهم فقال: السلام عليكم، فقالوا: سلَّم علينا ليحمي نفسه؟! وليعصم دمه وماله منا؟! فقتلوه.
قوله: «وأخذوا تلك الغنيمة»، الغنيمة تصغير الغنم، يعني: معه شيء يسير من الغنم، فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة مغنما؟! باعتبار أنه رجل كافر؟! فنزلت هذه الآية.
فقال الله تعالى فيها معاتبا، وآمرا عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادا في سبيله، وابتغاء مرضاته، وإعلاء كلمته، أن يتثبتوا ولا يستعجلوا، والتثبت إنما يكون في الأمور غير الواضحة والملتبسة، أما الأمور الواضحة فإنها لا تحتاج إلى تثبت، فالأمر الجلي البين، لا يحتاج فيه الإنسان إلى التثبت والتحري، أما الأمور الخفية والمشتبهة والمشكلة، فعلى المسلم أن يسأل ويتأكد من الأمر، وينظر هل يقدم عليه أو يحجم؟ هل يفعل أو لا يفعل؟
والتثبت في الأمور المشكلة فيه فوائد كثيرة، ويحصل به العصمة من شرور كثيرة، فالعبد إذا توقف وتبين قبل أن يقدم على الأمر، استطاع بعد التأكد والتثبت أن يفعل الصواب، أما المستعجل فقد يضع الأمور في غير نصابها بسبب العجلة، كما جرى لهؤلاء النفر من الصحابة رضي الله عنهم الذين عاتبهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية؛ لأنهم لم يتثبتوا، وقتلوا من أظهر الإسلام – وهو من سلّم عليهم – وكان معه شيء يسير من المال، وظنوا وتأولوا أنه إنما فعل ذلك من أجل أن يعصم نفسه، ويحمي دمه وماله!
وهذا الخطأ من الصحابة غير مقصود، بل هو اجتهاد خاطئ؛ ولهذا عاتبهم الله سبحانه وتعالى وناداهم باسم الإيمان، فقال: {يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله} أي: سافرتم لأجل الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله في الأرض {فتبينوا} أي: تثبتوا في الأمور المشتبهة، ولا تستعجلوا، {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} أي: لا تقولوا لمن أظهر لكم الإسلام، وقال لكم: السلام عليكم، وهي كلمة الإسلام المشتهرة عندكم، وهي من شعائر دينكم، ومما يميزكم عن غيركم، لا تقولوا له: لست بمسلم؟! إذ كيف تقولون له ذلك، وهو قد أظهر الإسلام؟! فهل شققتم عن قلبه؟! واطلعتم على داخلة نفسه؟
وقد قال النبي [ مرة لخالد بن الوليد رضي الله عنه لما قال: ألا أضرب عنقه؟ لما اعترض الرجل على قسم النبي[ للغنائم، فقال[ له: «لا، لعله أن يكون يصلي؟ « فقال خالد: كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال له[: «إني لم أؤمر أن أنقّب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم؟» رواه البخاري ومسلم.
أي إن الله عز وجل لم يأمرنا أن نشق عن صدور الناس، ونرى ما في قلوبهم، ونرى هل قالوا هذه كلمة الإسلام بصدق وإخلاص؟ أم قالوها نفاقا وتقية؟ نحن شرعاً لم نؤمر بذلك، بل أمرنا الله ورسوله بأن نعامل الناس بالظواهر، والله يتولى السرائر، وهذا من القواعد الثابتة في الشريعة الإسلامية: أن الأمور تؤخذ بظواهرها، وأما البواطن فإنها موكولة إلى الخالق سبحانه وتعالى علام الغيوب، حتى إن النبي[ كان يقبل من المنافقين اعتذارهم إذا تخلفوا عن الجهاد معه؛ عملا بهذه القاعدة.
وقوله تعالى: {لمن ألقى إليكم السَّلَام} وفي قراءة لابن عباس: {لمن ألقى إليكم السلم} يعني: أظهر لكم السّلم، أي المهادنة وليس الحرب، فلم يبارزكم بحرب، ولا رفع عليكم سيفا، ولا طعنكم برمح، فلماذا بارزتموه أنتم بالعداوة وقتلتموه؟! وإنما بعثكم الله ميسرين، ولم يبعثكم معسرين، وقد أثنى الله تعالى على رسوله [، فقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء: 107).
وقوله تعالى: {تبتغون عرض الحياة الدنيا} أي: حصل هذا عند بعضهم، فطمع في العرض الفاني، لما رأى ما مع الرجل من الغنم، حمله حب المال على الاستعجال في القضية، وارتكاب ما لا ينبغي شرعا؛ قال الله سبحانه وتعالى لهم: {فعند الله مغانم كثيرة} أي: لا ينبغي لكم أن تفوتوا ثواب الله سبحانه وتعالى، وهو العظيم الجزيل الباقي، في الدنيا والآخرة، لا تفوتوه بالقليل الفاني؛ فإن الدنيا كلها متاع قليل، والإنسان العاقل لا يبيع الكثير الجزيل، الباقي الأبدي، بالنزر القليل، الفاني المضمحل، بل إذا كان عقله صحيحا لا يمكن أن يوافق على هذه الصفقة الخاسرة!!
وهذا أيضا: فيه موعظة لحال العبد مع الله عز وجل في هذه الدنيا؛ فإنه إذا رأى نفسه مائلة إلى الدنيا وزخارفها وشهواتها، فعليه أن يوازن بينها وبين نعيم الآخرة، كما قال بعض السلف: «من باع ذهباً يفنى، بخزف يبقى، فهذا خاسر» أي: لو خيرك إنسان بين ذهب يفنى، فقال لك: أعطيك هذا الإناء من الذهب لتأكل فيه، لكن عمره شهر، أم أعطيك هذا الإناء من الخزف الذي عمره دائم باقي؟ فالعاقل ماذا يقدم؟ يقدم بلا شك الخزف الذي يبقى، على الذهب الذي يفنى، فكيف إذا قدم واختار الخزف الذي يفنى على الذهب الذي يبقى؟ فهذا أشد خسرانا!
وهذه هي حقيقة الحياة الدنيا بالنسبة للحياة الأخرى؛ فإن الحياة الأخرى ذهب يبقى، والدنيا خزف يفنى، فينبغي للعبد أن يقدم ما عند الله سبحانه وتعالى، كما قال: {ما عنكم ينَفد وما عند الله باقٍ ولنجزينّ الذين صَبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل:96).
ثم يذكّر الله تبارك وتعالى صحابة رسوله خاصة، وكل من منّ عليه بالإسلام من الناس كافة، يذكرهم بما كانوا عليه قبل الإسلام والإيمان، فيقول: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ} (النساء: 94) أي: تذكروا حالكم من قبل أن تسلموا، فالصحابة كانوا ضلالا فهداهم الله، جهالا فعلّمهم الله ورسوله[، كفارا فأسلموا، جاحدين فآمنوا، فكما حصلت لكم الهداية بفضل الله ونعمته عليكم ، تحصل لغيركم من خلق الله.
وقيل: معنى {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ} أي: كنتم تخفون إسلامكم عن المشركين.
فهذا كله تنبيهات من عند الله سبحانه وتعالى لعبادة؛ لاستعمال الحكمة والعقل، والتبين والتثبت في الأمور؛ ولهذا أكدّ الأمر مرة أخرى، فقال: (فتبينوا) وهذا تكرير للتأكيد، وتكرار الأمر يدل على تأكده بحق المأمور، وأهميته وخطره.
فكل من خرج إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل، لا بد أن يكون عنده تثبت وتبين وتأنّ في الأمور؛ لأن الخطأ في الجهاد يؤدي إلى إزهاق أرواح بغير حق، وتعدٍّ على أنفس معصومة، وإتلاف أموال لم يأذن الله بإتلافها؛ فلهذا وجب التأني والتثبت، وقد قال[ في الحديث: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان» رواه البيهقي في «الشعب» عن أنس رضي الله عنه.
وهكذا الداعية إلى الله عز وجل ينبغي له أن يتبين ويتأكد، وأن يتثبّت من الأخبار، ولا يستعجل أو يتهور، في إصدار الأحكام على الناس، أو القضايا التي يسأل عنها؛ لئلا يقع في الأخطاء الفادحة، التي تضر به وبدعوته وبأتباعه، وربما شوهت جمال الإسلام، وصدت الناس عنه، كما حصل في هذا الزمان كثيرا، من بعض المستعجلين والمتحمسين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهكذا الحاكم والقاضي إذا عرضت عليه قضية من القضايا، فلا بد له من العلم بواقعة حالها، بالإضافة إلى العلم بالحكم الشرعي بها، فيحتاج إلى علمين: علم بالشرع وأحكامه، ثانيا: العلم بواقعة الحال، وتفاصيلها المعتبرة والمؤثرة في الحكم، حتى ينظر هل تنطبق عليها الآيات والأحاديث أم إنها لا تدخل في ذلك؟ وكلما كانت القضية كبيرة ومهمة وتمس الأمة كلها، فإنها تحتاج للتشاور مع أهل العلماء، وسماع أقوالهم وفتاويهم.
وقد قال الفقهاء: إن من قتل كافرا بعد أن قال: لا اله إلا الله، قُتل به؛ لأن الكافر إذا قال هذه الكلمة، فقد أسلم، وعصم دمه وماله، وإنما سقط القصاص عن هؤلاء النفر من الصحابة في زمن النبي[؛ لأنهم كانوا قد اجتهدوا وتأولوا، وظنوا أن من قالها خوفاً من السلاح، لا يكون مسلما، ولا معصوم الدم والمال، وأنه لا بد أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف، ولم تكن أحكام الشرع قد تكاملت وعلمت للجميع؛ ولذا عذرهم الرسول [.
لكن لا بد للكافر بعد قول هذه الكلمة، من الاستسلام والانقياد لشرع الله عز وجل بالقول والعمل، فلو قال: لا اله إلا الله، ثم أبى أن ينقاد لشرائع الإسلام، فأبى أن يصلي مثلا، أو أبى أن يتطهر ويتوضأ، أو أبي أن يصوم، أو أن يحرّم الحرام، فهذه الكلمة لا تنفعه؛ فليس الإسلام مجرد قول هذه الكلمة، ثم عدم الانقياد والاستسلام لأوامر الله عز وجل، وشرائع الإسلام.
والله تعالى أعلى وأعلم.





ابوالوليد المسلم 19-03-2024 03:20 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(13)

-الصلـح بيـن الزوجيـن

اعداد: الفرقان




الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}.
2134 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَلَعَلَّهُ أَلَّا يَسْتَكْثِرَ مِنْهَا، وَتَكُونُ لَهَا صُحْبَةٌ وَوَلَدٌ، فَتَكْرَهُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ لَهُ: أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ شَأْنِي.
الشرح:
الباب الثاني عشر من كتاب التفسير من مختصر مسلم، هو في قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (النساء: 128).
والحديث قد أخرجه مسلم في التفسير أيضا.
قوله: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} هذه الآية من سورة النساء وهي الآية الثامنة والعشرون بعد المائة.
وهي تذكر مسألة النشوز، والنشوز من جهة الزوج: هو الترفع على المرأة بترك مضاجعتها، أو التقصير في نفقاتها وحقوقها؛ لبغضها، أو لرغبته بغيرها، أما النشوز من جهة المرأة: فهو الترفع عن طاعة الزوج، والمعارضة لأوامره، أو عدم الرغبة في البقاء عنده.
والآية يقول الله فيها: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فلا جُناح عليهما أن يُصلحا بينهما صُلحاً والصلحُ خيرٌ وأحضرت الأنفس الشح وإن تُحسنوا وتَتقوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء: 128).
تقول عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين وزوج النبي [ في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قالت: نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلعله ألا يستكثر منها، وتكون له صحبة وولد فتكره أن يفارقها فتقول له: أنت في حلّ من شأني.
قول عائشة رضي الله عنها: « إن هذه الآية نزلت في المرأة « إذا قال الراوي: هذه الآية نزلت في كذا وكذا، فهذا نص على سبب النزول، وأسباب النزول كما ذكرنا سابقا مما يعين على فهم الآية، وفهم معانيها بفهم قصتها وسبب نزولها.
قولها: «نزلت في المرأة تكون عند الرجل « تعني الزوجة تكون عند زوجها».
قولها: «فلعله ألا يستكثر منها» تعني: يرغب عنها، فلا يريد البقاء عندها أو البيات، وربما تكون قد بلغت من السن الكبر، فيريد أن يفارقها ليتزوج غيرها، فيحصل إعراض من الزوج عنها، وهو النشوز المذكور وهو الترفع والإعراض، فعند حصول ذلك، أرشد الله تعالى إلى الأحسن للزوجين، ولها خاصة، إذا كان لها صحبة مع زوجها، أو كان لها ولد منه تكره أن يحصل بينها وبينه الفراق، فتقول له: أنت في حلٍّ من شأني، يعني: إن أحببت أن تبيت عندي فحياك الله، وإن أحببت أن تبيت عند زوجتك الثانية أو الثالثة، فأنت مخير، فتسقط القسم الذي لها، وهو المبيت وتهب يومها أو تهب ليلتها لضرتها، أو تقول له: أنت في حلّ من النفقة، أنا أنفق على نفسي، أو أنا أتدبر أموري وشؤوني، فتُسقط نفقتها، أو بعض نفقتها، تقول مثلا أنت في حل من كسوتي، أو أنت في حل من إيجار بيتي، فتسقط بعض النفقة.
فقوله تعالى: {فلا جُناح عليهما أن يُصلحا بينهما صُلحاً والصلحُ خيرٌ} فإذا اصطلحا واتفقا على هذه الحال {فلا جُناح عليهما} أي: فلا مانع ولا بأس عليهما، لا بأس على الزوج، ولا بأس على الزوجة في التصالح على ذلك. وقوله: {فلا جناح} والجناح هو الإثم، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، لتبقى معه العشرة وتدوم الألفة، ويكون ذلك بطيب خاطر من الطرفين، وهو جائز في جميع القضايا، إلا إذا تضمن الصلح تحليلا لما حرم الله، أو تحريماً لما أحل الله، فإذا كان الصلح يتضمن شيئا حرمه الله تبارك وتعالى فلا صلح، وكذلك لو تضمن الصلح تحريم شيئا أباحه الله؛ لقوله [: « الصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صلحاً أحلّ حراماً، أو حرّم حلالا» رواه أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجة.
وقد ورد في الصحيحين أيضا: أن هذه الآية إنما نزلت في أم المؤمنين سودة بنت زمعة زوج النبي [، فإنها لما كبرت خافت أن يفارقها النبي [ ويطلقها، فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها، فكان النبي [ يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة.
وسودة بنت زمعة رضي الله عنها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قديما بمكة بعد أن مات زوجها، وبعد خديجة وبعد زواجه بعائشة رضي الله عنهن، لكن لما تزوج النبي [ بعائشة لم يدخل عليها بمكة، وإنما دخل عليها بالمدينة لأنها كانت صغيرة.
فكانت سودة امرأة قد كبرت بالسن، ورضيت أن تهب يومها لعائشة؛ لأجل أن تبقى في مسمى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فتحشر يوم القيامة مع أزواج النبي [، فلأجل هذا الخير العظيم، رضيت أن تهب يومها لعائشة، وأن تتنازل عن بعض حقها، من أجل بقائها في ضمن زوجات النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة.
فالصلح جائز بين المسلمين في جميع القضايا، فإذا حصلت بينك وبين أحد من الناس خصومه في حق من الحقوق، واتفقتما على أن تسقط أنت بعض حقك ويسقط هو بعض حقه ليحصل الاتفاق فلا مانع، لكن إذا كان الصلح يتضمن إباحة شيءٍ حرّمه الله، فهذا حرام لا يجوز، ولو اتفقا عليه؛ لأن الاتفاق على الأمر المحرم لا يجعله حلالا! ومثالاً على ذلك نقول: إن المتعاقدين بالربا متراضيان، فلماذا العقد فاسد وباطل؟ قلنا: لأنه تضمن محرما، ولو تراضيا على هذا العقد المحرم؛ فإن التراضي لا يحل الحرام، ولا يحرم الحلال، ومثله: حُلْوان الكاهن، ومهر البغي.
فالله سبحانه وتعالى أحلّ الصلح بين الرجل وامرأته، وذكر الله سبحانه وتعالى المقتضي لذلك ونبّه عليه بقوله: {والصلح خيرٌ}.
أي: يرشد الله سبحانه وتعالى إلى أن بقاء العقد مع حصول التقصير في بعض الحقوق خير للطرفين؛ لأن بقاء الزوجية عموماً فيه خير، ودوام كيان الأسرة المسلمة فيه خير للأولاد، وفيه خير للمجتمع عامة؛ ولهذا أباح الله سبحانه وتعالى مثل هذا الصلح ورغّب فيه، فقال تعالى: {والصلح خير}.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالصلح في مواضع أخرى من القرآن، فقال {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1).
ثم ذكر المانع من الصلح أحيانا، وهو الشح، الذي هو البخل مع الحرص، فقال: {َأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} (النساء: 128).
فإذا شحّ كل واحد من الطرفين بحقه، لم يمكن الصلح، فالصلح إذاً لا يكون إلا بأن يتنازل أحد الطرفين عن شيء من حقه أو أن يتنازلا جميعا، أما أن يحرصا ويشحا جميعا بالحق الذي لهما، فلن يمكن الصلح، فالشح وهو البخل بالحق الذي له، أن يبخل بالحق الذي له فلا يتنازل عن شيء منه.
والشح أمر طبعي، فالنفوس مجبولة على الحرص، ومجبولة على حب الخير لنفسها كما قال تعالى {وإنه لحب الخير لشديد} (العاديات: 8 ) أي: كثير حب الخير لنفسه.
لكن الله سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى السماحة، ويدعوهم إلى الكرم، والى التنازل عن الحقوق التي لهم، والقناعة ببعض الحق أحيانا، إذا كان في ذلك تحقيق مصلحة أكبر؛ إذ إنك لا يمكنك بكل حال أن تحصل على حقك كاملا وتاما، وفي كل الظروف، فلا بد إذاً أن تقنع وترضى أحيانا بأقل من حقك، من أجل حصول مصلحة أعظم ، كالتقريب بين المسلمين، والصلح بين المتخاصمين وهكذا.
وقوله تعالى: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 128) أي: إذا أحسنتم في عبادة الخالق أولاً، وأحسنتم إلى المخلوق ثانيا - لأن الصلح نوع من الإحسان للغير، الذي يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه - أي: إذا أحسنتم في هذا وهذا، فإن الله تبارك وتعالى يحفظ لكم ذلك، ويجزيكم عليه أتم الجزاء {فإن الله كان بما تعملون خبيرا} فلا تخافوا أن يضيع عليكم شيء من أعمالكم الصالحة وحسناتكم.





ابوالوليد المسلم 19-03-2024 03:22 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(14)

كمــال الديـن

اعداد: الفرقان





الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2135. عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ [ بِعَرَفَاتٍ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ.
الشرح:
هذا الحديث أول حديث في سورة المائدة هاهنا، وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب التفسير - الذي هو في آخر صحيحه - وهو في قوله تبارك وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم...} ( المائدة: 3) الآية.
قوله: عن طارق ابن شهاب وهو البجلي الأحمسي معدود في الصحابة، قال أبو داود: رأى النبي [ ولم يسمع منه، مات سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين، روى له الستة.
قال: «جاء رجل من اليهود إلى عمر ]» وهذا الرجل كما هو واضح من سؤاله أنه من أحبار اليهود، أي من علمائهم. جاء إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا نزلت معشر يهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا يعني لو أن هذه الآية النازلة عليكم من كتاب الله تعالى، نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا نحتفل بها، ونحتفي بها، وهذا يدل على عظمة هذه الآية، وفضلها وبركتها وخيرها.
قال عمر ]: وأي آية؟ قال الحبر أو قال هذا الرجل من اليهود: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله [ في عرفات في يوم جمعة. وجاء في بعض الروايات: « نزلت ليلة جَمْع نزلت ليلة جمع»، ولا تعارض بين الروايتين، فليلة جمع هي ليلة العيد، وتكون هذه الآية نزلت في يوم عيد فلا حاجة بنا إلى أن نتخذ هذه الآية عيدا، أو نتخذ يوم نزولها عيدا؛ لأنها في الحقيقة نزلت في يوم عيد، بل نزلت في يوم عيد اجتمع مع عيد آخر، وذلك أنها نزلت في يوم الجمعة، ويوم الجمعة عيد من أعياد المسلمين، فيه يلتقون ويجتمعون، ويتزينون ويتطيبون ويلبسون أحسن الثياب ويصلون الجمعة، وهي أيضا نزلت في يوم النحر الذي هو عيد من أعياد المسلمين، فهذا اليوم إذن يوم عيد من وجهين: أنه يوم عرفة وليلة جمع ويوم الجمعة، وكل منهما يوم عيد لأهل الإسلام.
وقوله تبارك وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} هذا من فضل الله سبحانه وتعالى ومنته على هذه الأمة، أن أكمل لها الدين، فلم يبق للمسلمين حاجة إلى شريعة غيرهم، ولا إلى الشرائع الأخرى، وكذا لا حاجة لهم إلى الالتفات إلى العلوم الأخرى في مجال التشريع والأحكام، لأن الله تبارك وتعالى قد أكمل لهم الدين، وهذا شامل للأصول والفروع، في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، الدين كامل.
وهذا أبلغ رد على من ادّعى أنه ينصر الإسلام بعلم الكلام المبتدع؟؟! المأخوذ عن اليونان وفارس والهند، فاليونان وفارس والهند وغيرها من الحضارات التي سبقت الإسلام والأديان، لسنا بحاجة لعقيدتهم، ولا لنصرة شريعتهم، ولا الالتفات إلى غير كتاب الله سبحانه وهدي نبيه [، وما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ لأن الله تعالى يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم}، ومن قال: إن الإسلام يحتاج لغيره؟! كذبناه ورددنا عليه، وقلنا له: الله أصدق منك قيلا، وكلامك هذا فيه تكذيب لكلام الله تبارك وتعالى؟!
فإذاً نحن لسنا بحاجة إلى الآراء، ولا إلى المبتدعات من الأقوال أو الأعمال، أو الأقوال والقواعد المخالفة للشرع، ولا حاجة لنا للاشتغال بها؛ لأن ما عندنا كاف شاف، والحمد لله حمدا كثيرا، لأن الله عز وجل لم يقبض رسوله عليه الصلاة والسلام إلا بعد أن أكمل لنا الدين.
وقال سبحانه وتعالى أيضا في هذا: {ما فرّطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام: 38).
أي: ما أهملنا ولا أغفلنا شيئا، بل كل شيء أحصيناه في اللوح المحفوظ، الذي هو أم القرآن الذي نزل إليكم، فجميع الأشياء صغيرها وكبيرها فيه.
وقيل: قوله {ما فرطنا في الكتاب من شيء} أن الكتاب هو القرآن العظيم، وهو قول له ما يشهد له.
فيشهد له قوله تعالى {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} (النحل: 89) أي: لأصول الدين وفروعه، وفي كل ما يحتاج إليه العباد في الدارين، قد بينها أتم بيان وأوضحه، وبمعان جليلة لا تجدها في مكان آخر.
وقال تعالى أيضا {ولقد صرفنا في هذا القرأن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} ( الكهف: 54 ). فيخبر سبحانه عن عظمة هذا القرآن وجلالته، أنه صرف فيه من كل شيء نافع لكم في الدنيا والآخرة، يوجب لكم السعادة التامة.
وهذا يعني أن الكتاب العزيز لم يفته شيء أبدا، وأنه ما نزلت بالمسلمين نازلة، إلا وفي كتاب الله سبحانه وتعالى الدليل عليها، أو الدليل على أمثالها؛ لأن الفرعيات من المسائل لا تنتهي، لكن الأصول في كتاب الله تعالى وسنة رسوله التي يقاس عليها، شاملة لكل حادثة تحدث بالمسلمين إلى يوم القيامة.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره ( 2/12): هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليهم؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه الى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، كل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خُلف، كما قال تعالى {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فلما اكمل لهم الدين، تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} اي: فارضوه أنتم أنفسكم، فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فقد أكمل الله لنا الدين فيما أمرنا به من فريضة وفضيلة ونَدْب، وكل سبب ينال به صلاح القلب والدين، وفيما نهانا عنه من كل مكروه ومحرم، وكل سبب يؤثر فسادا في القلب والدين. (الكلام على مسألة السماع ص 110).
وقوله تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي} أي: أتم الله سبحانه وتعالى عليكم النعمة، بهذا الدين الكامل الشامل، ظاهراً وباطنا، فإتمام الدين نعمة عظيمة، يجب أن نشكر الله سبحانه وتعالى عليها؛ لأنه غناء وكفاية عن كل الناس.
وقوله جل وعلا: {ورضيت لكم الإسلام دينا} فالله سبحانه و تعالى رضي لنا هذا الإسلام دينا واصطفاه لنا واختاره، واختارنا نحن لهذا الإسلام، فلنشكر الله عز وجل على هذا، أن ارتضى لنا الإسلام، ومن علينا بنعمة الإيمان، فجعلنا مؤمنين مسلمين موحدين، دون بقية خلق الله أجمعين.
وهذه الآية من أعظم الأدلة في الرد على أهل البدع والأهواء، الذين يدعون أنهم يكملون الدين، أو يتممون الشريعة، بما أحدثوه من الأقوال والأفعال المبتدعة ، كإقامة الموالد مثلا، أو إحداث الأعياد المختلفة، وغيرها من البدع، فهم يزعمون أن في هذا نصرة للدين، وإظهارا لسيرة الرسول [، فنقول لهم: خير الهدي هدي محمد [، وما عندنا كاف شاف، والحمد لله سبحانه وتعالى الذي امتن علينا به، وقد قال علية الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: «تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك».
وقال أيضا: «إني تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض « رواه الطبراني وغيره.





ابوالوليد المسلم 20-03-2024 04:49 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
كتاب التفسـير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (15)

التوحـيد أمـنٌ وأمـان

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
136. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ [، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: « لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}».
الشرح:
هذا الحديث في سورة الأنعام، وقد أورده الإمام مسلم في كتاب الإيمان، وبوب عليه النووي: باب صدق الإيمان وإخلاصه، وهو حديث الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الهذلي ].
قوله: « لما نزلت « هذا نص من ابن مسعود في أنه عند نزول هذه الآية، حصل ما ذكر، والمرويات التي تحتف بنزول الآيات، يستعان بها على فهم الآيات والمراد منها، وكيفية العمل بها؛ ولذا لا يستغني عنها المفسر لكتاب الله تعالى، كما في أصول التفسير.
فابن مسعود ] يقول لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) شق ذلك على أصحاب رسول الله [ «لأنهم ظنوا أن المراد بالظلم هنا، هو الظلم المطلق، أي: كل الذنوب والمعاصي؛ ولذلك قالوا: «أينا لا يظلم نفسه؟ « أي: من منا الذي لا يخطئ أو يقع منه التقصير في حقوق الله تعالى؟!
ولذلك قال رسول الله [ لهم: « ليس الأمر كما تظنون ! إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13) أي: المراد بالظلم هنا، المقيد وهو الشرك.
وهذه الآية التي من سورة الأنعام، قد ذكرها الله سبحانه وتعالى بعد المحاجة التي كانت بين خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقومه، فقال سبحانه عنه: {وحاجّه قومه قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئا} (الأنعام: 80). أي: كيف: تجادلونني وقد تبين لي الهدى، واتضح لي الحق؟ وأي فائدة في الجدال، وقد هداني الله ووصلت إلى كمال العلم واليقين بالنبوة والرسالة؟!
وقوله: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} أي: أنا لا أخاف آلهتكم الباطلة؛ لأنها لا تضرني ولا تنفعني لعجزها عن ذلك، وقوله {إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} أي: إلا أن يشاء الله أن ينالني بمكروه أو سوء، بقضائه وقدره وفعله، لا بفعل أصنامكم وآلهتكم.
وقوله: {وسع ربي كل شيء علما} أي: قد علم ربي كل شيء؛ لكمال علمه وسعته وشموله، وليس كآلهتكم التي لا تعلم شيئا، ولا تفهم ولا ترد جوابا؛ لأنها جماد، أخشاب وأحجار، لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا تعقل. {أفلا تتذكرون}: ألا تتعظون وتعتبرون إن كانت لكم عقول وأفهام، فتتركوا عبادة الصور المنحوتة، والتماثيل المصورة، التي لا تقدر على نفع لكم ولا ضر، ولا تفقه ولا تعقل، بل أنتم أكمل منها؛ لأنكم تسمعون وتبصرون وتتحركون، وهي جامدة.
ثم قال: {وكيفَ أخافُ ما أَشركتُم ولا تَخافون أنكم أشرَكتُم بالله ما لم ينزّل به عليكم سلطاناً} أي: كيف أخاف ممن لا يقدر على ضر ولا سوء، لي ولا لغيري، ولو كانت تنفع أو تضر، لدفعت عن نفسها كسري لها، وضربي لها بالفأس. وقوله {ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا} أي: بل أنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم، وهو القادر على نفعكم وضركم، وهو على كل شيء قدير.
ثم قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (81) أي: أي الفريقين أحق بالأمن: الذين آمنوا بالله عز وجل، وعبدوه وحده لا شريك له، أم الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، من علمٍ أو كتاب، ولم يرسل به رسولا؟ فالشرك الذي يفعله المشركون لم ينزل فيه كتاب، ولم يأمر الله سبحانه وتعالى به الرسل، بل فعلوه هم بغير برهان ولا كتاب.
قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) فبين أن الذي يستحق الأمن والهداية، هم الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أي: أهل التوحيد، ومعنى (يلبسوا): يخلطوا، أي: لم يخلطوا إيمانهم وإسلامهم بظلم، أي: بشرك، وهذه الآية بعمومها تشمل جميع أنواع الظلم، الظاهرة والباطنة، الكبيرة والصغيرة، وهو ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من الآية، وهو المتبادر للذهن، أن الظلم هو أي ظلم، والظلم كما عرّفه أهل العلم هو: وضع الشيء في غير موضعه.
لكن السنة بيّنت هذه الآية، وأن المراد بالظلم فيها هو: الظلم الأكبر، والظلم الذي لا يغفره الله عز وجل، وهو الشرك به، وهو ما أعلمهم به النبي [ - بعد أن شقت عليهم هذه الآية - أن المقصود بالظلم ، هو ما ذكره لقمان الحكيم في وصيته لابنه بقوله تعالى: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13).
والوعظ: هو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، فأمره بالإخلاص ونهاه عن الشرك، وبيّن له السبب في ذلك فقال: {إن الشرك لظلم عظيم} وذلك أنه لا أبشع ولا أقبح ولا أظلم ممن سوى بين التراب ورب الأرباب؟؟! بين الناقص العاجز الفقير، والكامل القادر الغني الذي بيده ملكوت كل شيء؟؟!
إذاً الظلم هنا: صرف العبادة لغير الله تبارك وتعالى، ومن فعل ذلك فهو أظلم الظالمين؛ لجعله المخلوق بمنزلة الخالق.
وهذا الحديث يبين أن المقصود بالآية هو الشرك بالله تعالى، وهو جعل العبادة في غير موضعها. وقال أهل التفسير: إن الذي يؤمن إيمانا مطلقا، ويسلم تسليما مطلقا، فلا يلبسه بشرك ولا معصية، فهذا له الأمن التام، والاهتداء التام، في الدنيا والآخرة.
وأما الذي يؤمن إيمانا يخلطه بمعاصي وذنوب، فهذا له أمن غير تام واهتداء غير تام، لكن يحصل له أصل الأمن، وأصل الاهتداء؛ لأنه مسلم لكن لا يحصل له الأمن التام الكامل، بل هو متعرض للعذاب؛ لأن كل معصية تنافي التوحيد، فالمعاصي تنافي كمال الانقياد لله سبحانه وتعالى، وعبادة الله عز وجل حق العبادة، وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}.
وهكذا الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والحلف بغير الله ونحوه، ينافي الاهتداء التام، والأمن التام.
وكذلك ظلم الناس، والتعدي على أموالهم وأعراضهم، صاحبه غير مهتد، ومعرض للخوف.
وقال المعتزلة: إن المراد بالظلم في هذه الآية هو عموم المعصية، لا الشرك؟! وذلك أن الإيمان والمعصية عندهم لا يجتمعان؟! لأن مذهب المعتزلة والخوارج أن صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان بكبيرته؛ لأنه لا يمكن أن يكون مؤمنا ويسرق، أو مؤمنا ويشرب الخمر، فلا يجتمع عندهم هذا وهذا، بل عندهم إن شرب الخمر كفر؟ وإن سرق كفر؟ وان قتل كفر، وان فعل أي كبيرة من الكبائر كفر؟؟!
أما أهل السنة فيقولون: يمكن أن يجتمع في الإنسان كفرٌ وإسلام، وإيمانٌ ومعصية، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) فهذا قول أهل السنة والجماعة، أن الإسلام والمعصية قد يجتمعان في الشخص، وارتكاب الكبيرة لا يخرج الإنسان عن حدّ الإسلام، بل يسمى صاحبه مؤمنا بإيمانه، فاسقا بكبيرته، وهم معرضون للعقوبات في الدنيا والآخرة.
ولقمان المذكور في الآية عند عامة أهل العلم أنه كان حكيما ولم يكن نبيا، إلا عكرمة فإنه قال: كان نبيا. وتفرد بهذا القول، وقيل اسمه: أنعم، وقيل اسمه: مشكم، وقيل غير ذلك. والله تعالى أعلم





ابوالوليد المسلم 20-03-2024 04:51 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(16)

من علامات الساعة الكبرى

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2137. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: « ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ، لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ «.
الشرح: الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (158) وبوب عليه النووي: باب الزمن الذي لا يُقبل فيه الإيمان.
وهو في قوله تبارك وتعالى: {هل يَنظرون إلا تأتيهم الملائكةُ أو يأتي ربُّك أو يأتي بعضُ آياتِ ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قل انتظروا إنا منتظرون} وهي آية من سورة الإنعام، الآية الثامنة والخمسين بعد المائة.
والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه الصحابي الجليل، راوية حديث رسول الله، وحافظ سنته، وناقل هديه لمن بعده.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثَلاثٌ إِذَا خَرَجْنَ، لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ».
قوله: «ثلاث» يعني: ثلاث آيات وعلامات، والآيات هي الأمور الخارقة للعادة، والتي يسميها العلماء بالمعجزات، وهي المعجزات الكائنة قبل يوم القيامة، وهذه الآيات كائتة قبل يوم القيامة، وهي دالة على قرب قيام الساعة، وتسمى أمارات الساعة، أو علامات الساعة، وأشراط الساعة، وهي التي تدل على قرب قيام الساعة، قال تعالى: {هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} (محمد: 18). أي: فهل ينتظر هؤلاء المكذبون إلا قيام الساعة فجأة، فقد جاءت علاماتها الدالة على قربها {فأنى لهم} فأين لهم وقت التوبة والتذكر، إذا جاءت الساعة، وقامت القيامة؟!
ففيه حثٌ على الاستعداد للقاء الله تعالى.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هاهنا ثلاث علامات تدل على قرب قيام الساعة، فقال: « ثلاث إذا خرجن» أي: ثلاث آيات وعلامات إذا خرجن، يعني: إذا ظهرن للناس.
قوله: «لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» هذه الآيات الثلاث إذا خرجن، لا ينفع نفساً إيمانها، أي إذا رأتها ثم آمنت، أي: تابت إلى الله من كفرها وأسلمت، فإنه لا يفيدها ذلك، فلا ينفع الكافر إيمانه إذا رآها، أي: إذا أسلم بعد رؤية هذه الآيات، فان إسلامه لا ينفعه.
وما الحكمة في هذا؟ أو ما المانع من قبول التوبة؟
والجواب: أن الله سبحانه وتعالى جرت عادته وسنته، واقتضت حكمته، ألا يقبل من الإيمان، إلا ما كان اختياريا، أي: برغبة الإنسان واختياره وإخلاصه، أما ما كان إيمانا اضطراريا، مدفوعا إليه ومكرها، فإن الله عز وجل لا يقبله؛ ولذلك قال الله سبحانه: {لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرُّشد من الغي} (البقرة: 256). فالمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا حاجة لنا لإكراه الناس على دين الله عز وجل؛ لأن دين الله وهو التوحيد والإسلام واضح جلي، وآياته وحججه وبراهينه أظهر من أن تنكر، وإنما يجبر المرء على ما لم يتضح فائدته وصلاحه، من الأمور الخفية أو الغامضة أو الضارة.
ولذلك لا يقبل الله عز وجل إسلام المكره على الإسلام، وهكذا إيمان الغريق إذا عاين الموت، كإيمان فرعون لما أدركه الغرق، فإنه قال لما جزم بهلاك نفسه كما حكى لنا القرآن الكريم: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} (يونس: 90). فقال الله تعالى له: {ءآلآن وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين} (يونس: 91) أي: الآن تسلم وتنقاد لله ولرسوله، وقد عصيت الله وبارزته بالمحاربة وبالكفر والتكذيب؟! فلا ينفعك ذلك.
وهكذا المريض إذا عاين الموت، أو الحريق، وغرغرت الروح، وآمن عند ذلك، فلا يقبل الله منه هذا الإيمان؛ لأن الإيمان المطلوب من العباد هو الإقلاع عن الذنوب والمعاصي والشرك، في زمن الاختيار، أي: في زمن يختار فيه الإنسان إيمانا رغبة فيه، وإخلاصا لله عز وجل، واستجابة لأمره، وإلا فالأمر كما قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (غافر: 84 - 85).
أي: لما رأوا عذاب الله وشاهدوه، وأحاط بهم، آمنوا وأقروا، وتبرؤوا من الأصنام والأوثان. قال تعالى: {فلم يك ينفعهم إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أي: في تلك الحال، وهذه {سُنَّة اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أي عادته؛ فلا يقبل إيمانهم، ولا ينجيهم من عذابه {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} خسروا دينهم ودنياهم وأخراهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: « إن الله ليقبل توبة العبد، ما لم يغرغر» رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، أي: ما لم تبلغ روحه حلقومه.
وقوله تعالى: {أو كسبت في إيمانها خيرا} أي: ولا يقبل من المؤمن المقصّر المذنب، صاحب المعاصي، إذا رأى هذه الآيات، لا يقبل منه أن يتوب عن معاصيه ولو كانت غير مكفّرة، ولا يقبل منه كذلك أن يزداد في إيمانه، بعمل الطاعات والقربات؛ لأنه عاين الساعة وشاهدها، وإنما يقبل منه ما كان له من عمل صالح سابقا، وإيمان قبل ظهور هذه الآيات، وقبل خروج هذه العلامات للقيامة، فينفعه الخير الذي كان عنده قبل، أما إذا أراد مثلا أن يزداد عملا، فكان سابقا يصلي الفريضة فقط ولا يزيد، فإنه إذا تطوع بعد هذه الآيات لا يقبل منه، ولو أراد أن يصلي من الضحى، أو يصلي من الليل بعدها، ولم يكن يعمله قبل ظهور هذه الآيات، فإنه لا يقبل؛ لأنه إنما فعله مضطرا، والله سبحانه وتعالى إنما يحب منا الإيمان والطاعة في زمن الاختيار؛ ولهذا كان التعبد لله سبحانه وتعالى والدعاء في زمن الرخاء والراحة، يحبه الله عز وجل من العبد؛ لأنه دليل الرغبة فيما عند الله، والرهبة مما عنده، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث الترمذي: « من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر من الدعاء في الرخاء ».
أما أول هذه الأمور التي إذا حصلت وخرجت، لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، فهو: « طلوع الشمس من مغربها» وفي الرواية الأخرى لمسلم: « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا ».
وطلوع الشمس من مغربها قال أهل العلم: هو أول الآيات الكونية الكبرى، وعلامات الساعة منها صغرى ومنها كبرى، ومنها أرضي ومنها سماوي، فالأرضي هو ما يفعله الناس، أو ما يقع من الناس، أو ما يحدث على الأرض، مثل: كثرة الجهل وقلة العلم، وذهاب العلماء، وكثرة الزنى وانتشاره، وشرب الخمر مع تسميتها بغير اسمها، ومثل عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وإخلاف الوعد، فهذا وما أشبهه مما يقع، هو من علامات الساعة الأرضية.
وهناك علامات سماوية: أي تقع في السماء، وأعظم الآيات الكونية: طلوع الشمس من مغربها، وسيأتي الكلام عليها في الحديث التالي.
أما الدجال: فالمقصود به رجل يخرج في آخر الزمان، عند ظهور المهدي ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام من السماء، عند ذلك يخرج الدجال، وهو الدجال الأكبر، وإلا فالدجالون كثر في كل زمان ومكان، ولكن هذا رأسهم وكبيرهم، ومن كفره وطغيانه أنه يدعي الإلهية ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة، وتكون معه فتنة عظيمة؛ إذ إنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها، فتتبعه كنوزها كأنها يعاسيب النحل، أي: كأنها جماعات النحل، ومعه جنة ونار، جنة فيها ماء يجري، ومعه نار تلظى، فناره جنة في الحقيقة، وجنته نار، ويدعو الناس إلى الإيمان به بأنه هو الإله، فمن آمن به قذف به إلى جنته، التي هي في الحقيقة نار، ومن كفر به قذف به إلى ناره، التي هي جنة في الحقيقة.
وأما دابة الأرض: فهي دابة تخرج في آخر الزمان، جاء ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (النمل: 82).
أي: إذا جاء الوقت الذي حتمه الله، أخرج لهم دابة من الأرض وليست من السماء، تخاطب وتكلم الناس، كلاما خارقا للعادة، فتكون عليهم حجة وبرهانا.
وهذه الدابة تخرج إلى الناس وتميزهم وتسمهم بعلامات، يعرف بها المؤمن من الكافر، كما ورد في حديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تخرج الدابة، فتسم الناس على خراطيمهم – أي على أنوفهم – ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل البعير، فيقول: ممن اشتريته؟ فيقول: من أحد المخطّمين» رواه أحمد (5/268) وصححه الألباني – الصحيحة (322).
وهذه الدابة لها بعض التفاصيل المذكورة في كتب التفسير لا تصح، وقد أعرضنا عنها، وإنما ورد ذكرها في القرآن في هذه الآية من سورة النمل، وجاء ذكرها أيضا في هذا الحديث.
وفي الحديث هنا: أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من المؤمن عملا ما يزيد في إيمانه عند خروجها، كما لا ينفع الكافر إسلامه أو إيمانه أو رجوعه وتوبته؛ لأن تصديقه صار اضطراريا وليس اختياريا، أما ما كان قبل ذلك من عمل، فإنه يكتب لأهل الإسلام وأهل الإيمان.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.


