ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=84)
-   -   تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=273185)

ابوالوليد المسلم 17-07-2025 10:39 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (761)
صــ 201 إلى صــ 210





أي تأخذها وأنت جالس، وهو قائم. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، عن أنفسهم، بأيديهم يمشون بها، وهم كارهون، وذلك قولٌ رُوي عن ابن عباس، من وجهٍ فيه نظر.
* * *
وقال آخرون: إعطاؤهم إياها، هو الصغار.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) }
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في القائل: (عزير ابن الله) .
فقال بعضهم: كان ذلك رجلا واحدًا، هو فِنْحاص.
* ذكر من قال ذلك:
16619- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قوله: (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، قال: قالها رجل واحد، قالوا: إن اسمه فنحاص. وقالوا: هو الذي قال: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) ، [سورة آل عمران: 181] .
(1)
الأثر: 16618 - "عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري" ، شيخ الطبري، ثقة، من شيوخ البخاري، مضى برقم: 13805.

وفي المطبوعة: "عن ابن سعد" ، وهو خطأ، خالف ما في المخطوطة وانظر "أبا سعد" في فهرس الرجال.
وقال آخرون: بل كان ذلك قول جماعة منهم.
* ذكر من قال ذلك:
16620- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سَلامُ بن مشكم، ونعمانُ بن أوفى، (1) وشأسُ بن قيس، ومالك بن الصِّيف، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قِبْلتنا، وأنت لا تزعم أنّ عزيرًا ابن الله؟ فأنزل في ذلك من قولهم: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) ، إلى: (أنى يؤفكون) . (2)
16621- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، وإنما قالوا: هو ابن الله من أجل أن عُزَيرًا كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم، فعملوا بها ما شاء الله أن يعملوا، (3) ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التّابوت فيهم. فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء، رفع الله عنهم التابوت، وأنساهُم التوراة، ونسخها من صدورهم، وأرسل الله عليهم مرضًا، فاستطلقت بطونهم حتى جعل الرجل يمشي كبدُه، حتى نسوا التوراة، ونسخت من صدورهم، وفيهم عزير. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثُوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم، وكان عزير قبلُ من علمائهم، فدعا عزيرٌ الله، وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخَ من صدره من التوراة. فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله، نزل نور من الله فدخل جَوْفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من
(1)
في سيرة ابن هشام: "ونعمان بن أوفى أبو أنس، ومحمود بن دحية، وشاس. . ." .

(2)
الأثر: 16620 - سيرة ابن هشام 2: 219.

(3)
في المطبوعة: "يعملون بها ما شاء الله" ، وأثبت ما في المخطوطة.

التوراة، فأذّن في قومه فقال: يا قوم، قد آتاني الله التوراةَ وردَّها إليَّ! فعلقَ بهم يعلمهم، (1) فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم. ثم إنَّ التابوت نزل بعد ذلك وبعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت عرَضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلِّمهم، فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله.
16622- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، إنما قالت ذلك، لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم، وأخذوا التوراة، وذهب علماؤهم الذين بقُوا، وقد دفنوا كتب التوراة في الجبال. (2) وكان عزير غلامًا يتعبَّد في رءوس الجبال، لا ينزل إلا يوم عيد. فجعل الغلام يبكي ويقول: "ربِّ تركتَ بني إسرائيل بغير عالم" ! فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفارُ عينيه، فنزل مرة إلى العيد، فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلتْ له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يا مطعماه، ويا كاسِياه! فقال لها: ويحك، من كان يطعمك أو يكسوك أو يسقيك أو ينفعك قبل هذا الرجل؟ (3) قالت: الله! قال: فإن الله حي لم يمت! قالت: يا عزير، فمن كان يعلِّم العلماء قبلَ بني إسرائيل؟ قال: الله! قالت: فلم تبكي عليهم؟ فلما عرف أنه قد خُصِم، (4) ولَّى مدبرًا، فدعته فقالت: يا عزير، إذا أصبحت غدًا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه، ثم اخرج فصلِّ ركعتين،
(1)
في المطبوعة: "فعلق يعلمهم" ، وفي المخطوطة "فعلق به يعلمهم، ورجحت صواب ما أثبت. يقال:" علقت أفعل كذا "بمعنى: طفقت. من قولهم:" علق بالشيء "، إذا لزمه، قال يزيد بن الطثرية: عَلِقْنَ حَوْلِي يَسْأَلْنَ القِرَى أُصُلا ... وليسَ يَرْضَيْنَ مِنِّي بالمعَاذِيرِ"

بمعنى: طفقن (انظر طبقات فحول الشعراء: 587، تعليق: 4) .
(2)
في المطبوعة: "فدفنوا" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(3)
في المطبوعة، جعلها جميعًا بالواو على العطف، وأثبت ما في المخطوطة.

(4)
"خصم" ، أي: غلب في الخصام والحجاج.

فإنه يأتيك شيخٌ، فما أعطاك فخُذْه. فلما أصبح انطلق عزير إلى ذلك النهر، فاغتسل فيه، ثم خرج فصلى ركعتين. فجاءه الشيخُ فقال: افتح فمك! ففتح فمه، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة، مجتمع كهيئة القوارير، ثلاث مرار. (1) فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة، فقال: يا بني إسرائيل، إني قد جئتكم بالتوراة! فقالوا: يا عزير، ما كنت كذَّابًا! فعمد فربط على كل إصبع له قلمًا، وكتب بأصابعه كلها، فكتب التوراة كلّها. فلما رجعَ العلماء، أخبروا بشأن عزير، فاستخرج أولئك العلماء كُتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال، وكانت في خوابٍ مدفونة، (2) فعارضوها بتوراة عزير، فوجدوها مثلها، فقالوا: ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه!
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ" ، لا ينونون "عزيرًا" .
* * *
وقرأه بعض المكيين والكوفيين: (عُزَيْرٌ ابْنُ الله) ، بتنوين "عزير" قال: هو اسم مجْرًى وإن كان أعجميًّا، لخفته. وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله، فيكون بمنزلة قول القائل: "زيدٌ بن عبد الله" ، وأوقع "الابن" موقع الخبر. ولو كان منسوبًا إلى الله لكان الوجه فيه، إذا كان الابن خبرًا، الإجراء، والتنوين، فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه.
وأما من ترك تنوين "عزير" ، فإنه لما كانت الباء من "ابن" ساكنة مع التنوين الساكن، والتقى ساكنان، فحذف الأول منهما استثقالا لتحريكه، قال الراجز: (3)
(1)
في المطبوعة: "مجتمعا" ، وأثبت ما في المخطوطة، والدر المنثور. وهذا الموضع من الخبر، يحتاج إلى نظر في صحته ومعناه.

(2)
"خوابي" جمع "خابية" ، وهي الجرة الكبيرة.

(3)
لم أعرف قائله.

لَتَجدَنِّي بِالأمِيرِ بَرًّا ... وَبِالقَنَاةِ مِدْعَسًا مِكَرَّا
إذَا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا (1)
فحذف النون للساكن الذي استقبلها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) ، بتنوين "عزير" ، لأن العرب لا تنون الأسماء إذا كان "الابن" نعتًا للاسم، [وتنونه إذا كان خبرًا] ، كقولهم: "هذا زيدٌ بن عبد الله" ، فأرادوا الخبر عن "زيد" بأنه "ابن الله" ، (2) ولم يريدوا أن يجعلوا "الابن" له نعتًا و "الابن" في هذا الموضع خبر لـ "عزير" ، لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك، إنما أخبروا عن "عزير" ، أنه كذلك، وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين.
* * *
= (وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يعني قول اليهود: (عزير ابن الله) . يقول: يُشْبه قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابنٌ، كذِبَ اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزيرًا إلى أنه لله ابن، (3) ولا ينبغي أن يكون لله ولدٌ سبحانه،
(1)
نوادر أبي زيد: 91، معاني القرآن للفراء 1: 431. اللسان (صهب) ، (دعس) ، (دعص) ، وغيرها، وقبله في النوادر: جاءُوا يجرُّون الحدِيدَ جَرًّا ... صُهْبَ السِّبالِ يَبتغونَ الشرَّا

في النوادر: "يجرون السود" ، وهذه رواية غيره.
(2)
هذه الجملة كانت في المخطوطة هكذا: "لأن النون العرب من الأسماء إذا كان الابن نعتا للاسم، كقولهم: هذا زيد بن عبد الله، فأرادوا الخبر عن زيد بأنه ابن الله" . وهو كلام مضطرب غاية الاضطراب.

وصححها في المطبوعة هكذا: "لأن العرب لا تنون الأسماء، إذا كان الابن نعتا للاسم، كقولهم: هذا زيد بن عبد الله، فأرادوا الخبر عن عزير بأنه ابن الله" ، وهو أيضا مضطرب.
فأبقيت تصحيح الناشر الأول في صدر الجملة، ثم صححت سائر الكلام بما يوافق المخطوطة، ثم زدت فيه ما بين القوسين، حتى يستقيم الكلام على وجه مرضي بعض الرضى. ولا أشك أن الناسخ قد أسقط قدرا من كلام أبي جعفر.
(3)
في المطبوعة: "نسبة قول هؤلاء. . . ككذب اليهود وفريتهم" ، أخطأ في قراءة "يشبه" ، فجعلها "نسبة" ، ثم زاد في "كذب" كافًا أخرى في أولها، ليستقيم الكلام، فلم يستقم. وقوله: "كذب" مفعول قوله: "يشبه" . وذلك معنى "المضاهأة" كما سيأتي.

بل له ما في السماوات والأرض، كل له قانتون.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16623- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول: يُشبِّهون.
16624- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم.
16625- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدّي: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، النصارى يضاهئون قول اليهود في "عزيز" .
16626- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول: النصارى، يضاهئون قول اليهود.
16627- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول: قالوا مثل ما قال أهل الأوثان.
* * *
وقد قيل: إن معنى ذلك: يحكون بقولهم قولَ أهل الأوثان، (1) الذين قالوا: "اللات، والعزَّى، ومناة الثالثة الأخرى" . (2)
* * *
(1)
في المطبوعة: "أهل الأديان" ، والصواب ما أثبت من المخطوطة.

(2)
انظر معاني القرآن للفراء 1: 433.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: (يُضَاهُونَ) ، بغير همز.
* * *
وقرأه عاصم: (يُضَاهِئُونَ) ، بالهمز، وهي لغة لثقيف.
* * *
وهما لغتان، يقال: "ضاهيته على كذا أضَاهيه مضاهاة" و "ضاهأته عليه مُضَأهاة" ، إذا مالأته عليه وأعنته.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءَة في ذلك ترك الهمز، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار، واللغة الفصحى.
* * *
وأما قوله: (قاتلهم الله) ، فإن معناه، فيما ذكر عن ابن عباس، ما:-
16628- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (قاتلهم الله) ، يقول: لعنهم الله. وكل شيء في القرآن "قتل" ، فهو لعن.
* * *
وقال ابن جريج في ذلك ما:-
16629- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (قاتلهم الله) ، يعني النصارى، كلمةٌ من كلام العرب. (1)
* * *
فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون: معناه: قتلهم الله. والعرب تقول: "قاتعك الله" ، و "قاتعها الله" ، بمعنى: قاتلك الله. قالوا: و "قاتعك الله" أهون من "قاتله الله" .
وقد ذكروا أنهم يقولون: "شاقاه الله ما تاقاه" ، يريدون: أشقاه الله ما أبقاه.
(1)
يعني أنها كلمة تقولها العرب، لا تريد بها معنى "القتل" ، كقولهم: "تربت يداك" ، لا يراد بها وقوع الأمر.

قالوا: ومعنى قوله: (قاتلهم الله) ، كقوله: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) ، [سورة الذاريات: 10] ، و (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) ، [سورة البروج: 4] ، واحدٌ هو بمعنى التعجب.
* * *
فإن كان الذي قالوا كما قالوا، فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس، لأنّ "فاعلت" لا تكاد أن تجيء فعلا إلا من اثنين، كقولهم: "خاصمت فلانًا" ، و "قاتلته" ، وما أشبه ذلك. وقد زعموا أن قولهم: "عافاك الله" منه، وأن معناه: أعفاك الله، بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يُعْفيه من السوء.
* * *
وقوله: (أنى يؤفكون) ، يقول: أيَّ وجه يُذْهبُ بهم، ويحيدون؟ وكيف يصدُّون عن الحق؟ وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل. (1)
القول في تأويل قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: اتخذ اليهود أحبارهم، وهم العلماء.
* * *
وقد بينت تأويل ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا قبل. واحدهم "حَبْرٌ" ، و "حِبْرٌ" بكسر الحاء منه وفتحها. (2)
وكان يونس الجرمي، (3) فيما ذكر عنه، يزعم أنه لم يسمع ذلك إلا "حِبر"
(1)
انظر تفسير "الإفك" فيما سلف 10: 486 / 11: 554.

(2)
انظر تفسير "الحبر" فيما سلف 6: 543، 544 / 10: 341، 448.

(3)
"يونس الجرمي" ، انظر ما سلف 10: 120، تعليق: 1 / 11: 544، تعليق: 3 / 13: 129، تعليق: 3 = 138، تعليق: 4.

بكسر الحاء، ويحتج بقول الناس: "هذا مِدَادُ حِبْرٍ" ، يراد به: مدادُ عالم.
وذكر الفرَّاء أنه سمعه "حِبْرًا" ، و "حَبْرًا" بكسر الحاء وفتحها.
* * *
= والنصارى "رهبانهم" ، (1) وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم، (2) كما:-
16630- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم) ، قال: قُرَّاءهم وعلماءهم.
* * *
= (أربابا من دون الله) ، يعني: سادةً لهم من دون الله، (3) يطيعونهم في معاصي الله، فيحلون ما أحلُّوه لهم مما قد حرَّمه الله عليهم، ويحرِّمون ما يحرِّمونه عليهم مما قد أحلَّه الله لهم، كما:-
16631- حدثني الحسين بن يزيد الطحّان قال، حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي، عن غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في "سورة براءة" : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) ، فقال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكن كانوا يحلّون لهم فيُحلُّون" . (4)
(1)
قوله: "والنصارى، ورهبانهم" هذا معطوف على قوله آنفا: "اتخذ اليهود أحبارهم" .

(2)
انظر تفسير "الرهبان" فيما سلف 10: 502، 503.

(3)
انظر تفسير "الرب" فيما سلف 1: 142 / 12: 286، 482.

(4)
الأثر: 16631 - حديث (عدي بن حاتم الطائي) ، رواه أبو جعفر من ثلاث طرق متابعة، كلها من طريق عبد السلام بن حرب، عن غطيف بن أعين، من 16631 - 16633.

"الحسين بن يزيد السبيعي الطحان" ، شيخ الطبري، وثقه ابن حبان، ولين حديثه أبو حاتم، مضى برقم: 2892، 7863، 9153. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "الحسن بن يزيد" ، وهو خطأ ""
و "عبد السلام بن حرب الملائي النهدي" ، الحافظ الثقة، مضى برقم: 1184، 5471، 12478.
و "غطيف بن أعين الشيباني الجزري" أو "غصيف" وثقه ابن حبان، وقال الترمذي: "ليس بمعروف في الحديث" وضعفه الدارقطني، مترجم التهذيب، والكبير 4 / 1 / 106، ولم يذكر فيه جرحا، وترجمه ابن أبي حاتم في "غضيف" بالضاد، 3 / 2 / 55، ولم يذكر فيه جرحا. وسيأتي "غضيف" في رقم: 16633.
و (مصعب بن سعد بن أبي وقاص) ، روى عن أبيه، وعلي، وعكرمة بن أبي جهل، وعدي بن حاتم، وابن عمر. وغيرهم، وروي عن غطيف بن أعين، وهو ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 9841، 11450.
وهذا الخبر مختصر الذي يليه، فراجع التخريج التالي.
ورواه الترمذي من هذه الطريق نفسها عن الحسين بن يزيد الكوفي الطحان في كتاب التفسير، وقال: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب. وغطيف بن أعين، ليس بمعروف في الحديث" .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 230، وزاد نسبته إلى ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه. ولم أجده في المطبوع من طبقات ابن سعد، وضل عني مكانه في سنن البيهقي.