ابوالوليد المسلم 20-03-2024 04:52 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(17)

-من علامات الساعة الكبرى (2)

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2138. عَنْ أَبِي ذَرٍّ ] أَنَّ النَّبِيَّ [ قَالَ يَوْمًا: «أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسَ مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «أَتَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ؟ ذَاكَ حِينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}».
الشرح: الحديث الثاني في هذا الباب: وهو باب قوله تعالى: {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} (الأنعام: 158). وقد رواه مسلم في الإيمان (159)، هو حديث أبي ذر ] أن النبي [ قال يوما لأصحابه: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم» وهذه عادة الصحابة الكرام، وهي من أدبهم مع رسول الله [، أنهم لم يكونوا يتكلمون بين يديه، وأحيانا لو علموا الجواب ما تكلموا، وفي هذا طلب زيادة الانتفاع بكلام النبي [، وكذلك الكبراء والعلماء، ولو كان عند الإنسان علم.
قوله [: «إن هذه»، يعني الشمس «تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها»، فهذه الشمس تجري كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي} يعني: أنها غير ثابتة، بل أثبت الله  تبارك وتعالى لها الجريان، والجري: هو السير بقوة وبسرعة، فالشمس تجري بسرعة وبقوة حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش.
قال عياض: هذا الحديث على ظاهره عند أهل الحديث والفقه والمتكلمين من أهل السنة، خلافا لما تأولته الباطنية (شرح النووي 2/195).
ولا بد أن نعلم أولا: أن الشمس أينما كانت فهي تحت العرش، وكذلك جميع المخلوقات هي تحت العرش؛ لأن العرش فوق السموات كلها، وهو سقف المخلوقات جميعاً، فهو أعلى ما خلق الله تعالى من المخلوقات، وقد ذكر الله سبحانه استواءه عليه، وارتفاعه فوقه، فقال: {الرحمن على العرش استوى} أي: علا وارتفع، في سبع آيات من القرآن الكريم.
 وجاء في الحديث الصحيح أن العرش سقف جنة الفردوس، إذ يقول [: «فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّر أنهار الجنة» رواه البخاري (7423). والفردوس كما هو معلوم هو أعلى الجنة، يعني في السموات العلى.
فالشمس أينما كانت، هي تحت العرش، وسجود الشمس يليق بخلقها، ويليق بطبيعتها؛ لأن سجود كل مخلوق بحسب خلقه، كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن الجبال والجمادات أن سجودها بالعشي والإبكار، إنما هو بالظلال، وكذا كل كافر يسجد ظله لله رغما عنه، قال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (النحل: 48) فقوله: {ما خلق الله من شيء} أي: كل مخلوقات الله التي لها ظل، هي ساجدة لله،خاضعة لعظمته، بظلالها، تارة عن اليمين، وتارة عن الشمال، في الشروق والغروب {وهم دَاخِرُونَ} يعني: راغمون صاغرون.
فذكر الله سبحانه وتعالى أن سجود الجبال ونحوها أنه يكون بالظلال، فالظل يكون على الأرض خارّا ساجدا، وهذا نوع من السجود لله تعالى.
وسجود الشمس هو أيضا بحسب خلقتها وطبيعتها، وهو بتمييز منها وإدراك خلقة الله فيها. وقد أخبر النبي [ أنها إذا صارت تحت العرش، وذلك عند منتصف الليل - وهي أبعد ما تكون عن العرش - فحينئذ تسجد، وتظل كذلك ساجدة حتى يؤذن لها.
قال الواحدي: وعلى هذا القول إذا غربت كل يوم، استقرت تحت العرش، إلى أن تطلع من مغربها.
قوله: «فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتصبح طالعة من مطلعها» يعني تشرق الشمس من المشرق كالعادة، لا يستنكر الناس منها شيئا؛ إذ كل يوم يرونها تشرق من المشرق، وتجري حتى تكون في كبد السماء - منتصف السماء - عند الظهيرة، وبعد ذلك تميل لجهة الغرب حتى تغرب، ثم تظل سائرة حتى تكون في منتصف الليل تحت مكانها من الظهيرة، فحينئذ تسجد ثم تستأذن بأن تخرج مرة أخرى من مشرقها.
(انظر تفسير ابن كثير 3/528) عند قوله {والشمس تجري لمستقر لها} (يس: 38).
وهذا كله خبر غيبي، يخبر به نبينا [ الذي {لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى} (النجم: 3- 5).
قوله «فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا»  حتى تنتهي إلى يوم يقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، بدلا     من أن تطلع من المشرق، أي: على عكس ما كانت تفعل كل يوم، فتصبح طالعة من مغربها، بأمر الله تعالى وتقديره وعلمه وحكمته.
وهذا تحول كوني عظيم، يندهش له العالم، وتطير له عقولهم، ويهرعون عنده إلى التوبة وترك المعاصي، والدخول في الإسلام، ولكن هيهات وقت التوبة؟! فقد مضى وانتهى، وحقّ عليهم قوله تعالى {وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شكٍ مُريب} (سبأ: 54).
ثم قال [: «أتدرون متى ذاكم؟» يعني: متى يكون طلوع الشمس من المغرب؟!
قال: «ذاك حين {لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}» فإذا طلعت الشمس من المغرب، فإنه لا ينفع نفسا إيمانها، لا ينفعها إيمانها إن كانت كافرة فآمنت وأسلمت؛ إذ لا يقبل منها الإسلام حينئذ؛ لأن الله تبارك وتعالى كما ذكرنا في الحديث السابق، لا يقبل من الناس الإيمان الاضطراري، وإنما يقبل منهم الإيمان الاختياري، وإذا حصل ما يدفع الإنسان إلى الإيمان والإذعان اضطراريا، فإن الله لا يقبل منه هذا الإيمان، مثل الغرق والحرق وظهور هذه الآيات الكونية الباهرة فعندئذ لا ينفع نفسا إيمانها، {أو كسبت في إيمانها خيرا}، يعني أن تزيد في عملها الصالح عملا آخر لم تكن كسبته من قبل، فأهل القبلة المصدقين إذا رأوا هذه الآية التي اضطرتهم إلى هذا العمل الصالح، لا يقبل منهم ذلك، إلا ما كانوا عملوه من قبل. وذكر في الحديث السابق أيضا: ظهور الدجال وخروج دابة الأرض، فهذه ثلاث آيات إذا خرجت لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا.
وقال أهل التفسير: للشمس مستقر زماني، ومستقر مكاني، أما المستقر الزماني فهو قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38). وهو منتهى سيرها؛ حيث ينتهي جريانها، وذلك في يوم القيامة، فإذا جاءت الساعة بطل سير الشمس ووقفت، وكوّرت، أي: تُجمع وتلف وتصير كالكرة، وجمعت هي والقمر، كما قال سبحانه: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة: 9).
فتسكن حركة الشمس عند نهاية هذا العالم، وهذا المستقر الزمني الأول.
أما المستقر المكاني: فهو سجودها تحت العرش، كما نص هذا الحديث عليه. وقد روى الإمام مسلم    هذا الحديث عن أبي ذر مختصرا (1/139)، ولفظه: «قال أبو ذر ]: سألت رسول الله [ عن قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38) قال: «مستقرها تحت العرش».
وفي رواية أخرى قال:  دخلت المسجد ورسول الله [ جالس، فقال: «يا أبا ذر، هل تدري أين تذهب هذه؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها تذهب فتستأذن في السجود، فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها».
وذلك التقدير تقدير العزيز العليم، العزيز الذي لا يخالف في أمره، ولا يمانع في قدرته، العليم بجميع الحركات والسكون، وهو سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
 وقد يقول قائل: نحن نرى الشمس تشرق وتغرب وتسير، ولا نرى لها سجودا؟! ولا نرى لها تحركا غير اعتيادي؟!
والجواب أن نقول: نحن نؤمن بهذا الخبر الغيبي، الذي قد لا يدرك بالحس والمشاهدة؛ إذ هو من العلم الغيبي، الذي علّمه الله تعالى لنبيه [، والواجب علينا الإيمان والتصديق والتسليم، وترك الاعتراض والشك، كما قال عز وجل عن صفات المؤمنين: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة: 2).
والله تعالى أعلم.


ابوالوليد المسلم 21-03-2024 05:23 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(18)

من قبائح الجاهلية

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2139. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ، فَتَقُولُ: مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا، تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ، فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
الشرح: هذا الحديث في سورة الأعراف، وقد رواه مسلم في التفسير، وهو عن الحبر ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31).
يقول ابن عباس: « كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانه».
وفي رواية لمسلم عن ابن عباس: « أن الرجال كانوا يطوفون بالبيت عراة نهارا، وكانت النساء تطوف بالبيت عراة ليلا طلبا للستر « أي: طلبا للتستر عن أعين الناس؟
فتقول: «من يعيرني تطوافا» التطواف هو الثوب الذي يطاف به، أي: لكي تستر به عورتها أثناء الطواف.
وهذا الفعل المنكر الذي زيّنه الشيطان الرجيم لأهل الجاهلية، وهو أنه زيّن لهم الطواف بالبيت الحرام بمكة عراة؟! إذا جاؤوا مكة للعمرة، يرمون ثيابهم التي يزعمون أنهم عصوا الله تعالى فيها، ويتركونها ملقاة على الأرض، ولا يأخذونها بعد ذلك أبدا، بل تُداس بالأرجل حتى تبلى وتتمزق، ويسمونه: الإلقاء أو اللقى، حتى جاء الإسلام، وحرم الله ذلك، ومنع النبي [ المشركين أن يطوفوا بالبيت عراة، وأمر بستر العورة، وذلك لما أرسل أبا بكر رضي الله عنه، وأردفه بعلي ]، أن يؤذّنا في الموسم: « ألّا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان». رواه البخاري (369) ومسلم في الحج (4/982) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وكان أهل الجاهلية ينسبون هذا الفعل القبيح إلى آبائهم وإلى الله تعالى؟! قال سبحانه: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (الأعراف: 28).
فقوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الفاحشة هنا: هي الطواف بالبيت عراة، وهذا من أبشع ما يتصور!! أن يتعرّى الإنسان عند بيت الله الحرام، في المسجد العتيق المبارك؟! الذي أمر الله من بناه وهو خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بتطهيره، فقال: {وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} (الحج: 26).
فقوله: {وطهر بيتي} أي: من الشرك والمعاصي، ومن النجاسات والأقذار، الحسية والمعنوية، وأضافه إلى نفسه فقال: {بيتي} تشريفا وتعظيما، فتعظم محبته في القلوب.
فانظر كيف استدرج الشيطان أهل الجاهلية، وجعلهم ينحطون إلى مثل هذه الحالة المزرية القبيحة، بما سوّل لهم وزين من القبيح، وإظهاره بصورة التعبد والتبرر، وهذا من قلب الحقائق، وعكس المفاهيم، وعدو الله بارع في مثل هذه الأحوال، حيث يقلب الحق باطلا، والباطل حقا، والحسن قبيحا والعكس، ويأتي الناس من باب العبادات، فيشرع لهم ما لم ينزل به الله سلطانا، فقال للمشركين: هذه ثياب عصيتم الله فيها، فكيف تطوفون بها ببيت الله الحرام؟! بل نزهوا بيت الله الحرام عن الطواف بهذه الثياب المليئة بالذنوب؟! فألقوها عنكم، وحرموا ما أحل الله اتباعا للشيطان؟! فكان أحدهم إذا جاء إلى مكة، ووجد من يُعيره ثوباً يطوف به فعل، وإلا ألقى ثيابه، وطاف بالبيت عريانا بغير ثياب؟؟!
وهذا إذا كان لم يقدر على شراء ثوب جديد يطوف به.
والأقبح من ذلك أنهم ادعوا أن آباءهم كانوا على ذلك؟! ثم نسبوا هذا الفعل الشنيع لله عز وجل ولشرعه، فقال الله تعالى عنهم {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} فهؤلاء الذين لا يؤمنون بالله الذين اتبعوا الشيطان، يزعمون أن الذي أمرهم بذلك هو الله؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا! فرد الله عليهم هذا الزعم الباطل فقال: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} قال ابن جرير: أي: قل لهم يا محمد: الله لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومساويها، ثم قال: {أتقولون على الله ما لا تعلمون} أتروون على الله أنه أمركم بالتعري؟! والتجرد من الثياب واللباس للطواف؟! وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك؟
ثم قال الله تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} أي: قل لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبا على الله: إن الله إنما يأمر بالقسط، أي: بالعدل، وأن تجعلوا سجودكم لله خالصا، دون ما سواه من الآلهة الباطلة.
وقد قال الله سبحانه وتعالى محذرا قبل هذه الآية: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} (الأعراف: 27).
فقوله: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أي لا يخدعنكم الشيطان، ويوقعكم في الفتنة والبلاء العظيم، ويصدكم عن سبيل الله تعالى، كما فعل مع أبويكم، بمكره وحيلته، حيث زين لآدم وزوجه الأكل من الشجرة التي نهاهم الله عنها، فلما أكلا من الشجرة، بدت لهما سوءاتهما، وطارت عنهم ثيابهما، وما كان يسترهما من الستر، قيل: كان نورا، فظهرت لهما السوءة؛ فلهذا حذر الله من هذا المكر الشيطاني وقال: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} وأنزل تبارك وتعالى بعدها {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا. رواه ابن جرير (14507 ).
وقوله: {عند كل مسجد} يعني: عند كل صلاة، فرضا كانت أو نفلا، فيجب على المصلي أن يأخذ زينته للصلاة.
والزينة: قال أهل التفسير: هي اللباس الذي يستر العورة، فيجب على الإنسان إذا أراد أن يصلي أن يستر عورته، فهذا واجب كما قلنا في الصلوات كلها بلا خلاف بين المسلمين.
وقال بعض أهل التفسير: قوله {خذوا زينتكم} المقصود به ما هو زائد على مجرد الثياب، فهو ما يتزين به الإنسان زيادة على ثيابه، يعني الزينة التي تكون فوق الثياب التي يستر بها عورته ، كالعمامة والعباءة، وكذا الطيب، والتنظّف ما استطاع، والسواك، ولاسيما في الصلوات التي يجتمع لها المسلمون كصلاة الجمعة والعيدين؛ فإن هذا مما يزداد سنيته واستحبابه، والنبي [ حث على ذلك: «ومن أتى الجمعة فليغتسل يمس من طيبه ومن طيب أهله» ويتسوك فيأخذ زينته عند كل صلاة، فهذا مشروع وشي محبوب.
وروى الطبراني: عن تميم الداري ] بسند صحيح: أنه اشترى ثوبا بألف دينار، أو بألف درهم يلبسه للصلاة؛ تجملا بين يدي الله سبحانه وتعالى.
وهذا من تعظيم شعائر الله تعالى، وأمر القيام بين يديه.
لكن هذا لا يعني الإسراف في ذلك، فقد قال سبحانه: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} وقال {ولا تبذر تبذيرا}، وقال: {إن الله لا يحب المسرفين} وغيرها.
فكما أمركم الله سبحانه وتعالى بأخذ الزينة، وخاطبكم بذلك فهذا لا يعني الإسراف في ذلك. وقال [: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا، في غير إسراف ولا مخيلة» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة.
ويروى أيضا موقوفا عن ابن عباس أنه قال: كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة.
من غير أن يكون في ذلك مبالغة في الإسراف، ولا مخيلة: يعني خيلاء وفخر وكبر.
وقد حث النبي [ على لباس البياض، فقال [ فيما رواه الإمام أحمد وأهل السنن: «البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم».
وقال أيضا: «البسوا الثياب البيض؛ فإنها أطهر واطيب، وكفنوا موتاكم» رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وابن ماجة – صحيح الجامع.
فهو لباس كان يستحبه النبي [ ويكثر من لبسه.
وستر العورة عند إرادة الصلاة، واجب في كل حال من الأحوال كما ذكرنا، ولو كان الرجل خاليا وحده في بيته، فالصلاة لا تصح إذا صلى الإنسان كاشفا عورته , والمرأة كذلك، وهي كلها عورة في الصلاة إلا الوجه والكفين على الصحيح، كما جاء ذلك في حديث النبي [: « لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار».
وقوله «حائض» يعني: بالغة.
والله تعالى أعلم.


ابوالوليد المسلم 21-03-2024 05:25 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(19)

من صفة نعيم أهل الجنة

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2140. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِ[: «يُنَادِي مُنَاد:ٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}».
الشرح:
هذا الحديث الثاني في سورة الأعراف، وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
وهو حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة جميعا، روياه عن النبي [ أنه قال: «ينادي مناد» وهذا المنادي قد يكون من الملائكة، أو من غيرهم، فينادي أهل الجنة مبشرا لهم فيقول: «إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا» أن تصحوا يعني أن تكونوا صحاح الأبدان، فلا يصيبكم في الجنة الأمراض ولا الأسقام، فالمرض لا يطرأ على أهل الجنة، بقدرة الله سبحانه وتعالى وحفظه وبأمره.
قوله: «وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا»، فأهل الجنة لا يموتون أبدا، كما قال الله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} (الدخان: 56). يعني: لا يموتون أبدا إلا موتة الدنيا.
وقال سبحانه تعالى في مواضع كثيرة من القرآن: {هم فيها خالدون} وقال {خالدين فيها أبدا} وقال: {لهم فيها نعيم مقيم}، وقال: {عطاءً غير مجذوذ} أي: غير مقطوع. وهذا وأمثاله في القرآن كثير؛ مما يدل على أبدية الجنة وأهلها ونعيمهم.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في «العقيدة»: « والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبدا ولا تبيدان».
وذلك أن الموت من أعظم المنغصات للإنسان، وهو يتقيه بكل ما أوتي من قوة ومال وجاه وسلطان، ولو ذكره أو تذكره وهو في فرحه وسروره، وبين أهله وولده، وفي ملكه وسلطانه، لضاقت نفسه وتكدّرت، وتغيرت من الفرح والسعادة، إلى الضيق والحزن، والهم والغم.
فأهل الجنة لا يجري على بالهم الموت ولا الفناء، أو حتى الانتقال مما هم فيه، كما قال تعالى: {لا يبغون عنها حولا}.
قوله: «وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا» أي: إن أهل الجنة في شباب دائم، لا يطرأ عليهم الهرم، ولا تصيبهم الشيخوخة، ولا يشيبوا، بل هم في شباب مستمر دائم لا ينقطع، بأمر الله سبحانه وتعالى، قال [: «أهل الجنة جُردٌ مردٌ كُحل، لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم» رواه الترمذي بسند حسن.
قوله: «وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا» أي: إن لكم أن تنعموا نعيماً مستمرا أبدا، ليس فيه بؤس، والبؤس: هو الفقر وشدة الحال، وأيضا البؤس هو الشقاء، فأهل الجنة لا يصبهم شقاء، بل هم في راحة وسعادة وطمأنينة، لا يكدر عيشهم شيء من الأكدار، لا الأمراض ولا الفقر، ولا يهابون الأعداء، ولا يذهب عنهم الأمن، ولا يصيبهم الفزع، ولا ينغص عيشهم مرض ولا موت، ولا ارتحال ولا انتقال، كل هذه المنغصات ممنوعة عنهم ومرفوعة، فلا يصبهم فيها شيء منها؛ لكمال نعيمهم.
قوله: قال [: «فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف: 43)».
{ وَنُودُواْ}: أي: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات (نودوا) مبني لغير المذكور، قيل: المنادي هو الله سبحانه وتعالى؛ تكريما لهم وتشريفا.
وقيل: المنادي هم الملائكة.
والحاصل أنهم ينادون بذلك تهنئة وبشارة لهم، وتحية إكراما.
ومعنى قول الله عز وجل: {أورثتموها} أي: كنتم أنتم الوارثين لها، والمقصود هم أهل الجنة، لكن هم ورثوا الجنة عمن؟! هل كان في الجنة أحد قبلهم ليرثونها عنهم؟ قال بعض أهل التفسير: إن أهل الجنة يرثون منازل الكفار؛ لأن كل إنسان له منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن هو آمن وعمل بعمل أهل الجنة، دخل منزله في الجنة، وإن هو كفر وعمل بعمل أهل النار والعياذ بالله، دخل منزله في النار، وورث أهل الجنة منزله بالجنة.
وقيل: معنى {أورثتموها} أن هذه المنازل التي في الجنة إنما أعطيتموها بالأعمال الصالحة التي اكتسبتموها، وبرحمة الله تبارك وتعالى.
وقيل: {أورثتموها} يعني: جاءتكم بلا تعب ولا نصب، ولا بناء بيوت وقصور، ولا غرس زروع وأشجار، ولا شق أنهار، بل أخذتم ذلك كله سهلا، كالميراث في الدنيا، فالميراث يأتيك بغير تعب ولا اكتساب، فكذلك الجنة وما فيها من النعيم الواسع، من مساكن وأشجار وبساتين وأنهار وأزواج، هذا كله جاءك بغير تعب ولا نصب كالميراث الذي لم تتعب فيه.
وقول الله عز وجل: {بما كنتم تعملون}، الباء هنا هي السببية، أي إن أعمالكم كانت سبباً في دخولكم الجنة، بعد رحمة الله سبحانه وتعالى وفضله؛ فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي وفقكم للإيمان والعمل الصالح، وهو الذي أقدركم وأعانكم على العمل الصالح، ووقاكم شر أنفسكم والشيطان.
أما المعتزلة فيقولون: أهل الجنة يدخلون الجنة بأعمالهم وليس بتوفيق الله؟! لأنهم يزعمون: أن الله عز وجل لا يقدر أن يهدي ضالا؟! ولا أن يضل مهتديا، بل ولا أن يزيد المهتدي هداية؟! وإنما هي أعمال كلها كسب من العباد فقط عندهم؟!
قال جار الله الزمخشري المعتزلي صاحب كتاب: « الكشاف في التفسير» في تفسيره لقوله تعالى: {بما كنتم تعملون}: بسبب أعمالكم، لا بالتفضل كما تقول المبطلة؟؟! انتهى.
هكذا قال؟! ومن هم المبطلة؟ يقصد أهل السنة والجماعة؟! للأسف الشديد!! لأنه على مذهب المعتزلة في تفسيره «الكشاف»، وقد بث فيه عقيدتهم؛ فلهذا حذر منه أهل العلم قديما وحديثا، وتعقبه ابن المنير في حاشية له مطبوعة على الكتاب.
وذلك لأنهم قدرية في باب القدر، والقدرية يقولون: إن الإنسان يخلق فعل نفسه، أي: إن أفعال المخلوقين غير مخلوقة لله عز وجل؟! وهذا خلاف الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {الله خالق كل شيء}، وقال {والله خلقكم وما تعملون}، وهو إجماع المسلمين من أهل السنة والجماعة.
واحتجوا بأن النبي [ يقول: «سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته» متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
والجواب: أن الباء التي في قوله «بعمله» غير الباء التي في قوله: {بما كنتم تعملون} فإن الباء الأولى هي باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل الجنة، وأما الباء الثانية، فهي باء السبب، أي: بسبب أعمالكم، والله تعالى خالق الأسباب والمسببات، فيرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته.
فالتصريح بأن الأعمال سبب لدخول الجنة، لا يعني نفي سبب آخر، وهو فضل الله سبحانه وتعالى على عباده، كما ذكّر الله به عباده في كتابه كثيرا فقال سبحانه: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}، وقال عز وجل: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا} وقال: {ذلك الفضل من الله} وقال: {يدخل من يشاء في رحمته} وقال: {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} فهذه كلها آيات تدل على أن الأعمال التي كانت سببا لدخول الجنة، كانت برحمة الله تعالى وإحسانه، وهي السبب العظيم - بل هي الأصل – لدخولها.
وقال بعض أهل العلم: إن دخول الجنة هو برحمة الله وفضله، وأما الدرجات فبتفاضل الأعمال وتفاوت ما بين المؤمنين، فهناك السابق بالخيرات وهناك المقتصد، وهناك الظالم لنفسه.
وما أجمل ما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
فحيّ على جنات عدنٍ فإنها
منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلّم
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يدخلنا جميعا في رحمته، ويرفع منازلنا في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد [.


ابوالوليد المسلم 21-03-2024 05:27 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(20)

الأمان من العذاب

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
سورة الأنفال: باب: في قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}.
2141. عن أَنَس بْن مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ، أَو ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فَنَزَلَتْ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
الشرح: الحديث في سورة الأنفال، وقد أورد فيها المؤلف حديثاً واحدا، في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الأنفال: 33- 34 ).
والحديث عن أنس بن مالك ]، وقد رواه الإمام مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، وأورده الإمام المنذري في كتاب التفسير من مختصره هنا؛ وذلك لأن المنذري جمع أحاديث التفسير من صحيح مسلم في مكان واحد، والإمام مسلم وأن كان قد ذكرنا سابقاً أنه قد أفرد أحاديث التفسير في كتاب في آخر صحيحه، إلا أنه قد فرّق بعض الأحاديث المتعلقة بالتفسير في خلال كتابه الصحيح.
قال أنس ابن مالك رضي الله عنه: «قال أبو جهل، وأبو جهل هو عمرو بن هشام عدو الله ورسوله، وكان يسمى بأبي الحكم، فسمّاه النبي [ بأبي الجهل! وجاءت تسميته في بعض الأحاديث - وان كان في سندها كلام – تسميته بفرعون الأمة، وهكذا كان لعنه الله، فقد كان رأساً في الكفر والإلحاد، والمحادّة والمعاندة لله تعالى، والمعاداة لرسوله [، وقد قتل يوم بدر كافرا.
قال: قال أبو جهل: « اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك، فأمطر علينا حجارةً من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم» وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنه في كتابه هذه المقالة، التي تدل على جهله وسفاهته، وقلة عقله، وظلمه لنفسه وقومه، إذ قال: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} أي: إن كان ما يدعو إليه محمد [ هو الحق الذي أرسلته به. وقال مجاهد وعطاء والسدي وغيرهم إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث (انظر تفسير الطبري 11/142 – 145).
وقد تكون هذه المقالة قد تكررت على لسان هؤلاء جميعا.
وقوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32) أي: أنزل علينا عذابا، إن كنا قد عصيناك بترك اتباع محمد [؟! وهذه مقالة الأغبياء والسفهاء، والجهلة الظالمين؛ لأنه إن كان يريد التوصل إلى الحق الذي يعتقده بدليل أو ببرهان، فكان الواجب عليه أن يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأرشدنا إليه، أو اهدنا له، وبينه لنا، لكن قال هذه المقالة التي تدل على الغباء والسفاهة وقلة العقل، وقد قالها من قبله الجهلة والكفرة من الأمم السابقة، فاستعجلوا العذاب والعقوبة من الله عز وجل، كما قال سبحانه عنهم: {ويستعجلونك بالعذابِ وولولا أجلٌ مسمّى لجاءهم العذاب وليأتينّهم العذابُ بغتةً وهو لا يَشعرون} (العنكبوت: 53).
وقال تعالى أيضا: {سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس دافع له من الله ذي المعارج} (المعارج: 1 – 3)، قال ابن عباس: إن السائل: هو النضر بن الحارث ابن كلدة. وقال تعالى أيضا: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} (ص: 16) أي: عجل لنا قسطنا وما قسمت لنا من العذاب عاجلا غير آجل؟! إن كان محمد [ صادقا!
وقال الجهلة من قوم شعيب \: {فأسقط علينا كِسفاً من السماء إن كنت من الصادقين} (الشعراء: 187) أي: أنزل علينا قطعا من العذاب من السماء. وهذا يدل على الجحود والإنكار من الأمم لما جاءت به الرسل صلى الله عليهم وسلم من الهدى ودين الحق والتحدي والعناد.
وكأنما ما جاءت به الرسل، وما جاء به محمد [ ليس بيّنا ولا ظاهرا ولا واضحا، ولا دلت عليه الدلائل المتكاثرة والآيات والمعجزات! بل كأن ما جاءوا به كان خفيا، فقال هنا «إن كان هذا هو الحق من عندك»، وهذا لا شك أنه معاندة ومكابرة لرسول الله [.
قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: يكون قذف بالحجارة من السماء ورجم، أو أي عذاب أليم ينزل من السماء، فقال الله سبحانه وتعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}، وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما كان الله ليعذب قوماً وأنبياؤهم بين أظهرهم، حتى يخرجهم.
والمقصود هو رسول الله [، أي: ما كان الله عز وجل ليَعم بالعذاب أمةً فيها نبيها، حتى يتوفاه الله عز وجل، أو يخرجه من بين ظهرانيها، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} (الزخرف: 41).
يعني: إذا توفاك الله أو ذهب بك، فإنه سينتقم من قومك المكذبين المستكبرين؛ فلهذا قال عز وجل هنا: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال: 33). قوله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} قال ابن عباس: كان فيهم أمانان، يعني: أمانان من العذاب: الأمان الأول: وجود النبي [ بينهم، والأمان الثاني: الاستغفار.
فذهب الأمان الأول بوفاة النبي [، وبقي الأمان الثاني وهو الاستغفار، فوجود النبي [ في الأمة، أمان من عذاب الله سبحانه وتعالى، والأمان الثاني الاستغفار، هذا ما دلت عليه الآية الكريمة.
وما المقصود بالاستغفار في قوله: {وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فهل كان المشركون يستغفرون الله؟! قال أهل التفسير: كانوا يقولون في طوافهم: غفرانك غفرانك. وقال آخرون: كانوا إذا خلوا بأنفسهم: استغفروا الله عز وجل من قولهم: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأنزل علينا حجارة من السماء؛ إذ كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم أن هذا القول قبيح، وكلام عظيم، فكانوا إذا رجعوا إلى بيوتهم وخلو بأنفسهم، خافوا الله عز وجل وخافوا من عذابه، فكانوا يستغفرون الله عز وجل.
والقول الثالث: وهو قول أيضا راجح وقوي: أن معنى الآية: أن الله عز وجل لم يكن معذبهم وفيهم المسلمون الذين يستغفرون الله تعالى، فلما خرج المسلمون من بين أظهرهم، أي لما هاجروا إلى المدينة، عذّبهم الله عز وجل في يوم بدر وما بعدها. فالمقصود إذاً من كان من المسلمين بمكة. والمعنى الرابع: وهو معنى قد يمكن دخوله في الآية، أي: وفي أصلابهم من يستغفر الله، يعني سيخرج من أصلاب المشركين من يستغفر الله.
والمعنى الخامس: أن هذه دعوة من الله لهم أن يتوبوا وأن يستغفروا الله، إذا أرادوا أن يرفع الله عز وجل عنهم البلاء والعذاب، والحجارة من السماء التي طلبوها، فعليهم أن يستغفروا الله سبحانه وتعالى.
إذاً دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان من عذاب الله تعالى وعقوبته، وأمان من سيئات الأعمال، فمن خاف من سيئات أعماله، أي السيئات التي تصيبه بسبب ما كسبت يداه، بسبب ظلمه، أو بسبب فسقه، بسبب تعديه لحدود الله، فعليه أن يستغفر الله عز وجل، والآيات والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جدا، كقوله تعالى {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا} (هود: 3).
وكقول نوح عليه السلام لقومه: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} (نوح: 10 – 12) وغيرها من الآيات التي يمكن الرجوع إليها في مظانها.
وقول الله عز وجل: {وما لهم ألا يعذبهم الله} أي هم مستحقون لعذاب الله عز وجل في الحقيقة، وأهل لذلك، لماذا؟ قال الله عز وجل في بيان ذنبهم {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الأنفال: 34).
وهذا ذنبٌ عظيم ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم، وهو أنهم كانوا يصدون عن البيت الحرام، فيمنعون المؤمنين من الحج والعمرة والطواف بالبيت الحرام، وهذا حصل منهم بعد هجرة النبي [، بل قبل هجرته [، فكانوا يمنعون من يقرأ القرآن عند البيت الحرام، ويمنعون من الصلاة عنده، كما يمنعون المسلمين من الطواف بالبيت الحرام، ويسبونهم فيقولون: هؤلاء الصابئة هؤلاء كذا وكذا، فيؤذونهم إذا طافوا بالبيت الحرام، قال عز وجل: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أولياؤه إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأنفال: 34).
وقوله: {وما كانوا أولياءه} فيه قولان: الأول: أن الضمير في (أولياؤه) عائد إلى الله عز وجل، أي: أن هؤلاء المشركين ليسوا أولياء لله؛ لأن أولياء الله هم الصحابة المؤمنون المتقون، أما المشركون فليسوا من أهل الولاية. والقول الثاني: {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} عائدٌ إلى البيت الحرام، أي: إن هؤلاء المشركين ليسوا بأحق من المسلمين بالبيت الحرام؟! بل أهل الإيمان أحق بالبيت الحرام من المشركين.
لماذا؟ لأن البيت الحرام إنما أسس على التوحيد والإيمان والإسلام، ولعبادة الله وحده لا شريك له، وهؤلاء المشركون أدخلوا إلى البيت الأصنام والرجس والشرك والكفر بالله سبحانه وتعالى والأخلاق الرديئة؛ ولهذا كان أهل الإيمان والإسلام أحق بالبيت الحرام، لأنه إنما بُني البيت لأجل ذكر الله وتوحيده، كما قال تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود} (البقرة: 125).
يطهره من ماذا؟ يطهره من النجاسات الحسية، ومن النجاسات المعنوية، والتي هي أشد من النجاسة الحسية، ألا وهي الشرك بالله سبحانه وتعالى، وكل ظلم وخلق قبيح.
فالصحابة في الحقيقة هم أولياء الله، وهم الذين أحق بالبيت الحرام، الذين اتقوا الله تعالى بفعل أوامره، وترك زواجره.