16632- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا مالك بن إسماعيل = وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد = جميعًا، عن عبد السلام بن حرب قال، حدثنا غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب، فقال: يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في "سورة براءة" ، فقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم! = واللفظ لحديث أبي كريب. (1)
16633- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال: حدثنا بقية، عن قيس
(1)
الأثر: 16632 - رواه من طريق مالك بن إسماعيل، عن عبد السلام بن حرب، بلفظه، البخاري في الكبير 4 / 1 / 106. وانظر التخريج السالف.



https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif


ابوالوليد المسلم 17-07-2025 10:42 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (762)
صــ 211 إلى صــ 220





بن الربيع، عن عبد السلام بن حرب النهدي، عن غضيف، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ "سورة براءة" ، فلما قرأ: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قلت: يا رسول الله، إما إنهم لم يكونوا يصلون لهم! قال: صدقت، ولكن كانوا يُحلُّون لهم ما حرَّم الله فيستحلُّونه، ويحرّمون ما أحلّ الله لهم فيحرِّمونه. (1)
16634- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، عن حذيفة: أنه سئل عن قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه.
16635- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي البختري قال: قيل لأبي حذيفة، فذكر نحوه = غير أنه قال: ولكن كانوا يحلُّون لهم الحرام فيستحلُّونه، ويحرِّمون عليهم الحلال فيحرِّمونه.
16636- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن حبيب عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة: أرأيت قول الله: (اتخذوا أحبارهم) ؟ قال: أمَا إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرّموا عليهم شيئًا أحله الله لهم حرَّموه، فتلك كانت رُبوبيَّتهم.
16637- قال، حدثنا جرير وابن فضيل، عن عطاء، عن أبي البختري: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال: انطلقوا
(1)
الأثر: 16633 - "غضيف" ، هو "غضيف بن أعين" ، و "غطيف" ، كما مر في تخريج الأثر: 16631. وكان في المخطوطة: "حصف" وجعلها في المطبوعة: "غطيف" ، والصواب ما أثبت. كما أشرت إليه في التعليق المذكور.

إلى حلال الله فجعلوه حرامًا، وانطلقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالا فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم. ولو قالوا لهم: "اعبدونا" ، لم يفعلوا.
16638- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة فقال: يا أبا عبد الله، أرأيت قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه.
16639- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن أشعث، عن الحسن: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا) ، قال: في الطاعة.
16640- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، يقول: زيَّنُوا لهم طاعتهم.
16641- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال عبد الله بن عباس: لم يأمروهم أن يسجُدوا لهم، ولكن أمروهم بمعصية الله، فأطاعوهم، فسمَّاهم الله بذلك أربابًا.
16642- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا) ، قال: قلت لأبي العالية: كيف كانت الرُّبوبية التي كانت في بني إسرائيل؟ قال: [لم يسبوا أحبارنا بشيء مضى] (1) "ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم" ، وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه، فاستنصحوا الرجالَ، ونبذُوا كتاب الله وراء ظهورهم.
(1)
هذه الجملة التي وضعتها بين قوسين من المخطوطة، ولا أدري ما هي، ولكني أثبتها كما جاءت، فلعل أحدا يجد الخبر في مكان آخر فيصححه.

16643- حدثني بشر بن سويد قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري، عن حذيفة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال: لم يعبدوهم، ولكنهم أطاعوهم في المعاصي. (1)
* * *
وأما قوله: (والمسيح ابن مريم) ، فإن معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا من دون الله.
* * *
وأما قوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا) ، فإنه يعني به: وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبارَ والرهبان والمسيحَ أربابًا، إلا أن يعبدوا معبودًا واحدًا، وأن يطيعوا إلا ربًّا واحدًا دون أرباب شتَّى، وهو الله الذي له عبادة كل شيء، وطاعةُ كل خلق، المستحقُّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية = "لا إله إلا هو" ، يقول تعالى ذكره: لا تنبغي الألوهية إلا للواحد الذي أمر الخلقُ بعبادته، ولزمت جميع العباد طاعته = (سبحانه عما يشركون) ، يقول: تنزيهًا وتطهيرًا لله عما يُشرك في طاعته وربوبيته، القائلون: (عزير ابن الله) ، والقائلون: (المسيح ابن الله) ، المتخذون أحبارهم أربابًا من دون الله. (2)
* * *
(1)
الأثر: 16643 - "بشر بن سويد" ، لم أجد من يسمى بهذا الاسم، أخشى أن يكون: "بشر بن معاذ" شيخ الطبري، عن "سويد بن نصر المروزي" .

(2)
انظر تفسير "سبحان" فيما سلف 13: 102، تعليق: 3، والمراجع هناك.

القول في تأويل قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يريد هؤلاء المتخذون أحبارَهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا = (أن يطفئوا نور الله بأفواههم) ، يعني: أنهم يحاولون
بتكذيبهم بدين الله الذي ابتعثَ به رسوله، وصدِّهم الناسَ عنه بألسنتهم، أن يبطلوه، وهو النُّور الذي جعله الله لخلقه ضياءً (1) = (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) ، يعلو دينُه، وتظهر كلمته، ويتم الحقّ الذي بعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم = (ولو كره) إتمامَ الله إياه = (الكافرون) ، يعني: جاحديه المكذِّبين به.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16644- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) ، يقول: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي يأبى إلا إتمام دينه ولو كره ذلك جاحدوه ومنكروه = (الذي أرسل رسوله) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم = (بالهدى) ، يعني: ببيان فرائض الله على خلقه، وجميع اللازم لهم (2) = وبدين الحق، وهو الإسلام = (ليظهره على الدين كله) ، يقول: ليعلي الإسلام على الملل كلها = (ولو كره المشركون) ، بالله ظهورَه عليها.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (ليظهره على الدين كله) .
(1)
انظر تفسير "الإطفاء" فيما سلف 10: 458.

(2)
انظر تفسير "الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .

فقال بعضهم: ذلك عند خروج عيسى، حين تصير المللُ كلُّها واحدةً.
* ذكر من قال ذلك:
16645- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال، حدثنا شقيق قال، حدثني ثابت الحدّاد أبو المقدام، عن شيخ، عن أبي هريرة في قوله: (ليظهره على الدين كله) ، قال: حين خروج عيسى ابن مريم. (1)
16646- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن فضيل بن مرزوق قال، حدثني من سمع أبا جعفر: (ليظهره على الدين كله) ، قال: إذا خرج عيسى عليه السلام، اتبعه أهل كل دين.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ليعلمه شرائعَ الدين كلها، فيطلعه عليها.
* ذكر من قال ذلك:
16647- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ليظهره على الدين كله) ، قال: ليظهر الله نبيّه على أمر الدين كله، فيعطيه إيّاه كله، ولا يخفى عليه منه شيء. وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك.
* * *
(1)
الأثر: 16645 - "ثابت الحداد" ، "أبو المقدام" هو: "ثابت بن هرمر الكوفي" مضى برقم: 5969.

القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (34) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقروا بوحدانية ربهم، إن كثيرًا من العلماء والقُرَّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى (1) = (ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، يقول: يأخذون الرشى في أحكامهم، ويحرّفون كتاب الله، ويكتبون بأيديهم كتبًا ثم يقولون: "هذه من عند الله" ، ويأخذون بها ثمنًا قليلا من سِفلتهم (2) = (ويصدُّون عن سبيل الله) ، يقول: ويمنعون من أرادَ الدخول في الإسلام الدخولَ فيه، بنهيهم إياهم عنه. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16648- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، أما "الأحبار" ، فمن اليهود. وأما "الرهبان" ، فمن النصارى. وأما "سبيل الله" ، فمحمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
(1)
انظر تفسير "الأحبار" ، و "الرهبان" فيما سلف ص: 209، تعليق: 2، وص: 208، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(2)
انظر تفسير "أكل الأموال بالباطل" فيما سلف 9: 392، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(3)
انظر تفسير "الصمد" فيما سلف ص: 151، تعليق: 1، والمراجع هناك.

= وتفسير "سبيل الله" في فهارس اللغة (سبل) .
القول في تأويل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) .
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، ويأكلها أيضًا معهم (الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ، يقول: بشّر الكثيرَ من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، بعذابٍ أليم لهم يوم القيامة، مُوجع من الله. (1)
* * *
واختلف أهل العلم في معنى "الكنز" .
فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة، فلم تؤدَّ زكاته. قالوا: وعنى بقوله: (ولا ينفقونها في سبيل الله) ، ولا يؤدُّون زكاتها.
* ذكر من قال ذلك:
16649- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: كل مال أدَّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا. وكل مالٍ لم تؤدَّ زكاته، فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن، يكوى به صاحبه، وإن لم يكن مدفونًا. (2)
16650- حدثنا الحسن بن الجنيد قال، حدثنا سعيد بن مسلمة قال، حدثنا إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: كل مالٍ أدَّيت منه الزكاة فليس بكنز وإن كان مدفونًا. وكل مال لم تودَّ منه الزكاة، وإن لم
(1)
انظر تفسير "أليم" فينا سلف من فهارس اللغة (ألم) .

(2)
الأثر: 16649 - حديث ابن عمرو في الكنز، رواه أبوه جعفر من طرق، بألفاظ مختلفة، موقوفا على ابن عمر، وهو الصواب، وإسناد هذا الخبر صحيح إلى ابن عمرو.

رواه مالك بمعناه من طريق عبد الله بن دينار. عن عبد الله بن عمرو في الموطأ: 256.
يكن مدفونًا، فهو كنز. (1)
16651- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: أيُّما مالٍ أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا في الأرض. وأيُّما مالٍ لم تودِّ زكاته، فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض. (2)
16652- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وجرير، عن الأعمش، عن عطية، عن ابن عمر قال: ما أدَّيت زكاته فليس بكنز. (3)
16653- قال، حدثنا أبي، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرَضِين. وما لم تؤدِّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا. (4)
16654- قال، حدثنا جرير، عن الشيباني، عن عكرمة قال: ما أدَّيت زكاته فليس بكنز.
(1)
الأثر: 16650 - "الحسن بن الجنيد البلخي" ، شيخ الطبري، ويقال "الحسين" ، مضى برقم: 8458. وكان في المخطوطة: "الحسين" وأثبت ما في المخطوطة.

و "سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان" ، ضعيف الحديث، مضى برقم: 8458.
و "إسماعيل بن أمية الأموي" ، مضى برقم: 2615، 8458.
وهذا إسناد ضعيف لضعف "سعيد بن مسلمة" .
(2)
الأثر: 16651 - رواه البيهقي في السنن 4: 82، بنحو هذا اللفظ من طريق ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وقال: "هذا هو الصحيح، موقوف. وكذلك رواه جماعة عن نافع، وجماعة عن عبيد الله بن عمر. وقد رواه سويد بن عبد العزيز، وليس بالقوي، مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" .

(3)
الأثر: 16652 - "عطية" ، هو "عطية بن سعد العوفي" ، ضعيف الحديث، مضى تضعيفه في رقم: 305.

(4)
الأثر: 16653 - "العمري" وهو "عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب" ، سلف مرارا وهذا الإسناد هو الذي أشار إليه البيهقي فيما سلف رقم 16551، في التعليق.

16655- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أما (الذين يكنزون الذهب والفضة) ، فهؤلاء أهل القبلة، و "الكنز" ، ما لم تؤدِّ زكاته وإن كان على ظهر الأرض، وإن قلّ. وإن كان كثيرًا قد أدّيت زكاته، فليس بكنز.
16656- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر قال: قلت لعامر: مالٌ على رَفٍّ بين السماء والأرض لا تؤدَّى زكاته، أكنز هو؟ قال: يُكْوَى به يوم القيامة.
* * *
وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أدَّيت منه الزكاة أو لم تؤدِّ.
* ذكر من قال ذلك:
16657- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي رحمة الله عليه قال: أربعة آلاف درهم فما دونها "نفقة" ، فما كان أكثر من ذلك فهو "كنز" ، (1)
16658- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي مثله.
16659- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الشعبي قال، أخبرني أبو حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي رحمة الله عليه في قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، وما فوقها كنز.
* * *
(1)
الأثر: 16657 - "جعدة بن هبيرة المخزومي" ، تابعي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن أم هانئ بنت أبي طالب. خاله علي رضي الله عنهم. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 238،وابن أبي حاتم 1 / 1 / 526.

وسيأتي بعد من طريقين.
وقال آخرون: "الكنز" كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه.
* ذكر من قال ذلك:
16660- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن معاذ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن عبد الواحد: أنه سمع أبا مجيب قال: كان نعل سيف أبي هريرة من فضة، فنهاه عنها أبو ذر وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صَفْرَاء أو بيضاء كُوِي بها. (1) "
16661- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الأعمش وعمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزلت: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تبًّا للذهب! تبًّا للفضة! يقولها ثلاثًا، قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فأيَّ مال نتخذ؟! فقال عمر: أنا أعلم لكم"
(1)
الأثر: 16660 - "ابن عبد الواحد" ، يقال: "عبد الله بن عبد الواحد الثقفي" ، ويقال: "فلان بن عبد الواحد، رجل من ثقيف" ، ويقال: "يحيى بن عبد الواحد" ويقال: "عبد الواحد" . مجهول، وكان في المطبوعة: "عن أنس، عن عبد الواحد" ، غير فيها وزاد ما لم يكن في المخطوطة.

و "أبو مجيب" ، الشاشي. مجهول.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 168 من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، عن رجل من ثقيف يقال له فلان بن عبد الواحد قال: سمعت أبا مجيب.
وذكره الحافظ في تعجيل المنفعة: 518، في ترجمة "أبو محمد" . وذكر نص حديث أحمد ثم قال: "وهذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الكنى، فيما حكاه الحاكم أبو أحمد عنه، من طريق ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عبد الله بن عبد الواحد الثقفي، عن أبي مجيب الشاشي، فذكره. وحكى الحاكم أنه قيل في اسم هذا الثقفي: يحيى، وقيل: عبد الواحد. وقال: الاختلاف فيه على شعبة" .
وفي رواية أحمد: "لقي أبو ذر أبا هريرة، وجعل = أراه قال = قبيعة سيفه فضة" .
و "قبيعة السيف" ، هي التي تكون على رأس قائم السيف. وقيل: هي ما تحت شاربي السيف، مما يكون فوق الغمد، فيجيء مع قائم السيف. والشاربان: أنفان طويلان أسفل القائم، أحدهما من هذا الجانب، والآخر من هذا الجانب.
وأما "نعل السيف" ، فهو ما يكون في أسفل جفنه من حديدة أو فضة.


https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif


ابوالوليد المسلم 17-07-2025 10:45 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (763)
صــ 221 إلى صــ 230





ذلك! فقال: يا رسول الله، إن أصحابك قد شق عليهم، وقالوا: فأيَّ المال نتخذ؟ فقال: لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وزوجةً تُعين أحدكم على دينه. (1)
16662- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، بمثله. (2)
16663- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزلت هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال المهاجرون: وأيَّ المال نتّخذ؟ فقال عمر: اسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه. قال: فأدركته على بعيرٍ فقلت: يا رسول الله، إن المهاجرين قالوا: فأيَّ المال نتخذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لسانًا ذاكرًا، وقلبًا
(1)
الأثر: 16661 - خبر عمر هذا رواه أبو جعفر من طرق. أولها هذا، ثم رقم: 16662، 16663، 16666.

و "سالم بن أبي الجعد الأشجعي، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارا. روى عن عمر، ولم يدركه. ومن هذا، هذا الخبر، ورقم: 16663."
فهذا خبر ضعيف، لانقطاعه. وانظر تخريج الخبر التالي، وروايته في المسند من طريق عبد الله بن عمرو بن مرة، عن عمرو بن مرة، عن سالم، عن ثوبان.
(2)
الأثر: 16662 - "سالم بن أبي الجعد" ، عن "ثوبان" ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتراه ثم أعتقه.

و "سالم بن أبي الجعد" لم يسمع من ثوبان، قال أحمد: "لم يسمع سالم من ثوبان، ولم يلقه. بينهما: معدان بن أبي طلحة. وليست هذه الأحاديث بصحاح" .
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 5: 278 من طريق إسرائيل، عن منصور، عن سالم.
ثم رواه أيضا 5: 282، من طريق وكيع، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن عمرو بن مرة، عن سالم، عن ثوبان.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور، بنحوه، وقال: "هذا حديث حسن. سألت محمد بن إسماعيل (البخاري) فقلت له: سالم بن أبي الجعد سمع ثوبان؟ فقال! لا؛ قلت له، ممن سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمع من جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وذكر غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" .
وسيأتي من طريق سالم عن ثوبان برقم: 16666.
وانظر تفسير ابن كثير 4: 155.
شاكرًا، وزوجةً مؤمنةً، تعين أحدكم على دينه. (1)
16664- حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: توفي رجل من أهل الصُّفة، فوُجد في مئزرِه دينارٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيَّةٌ! ثم توفي آخر فوُجد في مئزره ديناران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيَّتان! (2)
16665- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن صديّ بن عجلان أبي أمامة قال: مات رجل: من أهل الصُّفة، فوجد في مئزره دينارٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيّةٌ! ثم توفيّ آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال نبي الله: كيّتان! (3)
16666- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن ثوبان قال: كنا في سفر، ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المهاجرون: لوددنا أنَّا علمنا أيُّ المال خيرٌ فنتخذه؟ إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل! فقال عمر: إن شئتم سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك! فقالوا: أجل!
(1)
الأثر: 16663 - انظر تخريج الآثار السالفة.

(2)
الأثران: 16664، 16665 - "شهر بن حوشب" ، مضى توثيقه مرارا.

فهذا خبر صحيح الإسناد، رواه أحمد في المسند 5: 253، من طرق، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر. ورواه من طريق روح، عن معمر، عن قتادة، ومن طريق حسين، عن شيبان، عن قتادة.
ورواه أيضا 5: 252 عن حجاج قال: سمعت شعبة يحدث عن قتادة وهاشم = قال حدثني شعبة أنبأنا قتادة قال: سمعت أبا الحسن يحدث = قال هاشم في حديثه: أبو الجعد مولى لبني ضبيعة، عن أبي أمامة.
ثم رواه أيضا 5: 253، من حجاج، عن شعبة، عن عبد الرحمن، من أهل حمص، من بني العداء، من كندة، مختصرا.
وروى أحمد نحوه في حديث علي بن أبي طالب، بإسناد ضعيف رقم: 788، 1155، 1156، 1157.
وانظر تفسير ابن كثير 4: 158، 159.
(3)
الأثران: 16664، 16665 - "شهر بن حوشب" ، مضى توثيقه مرارا.

فهذا خبر صحيح الإسناد، رواه أحمد في المسند 5: 253، من طرق، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر. ورواه من طريق روح، عن معمر، عن قتادة، ومن طريق حسين، عن شيبان، عن قتادة.
ورواه أيضا 5: 252 عن حجاج قال: سمعت شعبة يحدث عن قتادة وهاشم = قال حدثني شعبة أنبأنا قتادة قال: سمعت أبا الحسن يحدث = قال هاشم في حديثه: أبو الجعد مولى لبني ضبيعة، عن أبي أمامة.
ثم رواه أيضا 5: 253، من حجاج، عن شعبة، عن عبد الرحمن، من أهل حمص، من بني العداء، من كندة، مختصرا.
وروى أحمد نحوه في حديث علي بن أبي طالب، بإسناد ضعيف رقم: 788، 1155، 1156، 1157.
وانظر تفسير ابن كثير 4: 158، 159.
فانطلق، فتبعته أوضع على بعيري، (1) فقال: يا رسول الله إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا: وددنا أنّا علمنا أيّ المال خير فنتخذه؟ قال: نعم! فيتخذ أحدكم لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وزوجةٌ تعين أحدَكم على إيمانه. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، القولُ الذي ذكر عن ابن عمر: من أن كل مالٍ أدّيت زكاته فليس بكنز يحرُم على صاحبه اكتنازُه وإن كثر = وأنّ كل مالٍ لم تُؤَّد زكاته فصاحبه مُعاقب مستحقٌّ وعيدَ الله، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قلّ، إذا كان مما يجبُ فيه الزكاة.
وذلك أن الله أوجب في خمس أواقٍ من الوَرِق على لسان رسوله رُبع عُشْرها، (3) وفي عشرين مثقالا من الذهب مثل ذلك، رُبْع عشرها. فإذ كان ذلك فرضَ الله في الذهب والفضَّة على لسان رسوله، فمعلومٌ أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوفَ ألوفٍ، لو كان = وإن أدِّيت زكاته = من الكنوز التي أوعدَ الله أهلَها عليها العقاب، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من رُبْع العُشْر. لأن ما كان فرضًا إخراجُ جميعِه من المال، وحرامٌ اتخاذه، فزكاته الخروجُ من جميعه إلى أهله، لا رُبع عُشره. وذلك مثلُ المال المغصوب الذي هو حرامٌ على الغاصب إمساكُه، وفرضٌ عليه إخراجه من يده إلى يده، التطهّر منه: ردُّه إلى صاحبه. فلو كان ما زادَ من المال على أربعة آلاف درهم، أو ما فضل عن حاجة ربِّه التي لا بد منها، مما يستحق صاحبُه باقتنائه = إذا أدَّى إلى أهل السُّهْمان حقوقهم منها من الصدقة = وعيدَ الله، لم يكن اللازمُ ربَّه فيه رُبْع عشره، بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله، وصرفه فيما يجب عليه صرفه، كالذي ذكرنا
(1)
"أوضع الراكب" ، أسرع بدابته إسراعا دون العدو الشديد.

(2)
الأثر: 16666 - مكرر الخبر رقم: 16662، وانظر تخريج الأخبار السالفة.

(3)
"الورق" (بكسر الراء) ، الفضة.

من أن الواجب على غاصِبِ رجلٍ مالَه، رَدُّه على ربِّه.
* * *
وبعدُ، فإن فيما:-
16667- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، قال معمر، أخبرني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل لا يؤدِّي زكاةَ ماله إلا جُعل يوم القيامة صفائحَ من نار يُكْوَى بها جبينه وجبهته وظهره، (1) في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين الناس، ثم يرى سبيله، وإن كانت إبلا إلا بُطِحَ لها بقاع قرقرٍ، (2) تطؤه بأخفافها = حسبته قال: وتعضه بأفواهها = يردّ أولاها على أخراها، حتى يقضي بين الناس، ثم يرى سبيله. وإن كانت غنمًا فمثل ذلك، إلا أنها تنطحه بقُرُونها، وتطؤُه بأظلافها. (3)
* * *
= وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها، الدلالةُ الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تُؤَدَّ الوظائفُ المفروضةُ فيها لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها. وفيما بيّنا من ذلك البيانُ الواضح على أن الآية لخاصٍّ، كما قال ابن عباس، وذلك ما:-
16668- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي،
(1)
في المخطوطة: "جسه" غير منقوطة، والذي في مسلم: "جنباه وجبينه" والاختلاف في هذه الأحرف ذكره مسلم في صحيحه، وأثبت ما في المخطوطة لموافقته لما في مسند أحمد رقم: 7706.

(2)
"بطح" (بالبناء للمجهول) ، ألقي على وجهه. و "القاع" : الأرض المستوية الفسيحة. و "قرقر" ، هي الصحراء البارزة الملساء.

(3)
الأثر: 16667 - حديث صحيح. رواه مسلم مطولا في صحيحه 7: 67، من طريق محمد بن عبد الملك الأموي، عن عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي صالح. ورواه من طرق أخرى عن أبي صالح، ومن طرق عن أبي هريرة.

ورواه أحمد في مسنده رقم: 7553، مطولا، وقد استوفى أخي السيد أحمد تخريجه هناك. ثم رواه أيضا رقم: 7706، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن سهيل بن أبي صالح، مختصرا، وفيه: "جبينه وجبهته وظهره" فمن أجل ذلك أثبت ما كان في المخطوطة (تعليق: 1) .
قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ، يقول: هم أهل الكتاب. وقال: هي خاصَّة وعامةٌ.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "هي خاصة وعامة" ، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤدِّ زكاة ماله منهم، وعامة في أهل الكتاب، لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا. يدلُّ على صحة ما قلنا في تأويل قول ابن عباس هذا، ما:-
16669- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) ، إلى قوله: (هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) ، قال: هم الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم. قال: وكل مالٍ لا تؤدَّى زكاته، كان على ظهر الأرض أو في بطنها، فهو كنز وكل مالٍ تؤدَّى زكاته فليس بكنز كان على ظهر الأرض أو في بطنها.
16670- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، قال: "الكنز" ، ما كنز عن طاعة الله وفريضته، وذلك "الكنز" . وقال: افترضت الزكاة والصلاة جميعًا لم يفرَّق بينهما.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا: "ذلك على الخصوص" ، لأن "الكنز" في كلام العرب: كل شيء مجموع بعضُه على بعضٍ، في بطن الأرض كان أو على ظهرها، يدلُّ على ذلك قول الشاعر: (1)
لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أَطْعَمْتُ نَازِلَهُمْ ... قَرْفَ الْحَتِيِّ وعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ (2)
(1)
هو المتنخل الهذلي.

(2)
ديوان الهذليين 2: 15، اللسان (كنز) ، وغيرهما كثير، وهي أبيات جياد، وصف فيها جوع الجائع وصفا لا يبارى، يقول بعده، ووصف رجلا ضاعت نعمه، وشردته البيد: * * *لَوْ أنَّهُ جَاءَني جَوْعَانُ مُهْتَلِكٌ ... مِنْ بُؤسِ النَّاسِ، عَنْهُ الخيْرُ مَحْجُوزُ

أعْيَى وقَصَّرَ لَمَّا فَاتَهُ نَعَمٌ ... يُبَادِرُ اللَّيْلَ بالعَلْيَاء مَحْفُوزُ
حَتَّى يَجِيءَ، وَجِنُّ اللَّيْلِ يُوغِلُهُ ... والشَّوْكُ فِي وَضَحِ الرِّجْلَيْنِ مَرْكُوزُ
قَدْ حَالَ دُونَ دَرِيسَيْهِ مُؤَوِّبَةٌ ... نِسْعٌ، لَهَا بِعِضَاهِ الأرْضِ تَهْرِيزُ
كَأنَّمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَلبَّتِهِ ... مِنْ جُلْبَةِ الجُوعِ جَيَّارٌ وإرْزِيزُ
لَبَاتَ أُسْوَةَ حَجَّاجٍ وَإخْوَتِهِ ... فِي جَهْدِنا، أوْ لَهُ شَفٌّ وَتْمرِيزُ
"القرف" ، ما يقرف عن الشيء، وهي قشره. و "الحتى" الدوم. يقول: لا أطعمه الخسيس، والبر عندي مخزون بعضه على بعض.
ثم يقول: ضاعت إبله، فتقاذفته البيد، فهو من قلقه يصعد على الروابي يتنور نارا يقصدها.
ثم قال: يدفعه سواد الليل ومخاوفه، وقد أضناه السير، فوقع في أرض ذات شوك، فعلق به، لا يكاد ينقشه من شدة ضعفه. ثم يقول: اشتدت ريح الشمال الباردة بالليل = وهي المؤوبة، والشمال، هي النسع = فطيرت عنه ثوبيه الباليين، فأخذه الجوع والبرد، فحمي جوفه من شدة الجوع، وذلك هو "الجيار" ، واصطكت أسنانه، وذلك هو "الإرزيز" . ثم يقول: لو جاءني هذا الجائع المشرد، لكان بين أهله، فهو عندي بمنزلة حجاج وإخوته، وهم أولاد المتنخل، في ساعة العسرة، بل لكان له فضل عليهم = وهو "الشف" =، ولكان له زيادة وتمييز = وهو "التمزيز" .
يعني بذلك: وعندي البرُّ مجموع بعضه على بعض. وكذلك تقول العرب للبدن المجتمع: "مكتنز" ، لانضمام بعضه إلى بعض.
وإذا كان ذلك معنى "الكنز" ، عندهم، وكان قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، معناه: والذين يجمعون الذهب والفضة بعضَها إلى بعض ولا ينفقونها في سبيل الله، وهو عامٌّ في التلاوة، ولم يكن في الآية بيانُ كم ذلك القدر من الذهب والفضّة الذي إذا جمع بعضُه إلى بعض، (1) استحقَّ الوعيدَ = (2) كان معلومًا أن خصوص ذلك إنما أدرك، لوقْف الرسول عليه، وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يودَّ حق الله منه من الزكاة دون غيره، لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته.
(1)
في المخطوطة والمطبوعة: "لم يكن في الآية" ، بغير واو، والصواب إثباتها.

(2)
السياق: "وإ ذا كان ذلك معنى الكنز عندهم. . . كان معلوما. . ." .

وقد كان بعض الصحابة يقول: هي عامة في كل كنز غير أنها خاصّة في أهل الكتاب، وإياهم عَنَى الله بها.
* ذكر من قال ذلك:
16671- حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذَة، فلقيت أبا ذَرّ، فقلت: يا أبا ذرّ، ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشأم، فقرأت هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، الآية، فقال معاوية: ليست هذه الآية فينَا، إنما هذه الآية في أهل الكتاب! قال: فقلت: إنها لفينا وفيهم! قال: فارتَفَع في ذلك بيني وبينه القولُ، فكتب إلى عثمان يشكُوني، فكتب إليَّ عثمان أنْ أقبل إليّ! قال: فأقبلت، فلما قدمت المدينة ركِبني الناسُ كأنهم لم يروني قبل يومئذ، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تَنَحَّ قريبًا. قلت: والله لن أدعَ ما كنت أقول! (1)
16672- حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع قالوا، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررنا بالربذة، ثم ذكر عن أبي ذر نحوه. (2)
(1)
الأثر: 16671 - "أبو حصين" ، "عبد الله بن أحمد بن يونس اليربوعي" ، شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم: 12336.

و "حصين" ، هو "حصين بن عبد الرحمن الهذلي" ، ثقة سلف مرارا، آخرها رقم: 12193، 12304.
و "زيد بن وهب الجهني" تابعي كبير، هاجر إلى رسول الله، ولم يدركه. مضى برقم: 4222، 16527، 16528.
وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 217 / 8: 244) ، أولهما من طريق هشيم، عن حصين، والثاني من طريق جرير، عن حصين.
ورواه ابن سعد في الطبقات 4 / 1 / 166، من طريق هشيم، عن حصين.
وسيرويه أبو جعفر من طريق هشيم أيضا برقم: 16674.
(2)
الأثر: 16672 - هذا مكرر الذي قبله.