ابوالوليد المسلم 23-03-2024 04:10 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(21)

خطر النفاق على صاحبه

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
(سورة براءة) باب: في قوله تعالى: {ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تَقم على قبره} (التوبة : 84) .
فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم في فضائل عمر رضي الله عنه (رقم 1636) .
الشرح: أورد في الأنفال حديثا واحدا، ثم انتقل إلى سورة براءة، وهي سورة التوبة، سميت براءة؛ لأن أولها كلمة ( براءة ) فسميت بذلك؛ إذ يتبرأ فيها الله سبحانه وتعالى ورسوله [ من جميع المشركين .
وسميت بـ«سورة التوبة» لأن الله سبحانه وتعالى تاب فيها على النبي والمهاجرين والأنصار، في غزوة العسرة كما في الآية: {لقد تابَ الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتّبعوه في سَاعة العُسرة} (التوبة : 117) .
وأيضا : تاب الله فيها على الصحابة : كعب بن مالك وصاحبيه، وأنزل توبتهم في أواخرها، في قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا} إلى قوله: {ثم تابَ عليهم ليتوبوا إنّ الله هو التوّاب الرحيم} (التوبة: 118) .
وأيضا: في هذه السورة العظيمة دعا الله سبحانه وتعالى المشركين إلى التوبة من الشرك، والدخول في الإسلام، في أكثر من موضع فقال سبحانه: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة : 5).
وقال بعدها: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فإخوانكم في الدين} (التوبة : 11).
قول المنذري: باب في قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} هذه الآية الرابعة والثمانون من سورة التوبة.
وقال: فيه حديث ابن عمر، وقد تقدم في كتاب الفضائل، أي في فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهذا الحديث إنما أشار إليه المؤلف إشارة هنا، بأنه قد تقدم في كتاب الفضائل، حيث أورده الإمام مسلم هناك، والإمام مسلم قد أورد هذا الحديث الذي له تعلق بهذه الآية من سورة التوبة، أورده في باب فضائل عمر رضي الله عنه؛ لموافقته للحق ونزول الآية بما رأى واختار .
والحديث المشار إليه هو : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه لما توفي عبد الله بن، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول [ الله[، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه! فقام رسول الله [ ليصلي عليه! فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله [! فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله [: «إنما خيرني ربي، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} وسأزيد على السبعين « قال عمر : إنه منافق ! قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل آية {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة : 84).
وهكذا أيضا رواه البخاري في صحيحه، ورواه الإمام أحمد بزيادات فيه : أنه لما قام النبي [ رسول الله، أعلى عدو الله عبد الله بن أبي؟! القائل يوم كذا.. كذا وكذا، ويوم كذا.. كذا وكذا، يعدد أيامه».
أي: يعدد الأيام التي كانت له فيها مواقف مشينة، بل كفرية وفيها محادة لله ورسوله، صدرت عن عبد الله بن أبي؛ لأنه كان رأسا من رؤوس النفاق، وقد آذى الله ورسوله في غير ما مناسبة، فمن ذلك كلمته المشهورة التي حكاها القرآن عنه في الآية: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (المنافقون : 8)، هذه كلمته، ونقلها الله سبحانه وتعالى عنه في كتابه، وهو وأصحابه أيضا القائلون: {لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} (المنافقون: 7)، أي : ضيقوا عليهم الإنفاق، واقطعوا عنهم الأموال؛ حتى تضيق عليهم الأحوال، ويشتد عليهم الفقر والحاجة، فيتفرقوا عن رسول الله[ بسبب الجوع والفقر، وهذا كله من الصد عن سبيل الله تعالى، والمكر الخبيث، والبغض للنبي [ وأصحابه، بل كراهية الإسلام وانتشاره وقوته وعلوه!
وهذه الحيل وهذا المكر وهذه الخطط الشيطانية تتكرر في كل عصر ومصر، فاليوم يضيق الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على أهل الإسلام، ويضيق على الجمعيات الخيرية، والهيئات الدعوية في جمع الأموال والتبرعات، ويضيق عليهم في نقل الأموال للمحتاجين والفقراء، أو بناء المساجد وغيرها، في مختلف بلاد المسلمين، مع اتهامهم بشتى أنواع التهم المنفرة، كل ذلك لمنعهم من العمل والدعوة لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى في الأرض، لكن الله سبحانه وتعالى {مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف: 8).
فالنبي [ لما عدّد له عمر رضي الله عنه أيام عبدالله ابن أبي وما فعل مع نبي الله والمسلمين تبسم، حتى إذا أكثر عليه قال: «أخر عني يا عمر، إني خيرت فاخترت، قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ}، ولو أعلم أني لو زدت» على السبعين غفر لهم زدت، ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه، قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله [ وسلم، والله ورسوله أعلم « أي : كيف تجرأت ووقفت على النبي [ وقلت له: أتصلي على عدو الله، أتصلي عليه وقد قال كذا وكذا؟! يوم كذا وكذا، وعدد أيامه، قال عمر: فوالله ما كان إلا يسيرا، حتى نزلت هاتان الآيتان: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} (التوبة : 84)، فما صلى رسول الله [ بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل .
وفي هذا الحديث : أن رسول الله [ كان من هديه ومن سننه أنه يصلي على موتى الصحابة ويدعى إلى ذلك من قبلهم .
ومن هديه [ أيضا : أنه كان يقف على القبر بعد أن يدفن صاحبه ولا ينصرف مباشرة، إذ كان يدعو له، وكان يقول لأصحابه إذا وقف على القبر: «استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل» رواه أبو داود (3221).
ففي هذا الحديث استحباب الاقتداء بالنبي [ في هذه السنة المهجورة عند الناس .
فهذا لعموم المسلمين، ولكن في هذه الآية منعه الله عز وجل من الصلاة على المنافقين، الذين ظهر نفاقهم، وبان كفرهم للمسلمين بأفعالهم وأقوالهم؛ ولهذا قال الله تعالى له: لا تصلِّ عليهم، ولا تقم على قبورهم، ولا تستشفع لهم؛ فإن الشفاعة فيهم لا تقبل لأنهم ليسوا أهلا لذلك .
وقد يقول قائل : إذاً لماذا النبي [ فعل ذلك مع عبد الله بن أبي؟! والجواب: أولا: لا شك أن ما فعله النبي [ كان اجتهادا منه، لا يخالف نصاً صريحا، بل كان مراعاة لمصالح يراها [، وترغيبا منه لقوم بن أبي في الإسلام، وسعياً في تأليف قلوب أتباعه، وتثبيتهم على الدين وهي مصلحة كبيرة.
وأيضا: كان النبي [ رؤوفاً رحيماً كما وصفه الله تعالى بقوله: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}، فلعله طمع أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه، وإن كان مَن كان، لكن الله سبحانه وتعالى نهاه عنه .
وأما إلباسه ثوبه، فقد ذكر بعض أهل السير: أن النبي [ إنما أعطاه ثوبه وكساه قميصه، لأن عبد الله بن أبي كان قد كسا العباس عم النبي [ مثله، وذلك لما قدم العباس المدينة، وطلب له قميص فلم يوجد على قدره إلا ثوب عبد الله بن أبي؛ لأنه كان ضخما طويلا فأعطاه ثوبه، ففعل النبي [ به ذلك مكافأة له، ورد له الجميل.
وقوله: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» يدل على أنه [ كان يطمع في حصول المغفرة له؛ لأنه كان يظهر الإسلام، والمنافق تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة، وأنه خير فيه لقوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} وأن ذكر السبعين مراد، وليس للمبالغة، ولذلك قال [: سأزيد عليها . وقد يكون قد قاله تألفا لقومه .
وهذا النهي عن الصلاة على المنافقين وعن القيام على قبورهم، لمن ظهر نفاقه وفجوره أو الاستغفار له، هو نهي للأمة وليس للرسول [ وحده، فالأمة عليها أن تتابع نبيها في ذلك، ولكن على المسلم أن يأخذ بالظاهر ولا يسأل عن السرائر، فمن ظهرت منه أمارات الإسلام والإيمان، صلينا عليه ووقفنا على قبره، أما من ظهرت منه أمارات الكفر بعمل أو قول، اجتنبناه ولم نصل عليه، أما من كان تاركا لبعض الفرائض، أو مسرفا على نفسه بالكبائر وهو أقرب إلى الكفر، فهذا ينبغي يصلى عليه ألا الأكابر من المسلمين، من العلماء والفضلاء والمشهورين بالصلاح، فهؤلاء لا يصلون عليه زجراً له ولأمثاله من العصاة.
وكان عمر بن الخطاب ] لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان؛ لأنه كان يعلم المنافقين بأعيانهم؛ إذ كان النبي [ قد أخبره بأسماء المنافقين، وكان يكتم هذا السر؛ ولذلك كان يقال له : صاحب السر، يعني الذي لا يعلمه غيره من الصحابة . وقول الله عز وجل {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ} يعني : أنه لا تصح الصلاة على هؤلاء الكفار، ومن أظهر الكفر بالله ورسوله، لا تصح الصلاة عليه .
{وماتوا وهم فاسقون} الفسق هو الخروج عن الطاعة، وهي في الأصل دون الكفر، لكن قد يجتمع مع الكفر، فقد يكون الرجل كافرا وفاسقا، وقد يكون كافرا ليس عنده ما يفعله أهل الفسق والكبائر، فقد يكون كافرا بالله عز وجل لكنه لا يشرب الخمر، ولا يأتي الفواحش والمنكرات، فإذا جمع بين هذا وهذا قيل له: كافر فاسق، وقد تجتمع به أيضا صفة الظلم للخلق، والصد عن سبيل الله، وهذا مما يزيد في عذابه، كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} (النساء : 167 – 168).
وقال سبحانه: {الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون} (النحل : 88 ) أي : ضاعفنا لهم العذاب .
فهناك الكفار، وهناك أئمة الكفر، ودعاة الضلال، ممن جمع بين ضلال نفسه وإضلال غيره، وهذا أشد، وعذابه عند الله أكبر .
وفي الحديث : جواز الإعلام بوفاة الميت، وأن ذلك لا يدخل في النعي المنهي عنه . وفيه : جواز العمل بالظاهر إذا كان النص محتملا .
وفيه : جواز تنبيه المفضول الفاضل على ما يظن أنه سها عنه .
هذا ما تيسر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


ابوالوليد المسلم 23-03-2024 04:11 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(22)

في أسماء السور ومعانيها

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

باب: في سورة (براءة) و(الأنفال) و (الحشر)
2142. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ، قَالَ: آلتَّوْبَةِ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ الْفَاضِحَةُ، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ {وَمِنْهُمْ)} {وَمِنْهُمْ} حَتَّى ظَنُّوا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا . قَالَ قُلْتُ : سُورَةُ الْأَنْفَالِ؟ قَالَ: تِلْكَ سُورَةُ بَدْرٍ . قَالَ ألاّ قُلْتُ: فَالْحَشْرُ؟ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ .
الشرح :
الباب العشرون من كتاب التفسير من مختصر الإمام مسلم للإمام المنذري باب في سورة براءة والأنفال والحشر، وإنما جمعها في هذا الباب لورود هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما فيها، وهو حديث سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة .... وهذا الأثر أخرجه الإمام مسلم في آخر كتاب التفسير من صحيحه .
سعيد بن جبير هو الأسدي مولاهم، ثقةٌ ثبت فقيه، تابعي مشهور بالتفسير عن ابن عباس، وهو من المكثرين في الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وابن عباس رضي الله عنهما هو عبد الله، ابن عم النبي [ ، ترجمان القرآن، وحبر الأمة، وعالم القرآن المتبحر فيه، ببركة دعوة النبي [ : «اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين» .
قال: فقلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة؟ فقال ابن عباس معترضا كالمستفهم أو كالمنكر: «آلتوبة؟! بل هي الفاضحة» أي إن سورة التوبة قد فضح الله سبحانه وتعالى فيها المنافقين، وذلك ببيان صفاتهم وأقوالهم وأفعالهم، لا بذكر أسمائهم، فسورة التوبة ليس فيها ذكر أسماء المنافقين وذكر قبائلهم، الذين كانوا على عهد النبي [ ، وإنما فضح الله سبحانه وتعالى فيها صفات المنافقين، وأوضح فيها أفعالهم القبيحة التي ظهر منها ما في قلوبهم من الكفر بالله تعالى، والتكذيب لرسوله [ ، وقصد المحاربة للإسلام وأهله.
ولذلك قال ابن عباس في بيان ذلك: ما زالت تنزل{ومنهم} {ومنهم} يعني: ما زالت تنزل الآيات تلو الآيات التي مطلعها {ومنهم} كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (التوبة: 58)، وقوله: {ومنهم الذين يُؤذون النبيَّ ويقولون هو أُذن} (التوبة: 61)، وقوله: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (التوبة : 75- 76)، وغيرها .
قال: حتى ظنّوا، يعني ظن الصحابة، أنه لن يبقى أحد إلا ذكر في هذه السورة ، وهذا من خوفهم رضي الله عنهم من النفاق وأخلاقه، وأن المؤمن الحق لا بد أن يخشى التقصير في حق الله تعالى، والوقوع فيما لا يرضي الله من الأقوال والأفعال.
ولكثرة ما ذكر الله في التوبة من أحوال المنافقين، قال ابن عباس: هي سورة «الفاضحة»؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضح فيها المنافقين، وكشف أستارهم.
وأيضا تسمى سورة «البحوث»، لأنها تبحث عن أسرار المنافقين .
وتسمى أيضا: «المبعثرة» لأنها بعثرت صفوف المنافقين ، وأعلنت الحرب على المشركين.
وتسمى سورة التوبة؛ لأن هذه السورة ذكر الله سبحانه وتعالى في خاتمتها توبته على النبي والمهاجرين والأنصار وذلك بمغفرة ذنوبهم، وتوفير حسناتهم، ورفعت درجاتهم في الآخرة، فقال: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} (التوبة: 117)، ثم ذكر توبته على الثلاثة الذي خلفوا: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ...} (التوبة: 118) الآية، فلهذا سمّاها الصحابة بسورة التوبة، وكتبت في المصاحف بهذا الاسم.
ومعلوم أن التوبة منزلة عظيمة من منازل: {إياكَ نعبدُ وإياك نستعين}، وهي منزلة لا يستغني عنها العبد مهما ارتفعت منزلته ودرجته؛ فإن الله تبارك وتعالى ذكرها عن صفوة خلقه، وسادات الناس، من أنبيائه ورسله، فما من نبي في القرآن إلا وقد ذكر الله سبحانه وتعالى توبته واستغفاره، وأول ذلك توبة أبينا آدم عليه الصلاة والسلام وزوجه حواء، في قوله تعالى لما تابا من الأكل من الشجرة: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23)، وذكر ربنا سبحانه وتعالى توبة نوح عليه السلام، وذكر توبة إبراهيم وموسى وهارون ويونس عليهم الصلاة والسلام وغيرهم .
والتوبة منزلة من منازل العبودية، فكل عبدٍ لله فهو تائب، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: قد قسم الله سبحانه وتعالى العباد إلى قسمين، وما ثمَّ قسمٌ ثالث، فقال: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات : 11)، يعني: إما أن تكون تائبا، وإما أن تكون ظالما، لا يوجد قسم ثالث! فالمؤمن تائب، والفاجر مصرٌ ظالم، فالمؤمن حاله كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ} (آل عمران : 135)، فمن صفة المؤمن أنه لا يصرّ على ذنبه، بل يتوب ويندم ويستغفر الله سبحانه وتعالى .
فابن عباس رضي الله عنهما كأنه رأى أن تسميتها بالفاضحة، أقرب من تسميتها بالتوبة؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها أحوال المنافقين ، وفضح فيها أسرارهم.
قوله : قال : «قلت سورة الأنفال؟ قال : تلك سورة بدر» أي إن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها وقائع غزوة « بدر الكبرى « التي حصلت فيها، من لقاء جيش الإيمان بمعسكر الكفر والطغيان، على غير موعد بل بتقدير الله وقضائه؛ ليحقّ الله الحق ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون، وينتقم ممن شاق الله ورسوله شرّ انتقام، كما قال سبحانه: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} .
وذكر في هذه السورة – الأنفال - نزول الملائكة لنصرة الصحابة وتثبيتهم ، ونزول السكينة في قلوبهم ، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، ونزول المطر للتطهر به ، ولتثبيت الأقدام، وما حصل فيها من إجابة دعاء المؤمنين، واستغاثتهم بربهم ، وغير ذلك مما جرى فيها .
والأنفال: جمع نفل، وهي الغنيمة، التي نفلها الله تعالى لهذه الأمة من أموال الكفار، وذلك أن غزوة بدر هي الغزوة الكبرى الفاصلة بين معسكر الكفر والإيمان ، التي حكم الله فيها للنبي [ وأصحابه على من ظلمهم وبغى عليهم، ففصل الله سبحانه وتعالى فيها بينهم وبين عدوهم، وغنموا في هذه الغزوة غنائم عظيمة، واختلف فيها الصحابة، في قسمتها وكيف التصرف بها، فأنزل الله تعالى هذه السورة وفي مطلعها: {يسألونك عن الأنفال} أي: الغنائم {قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ} أي: يحكم فيها الله ورسوله [ ، فليس لكم من الأمر شيء {فاتقوا الله} بامتثال أوامره ، وترك زواجره، وطاعة رسوله فيما يأمركم به، {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي أصلحوا ما حصل بينكم من التشاحن والاختلاف، بالتواد والتحاب والتواصل، {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فالأنفال التي حصل فيها اختلاف بينكم، بيّن الله سبحانه وتعالى أنها لله والرسول، أي: يحكم الله سبحانه وتعالى فيها ما يشاء، فعليكم السمع والطاعة .
قوله: «قال: قلت: فالحشر؟ قال: نزلت في بني النضير» بنو النضير طائفة كبيرة من اليهود كانت تسكن في المدينة، وهي إحدى ثلاث قبائل هناك، وهي: بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة، وبنو النضير كانوا قد عاهدوا النبي [ لما هاجر النبي [ إلى المدينة، ومن لوازم العهد بينهم: أن يعين بعضهم بعضا في النوائب والحروب والديات، وكان النبي [ قد ذهب إليهم يستعينهم في دية عمرو بن أمية الضمري، فقالوا له: اجلس هاهنا ، ثم زين لهم الشيطان الشقاء الأبدي، بأن يلقوا على النبي [ حجرا من سطح أحد بيوتهم فيقتل، وقال أحدهم: لا تفعلوا، والله ليخبرن رسول الله [؟! أي بالوحي، هو يهودي لكن يعرف أنه نبي الله، فجاء الوحي إلى النبي [ فأخبره بغدرهم ونقضهم للعهد، فعند ذلك قام النبي [ ورجع إلى المدينة وتبعه الصحابة؛ فأرسل إليهم أن يخرجوا من المدينة لأنهم نقضوا العهد، فجاءهم عبد الله بن أبي كبير المنافقين وحرضهم على عدم الخروج، وقال: أنا معكم، ومعي ألفا مقاتل، ومعكم قبيلة غطفان تعينكم أيضا ونحن من ورائكم، فلا تخرجوا، وحرضهم على العصيان، فأبوا أن يخرجوا، فعند ذلك حاصرهم النبي [ ، وحرق بعض نخلهم لتخويفهم وهي البويرة، وألقى الله سبحانه وتعالى الرعب في قلوبهم، كما ذكر في أول سورة الحشر، ثم بعد ذلك نزلوا على الصلح ووافقوا على الخروج، وأذن لهم النبي [ أن يأخذوا ما تحمله إبلهم غير السلاح، فخرجوا من المدينة ، وأجلاهم النبي [ صلحا .
هذه كانت قصتهم التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر فقال: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر : 2) .
فخرجوا من المدينة ولولا أن الله كتب عليهم الجلاء لعذبهم كما عذب بني قريظة. وكانت نخل بني النضير لرسول الله غنيمة خاصة، قال تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} (الحشر : 6).
فسورة الأنفال فيها قصة غروة بدر، وسورة الحشر فيها قصة غزوة بني النضير، فإذا أراد المسلم أن يطلع على ما حصل في بدر فليقرأ تفسير سورة الأنفال ، وإذا أراد أن يعلم ما حصل في غزوة بني النضير فليقرأ تفسير سورة الحشر من تفسير الإمام ابن جرير وابن كثير وكذا كتب السيرة وما جاء في الصحيح من أحاديثها.
والله تعالى أعلم .



ابوالوليد المسلم 23-03-2024 04:14 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(23)

الصلوات تذهب بالسيئات

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
( سورة هود ) : باب في قوله تعالى: {إن الحسناتِ يذهبن السيئات}.
2143. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ [ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ ! فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ، لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، قَالَ : فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ [ شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ، فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا دَعَاهُ، وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذَا لَهُ خَاصَّةً ؟ قَالَ : « بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً».
الشرح:
سورة هود وفيها حديث واحد، أخرجه الإمام مسلم أيضا في التفسير باب قوله تعالى: {ِإنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ}، وهو حديث عبد الله بن مسعود الهذلي، وهو أبو عبد الرحمن أحد السابقين الأولين للإسلام، ومضت ترجمته.
قال : « جاء رجل إلى النبي [ «لم يذكر اسمه في الحديث، ومن عادة الصحابة أنهم لا يذكرون الأسماء إذا كان هناك شيء من ذنب أو معصية أو ما أشبه ذلك، فإنهم يلتزمون الأدب الشرعي في هذا الباب فلا يذكرون الأسماء؛ ستراً على أصحابها، وهذا من خلقهم الجميل .
قال : «جاء رجل إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها» قوله : إني عالجت امرأة : يعني : تناولتها واستمتعت بها من التقبيل أو الضم.
«من غير أن أمسها» يعني : من غير أن يحصل هناك جماع أو الوقوع في الزنى الأكبر، وإنما حصل الاستمتاع بالقبلة والمعانقة ونحو ذلك.
قوله : «فأنا هذا فاقض فيّ ما شئت» أي إنه لامته نفسه على هذا العمل المحرم وندم، ومن كمال توبته أنه جاء إلى النبي [ طالباً إقامة الحد عليه، يعني أنه ظن أن هناك حداً يقام عليه بسبب هذا الفعل، فطلب من النبي [ أن يقيم عليه الحد، ويقضي فيه بما يشاء .
قوله : « فقال له عمر : لقد سترك الله، لو سترت على نفسك، فلم يرد النبي [ شيئا» وهذا إقرار من النبي [، ونعلم أن السنة النبوية: قول وفعل وتقرير، فالنبي [ أقرّ عمر ] على قوله : « لقد سترك الله فلو سترت على نفسك» . قال أهل العلم : من ألّم بمعصية أو كبيرة وستره الله، فعليه أن يستر على نفسه، ولا يفضح نفسه، فيقول : فعلت كذا وكذا، كما جاء في الحديث الصحيح: « كلُ أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ً، ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول : عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» متفق عليه .
وهكذا لا يذهب إلى القاضي ويقول : أنا فعلت كذا وفعلت كذا، فأقم حد الله عليّ؛ لأن الله عز وجل قد ستره، فليستر على نفسه، وثبت أيضا أن النبي [ قال : « من ألمّ بشيء من هذه القاذروات، فليستتر بستر الله تعالى؛ فإنه من يُبد لنا صفحته، نقم عليه الحد « .
القاذروات هي الكبائر، يعني: من وقع بشيء من هذه الفواحش، فعليه أن يستر على نفسه، فإنه إن أبدى لنا ما فعله، واعترف على نفسه، أقمنا عليه الحد الشرعي .
فما دام أن الأمر لم يصل إلى القضاء، فإنه لا تقام الحدود، إما إذا وصل الأمر إلى القاضي والحاكم، فعندئذ لا تجوز الشفاعة لإسقاط الحد؛ لأن الشفاعة في حد من حدود الله حرام، ومن حالة شفاعته دون حدّ من حدود الله، أي دون إقامة حدّ من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه، كما قال [ في الحديث الصحيح عند ابن ماجة .
فالحاصل : إذا سترك الله عز وجل فاستر على نفسك، واطلب من الله سبحانه وتعالى المغفرة والعفو والمسامحة، واندم على الذنب، واتبعه بالعمل الصالح، وبقدر ندم المسلم يكون صدق التوبة، وبحسب كراهيته لما فعل، وخوفه من الله وكثرة استغفاره، فكل هذا يدل على صدق التوبة .
ولأن في الستر تحقيقا لصفة يحبها الله تعالى وهي الستر، كما جاء في الحديث : « إن الله حيي ستير، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر « رواه أحمد وأبو داود والنسائي .
فربنا عز وجل - كما قال [ - يحب هذه الصفة وهي الستر؛ لأن الستر فيه حماية لسمعة الناس وأعراضهم أولا، وهذا فيه إعانة للعاصي على التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، لأنه لم يعلم به أحد إلا الله، فنسي هذا الذنب ورجع إلى الجادة الصحيحة وتاب إلى الله سبحانه وتعالى، لكن لو أن أحد الناس أذنب ذنبا فوضع اسمه في الجرائد ونشرت صوره، فإن رجوعه عن المعصية يصعب ؟! ويصبح هذا الرجل وكأنه قد قضي عليه، فيقول : ما دام أني عرفت بهذا، فلن أرجع، فتأخذه العزة بالإثم ويستمر في معصيته .
ولهذا فالستر يحبه الله سبحانه وتعالى، وكان النبي [ من هديه أن يقول في خطبه : ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ؟! فلا يذكر أحدا باسمه [، وهذا من هديه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأما هذه الجرائد التي لا هم لها إلا الفضائح وأخبار الجرائم، فهذه محرمة لا يجوز بيعها ولا شراؤها، وتوجد للأسف بأسواق المسلمين اليوم جرائد بعضها اسمها : أسرار الناس ؟؟! وبعضها اسمها الجريمة ؟؟! يعني مهنتها الكلام في الجرائم وفضح الناس بالصور وبالمقالات الواسعة، وبالتصريح المخل بالآداب ؟ والمذهب للحياء ؟! فهذا في الحقيقة إعلام يجب أن يُقطع ويقاطع، وأن يحذر منه، والذي يريد أن يتكسب بأعراض الناس ونشر فضائحهم فهذا إنسان ليس عنده من الدين والخلق ولا من الأدب ولا من الحياء من الله عز وجل ما يمنعه عن ذلك، فيريد أن يكسب المال والدراهم من فضح الناس بالصور وبالوقائع وبالأخبار، وربما يكون الخبر صغيرا فيضع عليه التفصيلات والزوائد لأجل أن يروج وأن ينتشر هذا الأمر ؟؟!
وهذا العمل جاءنا من الكفار وصار بعض المسلمين يقلدهم فيه فعندهم الجرائد تجند لصوصا يسرقون صور الناس وأسرارهم باسم الصحافة ؟؟! ربما يصور الإنسان بخلوه، وربما يصور الإنسان ببيته وهو بين أهله ؟؟ ربما يصور الإنسان في وضع هو لا يسمح بتصويره ؟ من أجل ماذا ؟ من أجل أن يكسب شهرة وسبقا صحفيا – زعموا - ومالا سحتا من بيع النسخ، من وراء نشر الفضائح ؟! وكشف العورات ؟!
وهذا كله مما يخالف شريعة الله عز وجل .
وأما إذا عمل الإنسان عملا محرماً مستهترا غير مبال به، كالذي يذنب وهو يضحك بملء فيه، أو يعصي ويستهتر بعباد الله، أو يجاهر بالمعصية، أو يستهزئ بأهل الدّين والصلاح، كل هذا يدل على استهانته بالله عز وجل، قال عز وجل: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الزمر، فلو قدروا الله عز وجل حق قدره، لعظمت المعصية في قلبه .
وقال بعض السلف : لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من تعصي . ولهذا قال بعضهم بهذا الاعتبار : كل المعاصي كبائر .
فالنبي [ لما ذكر له الرجل ما حصل منه سكت عنه، وما ردّ عليه بشيء .
ثم إن الرجل كما جاء في رواية لمسلم : قام مع النبي [ لصلاة العصر، فصلى مع النبي [ وبعد أن صلى العصر انطلق الرجل، فأتبعه الرسول [ رجلا، يعني : أرسل في أثره رجلا، فدعاه وناداه، فلما جاء إلى النبي [ تلا عليه قول الله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود : 114).
وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} اختلف العلماء في طرفي النهار اختلافا كثيرا، وهو من اختلاف التنوع؛ لأن الآية تسع هذه المعاني كلها، وهذا من عظمة كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن سعته ومجده، أن اللفظ الواحد يسع المعاني الكثيرة، فمن أهل العلم من قال {طرفي النهار}: الفجر والعصر . ومنهم من قال: {طرفي النهار} : الفجر والمغرب . ومنهم من قال : الفجر والظهر . وهذه كلها أقوال في طرفي النهار .
وقوله: {وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} قيل : المغرب والعشاء، وبهذا القول تكون الآية قد اشتملت على الصلوات كلها . والزُلف هي الساعات المتقاربة، فالزلف من الليل تشمل المغرب والعشاء .
وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} الحسنات هنا عامة، وأعظمها الصلوات المكتوبة، فإنهن يذهبن السيئات، والصلوات المستحبة أيضا يذهبن السيئات، وقد جاء في الحديث المشهور عند الإمام مسلم أن النبي [ قال : «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء ؟ «قالوا : لا يبقى من درنه شيء، قال : « فذلك مثل الصلوات الخمس، يكفر الله بهن الخطايا» .
إذاً الصلوات الخمس مكفرات عظيمة للذنوب .
وفي الحديث الآخر أيضا في صحيح مسلم : قال الرسول [ : «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر « .
فالحسنات الواجبة والمندوبة على العموم، تكفر السيئات وتمحوها، سواء كانت صلوات أو زكوات أو صدقات، أو أذكار أو أعمال بر وصلة، فكل الحسنات يذهبن السيئات .
وقوله: {يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} قيل : المراد بها الصغائر؛ للحديث السابق: «إذا اجتنبت الكبائر» . وقيل : إنها تكفر كل السيئات، والأول أظهر . إلا إذا انضاف للحسنة التوبة، فإنها تمحو السيئة مهما كانت بالاتفاق.
وقوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أي: موعظة للمتعظين والمتذكرين، والذين يتعظون هم أهل الإيمان والتقوى، وأهل الذكر، الذين يذكرون الله تبارك وتعالى فهم الذين يتذكرون بهذا .
قوله « فقال رجل من القوم : يا نبي الله، هذا له خاصة ؟ قال [ : «بل للناس كافة « ، وفي رواية عند أهل السنن : « هي لمن عمل بها من أمتي « يعني أن الحسنات يذهبن السيئات ليست خاصة لهذا الرجل، بل كل فرد من الآمة إذا عمل سيئة فاتبعها بحسنة فإنها تمحوها، كما جاء في الحديث : أن النبي [ قال: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» رواه الترمذي. أتبعها: يعني أن تكون بعدها، حتى لا تكتب عليك السيئة، ولا تصيبك آثار هذه السيئة، والمحو معناه الإزالة والإنهاء، أي: لا يبقى منها شيء بفعل الحسنة .
وقوله في هذا الحديث: « هي للناس كافة» دليل على قاعدة شرعية عند أهل التفسير، ألا وهي : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى هذه القاعدة : أنه إذا نزلت آية في شخص ما من الصحابة، أو عمل عملا ما فنزلت الآية فيه، فلا يعني هذا أن حكم هذه الآية خاص بهذا الرجل، بل الآية وكل الأحكام النازلة إنما تنزل لعموم الأمة، هذا هو الأصل، بل حتى الآيات النازلة في النبي [ هي في الأصل لعموم الأمة، يعني مثلا قال الله سبحانه وتعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق : 1)، الخطاب هنا للنبي [، لكن ليس له وحده بل للأمة المسلمة جميعا ؟
وكذا قوله: {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك...} ثم قال {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.
فالخطاب وإن كان في القرآن للنبي [، فليس خاصا به، بل هو خطاب ينفذ منه إلى سائر الأمة؛ لأنه المبلغ عن الله تعالى دينه .
إلا ما دل عليه الدليل بالنص، أو بالقرينة الواضحة، مثل قول الله سبحانه وتعالى في المرأة التي وهبت نفسها للنبي [: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (الأحزاب : 50).
فقوله «خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» دليل واضح على الخصوصية .
وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب : 53)، وهذا نص أيضا على أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج بزوجات النبي [ من بعده، فأيما امرأة مات عنها النبي [ فهي أمٌ لنا، وأم للمؤمنين جميعا، ولا يحل لأحد أن يتزوجها .
فهذه نصوص خاصة بالرسول [ .
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


ابوالوليد المسلم 24-03-2024 09:31 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(24)

ويسألونك عن الروح

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : (بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ - وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ - إِذْ مَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، فَقَالُوا: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ، لا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَسَأَلَهُ عَنْ الرُّوحِ، قَالَ: فَأَسْكَتَ النَّبِيُّ [ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ : {فَقُمْتُ مَكَانِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً} (الإسراء :85) .
الشرح: الحديث في سورة سبحان، وهي سورة (الإسراء) أي: أنها تسمى بهذين الاسمين، فتسمى بسورة «سبحان»؛ لأنها افتتحت بالتسبيح بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} (الإسراء: 1). وتسمى بسورة «الإسراء» لأن الله تبارك وتعالى ذكر في أولها إسراء النبي [ من مكة ليلاً إلى بيت المقدس، وتسمى أيضا بسورة: بني إسرائيل، لأن الله تبارك وتعالى ذكر فيها بني إسرائيل في أولها، في قوله {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} (الإسراء: 4)
وقد أورد المنذري في هذا الباب حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, وقد رواه الإمام مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار .
قال عبد الله بن مسعود: «بينما أنا أمشي مع النبي [ في حرث « حرث ، يعني: في زرع, أو بستان . وفي رواية: «في خرب» والخرب بكسر الخاء وفتح الراء جمع خراب ، أي : دور متهدمة . وأهل الحديث يقولون: إن الرواية الأولى أصوب، ويمكن الجمع بينهما: أنه حرث فيه خرب، أي: بستان فيه دور متهدّمة.
قوله: «وهو متكأ على عسيب يعني متوكئ على عسيب» العسيب: هو جريدة النخل، أي: الغصن الذي يكون عليه السعف .
قوله : «إذ مرّ بي نفرٌ من اليهود ، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح» كان النبي [ قد مر بجماعة من اليهود بالمدينة، فقالوا: سلوه عن الروح، أي: أسألوه عن الروح .
قوله: «فقالوا: ما رابكم إليه؟ «أي: ما دعاكم إلى سؤاله, وقيل معناه: ما الذي شككم فيه حتى احتجتم إلى سؤاله.
قوله: «قالوا لا يستقبلكم بشيء تكرهونه» أي: لا تسألوه عن شيء فقد يستقبلكم بما تكرهون من القول، أو الذّم لكم، أو بيان جهلكم ونحو ذلك .
لكن عتب بعضهم على بعض على عدم السؤال، فاستقر رأيهم أن يسألوه، فقالوا:سلوه .
قوله : «فقام إليه بعضهم فسأله عن الروح».
أي: سألوا النبي [ عن الروح ، يعني: عن ماهيتها وكنهها وعن كيفيتها, يعني: ما هي مادة الروح, وما كيفية سكناها في الجسد؟
قال : «فأسكت النبي [ فلم يرد عليه شيئا» أي: سكت النبي [ فلم يرد على هذا السائل شيئا ، إذ يكن لديه جواب في ذلك ، فصمت منتظراً الوحي من الله تعالى.
قوله: «قال عبد الله بن مسعود: فعلمتُ أنه يوحى إليه قَالَ: فَقُمتُ مَكَانِي» أي: وقف عبد الله لأنه علم من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتنزل عليه الوحي ، بما يظهر من تغير على وجهه .
قوله: « فلما أسري عنه قال» أي: لما ذهب عنه الملك، قال أو تلا قوله: {سبحانه وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (الإسراء: 85).
وهذه الرواية فيها إشكال، لأن سورة الإسراء سورة مكية؟ فالإسراء كان بمكة قبل الهجرة بالاتفاق، وهذه الحادثة حدثت بالمدينة، كما هو ظاهر، فمكة لم يكن بها يهود، فكيف تنزل الآية عليه بالمدينة عند سؤالهم، والسورة مكيه؟!
والجواب من أوجه عدة منها:
- أولا: إن قولنا: إن هذه السورة مكية، لا يعني أن كل آية من آياتها نزلت بمكة، لأن هناك بعض السور المكية،0 فيها آيات مدنية، لأن السورة لا تنزل كاملة بل متفرقة كما هو معلوم .
- وجواب آخر: أنه يمكن أن يتكرر نزول الآية أحيانا ، فتكون هذه الآية قد نزلت على النبي [ أولاً بمكة، ثم نزلت عليه مرة أخرى بالمدينة .
- وثالث: أن الوحي نزل على النبي محمد [ يأمره بأن يجيبهم بالآية التي نزلت عليه في سورة الإسراء التي تقدم نزولها عليه، فلا زيادة عليها، فلذلك تلا عليهم قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} .
وقد تكلم العلماء في الروح وأكثروا الكلام فيها, وبعض من جمع الأقوال في الروح وماهيتها بلغ إلى مئات الأقوال، وهذا لا شك أنه من فضول العلم، والقول على الله بغير، وتضيع الزمان فيما لا ينفع، لأن الله تبارك وتعالى صرف العباد عن ذلك، فقال: {وقُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} قيل: يعني هي أمر من الأوامر التي أمر الله سبحانه وتعالى بها فكانت ، كما قال: (إنما أَمرُنا إذا أردنا شيئاً أن نقولَ له كُن فيكون) إذن هي من خلق الله تعالى, ومن جملة ما خلق الله سبحانه وتعالى من المخلوقات .
أو المعنى: هي أمر من الأمور الخفية التي اختص الله بها نفسه.
- وقال بعضهم: إن الروح هي الدم الذي يجري في الجسد. وقيل: الروح هي النَّفس والهواء الداخل والخارج. وقيل: الروح جسم لطيف مشارك للأعضاء الظاهرة، فهو جسم يتخلل في جميع أعضاء الإنسان. وقيل غير ذلك من الأقوال، ومن أحسن وأوسع ما كتب في الروح: كتاب الروح للإمام ابن القيم رحمه الله وهو مطبوع .
والروح لغة تذكّر وتؤنث، والصحيح أنها مادة وجسم خلقه الله عز وجل, والدليل على هذا: الحديث الذي في الصحيح: أن العبد المؤمن إذا قبضت الملائكة روحه، أخذتها وحنطتها بحنوط من الجنة، والحنوط: يعني الطيب. وفيه: وكفنتها بأكفان من الجنة ، ثم يصعدون بها .
إذاً هي مادة وشيء يُطيب بالطيب، ويُكفّن ويصعد بها، وإن كنا لا ندري مادتها، لأن الله سبحانه وتعالى ردّ علمها إليه، فقال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} .
وما الفرق بين الروح والنفس؟ الجواب: أن الروح لا تسمى نفساً إلا إذا اتصلت بالبدن, وأما إذا كانت مجردة عن البدن فإنها تسمى «روحا».
والنفس لها صفات ذم وصفات مدح، بحسب صفات الجسد، وأفعاله وأقواله، فسماها الله تعالى في كتابه: نفساً مطمئنة, ونفساً لوامة, ونفسا أمارة بالسوء, بحسب أحوالها من الإيمان والإسلام والكفر والفسوق .
وقوله ( قل ) هذا الخطاب عام لجميع الخلق، اليهود وغيرهم، بترك التعنت والسؤال عما لا يفيد ، ولا يترتب عليه عمل .
أو السؤال الذي يراد به التعجيز وإظهار الجهل، وليس التفقه والانتفاع.
ومتى كان كذلك، فإنه يجدر الإعراض عنه وعدم إجابته .
وقيل: بل قد إجابهم الوحي بأنها من أمر الله تعالى .
وفي مسند أحمد: من حديث ابن عباس: {أنها لما نزلت وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء : 85) .
قال اليهود: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة, ومن أؤتى التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، قال: {وأنزل الله قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف : 109) .
أي : كيف تقول لنا: ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) وعندنا التوراة العلم الواسع؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ}(الكهف : 109).
أي: ما أوتيتم من العلم النبوي بالنسبة لعلم الخالق سبحانه وتعالى هو قليل، أي: وإن أوتي الإنسان حظاً وافرا من العلم، كعلم الأنبياء والمرسلين، والعلماء والأولياء والصالحين، فإنما هو بالنسبة لعلم الله تعالى كالقطرة من البحر، كما في الحديث الصحيح: أن الخضر عليه الصلاة والسلام قال لما أخذ عصفور من البحر بمنقاره، قال لموسى عليه السلام: «ما علمي وعلمك في علم الله، إلا كما أخذ هذا الطائر من البحر».
يعني: هذه القطرة هي علمي وعلمك من علم الله سبحانه وتعالى الذي هو كالبحر العظيم .