16673- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أشعث وهشام، عن أبي بشر قال، قال أبو ذر: خرجت إلى الشأم، فقرأت هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب! قال فقلت: إنها لفينا وفيهم. (1)
16674- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذة، فإذا أنا بأبي ذر قال قلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال: فقال: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم = ثم ذكر نحو حديث هشيم، عن حصين. (2)
* * *
فإن قال قائل: فكيف قيل: (ولا ينفقونها في سبيل الله) ، فأخرجت "الهاء" و "الألف" مخرج الكناية عن أحدِ النوعين.
قيل: يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن يكون "الذهب والفضة" مرادًا بها الكنوز، كأنه قيل: والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونَها في سبيل الله، لأن الذهب والفضة هي "الكنوز" ، في هذا الموضع.
والأخر أن يكون استغنى بالخبر عن إحداهما في عائد ذكرهما، من الخبر عن الأخرى، لدلالة الكلام على الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها، وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها، ومنه قول الشاعر: (3)
(1)
الأثر: 16673 - "أبو بشر" ، هو: "جعفر بن أبي وحشية" ، مضى مرارا. وهو إسناد منقطع.

(2)
الأثر: 16674 - هو مكرر الأثر السالف رقم: 16671، انظر تخريجه هناك.

(3)
هو عمرو بن امرئ القيس، من بني الحارث بن الخزرج، جد عبد الله بن رواحة، جاهلي قديم.

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاض، وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ (1)
فقال: "راض" ، ولم يقل: "رضوان" ، وقال الآخر: (2)
إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ والشَّعَرَ الأسْ ... وَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كانَ جُنُونَا (3)
فقال: "يعاص" ، ولم يقل: "يعاصيا" في أشياء كثيرة. ومنه قول الله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) ، [سورة الجمعة: 11] ، ولم يقل: "إليهما"
* * *
القول في تأويل قوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ (35) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبشر هؤلاء الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا يخرجون حقوق الله منها، يا محمد، بعذاب أليم = (يوم يحمى عليها في نار جهنم) ، فـ "اليوم" من صلة "العذاب الأليم" ، كأنه قيل: يبشرهم بعذاب أليم، يعذبهم الله به في يوم يحمى عليها.
(1)
جمهرة أشعار العرب: 127، سيبويه 1: 37، 38 (منسوبا لقيس بن الخطيم، وهو خطأ) ، ومعاني القرآن للفراء 1: 434، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 258، الخزانة 2: 190، وغيرها، ومضى بيت منها 2: 21، وسيأتي في التفسير 22: 68 / 26: 99 (بولاق) من قصيدة قالها لمالك بن العجلان النجاري، في خبر طويل، يقول له: يا مَالِ، والسَّيِّدُ المُعَمَّمُ قَدْ ... يَطْرَأُ فِي بَعْضِ رأيِهِ السَّرَفُ

خالَفْتَ فِي الرأيِ كُلَّ ذِي فَخَرٍ ... وَالحقُّ، يا مَالِ، غيرُ مَا تَصِفُ.
(2)
هو حسان بن ثابت.

(3)
ديوانه: 413، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 258، والكامل 2: 79، واللسان (شرخ) ، و "الشرخ" : الحد، أي غاية ارتفاعه، يعني بذلك: أقصى قوته ونضارته وعنفوانه.

ويعني بقوله: (يحمي عليها) ، تدخل النار فيوقد عليها، أي: على الذهب والفضة التي كنزوها = (في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) .
* * *
وكل شيء أدخل النار فقد أحمي إحماءً، يقال منه: "أحمَيت الحديدة في النار أحميها إحماءً" .
* * *
وقوله: (فتكوى بها جباههم) ، يعني بالذهب والفضة المكنوزة، يحمى عليها في نار جهنم، يكوي الله بها. يقول: يحرق الله جباهَ كانزيها وجنوبَهم وظهورهم = (هذا ما كنزتم) ، ومعناه: ويقال لهم: هذا ما كنزتم في الدنيا، أيها الكافرون الذين منعوا كنوزهم من فرائض الله الواجبة فيها لأنفسكم = (فذوقوا ما كنتم تكنزون) ، يقول: فيقال لهم: فاطعَمُوا عذاب الله بما كنتم تمنعون من أموالكم حقوقَ الله وتكنزونها مكاثرةً ومباهاةً. (1)
وحذف من قوله: (هذا ما كنزتم) و "يقال لهم" ، لدلالة الكلام عليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16675- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن حميد بن هلال قال: كان أبو ذر يقول: بشّر الكنّازين بكيّ في الجباه، وكيّ في الجنوب، وكيٍّ في الظهور، حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم. (2)
(1)
انظر تفسير "ذاق" فيما سلف ص: 15، تعليق: 4، والمراجع هناك.

(2)
الأثر: 16675 - "حميد بن هلال العدوي" ، ثقة، متكلم فيه، لأنه دخل في عمل السلطان. وقال البزار في مسنده: لم يسمع من أبي ذر. ومات حميد في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق. مضى برقم: 13768.



https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif

ابوالوليد المسلم 17-07-2025 10:48 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (764)
صــ 231 إلى صــ 240





16676- قال: حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حَلْقَة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، (1) فقام عليهم فقال: بشِّر الكنازين برضْفٍ يحمى عليه في نار جهنم، (2) فيوضع على حَلَمة ثدْي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه، ويوضع على نُغْضِ كتفه، (3) حتى يخرج من حَلَمة ثدييه، يتزلزل، (4) قال: فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا. قال: وأدبر، فاتبعته، حتى جلس إلى ساريةٍ، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قُلْت! فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا. (5)
16677- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم قال، حدثني عمرو بن قيس، عن عمرو بن مرة الجملي، عن أبي نصر، عن الأحنف بن قيس، قال: رأيت في مسجد المدينة رجلا غليظ الثياب، رثَّ الهيئة، يطوف في الحِلَق وهو يقول: بشر أصحاب الكنوز بكيٍّ في جنوبهم، وكي في جباههم، وكيٍّ في
(1)
في المطبوعة "خشن" في المواضع الثلاث. وأثبت ما في المخطوطة. وهو المطابق لرواية مسلم. "الخشن" و "الأخشن" ، والأنثى "خشنة" و "خشناء" . من الخشونة. وهو الأحرش من كل شيء. ويقال. "رجل أخشن، خشن" .

(2)
"الرضف" (بفتح فسكون) : الحجارة المحماة على النار، والعرب يوغرون بها اللبن، ويشوون عليها اللحم.

(3)
"نغض الكتف" (بضم فسكون، أو فتح فسكون) و "ناغض الكتف" ، هو عند أعلى الكتف، عظم رقيق على طرفه، ينغض إذا مشى الماشي، أي يتحرك.

(4)
"يتزلزل" ، أي يتحرك ويضطرب، كأنه يزل مرة بعد أخرى، يقول: يضطرب الرضف المحمي نازلا من نغض الكتف حتى يخرج من حلمة الثدي.

(5)
الأثر 16676 - "الجريري" ، هو "سعيد بن إياس الجريري" الحافظ المشهور، روى له الجماعة، مضى برقم: 196، 12274.

و "أبو العلاء بن الشخير" ، هو "يزيد بن عبد الله بن الشخير" ثقة وروى له الجماعة. مضى برقم 15514، 15515.
وهذا الخبر رواه البخاري بنحوه مطولا في صحيحه (الفتح 3: 128) - ورواه مسلم في صحيحه 7 / 77 بلفظه من هذا الطريق مطولا أيضا.
ظهورهم! ثم انطلق وهو يتذمَّر يقول (1) ما عسى تصنعُ بي قريش!! (2)
16678- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال أبو ذر: بشر أصحاب الكنوز بكيٍّ في الجباه، وكيٍّ في الجنوب، وكيٍّ في الظهور.
16679- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (يوم يحمى عليها في نار جهنم) ، قال: حية تنطوي على جبينه وجبهته تقول: أنا مالُك الذي بخلت به! (3)
16680- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: من ترك بعدَه كنزا مثَلَ له يوم القيامة شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان، (4) يتبعه يقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك! فلا يزال يتبعه حتى يُلْقِمه يده فيقضمها، ثم يتبعه سائر جسده. (5)
(1)
"يتذمر" ، أي: يصخب من الغضب، كأنه يعاتب نفسه.

(2)
الأثر: 16677 - "عمرو بن قيس الملائي، ثقة، مضى مرارا."

و "عمرو بن مرة الجملي" ، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارا.
و "أبو نصر" ، لم أعرف من هو؟
(3)
الأثر: 16679 - "قابوس بن أبي ظبيان الجنبي" ، ضعيف، لا يحتج به، مضى برقم: 9745، 10683.

وأبوه: "أبو ظبيان الجنبي" ، هو "حصين بن جندب" ، ثقة، روى له الجماعة، مضى أيضا برقم: 9745، 10683.
وانظر ما سلف في حديث ابن مسعود رقم: 8285 - 8289.
(4)
"الشجاع" ، ضرب من الحيات مارد خبيث. "والأقرع" ، هو الذي لا شعر له على رأسه، قد تمعط عليه رأسه لكثرة سمه، وطول عمره. و "الزبيبتان" : نكتتان سوداوان تكونان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه.

(5)
الأثر: 16680 - "سالم بن أبي الجعد الأشجعي" ، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 4244، 11546، 16661 - 16666.

و "معدان بن أبي طلحة الكناني" ، تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 38، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 404.
وهذا الخبر، ذكره ابن كثير في تفسيره 4: 157، وقال: "رواه ابن حبان في صحيحه من حديث يزيد بن سعيد، به. وأصل هذا الحديث في الصحيحين، من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي الله عنه = وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة" ، وذكر الخبر.
16681- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: بلغني أن الكنوز تتحوَّل يوم القيامة شجاعًا يتبع صاحبه وهو يفرُّ منه، ويقول: أنا كنزك! لا يدرك منه شيئًا إلا أخذه.
16682- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: والذي لا إله غيره، لا يكوى عبد بكنز فيمسُّ دينارٌ دينارًا ولا درهم درهمًا، ولكن يوسع جلده، فيوضع كل دينار ودرهم على حِدَته. (1)
16683- قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: ما من رجل يكوَى بكنز فيوضع دينار على دينارٍ ولا درهم على درهم، ولكن يوسَّع جلده. (2)
* * *
(1)
الأثر: 16682 - هذا الخبر، ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 29، 30، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح" .

وذكره ابن كثير في تفسيره 4: 156، وقال: "وقد رواه ابن مردويه، عن أبي هريرة مرفوعا، ولا يصح رفعه، والله أعلم" .
وذكره السيوطي في الدر المنثور 3: 233، ونسبه إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، لم يذكر ابن جرير.
(2)
الأثر: 16683 - هو مكرر الأثر السالف، بإسناد آخر، مختصرا.

القول في تأويل قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، الذي كتبَ فيه كل ما هو كائن في قضائه الذي قضى = (يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، يقول: هذه الشهور الاثنا عشر منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن، وتحرِّمهن، وتحرِّم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يَهِجْهُ، وهن: رجب مُضر وثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
16684- حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنًى في أوسط أيام التشريق، فقال: يا أيها الناس، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، أوّلهن رجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. (1)
(1)
الأثر: 16684 - "موسى بن عبد الرحمن المسروقي" ، شيخ الطبري، مضى مرارا، آخرها رقم 8906.

و "زيد بن حباب العكلي" ، مضى مرارا، منها رقم: 11134.
و "موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي" ، ضعيف جدا، منكر الحديث مضى مرارا، منها رقم: 11134.
و "صدقة بن يسار الجزري" ، مكي ثقة، روى عن ابن عمر. مترجم في التهذيب والكبير 2 / 2/ 294، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 428.
وهذا إسناد ضعيف، لضعف موسى بن عبيدة الربذي.
16685- حدثنا محمد بن معمر قال، حدثنا روح قال، حدثنا أشعث عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ورجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان. (1) "
16686- حدثنا يعقوب قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجبُ مضر الذي بين جمادى وشعبان. (2)
(1)
الأثر: 16685 - "محمد بن معمر بن ربعي البحراني" ، شيخ الطبري، ثقة من شيوخ البخاري ومسلم، مضى برقم: 241، 3056، 5393.

و "روح" ، هو "روح بن عبادة القيسي" ، ثقة، مضى مرارًا كثيرة.
و "أشعث" ، هو "أشعث بن عبد الملك الحمراني" ، ثقة مأمون، مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 1 \ 431، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 275.
وهذا الخبر، نقله ابن كثير في تفسيره 4: 160، عن هذا الوضع، ثم قال: "رواه البزار، عن محمد بن معمر، به، ثم قال: لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه" .
(2)
الأثر: 16686 - هذا خبر منقطع الإسناد، لأن محمد بن سيرين لم يسمع من أبي بكرة، ووصله البخاري في مواضع صحيحه، من طريق "أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة" (الفتح 1: 145، 177، 178 \ 3: 459 \ 6: 210، 211 \ 8: 83، 244) ، مطولا.

ووصله مسلم أيضًا في صحيحه 11: 167.
ورواه أحمد في مسنده 5: 37، منقطعا، كما رواه الطبري، وقد استوفى الحافظ ابن حجر، تفصيل القول في ذلك في الفتح، في المواضع التي ذكرتها آنفًا.
والحديث صحيح متفق عليه.
16687- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سليمان التيمي قال، حدثني رجل بالبحرين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجبُ الذي بين جمادى وشعبان "."
16688- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح قوله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان.
16689- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم منًى: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان "."
* * *
وهو قول عامة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16690- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، أما (أربعة حرم) ، فذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وأما (كتاب الله) ، فالذي عنده.
16691- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (إن عدة الشهور عند الله
اثنا عشر شهرًا) ، قال: يعرف بها شأن النسيء ما نقص من السنة.
16692- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قول الله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله) ، قال: يذكر بها شأن النسيء.
* * *
وأما قوله: (ذلك الدين القيم) ، فإن معناه: هذا الذي أخبرتكم به، من أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، وأن منها أربعة حرمًا: هو الدين المستقيم، كما:-
16693- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ذلك الدين القيم) ، يقول: المستقيم.
16694- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في قوله: (ذلك الدين القيم) ، قال: الأمر القيم. يقول: قال تعالى: واعلموا، أيها الناس، أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن، وأن من هذه الاثنى عشر شهرًا أربعةُ أشهرٍ حرمًا، ذلك دين الله المستقيم، لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة، وتحريمه ما يحرِّمه منها. (1)
وأما قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، فإن معناه: فلا تعصوا الله فيها، ولا تحلُّوا فيهن ما حرَّم الله عليكم، فتكسبوا أنفسكم ما لا قِبَل لها به من سخط الله وعقابه. كما:-
(1)
"النسئ" ، هكذا جاءت في المخطوطة أيضًا، بمعنى "الناسئ" ، وهو الذي كان يحلل لهم الشهر ويحرمه. وأخشى أن يكون وهمًا من الناسخ، فإن "النسئ" على وزن "فعيل" ، وهو بمعنى "مفعول" ، أو مصدر "نسأ الشهر" ، ولم أرهم قالوا في الرجل إلا "ناسئ" ، وجمعه "نسأة" ، مثل "فاسق" و "فسقة" .