ابوالوليد المسلم 24-03-2024 09:32 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(25)

إسلام الجن والخوف والرجاء

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة}
2145. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} قَالَ: كَانَ نَفَرٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ النَّفَرُ مِنْ الْجِنِّ، وَاسْتَمْسَكَ الْإِنْسُ بِعِبَادَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِم الْوَسِيلَةَ}.
الشرح:
باب في قوله سبحانه وتعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (الإسراء:57) وهو الحديث الثاني في سورة الإسراء.
وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في آخر كتاب التفسير.
روى فيه حديث الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه تلا هذه الآية قال: « كان نفرٌ من الإنس يعبدون نفراً من الجن « كان نفر من الإنس، جماعة من كفار العرب من مشركي الجزيرة.
قوله: «كانوا يعبدون نفرا من الجن» يعبدونهم بأنواع العبادة، من دعاء واستغاثة واستعاذة وذبح وغيره، من دون الله سبحانه وتعالى , كما قال الله تعالى عنهم: {وأنه كان رجالٌ من الإنس يَعوذون برجال من الجنّ فزادوهم رهقا} (الجن: 6). أي: يستعيذون بهم ويستجيرون، فكان الرجل في الجاهلية إذا نزل واديا قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه ؟! فيستعيذ بكبراء الجن من السفهاء؛ لئلا يؤذوه، قال تعالى {فزادوهم رهقا} أي: زادوا الجن طغيانا وكبراً وسفهاَ، لاستعاذتهم بهم من دون الله عز وجل.
وقيل: فزادوهم خوفا وأذى وبلاء، على عكس ما كانوا يرجونه منهم من نصرة!
والعرب قبل الإسلام كانوا في أنواع من الضلالات والشركيات، فبعضهم كان يعبد الملائكة، وبعضهم يعبد المسيح عليه السلام، وبعضهم يعبد الشياطين، وكثير منهم يعبد الأصنام والأوثان، وآخرون يعبدون الكواكب، وغير ذلك من المعبودات الباطلة, التي زين لهم الشيطان عبادتها وأضلهم بها عن التوحيد.
قوله « فَأَسْلَمَ النَّفَرُ مِنْ الْجِنِّ « أي: أسلم هؤلاء النفر من الجن الذين كانوا يُعبدون من دون الله من قِبل مشركي العرب، لما جاء الإسلام، وبعث محمد [ ، ودعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، أسلم أولئك الجنيون، وتابوا إلى الله تعالى وآمنوا، وذكر الله إسلام الجن في أكثر من آية، كما في قوله تعالى: {قل أُوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عَجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جَد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا...} (الجن: 1-3).
وكما في سورة الأحقاف {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون الٌقرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين... } الأحقاف، وغيرها من الآيات.
لكن استمر الإنس الذين كانوا يعبدونهم على حالهم وعادتهم، لا يشعرون بهم، ولا يدرون أنهم أسلموا، واستمسكوا بعبادتهم لهم، فنزلت هذه الآية: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (الإسراء: 57).
والآية التي قبلها توضحها وتبينها، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} (الإسراء: 56) أي: مهما دعوتم هذه المعبودات الباطلة، فإنها لن تنفعكم ولن تضركم، فلا يملك هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله تعالى على كثرتهم كشف الضر عنكم من مرض أو فقر أو بؤس أو ذلة، ولا يملكون له تحويلا أيضا، أي: أن يحولوا الضر عنكم إلى غيركم، بأن ينقل الضر من هذا الإنسان إلى هذا، أو ينقل المرض من هذا الجسد إلى الجسد الآخر , أو من هذا البلد إلى بلد آخر، وهذا أعجز من الأول وأضعف، يعني الذي لا يستطيع أن ينقل المرض من هنا إلى هنا، أو الوباء من هنا إلى هنا مجرد نقل، فهو غير قادر من باب أولى على رفعه بالكلية من الأرض أو الناس!
ثم قال سبحانه: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم} أي: هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله عز وجل، هم أنفسهم يدعون الله سبحانه وتعالى ويسألونه، ويتقربون إليه، فيبتغون إليه الوسيلة , والوسيلة: هي القربة والعمل الصالح، والتقرب إلى الله تعالى يكون بالطاعات والعبادات، فهؤلاء الذين أنتم تعبدونهم من دون الله، هم أنفسهم يتقربون إلى الله ويعبدونه، ويبتغون ما يقربهم إليه من أنواع العبادات.
{أيهم أقرب} يعني: يتسابقون ويتنافسون يبتغون إلى ربهم القربى والزلفى، {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} وفي هذا بيان أن العبادة لا تتم إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف من الله سبحانه وتعالى تتقى المحرمات، وتترك المنهيات، وبالرجاء يكثر فعل العبد للطاعات والقربات، وقد أمر الله به عباده فقال: {وادعوه خوفاً وطمعا إنّ رحمة الله قريب من المحسنين } (الأعراف: 55).
وقد حكاه الله عن أنبيائه ورسله، فقال بعد أن ذكر جملة صالحة منهم: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} (الأنبياء: 90).
وقال سبحانه مادحا عباده المؤمنين: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أي: خائفون، إلى قوله: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون: 57 – 61).
أي: مع طاعتهم وصلاتهم وصدقاتهم، يخافون ألا يتقبل الله منهم لتقصيرهم فيها.
فالإنسان إذا خاف من الله وعذابه، وبطشه وانتقامه، ترك الحرام واجتنبه، وأتقن عمله وأخلص، لينجو مما سبق، وإذا رجا أن يثيبه الله سبحانه وتعالى ويعطيه، وأن يدخله الجنة، طمع وأكثر من الطاعات والقربات.
فالخوف والرجاء إذن: مقامان عظيمان للعبد الصالح في سيره إلى الله عز وجل، فلو تعبد المسلم لله عز وجل بالخوف وحده، ما كان مؤمنا تام الإيمان! فإن مقام الخوف وحده يجره إلى القنوط من رحمة الله والتشديد على نفسه وغيره.
وإذا كان العبد لا يعرف إلا مقام الرجاء، ويتكل على أعماله الصالحة، ولا يلتفت إلى الخوف من الله عز وجل، فإنه سيتساهل بفعل المحرمات، ويدعو غيره إلى ذلك، وربما يمن على الله بعمله.
ولهذا قال السلف: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري – أي خارجي – ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ.
فلا بد إذن من الجمع بين الخوف والرجاء؛ لتتم عبادة الإنسان، واستقامته لربه سبحانه وتعالى على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
وزعم قوم من المتصوفة الجهلة بالكتاب والسنة وحال السلف: أن من عَبَد الله خوفا منه، فهذه عبادة العبيد! وأن من عبده بالطمع، فهذه عبادة التجار! وأما من عبده لحبه له فقط، فهذه عبادة الأحرار!
وهي فلسفة ضالة، لا صلة لها بدين الأنبياء والمرسلين، وتردها نصوص القرآن والسنة النبوية.


ابوالوليد المسلم 24-03-2024 09:34 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر مسلم للمنذري -26

– أعداء القرآن

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

2146. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ : نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ [ (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ قِرَاءَتَكَ (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) عَنْ أَصْحَابِكَ أَسْمِعْهُمْ الْقُرْآنَ وَلَا تَجْهَرْ ذَلِكَ الْجَهْرَ (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) يَقُولُ: بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ.

الشرح:
هذا الحديث الثالث في سورة الإسراء .
قال المنذري : باب في قوله تعالى {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} (الإسراء: 110) وقد أورد الإمام مسلم هذا الحديث في كتاب الصلاة ، وبوب عليه الإمام النووي: باب: التوسط بالقرآن في الصلاة الجهرية والإسرار ، إذا خاف من الجهر مفسدة .
قوله : قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (الإسراء: 110) .
قوله: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ) بصلاتك، أي: بقراءتك .
(وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا) أي: تخفض صوتك بالقراءة، فلا تفعل هذا ولا هذا، فكلا الأمرين محذور، بل لتكن قراءتك بين الجهر والإخفات .
قال ابن عباس: نزلت ورسول الله متوار بمكة.
فالآية مكية إذا، بل السورة كلها - كما قلنا - سورة مكية، ونزول هذه الآية كان ورسول الله [ متوار، يعني: مختفي عن الأنظار، أي إبان دعوة الإسلام الأولى في السر، لأن النبي [ كان يخشى المشركين وبطشهم وأذاهم على نفسه، وعلى أصحابه، لأن الزمن أول الإسلام كان زمن ضعف، وقلة أنصار، وغربة شديدة, كما جاء في الحديث الصحيح: «بدأ الإسلامُ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء» رواه مسلم .
فكان النبي [ بمكة أول الإسلام مستضعفاً هو وأصحابه رضي الله عنهم، فكان إذا صلّى عليه الصلاة والسلام بأصحابه المكتوبة، أو قيام الليل؛ لأنه كان واجباً عليهم أول الإسلام، لقوله سبحانه: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا} الآيات من سورة المزمل .
فكان [ يرفع صوته بالقرآن، ليسمعوا صوته وقراءته، ويأخذوا القرآن عنه، ويحفظوه، ويتدبروه ويفقهوه، ثم ليعملوا به، ثم ليبلغوه غيرهم من الناس، فهو مشتملٌ على دين الله تعالى، وعقيدته ومنهاجه، وأحكامه وآدابه وتوجيهاته، وهكذا كان دأب السلف من الصحابة فمن بعدهم، فليس همهم حفظ الحروف فقط، وتضييع الحدود؟! كما هو حال كثير من قراء اليوم؟!
قوله: «فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ» أي: كان إذا سمع المشركون قراءة النبي [ بأصحابه، سبوا القرآن ومن أنزله؟! وهذا من إلحادهم وكفرهم، وجرأتهم على الله تعالى، وتعديهم على حرماته، وصدهم عن سبيله، وإلا فقد علموا أنه كلام الله تعالى، لكن كان هذا دليل عنادهم ومحادتهم لله، ومعاداتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم[ : {إنّ الذين كفروا بالذّكر لما جَاءهم وإنّه لكتابٌ عزيز لا يَأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد} (فصلت : 40-41).
فمن سبهم له: وصفهم له بأنواع الأوصاف المنفرة، أو المنتقصة من شأنه وعظمته، كقولهم عنه: إنه سحر! وإنه قول البشر! وأنه أساطير الأولين ! وأنه قول كاهن! وقول شاعر! وقولهم: «لو شئنا لقلنا مثل هذا» وغير ذلك مما حكاه القرآن الكريم عنهم في آيات كثيرة، وهم يعلمون كذبه؟!
وكانوا أحيانا يرفعون أصواتهم بالصياح عند قراءة القرآن، لئلا يسمع الناس التلاوة فيهتدون للحق، كما قال تعالى: {وقال الذين كفروا لا تَسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} (فصلت : 26) .
فتواصوا فيما بينهم فقالوا أولاً : لا تسمعوا لهذا القرآن، ولا تصغوا إليه، بل أعرضوا عنه، ولا تلتفتوا إليه، ولا إلى من جاء به، وهذا كفر الإعراض عن الحق، وتجاهل بيناته .
قال مجاهد: الغوا فيه، يعني: بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله [ إذا قرأ القرآن، قريشٌ تفعله .
وثانيا: الغوا فيه، أي: أكثروا اللغط واللغو – وهو الكلام الذي فائدة فيه - والأصوات عنده، لئلا يسمعه أحد فيهتدي .
ومن ذلك في زماننا: صد الناس عن القرآن والاهتداء به، بالبرامج الفاسدة، والفضائيات الهابطة، والصور المحرمة، والشهوات المضلة، والأغاني والمعازف، وغيرها مما شاع وذاع في زماننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!
بل يعمل ذلك حتى في رمضان شهر القرآن؟! عاملهم الله بما يستحقون .
أو المعنى: أكثروا الكلام في معانيه، واصرفوه عن وجهه الحق إلى المعاني الباطلة، لتصدوا عن الاهتداء به .
وهذا أيضا ما يقوم به أهل البدع والأهواء، بصد الناس عن السنن بما ينشرونه من بدع وضلالات، وتحريف لمعاني القرآن والسنة، وعمل بغير ما كان عليه القرون المفضلة .
وقوله: (لعلكم تغلبون) هي شهادة منهم للقرآن العظيم – والحق ما شهدت به الأعداء – أن الناس لو استمعوا للقرآن وأصغوا له، وفهوا معانيه، لغلبوا، ولاهتدى الناس للحق، وانقادوا للرسول، ودخلوا في دين الله أفواجا، لعظمة كلام الله تعالى، وجماله وجلاله وحلاوته، وأخذه للقلوب بكلماته التامة، وعباراته الرائعة، ومعانيه الرائقة، وأخباره الماتعة، وقصصه الحقة، ومواعظه التي تتصدع لها الجبال، وتتقطع لها الأرض، وإعجاز تشريعاته .
وقد توعدهم الله بعدها، قال ابن كثير رحمه الله: ثم قال الله منتصراً للقرآن، ومنتقما ممن عاداه من أهل الكفر والإلحاد: {فلنُذيقنّ الذين كفروا عذاباً شديداً ولنَجزينّهم أسوأَ الذي كانوا يعملون ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون} (فصلت : 27- 28) .
ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين بخلاف حال الكافرين، فقال: {وإذا قُرىءَ القُرآن فاستمعوا له وأنصتُوا لعلكم تُرحمون} (الأعراف : 204) .
والاستماع غير الإنصات، فالإنصات ترك التحدث أو الاشتغال بغيره .
وأما الاستماع: فهو أن يلقي بسمعه للقرآن، ويحضر قلبه عنده، ويتدبر ما يسمع، فمن فعل هذين الأمرين حين يتلى كتاب الله تبارك وتعالى، فإنه ينال خيرا كثيرا، وعلماً غزيرا، وإيمانا متجددا، وهداية وبصيرة في دينه ودنياه وأخراه .

قوله: {فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ} وهذه مفسده تحصل بالجهر بالقرآن ورفع الصوت به, ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح إذا تعارضتا مع التساوي، أو كانت المفسدة أعظم، ولهذا قال الله تعالى لنبيه وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ .
ويمكنه إذا قرأ بصوت أقل، أن يسمع أصحابه القراءة، ولا يسمع المشركون قراءتك فتحصل مفسدة، وهي سب القرآن، وسب من أنزله ومن جاء به .
وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا أي: لا تسر بقراءتك عن أصحابك، فلا يأخذوا عنك القران ولا يسمعونه .
وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً يعني توسط في هذا الأمر لتجمع بين فعل المصلحة ودرء المفسدة.
وهذه قاعدة شرعية عظيمة، يسار على منوالها في الأمور .
وجاء في تفسير ابن جرير: عن التابعي الجليل محمد بن سيرين أنه قال: نبأت أن أبا بكر ] كان إذا قرأ خفض, وكان عمر [ إذا قرأ جهر, فقيل لأبي بكر لم تصنع هذا؟ قال: أنا أناجي ربي، وقد عرف حاجتي. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أنا اطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان - والوسنان يعني النعسان - فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر: ارفع شيئا، وقيل لعمر: اخفض شيئا .
فهذه الآية للمنفرد أيضا, فالمنفرد إذا صلى لا يجهر كثيرا، ولا يسر كثيرا .
أما الإمام : فإنه يقتدي بالنبي [ فيجهر بالصلوات الجهرية، يجهر في صلاة الفجر وفي المغرب وفي العشاء، وفي صلاة الجمعة وفي صلاة العيدين والكسوف وهكذا، فالصلوات الجهرية, يجهر بها اتباعا لسنته.
وأما الصلوات السرية: كالظهر والعصر وصلوات النهار عموما، فإنه يسر بها .
أما إذا كان لوحده منفردا: فإنه كذلك يقتدي بالنبي [، فيجهر في الجهرية، ويسر في السرية، وأما صلاة الليل فهو مخير فيها بين الجهر والإسرار، هكذا هدي النبي [ .
وهذه الآية دليل أيضا على التوسط في الأمور, والله تعالى: {يقول وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة : 143)، فإذا كان المبالغة في الأمر تؤدي إلى مفسدة، فإنها تترك، ويؤخذ بما هو أقل منها، حتى تندفع هذه المفسدة .
والله تعالى أعلم


ابوالوليد المسلم 26-03-2024 05:00 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(27)

الوزن يومئذ الحقّ

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
سورة الكهف: باب: في قوله تعالى: {فلا نُقيم لهم يوم القيامة وزنا}
2148. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقْرَؤُوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} الكهف: 105 .
الشرح: باب في قوله تعالى {فلا نُقيمُ لهَم يومَ القيامة وزناً} وهي الآية الخامسة بعد المائة من سورة الكهف، وقد روى فيها الإمام مسلم الحديث في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار.
قوله: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي [ قال: « إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة « إنه سيجاء بالرجل العظيم، أي أنه كان معظّما معروفا في الدنيا لمنصبه وجاهه، أو لعشيرته وعائلته، أو لماله وغناه، وسمينا وهذا السمن يدل على الترف والغنى والكفاية، والتوسع في المطاعم والمشارب، وهي صفة مذمومة، كما ورد أنه في صفة الذين يأتون بعد القرون المفضلة الثلاثة: «ويظهر فيهم السّمن؟!» رواه مسلم .
إلا أنه إذا جيء به في ذلك اليوم الذي تتكشف فيه الحقائق، وتبلى فيه السرائر، والوزن فيه الحق، لا يعدل عند الله عز وجل شيئا، ولا يزن مقدار جناح بعوضه ؟!
قال الإمام النووي رحمه الله: أي: لا يعدل في القدر والمنزلة جناحها، أي: لا قدر له عند الله سبحانه . والعرب تقول: فلان عندنا وزن، أي: لا قيمة له، هذه الكلمة تدل على خسته وأنه لا قيمة له.
قال تعالى عن ذلك اليوم: {ونَضعُ الموازينَ القِسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفسٌ شيئا وإنْ كانَ مثقالَ حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (الأنبياء: 47).
وقال سبحانه {والوزنُ يومئذٍ الحقّ فمن ثَقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خَسروا أنفسهم في جهنم خالدون تَلفحُ وجوههم النار وهم فيها كالحون} المؤمنون: 102-104 .
وهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بأنهم لا قَدر لهم عنده، ولا منزلة ولا وزن، سبق الكلام عن صفاتهم في الآيات التي قبلها، حيث يقول الله عز وجل {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} (الكهف: 103) أي: هل ننبئكم بأخسر الناس أعمالا، وأكثرهم ضلالا {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 104) الذين ضلّ سعيهم يعني: بطل سعيهم، وضاعت حسنات أعمالهم التي كانوا يعملونها في الحياة الدنيا سدى، واضمحلت، وهم يحسبون أنفسهم أنهم يحسنون صنعا.
وقد اختلف السلف رحمهم الله فيهم: من هم ؟ فقال بعضهم: هم اليهود؛ لأنهم يظنون أنفسهم على حق وصواب، وطائفة قالت: هم النصارى. وأخرى قالت: هم رهبان النصارى الذين انقطعوا عن الناس في الصوامع، وفي الديار وتفرغوا لعبادة الله عز وجل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهم في حقيقة الأمر ليسوا على شيء؟! بل هم على عبادات باطلة مبتدعة، كما قال الله {ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم} (الحديد: 27).
وقال بعض السلف: هم أهل الأهواء والبدع، كالخوارج والرافضة والقدرية والجهمية وأشباههم، الذين يظنون أنهم على الهداية والحق وعلى الخير، وأن غيرهم على الباطل! وهم في حقيقة أمرهم على غير ذلك؛ لأنهم قد ضل سبيلهم، وانحرف تفكيرهم.
والناظر في هذه الآية يجد أنها يمكن أن تفسر بجميع هؤلاء؛ لأن الآية تشمل كل من ضلّ سعيه في الحياة، وتعم كل من بطل عمله، وضاع عمره في عبادات مبتدعة باطلة، ومناهج فاسدة، أو في دين باطل منسوخ؛ لأن الإنسان المبتدع يرجو من وراء عمله الثواب والحسنات، وهو في الحقيقة يكتسب السيئات؛ لأن النبي [ يقول في الحديث الصحيح: « مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ» متفق عليه . و«ردٌ» بمعنى مردود عليه يوم القيامة فلا يستفيد منه شيئا، مع أنه كان يحسب في الحياة الدنيا أنه يحسن صنعا، أنه محسن، وغيره ليس كذلك ؟! وهذا يدل على أنه مغترٌ بما هو عليه، قد أضله الله عز وجل؛ ولذلك رأى القبيح حسناً، فرأى السيئة حسنة، ورأى الحسن سيئاً، فانعكست فطرته، وانقلبت موازينه؛ ولهذا فسد رأيه .
ثم قال عز وجل في بيان صفاتهم أيضا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} (الكهف: 105) أي: هؤلاء هم الذين كفروا وكذّبوا بآيات ربهم، سواء كانت آيات كونية خلقها الله في الآفاق يرونها بأبصارهم، أو آيات سمعية مما يتلى عليهم من الآيات البينات التي جاءت بها الرسل، فهم قد كذبوا بآيات ربهم كلها، كما كذبوا بلقائه، يعني: كذّبوا بالبعث والنشور والقيامة {فحبطت أعمالهم} حبطت أي: هلكت وضلت واضمحلت وفسدت {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف: 105) يعني: ليس لهم عندنا قدرٌ يوم القيامة ولا منزلة، ولا نعبأ بهم، بل هم يوم القيامة لا وزن لهم البتة لحقارتهم .
وهذا الحديث فيه فوائد منها:
أن الميزان حقٌ يوم القيامة، وهو من عقائد أهل السنة والجماعة، وفيه نصوص كثيرة .
وأن يوم القيامة هو يوم الوزن الحق، كما قال سبحانه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: 47).
فموازين يوم القيامة قسط وعدل لا ظلم فيها ولا جور .
والميزان تارة توزن فيه الأعمال، وتارة يوزن فيه الأشخاص، وتارة توزن فيه الصحائف .
والحديث يدل أيضا: على أن بعض الناس يوضع في الميزان يوم القيامة بشخصه، فلا يزن عند الله حتى جناح بعوضة؛ لحقارته وخسته، وهذا التمثيل بجناح البعوضة لأنه لا وزن له ولا قيمة تذكر، وهذا لأنه كفر بالله وآياته وكتبه ورسله وبالبعث وما أشبه ذلك، فكما نسي الله في الدنيا ولم يبال بدينه وشريعته، كذلك يكون حاله في الآخرة .
في حين أن بعض الصالحين يزن عند الله الجبال، كما جاء في حديث الإمام أحمد: أن الصحابة ضحكوا من دقة ساق ابن مسعود رضي الله عنه فقال صلى الله عليه وسلم: «لم تضحكون ؟ قالوا: لا والله يا رسول، ولكن لدقة ساقيه، فقال [: «والذي نفسي بيده، لهما أثقل عند الله في الميزان من جبل أُحُد».
فهذا وزن الأشخاص هناك، أما وزن الأعمال: فكقول النبي [: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» متفق عليه. هذا وزن للأعمال .
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: «أثقل شيء في ميزان المؤمن خلقٌ حسن» رواه الترمذي والبخاري في الأدب .
أما الثالث: فهو وزن صحائف الأعمال: وفي هذا حديث صاحب البطاقة الذي ينشر له يوم القيامة تسعة وتسعون سجلا، كل سجل كمد البصر، ويؤتى ببطاقة ُكتب عليها: لا إله إلا الله، فتوضع البطاقة في كفة، والصحائف في كفة، فتطيش السجلات، وثقلت البطاقة.
وفي الحديث: أن الإنسان لا ينبغي له أن يغتر بالصور والأشخاص والأجسام، وإنما ينظر إلى المعادن والقلوب، وإلى الأقوال والأعمال، فرب شخص عظيم في بدنه، أو معظم عند قومه، وهو لا يزن عند الله جناح بعوضه، فليحذر الإنسان من ذلك، وكان بعض السلف يقول: اللهم إني أعوذ بك أن أكون في نفسي عظيما، وعندك حقيراً! فعلى الإنسان أن يحذر أن يكون معظما في الناس، وهو لا يزن عند الله جناح بعوضة، فالواجب أن ينظر إلى أسباب الوزن الحقيقي، وسبب ثقل الميزان يوم القيامة من الإيمان والعمل الصالح، وحسن الخلق والاستقامة، والإتيان بما يحب الله عز وجل من الأقوال والأعمال .
وفي الحديث: ذمٌّ للسمن الذي ينتج عن الإسراف في المطاعم والمشارب، والإخلاد للكسل، وقد ذمّ الله سبحانه وتعالى في كتابه المترفين، الذين يبالغون في الترف {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} (الواقعة: 45) وهذا وصفٌ لهم أنهم بالغوا في التنعم، واخلدوا إلى الدنيا حتى شغلهم ذلك عن الطاعة، وإذا شغل النعيم والنعمة عن الطاعة فهذا أمر مذموم؛ لأن النعمة إنما خُلقت ليستعين بها الإنسان على طاعة الله عز وجل؛ فإذا اشتغل الإنسان بها عن طاعة الله، أو شغلته النعمة عن طاعة الله، فهذا يكون قد وقع في أمر مذموم محرم .



ابوالوليد المسلم 26-03-2024 05:02 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم –

28 – يوم الحسرة

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى {وأنذرهم يوم الحسرة} (سورة مريم: 39)
2149. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: « يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ - زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ: فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَاتَّفَقَا فِي بَاقِي الْحَدِيثِ - فَيُقَالُ: يَأَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَأَهْلَ النَّارِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ. قَال: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَأَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَأَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ [: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا.
الشرح: أورد الإمام المنذري في تفسير سورة مريم حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عند ذكر قوله تبارك وتعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} (مريم: 39) وهي الآية التاسعة والثلاثون من سورة مريم.
والحديث رواه البخاري أيضا.
وأبو سعيد الخدري اسمه: سعد بن سنان بن مالك الأنصاري الخزرجي، والخدري نسبة إلى بني خدرة، وهو ممن قد روى فوق الألف حديث عن النبي [، وهم سبعة من الصحابة، كل منهم قد روى فوق الألف، وهم: أبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وابن عمر وجابر وأنس وعائشة رضي الله عنهم، فهؤلاء سبعة كل واحد منهم روى فوق الألف، على تفاوت بينهم، فمنهم من روى ألفا، ومنهم من روى ألفين، ومنهم من روى ثلاثة آلاف، وأكثرهم رواية هو الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه؛ إذ بلغت مروياته أكثر من خمسة آلاف حديث رضي الله عنه؛ ولهذا استهدفه أعداء الإسلام بالنقد والتشكيك، والاتهام بالكذب، قديما وحديثا، ليسقطوا مروياته وأحاديثه التي رواها، فيهدموا جانبا عظيما من الإسلام، ويعطلوا أحكامه.
قوله: قال رسول الله [: « يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح « أي: يؤتى بالموت الذي ذاقه العباد سابقا في الدنيا، على هيئة كبش، وهو الذكر من الغنم، ومعلوم أن الموت عرض وليس بجسم، إنما هو شيء يقدّره الله عز وجل يقوم بالأجسام، فكيف يكون جسدا يوم القيامة كهيئة الكبش؟!
والجواب أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وهو قادر على قلب الأعراض أجساما يوم القيامة وقبل القيامة، ولهذا الأمر أمثال في الأحاديث النبوية؛ فقد ثبت في الحديث الصحيح: أن حُسن الخلق – وهو شيء معنوي – أثقل شيء في ميزان العبد، أي إنه يوضع في ميزان العبد يوم القيامة، ويثقل به ميزان حسناته.
وأيضا: جاء في الحديث الصحيح: عن ابن عمرو مرفوعا: «أن الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل، فشفعني فيه، فيشفعان» رواه أحمد وغيره.
والصيام والٌقرآن ليسا بأجسام كما هو معلوم.
وكذا حديث: « يأتى القرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان، أو كأنهما غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلتان من طير صواف، تجادلان عن صاحبهما « رواه مسلم. وحديث: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان» وحديث «كلمتان خفيفتان على اللسان.. ثقيلتان في الميزان».
وغيرها من الأحاديث الكثيرة.
إذن: الله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يجعل هذه الأشياء المعنوية أجساماً، تتكلم وتتحدث يوم القيامة وتجادل وتشفع، وليس ذلك على قدرة الله سبحانه وتعالى ببعيد، وفي هذا الحديث: أن الموت يجاء به يوم القيامة، كأنه كبش أملح.
قال أهل العلم: وهذا دليل على أن الموت مخلوق.
وأيضا بدليل قول الله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} (الملك: 2) فهذا دليل على أن الموت خلقٌ يخلقه الله عز وجل في المخلوقات، كما أن الحياة خلقٌ يخلقها الله سبحانه وتعالى في الأحياء، وهذا يقودنا إلى الكلام على معنى « الخلق « الذي نستفيده من اسمه سبحانه وتعالى « الخالق البارىء المصور « فالخلق في لغة العرب على معنيين:
المعنى الأول: الإنشاء والإبداع والإيجاد، كما في قوله تعالى: {خلقكم مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} (الحج: 5)، وقوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) فهذا إيجاد وإبداع، فخلق الذكر والأنثى، وخلق السماوات والأرض، وكله إيجاد وإبداع للأشياء، بلا عدد يحصى.
أما المعنى الثاني للخلق: فهو التقدير للأشياء، قال تعالى: {وخلق كلّ شيء فقدره تقديرا}. وهذا المعنى كما في قوله عز وجل {وتخلقون إفكا} يعني: تقولون كذبا، وفي قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (ص: 7) يعني: كذب وافتراء.
فما قدّره الله سبحانه وقرّره ورتّبه في الأزل أن يقع في الوجود، يقع كما قدره الله عز وجل، بالتقدير الذي كتبه الله تعالى سابقا، لا يتخلّف أبدا لا في الزمان ولا في المكان، ولا في الشكل والصورة وغيرها، فيكون الخلق هنا معنويا، وليس بمادي.
وقوله: « على هيئة كبش أملح « الأملح قيل: هو الأبيض، وهو قول القاضي أبي بكر ابن العربي.
وقال الكسائي: هو الأبيض فيه سواد، وبياضه أكثر.
قوله: «فيوقف بين الجنة والنار» أي: هذا الكبش يوقف في مكان بين الجنة والنار، ويراه الجميع.
قوله: «ثم ينادى فيقال: يأهل الجنة، هل تَعرفون هذا؟ فيشرئبون» يشرئبون أي: يرفعون رؤوسهم وأبصارهم للمنادي.
ثم يقولون لمن يناديهم: هل تعرفون هذا؟ يقولون: نعم هذا الموت» وفي رواية: «وكلهم قد رآه» كما قال الله تعالى: {كل نفسٍ ذائقة الموت}.
قوله «ويقال يأهل النار: هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت. قال: فيأمر به فيذبح « أي: يؤمر بهذا الكبش الأبيض فيذبح بين الجنة والنار، والجميع ينظر إلى ذلك.
قوله: «ثم يقال يأهلَ الجنة: خلودٌ بلا موت، ويأهلَ النار خلودٌ فلا موت « يقال لأهل الجنة والنار: خلود فلا موت، لأن الموت قد ذُبح وفني وانتهى أمره، وانقضى زمنه المقدر له بحكمة الله وعلمه.
وهذا فيه تصريح ببقاء الجنة والنار، ودوامهما أبدا، وأنهما لا تفنيان ولا تبيدان، وكذلك أهلهما وأصحابهما خالدون فيهما أبدا، لا يجري عليهم الفناء ولا الزوال.
هذا قول أهل السنة والجماعة قاطبة، والمشهور عن أهل العلم والتفسير والحديث والفقه، لا اختلاف بينهم فيه، بأن أهل الجنة خالدون مخلدون فيها، لا يخرجون منها أبدا، ولا يرغبون في الخروج مما هم فيه من النعيم المقيم، كما قال الله سبحانه: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جناتُ الفردوس نزلاً . خالدين فيها لا يبغون عنها حِولاً} الكهف حولا: أي تحولا عما هم فيه. وقال عن نعيمهم: {عطاء غير مجذوذ} (هود: 108).
وأن أهل النار خالدون فيها أيضا، لا يخرجون منها أبداً، وأهلها المقصود بهم: هم أهلها من الكفار والمشركين، وليس العصاة من الموحدين؛ لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة الكثيرة: أن عصاة الموحدين يخرجون من النار بعد أن يعذبوا فيها مدة، على قدر ذنوبهم ومعاصيهم، فإنهم يخرجون منها بعد ذلك بشفاعة النبي [ وشفاعة المؤمنين والملائكة وغيرها.
وإما أهلها الذين هم أهلها، فهؤلاء الذين صرح القرآن بأنهم خالدون فيها أبدا، فقال تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة: 81).
ومنها قوله سبحانه: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 167)، وقوله {ولهم فيها عذاب مقيم}. وقال {لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} (الأعراف: 40).
وقال {وما هم منها بمخرجين} (الحجر: 48).
وقوله سبحانه وتعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} (الحج: 22). وخالف في هذه المسألة طائفتان: الطائفة الأولى: الجهمية، فقد قالوا: الجنة والنار تفنيان بعد مدة! ولهم قول آخر أيضا مضحك يقولون: إن أهل الجنة تفنى حركتهم وتبقى أشخاصهم! الحركة تفنى ويبقى الشخص، فالذي يرفع لقمة ليأكلها تظل لقمته مرفوعة أبدا! وهكذا!
والطائفة الثانية: قول ينسب لبعض الصحابة كعمر رضي الله عنه ولم يثبت عنه، وبعض أهل العلم، ويروى مرفوعا ولا يصح، وهو: أن النار تفنى بعد مدة طويلة دون الجنة؟ ولهم في ذلك بعض الأدلة، كقوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} (النبأ: 23) فقالوا: الأحقاب السنون الطويلة ثم تنتهي، وقوله سبحانه: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} (غافر: 7).
وقالوا: النار موجب غضبه سبحانه، لكن رحمة الله تغلب غضبه!
وهذا القول ينسب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولم يصرح به، لكن ذكره في بعض كتبه ذكراً ولم يتعقبه بقول قوي، فعدّه بعض الناس قولا له، والحقيقة أنه ليس قولا له على الراجح.
وقد ردّ أهل السنة والجماعة هذا القول بالأدلة الكثيرة السابقة، ومن أجمع ما كتب في الرد على من قال بفناء النار كتاب « كشف الأستار في الرد على القائلين بفناء النار» للإمام الصنعاني الأمير.
وللشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب كتاب « أضواء البيان « ردٌ له ضمن مجموع مباحثات علمية له، ذكر فيه أكثر من خمسين آية محكمة صريحة من القرآن، تدل على أن النار لا تفنى ولا تخمد، منها ثلاث آيات صرّح الله سبحانه وتعالى فيها بأنهم {خالدين فيها أبدا} وغيرها من الآيات الكثيرة.
وجاء في رواية أخرى للحديث للإمام مسلم أنه: إذا نودي وقيل يأهل الجنة خلود فلا موت، ويأهل النار خلود فلا موت، فإن أهل الجنة يزدادون فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم « وذلك أن أهل الجنة إذا أخبروا أنهم باقون في هذا النعيم، وفي هذه اللذات العظيمة التي يشعرون بها، والراحة والسكينة والسعادة التي لا توصف، واجتماعهم بالأهل بالبقاء معهم أبدا، لا يموتون ولا يمرضون ولا ينصبون ولا يحزنون، فإنهم يزدادون فرحا إلى فرحهم.
وأما أهل النار - والعياذ بالله تعالى – فإنهم إذا أخبروا بالخلود في النار، فإنهم يزدادون حزناً إلى حزنهم، وغماً إلى غمهم؛ لأنه لا خروج لهم أبدا، ولا تحول عنها ولا تخفيف، لا الآن ولا في المستقبل، بل هو عذاب سرمدي أبدي، والعياذ بالله تعالى من ذلك.
قوله « ثم قرأ رسول الله [ قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} (مريم: 39) « يَوْمَ الْحَسْرَةِ هذا اسم من أسماء يوم القيامة، وسمي بيوم الحسرة؛ لأن أهل النار من الكفار والمشركين، والعصاة المفرطين في الإيمان والأعمال الصالحة، يتحسرون حسرة عظيمة ذلك اليوم؟! ويندمون ندامة كبرى، وأي حسرة أعظم، وأي ندامة أكبر، من فوات رضا الله تعالى عنهم، ومن فوات جنته ونعيمة، ومن بقائهم في النار والجحيم على وجه لا يمكن لهم به الخروج عنها، ولا الرجوع للدنيا لاستدراك ما فاتهم؟! فلا يوجد حل ولا خلاص، وليس هناك فرج ولا شفاعة لأحد، فلا أحد ينصرهم ولا يدفع عنهم، فهذا كله سبب في أن تتقطع قلوبهم حسرات، والعياذ بالله تعالى.
أما أهل الجنة فهم في عافية من ذلك، وإن كان قد ورد في الحديث أنهم يتحسرون على الأوقات التي مرت بهم في غير طاعة الله تعالى، فقد روى الطبراني والبيهقي في الشعب: عن معاذ رضي الله عنه مرفوعا: «ليس يتحسّر أهلُ الجنة على شيء، إلا على ساعةٍ مرّت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها».
وهو حديث صححه جماعة من أهل العلم، منهم العلامة الألباني رحمه الله ، وإن كان قد ضعفه بعضهم، فقالوا: إن الحسرة نوع من الألم، وأهل الجنة منزهون عن ذلك.
لكن لا يلزم من قوله [: « لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لا يذكرون الله تعالى فيها « أن يكون ذلك بألم وعذاب، لكن المعنى أن أهل الجنة وجدوا آثار الأعمال الصالحة، وفضلها في رفعة الدرجات، وزيادة النعيم، فقالوا: يا ليتنا استزدنا من العمل الصالح، وشغلنا أوقاتنا بذكر الله تبارك وتعالى.
فالآية على هذا تدل على أن الجميع يتحسرون؛ فالمسيء يتحسر على إساءته، والمحسن يتحسر على عدم استكثاره من الخير واستزادته.
وقوله: {إذْ قُضي الأمرُ} قضي الأمر، أي: لا عمل ذلك اليوم ولا إيمان، بل حساب ولا عمل؛ فإن زمن العمل قد انتهى وولى، فقضي الأمر، وطويت الصحف، وصار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار.
{وهم في غفلة وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: هم في الدنيا في غفلة وذهول ولهو عن هذا كله، هم عن هذه المعاني في غفلة، ولذا َفهُمْ لَا يُؤمِنونَ ولا يعملون.
ولهذا واجب علينا أن نذكر الناس جميعا بمثل هذه المواعظ العظيمة القيمة التي حواها كتاب الله العزيز، وما أكثرها وما أعظمها، حتى قال بعض السلف: كفى بكتاب الله واعظا، أي: إذا أردت أن تعظ الناس فعليك بتلاوة كتاب الله عليهم، والتدبر لآيات القرآن، والنظر فيها، فقراءتها على الناس وشرحها لهم وتفسيرها، كفى بها واعظا ومذكّرا ومخوّفا، ومن لم يتعظ بالقرآن وبكلام الله، وبما جاء فيه من هذه المعاني الجليلة، فلا وعظه الله!
والله تعالى أعلم.


ابوالوليد المسلم 26-03-2024 05:04 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

(29) دعاوى المشركين الباطلة

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا}
2150. ٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: كَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ لِي: لَنْ أَقْضِيَكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ؟! قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي لَنْ أَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ، ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؟! فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ وَوَلَدٍ؟! قَالَ وَكِيعٌ:كَذَا قَالَ الْأَعْمَشُ. قَالَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إِلَى قَوْلِه:ِ {وَيَأْتِينَا فَرْدًا}.
الشرح: باب في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} (مريم: 77) وهذا الحديث هو الثاني في سورة مريم، والحديث قد أخرجه الإمام مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، والحديث أخرجه أيضا البخاري في صحيحة، فهو إذًا حديث متفق عليه.
وهو حديث خبّاب بن الأرت ] وهو التميمي أبو عبدالله، من السابقين إلى الإسلام، وقد عذّب في الله تعالى، وشهد بدراً، ثم نزل الكوفة، ومات بها سنة سبع وثلاثين، روى له الستة.
يقول خباب بن الأرت: « كان لي على العاص بن وائل دينٌ» وجاء في رواية البخاري: أن خباب كان قَيناً، أي حدّاداً، فصنع للعاص بن وائل سيفا أو نحو ذلك، فجاء إلى العاص بن وائل، وهو من كبار صناديد قريش، وهو والد عبدالله بن عمرو بن العاص، وكان من الوجهاء عندهم كما قلنا.
قوله: « فأتيته أتقاضاه» أي: يطلب منه ثمن ما صنع له؛ لأنه كان حدادا.
قوله: «فقال لن أقضيك حتى تكفر بمحمد [» وهذا من كفره وعناده وشركه بالله تعالى، وبغضه للرسول [؛ لأنه علم أن خبابا رضي الله عنه قد آمن بمحمد [، لكن هو من ضعفة الناس في مكة؛ لأنه ليس قرشيا بل من تميم.
قوله: «فقلت له إني لن أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث» وهذا قاله على وجه الاستحالة، وعلى وجه الاستبعاد، ومعنى ذلك: أني لن أكفر بمحمد [ أبدا؟!
قوله: «قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟» قاله على وجه الاستهزاء والإنكار والتكذيب، وهذا ما كان عليه أهل الجاهلية في مكة وغيرها، بل يكذب بالبعث سائر الأمم الكافرة، فإنهم جميعا كانوا ينكرون البعث بعد الموت، والقيامة والحشر والحساب، والله سبحانه وتعالى قد أقام الحجج والبراهين الكثيرة، فيما أنزل على رسله وفي كتبه، وفيها الآيات العظيمة، الدالة على إحيائه للموتى، وبعث الأجساد بعد فنائها.
فمن ذلك في القرآن الكريم: أن الله تعالى ضرب المثل كثيرا على إحياء الموتى، بإحياء الأرض بعد موتها بالنبات، فالأرض تكون ميتة يابسة لا حياة فيها، فإذا أنزل الله سبحانه وتعالى عليها الماء والمطر اهتزت وربت، وانبتت من كل زوج بهيج.
ومن ذلك أيضا: أن الله سبحانه وتعالى ضرب في القرآن أمثالا كثيرة في حوادث الناس، مثل قصة نبي الله عزير عليه السلام، الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، ومثل: قصة تقطيع نبي الله إبراهيم عليه السلام للطيور الأربعة، ثم ناداها فقامت حية تمشي على الأرض، ومثل قصة القرية من بني إسرائيل: {الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوفٌ حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم}. ومثل الذي قُتل ثم ضُرب بعضو من أعضاء البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل فأحياه الله، وأخبر بقاتله في القصة المشهورة.
ومثل أصحاب الكهف الذين ناموا ثلاثمائة سنة وتسعا ثم أحياهم الله وقاموا ورآهم الناس ثم رجعوا فماتوا، وغيرها من القصص والحجج والبراهين التي تبين قدرة الله سبحانه وتعالى على إحياء الموتى.
قوله: «قال وإني لمبعوث من بعد؟! الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد» وفي رواية أنه قال: «فإني إذا بُعثت، فسيكون لي مال وولد فأقضيك»، وهذا من استهزائه بالبعث والنشور، وكفره بآيات الله، واستهزائه بالصحابي صاحب الحق عليه، قال وكيع كذا قال الأعمش، قال: فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} (مريم: 77) وهذه الآيات تدل على أنها نزلت في هذا الكافر، وفي أمثاله من المجرمين.
يقول سبحانه وتعالى فيها: {أَفَرَأَيْتَ}: أفلا نخبرك عن هذا الكافر الذي كفر بآياتنا ببراهيننا وحججنا، وما أنزلنا على نبينا محمد [ من الآيات المسموعة العظيمة. {وقال لأوتينا مالا وولدا} أي: مع كفره بالله وشركه، قال: سيعطيني الله مالا وولدا؟؟! قال ذلك تخرصا وادعاء، وكذباً على الله عز وجل وافتراء، ولذلك ردّ الله سبحانه وتعالى قوله فقال: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} أي: هل قال ما قال عن علم بالغيب؟ وأنى له علم الغيب وهو كافر بالله سبحانه وتعالى؟! هل اطلع الغيب وعلم أنه سيكون من أهل الجنة؟ وسيكون له مال وولد؟! والجواب: لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يطلع الخلق على غيبه كما قال {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ...} (الجن 26: 27)، وهذا الرجل كافر بالله سبحانه وتعالى إذاً هو لم يطلع على الغيب، هو كاذب ومفترىٍ.
قوله: {أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} أي: هل كان له من الله عهدٌ وميثاق أن يدخله الله الجنة؟ والجواب: أن هذا أيضا لم يحصل! فليس لهذا الكافر عهد ولا ميثاق عند الله سبحانه وتعالى بدخول الجنة؛ وذلك لأنه أولا: لم يسلم ولم يعمل صالحا، ومن لم يؤمن بالله عز وجل، فليس له عند الله عهد بدخول الجنة والنجاة من النار.
والآية تدل على أمرٍ مهم وعظيم، وهو أن من آمن بالله عز وجل وعمل صالحا، فله عند الله عهد أن يدخله الجنة، كما جاء في حديث معاذ ] مرفوعا: « أن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن يدخلهم الجنة إذا هم فعلوا ذلك». أما هذا الكافر وأمثاله فليس لهم عند الله عهد، ولا وعد بالنجاة، ولا بدخول الجنة، بل هو متقول كاذب، يقول قولاً لا علم له به، ولا وعد من الله بكتاب، ولهذا أنكر الله تعالى قوله فقال: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً}.
قوله: {كَلَّا}، وكلمة «كلا» تنفي ما قبلها، وتثبت ما بعدها، وهي كلمة ردع وزجر، وحرف « كلا « بالاستقراء لم يرد إلا في السور المكية، فهو من علامات السور المكية؛ فكل سورة ذكر فيها حرف «كلا»، فهو دليل على أنها سورة مكية.
والآيات المكية فيها نوع من القوة والجزالة في اللفظ، والمخاطبة للعقول، وتحريك القلوب بشدة؛ لأن القلوب ميتة، فقلوب الكافرين جامدة قاسية، بخلاف قلوب المؤمنين فهي قلوب لينة خاشعة؛ ولهذا فالخطاب في المدينة خطاب سكينة ولين وإيمان، خطاب يبتدأ فيه بقوله: {يأيها الذين آمنوا}؛ لأن الناس قد استجابوا لله سبحانه وتعالى وآمنوا، أما السور المكية فهي موجهة إلى أناس عتاة وكفرة، وإلى جاحدين معاندين؛ ولذلك الآيات في السور المكية تكون كالقوارع على القلوب، توقظ هذه الأفئدة الغافلة من سباتها العميق.
ثم قال الله عز وجل: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} (مريم: 79)، أي: هذا القول الذي قاله وافتراه على الله سبحانه وتعالى، وتجرأ فيه على الله وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام بأنه قال لخباب: لا أعطيك حقك حتى تكفر بمحمد [؟ فهذا سنكتبه عليه، وتحصي عليه الحفظة والكتبة من الملائكة كل ما يقول في صحيفته.
{وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} هذا في الآخرة، يمد له فيه العذاب مدا؛ لأن العذاب يوم القيامة عذاب ممدود مستمر، لا أمد له ينتهي عنده، بل هو دائم باق، كما قال سبحانه: {فلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة: 86) وقال {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} (النبأ: 23)، أي: كلما انتهت تلتها حقبة أخرى، فهو عذاب ممدود لا نهاية له، والعياذ بالله، وعذاب شديد، وقال سبحانه فيه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} (النساء: 56).
وقوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} (مريم: 80) أي: نحن الذين سنرث ماله وولده، فهو قد قال: إذا بعثت سيكون لي مال وولد، فائتني وأعطيك حقك؟! فقال الله تعالى له: نحن الذين سنرث ما يقول؛ لأن الله سبحانه وتعالى الوارث لعباده، الذي يرث خلقه أجمعين، كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (مريم: 40)، فكل ميت وهالك وارثه الله سبحانه وتعالى.
{ويأتينا يوم القيامة فردا} أي: لا مال ولا أهل ولا عشيرة، ولا خدم ولا حشم، بل يأتينا فردا ليس معه أحد، فهذا الكافر الجاحد الذي يطمع أن يكون له مال وولد يوم القيامة، يقول الله سبحانه وتعالى إنه سيأتي يوم القيامة فردا واحدا ليس معه أحد؛ فلا ينصره أحد، ولا يشفع له أحد.
وهذا القول الذي قال العاص بن وائل يدل على جهل المشركين، وسفاهة عقولهم، وغبائهم وبلادتهم، وبعضهم يظن أنه على شيء من الفهم والعقل في الحياة؟!! وأن الله سبحانه وتعالى أعطاهم ما أعطاهم من أموال وبنين ودنيا واسعة وجاه، لحبه لهم، أو لعلمهم وحنكتهم وإدارتهم! ويظنون أن هذا دليل على أنهم على خير، وأنهم لا يمكن أن يتحولوا عن هذا الخير الواسع إلى الشر الذي يتوعدهم به رسول الله [؟!
والحقيقة أن ما أعطاهم الله إنما هو استدراج منه سبحانه وتعالى لهم، وهذه الأشياء كلها ستسلب بعد موتهم، وتكون سببا في زيادة عذابهم، وسيرجعون إلى الله فرادى حفاة عراة، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: 94).
نسأل الله تعالى العفو والعافية في ديننا ودنيانا، وأهلنا ومالنا.

ابوالوليد المسلم 27-03-2024 04:57 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

(30)إعـادةُ الخَلـق

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب: في قوله عز وجل: {كما بدأنا أول خلق نعيده...} الآية
2151. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ [ خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام، أَلَا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي ؟! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قَالَ فَيُقَالُ لِي: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ «.
الشرح: هذا الحديث من مختصر مسلم في سورة الأنبياء، والحديث رواه الإمام مسلم في كتاب: صفة القيامة. وبوّب عليه النووي: باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة.
وبوب عليه المنذري: باب قوله عز وجل: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} (الأنبياء: 104).
وسميت سورة الأنبياء بهذا الاسم؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها جملةً مباركةً من أسماء أنبيائه ورسله، وقصصهم وأحوالهم مع الله تعالى.
والأنبياء جمع نبي، وهو من نُبئ، أي: جاءه النبأ من السماء بواسطة الوحي.
والأنبياء عددهم وفير وكثير، كما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند الإمام أحمد وصححه ابن حبان في صحيحه: أن النبي[ سئل عن الأنبياء، كم عددهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «مائة وأربعة وعشرون ألفا، الرسلُ منهم ثلاثمئة وبضعة عشر».
وهم منهم من ذكر اسمه في القرآن، ومنهم من لم يذكر اسمه، كما قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء: 164).
وحديث الباب هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما، الصحابي المشهور بالتفسير، وإنما قلنا: رضي الله عنهما؛ لأن ابن عباس منسوب إلى أبيه وهو العباس بن عبد المطلب عم النبي [، فإذا ذُكر ابن عباس يترضّى عنه وعن أبيه، لأنه وأبوه صحابيان، كما يقال عن ابن عمر: رضي الله عنهما، وجابر بن عبدالله؛ لأنهم وآباؤهم صحابه رضي الله عنهم .
وللحافظ ابن قطلوبغا رسالة باسم: من روى عن أبيه عن جده، مطبوعة.
قوله: « قام فينا رسول الله [ بموعظة «، كان من هدي النبي [ أن يعظ أصحابه ويذكرهم بالله عز وجل، ويخوفهم بربّهم، ويرغبهم فيما عنده، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يتخوّل أصحابه بالموعظة، يعني: أنه يتعاهدهم أحيانا ولا يكون بصفة الاستمرار، وإنما يجعله متقطعا ومتفرقا، كسقي الزرع مثلا، وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي[ كان يعظهم كل خميس.
وهذا لأجل ألا يمل الناس من المواعظ؛ فإن كثرة الوعظ تؤدي بالإنسان إلى الملل والسآمة، وقد تؤدي بالإنسان لليأس والقنوط من رحمة الله بسبب كثرة الخوف، فكثرة الخوف تضر المؤمن العامل.
قوله[: «يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاةً عراة غرلاً» أي: إن الناس يحشرون يوم القيامة على هذه الصورة، حفاة أي: غير منتعلين، عراة أي: غير مكتسين، غرلاً أي: غير مختونين. أي: إنهم يحشرون كما خُلقوا، وكما خرجوا من بطون أمهاتهم إلى الأرض، فالإنسان إذا خرج من بطن أمه يخرج حافياً عاريا أقلف، والأقلف هو الذي لم يختتن بعد، ويقال له: الأغرل أو الأرغل والأغلف، كل هذه لغات صحيحة في الذي لم يختتن، أي: لم تقطع عنه الجلدة التي تغطي حشفة الذكر.
وهذا يعني أن الإنسان يرجع يوم القيامة بكل أعضائه، ولو فقد شيئا منها في الدنيا، أي لو قطع منه شيء، فإنه يأتي يوم القيامة كما خلقه الله، وكما بدأه الله سبحانه.
ثم قرأ [: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } أي: إن إعادتنا للخلق هي مثل ابتدائنا لخلقهم، فنحن قادريون على أن نعيد الإنسان كما خلقناه بعد أن أفنيناه، بعد فنائه وصيرورته ترابا، فإننا قادرون على أن نعيده كما بدأناه في بطن أمه.
وقوله: {وَعْداً عَلَيْنَا} هذا مما أخذه الله سبحانه وتعالى على نفسه، والله سبحانه يوجب على نفسه ما يشاء، وهو تعالى لا يخلف الميعاد؛ ولهذا قال: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 104)، يعني إنا كنا قادرين على ذلك، على أن ننجز ما وعدنا، وهذا لتمام قدرته وكمال غناه سبحانه. وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان يخلف الوعد ؟ ومتى يكون ذلك ؟ إذا عجز عن الوفاء به فالإنسان إذا كان قادرا أنجز وعده، وقد يكون قادرا لكن يكون هناك من هو أقوى منه وأقدر، فيمنعه من إنجاز الوعد فيخلف الوعد، لكن الله عز وجل قادر ولا أحد أقدر منه، وقوي ولا شيء أقوى منه سبحانه وتعالى، فلا شيء يمنعه من إنجاز وعده.
وأيضا: فقد يعد الإنسان غيره بشيء، ولكن فقره يمنعه من الوفاء، فيخلف وعده، لكن الله سبحانه وتعالى الغني الحميد، فلا يمنعه فقر ولا حاجه ولا عوز أن ينجز وعده سبحانه وتعالى.
فقوله سبحانه وتعالى: {وَعْداً عَلَيْنَا} أي: علينا إنجازه والوفاء به {إنا كنّا فاعلين} فلا يمنعنا شيء من إنجاز هذا الوعد الذي وعدنا به.
وهذا كله تحقيق وبيان أن هذا الوعد محقق كائن لا شك فيه، وإذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تستعدوا لهذا اليوم – يوم القيامة - الذي يعيدكم الله سبحانه وتعالى فيه إلى الحياة مرة أخرى، وقدموا لأنفسكم من الأقوال والأعمال الصالحة ما يكفي للخلاص من الأهوال، والنجاة من النار، كما قال عز وجل: {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} (الإسراء: 5).
ثم قال عليه الصلاة والسلام: « ألا وانّ أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم « فأول الخلق يكسى يوم القيامة النبي إبراهيم [، ولماذا هو أول الخلق يكسى ؟ قيل: لأنه ألقي في النار عاريا، فجازاه الله سبحانه وتعالى بأن كساه قبل الخلائق. وقيل: إن هذه الأولية بالنسبة لما بعد نبينا محمد [؛ لأنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة. وقيل: هو يكسى قبل النبي [ ولكن كسوة النبي [ أعلى من كسوته.
وعلى كل حال فهذه منقبة لخليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفضيلة من فضائله عليه السلام، وهو أبو الأنبياء، وإمام الدعاة إلى التوحيد، فقد جعله الله سبحانه وتعالى إماما يقتدي به من جاء من بعده من النبيين والمؤمنين.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإنه سيُجاء برجالٍ من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال» فقوله سيجاء برجال من أمتي، يعني: يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات الشمال، وفي رواية البخاري: « سيؤخذ بهم إلى النار ذات الشمال «. وأصحاب الشمال هم أهل النار كما هو معلوم من القرآن الكريم.
قوله: « فأقول يا رب أصحابي» وفي رواية للبخاري أيضا: «فأقول يا رب أصيحابي» بالتصغير للتقليل.
قوله: «فيقال: إنك لا تَدري ما أحدثوا بعدك؟ « فهذا الحديث يبين فيه النبي [ أنه سيؤتى برجال من أمته فيؤخذون عنه، وكيف يعرف النبي [ أمته ؟ جاء في الحديث أنه يؤتى بهم يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فيعرفهم النبي[، لكن قوله: «سيؤخذ برجال من أمتي» يفيد التقليل كما لو قال: يجيء أقوام، وهذا يفيد التقليل كذلك، فهم قلة في هذه الأمة، والنبي [ عرفهم كما ذكرنا بالغرة والتحجيل.
فعندما ُيؤخذ بهم إلى النار يقول النبي [: « يا ربي أصحابي أو أصيحابي « لأنه عليه الصلاة والسلام عرفهم بالسيما والعلامة.

قوله: « فيقال إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك» فمن المراد بهؤلاء الذي يؤخذ بهم إلى النار بعد أن عرفهم النبي [، المصطفى المختار ؟ فيه أقوال:
فالقول الأول: أنهم المنافقون الذي كانوا يظهرون الإسلام في عهد النبي [، فيصلون ويأتون المساجد، وربما يحجون مع المسلمين ويخرجون للجهاد أحيانا، ولكنهم في الباطن منافقون - والعياذ بالله - فهؤلاء تأخذهم الملائكة من بين يدي النبي [، وتحجز بينهم وبين نبيهم وتجرهم إلى النار، فالنبي عليه الصلاة والسلام، يقول عندئذ: أمتي !! أو يقول: هؤلاء أصحابي، أي: منهم، فتقول له الملائكة: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك!
والقول الثاني: أن هؤلاء هم المرتدون بعد النبي [ ممن كانوا في البوادي، وغيرهم ممن ارتد بعد وفاة النبي [، وبدلوا بعده، فماتوا على ما أظهروا للنبي [ من إسلامهم، وبعضهم قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهذا أيضا يشهد له القرآن، كما قال الله عز وجل {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (التوبة: 101).
والقول الثالث: أن هؤلاء هم أصحاب الكبائر وأصحاب المعاصي، الذي ماتوا على التوحيد، فإنه يوم القيامة يحال بينهم وبين النبي [.
والقول الرابع: أن هؤلاء هم أصحاب البدع؛ لأن الملائكة تقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، والإحداث على نوعين: إحداث بمعنى إتيان الكبائر ، وإحداث بمعنى الابتداع، فإن كل محدثة بدعة، فيكون هؤلاء هم أصحاب الإحداث في الدين، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: كل من أحدث في الدين، فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء. قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون بالكبائر . قال: وكل هؤلاء يُخاف عليهم أن يكونوا ممن عُنوا بهذا الخبر، والله أعلم.
فهؤلاء كلهم ممكن أن يكونوا معنيين بهذا الحديث.
وقد استغل أهل البدع الحاقديون على الإسلام وغيرهم هذا الحديث، فحملوه على أصحاب النبي[؟! بل وعلى الأكابر منهم، كالخلفاء الثلاثة، واحتجوا به على ردة الصحابة رضوان الله عليهم؟؟ حتى قالوا: لم يبق على الإسلام بعد النبي[ إلا ستة؟! وهم: علي وأبو ذر والمقداد وسلمان وعمار؟؟ فهؤلاء هم الذين بقوا على الإسلام، وأما البقية فكلهم ارتدوا ؟! والعياذ بالله، وهذا القول منكر عظيم، وجرأة عظيمة، وفيه تكذيبٌ لله سبحانه وتعالى في كتابه الذي يترضى فيه على أصحاب نبيه [ في أكثر من موضع، كقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح: 18) وقوله سبحانه وتعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ...} (الفتح: 29)، وقوله: {والسّابقُون الأولون من المهاجرينَ والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} (التوبة: 100).
وغيرها من الآيات الواردة في هذا، والتي تثبت أن الحقيقة أن الصحابة المعروفين لم يرتد أحدٌ منهم بعد النبي [، بل لا يثبت أن صحابياً ارتد بعد النبي [، لكن الذين ارتدوا هم الجهال من العرب، والأعراب الذين كانوا خارج المدينة من القبائل الذين أسلموا، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم، بل أسلموا ودخلوا في الإسلام، ولكن كان الإيمان ضعيفا في قلوبهم، فلما مات النبي [ رجعوا عن الإسلام، وقاتلهم أبو بكر الصديق، وردّ منهم من رد إلى الدّين.
قوله « فأقول كما قال العبد الصالح: {َوكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المائدة: 117)» والعبد الصالح قائل هذه المقالة هو نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام، ذكر الله عز وجل عنه ذلك في أواخر سورة المائدة، وذلك أن عيسى عليه الصلاة والسلام يقول الله له يوم القيامة: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} (المائدة: 116) فيقول: {سُبحانك ما يكونُ لي أن أقولَ ما ليس لي بحقٍ} أي هذا القول المنكر، وهو ادعاء الألوهية، ثم يعتذر ويقول: {َوكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: شاهداً ومراقبا لهم، وسميعا بصيرا بأقوالهم وأفعالهم {ما دمت فيهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} لما رفعتني عنهم {كنت أنت الرقيب عليهم}؛ لأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء رقيب، {وأنت على كل شيء شهيد}. ثم يقول عز وجل عنه {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة: 118) هذا القول يمكن أن يقال إنه على وجهه الاستعطاف، أي إن النبي[ يقول هذا القول استعطافا للخالق سبحانه وتعالى لعبيده، كما يُستعطف السيد لعبيده، ولهذا فلم يقل: إن تعذبهم فإنهم عصوك، وإنما قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وهو نوعٌ من الاسترحام والاستعطاف لهم. وقيل: هذا القول قاله على وجه التسليم والتفويض والانقياد له سبحانه، إذ معناه: يا رب إن عذبتهم فأنت خالقهم، وأنت سيدهم وأنت ربهم، وهم خلقك وعبيدك، وإن تغفر لهم فهذا أمرٌ بيدك سبحانك، لا يعترض عليك أحد، ولا يرد أمرك أحد، ولا يمكن أن تسأل عما تفعل؛ لأن الله عز وجل له الملك كله، وله الأمر كله في خلقه.
والأقرب أنه يعني الاستعطاف، لكن للذين لا يزالون في دائرة الإسلام والتوحيد، وأما المرتدون والكفار فلا يستعطف لهم النبي [؛ لأنه يعلم أن الله حرّم الجنة على الكافرين، ولذلك قال أهل التفسير: إن عيسى عليه الصلاة والسلام قالها على وجه التسليم والتفويض، وليس على وجه الاسترحام؛ لأنه يعلم أن من قال إن عيسى عليه السلام هو الله؟ فقد أشرك بالله عز وجل وكفر به، ومن كان كذلك لا يرحمه الله إذا مات عليه؛ لأن الله لا يرحم من يشرك به ومن يكفر به ولا يغفر له، كما قال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وكل من أشرك بالله تعالى فقد سدّ على نفسه باب الرحمة بنفسه، أي هو الذي أغلق الباب بيده؛ لأن الله عز وجل فتح لعباده أبواب المغفرة والرحمة، لكن بعض العباد يسدون على أنفسهم باب الرحمة.
وقوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز: الذي لا يرد قوله ولا أمره، والغالب جل وعلا، والحكيم: الذي لا يفعل ولا يقول إلا الصواب والحق، فيضع العقوبة في محلها، والرحمة في محلها.
نسأل الله أن ينفعنا بما علّمنا من الحق، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علما إنه هو العليم الحكيم، والحمد لله رب العالمين.


ابوالوليد المسلم 27-03-2024 04:59 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر مسلم للمنذري

(31) الخصومة في الله عز وجل

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب : في قوله تعالى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج : 19)
2152. عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ قَسَمًا، إِنَّ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} أنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ : حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ.
الشرح: باب في قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج : 19) وهي الآية التاسعة عشرة من سورة الحج، وأورد فيه الإمام المنذري حديث أبي ذر رضي الله عنه، وهذا الحديث قد أخرجه الإمام مسلم في آخر كتاب التفسير، وبه ختم مسلم رحمه الله صحيحه.
- قوله : عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر رضي الله عنه، وأبو ذر اسمه جندب بن جنادة الغفاري، من قبيلة غفار المشهورة، وكان ممن أسلم قديما، ولكن تأخرت هجرته، وكان يصلي قبل الإسلام ثلاث سنين، كما جاء عنه أنه كان يقول : كنت وأنا في الجاهلية أرى الناس ليسوا على شيء، ثم لما قدم إلى مكة وأسلم جهر بإسلامه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال له : اكتم عليك، لكنه جهر بإسلامه، فضُرب رضي الله عنه ضربا شديدا، حتى جاء العباس وفكه من المشركين، وقال : يا قوم، تجارتكم على غفار، يعني: تمرون على قبيلة غفار.
وقَيْسِ بْنِ عُبَادٍ هو الضُّبَعي أبو عبد الله البصري، مخضرم ثقة، والمخضرم من أدرك زمن النبي [ فأسلم ولم يره، فهو بين الصحابي والتابعي.
- قال : « سمعت أبا ذر يقسم قسما - أي يقسم بالله سبحانه وتعالى - إن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} ( الحج : 19) أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر « ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول، كما مر معنا، وقلنا: إن أسباب النزول مما يعين على فهم الآية، وذلك بفهم قصتها ومعرفة سبب حكمها ونحوه، فهذا مما يعين على فقه الآية، والمراد منها.
وقد قال بمثل قول أبي ذر جماعة من الصحابة أيضا، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره : عن علي رضي الله عنه أنه قال حين نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج : 19) وأنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة. فهذا عن علي رضي الله عنه ويخبر أن هذه الآية نزلت فيه وأنه أول من يجثوا في الخصومة على ركبتيه عند الله سبحانه وتعالى، وأنه المقصود بقوله {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج : 19): قال أبو حيان : الظاهر أن الاختصام هو في الآخرة، بدليل التقسيم بالفاء الدالة على التعقيب في قوله {فالذين كفروا} وإن قلنا : هذا في الدنيا، فالجواب أنه لما كان تحقيق مضمونه في ذلك اليوم، صح جعل يوم القيامة ظرفا له بهذا الاعتبار، والله أعلم. انتهى.
- والصحيح : أنه لا مانع من أن تكون الخصومة في الدنيا، وفي الآخرة أيضا، فهم اختصموا في الدنيا واختلفوا وتقاتلوا، وهم أيضا سيتخاصمون ويتجادلون بين يدي الله تبارك وتعالى، بدليل قول علي رضي الله عنه : « أنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة»، وخصومة علي رضي الله عنه يكون معه بقية المؤمنين، وإن كان قد نص هاهنا على : حمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم أجمعين، وهؤلاء اختصموا مع : شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فهؤلاء من المشركين في جهة، وعلي وحمزة وعبيدة من الصحابة رضي الله عنهم في جهة أخرى، وهم قد اختلفوا يوم بدر واختصموا في الله تعالى، بل تقاتلوا وتقابلوا في الميدان بالسلاح، فهؤلاء يريدون نصرة دين الله عز وجل ونصرة رسوله [ والحق، والكفار والمشركون يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق، ونصرة الباطل .
وأيضا أهل الإيمان يختصمون مع الكفار عموما، ويخالفونهم في معتقداتهم وعباداتهم وأحوالهم وحياتهم ومماتهم، فهم خصوم في الدنيا والآخرة، ويقضي الله بينهما، كما قال الله في هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} ( الحج 19 - 21 ).
فهذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في الخصومة بين المؤمنين والكافرين، سواء كانوا من اليهود أم من النصارى أم من المجوس أم من من المشركين أم من الصابئين أم من غيرهم، فهناك خصومه واختصام وجدال في الدنيا في ربهم سبحانه وتعالى، فكل يدعي في ربه أشياء، ويخالف ويجادل عليها، وسيختصمون بين يدي الرب سبحانه وتعالى، وسيفصل الله تبارك وتعالى بينهم يوم القيامة، وهو يوم الفصل، الذي يفصل الله تعالى فيه بين المتنازعين والمختلفين كما قال سبحانه {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} (المرسلات : 38) وقال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} ( النبأ : 17) اليوم الذي يحصل فيه الفصل بين النزاع والخلاف.
- وقوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} (الحج : 19) أي : تفصل لهم - والعياذ بالله - ثيابٌ من نار يلبسونها، وقيل : {من نار} يعني: من قطران، والقطران معلوم أنه سريع الاشتعال، مع النتن وخبث الرائحة، وهذا زيادة في عذابهم وألمهم، أن تفصل لهم ثياب من القطران، والتي متى لفحتها النار ازدادت اشتعالاً، وتصل النار بذلك إلى كل موضع من بدنه، وهذا كما قلنا زيادة في العذاب لهم.
- قوله: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} (الحج : 19) أي : الماء الشديد الحرارة المغلي، وقيل : الحميم هو النحاس المذاب، وهو قول سعيد بن جبير.
ومن شدّة حره، أنه يصهر به ما في بطونهم، ويصهر الجلود، فإذا صب عليهم سقطت جلودهم، وصهرت ما في بطونهم من أمعائهم، وتذوب شحوم بطونهم، من شدة حرها.
- قوله: {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} ( الحج 21 ) والمقامع هي المطارق الضخمة الكبيرة التي يمسكها الزبانية من الملائكة، فيضربون كل عضو منهم.
- وملائكة النار وخزنتها قد وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم : 6)، فقوله {غلاظ} أي : قلوبهم قاسية، لا يرحمون أهل النار، وشداد أي : في أجسادهم وأبدانهم، وهذه المقامع التي بأيديهم معدة لأهل النار، كلما أرادوا أن يخرجوا من النار قمعتهم الملائكة بها، يعني ضربتهم بها فيعودون إلى النار، ويهوون إلى قعرها، كما في قوله: {كلما أَرادوا أنْ يَخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها}، وقال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة، وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعها لهبها، وتردهم مقامعها (تفسير ابن كثير 3/182 ).
- {وذوقوا عذاب الحريق} أي يقال لهم ذلك؛ إهانة لهم وتوبيخاً، كما في قوله: {وقيل لهم ذُوقوا عذابَ النارِ الذي كنتم به تكذبون} فهم يُهانون قولاً وفعلا.
أعاذنا الله وإياكم جميعا من عذاب النار وأهوالها.