وانظر ما سيأتي في تفسير "النسئ" ص: 343، والخبر رقم: 16708، 16709، والتعليق هناك.
16695- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: الظلم العمل بمعاصي الله، والترك لطاعته.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه "الهاء" ، و "النون" في قوله: (فيهن) .
فقال بعضهم: عاد ذلك على "الاثنى العشر الشهر" ، (1) وقال: معناه: فلا تظلموا في الأشهر كلِّها أنفسكم.
* ذكر من قال ذلك:
16696- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، في كلِّهن. ثم خصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حُرُمًا، وعظّم حُرُماتهن، وجعل الذنبَ فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
16697- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: في الشهور كلها.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرُم أنفسكم = و "الهاء والنون" عائدة على "الأشهر الأربعة" .
* ذكر من قال ذلك:
16698- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أما قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، فإن الظلم في الأشهر الحرم
(1)
في المطبوعة: "على الاثنى عشر شهرًا" ، وأثبت ما في المخطوطة.

أعظم خطيئةً ووِزْرًا، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء. وقال: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسُلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلةَ القدر، فعظِّموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في تصييركم حرامَ الأشهر الأربعة حلالا وحلالها حرامًا = أنفسَكم.
* ذكر من قال ذلك:
16699- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا) ، إلى قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ،: أي: لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حرامًا، كما فعل أهل الشرك، فإنما النسيء، الذي كانوا يصنعون من ذلك، (زيادة في الكفر يُضَل به الذين كفروا) ، الآية. (1)
166700- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: "ظلم أنفسكم" ، أن لا تحرِّموهن كحرمتهن.
16701- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن علي: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: "ظلم أنفسكم" ، أن لا تحرِّموهن كحرمتهن.
16702- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
(1)
الأثر: 16699 - سيرة ابن هشام 4: 193، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16615.

سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد، بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسَكم، باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظَّم حرمتها.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويله، لقوله: (فلا تظلموا فيهن) ، فأخرج الكناية عنه مُخْرَج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة. وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة، إذا كَنَتْ عنه: "فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون، ولأربعة أيام بقين" وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين قالت: "فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت، ولأربع عشرة مضت" = فكان في قوله جل ثناؤه: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، وإخراجِه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة، الدليلُ الواضح على أن "الهاء والنون" ، من ذكر الأشهر الأربعة، دون الاثنى العشر. لأن ذلك لو كان كناية عن "الاثنى عشر شهرًا" ، لكان: فلا تظلموا فيها أنفُسكم. (1)
* * *
فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكون ذلك كنايةً عن "الاثنى عشر" ، وإن كان الذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب؟ فقد علمت أن [من] المعروف من كلامها، (2) إخراجُ كناية ما بين الثلاث إلى العشر، بالهاء دون النون، وقد قال الشاعر: (3)
(1)
انظر معاني القرآن للفراء 1: 435.

(2)
في المطبوعة والمخطوطة: "أن المعروف من كلامها" ، والسياق يقتضي إثبات ما أثبت بين القوسين، لأن هذا القائل، أقر أولا بأن ما قاله الطبري هو "المعروف من كلامها" ، أي المشهور المتفق عليه. فالجيد أن يعترض عليه بشيء آخر، هو "الجائز في كلامها" ، فمن أجل هذا المعنى زدت "من" بين القوسين، ليستقيم منطق الكلام.

(3)
هو عمر بن لجأ التيمي.



https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif


ابوالوليد المسلم 17-07-2025 11:03 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (765)
صــ 241 إلى صــ 250





أَصْبَحْنَ فِي قُرْحٍ وَفِي دَارَاتِها ... سَبْعَ لَيَالٍ غَيْرَ مَعْلُوفَاتِهَا (1)
ولم يقل: "معلوفاتهن" ، وذلك كناية عن "السبع" ؟
قيل: إن ذلك وإن كان جائزًا، فليس الأفصحَ الأعرفَ في كلامها. وتوجيهُ كلام الله إلى الأفصح الأعرف، أولى من توجيهه إلى الأنكر.
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فقد يجب أن يكون مباحًا لنا ظُلْم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة؟
قيل: ليس ذلك كذلك، بل ذلك حرام علينا في كل وقتٍ وزمانٍ، ولكن الله عظَّم حرمة هؤلاء الأشهر وشرَّفهن على سائر شهور السنة، فخصّ الذنب فيهن بالتعظيم، كما خصّهن بالتشريف، وذلك نظير قوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) [سورة البقرة: 238] ، ولا شك أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله: (حافظوا على الصلوات) ، ولم يبح ترك المحافظة عليهن، بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى، ولكنه تعالى ذكره زادَها تعظيمًا، وعلى المحافظة عليها توكيدًا وفي تضييعها تشديدًا. فكذلك ذلك في قوله: (منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ،.
* * *
وأما قوله: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ، فإنه يقول جل ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله، أيها المؤمنون، جميعًا غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعًا، مجتمعين غير متفرقين، كما:-
16703- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
(1)
حماسة أبي تمام 4: 157، ومعاني القرآن للفراء 1: 435. واللسان (قرح) ، غير منسوبة ودل على أنها لعمر بن لجأ، أبيات رواها الأصمعي في الأصمعيات ص: 25، 26 و "قرح" (بضم القاف وسكون الراء) ، هو سوق وادي القرى، صلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنى به مسجدا، ورواية الحماسة واللسان، "حبسن في قرح" .


حدثنا أسباط، عن السدي: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ، أما "كافة" ، فجميع، وأمركم مجتمع.
16704- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وقاتلوا المشركين كافة) ، يقول: جميعًا.
* * *
16705- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وقاتلوا المشركين كافة) ،: أي: جميعا.
* * *
و "الكافة" في كل حال على صورة واحدة، لا تذكّر ولا تجمع، لأنها وإن كانت بلفظ "فاعلة" ، فإنها في معنى المصدر، ك "العافية" و "العاقبة" ، ولا تدخل العربُ فيها "الألف واللام" ، لكونها آخر الكلام، مع الذي فيها من معنى المصدر، كما لم يدخلوها إذا قاتلوا: "قاموا معًا" ، و "قاموا جميعا" . (1)
* * *
وأما قوله: (واعلموا أن الله مع المتقين) ، فإن معناه: واعلموا، أيها المؤمنون بالله، أنكم إن قاتلتم المشركين كافة، واتقيتم الله فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم، ولم تخالفوا أمره فتعصوه، كان الله معكم على عدوكم وعدوه من المشركين، ومن كان الله معه لم يغلبه شيء، (2) لأن الله مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه.
* * *
(1)
انظر تفسير "كافة" فيما سلف 4: 257، 258، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 436.

(2)
انظر تفسير "مع" فيما سلف 13: 576 تعليق: 2، والمراجع هناك.

القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما النّسيء إلا زيادة في الكفر.
* * *
و "النسيء" مصدر من قول القائل: "نسأت في أيامك، ونسأ الله في أجلك" ، أي: زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك، حتى تبقى فيها حيًّا. وكل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه: "نسيء" . ولذلك قيل للبن إذا كُثِّر بالماء: "نسيء" ، وقيل للمرأة الحبلى: "نَسُوء" ، و "نُسِئت المرأة" ، لزيادة الولد فيها، وقيل: "نسأتُ الناقة وأنسأتها" ، إذا زجرتها ليزداد سيرها.
وقد يحتمل أن: "النسيء" ، "فعيل" صرف إليه من "مفعول" ، كما قيل: "لعينٌ" و "قتيل" ، بمعنى: ملعون ومقتول. ويكون معناه: إنما الشهر المؤخَّر زيادة في الكفر.
وكأنّ القول الأوّل أشبه بمعنى الكلام، وهو أن يكون معناه: إنما التأخير الذي يؤخِّره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة، وتصييرهم الحرام منهن حلالا والحلال منهن حرامًا، زيادة في كفرهم وجحودهم أحكامَ الله وآياته.
* * *
وقد كان بعض القرأة يقرأ ذلك: (إِنَّمَا النَّسْيُ) بترك الهمز، وترك مدِّه: (يضل به الذين كفروا) ،.
* * *
واختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة الكوفيين: (يَضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بمعنى: يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه، الذين كفروا.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا) ، بمعنى: يزول عن محجة الله التي جعلها لعباده طريقًا يسلكونه إلى مرضاته، الذين كفروا.
* * *
وقد حكي عن الحسن البصري: (يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا) ، بمعنى: يضل بالنسيء الذي سنه الذين كفروا، الناسَ.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان، قد قرأت بكل واحدةٍ القرأة أهل العلم بالقرآن والمعرفة به، وهما متقاربتا المعنى. لأن من أضله الله فهو "ضال" ، ومن ضل فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ. فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب في ذلك مصيبٌ.
* * *
وأما الصواب من القراءة في "النسيء" ، فالهمزة، وقراءته على تقدير "فعيل" لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه.
* * *
وأما قوله: (يحلونه عامًا) ، فإن معناه: يُحلُّ الذين كفروا النسيء = و "الهاء" في قوله: (يحلونه) ، عائدة عليه.
ومعنى الكلام: يحلُّون الذي أخَّروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم، عامًا = (ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، يقول: ليوافقوا بتحليلهم ما حلَّلوا من الشهور، وتحريمهم ما حرموا منها، عدّة ما حرّم الله (1) = (فيحلوا ما حرّم الله زُيِّن لهم سوء أعمالهم) ، يقول: حُسِّن لهم وحُبِّب إليهم سيئ أعمالهم وقبيحها،
(1)
انظر تفسير "عدة" فيما سلف 3: 459 \ 14: 234.

وما خولف به أمرُ الله وطاعته (1) = (والله لا يهدي القوم الكافرين) ، يقول: والله لا يوفق لمحاسن الأفعال وجميلها، (2) وما لله فيه رضًى، القومَ الجاحدين توحيدَه، والمنكرين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يخذّلهم عن الهُدى، كما خذَّل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16706- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: "النسيء" ، هو أن "جُنَادة بن عوف بن أمية الكناني" ، كان يوافي الموسم كلَّ عام، وكان يُكنى "أبا ثُمَامة" ، (4) فينادي: "ألا إنّ أبا ثمامة لا يُحَابُ ولا يُعَابُ، (5) ألا وإن صَفَر العامِ الأوَّلِ العامَ حلالٌ" ، (6) فيحله الناس، فيحرم صَفَر عامًا، ويحرِّم المحرم عامًا، فذلك قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى قوله: (الكافرين) . وقوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، يقول: يتركون المحرم عامًا، وعامًا يحرِّمونه.
* * *
(1)
انظر تفسير "زين" فيما سلف ص: 7: تعليق: 1، والمراجع هناك.

(2)
في المطبوعة: "لمحاسن الأفعال وحلها" ، لم يحسن قراءة المخطوطة، وصوابه ما أثبت.

(3)
انظر تفسير "هدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .

(4)
انظر أخبار "النسأة" ، وخبر "جنادة بن عوف بن أمية" في سيرة ابن هشام 1: 44 - 47، والمحبر: 156، 157، وغيرهما. و "جنادة بن عوف" ، هو الذي قام عليه الإسلام من النسأة.

(5)
كان في المطبوعة: "لا يجاب" بالجيم، ووردت بالجيم في كثير من الكتب، منها لسان العرب (نسأ) ، ولكنه ورد في المحبر: 157، بالحاء المهملة، وهو من "الحوب" ، أي: الإثم، أي: لا ينسب إلى الإثم. وانظر الخبر التالي رقم: 16710.

(6)
في المطبوعة: "صفر العام الأول حلال" ، حذف "العام" الثانية، وهي ثابتة في المخطوطة.

قال أبو جعفر: وهذا التأويلُ من تأويل ابن عباس، يدل على صحة قراءة من قرأ (النَّسْيُ) ، بترك الهمزة وترك المدّ، وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه "فَعْلٌ" ، من قول القائل: "نسيت الشيء أنساه" ، ومن قول الله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) ، [سورة التوبة: 67] ، بمعنى: تركوا الله فتركهم.
16707- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: فهو المحرَّم، كان يحرَّم عامًا، وصفرُ عامًا، وزيد صفرٌ آخر في الأشهر الحُرُم، وكانوا يحرمون صفرًا مرة، ويحلُّونه مرة، فعاب الله ذلك. وكانت هوازن وغطفان وبنو سُلَيْم تفعله.
16708- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: كان "النسيء" رجلا من بني كنانة، (1) وكان ذا رأي فيهم، وكان يجعل سنةً المحرمَ صفرًا، فيغزون فيه، فيغنمون فيه، ويصيبون، ويحرِّمه سنة.
16709- قال حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، الآية، وكان رجل من بني كنانة يُسَمَّى "النسيء" ، فكان يجعل المحرَّم صفرًا، ويستحل فيه الغنائم، فنزلت هذه الآية.
16710- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد قال، كان رجل من بني كنانة يأتي كلَّ عام في الموسم على حمار له، فيقول: "أيها الناس، إني لا أعاب ولا أحَابُ، (2) ولا مَرَدَّ لما أقول، إنَّا قد"
(1)
قوله: "كان النسيء رجلا" ، دال على صواب قوله هناك ص: 237، تعليق 1:، على أن "النسيء" في ذلك الموضع صواب أيضًا، وانظر الأثر التالي، قوله: "وكان رجل من بني كنانة يسمى النسيء" ، وهذا كله لم تذكره كتب اللغة التي بين يدي.

(2)
"أحاب" مضى تفسيرها ص: 243، تعليق: 2، وكانت هنا في المطبوعة أيضًا "أجاب" بالجيم.

حرمنا المحرَّم، وأخَّرنا صفر ". ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته، ويقول:" إنا قد حرَّمنا صفر وأخَّرنا المحرَّم "، فهو قوله: (ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، قال: يعني الأربعة = (فيحلوا ما حرم الله) ، لتأخير هذا الشهر الحرام."
16711- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، "النسيء" ، المحرّم، وكان يحرم المحرَّم عامًا ويحرِّم صفر عامًا، فالزيادة "صفر" ، وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلون صفر المحرم، فيحلوا ما حرم الله. وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يعظمونه، هم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية.
16712- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى قوله: (الكافرين) ، عمد أناسٌ من أهل الضلالة فزادوا صفرًا في الأشهر الحرم، فكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: "ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرَّم" ، فيحرمونه ذلك العام. ثم يقول في العام المقبل فيقول: "ألا إن آلهتكم قد حرمت صفر" ، فيحرمونه ذلك العام. وكان يقال لهما "الصفران" . قال: فكان أول من نَسَأ النسيء: بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة صفوان بني أمية أحد بني فقيم بن الحارث، ثم أحد بني كنانة. (1)
(1)
هكذا جاء في المخطوطة: "وكانوا ثلاثة" ، ثم لم يذكر غير واحد. وقوله: "أبو ثمامة، صفوان بن أمية" ، مضى قبل في الأثر رقم: 16706 أن "أبا ثمامة" هو "جنادة بن عوف بن أمية" ، أما صفوان هذا فقد ذكره أبو عبيد البكري في شرح الأمالي: 10، وقال: قال الليثي: كان الذي انبرى للنسئ، القلمس، وهو: صفوان بن محرث، أحد بني مالك بن كنانة، وكان له بذلك ملكة وأكل، وتوارثه بنوه إلى الإسلام ". ولكن الذي ذكره ابن حبيب في المحبر، وابن هشام في سيرته 1: 44. قال ابن إسحاق:" وكان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحلت ما أحل، وحرمت منها ما حرم: القلمس، وهو حذيفة بن عبد بن فقيم ابن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة. ثم قام بعده على ذلك، ابنه: عباد بن حذيفة. ثم قام بعد عباد: قلع بن عباد. ثم قام بعد قلع: أمية بن قلع. ثم قلم بعد أمية: عوف بن أمية. ثم قام بعد عوف: أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام ". وذلك ما قاله ابن حبيب، وما قاله ابن حزم في الجمهرة: 178، والمصعب الزبيري في نسب قريش: 12."