ابوالوليد المسلم 27-03-2024 05:01 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

(31) حادثة الإفــك( 1 )

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} (النور: 11).
2153. عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ [ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا: وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ اقْتِصَاصًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، ذَكَرُوا: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ [ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ [ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ [ مَعَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ [ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ مَسِيرَنَا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ [ مِنْ غَزْوِهِ وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ مِنْ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِيَ الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ. قَالَتْ: وَكَانَتْ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يُهَبَّلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَادَّلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي....».
الشرح: هذا الحديث هو في تفسير « سورة النور» وقد أورد فيها حديث الإفك المشهور، وهو تفسير لقوله تبارك وتعالى فيها: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النور: 11) إلى تمام عشر آيات من سورة النور، والتي أنزل الله سبحانه وتعالى فيها براءة عائشة الصديقة أم المؤمنين، زوج النبي [ في آيات تتلى إلى يوم القيامة.
وقد روى هذا الحديث عن الزهري وهو محمد بن شهاب ابن مسلم الزهري المدني رحمه الله، من أفاضل التابعين، ومن أوائل من دوّن حديث النبي [، وجمعه بأمر من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد.
قال: «أخبرنا سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة ابن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة رضي الله عنها»، فهؤلاء كلهم سمع من الزهري حديث عائشة رضي الله عنها، ويقول: كلهم حدثني طائفة من حديثها، وكان بعضهم أوعى لحديثها من بعض، وأثبت اقتصاصا « يعني هؤلاء الرواة بعضهم أوعى وأثبت وأحسن إيراداً وسردا للحديث من بعضهم، وقد وعيتُ حديث كل واحد منهم الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدّق بعضه. وهذا الذي فعله الزهري من جمعه الحديث عنهم وسياقه سياقا واحداً جائزٌ لا شيء فيه؛ لأن الحديث يبيّن بعضُه بعضا، وهؤلاء الأربعة الذين ذكرهم الزهري كلهم أئمة وحفاظ وثقات، ومن أجل التابعين منزلة، فجمع حديثهم وحدث به، وسرده مسرداً واحدا.
قالوا: « ذكروا أن عائشة زوج النبي [ قالت: كان رسول الله [ إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه، فأيّتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله [ معه « وهذا دليلٌ لمشروعية العمل بالقرعة بين الزوجات، إذا أراد الزوج السفر بواحدة منهن لمصلحته هو، فيقرع بينهن إذا كان لا يستطيع أن يأخذهن جميعا، والعمل بالقرعة جائز شرعا، في القسم بين الزوجات وفي العتق والوصايا والقسمة، وقد جاءت فيه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، كحديث الرجل الذي مات وله ستة أعبد - أي ستة عبيد - فأعتقهم عند موته، فأقرع بينهم النبي [ فأعتق اثنين وأرق أربعا. وقد أعتق اثنين وأرقّ الباقي؛ لأن الميت له الثلث فقط بعد موته، وهذا داخل في الوصية وداخل في العتق.
وهو قول الأئمة الثلاثة والجمهور من أهل العلم.
قال ابن المنذر: استعمالها كالإجماع، ولا معنى لقول من ردها.
وكان أبو حنيفة لا يرى القرعة من الأمر المشروع أو العمل الشرعي، وينقل عنه إجازته القرعة.
وقال أبو عبيدة: عمل بها - يعني بالقرعة - ثلاثة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: يونس وزكريا ومحمد صلى الله عليه وسلم ، يونس عليه السلام كما جاء في كتاب الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} (الصافات: 141)، فاقترع أهل السفينة لما هاج البحر أن يلقوا رجلا من أهل السفينة، فوقعت القرعة على يونس عليه الصلاة والسلام، فأعادوا القرعة فوقعت على يونس ثلاثا، فعند ذلك ألقى بنفسه في البحر. وأما زكريا عليه السلام فلما تنازع بنو إسرائيل أيهم يكفل مريم عليها السلام، اقترعوا كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران: 44)، فألقى بنو إسرائيل أقلامهم في الماء،وكان كلٌ قد كتب اسمه على القلم الذي كان يكتب به التوراة، فألقوها في الماء، وقالوا: الذي يقف قلمه ولا يجري مع الماء هو الذي يكفل مريم، فيأخذها في كفالته ويربيها في حجره، فوقف قلم زكريا عليه الصلاة والسلام، فعند ذلك كفلها، كما قال عز وجل: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} (آل عمران: 37) الآية .
وأما محمد [ فالأحاديث عنه كما سبق في العمل بالقرعة كثيرة، ومنها هذا الحديث: أنه [ كان إذا أراد السفر أقرع بين نسائه.
وعن مالك في رواية عنه: أن له أن يسافر بمن شاء منهن بلا قرعة، إذا كانت أنفع له في طريقه والأخرى أنفع له في بيته وماله. والصحيح أن العمل بالقرعة هو الوارد في السنة، إلا أن يكون هناك ضرورة بحيث أنه يقدّم ويؤخر للضرورة ، ورجحان العمل بالقرعة هو لورود السنة الصحيحة بها، ومتى صحّت السنة النبوية، فلا حاجة بنا إلى القياس ولا إلى الاجتهاد كما هو معلوم.
قالت عائشة: « فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله [، وذلك بعدما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي « تقول عائشة: إن النبي [ غزا غزوة وأقرع بين نسائه فخرج سهمها، أي خرج اسمها، فخرجت مع الرسول [ وسافرت معه، وكان ذلك بعدما أُنزل الحجاب، أي: بعد نزول فريضة الحجاب على النساء، أي بعد نزول آية الأمر بالحجاب، وهي قول الله سبحانه وتعالى {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب: 59).
قولها: « فأنا أحمل في هودجي» والهودج هو ما يوضع على البعير لتركب فيه المرأة، له أعواد ويغطى بالقماش، وتجلس المرأة فيه، ليكون أستر لها عن نظر الرجال.
قولها: «وأنزل فيه مسيرنا» أي إذا نزلوا في أثناء الطريق، كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تبقى فيه ولا تخرج.
قولها: «حتى إذا فرغ رسول الله [ من غزوه وقفل « قفل أي رجع» ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل « آذن ويصح أن يقال: أذن، هو الإعلان، والأذان هو الإعلان، أي: إن النبي [ لما نزل هذا المنزل في أثناء الطريق، أبلغ الصحابة أنه سيرحل، وذلك ليستعد الناس للرحيل والرجوع.
والجيش كما تعلمون عدد كثير، فإذا نزلوا بمحل ونام الناس فيه أو أكلوا، أو استراحوا وقضوا حاجاتهم، أو صلوا، فيحتاجون بعد ذلك أن يؤذن فيهم مؤذن، يعلمهم أنهم سيرحلون بعد قليل.
قولها: « فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع» تقول: لما آذنوا بالرحيل، وعلم الناس أنهم سيرحلون قريبا، جاوزت الجيش قليلا، أي تنحيت عنهم حتى قضيت حاجتي، ولما رجعت إلى الهودج – أي إلى الرحل- لمست صدري وإذا العقد، يعني القلادة التي كانت تلبسها، وهي من جزع ظفار، والجزع بفتح الجيم، هو عقد من الخرز، وظفار بلد معروف بين اليمن وعُمان، تجلب منه قلائد تلبسها النساء، قيل: هو سواد وبياض، أي هذا الخرز سواد وبياض تلبسه النساء.
فهي رضي الله عنها لما وصلت إلى الرحل، افتقدت العقد الذي كانت تلبسه، فرجعت تلتمس العقد أو القلادة، رجعت إلى المكان الذي قضت فيه حاجتها لتبحث عنه.
قولها: « فحبسني ابتغاؤه» أي: مكثت أبحث عنه، وهذا أخذ مني وقتا.
قولها: «وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي، فحملوا هودجي فرحّلوه على بعيري» فهي لما كانت تبحث عن العقد جاء الرهط أثناء ذلك - والرهط هم الجماعة دون العشرة - جاءوا إلى الهودج وحملوه من الأرض ووضعوه على البعير الذي كانت تركبه، وهم لا يشعرون أنه خال، تقول: وهم يحسبون أني فيه، أي هم يظنون أني في الهودج.
قالت: « وكانت النساء إذ ذاك خفاف لم يهبلن « يُهَبلن فيها أكثر من ثلاث لغات، يقال: يُهَبلن أو يَهبَلن بفتح الياء أو ضمها، يعني لم يثقلن باللحم والشحم، والمقصود أن النساء إذ ذاك خفاف؛ لقلة الزاد والحاجة، فيصيبهن الجوع كثيرا، كما جاء في الصحيح: أن النبي [ كان يمر عليه الشهر والشهران، ولا يوقد في بيته نارٌ [. وكانوا يعيشون على التمر والماء، فهذه عامة عيشتهم، وصبروا على هذا العيش الغليظ الشديد، وكانوا يرددون: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.
وفي رواية البخاري: «لم يثقلن» وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن.
قولها: «ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة» أي الشيء القليل أو البلغة، أي كانت المرأة تأكل الشيء القليل من الطعام؛ ولذا لم يستنكر القوم خفة الهودج حين رحلوه ورفعوه.
قولها: «وكنت جارية حديثة السن» وأيضا هي كانت صغيره السن، والجارية هي البنت الصغيرة، ولا يتطرق إليها ثقل البدن لأنها كانت حديثة السن.
قولها: «فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي» أي: لما رحلوا البعير وبعثوه، أي قام، والبعث هو القيام، وساروا بجملها، كانت قد وجدت عقدها بعدما استمر الجيش، أي بعدما مشى الجيش وفارق المكان الذي كانت فيه، فلما جاءت عائشة رضي الله عنها إلى مكان الجيش ومنازلهم، وإذا هي ليس بها داع ولا مجيب، الداعي: هو المنادي، أي ليس بها مَن ينادي، وليس بها من يجيب فيقول: نعم، أي ليس فيها من يقول: يا فلان، فيقول له المجيب: لبيك يا فلان، فلا داعي ولا مجيب.
قالت: «فتيممت منزلي» تعني قصدته، أي رجعت إلى المكان الذي كنت أجلس فيه. «وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي» ظنت أن القوم في أثناء الطريق سيفقدونني وسيشعرون أن الهودج خال ليس فيه أحد، فيرجعون إلي ويبحثون عني.
قولها: «فبينا أنا جالسة في منزلي فغلبتني عيني فنمت» أي بينما هي جالسة تنتظر أن يرجع إليها الجيش نامت رضي الله عنها.
قولها: «وكان صفوان بن المعطل السلمي» صفوان بن المعطل: بفتح الطاء بلا خلاف، كذا ضبطه أبو هلال العسكري. والذكواني منسوب إلى ذكوان بن ثعلبة، وهو صحابي فاضل، شهد الخندق والمشاهد .
قولها: « قد عرّس من وراء الجيش، فادلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان» أي إن صفوان بن المعطل كان ممن وضعه النبي [ بمؤخرة الجيش، فيأتي آخر الجيش ليتفقد منازلهم، لعله يجد سلاحاً قد وقع من بعضهم، أو يجد متاعا لهم سقط من أحدهم، وأدلج بمعنى سار آخر الليل، فأصبح عند منزلي، أي لما جاء الصباح فإذا هو عندي. « فرأى سواد إنسان « أي رأى شخصا نائما «فعرفني حين رآني وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب» أي قبل نزول فرض الحجاب عليهن . وللحديث بقية.


ابوالوليد المسلم 28-03-2024 07:00 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(32)

حادثة الإفك (2)

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
تكلمنا في الحلقة الماضية عن حادثة الإفك وهي في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} (النور: 11) وأن هذه الآية وما بعدها من الآيات نزلت في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال فيها أهل الإفك والنفاق ما قالوا، فبرأها الله سبحانه وتعالى مما قالوا.
وذكرنا أنها كانت قد خرجت مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة المريسيع وأنها في رجوعهم للمدينة خرجت لتقضي حاجتها، ثم انقطع عقد لها فرجعت إلى البحث عنه، فجاء من وكل بهودجها فحملوه وهم يظنون أنها فيه، فلما جاءت لم تجد أحدا فبقيت تنتظر في مكانها، حتى جاءها الصحابي صفوان بن معطل السلمي.
ونواصل إن شاء الله تعالى الكلام على شرح الحديث:
قولها: «وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَادَّلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللَّهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً، وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ [ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ [ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَذَاكَ يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقَهْتُ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّنَزُّهِ وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ؟! أَتَسُبِّينَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟ قَالَتْ: أَيْ هَنّتَاهْ، أَوْ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ؛ فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي.
- الشرح: قولها « فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان» أي: رأى شخص إنسان نائم. «فأتاني فعرفني حين رأني وكان يراني قبل أن يُضرب الحجاب علي، فاستيقظت باسترجاعه» تقول: إن صفوان بن المعطل لما جاء رأى سواد إنسان نائم، فلما اقترب رآني فعرفني، وكان يراني قبل أن يفرض الحجاب. وفي هذا دليل على أن الحجاب كان أولا أن تغطي المرأة جميع بدنها إلا وجهها، ثم بعد ذلك نزل الحجاب الذي فيه الأمر بتغطية الوجه، وهذا في قوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب: 59).
فالله سبحانه وتعالى أمر نبيه أن يأمر أزواجه وبناته بالحجاب، ثم بعد ذلك يأمر نساء المؤمنين به، وهذا فيه تنبيهٌ على أن الإنسان إذا أراد أن يأمر بمعروف بدأ بنفسه أولا ثم بأهل بيته، فيصلح من شأنه أولا، ثم من شأن أهل بيته، قبل أن يدعو البعيد، وقبل أن يدعو بقية الناس.
فهذا من أولويات الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف وفي النهي عن المنكر، وأخذ العلماء من هذا أيضا: البدء بالأهداف القريبة قبل الأهداف البعيدة، والبدء بالشيء اليسير قبل الشيء العسير، فهذا الفقه في الدعوة تقرره هذه الآية الكريمة.
والأمر الثاني: أنك لو بدأت بالبعيد والأجنبي عنك، وتركت أهل بيتك، لقال الناس: مُر أهلك أولاً قبل أن تأمرنا! وانظر إلى ابنك فلان وإلى زوجتك فلانة وإلى كذا... وهم بعيدون عما تقول! فهذا مما يعاب به الداعية والخطيب، وفيه صد عن سبيل الله؛ ولذا قال شعيب عليه السلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله } فلا بد أن يبدأ الإنسان بنفسه أولا فينهاها عن الشر، ثم ينهى أهل بيته، ويأمرهم بالمعروف، ثم يتوجه للخلق بالنصح.
والحديث يدل أيضا: على أن الحجاب فرض على جميع نساء الأمة، على أمهات المؤمنين وعلى من دونهن من نساء المؤمنين، فليس هو خاصا بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هناك من قال بخصوصية الحجاب! وأن هذه الآية خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا الآية التي يقول الله عز وجل فيها: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} (الأحزاب: 53).
فهذه الآية وإن كانت تتحدث عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قد قال الله عز وجل في التعليل فيها: {ذلكم أطهرُ لقلوبكم وقلوبهن} أي: لقلوب أمهات المؤمنين وقلوب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ونحن أحوج إلى الطهر والبعد عن الفتنة بالنساء، ومعلوم أن وجه المرأة هو مجمع الفتنة، وهو أصل الحسن والجمال، وبه تغنى الشعراء، والإنسان إذا أراد أن يخطب امرأة نظر إلى وجهها أولا، فمن الحكمة العظيمة التي جاء بها الشرع أن تحتجب المرأة عن الرجال الأجانب، وتستر وجهها، فهذا الحديث دليل على وجوب تغطية المرأة البالغة لوجهها؛ لأنها قالت «وكان يراني قبل أن يضرب الحجاب».
وكذا قولها: « فخمرت وجهي» أي: غطيته، وهو دليل واضح أيضا على أن المرأة تغطي وجهها، كما قال الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، فالخمار غطاء يخمّر به الرأس، يضرب من الرأس على الوجه، ويغطى به الجيب الذي هو فتحة الثوب التي يدخل منها الرأس، هذا هو الخمار الشرعي.
قولها: «فاستيقظت باسترجاعه» تعني: انتبهت من نومي لما قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. «ووالله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه» تقول عائشة: والله ما كلمني كلمة واحدة، وهذا من حيائه وتوقيره واحترامه لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
قولها: « حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها» أناخ بعيره أي جعله يجلس كي تستطيع أن تركب عليه. قالت: «فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة» أي: بعد أن ركبت الراحلة، انطلق يقودها بزمامها حتى أتينا الجيش، تعني حتى لحقوا بالجيش الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، موغرين: أي في وقت الوغرة وهي شدة الحر، وفي نحر الظهيرة أي حين بلغت الشمس غايتها من الارتفاع، حتى كأنها وصلت إلى النحر الذي هو أعلى الصدر، وهذا وقت القائلة التي هي وقت شدة الحر.
قولها: « فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله ابن أبي ابن سلول» أي لما جئت إلى الجيش وصفوان بن المعطل هو الذي يقود الراحلة، انتهز من كان في قلبه مرض الفرصة، وهم الحاقدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام والمسلمين، انتهزوا الفرصة للطعن في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهلك من هلك في شأني، أي افترى علي فهلك من كذب علي من المنافقين، وكان الذي تولى كبره، أي كان الذي يتولى بشاعة هذا الأمر وتعظيمه وبثّه في كل مجلس وناد وفي كل مكان، عبد الله بن أبي ابن سلول، وأبي اسم أبيه، أما سلول فهو اسم أمه، وكان يعرف بها، وعبد الله بن أبي إنما كان سبب نفاقه حب الدنيا، وحب الرياسة والمنصب؛ إذ لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان عبد الله بن أبي يوشك أن يكون ملكا على المدينة أو أميرا عليها، وقال من قال: كان أهل المدينة ينظمون له الخرز في التاج الذين يريدون أن يتوجوه به، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام بطلت عنه تلك الرياسة، وانفض عنه ذلك الملك الذي كان يحلم به، وصارت الأمور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الواجب عليه أن يسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن منصب النبوة والرسالة والوحي لا يعدله شيء من ملك الدنيا كلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقارن بغيره من الناس، فلا يقارن بالملوك ولا بالرؤساء ولا بالأمراء؛ لأنه مرسل من عند الله، وقال سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}، وقال عز وجل: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}، وهو يوحى إليه بالأوامر والنواهي والتشريعات في سائر شؤون الناس، مأمور بأمر الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}، فكان الواجب عليه التسليم، ولكنه كما قيل: شرق بذلك! وأضمر حقدا وحسدا عظيما؛ ولهذا كان يحوك الدسائس، ويقود المؤامرات ضد النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه سراً وفي الظلام، وتارة جهرا وعلانية، لا يستحيي من ذلك ولا يخاف الله رب العالمين! حتى هلك وهو على ذلك، ونزل فيه ما نزل من الآيات، وهو قوله جل في علاه: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 84)، ولما أراد النبي [ أن يصلي عليه نهاه عمر، وقال له: أتصلي عليه يا رسول الله وهو القائل يوم كذا،كذا وكذا؟! فنزل بعد ذلك القرآن موافقاً لعمر ].
وهذه الآية فيها تصريح بنفاقه وبكفره - والعياذ بالله تعالى - ونهت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه وعلى أمثاله.
تقول عائشة: « فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهراً » أي: لما رجعوا للمدينة اشتكت عائشة أي مرضت وظلت في مرضها شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ويخوضون في عرضها ويتكلمون، والإفك أي الكذب الذي افتراه أهل النفاق وأهل الحقد والشقاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه.
تقول: « وما أشعر بشيء من ذلك» والسبب أنها كانت في بيتها مريضة لا تخرج ولا تخالط الناس، وربما أيضا حاول أهلها أن يخفوا ذلك عنها لمرضها ، كما سيأتي، وفي حال لا يسمح لها بسماع مثل هذا الخبر السيئ. فتقول: لكن شعرت بشيء، وهذا الشيء خفي يلمح، وذلك أن الزوجة تعرف زوجها بحكم العلاقة الوطيدة بينها وبين زوجها، والمحبة العظيمة التي بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه سئل من أحب الناس إليك؟ فقال: عائشة.
هذه منزلة عائشة أم المومنين رضي الله عنها عند النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا لطيبها وفضلها وإيمانها ودينها، وحبها لعلم الكتاب والسنة؛ ولذلك أحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عليه الصلاة والسلام لا يحب عبثا ولا مجرد هوى وشهوة، ولا يصرف الحب لغير أهله، بل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يضع الشيء في موضعه بأمر الله سبحانه.
تقول: « وهو يريبني» بفتح الياء أو يريبني بالضم، يجوز الوجهان، تقول: لكن الذي أرابني، أي جعلها مرتابة وفي شيء من الحيرة والشك « في وجعي» أي في مرضي « أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أعرف منه حين أشتكي» أي كانت إذا مرضت، تشعر بلطف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطفه وحنانه، أما ما رأته في تلك الحال فهو بخلاف ذلك، إذ كان يتكلم معها قليلا، ولا يظهر منه من العطف ولا الحنان الذي كانت تشعر به سابقا، قالت: « إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ » أي: كيف حالكم، وتيكم هي إشارة إلى المؤنث.
قولها: « فذاك يريبني ولا أشعر بالشر « الشر الذي كان يشيعه أهل الإفك» حتى خرجت بعدما نقهت « بفتح القاف وكسرها لغتان، والفتح أشهر، والناقه هو الذي خرج من المرض وبرأ منه قريبا، ولم يسترد كمال صحته.
قولها: « وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا « وهي مواضع خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها « ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل « وهذا من حبهم للتستر « وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا « الكنف جمع كنيف وهو موضع قضاء الحاجة في البيت، تقول: « وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا « أي من أجل الرائحة.
قولها: «فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ» فهم قرابة لأبي بكر الصديق رضي الله عنهم.
قولها: «فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا» المرط كساء من صوف» فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ» بفتح العين وكسرها، ومعناها: عثر، أو هلك، وقيل: لزمه الشر، وغيره. ومسطح هو ابن أثاثة «فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ؟! أَتَسُبِّينَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟» قَالَتْ: أَيْ هَنَتَاهْ، أَوْ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟» هنتاه أي: يا هذه، « قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ؛ فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي» وذلك لهول الخبر عليها وشدته عليها رضي الله عنها. يتبع


ابوالوليد المسلم 28-03-2024 07:02 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم – (33)

حادثة الإفــك ( 3 )


اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
مع الحلقة الثالثة في شرح « حديث الإفك» وما جرى لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها فيها.
قولها : « فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها « المرط : هو الثوب الطويل أو الدرع الذي تلبسه المرأة، وعادة يكون من الصوف، وقد يكون من غيره، فلما عثرت قالت : تعس مسطح، وتعس دعاءٌ عليه بالتعاسة، والتعاسة هي الشر، وقيل : الهلاك، وقيل : سقط على وجهه، فلما سمعت عائشة رضي الله عنها هذا القول، قالت لها : « بئس ما قلت؟! أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟!».
وهذا من حسن أدبها، وأمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر رضي الله عنها وأرضاها، أي: كيف تقولين تعس مسطح وتسبينه؟! وهو دعاء عليه من أمه إذ تدعو عليه بالتعاسة وعدم التوفيق، والأمر الآخر : أنه رجل قد شهد بدرا، ومن شهد بدرا من الصحابة له منزلة خاصة عندهم، كما جاء في الحديث الصحيح : أن جبريل عليه الصلاة والسلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : «ما تعدون من شهد بدرا منكم؟» قال : « ذلك من أفاضل أصحابنا» فقال: «كذلك من شهد بدرا من الملائكة»، وهذا يدل على عظم الحسنة لمن شهد بدرا، فمن شهد بدرا فقد أتى حسنة عظيمة.
وكذا ورد في حديث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما أفشى شيئا من سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له عمر : يا رسول الله، دعني أضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنه قد شهد بدرا؟ وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» فدمعت عينا عمر رضي الله عنه.
أي : من كان شهد بدراً، فإنه مهما عمل من سيئات بعدها، لم تضره، سبحان الله! فمثله كمثل من كان عنده ملايين الأموال، وخسر ألفا أو ألفين أو ثلاثة أيضره ذلك؟! لا يضره.
أما نحن فالذنوب اليسيرة تؤثر فينا؛ لأن الحسنات عندنا قليلة، كمثل الإنسان الذي يعيش على راتبه القليل، فلو حصل له أي أزمة مالية لتأثر.
قولها: « فقالت أي هنتاه» هذه كلمة تقال للأنثى، ومعناها : يا هذه أو يا امرأة، وكأنها تقول لها : أنت لا تدرين عن شيء، لا تدرين عن مكائد الناس وشرورهم، أو تقول لعائشة: أما بلغك ما حصل؟
قولها: « قلت : وماذا قال؟» لأنها لم تكن تدري ما أشاعه المنافقون عنها وروجوا له، حتى راج على بعض المؤمنين الغافلين؛ لأن مسطحا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وممن شهد بدرا، فليس هو من المنافقين، ولكن كما قلنا وقع ذلك عن غفلة وسهو منه.
وهذا فيه تنبيهٌ على أن أهل الشر قد ينصبون حبالهم فيقع فيها بعض المؤمنين، لا عن عمد، ولا كراهية لله ورسوله، ولا رغبة في المعصية، وإنما بغفلة، وهذا ما حصل في هذه الحادثة، فأهل النفاق كانوا يروجون لهذا الإفك والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته، فوقع فيه بعض المؤمنين مثل مسطح بن أثاثه ابن خالة أبي بكر، ووقع في ذلك أيضا -كما قال أهل التفسير وأهل السير - : حسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش وجماعة من المؤمنين الذين جلدهم النبي صلى الله عليه وسلم حدّ القذف، بعد أن نزلت براءة عائشة رضي الله عنها من السماء، وقد تابوا إلى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك وحسنت توبتهم، ومن أعظمهم توبة حسان بن ثابت ]، الذي كان بعدها ينافح عن رسول الله [، ويدافع عنه وعن عرضه وعن أهل بيته، بل عن دينه وعن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصب له منبراً في مسجده الشريف، فينشد فيه الأشعار التي فيها الدفاع عن الإسلام، وعن رسول الإسلام وعن الدين والإيمان، والشعر كما تعلمون سلاح عظيم في ذلك الزمن، وهكذا الكلمة التي تبنى على العلم والحكمة والمعرفة، لها أثر عظيم في الناس اليوم، وهي أشد من أثر السلاح والسهام، كما قال صلى الله عليه وسلم لحسان : « هَاجِهم ورُوحُ القُدُس معك، فَوالذي نفسي بيده لكأنما ما تَرميهم به رَشَق النَّبل» متفق عليه.
يعني: كانت قصائد حسان أشد على المشركين من رشق النبل، أي رشق السهام، وهذا تعظيم لدور الإعلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالشعر كان كوكالة الأنباء أو الصحيفة التي تنشر فيها الأخبار في الجزيرة العربية، والشاعر بقصيدة منه يستطيع أن يرفع قومه إلى السماء، ويمكن أن يهجو قوماً فيلحقهم بأراذل الخلق.
وهكذا سلاح الإعلام في هذا العصر سلاح خطير؛ ولذلك أعداء الله اليهود انتبهوا إلى ذلك، فامتلكوا وسائل الإعلام تقريبا في العالم كله، وتدخلوا حتى في الإعلام العربي والإسلامي إلا القليل منه، وهكذا أشباههم من أعداء الأمة، والمفسدون في الأرض.
قولها: « أخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي» لأنها لا تزال ناقهة، خرجت للتو من المرض، تقول: « فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ « قلت : أتأذن لي أن آتي أبويّ» أي: تأذن لي أن أزور أبوي وأذهب إليهما.
قالت : «وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما» أي أنا أريد بهذه الزيارة أن أستوثق وأتيقن من الخبر الذي سمعته من أم مسطح، بشان الإفك والكذب الذي أشاعه عني المنافقون، قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه، ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنيه هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأةٌ قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها» «وضيئة» على وزن «عظيمة»، أي جميلة، من الوضاءة، والوضاءة: الحسن والجمال، وهكذا كانت عائشة رضي الله عنها، ووقع في رواية: « لقلما كانت امرأة حظية» من الحظ وهو الوجاهة وارتفاع المنزلة، وضرائر جمع ضرّة وهي زوجة الرجل الأخرى، فزوجات الرجل ضرائر؛ لأن كل واحدة تتضرر بالأخرى، بالغيرة وبالقسم في البيات وما أشبه ذلك، ومعنى أكثرن أي أكثرن من القول في عيبها وتنقصها.
قالت: «قلت: سبحان الله»؟! وقد تحدث الناس بهذا؟» أي كانت صدمة عظيمة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ما كانت تتصور أن الناس يمكن أن يقولوا في عرضها ما قالوا، وأن يتجرأوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته هذه الجرأة العظيمة.
تقول: «فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم» لا يرقأ أي: لا ينقطع دمعها، تقول جرح لا يرقأ، أي ينزف ولا يقف دمه، ولا أكتحل بنوم أي بسبب شدة الكرب والهم والغم طار النوم عنها، وأوجب لها السهر والبكاء .
قولها : « ثم أصبحت أبكي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله» أي إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أبطأ عليه الوحي، ولم ينزل عليه فيها شيء، دعا بعض خاصته ومن هو قريب منه، فدعا علياً رضي الله عنه وهو صهره وابن عمه، وأسامة بن زيد رضي الله عنهما وهو حِبه، أي من أحب الناس إليه، هو وأبوه رضي الله عنهما، يستشيرهما في فراق أهله، أي : أيفارق عائشة رضي الله عنها أم لا ؟ بسبب الكلام الحاصل بين الناس فيها وما يشيعه عنها أهل النفاق بما هي بريئة منه، كما برأها الله عز وجل.
قالت : «فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يعلم من براءة أهله» هو لا يعلم عنهم إلا كل خير، فيعلم أنهم برآء مما قيل فيهم، والأصل أن الإنسان بريء، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، أي حتى تقوم الأدلة على أنه مدان، وأنه فعل الجريمة، وإلا فالأصل البراءة.
قولها: « فأخبر أسامة بما يعلم من براءة عائشة رضي الله عنها، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود والمحبة» أي إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكن لعائشة من الودّ والمحبة ما الله به عليم، وكان الصحابة يعرفون ذلك، حتى إنه عليه الصلاة والسلام لما سُئل : من أحب الناس إليك؟ قال : «عائشة» رواه البخاري؛ أو إن المقصود بقوله «بالذي يعلم في نفسه لهم من الود « هو أسامة، فأسامة كان يجل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ويعرف لها فضلها ومنزلته؛ لذلك قال: « يا رسول الله هم أهلك» أي مجرد أن تضاف عائشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يكفي في عفتها؛ ولذلك قال: هم أهلك، أي إذا كانت تضاف إلى بيت النبوة، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم زوجة وحليلة، فما هو الظن اللائق بها رضي الله عنها وأرضاها إلا العفة والطهر والنقاء، والبعد عن مثل هذه القاذورات؟!
« ولا نعلم إلا خيراً» أي: ونحن لا نعلم عنها رضي الله عنها إلا كل خير.
وأما علي ] فقال: «لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير» علي ] لما رأى شدة كرب النبي صلى الله عليه وسلم بسبب هذا الأمر وتكدر خاطره منه، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما ضيق الله عليك في النساء، إن أحببت أن تفارقها فالنساء غيرها كثير، أراد بذلك أن يفرج عن النبي صلى الله عليه وسلم ويخفف عنه، وأن الأمر ليس بمستغلق، بل لك أن تفارقها وأن تتزوج غيرها، ولم يقصد بذلك سوءا، ولم يكن يضمر شيئا لعائشة رضي الله عنها، لكن عليا ] أراد أن يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فيه تخفيف وتفريج لكربته.
قوله: « وإن تسأل الجارية تصدقك» أي إذا سألت الجارية التي تخدم عائشة وتلازمها صباح مساء تصدقك القول؛ لأنها قريبة منها بحكم المخالطة اليومية للخدمة، والإنسان يستطيع أن يتعرف عليك وعلى محاسنك وعيوبك وطبائعهم، ويعرف مدخلك ومخرجك من خلال ذلك.
ومن البلاء المستطير اليوم وجود بعض الخدم بيننا الذين لا يتقون الله تعالى، فيعرفون أسرار البيوت التي يعملون بها، وإذا ما التقوا فيما بينهم تناقلوا أسرار البيوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأن هؤلاء لا يعرفون الآداب الشرعية، ولا يراعون حرمات البيوت فينقلون الأسرار العائلية حتى تصل إلى آخر الحي! وربما كان الخادم سببا لوصول الشر إلى أهل البيت، فيسهل مثلا للسراق واللصوص، أو يسهل لأهل الفاحشة، بحكم معرفته لأهل البيت وأسرارهم، فإنه يطلع على ما لا يطلع عليه غيره؛ ولهذا قال علي ]: وإن تسأل الجارية تصدقك، أي لأنها تعرف عنها ما لا نعرفه نحن.
قالت: «فدعا رسول الله [ بريرة» وبريرة جارية أعتقتها عائشة رضي الله عنها وصار لها الولاء عليها، أي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بكلام علي ] وإشارته فدعاها، فقال: «أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟» يَريبك ويُريبك بضم الياء وفتحها كلاهما جائز، أي: هل رأيت من شيء فيه ريبة أو شك؟ قالت بريرة: «والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله» تقول بريرة: أقسم بالله الذي بعث رسول الله [ بالحق، إن رأيت، أي ما عليها أمرا قط، أما الأمر الذي أغمصه عليها، أي أراه نقصا في حقها، أو أراه خطأ يحصل منها، أنها هي جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، أي تعجن العجين ثم يغلبها النوم فتأتي الداجن فتأكله، والداجن: هي الشاة التي يربيها الناس في البيوت لأجل الدر والحليب، ولا تخرج للمرعى فتكون من دواجن البيت.
فالعيب الذي كانت تراه على عائشة هو هذا، أن عائشة قد تغفل أو تنام عن بعض تدبير أمور البيت من الطبخ والعجن وما أشبه ذلك بسبب صغر سنها.
يتبع


ابوالوليد المسلم 28-03-2024 07:03 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر مسلم (34)

حادثـة الإفـك (4)

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
ذكرنا في الحلقة السابقة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار بعض أصحابه فيما قيل في حق أم المؤمنين، ونستكمل بقية الشرح للحديث.
قالت: « فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر» بعد هذه الاستشارة وبعد الشعور بشيء من الطمأنينة من كلام أهله، ومن كلام أقرب الناس إلى عائشة وهي بريرة مولاتها، قام صلى الله عليه وسلم على المنبر.
قولها: « فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول « استعذر يعني قال: من يعذرني ، فطلب العذر ، قال: « يا معشر المسلمين ، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي «من يعذرني يعني: من يقوم بعذري وينصفني إن عاقبته على فعله، وأقمت عليه ما ينبغي أن يؤدب به، وقيل: معنى من يعذرني، أي من ينصرني ، والعذير هو الناصر ، لكن المعنى الأول أقوى.
قوله: «فو الله ما علمتُ على أهلي إلا خيراً» وهذا هو الأصل براءة الناس وسلامتهم ، ولا يتحول عن هذا الأصل إلا بشهودٍ أو بينة أو اعتراف أو ما أشبه ذلك ، وإلا فالأصل أن الإنسان بريء حتى تثبت إدانته.
قوله: «ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً» وأيضا هم اتهموا رجلا معروفا بالخير والصلاح ، ومعروفا بالعدالة ، وهو كما ذكرنا رجل من البدريين، أي ممن شهد بدرا.
قوله: « وما كان يدخل على أهلي إلا معي» أي: لم يحصل له خلوة ، فلم يحصل شيء من ريبة من تصرف مريب ، ولم يشهد عليه أحدٌ بشيء، وهو رجل صالح فمن أين تأتي التهمة ؟! ومن أين يأتي الظن السيئ؛ ولذا قال الله تبارك وتعالى: {لولا إذْ سمعتموه ظنّ المؤمنُون والمؤْمنات بأنفسِهم خيراً وقالوا هذا إفكٌ مبينٌ لولا جَاؤوا عليه بأربعةِ شُهداء فإذْ لم يأتوا بالشّهداء فأؤلئك عند اللهِ هم الكاذبون}، (النور : 12-13) فأهل الإيمان والصلاح والاستقامة والعفاف يظن بهم الخير ، كما أرشد الله في الآية الكريمة.
قوله: « فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله»، وهاهنا إشكالٌ في الحديث ، وهو ذكر سعد بن معاذ وهو سيد الأوس [ وأرضاه ، في هذه القصة في غزوة بني المصطلق المسماة بغزوة : المريسيع، وكانت هذه الغزوة سنة ست للهجرة ، والمعلوم من السيرة أن سعد بن معاذ رضي الله عنه مات بعد غزوة الخندق ، وقد كانت سنة أربع ، فكيف يحضر هذا المجلس وهذا الموقف فيتكلم وهو قد مات قبله؟!
ولهذا قال القاضي عياض: قال بعض شيوخنا : ذكر سعد بن معاذ في هذا وهم ، والأشبه أنه غيره، فقيل: هو أسيد بن الحضير، ومنهم من قال : إنّ غزوة المريسيع كانت سنة أربع، يعني في سنة الخندق، لكن الأشهر أنها كانت بعد غزوة الخندق ، كما ذكر غير واحد أن المريسيع كانت سنة خمس أو سنة ست.
قوله: «إن كان من الأوس ضربنا عنقه « يعني قال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، أي أنا أعطيك العذر بأن تقتله إن كان من الأوس؛ لأنه كان سيد الأوس، ويملك ذلك. قوله : « وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك»؛ لأنه ليس له ولاية على الخزرج ، إنما الولاية العامة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فله الأمر على الجميع ، أي إن كان من الخزرج تأمرنا نحن فنفعل به ما تشاء.
قالت : «فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحاً ، ولكن اجْتَهلته الحمية» وأكثر رواة مسلم رووه بهذا اللفظ : «اجتهلته» يعني استخفته الحمية وأغضبته وحملته على الجهل ، وفي رواية البخاري : «احتملته» يعني أغضبته الحمية.
والحمية هي العصبية ، والعصبية - عافانا الله وإياكم - إذا طرأت على الإنسان غطت على قلبه وعقله، وصار الإنسان يتصرف دون عقل وشرع، وهذا من أعظم المخاطر والمنكرات التي حذر منها الشرع الحنيف، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من قاتل تحت راية عُمّيّة ، يغضبُ لعَصَبة، أو يدعو إلى عَصبة ، أو يَنصر عَصبة ، فقتل، فقتلته جاهلية» رواه مسلم ( 3/1476).
فالذي يدعو إلى العصبة ، أو يقاتل على العصبة - والعصبة هم أقرباء الرجل من جهة الأب - فهذا إن مات وهو كذلك فميتته جاهلية؛ لأنه يقاتل لا لنصرة الدين ، ولا لنصرة الحق، بل لأجل العصبة والعشيرة! ومحض الهوى والتعصب! كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
لكن سعد بن عبادة رجل صالح، ومن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، بل من أصحاب بيعة العقبة ، أي من السابقين إلى الإسلام من الأنصار ، لكن احتملته العصبية على الوقوع في هذا الخطأ، ] وعن الصحابة وأرضاهم أجمعين.
قوله : « فقال لسعد بن معاذ : كذبتَ ، لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله» أي : إن كان من الخزرج فما لك عليه ولاية ، فلا تقتله ولا تقدر على قتله، والأوس والخزرج قبيلتان كانتا تسكنان المدينة كما هو معلوم، وبينهما عداوات قديمة كانت في الجاهلية، فتثور هذه العداوات بعض الأحيان بينهم، وفي بعض المواقف بتحريش الشيطان أو المنافقين، فيحصل بينهم ما يحصل بين البشر، لكنهم رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا سريعا ما يعودون إلى الحقّ والصلح ، ويندمون ويتعانقون وينسون ما حصل بينهم من خلاف ، ويحمدون الله سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام ، وأخوة الإيمان ، وائتلاف القلوب بعد التنافر الذي كانوا عليه في الجاهلية ، كما قال سبحانه وتعالى:{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، (آل عمران : 10).
قوله: «قال أسيد بن الحضير وهو ابن عم سعد بن معاذ» أسيد بن حضير أيضا هو من أصحاب بيعة العقبة الأولى ، وممن بايع رسول الله [ فيها، فقال أسيد بن حضير وكان حاضرا، قال لسعد بن عبادة: «كذبت لعمر الله» لعمر الله: قسم بحياة الله تعالى، وهي صفة من الصفات الإلهية ، وقال : « كذبت لعمر الله لنقتلنه؛ فإنك منافق تجادل عن المنافقين « قوله : إنك منافق ، لا يريد بهذا النفاق النفاق الاعتقادي ، إنما يريد النفاق العملي، كأنه يقول له: كيف تدّعي أنك مسلم وتحبنا، ثم تعادينا هذه العداوة ، وتظهر لنا المودة والمصافاة ثم في مثل هذا الموقف تظهر لنا العداوة، كأنك منافق أو هذا أشبه بحال المنافق ، وهذا كما قلنا كان في موقف حمية وغضب وعصبية ، فحصل منهم ما حصل، ومثل هذه المواقف والأقوال لا تنقص من قدر الصحابة وفضلهم؛ لأنهم على كل حال بشر ، والبشر معرضون للخطأ، والصحابة رضي الله عنهم وإن كانت لهم مثل هذه الأخطاء ، لكنها يسيرة وقليلة ، ومغمورة في بحار حسناتهم رضي الله عنهم وأرضاهم ، التي قدموها في سبيل الله ، والأعمال التي نصروا بها الله عز وجل ودينه ورسوله [، والأموال التي أنفقوها في نصرة الإسلام، فلم تكن هذه إلا مجرد عارض يحصل للإنسان الضعيف ، الذي يعتريه ما يعتري غيره من الغضب والانفعال والتوتر والانزعاج.
قولها : « فثار الحيان الأوس والخزرج » بعد هذا السجال والجدال الذي حصل بين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأصحابهما ، ثار الحيان، أي الأوس والخزرج ، وحصل لهم نوع من الحمية، « حتى هموا أن يقتتلوا » حتى هموا أن يحصل بينهم عراك أو تشابك بالأيدي، أو بالعصي وما أشبه ذلك.
قولها: « ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل يخفّضهم « أي يأمرهم بتخفيض الصوت، ويسكتهم، حتى سكتوا جميعا وسكت صلى الله عليه وسلم ، فقد كادت تنشب فتنة بين الصحابة وفرقة، وهذه الفتن حاكها أهل النفاق والدسائس، أرادوا بها الإيقاع بين المؤمنين ، وتهييج العداوات بين المسلمين ، وهذا لا شك أنه هدف لأعداء أمة الإسلام في كل عصر ومصر ، فهم دائما يحاولون إيجاد ما يثير العداوات بين المسلمين ، وما يردهم إلى العصبيات الجاهلية ، وإلى مبادئ أو حضارات إن تمسكوا بها فرقتهم بعد أن جمعهم الإسلام على قلب رجل واحد. قال عز وجل ممتنا أيضا على رسوله :{وألّف بين قُلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}، (الأنفال:63) .
فالله سبحانه وتعالى ألف بينهم بدينه وبالإيمان وبشرائع الإسلام وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولو أنفقت ذهب الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، لكن الذي ألف بينهم هو الله سبحانه وتعالى. فأعداء الإسلام يريدون تفريق الأمة، وإذا تفرقت الأمة ضعفت وسهل التغلب عليها، مثل العصي إذا تفرقت سهل تكسرها، كما قال القائل:
تأبى الرماحُ إذا اجتمعنَ تكسرا ...
فإذا افترقن تكسرت آحادا
فالحزمة القوية لا يمكن أن يكسرها الإنسان، لكن إذا تفرقت الأعواد كسر كل عود وحده، وهذا هو المقصود في قول أعداء الله : «فرق تَسُد» يتبع.