ولم أجد هذا الخبر في مكان آخر، فأعرف مقالة قتادة في أمر النسئ والنسأة.
و "صفوان بن محرث" الذي ذكره البكري، هو "صفوان بن أمية" المذكور في هذا الخبر، وهو: "صفوان بن أمية بن محرث بن بن خمل بن شق بن رقبة بن مخدج بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة" ، وكان أحد حكام العرب في الجاهلية، وأحد من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية (انظر المحبر: 133، 237 \ أمالي القالي 1: 240 وذكر شعره في تحريم الخمر) . وبين من هذا كله أن "صفوان بن أمية" ، ليس من "بني فقيم بن الحارث بن مالك" . بل من بني "مخدج بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك" .
ثم انظر ص: 250، تعليق: 1، وذكر "القلمس" للناسئ في شعر عبد الرحمن بن الحكم، وأمه هي: "آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية بن محرث" .
16713- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: فرض الله الحج في ذي الحجة. قال: وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة، يحجون فيه مرة، ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه، ثم يعودون فيسمُّون صفر صفر. ثم يسمون رجب جمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان ورمضان، ثم يسمون رمضانَ شوالا ثم يسمُّون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا بمثل هذه القصة، فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجةُ أبي بكر رضي الله عنه الآخرَ من العامين في ذي القعدة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجَّته التي حجَّ، فوافق ذا الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" .
16714- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: حجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجُّوا في صفر عامين، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، حتى وافقت حجة أبي بكر الآخرَ من العامين في ذي القعدة، قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابلٍ في ذي الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" .
16715- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثةَ عشرا شهرًا، فيجعلون المحرَّم صفرًا، فيستحلُّون فيه الحرمات. فأنزل الله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) .
16716- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا) ، الآية. قال: هذا رجل من بني كنانة يقال له: "القَلَمَّس" ، كان في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام، يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمُدّ إليه يده. فلما كان هو، قال: "أخرجوا بنا" ، قالوا له: "هذا المحرَّم" ! فقال: "ننسئه العام، هما العام صفران، فإذا كان عام قابلٍ قضينا، فجعلناهما محرَّمَين" . قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: "لا تغزوا في صفر، حرِّموه مع المحرم، هما محرَّمان، المحرَّم أنسأناه عامًا أوَّلُ ونقضيه. ذلك" الإنساء "، وقال منافرهم: (1) "
(1)
في المطبوعة: "وقال شاعرهم" ، وأثبت ما في المخطوطة. و "المنافر" ، هو المفاخر في المنافرة. قال ابن سيده: "وكأنما جاءت المنافرة، في أول ما استعملت، أنهم كانوا يسألون الحاكم: أينا أعز نفرا؟" . و "المنافرة" : هي أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكما بينهما رجلا.

وَمِنَّا مُنْسِي الشُّهُورِ القَلَمَّسُ (1)
وأنزل الله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى آخر الآية.
* * *
وأما قوله: (زيادة في الكفر) ، فإن معناه زيادة كُفْر بالنسيء، إلى كفرهم بالله قبلَ ابتداعهم النسيء، (2) كما:-
16717- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، يقول: ازدادوا به كفرًا إلى كفرهم.
* * *
وأما قوله: (ليواطئوا) ، فإنه من قول القائل: "واطأت فلانا على كذا أواطئه مُواطأة" ، إذا وافقته عليه، معينًا له، غير مخالف عليه.
* * *
وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-
16718- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، يقول: يشبهون.
* * *
(1)
هكذا جاء في المخطوطة مضطرب الميزان، وذكره القرطبي في تفسيره 8: 138. ومنا ناسئ الشهر القلمس

وهو أيضًا غير مستقيم، والذي وجدته، هو ما قاله عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، قال: نمَانِي أبُو العَاصِي الأمِينُ وَهَاشِمٌ ... وعُثْمانُ، والنَّاسِي الشُّهُورَ القَلَمَّسُ
وأم عبد الرحمن بن الحكم، ومروان بن الحكم، هي: "آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية بن محرث بن خمل بن شق" ، و "صفوان" هذا هو الذي جاء ذكره في الخبر رقم: 16712، وأنه كان من "النسأة" ، وكل ناسئ كان يقال له: "القلمس" ، فهذا البيت يؤيد ما قاله قتادة بعض التأييد. وانظر البيت الذي ذكرته في نسب قريش للمصعب الزبيري ص: 98.
(2)
في المطبوعة: "وقيل: ابتداعهم النسئ" ، غير ما في المخطوطة، فأفسد الكلام كله.

https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 17-07-2025 11:07 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (766)
صــ 251 إلى صــ 260





قال أبو جعفر: وذلك قريب المعنى مما بَيَّنَّا، وذلك أن ما شابه الشيء، فقد وافقه من الوجه الذي شابهه.
وإنما معنى الكلام: أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرِّمونها، عدة الأشهر الأربعة التي حرَّمها الله، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها، وإن قدَّموا وأخَّروا. فذلك مواطأة عِدتهم عدَّةَ ما حرّم الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (38) }
قال أبو جعفر: وهذه الآية حثٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم، وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك.
يقول جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله = (ما لكم) ، أيّ شيء أمرُكم = (إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله) ، يقول: إذا قال لكم رسولُ الله محمدٌ = (انفروا) ، أي: اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم.
* * *
وأصل "النفر" ، مفارقة مكان إلى مكان لأمرٍ هاجه على ذلك. ومنه: "نفورًا الدابة" . غير أنه يقال: من النفر إلى الغزو: "نَفَر فلان إلى ثغر كذا ينْفِر نَفْرًا ونَفِيرًا" ، وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرِّقون بها بين اختلاف المخبر عنه، (1)
(1)
يعني أبو جعفر، أنهم لم يقولوا في النفر إلى الغزو "نفورا" في مصدره، وقد أثبتت كتب اللغة أنه يقال في مصدره "نفر إلى الغزو نفورا" .

وإن اتفقت معاني الخبر. (1)
* * *
فمعنى الكلام: ما لكم أيها المؤمنون، إذا قيل لكم: اخرجُوا غزاة = "في سبيل الله" ، أي: في جهاد أعداء الله (2) = (اثَّاقلتم إلى الأرض) ، يقول: تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها.
* * *
وقيل: "اثّاقلتم" لإدغام "التاء" في "الثاء" فأحدثتْ لها ألف. (3) ليُتَوصَّل إلى الكلام بها، لأن "التاء" مدغمة في "الثاء" . ولو أسقطت الألف، وابتدئ بها، لم تكن إلا متحركة، فأحدثت الألف لتقع الحركة بها، كما قال جل ثناؤه: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا) ، [سورة الأعراف: 38] ، وكما قال الشاعر: (4)
تُولِي الضَّجِيعَ إذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا ... عَذْبَ المَذَاقِ، إذَا مَا أتَّابَعَ القُبَلُ (5)
[فهو من "الثقل" ، ومجازه مجاز "افتعلتم" ] ، من "التثاقل" . (6)
وقوله: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) ، يقول جل ثناؤه، أرضيتم بحظ الدنيا والدّعة فيها، عوضًا من نعيم الآخرة، وما عند الله للمتقين في جنانه = (فما
(1)
انظر "النفر" فيما سلف 8: 536، ولم يفسره هناك.

(2)
انظر تفسير "سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .

(3)
في المطبوعة: "لأنه أدغم التاء في الثاء فأحدث لها ألف" ، وكان في المخطوطة: "لأنه غام" ، فلم يحسن قراءتها، فغير الكلام، فأثبته على الصواب من المخطوطة. وانظر ما سلف في الإدغام 2: 224.

(4)
لم أعرف قائله

(5)
مضى شرحه وتفسيره آنفًا 2: 223، ومعاني القرآن للفراء 1: 438.

(6)
مكان هذه الجملة في المطبوعة: "فهو بنى الفعل افتعلتم من التثاقل" ، وهو كلام غث جدا. وفي المخطوطة: "فهو بين الفعل افتعلتم من التثاقل" ، غير منقوط، وصححت هذه العبارة اجتهادا، مؤتنسًا بما قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 260، قال: "ومجاز: اثاقلتم، مجاز: افتعلتم، من التثاقل، فأدغمت التاء في الثاء، فثقلت وشددت" . يعني أبو عبيدة: أنك لو بنيت "افتعل" من "الثقل" ، كان واجبا إدغام التاء في الثاء. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 437، 438.

متاع الحياة الدنيا في الآخرة) ، يقول: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذَّاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدَّها الله لأوليائه وأهل طاعته (1) = (إلا قليل) ، يسير. يقول لهم: فاطلبوا، أيها المؤمنون، نعيم الآخرة، وشرف الكرامة التي عند الله لأوليائه، (2) بطاعتِه والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوِّه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16719- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) ، أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد حنين. أمروا بالنَّفير في الصيف، حين خُرِفت النخل، (3) وطابت الثمار، واشتَهُوا الظلال، وشقّ عليهم المخرج.
16720- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) الآية، قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف. أمرهم بالنَّفير في الصيف، حين اختُرِفت النخل، وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشقَّ عليهم المخرج. قال: فقالوا: "الثقيل" ، ذو الحاجة، والضَّيْعة، والشغل، (4) والمنتشرُ به أمره في ذلك كله. فأنزل الله: (انفروا خفافا وثقالا) ، [سورة التوبة: 41]
* * *
(1)
انظر تفسير "متاع" فيما سلف من فهارس اللغة (متع) .

(2)
في المطبوعة: "وترف الكرامة" ، والصواب ما في المخطوطة.

(3)
"خرف النخل يخرفه خرفًا، واخترفه اخترافًا" ، صرم ثمره واجتناه بعد أن يطيب.

(4)
في المطبوعة: "فقالوا: منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة ..." ، غير ما في المخطوطة، وكان في المخطوطة ما أثبت. وهو مقبول، مع شكي في أن يكون سقط من الكلام شيء. وقوله: "الثقيل: ذو الحاجة والضيعة" هو تفسير قوله تعالى: (انفروا خفافًا وثقالا) ، جمع "ثقيل" ، كما سترى في تفسير الآية ص: 262 وما بعدها.

القول في تأويل قوله: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله، متوعِّدَهم على ترك النَّفْر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا، أيها المؤمنون، إلى من استنفركم رسول الله، يعذّبكم الله عاجلا في الدنيا، بترككم النَّفْر إليهم، عذابًا مُوجعًا (1) = (ويستبدل قومًا غيركم) ، يقول: يستبدل الله بكم نبيَّه قومًا غيرَكم، ينفرون إذا استنفروا، ويجيبونه إذا دعوا، ويطيعون الله ورسوله (2) = (ولا تضروه شيئا) ، يقول: ولا تضروا الله، بترككم النّفير ومعصيتكم إياه شيئًا، لأنه لا حاجة به إليكم، بل أنتم أهل الحاجة إليه، وهو الغني عنكم وأنتم الفقراء = (والله على كل شيء قدير) ، يقول جل ثناؤه: والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم، وعلى كل ما يشاء من الأشياء، قدير. (3)
* * *
وقد ذكر أن "العذاب الأليم" في هذا الموضع، كان احتباسَ القَطْر عنهم.
* ذكر من قال ذلك:
16721- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثني عبد المؤمن بن خالد الحنفي قال، حدثني نجدة الخراساني قال: سمعت ابن عباس، سئل عن قوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، قال: إن رسول الله
(1)
انظر تفسير "النفر" فيما سلف قريبا ص: 249.

(2)
انظر تفسير "الاستبدال" فيما سلف 8: 123، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(3)
انظر تفسير "قدير" فيما سلف من فهارس اللغة (قدر)

صلى الله عليه وسلم استنفر حيًّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر، فكان ذلك عذابَهم، فذلك قوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليما) . (1)
16722- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبد المؤمن، عن نجدة قال: سألت ابن عباس، فذكر نحوه = إلا أنه قال: فكان عذابهم أنْ أمسك عنهم المطر. (2)
16723- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، استنفر الله المؤمنين في لَهَبَان الحرِّ في غزوة تبوك قِبَل الشأم، (3) على ما يعلم الله من الجَهْد.
* * *
وقد زعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
16724- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، وقال: (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا
(1)
الأثر: 16721 - "زيد بن الحباب العكلي" ، سلف مرارًا، آخرها رقم: 16684.

و "عبد المؤمن بن خالد الحنفي" ، ثقة، مضى برقم 11914.
و "نجدة الخراساني" هو: "نجدة بن نفيع الحنفي" ، ثقة، مضى أيضًا برقم: 11914.
وهذا الخبر، رواه الطبري فيما يلي برقم: 16722، من طريق يحيى بن واضح، عن عبد المؤمن.
ورواه أبو داود في سننه 3: 16، رقم: 2506، من طريق زيد بن الحباب، مختصرًا، ورواه البيهقي في السنن 9: 48، بنحوه. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 239، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، وصححه الحاكم.
(2)
الأثر: 16722 - هو مكرر الأثر السالف، وهذا أيضا لفظ أبي داود والبيهقي: "المطر" ، من طريق زيد بن الحباب السالف.

(3)
"لهبان الحر" ، (بفتح اللام والهاء) ، شدته في الرمضاء. ويقال: "يوم لهبان" ، صفة، أي شديد الحر. و "اللهبان" مصدر مثل: اللهب، واللهيب، واللهاب (بضم اللام) ، وهو اشتعال النار إذا خلصت من الدخان.

عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ، إلى قوله: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، فنسختها الآية التي تلتها: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) ، إلى قوله: (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، [سورة التوبة: 120 - 122] .
* * *
قال أبو جعفر: ولا خبرَ بالذي قال عكرمة والحسن، من نسخ حكم هذه الآية التي ذكَرا، (1) يجب التسليم له، ولا حجةَ نافٍ لصحة ذلك. (2) وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عددٌ من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعدُ، وجائزٌ أن يكون قوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، الخاص من الناس، ويكون المراد به من استنفرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر، على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس.
وإذا كان ذلك كذلك، كان قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، نهيًا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمنٍ مقيم فيها، وإعلامًا من الله لهم أن الواجب النَّفرُ على بعضهم دون بعض، وذلك على من استُنْفِرَ منهم دون من لم يُسْتَنْفَر. وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيًا فيما عُنِيَتْ به.
* * *
(1)
في المطبوعة: "التي ذكروا" ، والصواب من المخطوطة.

(2)
في المطبوعة: "ولا حجة تأتي بصحة ذلك" وفي المخطوطة: "ولا حجة بات بصحة ذلك" ، غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.