ابوالوليد المسلم 29-03-2024 04:45 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(35)

– حادثة الإفك (5)

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
نستكمل شرح حديث حادثة الإفك:
قَالَتْ : «وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ بَكَيْتُ لَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي ، فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي قَالَتْ : فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ [ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ ، قَالَتْ : وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ [ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ، عَلَيْهِ قَالَت:ْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ [ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ [ فِيمَا قَالَ فَقَال:َ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ [، فَقُلْتُ لِأُمِّي : أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ [، فَقَالَتْ : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ [، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ : إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ : إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ ، وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
- قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، قَالَتْ: وَأَنَا وَاللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه ِصلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ»، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْه،ِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} عَشْرَ آيَاتٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي».
الشرح :
تقول عائشة: «وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم « لا يرقأ أي لا ينضب ولا يقف دمعي، ولا تنام عينها، «ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم « أي: تواصل عليها الهم والغم والبكاء والسهر»، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي» أي: ما يفلق الكبد ويقطعه، أو يحصل لها مرض عضال في الكبد؛ لأن الكبد يتأثر بمثل هذا الهم الشديد والغم، كما هو معلوم.
- قولها: « فبينما هم جالسان عندي وأنا أبكي، استاذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي» أي مواساة لها وتسلية، فالإنسان إذا كان في همٍ وغم ومصيبة، وجاء من يجلس عنده ويسليه، خفّف عنه شيئا من المصاب.
- قَالَتْ : « فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ : وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ « أي مرّ شهر عليها وما جلس عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لعظم هذه الفرية والإشاعة الخبيثة المنفرة، وتأخر نزول الوحي في هذه الحادثة شهراً، وهو من الابتلاء العظيم لرسول اللهصلى الله عليه وسلم ولأهل بيته.
قَالَتْ: «فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ» قالت: بعد أن جلس تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تشهد أي: قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وهي عادته صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أراد أن يتكلم ، تشهد وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله.
ثم قال: «أما بعد» وهي كلمة تقال لأجل الانتقال من موضوع إلى آخر، واختلف فيمن قالها أولاً ؟ فمنهم من قال: أول من قالها من العرب: قس بن ساعدة، خطيب العرب، وقيل غيره.
- قولها: « قال : يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا» وهذه أول مرة يكلمها النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر منذ حصل ما حصل، وإنما كان يدخل عليها كما مر معنا ويقول لها: كيف تيكم؟ أي كيف حالكم، فقط، وما كان يزيد على ذلك، لكن قال لها في هذا اليوم: « إنه قد بلغني عنك كذا وكذا» يعني كناية عما رُميت به من الإفك والبهتان». فإن كنت بريئة فسيبرئك الله» أي: بالوحي ينزله الله عز وجل يعلن فيه براءتك.
ثم قال: «وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله « ألممت من الإلمام، كما في قول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } (النجم : 32).
فاللمم كما يقول أهل العلم: هو الذّنب الذي يقع دون قصد، وهذا حال أهل الإيمان وأهل الاستقامة والصلاح، فالذنب منهم يقع بغفلةٍ دون قصد ولا عمد، وبعدم إصرار ، فقال لها: إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، يعني إن فعلت ذنبا فاستغفري الله وتوبي إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب ، تاب الله عليه، وهذه بشارة عظيمة للمذنبين، كما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى في قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر : 53).
وفي قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } (طه: 82).
فالنبي صلى الله عليه وسلم هاهنا يبشر ويصرح بقبول توبة الله للمذنب، إن هو تاب واعترف بذنبه، وندم على فعله ، فان الندم والتوبة كفيلان بمغفرة الذنوب من الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى.
- قالت: « لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قَلَص دمعي وجفّ ، حتى ما أحس منه قطرة» قلص أي ارتفع ، وذلك لأنها سمعت كلاما مؤثرا عظيما ، وتحفزت للرد والدفاع عن نفسها، والإنسان إذا تحفز للدفاع عن نفسه يحصل له شيء من القوة.
- قولها: « فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال» أي : قالت لأبيها أبي بكر ]: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا من أدبها رضي الله عنها، أنها فوّضت الكلام لأبيها، وتفويض الكلام للكبير في المجلس أدبٌ إسلامي كريم، فلا يبدأ الصغير بالكلام قبل الكبير، وهذا الأدب الرفيع ينبغي أن يؤدب عليه الأبناء والبنات، وخصوصاً إذا حضروا في الأمر الخطير أو العظيم؛ لأن الكبير أعرف وأعلم بالقول، وكيف يرد الرد اللائق.
فقال أبو بكر ]: « والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟» أي: ليس عندي شيء أقوله» قالت: «فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم » يعني أن أبا بكر وأم عائشة رضي الله عنهم ليس عندهما شيء زائد على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يزال الأمر فيه غموض، فليس هناك ما يحسمه ويبرئ ساحة عائشة رضي الله عنها، أو يقوي كلامها وموقفها، فالوحي لم ينزل بعد، لكن حسن الظن لا يزال موجوداً بابنته رضي الله عنها.
- قالت: « فقلت: وأنا جارية حديثة السن» فعائشة رضي الله عنها في هذا الموقف كانت في سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة ، فهي لا تزال بنتا صغيرة، لا تكاد تستطيع إتقان الكلام، وتجميع القول. قالت : « لا أقرأ كثيرا من القرآن» بمعنى: لا أحفظ كثيرا من القرآن وآياته.
- قالت : « إني والله لقد عرفتُ أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقرّ في أنفسكم، وصدقتم به» هذا قولها وهي جارية حديثة السن، وهو يدل على رجاحة عقلها، ولا سيما أنها من بيت علم وفهم وأدب، فهذا الخطاب الذي دافعت به عن نفسها، ليس بالقول السهل فقد جاء في كلامها: فإن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني بذلك، لماذا؟ لأن الأمر قد شاع وانتشر حتى صدقه البعض، قالت: ولئن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني بريئة – لتصدقونني، أي لقبلتم ذلك، وكان هذا أقرب عندكم، مع بعده عن الحقيقة؟!
- قولها: «وإني والله ما أجدُ لي ولكم مَثَلا إلا كما قال أبو يوسف» وفي بعض الروايات أرادت أن تقول: يعقوب عليه السلام، فغاب عن بالها اسم يعقوب، فقالت: أبو يوسف، وذلك أن الإنسان في حال الحزن الشديد أو الهم والكرب ، أو الغضب، ينسى بعض الكلام وبعض الحجج، فهي أرادت أن تقول يعقوب فما تذكرت اسمه، فقالت: أبو يوسف.
- قولها: « كما قال أبو يوسف {َفصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يوسف : 18)، والصبر الجميل كما قال أهل العلم: هو الصبر الذي لا جَزع فيه، ولا شكوى معه ، فلا يشكو معه الإنسان إلى الخَلق، بل يشكو حاله إلى الله، والشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل، كما قال تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام أنه قال: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } (يوسف : 86)، إنما الشكوى للخلق هي التي تنافي الصبر الجميل، {وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي استعين الله على ما تذكرون وتصفون عني، وهو عز وجل يعلم براءتي، وهو نعم المعين على ذلك.
- قَالَتْ: «ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، قَالَتْ: وَأَنَا وَاللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا» أي: ما كانت تظن أن ينزل فيها قرآنٌ كريم يقرؤه المؤمنون، ويتلى في الصلوات، وفي المساجد إلى يوم القيامة ، يذكر الله تعالى فيه براءتها ، ويرد على الكاذبين عليها من المنافقين وغيرهم؛ لأنها كانت ترى أنها ليست بذاك الأمر المهم، وهذا من تواضعها رضي الله عنها وهضمها لنفسها مع أنها زوجة أفضل رسل الله على الإطلاق ، وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، لكن كانت ترجو أن يبرئها الله برؤيا يراها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه، ورؤيا الأنبياء حقٌ ووحي من الله سبحانه ، كما هو معلوم ، فيعرف الناس أنها بريئة.
- قَالَتْ: « فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ» رام أي: ما فارق مجلسه « وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم » أي : أنزل عليه جبريل عليه السلام بالقرآن.
- قالت: « فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِيِ، مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْه» البرحاء بضم الباء هي الشدة والكرب، ليتحدّر أي: ليتصبّب، والجمان هو الدُر واللؤلؤ، شبهت قطرات عرقه صلى الله عليه وسلم بحبات اللؤلؤ في الصفاء والحسن.
- قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « أي : كُشِف عنه « وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ : « أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ ، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ» « أي ضحك صلى الله عليه وسلم فرحا بما أنزل الله تعالى عليه من الآيات في براءتها، وأعلن ذلك فوراً لأهل المجلس، وخاطب به عائشة رضي الله عنها قائلا: أبشري يا عائشة، أي أبشري بالفرج والبراءة وزوال المحنة.
- فَقَالَتْ لِي أُمِّي : قُومِي إِلَيْهِ» أي : قومي إليه واشكريه، وقَبِّلي رأسه.
- فَقُلْتُ: « وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي» وهذا كما قال أهل العلم: من إدلالها على زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها تعلم حبه لها ، ومن عتبها عليه وعلى أهلها لكونهم شكّوا فيها وارتابوا، مع علمهم بجميل أخلاقها، وارتفاعها عن هذا المنكر والباطل الذي اتهمت به ظلماً.
- قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ:َ {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تحَسبوه شراً لكم بل هو خيرٌ لكم... } عَشْرَ آيَاتٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي . (يتبع).


ابوالوليد المسلم 29-03-2024 04:47 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسـير من مختصر صحيح مسلم للمنذري ( 36 )

- حديث الإفك (6)

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
هذه الحلقة الأخيرة في شرح حديث الإفك الذي وقع على أشرف النساء مطلقا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
قالت : فأنزل الله عز وجل: {ِإنَّ الَّذِينَ جَاؤوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النور : 11).
قوله {إن الذين جاؤوا بالإفك} : وهذا شروع في بيان الآيات النازلة في شأن عائشة رضي الله عنها، وهي تقريبا ثماني عشرة آية، تنتهي بقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (النور : 26).
والإفك: هو أقبح الكذب وأفحشه، وهو مأخوذ من أفك الشيء، إذا قلبه عن وجهه، فالإفك هو الحديث المقلوب، وهو ما اتهمت به عائشة رضي الله عنها، وهو إفك وكذب عظيم ، وقد حاول بعض أهل البدع أن يزعم أن هذه الآيات ليست نازلة في عائشة؟ فيكذّب - والعياذ بالله - بالأحاديث الصحيحة الواردة في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم وفي المسند وفي السنن وغيرها؟! وهذا إفكٌ جديد يضاف إلى ما اتهمت به عائشة رضي الله عنها من الإفك والكذب العظيم، وهو أيضا مخالف لإجماع المسلمين والمحدثين، وقد ذكر غير واحد من أهل التفسير : إجماع المسلمين على أن المراد بهذه الآيات هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وقصتها مشهورة في ذلك مستفيضة، وأن الله عز وجل برأها مما قاله فيها أهل النفاق؛ ولذا قال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} والعصبة: هم من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: من العشرة إلى الخمسة عشر، وقيل غير ذلك، فالعصبة المقصود بها هنا: الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض {منكم} أي ناسٌ ينتسبون إليكم، فمنهم الصادق الغافل؛ لأن بعض المؤمنين كما ذكرنا اغتر بما أشاعه أهل النفاق ، فوقع فيما وقعوا فيه، ومنهم من هو منتسبٌ لكم في الظاهر، ولكنه منافق في الحقيقة ، {لا تحسبوه شراً لكم } أي : بل هو خيرٌ لكم ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولعائشة وأبي بكر وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم وكل من تأذى بما حدث، وهو تسلية لهم، فيقول لهم الله تعالى: لا تحسبوا هذا الأمر شراً لكم ، بل هو خيرٌ لكم، وقد يقول قائل : كيف يكون خيرا لهم وهو اتهام وقذف ورمي لعائشة رضي الله عنها؟!
- والجواب كما قال أهل العلم: إن الخير هو ما زاد نفعه على ضره ، والخير الذي حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وأبي بكر وغيرهم هو الثواب العظيم، الذي هو ثواب الصبر على هذه المصيبة، وكونه مما يتضايق منه الإنسان ويهتم له ويبكي، وهذا أيضا فيه تكفير للسيئات ، ورفع للدرجات ، ثم ما نزل من بيان براءة عائشة رضي الله عنها بنت الصديق ]، ودفاع الله عنها ، وأنها في غاية الشرف والفضل، وهذه تزكية لأم المؤمنين عائشة أولا، ثم لبقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الصالحات العفيفات الكريمات.
- وقوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} أي : لكل امرئ من هذه العصبة التي تكلمت بالإفك والكذب، ما اكتسب من الإثم، أي لكل واحد منهم نصيب من الإثم والذنب بسبب كلامه، {والذي تولى كبره} أي: الذي حمل معظمه وكان يشيعه ويذيعه منهم ، له عذاب عظيمٌ ، والمقصود بذلك عند عامة أهل التفسير : عبد الله بن أبي ابن سلول كبير المنافقين لعنه الله ، فهو الذي أشاع هذا الإفك وروّج له ، وخدع به بعض الناس ، ولذا فله عذابٌ عظيم في الدنيا والآخرة ، زيادة على غيره ، وقد توعد الله المنافقين بأنهم {في الدّركِ الأسفل من النار ولن تجدَ لهم نَصيرا}.
- قولها «عشر آيات ، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات ببراءتي» أي : أنزل الله تعالى في شأن قصتها عشر آيات فيها ببراءتها.
- قالت: «فقال أبو بكر ] - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره- : والله لا أنفق عليه شيئا بعد الذي قال في عائشة» مسطح كما قلنا هو ابن خالة أبي بكر رضي الله عنهما، وكان ينفق عليه لقرابته وفقره، فإنه كان من فقراء المهاجرين، وبعدما أنزل الله عز وجل براءة عائشة قال أبو بكر - بعدما وقع فيها واتهمها - أنا أنفق عليه، وأحسن إليه ، وهو يقابلني بالإساءة ؟؟! والله لا انفق عليه ، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22) ولا يأتل : أي لا يحلف ، كما قال عز وجل :{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} (البقرة : 226). يُؤْلُونَ : أي يحلفون ألا يقربوا نساءهم.
{أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} يعني أبا بكر ]؛ لأنه كان تاجراً وكان عنده مال وسعة { أن يؤتوا أولي القربى} أي: لا يحلف أولو الفضل منكم والغنى ألا يعطوا ويتصدقوا على أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله تعالى.
- ثم قال سبحانه: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني بسبب صدقاتكم وعطفكم عليهم، وبصفحكم عن المسيئين منهم لكم، فإنّ الجزاء من جنس العمل ، فكما تغفر للناس إساءتهم، يغفر الله تعالى لك إساءتك، وكما تصفح عنهم يصفح الله عنك.
- قال حبان بن موسى قال: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله سبحانه وتعالى، يعني: أعظم آية يرجو بها الإنسان ثواب الله ومغفرته وفضله.
- قولها : «فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : لا أنزعها منه أبدا» أي : لما نزلت هذه الآية: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} قال أبو بكر عفا الله عنه ذلك طلبا لمغفرة الله سبحانه، ورغبة فيما عند الله عز وجل، ولا شك أن هذا أمر فيه شدةٌ على النفس، ويحتاج إلى الصبر، كما قال الله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت : 35). وقال الله عز وجل قبلها :{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت : 34).
فإذا أساء إليك أحد فقابل الإساءة بالإحسان؛ فإن ذلك يقلب العداوة إلى صداقة ، فأنت إذا أحسنت إلى الإنسان ملكت قلبه ، وصار أخا لك ، كما قال القائل: أحسنْ إلى الناس تَستعبدْ قُلوبهم
- فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ، فالله عز وجل لما قال : {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} رجع أبو بكر عن يمينه وارجع النفقة التي كان ينفقها على مسطح، وقال : لا أنزعها منه أبدا.
- قالت عائشة : «وكان النبي صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري : «ما علمتِ» أو «ما رأيتِ»؟ وهذا لم يذكر فيما سبق من الحديث ، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سأل زينب بنت جحش وهي من أمهات المؤمنين سألها عن عائشة ما تقول فيها ؟ أو ماذا تعلم عن عائشة؟ هل علمت شيئا أو هل رأت شيئا؟ فقالت زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها : «أحمي سمعي وبصري» أي: لم أسمع شيئا بأذني، ولم أر شيئا بعيني، فلذلك أصون جوارحي عنه، فلا أتكلم بشيء؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} (الإسراء : 36) أي لا تقل: رأيتُ، وأنت لم تر، وسمعتُ، وأنت لم تسمع ، وعلمتُ، وأنت لم تعلم.
- ثم قالت : «والله ما علمت إلا خيرا» أي إنها على البراءة من ذلك فيما سبق. قولها: «وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم » أي أن زينب كانت تفاخرها وتضاهيها بجمالها ومكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أن غيرتها وهواها غلبا دينها وورعها، لتكلمت في عائشة؛ لأن الإنسان أحيانا إذا أبغض إنسانا ربما تكلم فيه بغير حق، كما أنه إذا أحب إنسانا مدحه بغير حق ، والواجب العدل كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام : 152).
- وقال عز وجل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة : 8).
فلا يحملك البغض لجماعة أو لقوم، أو لطائفة، أو لقبيلة، على ألا تقول فيهم بالعدل، بل اعدل ولو كانوا أعداءك، فهذا دين الله سبحانه وتعالى، بل ولو كانوا كفارا فقل فيهم بما تعلم من الحق؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الحق ويحب الحق ويأمر بالحق، ويكره الباطل.
- قولها: «فعصمها الله بالورع» فزينب بنت جحش ضرة عائشة، ومعلوم ما يكون بين الضرائر من الغيرة والكراهية، لكن حماها الله وعصمها بتقواها وورعها، من أن تقول بما قاله أهل الإفك من القذف.
- قولها : «وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها» أي إن أخت زينب وهي حمنة بنت جحش وقعت فيما قال أهل الافك؛ لأنها غارت لأختها وأخذتها الحمية فتكلمت في عائشة تعصبا لأختها ، فهلكت فيمن هلك، وحدّها النبي صلى الله عليه وسلم حد القذف.
- يقول الزهري: «هذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط» يعني إلى هنا انتهى الحديث الذي حدثه به الرهط الذين سبق ذكرهم رحمهم الله تعالى.
وهذا الحديث فيه فوائد ومباحث كثيرة، ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري وذكرها الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ، وذكرنا كثيرا منها ، ولعلنا نذكر ما تيسر من كلام الإمام النووي هنا مختصرا مع التعليق عليه: إحداها: جواز رواية الحديث الواحد عن جماعة؛ لأن الزهري قد سمع حديث الجماعة ورواه عنهم قطعة واحدة.
- الثانية: صحة القرعة بين النساء، يعني: عند السفر وفي العتق وتقدم الكلام عليه.
- الثالثة : وجوب الاقتراع بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن.
- والرابعة: لا يجب قضاء مدة السفر للنسوة المقيمات ، أي بعد القرعة ، وهذا مجمع عليه إذا كان السفر طويلا ، وحكم القصير حكم الطويل على المذهب الصحيح ، وخالف فيه بعض الشافعية.
- الخامسة: جواز سفر الرجل بزوجته سواء في الغزو أو في غيره.
- السادسة: جواز غزوهن، أي غزو النساء مع الرجال.
- السابعة: جواز ركوب النساء في الهوادج.
- الثامنة: جواز خدمه الرجال لهن في تلك الأسفار، بأن يحمل الرجال الهودج.
- التاسعة: ارتحال العسكر يتوقف على أمر الأمير، فهو الذي يأمر بالارتحال ويأمر بالنزول.
- العاشرة: جواز خروج المرأة لحاجة الإنسان بغير إذن الزوج . وهذا من الأمور المستثناة ، أي المرأة إذا أرادت أن تقضي حاجتها وتذهب إلى الخلاء ، لا تحتاج أن تستأذن الزوج في هذا الأمر.
- الحادية عشرة : جواز لبس النساء القلائد في السفر كالحضر.
- الثانية عشرة : أن من يُركب المرأة على البعير وغيره لا يكلمها إذا لم يكن محرما ، إلا لحاجة؛ لانهم حملوا الهودج ولم يكلموا من يظنونها فيه.
- الثالثة عشرة : فضيلة الاقتصاد في الأكل في النساء وغيرهن، وألا يكثر منه بحيث يهبله اللحم، أي يحمل اللحم الكثير بسبب كثرة الأكل.
وهذا كان حال النساء والرجال في زمن المختار [.
- الرابعة عشرة: جواز تأخر بعض الجيش ساعة، ونحوها لحاجة تعرض للجيش إذا لم يكن ضرورة في الاجتماع.
- الخامسة عشرة: إعانة الملهوف ، وعون المنقطع ، وإنقاذ الضائع ، وإكرام ذوي الأقدار ، لما فعل صفوان [ في هذا كله.
- السادسة عشرة: حسن الأدب مع الأجنبيات، ولا سيما في الخلوة بهن عند الضرورة في برية أو غيرها، كما فعل صفوان رضي الله عنه من إبراكه الجمل من غير كلام ولا سؤال، وأنه ينبغي أن يمشي أمامها ، لا بجنبها ولا وراءها؛ وذلك حتى لا ينظر إليها ويفتن بها.
- السادسة عشرة: استحباب الإيثار للركوب ونحوه ، كما فعل صفوان.
- السابعة عشرة: استحباب الاسترجاع عند المصائب - يعني قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون - سواء كانت في الدين أو الدنيا ، وسواء كانت في نفسه أم من يعز عليه.
- الثامنة عشرة : تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي ، سواء كان صالحا أو غيره ، فصفوان صحابي بدري من البدريين ، ومع ذلك عائشة غطت وجهها عنه؛ لأن المرأة فتنة ويخشى على الصالحين أيضا من فتنة النساء، فالرجل رجل يخاف عليه الفتنة ، وليس فتنة النساء قاصرة على غير الصالحين.
- التاسعة عشرة جواز الحلف من غير استحلاف، أي أن يحلف حتى لو لم يستحلفه الجليس، إذا كان يريد أن يؤكد كلامه.
- العشرون: يستحب أن يستر عن الإنسان ما يقال فيه، إذا لم يكن فيه فائدة ،كما كتموا عن عائشة هذا الأمر شهرا ، ولم تسمع بعد ذلك إلا بعارض عرض, وهو قول أم مسطح : تعس مسطح. فإذا سمعت ما يقال في أخيك شيئا يكرهه ، فلا تبلغه إياه ، إذا لم كان هناك فائدة ؛ لأنه يضيق الصدر ويجلب الهم والغم.
- الحادية والعشرون: استحباب ملاطفة الرجل زوجته وحسن المعاشرة؛ لأن عائشة تقول: فقدت اللطف الذي كنت أجده من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- الثانية والعشرون : أنه إذا عرض عارض يقلل من اللطف بأن سمع عنها شيئا أو نحو ذلك يقلل من اللطف ونحوه ؛ لتفطن هي أن ذلك لعارض فتسأل عن سببه فتزيله. فإذا تفطنت المرأة لضيق زوجها تسأل عن السبب الذي قلل هذا العارض، فإذا كان سببا من جهتها ، فلتبادر في إزالته.
- الثالثة والعشرون: استحباب السؤال عن المريض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان دائما فيقول: «كيف تيكم؟».
- الرابعة والعشرون: يستحب للمرأة إذا أرادت الخروج لحاجة، أن يكون معها رفيقة تستأنس به ، ولئلها يتعرض لها أحد.
- الخامسة والعشرون : كراهة الإنسان لصاحبه أو قريبه إذا آذى أهل الفضل ، أو فعل غير ذلك من القبائح ، كما فعلت أم مسطح في دعائها عليه. أي أن أم مسطح دعت على ابنها عندما آذى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهذا من الحب في الله والبغض في الله عند الصحابة رضي الله عنهم.
- السادسة والعشرون: فضيلة أهل بدر والذب عنهم، كما فعلت عائشة في ذبها عن مسطح؛ فقد دافعت عنه، فقالت : أتسبين رجلا من أهل بدر؟!
- السابعة والعشرون : أن الزوجة لا تذهب إلى بيت أبويها إلا بإذن زوجها، كما قالت عائشة للرسول عليه الصلاة والسلام: أتأذن لي أن آتي أبوي؟
- الثامنة والعشرون: جواز التعجب بلفظ التسبيح، أي أن يقول المسلم : سبحان الله، إذا تعجب.
- التاسعة والعشرون: استحباب مشاورة الرجل بطانته وأهله وأصدقاءه فيما ينوبه من الأمور.
- الثلاثون: جواز البحث والسؤال عن الأمور المسموعة عمن له به تعلق، أما غيره فمنهيٌ عنه، وهو تجسس وفضول.
أي شيء يخصك أنت ، يجوز لك أن تسأل عنه وتتحرى، أما ما يخص غيرك فلا تبحث عنه؛ لأنه يدخل في التجسس، أو في الفضول، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
- الحادية والثلاثون: خطبة الإمام عند نزول أمر مهم؛ إذ إن النبي [ صعد المنبر وخطب في الناس في الحادثة.
- الثانية والثلاثون: اشتكاء ولي الأمر إلى المسلمين من تعرض له بأذى في نفسه أو أهله أو غيره ، واعتذاره فيما يريد أن يؤذيه به.
فولي أمر المسلمين إذا تعرض له بعض الناس بالأذى في عرضه وغيره، فله أن يقول للناس: هناك أناس يؤذونني بكذا وكذا ، فلا تلوموني إن عاقبتهم وآذيتهم.
- الثالثة والثلاثون: فضائل ظاهرة لصفوان ابن المعطل رضي الله عنه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بما شهد، وبفعله الجميل في إركاب عائشة وحسن أدبه في جملة القضية.
- الرابعة والثلاثون: فضيلة لسعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضي الله عنهما.
وذلك لما أخذتهما الحمية مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: مرنا بما تشاء إن كان منا نقتله، قالوه حبا لرسول الله [.
- الخامسة والثلاثون: المبادرة لقطع الفتن والخصومات والمنازعات، وتسكين الغضب.
- السادسة والثلاثون: قبول التوبة والحث عليها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل توبة هؤلاء بعد الحد، وكذلك قبل أبو بكر توبة مسطح.
- السابعة والثلاثون: تفويض الكلام إلى الكبار دون الصغار لأنهم أعرف.كما جاء في كلام عائشة رضي الله عنها.
- الثامنة والثلاثون: جواز الاستشهاد بآيات القرآن العزيز، ولا خلاف أنه جائز ، فلا مانع من الاستشهاد بآية مشابهة لحالك ، للحاجة للاستدلال.
- التاسعة والثلاثون : استحباب المبادرة بتبشير من تجددت له نعمةٌ ظاهرة ، أو اندفعت عنه بلية ظاهرة.
- الأربعون : براءة عائشة من الإفك ، وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز ؛ فلو تشكك فيها إنسان - والعياذ بالله - صار كافرا مرتدا بإجماع المسلمين.
- يقول الإمام النووي: لو تشكك فيها إنسان - والعياذ بالله - صاركافرا مرتدا بإجماع المسلمين، فأي إنسان يشكك في براءة عائشة بعد نزول آيات القرآن فهذا كافر مرتد بإجماع المسلمين؛ لأن الذي يشك في كلام الله يكون مكذبا له، ومشككا في صدق الله، والعياذ بالله، وهذا كله ردة عن الدين وكفر.
- قال ابن عباس وغيره : لم تزن امرأة نبيٍ من الأنبياء عليهم السلام، وهذا إكرام من الله تعالى لهم. وقد تكون المرأة كافرة لكن الله تعالى يكرم نبيه من أن تقع امرأته في فاحشة.
- الحادية والأربعون : تجديد شكر الله تعالى عند تجدد النّعم.
- الثانية والأربعون : فضائل لأبي بكر الصديق بقوله تعالى: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ... } الآية.
- الثالثة والأربعون: استحباب صلة الأرحام وان كانوا مسيئين. كما فعل أبو بكر مع مسطح.
- الرابعة والأربعون: العفو والصفح عن المسيء.
- الخامسة والأربعون: استحباب الصدقة والإنفاق في سبيل الخيرات.
- السادسة والأربعون: أنه يستحب لمن حلف على يمين ، ورأى غيرها خيرا منها ، أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه.
- فإذا حلف شخص فقال: والله لا أعطيه شيئا ، ثم رأى المصلحة خلاف هذا، فإنه يكفّر عن يمينه ويفعل الذي هو خير ، ولا يحتج باليمين ولا يقول أنا حلفت ، كما قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} (البقرة : 224).
- السابعة والأربعون : فضيلة زينب أم المؤمنين رضي الله عنها، لما أمسكت لسانها وحمت سمعها وبصرها.
- الثامنة والأربعون: التثبت في الشهادة.
- التاسعة والأربعون: إكرام المحبوب بمراعاة أصحابه ومن خدمه وأطاعه، كما فعلت عائشة بمراعاة حسان وإكرامه ؛ إكراما للنبي [. وذلك أن حسان بن ثابت ] ذُكر في الأحاديث والسيرة أنه هو ممن تكلم ووقع فيما قاله بعض المنافقين، لكن النبي [ أكرمه ومدحه ، فكانت عائشة تكرمه وتمدحه بعد ذلك إكراما لرسول الله وكرامته.
- الخمسون : أن الخطبة تبدأ بحمد الله تعالى، والثناء عليه بما هو أهله.
- الحادية والخمسون : أنه يستحب للخطيب أن يقول بعد الحمد والثناء والصلاة على النبي [ والشهادتين: أما بعد، وقد كثرت فيه الأحاديث الصحيحة.
- الثانية والخمسون: غضب المسلمين عند انتهاك حرمة أميرهم، واهتمامهم بدفع ذلك؛ لأنه مثل أعلى للرعية ، فإذا تجرأ الناس، وصار كل يتكلم في عرضه أو ينال منه في المجالس، فإن ذلك يضيع هيبة السلطان، ويضعف الأمر إذا صدر منه، أو يضعف الطاعة، وهذا كله خلاف ما جاء في الأحاديث النبوية.
- الثالثة والخمسون: جواز سب المتعصب لمبطل ،كما سب أسيد بن حضير سعد بن عبادة لتعصبه للمنافق، وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين . وأراد: أنك تفعل فعل المنافقين ، ولم يرد النفاق الحقيقي.
هذا آخر الفوائد الذي ذكرها الإمام النووي رحمه الله تعالى.


ابوالوليد المسلم 30-03-2024 10:01 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(37)

باب في سورة النور

اعداد: الفرقان

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2154. عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ [، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : «اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ» فَأَتَاهُ عَلِيٌّ فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيٍّ يَتَبَرَّدُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : اخْرُجْ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَأَخْرَجَهُ، فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ، فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ [ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ [ إِنَّهُ لَمَجْبُوبٌ مَا لَهُ ذَكَرٌ.
الشرح : هذا باب من سورة النور أيضا، وأورد فيه حديثاً عن أنس ]، وقد أخرجه الإمام مسلم في آخر كتاب التوبة، وبوب عليه النووي باب : براءة حرم النبي [ من الرّيبة.
- قال عن أنس ]: « أن رجلا كان يُتهم بأم ولد رسول الله [» يعني كان يتهم بالدخول على أم ولد النبي [، أي شوهد أنه يدخل عليها في بيتها، وأم الولد هي الجارية المملوكة إذا ولدت لسيدها، وهذه الجارية هي «مارية » التي أهداها المقوقس صاحب الإسكندرية في مصر في زمنه مع أختها سيرين، وذلك سنة سبع من الهجرة للنبي [، فكان يطؤها بملك اليمين، فولدت له ابنه إبراهيم عليه السلام، فصارت أم ولده ( انظر الإصابة لابن حجر 4/185 ).
- فقال رسولُ اللَه [ لِعليٍّ : «اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ» وهذا يدل على أن من حصل منه إيذاء للنبي [ بأي صورة من الصور، سواء كان لعرضه [ أم لأهله فإنه مستحقٌ للقتل؛ ولذلك قال أهل العلم : من قذف نبياً من الأنبياء فانه يكفر؛ لأن هذا فيه مهانة وغضاضة على النبي من أنبياء الله، وكذلك من اتهم نبياً في عرضه، أي في زوجة من زوجاته، اتهمها بالفاحشة فإنه يُقتل؛ لأن هذا في غضاضة أيضا لمقام النبوة، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب : 53).
- أي : ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله [ بأي نوع من أنواع الإيذاء، ومنها أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، أي تتزوجوا بهن، فإذا كان نكاح زوجات النبي [ بعد موته محرما - وهذا من باب حماية فراش الرسول [ والبعد عن تدنيسه - فكيف إذا تعرض شخصٌ لعرض النبي [ أو اتهمه بفاحشة أو بشيء ؟! إلا من اتهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فإنه يكفر بالاتفاق؛ لأن من اتهم عائشة رضي الله عنها بشيء بعد نزول براءتها فهو مكذّب لله، والمكذب لله كافر مرتد بلا شك.
وكذلك من اتهم غيرها من زوجات النبي [، فإنه يكفر.
وهكذا من اتهم أم نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنه يكفر، كما فعلت اليهود، وذلك أنهم اتهموا مريم عليها السلام بالفاحشة، فكفّرهم الله عز وجل، فقال فيهم: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} (النساء : 156)، فحكم عليهم بالكفر وقول البهتان العظيم، والله سبحانه وتعالى يقول عنها مدحا: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } (الأنبياء : 91)، فالله سبحانه وتعالى قد برّأ مريم عليها السلام من كل سوء ومن كل فاحشة، فمن ادعى عليها القبائح بعد ذلك، فإنه كافرٌ مرتد يضرب عنقه.
وقد قال رجل من النصارى للإمام الأوزاعي : إن زوجة نبيكم قد اتهمت بالزنى؟!
- فقال له : هما امرأتان اتهمتا، فدافع الله عنهما في كتابه، أولهما مريم أم عيسى عليهما السلام، وثانيهما : عائشة رضي الله عنها زوج النبي [، فبهت النصراني؟!
فلما شوهد هذا الرجل يدخل على مارية أم ولد النبي [، اتهم بها، فقال النبي [ لعلي : «اذهب فاضرب عنقه» أي اذهب فاقتله.
- قوله: «فجاءه علي فإذا هو في ركي يتبرّد فيها» والرّكي هي البئر التي بُنيت، فالبئر إذا بنيت بالحجارة فإنها تسمى ركيا، وجمعها: ركايا.
- وقوله: «يتبرد فيها» يعني أنه كان ينزل فيها ويجلس في الماء يتبرد به؛ لأن الجو حار؛ قوله: «فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذكر» أي جاءه علي ] وهو جالس في البئر، فأمره بالخروج منها، فلما خرج وكان عارياً ليس عليه ثياب.
- قوله: «فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذكر» والمجبوب هو مقطوع الذكر، وهو كما تعلمون لا يمكنه أن يجامع، وهذا يدل على أنه بريء من الزنى، وأنه لا يحصل منه جماع النساء ولا الزنى؛ ولهذا لا يستحق القتل.
ولهذا لما رآه علي كذلك، عرف أنه لا يستحق القتل، حتى ولو دخل على زوج النبي [، أو دخل على غيرها من بيوت النبي [، فإنه كالمخنّث الذي لا رغبة له في النساء، ولا يمكنه أن يفعل شيئا لأن ذكره لا يقوم خِلقةً، وهؤلاء يجوز دخولهم على النساء شرعا، كما قال الله تبارك وتعالى في بيان من يحل للمؤمنة أن تكشف زينتها أمامهم: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن} إلى قوله: {أوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } (النور : 31)، يعني الذين لا أَرب لهم في النساء، أي ليس لهم رغبة في النساء، وهذا رجل مجبوبٌ ليس له ذكر أصلا، وهو من باب أولى أنه يجوز دخوله عليهن، وهذا يدل على علم علي ] بأحكام الشرع وعقله وفقهه؛ ولذا كفّ عن قتله بهذه البينة الواضحة.
- ثم أتي النبي [ فقال : «يا رسول الله، إنه لمجبوب ما له ذكر» أي هذا يدل على انتفاء الزنى عنه، وهذه بينه واضحة في نفيه عنه.
وهكذا لو اتهم الإنسان بفاحشة الزنى، ثم قامت البينة الواضحة على براءته، لا يستحق الحد الذي وجب عليه؛ لأن هذا مما يدفع عنه حد الزنى، والتعرض لعرض النبي [، فلا يستحق القتل لا ردّة ولا حدّاً، والله أعلم.
باب في قول تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}.
2155. عَنْ جَابِرٍ : أَنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ يُقَالُ لَهَا : مُسَيْكَةُ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا : أُمَيْمَةُ، فَكَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَى، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ [، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ:{غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الشرح: باب في قول تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} وأورد فيه حديث جابر [.
وهذا الحديث هو في آخر كتاب التفسير من صحيح مسلم.
وجابر [ هو جابر بن عبدالله بن حرام الأنصاري، صحابي جليل ابن صحابي، وهو ممن أكثر الرواية عن النبي [، فروى عنه أكثر من ألف حديث.
- قوله : «إن جارية لعبدالله بن أبي ابن سلول» وهو كبير المنافقين في المدينة، وقائل الأقوال الكفرية الخبيثة التي حكاها عنه القرآن، كقوله: {لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} (المنافقون : 7)، وقوله: {لئنْ رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل } (المنافقون : 8) وغيرها من الأقوال المروية عنه، التي تدل على نفاقه العقدي القلبي - والعياذ بالله تعالى - وهذا الرجل له أيضا أفعال وأخلاق سيئة وقبيحة، حتى بعد مجيء الإسلام للمدينة، فقد كان يعمل بأعمال الجاهلية؛ إذ كان له جوارِ أي إماء مملوكات له، ومنهن جاريتان يقال لإحداهما: مسيكة والأخرى أميمة، وكان يكرههما على الزنى بالأجرة ؟ كعادة أهل الجاهلية، وأهل الجاهلية لا خُلق ولا دين يمنعهم من ارتكاب الفواحش، فكان الرجل منهم يقول لجاريته : اذهبي وابتغي لنا، أي يرسلها لتزني بالأجرة لتأتيه بالمال، أو يضرب عليها ضريبة بأن تخرج له كل يوم كذا من المال، من أي سبيل تكسبه، هذا كان حال أهل الجاهلية كما قلنا، وقد قال النبي [: «ثمنُ الكلب خبيثٌ، ومهر البغي خبيث، وكسبُ الحجّام خبيث» رواه مسلم في المساقاة ( 3/1199).
وقال [: «شر الكسب مهر البغي...».
- وأيضا ورد في الحديث عن أبي مسعود الأنصاري : «أنه نهى [ عن ثمنِ الكلب، ومهرِ البغي، وحُلوان الكاهن » رواهما مسلم.
فمهر البغي هو ما تأخذه الزانية على الزنى، وسماه مهراً لكونه على صورته.
وحلوان الكاهن هو ما يدفع للكاهن مقابل الكهانة أو التكهن والرجم بالغيب، كأن يقول له : أنت ستسافر أو ستتزوج وسيحصل لك كذا وكذا، ويتكهّن له، فيعطيه مالاً مقابل هذه الكهانة، ومثله أصحاب الأبراج وتحليل الشخصية بالخط.
فمهر البغي هو الذي ورد ذكر منعه وتحريمه في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } (النور : 33)، فالبغاء هو الزنى يقال : بغت المرأة تبغي بغاء، إذا زنت وفجرت، وهذا مختص بالنساء، فلا يقال للرجل إذا زنى : بغى، والجمع: بغايا، فنهى الله عز وجل عنه وقال: {ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء } الإكراه هو الإجبار، أي لا تجبروهن على الزنs لأنه مما حرم الله ونهى عنه: {إنْ أردن تحصنا} أي : إذا أرادت إحداهن التحصن والعفة عنه، وهذا ليس فيه استثناء ولا قيد، وإنما خرج مخرج الغالب، وإلا فإنه لا يجوز دفعهن إلى الزنى بالأجرة ولو رضين بذلك، فليس معنى قوله تعالى: { إن أردن تحصنا} أنهن إذا لم يردن تحصنا يجوز هذا العمل، وهذا يسمى عند أهل الأصول وأهل اللغة : بالقيد الكاشف، يعني الذي يكشف المعنى ويوضحه.
وهذا له أمثال في القرآن كقول الله سبحانه وتعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} بغير حق، يعني أنه لا يمكن أن يقتل النبي بحق، لكن لأنّ كل من قتل نبياً فقد قتله بغير حق، ذكّر السامع بذلك، فهذا مما يكشف المعنى، وكذا قول الله تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } (المؤمنون : 117)، ومعلوم أن كل من يدعو ويعبد مع الله إلها آخر، فليس له برهان ولا دليل، لكن هذا من باب البيان أن من دعا مع الله عز وجل إلها آخر أنه دعاه بغير علم ولا برهان.
ولا شك أن المرأة إذا أرادت التحصن وأجبرها سيدها على البغاء، يكون الأمر أقبح مما لو كانت المرأة راضيةً به، لكن لو أنها رضيت فهو مما لا يجوز أيضا.
- وقوله تعالى: {لتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (النور : 33)، أي الدافع لكم على هذا العمل القبيح الرغبة في المال، والرغبة في الدنيا، وهكذا اليوم نجد أن هذه التجارة الخبيثة الخسيسة القبيحة رائجة، ويسمونها : تجارة الرقيق الأبيض؟! وهي المتاجرة بالنساء وأجسادهن وصورهن العارية؟ وهي تجارة رائجة في العالم للأسف الشديد؟؟! في الصحف والمجلات الساقطة، وفي الفضائيات الماجنة الخبيثة التي همّها وقصدها جذبُ أكبر عددٍ من المشاهدين، والاستفادة من أموال الاتصالات والرسائل النصية منهم ؟! وغير ذلك مما يجنونه من المال السحت، والكسب الحرام عن هذا الطريق الخبيث القبيح، وكل ذلك من أجل المال والدنيا الفانية، ويغرون الناس بارتكاب الفاحشة والخيانة، والعلاقات الآثمة، ويقولون بعد ذلك : العالم المتحضر ؟؟! وهو في الحقيقة واقع فيما هو أقبح وأوسع مما كان عليه أهل الجاهلية السابقون من الإثم والفساد ؟! فتجارة الرقيق اليوم أخبث مما كان عليه الناس في الجاهلية وأوسع انتشارا.
- وقوله: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي : لو أكرهت المرأة على ذلك فلا إثم عليها، والإكراه يكون بالضرب الشديد، أو يكون بالأذى الشديد الذي لا تطيقه المرأة، أو التهديد بالقتل ونحوه، فلو أكرهت على هذا الطريق بذلك، فهي معذورة عند الله، وهذا جار على قاعدة المكره والمجبر فإنه لا إثم عليه كما هو معلوم.
وقيل: المعنى : من فعل ذلك منكم وأكرههن على الزنى، فليتب إلى الله تعالى، وليقلع عما صدر منه مما يغضب الله.
وإن فعلته وهي مختارة، ثم تابت وندمت وعملت صالحاً، تاب الله سبحانه وتعالى عليها.
- وقوله سبحانه: {فتياتكم} الفتيات هنا هن: الإماء، تسمى الأَمة المملوكة: فتاة، ويسمى العبد: فتى، وهذا من أسماء العبيد والإماء.
والله تعالى أعلم.