القول في تأويل قوله: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، = وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به، وهو من العدد في قلة، والعدوُّ في كثرة، فكيف به وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة؟
يقول لهم جل ثناؤه: إلا تنفروا، أيها المؤمنون، مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه، فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم; كما نصره = (إذ أخرجه الذين كفروا) ، بالله من قريش من وطنه وداره = (ثاني اثنين) ، يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين، أي: واحد من الاثنين.
* * *
وكذلك تقول العرب: "هو ثاني اثنين" يعني: أحد الاثنين، و "ثالث ثلاثة، ورابع أربعة" ، يعني: أحد الثلاثة، وأحد الأربعة. وذلك خلاف قولهم: "هو أخو ستة، وغلام سبعة" ، لأن "الأخ" ، و "الغلام" غير الستة والسبعة، "وثالث الثلاثة" ، أحد الثلاثة.
* * *
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: (ثاني اثنين) ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، لأنهما كانا اللذين خرجَا هاربين من قريش إذ همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار.
* * *
وقوله: (إذ هما في الغار) ، يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
رحمة الله عليه، في الغار.
* * *
و "الغار" ، النقب العظيم يكون في الجبل.
* * *
= (إذ يقول لصاحبه) ، يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر، (لا تحزن) ، وذلك أنه خافَ من الطَّلَب أن يعلموا بمكانهما، فجزع من ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن" ، لأن الله معنا والله ناصرنا، (1)
فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا.
يقول جل ثناؤه: فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد، فكيف يخذله ويُحْوِجه إليكم، وقد كثَّر الله أنصاره، وعدد جنودِه؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16725- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا تنصروه) ، ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثَه. يقول الله: فأنا فاعلٌ ذلك به وناصره، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
16726- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله) ، قال: ذكر ما كان في أول شأنه حين بُعثَ، فالله فاعلٌ به كذلك، ناصره كما نصره إذ ذاك (ثانيَ اثنين إذ هما في الغار) .
16727- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله) ، الآية، قال: فكان صاحبَه أبو بكر، وأما
(1)
انظر تفسير "مع" فيما سلف ص: 240، تعليق: 2، والمراجع هناك.

"الغار" ، فجبل بمكة يقال له: "ثَوْر" .
16728- حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وكان لأبي بكر مَنِيحةٌ من غَنَم تروح على أهله، (1) فأرسل أبو بكر عامر بن فهيرة في الغنم إلى ثور. وكان عامر بن فهيرةَ يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في ثور، وهو "الغار" الذي سماه الله في القرآن. (2)
16729- حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي قال، حدثنا عفان وحَبَّان قالا حدثنا همام، عن ثابت، عن أنس، أن أبا بكر رضي الله عنه حدَّثهم قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وأقدامُ المشركين فوق رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قَدَمَه أبصرنا! فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ (3)
(1)
"المنيحة" ، شاة أو ناقة يعيرها الرجل أخاه، يحتلبها وينتفع بلبنها سنة، ثم يردها إليه.

(2)
الأثر: 16728 - هذا جزء من كتاب عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان، والذي خرجته فيما سلف برقم: 16083، ومواضع أخرى كثيرة. وهذا الجزء من الكتاب في تاريخ الطبري 2: 246.

(3)
الأثر: 16729 - "يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي" ، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة في غير الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 302.

و "عفان" هو "عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار" ، ثقة، من شيوخ أحمد والبخاري، مضى برقم: 5392.
و "حبان" ، هو "حبان بن هلال الباهلي" ، ثقة، روى له الجماعة. مضى برقم: 5472. "حبان" بفتح الحاء لا بكسرها.
و "همام" هو "همام بن يحيى بن دينار الأزدي" ، ثقة روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها: 16306.
و "ثابت" هو "ثابت بن أسلم البناني" ، ثقة روى له الجماعة، مضى برقم: 2942، 7030.
وهذا الخبر رواه من طريق عفان بن مسلم، ابن سعد في الطبقات 3 \ 1 \ 123، وأحمد في مسنده رقم: 11، والترمذي في تفسير الآية.
ورواه من طريق حبان بن هلال، البخاري في صحيحه (الفتح 8: 245) ، ومسلم في صحيحه 15: 149.
ورواه البخاري من طريق محمد بن سنان، عن هلال في صحيحه (الفتح 7: 9) .
وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب، إنما يروى من حديث همام. وقد روى هذا الحديث حبان بن هلال، وغير واحد، عن همام، نحو هذا" .
وخرجه السيوطي في الدر 3: 242، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وأبي عوانة، وابن حبان، وابن المنذر، وابن مردويه.
16730- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قال: مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا.
16731- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: (إذ هما في الغار) ، قال: في الجبل الذي يسمَّى ثورًا، مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليالٍ.
16732- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبيه: أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال: أيُّكم يقرأ "سورة التوبة" ؟ (1) قال رجل: أنا. قال: اقرأ. فلما بلغ: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن) ، بكى أبو بكر وقال: أنا والله صاحبُه. (2)
* * *
(1)
في المخطوطة: "سورة البقرة" ، وهو خطأ أبين من أن يدل على تصحيحه.

(2)
الأثر: 16732 - "عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري" ، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 5973.

وأبوه "الحارث بن يعقوب بن ثعلبة، أو: ابن عبد الله، الأنصاري المصري" . ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1\ 2 \ 282، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 93.
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 17-07-2025 11:11 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (767)
صــ 261 إلى صــ 270





القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله (1) = وقد قيل: على أبي بكر = (وأيده بجنود لم تروها) ، يقول: وقوّاه بجنودٍ من عنده من الملائكة، لم تروها أنتم (2) = (وجعل كلمة الذين كفروا) ، وهي كلمة الشرك = (السُّفْلى) ، لأنها قُهِرَت وأذِلَّت، وأبطلها الله تعالى، ومحق أهلها، وكل مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب، والغالب هو الأعلى = (وكلمة الله هي العليا) ، يقول: ودين الله وتوحيده وقولُ لا إله إلا الله، وهي كلمتُه = (العليا) ، على الشرك وأهله، الغالبةُ، (3) كما:-
16733- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) ، وهي: الشرك بالله = (وكلمة الله هي العليا) ، وهي: لا إله إلا الله.
* * *
وقوله: (وكلمة الله هي العليا) ، خبر مبتدأ، غيرُ مردودٍ على قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) ، لأن ذلك لو كان معطوفًا على "الكلمة" الأولى، لكان نصبًا. (4)
* * *
(1)
انظر تفسير "السكينة" فيما سلف ص: 189، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(2)
انظر تفسير "التأييد" فيما سلف ص: 44، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(3)
انظر تفسير "الأعلى" فيما سلف 7: 234.

(4)
انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 438، وهو فصل جيد واضح.

وأما قوله: (والله عزير حكيم) ، فإنه يعني: (والله عزيز) ، في انتقامه من أهل الكفر به، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، ولا ينصر من عاقبه ناصر = (حكيم) ، في تدبيره خلقَه، وتصريفه إياهم في مشيئته. (1)
* * *
(1)
انظر تفسير "عزيز" و "حكيم" ، فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) .

القول في تأويل قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) }
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في معنى "الخفة" و "الثقل" ، اللذين أمر الله من كان به أحدهما بالنفر معه.
فقال بعضهم: معنى "الخفة" ، التي عناها الله في هذا الموضع، الشباب = ومعنى "الثقل" ، الشيخوخة.
* ذكر من قال ذلك:
16734- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن رجل، عن الحسن في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: شيبًا وشبّانًا.
16735- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن عمرو، عن الحسن قال: شيوخًا وشبانًا.
16736- قال، حدثنا ابن عيينة، عن علي بن زيد، عن أنس، عن أبي طلحة: (انفروا خفافا وثقالا) ، قال: كهولا وشبانًا، ما أسمع الله عَذَر واحدًا!! (1) فخرج إلى الشأم، فجاهد حتى مات. (2)
(1)
في المطبوعة: "عذر أحدًا" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(2)
الأثر: 16736 - "علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة" ، مضى مرارًا، وثقة.

أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: 4897، وقد تكلم فيه أحمد وغيره قال: "ضعيف الحديث" . و "أنس" هو "أنس بن مالك" خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و "أبو طلحة" ، هو "زيد بن سهل الأنصاري" ، صاحب رسول الله، شهد العقبة، وبدرا، المشاهد كلها.
وهذا الخبر، رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 2 \ 66 من طريق عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، وعلي بن يزيد، عن أنس، مطولا، بغير هذا اللفظ. ورواه الحاكم في المستدرك 3: 353، من هذه الطريق نفسها وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه" .
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 246، وزاد نسبته إلى ابن أبي عمر العدني في مسنده، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد الزهد، وأبي يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 312، بغير هذا اللفظ، وقال: "رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح" .
16737- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن المغيرة بن النعمان قال: كان رجل من النَّخع، وكان شيخًا بادنًا، فأراد الغزوَ، فمنعه سعد بن أبي وقاص فقال: إن الله يقول: (انفروا خفافًا وثقالا) ، فأذن له سعد، فقتل الشيخ، فسأل عنه بعدُ عُمَرُ، فقال: ما فعل الشيخ الذي كأنّه من بني هاشم؟ (1) فقالوا: قتل يا أمير المؤمنين! (2)
16738- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: الشابُّ والشيخ.
16739- قال، حدثنا أبو أسامة، عن مالك بن مغول، عن إسماعيل، عن عكرمة، قال: الشاب والشيخ.
16740- قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: كهولا وشبَّانًا.
16741- قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن جعفر بن حميد، عن بشر بن عطية: كهولا وشبانًا (3)
(1)
في المطبوعة: "كان من بني هاشم" ، وهو خطأ لا شك فيه، فإن الرجل "من النخع" ، كما ذكر قبل، والصواب ما في المخطوطة.

(2)
الأثر: 16737 - "المغيرة بن النعمان النخعي" ، ثقة، مضى برقم: 13622.

(3)
الأثر: 16741 - "حبويه، أبو يزيد" ، هو "إسحاق بن إسماعيل الرازي" ، مضى مرارًا، منها رقم: 15993، وكتب في المطبوعة: "حيوة" ، وغير ما في المخطوطة، وهو خطأ محض.

وأما "جعفر بن حميد" ، فلم أجد له ذكرًا في شيء من مراجعي، والذي يروي عنه يعقوب بن عبد الله القمي، هو: "جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي" ، والذي نقله ابن حجر في التهذيب في ترجمته عن أبي نعيم أن اسم "أبي المغيرة" هو: "دينار" لا "حميد" .
وأما "بشر بن عطية" ، فلم أجد من يسمى بهذا إلا "بشر بن عطية" ، رجل روى عنه مكحول، يقال هو صحابي، ويقال هو: "بشر بن عصمة المزني" ، انظر لسان الميزان 2: 26، 27، في الترجمتين، والإصابة في ترجمة الاسمين. وهذا كله مضطرب.
16742- حدثنا الوليد قال، حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: شبانًا وكهولا.
16743- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: شبابًا وشيوخًا، وأغنياء ومساكين.
16744- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، قال الحسن: شيوخًا وشبّانًا.
16745- حدثني سعيد بن عمرو قال، حدثنا بقية قال، حدثنا حَرِيز قال، حدثني حبان بن زيد الشرعبيّ قال: نفرنا مع صَفْوان بن عمرو، وكان واليًا على حمص قِبَلَ الأفْسوس، إلى الجَرَاجمة، (1) فلقيت شيخًا كبيرًا هِمًّا، (2) قد سقط حاجباه على عينيه، من أهل دمشق، على راحلته، فيمن أغار. (3) فأقبلت عليه فقلت: يا عمِّ، لقد أعذر الله إليك! قال: فرفع حاجبيه، فقال: يا ابن
(1)
"الأفسوس" ، بلد بثغور طرسوس، و "طرسوس" مدينة بثغور الشأم بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم.

و "الجراجمة" ، نبط الشأم، ويقال: هم قوم من العجم بالجزيرة.
وكان في المخطوطة: "قبل الأفسون إلى الحراصه" ، والصواب في المطبوعة وهو مطابق لما في تفسير ابن كثير 4: 176، نقلا عن هذا الموضع من الطبري.
(2)
"الهم" (بكسر الهاء) : الشيخ الكبير الفاني البالي.

(3)
في المخطوطة: "أعات" ، والصواب ما في المطبوعة، وهو موافق لما في ابن كثير.

أخي استنفرنا الله خفافًا وثقالا من يحبَّه الله يبتَليه، ثم يعيده فيبْتليه، (1) إنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله. (2)
16746- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: كل شيخ وشابّ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: مشاغيل وغير مشاغيل.
* ذكر من قال ذلك:
16747- حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الحكم في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: مشاغيل وغير مشاغيل.
* * *
وقال آخرون: معناه: انفروا أغنياء وفقراء.
* ذكر من قال ذلك:
(1)
في المطبوعة: "من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده فيبقيه" ، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب وحده.

(2)
الأثر: 16745 - "بقية" هو "بقية بن الوليد" ، سلف مرارًا كثيرة.

و "حريز" هو "حريز بن عثمان بن جبر الرحبي" ، ثقة مأمون، ثبت في الحديث، وإنما وضع منه من وضع، لأنه كان ينال من علي رضي الله عنه، ثم ترك ذلك. و "حريز" (بفتح الحاء، وكسر الراء) . وقال أبو داود: "شيوخ حريز، كلهم ثقات" . مترجم في التهذيب، والكبير 2\ 1 \ 96، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 289.
وكان في المطبوعة: "جرير" ، وهو في المخطوطة غير منقوط.
و "حبان بن زيد الشرعبي (بكسر الحاء من: حبان) ، أبو خداش الحمصي، ذكره ابن حبان في الثقات، وسلف قبل أن أبا داود، وثق جميع شيوخ حريز بن عثمان. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 78، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 269."
و "صفوان بن عمرو" ، كأنه هو "صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي" ، ثقة. والذي حملني على هذا الظن، أني رأيت في ترجمته في التهذيب عن أبي اليمان، عن صفوان: "أدركت من خلافة عبد الملك، وخرجنا في بعث سنة 94" ، ولكني لم أجد ذكرًا لولايته على حمص.
وقد سلف "صفوان بن عمرو السكسكي" مرارًا، منها رقم: 7009، 12807، 13108.
16748- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عمن ذكره، عن أبي صالح: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: أغنياء وفقراء.
* * *
وقال آخرون: معناه: نِشاطًا وغير نِشاط.
* ذكر من قال ذلك:
16749- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، يقول: انفروا نِشاطًا وغير نِشاط.
* * *
16750- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر عن قتادة: (خفافًا وثقالا) ، قال: نِشاطًا وغير نِشاط.
* * *
وقال آخرون: معناه: ركبانًا ومشاةَ.
* ذكر من قال ذلك:
16751- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: إذا كان النَّفْر إلى دروب الشأم، نفر الناس إليها "خفافًا" ، ركبانًا. وإذا كان النَّفْر إلى هذه السواحل، نفروا إليها "خفافًا وثقالا" ، ركبانًا ومشاة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ذا ضَيْعَة، وغير ذي ضَيْعة.
* ذكر من قال ذلك:
16752- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: "الثقيل" ، الذي له الضيعة، فهو ثقيل يكره أن يُضيع ضَيْعته ويخرج = و "الخفيف" الذي لا ضيعة له، فقال الله: (انفروا خفافًا وثقالا) .
16753- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه قال:
زعم حضرميّ أنه ذُكر له أن ناسًا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرًا فيقول: إن أجتنبْه إباءً، فإني آثم! (1) فأنزل الله: (انفروا خفافًا وثقالا) .
16754- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن محمد قال: شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا، ثم لم يتخلف عن غَزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى، (2) إلا عامًا واحدًا. وكان أيوب يقول: (انفروا خفافًا وثقالا) ، فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلا. (3)
16755- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا حَرِيز بن عثمان، عن راشد بن سعد، عمن رأى المقداد بن الأسود فارسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تابوتٍ من توابيت الصَّيارفة بحمص، وقد فَضَل عنها من عِظَمِه، فقلت له: لقد أعذر الله إليك! فقال: أبتْ علينا "سورة البعوث" ، (4) (انفروا خفافًا وثقالا) . (5)
(1)
في المطبوعة مكان: "إن أحتنبه إباء، فإني آثم" ما نصه: "فيقول: إني أحسبه قال: أنا لا آثم" ، وهو مضطرب جدًا، وفي تفسير ابن كثير 4: 174، 175، اختصر الكلام وكتب: "فيقول: إني لا آثم" ، وفي الدر المنثور 3: 246، مثله مختصرًا.