ابوالوليد المسلم 30-03-2024 10:03 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر مسلم للمنذري – 38

(سورة الفرقان ) اتساع باب التوبة

اعداد: الفرقان

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

باب في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (الفرقان: 68).
2156- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا[ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ، وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً ، فَنَزَلَ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}، وَنَزَلَ {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
الشرح:
هذا الحديث في سورة الفرقان ، وهي سورة مكية، وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، وبوب عليه النووي: كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج ، والهجرة، الإسلام يهدم ما قبله، الحج يهدم ما قبله، الهجرة تهدم ما قبلها.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: «إن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا» يعني: أسرفوا على أنفسهم في القتل، والزنا، وارتكاب الفواحش، والمحرمات والكبائر.
قوله: «ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن» دعوتك والإسلام الذي تدعو إليه أمر حسن ، وأمر جميل ، ودين عظيم ، ولو تخبرنا أن لما فعلنا أو لما علمنا كفارة ، لأسلمنا وآمنا، ودخلنا في دينك، وهذا سائغ في اللغة العربية وهو أن يحذف جواب السؤال، إذا كان معلوما للسامع، كما ورد ذلك في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى مثلا: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يرجع بعضهم إلى بعضهم القول..} (سبأ : 31} ولم يذكر تعالى الجواب؟ والجواب: لو رأيت حالهم، لرأيت أمرا عظيما وجللا.
وكذا قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ}.
وقوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} (الأنعام: 93}، يعني: لرأيت أمرا مهولا عظيما، فهذا وأشباهه جائز وسائغ في اللغة العربية، وهو أن يحذف الجواب إذا كان معلوما.
فهؤلاء قالوا: لو تخبرنا أن لما عملنا من الآثام كفارة لأسلمنا، يعني هم كانوا يرغبون بالتوبة، وقد أحبوا الإسلام، ودين الإسلام، لكن ردهم عنه أنهم أكثروا من الكبائر، وأسرفوا على أنفسهم ، فنزلت الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ..} (الفرقان: 68)، وهذه كبائر الذنوب وعظائم الأمور ، فالشرك هو فساد الأديان، والقتل فساد الأبدان، والزنا فساد الأعراض والنسل، وكلها كبائر عظيمة تتعلق بالضروريات الخمس التي بها قوام حياة الناس، ولا تتم مصالح بني آدم إلا بها، وهي: حفظ الدّين، وحفظ النفس، وحفظ العرض، وحفظ المال، وحفظ النسل، ولهذا خصها الله سبحانه وتعالى بالذكر في الآية، فقال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ..} (الفرقان: 68) {لا يدعون} يعني: لا يسألون ويطلبون، فالدعاء بمعنى السؤال والطلب والإلتجاء إلى غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهم لا يشركون بالله عز وجل، بل يخلصون له العبادة {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق }؛ فلا يعتدون على الأنفس المعصومة، من مسلم أو كافر معاهد {إلا بالحق} أي: بالقصاص النفس بالنفس، وقتل الزاني المحصن، والمرتد عن دينه : { وَلَا يَزْنُونَ} لا يقعون في جريمة الزنا، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} قال ابن عمرو: هو واد في جهنم، وقيل: يجازى جزاءً شراً لآثامه التي ارتكبها ، وهو ما ذكره بقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يغلّظ عليه ويكرّر {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} (الفرقان: 68 - 69)، يخلد في العذاب ، والخلود هو البقاء الطويل، وهو أبدي سرمدي إذا جمع هذه الثلاث، إذا جمع بين الشرك والقتل والزنا، خلد في نار جهنم، وكذا إذا اقتصر على الشرك، لكن إذا بريء من الشَّرك لا يخلد في نار جهنم، ولو زنا أو سرق، وهذا بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية ، قال تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48 ، 116).

فالخلود هو لأهل الشرك والكفر، وأما أهل الكبائر ، فإنهم لا يخلدون في النار.
وقوله: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الفرقان: 70) أي من تاب إلى الله عز وجل توبة صادقة، تاب الله عليه، وان كان قد أشرك بالله تعالى، وإن كان قد قتل، وان كان قد سرق، أو زنا أو شرب الخمر، فمن تاب وندم وأقلع عن ذنبه ورجع إلى الله سبحانه وتعالى فان الله يتوب عليه.
ونزل أيضا جواباً لهؤلاء الذين جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: «إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما فعلنا كفارة» نزل قول الله تعالى في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر : 53)، وهذه الآية في الحقيقة فيها تلطفٌ عظيم بالعصاة وأصحاب الكبائر ، وأول ما يدل على اللطف فيها: أن الله عز وجل ناداهم ونسبهم إلى نفسه ، فقال (قل يا عبادي) فهذا ترفقٌ بهم منه سبحانه وتعالى، أي فأنتم عبادي وأنتم خلقي، والله سبحانه وتعالى هو خالقكم وهو الذي يناديكم سبحانه، فيقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} (الزمر : 53) يعني بالغوا في ارتكاب الذنوب والمعاصي والسيئات، وأكثروا وكرروا إلى حد الإسراف في هذا الباب: {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} لا تيأسوا من رحمة الله، والقنوط هو اليأس {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} لمن تاب إليه وهو حي، فمن تاب إليه وهو حي فان الله يغفر ذنبه كله، ولو كان قد أشرك بالله أو كفر، أما بعد الموت فان الله لا يغفر للمشرك أبدا، كما قال تعالى أيضا: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (المائدة: 72).
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، {الغفور}: كثير المغفرة وهذه صيغة مبالغة، والرحيم البالغ الرحمة، فهذا من الترهيب للذي كانوا على الكفر والشرك والكبائر وأرادوا العودة إلى الله عز وجل رغبهم بهذه الترغيبات نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.
سورة ألم تنزيل السجدة
باب : في قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة : 17).
2157- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه[: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، ذُخْرًا بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن}.
الشرح:
سورة السجدة وتسمى أيضا بسورة : ألم تنزيل السجدة، تميزا لها عن بقية السور المتشابهة التي افتتحت بـ ألم وروى فيها حديثان ولذلك قال باب في قوله تعالى: {فلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وهذا الحديث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قد أورده الإمام مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله عز وجل...» أي أن الحديث حديث قدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل.
قوله: يقول الله عز وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت» أي: لم تر عينٌ ما أعددت لعبادي الصالحين، ولم تسمع أذن بما أعددت لعبادي، ولا خطر على قلب بشر ما أعددت لعبادي، وهذا نفيٌ عام، فلا توجد عين رأت ما أعد الله لعباده الصالحين في جنات النعيم، وهذا العام مخصوص بما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من رؤيا العين في ليلة المعراج، وما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه مما قصه على الصحابة في حديث الرؤيا الطويل، ورؤيا الأنبياء حق، فربنا سبحانه وتعالى قد أعد في الجنان مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
قوله: «ذخرا» أي ادخر لهم ذلك، يعني ادخره الله سبحانه وتعالى لهم في الآخرة قوله: «بله ما أطلعكم عليه» بله: يعني دع عنك ما أطلعكم عليه «فإن الذي لم يطلعكم الله عليه أعظم». وفي رواية: «بله ما أطلعتكم عليه» يعني ما أطلعكم الله عليه مما ذكره لكم في القرآن والسنة، هو شيء يسير مما ادخره الله للصالحين، والصالحون هم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح، والعمل الصالح المخلص، الذي يصدق فيه صاحبه، ثم قرأ قول الله تعالى: {فلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: 17)، وفي رواية أخرى قال: مصداق ذلك في كتاب الله: {َفلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ}، وقوله تعالى: {فلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} النفس هنا جاءت أيضا منكرة، أي: فلا تعلم أي نفس من النفوس، أي نفس كانت، ما أخفاه الله لأولئك الذين تقدم لكم صفتهم، فإن الله سبحانه وتعالى قال قبل هذه الآية: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: 16)، تتجافى جنوبهم يعني : تتباعد جنوبهم عن المضاجع ، يعني عن الفرش، أي أنهم يتركون لذيذ النوم على الفراش، ويقومون لصلاة الليل، لأن الصلاة عندهم ألذ ، والقراءة عندهم أشهى، وهذا الأمر في العادة لا يعلم به الناس؛ لأن التجافي عن الجنوب وترك النوم عادة يكون في البيوت . وقال بعض أهل التفسير: أنهم لا ينامون قبل صلاة العشاء، لأن من نام قبل صلاة العشاء في العادة تفوته صلاة العشاء، ولذلك هم يصبرون ولا ينامون حتى يصلون العشاء، وورد في حديث البخاري: «أن النبي[ كره النوم قبل العشاء، والسمر بعدها»، لأن النوم قبل العشاء في العادة يضيع العشاء، والسهر بعد العشاء قد يضيع صلاة الفجر، ويضيع قيام الليل، فمن سهر بعد صلاة العشاء طويلا فانه تفوته صلاة الفجر وصلاة الليل في الغالب، فالنبي صلى الله عليه وسلم كره هذا وهذا، وهذه الكراهة تصل إلى التحريم فمن علم أنه من نفسه أنه إن نام قبل صلاة العشاء ستفوته صلاة العشاء حتما، فإنه يحرم عليه النوم، وكذلك السهر، فمن علم أن هذا السهر يضيع عليه صلاة الفجر، فإنه يحرم عليه هذا السهر.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} من الزكوات والنفقات الواجبة، والصدقات المستحبة، سرا وعلنا.
وهؤلاء لما كانوا يقومون ولا يشعر بهم أحد، كان الجزاء من جنس العمل، فقال الله تعالى: {فلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، يعني ما تقر به الأعين من النعيم، (فلا تعلم) يعني على وجه التفصيل، أما على وجه الإجمال فنحن نعلم أن هناك جنات وأشجار وثمار، وقصور وبيوت، ولباس من الحرير والسندس، وحلي من الذهب، وأواني من الذهب والفضة، ومآكل ومشارب رفيعة وغيرها، لكن هذا كله على وجه الإجمال بالنسبة للحقيقة، فمن حيث التفصيل نحن لا نعلم ما أعد الله تعالى للمؤمنين من النعيم، أما من حيث الإجمال فنحن نعلم جزاء ما كانوا يعملون، مما ذكر الله تعالى من أعمالهم الصالحة التي تقدم ذكرها.


ابوالوليد المسلم 31-03-2024 10:34 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(39)

العـذاب الأدنـى

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}.
2158- عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}، قَالَ: مَصَائِبُ الدُّنْيَا، وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ أَوْ الدُّخَانُ - شُعْبَةُ الشَّاكُّ: فِي الْبَطْشَةِ أَوْ الدُّخَانِ.
الشرح:
- الحديث الثاني في سورة السجدة في قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لعلهم يرجعون}، هذا الحديث حديث أبي بن كعب رضي الله عنه رواه الإمام مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، وأورده الإمام المنذري هاهنا في كتاب التفسير.
- يقول أُبَي بن كعب في قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} (السجدة: 21)، قال: مصائب الدنيا، يعني: ما يعذبهم به في الدنيا من المصائب قبل الآخرة: {لعلهم يرجعون} إلى الله، أي لعلهم يتوبون، ولعلهم يتعظون ويتذكرون، وهذه الآية شبيهة بقوله تبارك وتعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41)، ظهر الفساد، يعني: بان النقص في الخيرات في البر والبحر، هذا معنى الفساد ها هنا، يعني نقص الخيرات والقحط والآفات التي تصيب الزروع والثمار في البر، أو الآفات التي تصيب البحار فتنقص خيرات البحر من الأسماك والحيوانات، هذا النقص سببه ما كسبت أيدي الناس من المعاصي والآثام: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي: إلى الله تعالى، فالإنسان إذا أخذ بالفقر ونقص الأموال، أو بالأمراض أو بالشدائد؛ فإنه يرجع إلى الله سبحانه وتعالى ويتوب من معاصيه.
- وقال أبو العالية: من عصى الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة.
- ولهذا ثبت في الصحيحين: «أن العبدَ الفاجر إذا مات، يَستريح منه العبادُ والبلاد والشجر والدواب».
- والله تبارك وتعالى قال هاهنا: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى}، العذاب الأدنى يعني الأقرب وهو ما قبل الموت، فالعذاب الذي يعذبون به قبل الموت دون العذاب الأكبر، فهو عذاب الدنيا . وقيل: {العذاب الأدنى} إقامة الحدود؛ فالإنسان إذا أتى كبيرة من الكبائر كالسرقة أو شرب الخمر أو الزنى وأقيم عليه الحد؛ فهذا نوعٌ من العذاب المعجّل له. وأيضا: أنواع ما يبتلى به الإنسان من الهموم والغموم والأحزان ، هذا كله من العذاب الذي يعجله الله تعالى للناس، حتى يتذكروا قبل الممات، ولا يصيبهم العذاب الأكبر الذي يكون يوم القيامة، فما يصيب الناس في دنياهم هو من الرحمة الربانية، فالله تعالى لو ترك العاصي يفعل ما يشاء ولم يعذبه بشيء، ولم يرده عنه، ولم يسلط عليه أي شي، كان هذا شر له ليس بخير، فإن الشر للإنسان أن يترك يفعل ما يشاء حتى يأتيه الموت ثم يجازي بكل أعماله، فهذا شر له وليس بخير.
- ولذلك لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلانا لا يصيبه صداع ولا تصيبه حمى، قالصلى الله عليه وسلم : «أف، هذا من أهل النار» رواه أحمد.
فالذي لا يصيبه شيء، هذا يدل -والعياذ بالله– على أن الله تعالى ما أراد به خيراً، فالعذاب الأدنى إذن يشمل كل مصائب الدنيا.
- وقوله: «الروم والبطشة»، يعني أن هذا أيضا داخل في عذاب الله الأدنى، والبطشة: هي ما حصل من القتل والجراح للمشركين يوم بدر، وقيل: البطشة ما أصاب أهل مكة من السنين التي هي سنو الجوع والجدب والقحط، حتى أكلوا الجيف والعظام من شدة الحاجة، فأذاقهم الله تعالى هذا العذاب المؤجل.
- وقوله: «شك شعبة هل هو الروم أو الدخان» يعني هل ما جاء في أول سورة الروم، أو ما جاء في الدخان الذي ذكره ربنا عز وجل بقوله: {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الدخان: 11)، لكن الأول هو الأقوى. وقيل: العذاب الأدنى هو عذاب القبر؛ لأن عذاب القبر دون العذاب الأكبر الذي يكون يوم القيامة، لكن هذا التفسير غير صحيح بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، والذي يعذب في قبره ليس له فرصة في أن يرجع عن عمله السيئ، إذاً لا يصلح أن تفسر الآية بعذاب القبر والله تعالى أعلم.
- وفي عذاب القبر آيات أخر كقوله سبحانه وتعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر: 46).
- وفي قوله سبحانه عن قوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً} (نوح: 25) هذه الآية تدل أيضا على عذاب القبر، فبعد الغرق جاءهم الحرق في النار في قبورهم، والعياذ بالله تعالى.
غزوة الأحزاب
باب في قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}.
2159- عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}، قَالَتْ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ.
الشرح:
هذا الحديث في سورة الأحزاب، وقد رواه الإمام مسلم في كتاب التفسير أيضا، وهو في تفسير قوله تعالى من سورة الأحزاب الآية العاشرة، قال سبحانه: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (الأحزاب: 10)، وهذا إخبار من الله تعالى عما حصل لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وتذكير لهم بالنعمة، كما قالت عائشة رضي الله عنها: «كان ذلك يوم الخندق»؛ لأن هذه الآية {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} كان أن جاءت جنود يوم الخندق {مِنْ فَوْقِكُمْ} قالوا: أي من أعلى الوادي، وهم غطفان وسيدهم عيينة بن حصن، وهوازن وسيدهم عوف بن مالك، وأهل نجد وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي، وانضم إليهم من اليهود بنو النضير من المدينة، فهؤلاء كلهم جاءوا: {من فوقكم} يعني من جهة المشرق.
- {ومن أسفل منكم} أي: من جهة الغرب من ناحية مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش وهي القبائل المجتمعة، وسيدهم أبو سفيان بن حرب، وجاء معهم الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق ومعهم عامر بن الطفيل، ومعنى الأحزاب: أي الذين تحزبوا لحرب النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه واجتمعوا عليهم من أهل نجد والحجاز.
- وقوله: {وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، زاغت الأبصار، يعني: مالت وعدلت عن كل شيء، فلم تنظر إلا إلى عدوها.
- وقيل: {زَاغَتْ} أي شخصت بسبب الدهشة والهول والحيرة، فالإنسان إذا أصابه الفزع فإن عينه لا تكاد تطرف؛ بل ينظر ويحدق بالهول الذي أمامه من شدته، وهذا بسبب تعاون الأعداء على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه .
{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ} الحناجر جمع حنجرة، ومعروف أنها تكون في الحلقوم، وهي التي يتكلم بها الإنسان، فالوصف القرآني يقول: إن القلوب بلغت الحناجر يعني أن القلوب وصلت إلى الحلقوم من شدة الخوف والفزع، وهذا تصوير لما حصل لبعض الناس الذين كانوا في المدينة، وليس لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الكبار الذين يعرفون بالشجاعة والبسالة والرأي والإقدام رضي الله عنهم وأرضاهم، بل هو إخبار لما حصل لبعض الناس الذين كانوا في المدينة من ضعاف الإيمان، ولاسيما أهل النفاق الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم {يحسبون كل صيحة عليهم} المنافقون. وقال عز وجل عنهم: {فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (الأحزاب: 19)، وهذا من شدة الخوف، فالمعنى: أن القلوب كأنها ارتفعت من مكانها ووصلت إلى الحلقوم وإلى الحناجر، ولولا أن الحنجرة وقفت في طريقها لخرجت القلوب، لكن ضيقت الحناجر على القلوب، وإلا لكانت انخلعت الأفئدة وخرجت من أماكنها! هذا من شدة الفزع عافانا الله جميعا منه.
- وقوله: {وتظنون بالله الظنونا}، أي: الظنون بالله تعالى مختلفة، فأما أهل الإيمان فقالوا كما أخبر الله: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيما} (الأحزاب: 22)، فهذا حال أهل الإيمان والصلاح من الصحابة رضي الله عنهم، وأما أهل النفاق فجزعوا وخافوا وذهب صبرهم، فقالوا: {يا أهل يثربَ} نادوهم باسم الوطن!! إشارة إلى أنهم لا يبالون بأخوة الدين، ولا يقدرون الإيمان قدره.
- وقوله: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} بهذه الفتنة الشديدة، كان الاختبار بها عظيما، لكن ظهر إيمانهم ويقينهم بالله بما فاقوا به الأولين والآخرين، فرضي الله عنهم جميعا.
- وقوله: {لا مُقام لكم فارجعوا} أي: ما بقي أحد في موضعكم الذي خرجتم إليه، وهؤلاء الأعداء سيستأصلون كل الناس فلا يبقى منهم أحد، فارجعوا إلى المدينة! فهذا ظنهم السيئ بالله تبارك وتعالى؛ لنفاقهم ولعدم يقينهم، إلا أن الله سبحانه وتعالى ناصر عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أولاً وآخرا.


ابوالوليد المسلم 31-03-2024 10:38 PM

رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري
 
شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(40)

بيان شيء من عظمة الله عز وجل وصفاته

اعداد: الفرقان




الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
سورة يس
باب في قوله تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38)
2160. عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ: «مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ».
الشرح: سورة «يس» أورد فيها حديث أبي ذر ]، وقد رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، في باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان.
وأبو ذر هو جندب بن جنادة الغفاري الصحابي المشهور، مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان ].
قوله: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} قال: مستقرها تحت العرش» وهذا الحديث سبق لنا شرحه عند قوله تبارك وتعالى من سورة الأنعام: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}(الأنعام: 158)، وتكلمنا عن مستقر الشمس الذي ذكره الله تبارك وتعالى، وأن له معنيين:
الأول: أن معنى مستقرها، أي: تحت العرش، فإنها إذا غربت كل يوم استقرت تحت العرش، فهذا المستقر المكاني.
الثاني: أن معنى مستقرها هو المستقر الزماني: فهي تستأذن في الخروج كل يوم، فيقال لها: اطلعي كما كنت تطلعين، فتصبح طالعة من المشرق، حتى يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، في اليوم الذي حدّده الله سبحانه وتعالى لها، ويغلق عندها باب التوبة، فمعناه أنها تجري إلى وقت لها وأجل لا تتعداه وهذا التفسير الثاني لقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا}، فالتفسير الأول يتكلم عن المستقر المكاني، أن مكان الشمس كل ليلة يكون تحت العرش، أما التفسير الثاني فهو أن المستقر هو يوم القيامة فالشمس تظل تجري كل يوم تشرق وتغرب، حتى يأتي يوم القيامة الذي هو الأجل الذي ينتهي فيه سير الشمس وذلك عند قرب انقضاء الدنيا.
وأيضا فالشمس لها منازل تنتهي إلى آخرها كل عام، فالشمس لها في كل يوم منزل تطلع منه ومنزل تغرب فيه، وهي منازل متعددة خلال العام وتسمى بالبروج، وهناك اثنى عشر برجا في كل شهر تنتقل السماء إلى برج منها.
سورة الزمر
باب في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
2161. عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِيِّ [ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ - أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
الشرح: سورة الزمر وأورد فيها حديث ابن مسعود ] المتعلق بهذه الآية من سورة الزمر، والذي أخرجه الإمام مسلم في صفة القيامة والجنة والنار.
يقول عبدالله بن مسعود: «جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم » والحبر بفتح الحاء وكسرها، والفتح أفصح، هو العالم من اليهود وغيرهم.
فقال: «يا محمد، أو قال يا أبا القاسم» ولم يقل: يا نبي الله أو يا رسول الله، وهذا إما من استكبارهم عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والتصديق برسالته، ومن العناد والمكابرة التي كان عليها أهل الكتاب في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وإلا فهم يعلمون أنه رسول الله، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 146) يكتمون الحق وهو الشهادة له بالنبوة وبالرسالة، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه رسول الله، وأنه نبي الله المبعوث آخر الزمان، فهو لم يسم النبي صلى الله عليه وسلم باسم النبوة أو باسم الرسالة، وإنما قال: يا محمد، وهذا مما نهيت عنه الأمة المسلمة، فالله تبارك وتعالى نهى هذه الأمة عن مناداة الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه، كما في قوله سبحانه: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} (النور: 63) يعني لا تجعلوا مناداة الرسول فيما بينكم كمناداة بعضكم لبعض؛ لأن مقام النبوة مقام عظيم وشريف، فينبغي أن يحترم وأن يوقر ويكرم؛ لأن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره واحترامه من شعائر الله، وهو دال على الإيمان، كما قال سبحانه: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}(الفتح: 9)، والتعزير معناه: النصرة لدينه، ولهديه ولسنته، وتوقروه والتوقير هو الاحترام والتبجيل، فهذا من واجب المؤمنين والمؤمنات تجاه نبيهم.
قوله: «إن الله يمسك السموات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع» وهذا فيه أن السموات سبع، والأرضون سبع أيضا، كما قال الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}(الطلاق: 12)، وأما كيفية هذه الأرضين السبع؟ فقال بعضهم: هي سبع طبقات للأرض، كل طبقة تحتها طبقة، وهكذا إلى سبع طبقات. وقال بعض أهل العلم: الأرضون السبع هي القارات السبع، فيكون هذا من علامات النبوة، وإلا فما الذي عرف النبي صلى الله عليه وسلم وهو من العرب أن هناك سبع قارات؟! وهذا ربما لم يعلم إلا بعد ألف سنة، وهذا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله: «والجبال والشجر على إصبع» أي إن الله عز وجل يحمل كل جبال الأرض وشجرها، هذه الجبال الرواسي الصم العظيمة الشامخة، مع الشجر الذي في الأرض في الغابات وغيرها كلها يحمله على إصبع.
وقوله: «والماء والثرى على إصبع» الماء الذي في الأرض كله، والأرض أكثرها ماء، بل ثلاثة أرباع الأرض ماء، ويحمل الثرى الذي هو التراب، تراب الأرض كله والماء يحمله سبحانه وتعالى على إصبع من أصابعه.
قوله: «وسائر الخلق على إصبع» وسائر الخلق من الناس ومن الجن والحيوان والطير وغيرها كله يحمل على إصبع، وهذا من عظمة الله سبحانه وتعالى، ومن تمام قدرته وقوته، وهو سبحانه وتعالى كما وصف نفسه، قوي عزيز، واسع عليم، كبير متعال، وغيرها من الأسماء التي تدل على السعة والعظمة والكبرياء، الذي لا يحيط به الإنسان علما.
وإذا أمسك هذه الخمسة على أصابعه سبحانه وتعالى: «يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك» وهذا دليل السلطان والسيادة العليا المطلقة، التي لا تساوي أي سلطة أو سيادة، فهذه المخلوقات كلها يمسكها الله عز وجل يوم القيامة، السموات السبع والأرضين السبع والجبال والشجر والماء والثرى وسائر الخلق من الإنس والجن وغيرهم من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، يمسكها الله كلها على أصابعه، ثم يقول عز وجل: أنا الملك أنا الملك، أي: أنا الملك وبيدي الأمر كله، وإلي يرجع الأمر كله، فالتدبير لي والأمر والنهي لي، والملك والخلق والإيجاد لي، فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقا، وكل ملك وكل مُلك فهو زائل لا محالة، أما الملك الباقي فهو ملك الله سبحانه وتعالى، وأما أملاك الناس فكلها ستزول.
وهذا الحديث من أحاديث الصفات، ومذهب أهل السنة والجماعة تصديقها والإيمان بها، وعدم التعرض لها ولا ردها، وإجراؤها على ظاهرها لا يتأولون شيئا منها ولا يفسرونه بغير ظاهره، ولا يشبهون الله تعالى بشيء من مخلوقاته.
قال الإمام النووي: « هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان: التأويل، والإمساك عنه مع الإيمان بها، مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد؟! فعلى قول المتأولين يتأولون الأصابع فيها على الاقتدار؟! أي: خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل، والناس يذكرون الأصابع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار، يقول أحدهم: بإصبعي أقتل زيدا، أي: لا كلفة علي في قتله. وقيل: يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته؟ وهذا غير ممتنع والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة؟!».
هذا كلام النووي، ولا شك أنه غلط يخالف مذهب أهل السنة والجماعة، أما مذهب التأويل فهو مذهب المتكلمين وهو مذهب مردود، لم يأذن الله سبحانه وتعالى فيه، وفيه نوع من تكذيب الكتاب والسنة الصريحة، التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقد قال أهل العلم: إن المتأول لآيات الصفات أو أحاديث الصفات يقع في محظورين اثنين:
المحظور الأول: تعطيل الصفات، فالمؤول يعطل الصفة ويقول: ليس المراد من الأصابع هو كذا، ولا شك أن هذا تعطيل للصفة.
المحظور الثاني: أنه جاء بتفسير من عنده للصفة الربانية.
فيكون ارتكب خطأين اثنين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم إننا نقول: أين أقوال الصحابة في هذه التأويلات؟ هل ورد عن الصحابة أنهم قالوا: إن الأصابع هي القدرة، أو إن الأصابع هي أصابع بعض مخلوقاته؟ أو إن اليد هي القدرة؟ وإن الوجه هو الذات؟ وهكذا إلى غير ذلك من التأويلات الفاسدة التي فيها تعطيل لصفات المولى جل جلاله، وقدست أسماؤه، وليس فيها التنزيه، بل فيها التعطيل.
أما تنزيه أهل السنة والجماعة فهو مبني على عدم التمثيل للصفات، فنقول: إن لله سبحانه وتعالى الصفات العلا دون تمثيل، كما قال الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فليس كمثله شيء، نفي للمماثلة، وقوله: {وهو السميع البصير}، إثبات للصفات، أما هؤلاء الذين عطلوا صفات الله تبارك وتعالى وأخروها عن الكمال والجلال والجمال، فعطلوا ربنا عز وجل أن يوصف بصفات الجمال وصفات القوة والعظمة، وصفات الكمال، فيأتي إنسان مخلوق جاهل بربه فيعطل هذه الصفة أو تلك، فإذا عطل هذه الصفة يكون قد أخلى الله عن صفات كماله التي وصف بها نفسه في كتابه الكريم أو على لسان رسوله الأمين، وهذه جرأة عظيمة على الله تعالى!
كما أن مذهب الإمساك عن إثبات الصفات أيضا مذهب باطل، فالذي يقول أنا أقرأ الحديث والآية، دون أن أتعرض لبيانها وتفسيرها وفهمها وأفوض علم معناها إلى الله! فليس هذا المذهب موافقا لمذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ لأننا لو سألنا الصحابي عن معنى قول الله تعالى: {يد الله}، فإنه لا يقول: لا أدري ما اليد؟! وإذا قلنا للصحابي: ما معنى «إن الله يمسك السموات على إصبع» ما الإصبع؟ فإنه لا يقول: لا أدري؟ فالصحابي لا يمكن أن يقول هذا الكلام، بل الصحابي يعرف معنى الإصبع ويعرف معنى الوجه واليد، ويعرف معنى صفات الرحمة والسمع والبصر والكلام؛ لأن هذه كلها لها معان واضحة في لغتهم العربية التي خاطبهم الله سبحانه وتعالى بها في الكتاب والسنة.
كذلك إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للحبر كما في قول الصحابي عبدالله بن مسعود وهو الإمام الحبر من الصحابة قال: «فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقا له» فهذا يدل على الموافقة لا المخالفة؟ فلم يخالف صلى الله عليه وسلم الحبر، ولم يقل له: كلامك باطل! أو كلامك فيه تجسيم أو هذا سوء أدب مع الله، أبدا ما قال ذلك صلى الله عليه وسلم ذلك، بل النبي صلى الله عليه وسلم تعجب وضحك؛ لأن هذا يوافق القرآن الكريم، والدليل أنه عليه الصلاة والسلام قرأ تصديقا لقول الحبر قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67)، فهذه الآية توافق كلام الحبر؟ وقول الصحابي هنا: تصديقا له، لا يقال كما قال بعض المتكلمين: هو من كلام الراوي، أو من فهم الراوي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ضحك ردا لقوله وتعجبا من جرأته على الله؟! فهذا في الحقيقة إعراض عن الرواية وليٌّ لعنقها بغير دليل ولا برهان، فكلام الحديث واضح وكلام الصحابي واضح وفعل النبي صلى الله عليه وسلم واضح، ولا يفهم من كلام الله تعالى التجسيم، ولا يفهم من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم التمثيل؟! بل ربنا سبحانه وتعالى منزه ومقدس عن التمثيل وعن التشبيه، ولا يجوز للإنسان أن يتأول الصفات بتأويلات بعيده ويحملها على محامل بعيدة أو يأتي باحتمالات فاسدة؛ لأن هذا كما قلنا تكذيب لله تعالى، وجحد لأسمائه وصفاته.
وقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} خطاب للمشركين الذين لم يعظموا الله حق التعظيم، ولم يعطوه حقه من التبجيل والتقديس والتنزيه؛ إذ جعلوا معه آلهة أخرى لا تخلق ولا ترزق، ولا تقدر على الحياة ولا على الموت ولا على النشور، بل لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا.
وقوله: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة} ورد في الصحيحين: في حديث أبي هريرة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليقبض الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟!».
ملوك الأرض في الدنيا نازعوا الله في ملكه، وحصل منهم تجاوز وطغيان وعدوان على خلق الله، واستكبار واستعلاء، فالله سبحانه وتعالى يخصهم بالذكر يوم القيامة ويناديهم في هذا الموقف الرهيب المهيب، فيقول: أين ملوك الأرض؟ فلا يجيبه أحد، ولا يجرؤ على الكلام بين يديه ملك منهم، فهؤلاء الذين تكبروا على عباد الله وفعلوا الأفاعيل وطغوا وبغوا، إذا ناداهم الله سبحانه وتعالى صمتوا وخرسوا، نعوذ بالله من الظلم والطغيان.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



الساعة الآن : 12:56 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 472.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 471.00 كيلو بايت... تم توفير 1.77 كيلو بايت...بمعدل (0.37%)]