وأما المخطوطة فكان رسمها هكذا: "فيقول: إن أحسبه أبًا قال آثم" ، فآثرت قراءتها كما أثبتها، ومعناه: إن أجتنب النفر إباء للغزو، فإني آثم، ولكن علتي أو كبرى عذر يدفع عنى إثم التخلف. هذا ما رجحته، والله أعلم.
(2)
في المطبوعة: "إلا وهو في أخرى" ، وفي المخطوطة: "في آخرين" ، وحذف هذه العبارة ابن كثير في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور. وهي صحيحة المعنى، رواها ابن سعد "في أخرى" كما في المطبوعة: ورواها الحاكم: "إلا هو فيها" .

(3)
الأثر: 16754 - رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 2 \ 49 من طريق إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، وهو "ابن عطية" ، مطولا مفصلا.

ورواه الحاكم في المستدرك 3: 458، من هذه الطريق نفسها، مطولا.
(4)
هكذا جاء هنا في المخطوطة: "البعوث" ، وأنا في شك منه شديد، لأني لم أجد من سمى "سورة التوبة" ، "سورة البعوث" ، بل أجمعوا على تسميتها "سورة البحوث" ، كما سأفسره بعد ص: 265، تعليق: 6. ثم انظر آخر التعليق على الخبر رقم: 16756.

(5)
الأثر: 16755. "حريز بن عثمان بن جبر الرحبي" ، مضى آنفا برقم 16745. وكان في المطبوعة: "جرير" ، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط.

و "راشد بن سعد المقرائي الحبراني الحمصي" ، ثقة، لا بأس به إذا لم يحدث عنه متروك، وشيوخ "حريز بن عثمان" ثقات جميعًا، كما أسلفت في رقم: 16745، و "حريز" ثقة في نفسه. وهذا الخبر سيأتي بعد هذا، ليس فيه مجهول.
16756- حدثنا سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثنا حريز قال، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة قال، حدثني أبو راشد الحبراني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، قد فَضَل عنها من عِظَمه، (1) يريد الغزو، فقلت له: لقد أعذر الله إليك! فقال: أبَتْ علينا "سورة البُحُوث" : (2) (انفروا خفافًا وثقالا) . (3)
* * *
(1)
في المطبوعة: "فضل عنه" ، وأثبت ما في المخطوطة، لأنه صواب محض، فالتابوت، يذكر، وقد يؤنث.

(2)
في المطبوعة: "البعوث" ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق لرواية هذا الأثر في المراجع التي سأذكرها. و "البحوث" : منهم من يقولها بضم الباء، جمع "بحث" ، سميت بذلك لأنها بحثت عن المنافقين وأسرارهم، أي: استثارتها وفتشت عنها.

وقد قال ابن الأثير إنه رأى في "الفائق" للزمخشري "البحوث" بفتح الباء، ومطبوعة الفائق، لا ضبط فيها. ثم قال ابن الأثير: "فإن صحت، فهي فعول، من أبنية المبالغة، أما الزمخشري فقال:" سورة البحوث: هي سورة التوبة، لما فيها من البحث عن المنافقين وكشف أسرارهم، وتسمى المبعثرة "."
وهذا كله يؤيد ما ذهبت إليه في ص، 265، التعليق رقم: 3.
(3)
الأثر: 16756 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 16755.

"سعيد بن عمرو السكوني" ، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 5563، 6521، وغيرهما.
و "بقية بن الوليد" ، مضى توثيقه، ومن تكلم فيه قريبًا رقم: 16745.
و "حريز" هو "حريز بن عثمان" ، سلف في الأثر السالف، ومراجعه هناك، وكان في المطبوعة هنا "جرير" أيضًا، والمخطوطة غير منقوطة.
و "عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي" ، أبو سلمة الحمصي، ثقة، لأن أبا داود قال: و "أبو راشد الحبراني الحميري الحمصي" ، تابعي ثقة. لم يرو عنه غير "حريز" . مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري: 30.
وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 1 \ 115، من طريق يزيد بن هارون، عن حريز بن عثمان (وفي الطبقات: جرير، وهو خطأ كما بينت) .
ورواه الحاكم في المستدرك من طريق: بقية بن الوليد، عن حريز بن عثمان (وفيه: جرير، وهو خطأ) .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 30، وقال: "رواه الطبراني، وفيه بقية بن الوليد، وفيه ضعف، وقد وثق. وبقية رجاله ثقات" .
قلت: قد تبين من التخريج أنه رواه عن "حريز" ، "يزيد بن هارون" ، وهو ثقة روى له الجماعة، كما سلف مرارًا.
هذا، وقد جاء في مجمع الزوائد "سورة البعوث" ، وانظر ما كتبته آنفا في ص: 265، تعليق: 3، وص: 265، تعليق: 6.



قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنَّفر لجهاد أعدائه في سبيله، خفافًا وثقالا. وقد يدخل في "الخفاف" كل من كان سهلا عليه النفر لقوة بدنه على ذلك، وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا يُسْرٍ بمالٍ وفراغ من الاشتغال، (1) وقادرًا على الظهر والركاب.
ويدخل في "الثقال" ، كل من كان بخلاف ذلك، من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن مُعسِرٍ من المال، ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهرَ له ولا ركاب، والشيخ وذو السِّن والعِيَال.
فإذ كان قد يدخل في "الخفاف" و "الثقال" من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا، ولم يكن الله جل ثناؤه خصَّ من ذلك صنفًا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نَصَب على خصوصه دليلا وجب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافًا وثقالا مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخفّة والثقل.
* * *
16757- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن مسلم بن صبيح قال: أول ما نزل من "براءة" : (انفروا خفافًا وثقالا) .
(1)
في المطبوعة: "ذا تيسر" ، والذي في المخطوطة محض الصواب.

16758- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، مثله.
16759- حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: إن أول ما نزل من "براءة" : (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ، قال: يعرِّفهم نصره، ويوطِّنهم لغزوة تَبُوك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا) ، أيها المؤمنون، الكفارَ = (بأموالكم) ، فأنفقوها في مجاهدتهم على دين الله الذي شرعه لكم، حتى ينقادوا لكم فيدخلوا فيه طوعًا أو كرهًا، أو يعطوكم الجزية عن يدٍ صَغَارًا، إن كانوا أهل كتابٍ، أو تقتلوهم (1) = (وأنفسكم) ، يقول: وبأنفسكم، فقاتلوهم بأيديكم، يخزهم الله وينصركم عليهم = (ذلكم خير لكم) ، يقول: هذا الذي آمركم به من النفر في سبيل الله تعالى خفافًا وثقالا وجهادِ أعدائه بأموالكم وأنفسكم، خيرٌ لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم، والخلودِ إليها، والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا عِوضًا من الآخرة = إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بُيِّن لكم من فضل الجهاد في سبيل الله على القعود عنه.
* * *
(1)
انظر تفسير "الجهاد" فيما سلف ص: 173، تعليق: 5، والمراجع هناك.

= وتفسير "سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .


https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif


ابوالوليد المسلم 17-07-2025 11:14 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (768)
صــ 271 إلى صــ 280





القول في تأويل قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت جماعة من أصحابه قد استأذنوه في التخلُّف عنه حين خرج إلى تبوك، فأذن لهم: لو كان ما تدعو إليه المتخلفين عنك والمستأذنيك في ترك الخروج معك إلى مغزاك الذي استنفرتهم إليه = (عرضا قريبا) ، يقول: غنيمة حاضرة (1) = (وسفرًا قاصدًا) ، يقول: وموضعًا قريبًا سهلا = (لاتبعوك) ، ونفروا معك إليهما، ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد، وكلفتهم سفرًا شاقًّا عليهم، لأنك استنهضتهم في وقت الحرّ، وزمان القَيْظ وحين الحاجة إلى الكِنِّ = (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم) ، يقول تعالى ذكره: وسيحلف لك، يا محمد، هؤلاء المستأذنوك في ترك الخروج معك، اعتذارًا منهم إليك بالباطل، لتقبل منهم عذرهم، وتأذن لهم في التخلُّف عنك، بالله كاذبين = "لو استطعنا لخرجنا معكم" ، يقول: لو أطقنا الخروجَ معكم بوجود السَّعة والمراكب والظهور وما لا بُدَّ للمسافر والغازي منه، وصحة البدن والقوى، لخرجنا معكم إلى عدوّكم = (يهلكون أنفسهم) ،
يقول: يوجبون لأنفسهم، بحلفهم بالله كاذبين، الهلاك والعطب، (2) لأنهم يورثونها سَخَط الله، ويكسبونها أليم عقابه = (والله يعلم إنهم لكاذبون) ، في حلفهم بالله: (لو استطعنا لخرجنا معكم) ، لأنهم كانوا للخروج مطيقين، بوجود السبيل إلى ذلك بالذي كان عندهم من الأموال، مما يحتاج إليه الغازي في غزوه، والمسافر في سفره،
(1)
انظر تفسير "العرض" فيما سلف ص: 59، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(2)
انظر تفسير "الهلاك" فيما سلف 13: 150. تعليق: 2، والمراجع هناك.

وصحة الأبدان وقوَى الأجسام.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16760- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لو كان عرضًا قريبًا) ، إلى قوله (لكاذبون) ، إنهم يستطيعون الخروج، ولكن كان تَبْطِئَةً من عند أنفسهم والشيطان، وزَهَادة في الخير.
16761- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (لو كان عرضًا قريبًا) ، قال: هي غزوة تبوك.
16762- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (والله يعلم إنهم لكاذبون) ، أي: إنهم يستطيعون. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) }
قال أبو جعفر: وهذا عتاب من الله تعالى ذكره، عاتبٌ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه، حين شخص إلى تبوك لغزو الروم، من المنافقين.
يقول جل ثناؤه: (عفا الله عنك) ، يا محمد، ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذي استأذنوك في ترك الخروج معك، وفي التخلف عنك، من قبل أن تعلم صدقه من كذبه (2)
= (لم أذنت لهم) ، لأي شيء أذنت لهم؟ =
(1)
الأثر: 16762 - سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16699.

(2)
انظر تفسير "العفو" فيما سلف من فهارس اللغة (عفا) .

(حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) ، يقول: ما كان ينبغي لك أن تأذن لهم في التخلف عنك إذ قالوا لك: (لو استطعنا لخرجنا معك) ، حتى تعرف مَن له العذر منهم في تخلفه، ومن لا عذر له منهم، فيكون إذنك لمن أذنتَ له منهم على علم منك بعذره، وتعلمَ مَنِ الكاذبُ منهم المتخلفُ نفاقًا وشكًّا في دين الله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16763- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) ، قال: ناسٌ قالوا: استأذِنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
16764- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا) ، الآية، عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل الله التي في "سورة النور" ، فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء، فقال: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ، [سورة النور: 62] ، فجعله الله رخصةً في ذلك من ذلك.
16765- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن ميمون الأودي قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه من الأسارى، فأنزل الله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) ، الآية.
16766- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، قرأت على سعيد بن أبي عروبة، قال: هكذا سمعته من قتادة، قوله: (عفا الله عنك لم
أذنت لهم) ، الآية، ثم أنزل الله بعد ذلك في "سورة النور" : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ، الآية.
16767- حدثنا صالح بن مسمار قال، حدثنا النضر بن شميل قال، أخبرنا موسى بن سَرْوان، قال: سألت مورِّقًا عن قوله: (عفا الله عنك) ، قال: عاتبه ربه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) }
قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم سِيمَا المنافقين: أن من علاماتهم التي يُعرفون بها تخلُّفهم عن الجهاد في سبيل الله، باستئذانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركهم الخروجَ معه إذا استنفروا بالمعاذير الكاذبة.
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تأذننَّ في التخلُّف عنك إذا خرجت لغزو عدوّك، لمن استأذنك في التخلف من غير عذر، فإنه لا يستأذنك في ذلك إلا منافق لا يؤمن بالله واليوم الآخر. فأمَّا الذي يصدّق بالله، ويقرُّ بوحدانيته وبالبعث والدار الآخرة والثواب والعقاب، فإنه لا يستأذنك في
(1)
الأثر: 16767 - "صالح بن مسمار المروزي السلمي" ، شيخ الطبري، مضى برقم: 224.

و "النضر بن شميل المازني" الإمام النحوي، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 11512.
و "موسى بن سروان العجلي" ، ويقال: "ثروان" و "فروان" مضى برقم: 11411، وكان في المطبوعة هنا "موسى بن مروان" ، وهو خطأ، وأثبت ما في المخطوطة.
و "مورق" ، هو "مورق بن مشمرج العجلي" ، ثقة عابد من العباد الخشن. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 51، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 403.
ترك الغزو وجهاد أعداء الله بماله ونفسه (1) = (والله عليم بالمتقين) ، يقول: والله ذو علم بمن خافه، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، والمسارعة إلى طاعته في غزو عدوّه وجهادهم بماله ونفسه، وغير ذلك من أمره ونهيه. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16768- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) ، فهذا تعييرٌ للمنافقين حين استأذنوا في القُعود عن الجهاد من غير عُذْر، وعَذَر الله المؤمنين، فقال: (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ، [سورة النور: 62] .
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنما يستأذنك، يا محمد، في التخلف خِلافكَ، وترك الجهاد معك، من غير عذر بيِّنٍ، الذين لا يصدّقون بالله، ولا يقرّون بتوحيده = (وارتابت قلوبهم) ، يقول: وشكت قلوبهم في حقيقة وحدانية الله، وفي ثواب أهل طاعته، وعقابه أهل معاصيه (3) = (فهم في ريبهم يترددون) ، يقول: في شكهم متحيِّرون، وفي ظلمة الحيرة متردِّدون، لا يعرفون حقًّا من باطل، فيعملون على بصيرة. وهذه صفة المنافقين.
(1)
انظر تفسير "جاهد" فيما سلف ص: 270، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(2)
انظر تفسير "التقوى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .

(3)
انظر تفسير "الارتياب" و "الريب" فيما سلف 11: 172، تعليق: 3، والمراجع هناك = ثم 11: 280، تعليق: 1، والمراجع هناك.

وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية التي ذكرت في "سورة النور" .
* ذكر من قال ذلك:
16769- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قوله: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) ، إلى قوله: (فهم في ريبهم يترددون) ، نسختهما الآية التي في "النور" : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ) ، إلى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، [سورة النور: 62] .
* * *
وقد بيَّنَّا "الناسخ والمنسوخ" بما أغنى عن إعادته ههنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أراد هؤلاء المستأذنوك، يا محمد، في ترك الخروج معك لجهاد عدوّك، الخروجَ معك = (لأعدوا له عدة) ، يقول: لأعدوا للخروج عدة، ولتأهّبوا للسفر والعدوِّ أهْبَتهما (2) = (ولكن كره الله انبعاثهم) ، يعني: خروجهم لذلك (3) (فثبطهم) ، يقول: فثقَّل عليهم الخروجَ حتى استخفُّوا القعودَ في منازلهم خِلافك، واستثقلوا السفر والخروج معك، فتركوا
(1)
انظر مقالته في "الناسخ والمنسوخ" فيما سلف ص 42، تعليق: 2، والمراجع هناك. وانظر الفهارس العامة، وفهارس النحو والعربية وغيرهما.

(2)
انظر تفسير "أعد" ، فيما سلف ص: 31.

(3)
انظر تفسير "الكره" فيما سلف 8: 104، تعليق: 1، والمراجع هناك. - وتفسير "البعث" فيما سلف 11: 407، تعليق: 2، والمراجع هناك.

لذلك الخروج = (وقيل اقعدوا مع القاعدين) ، يعني: اقعدوا مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون، ومع النساء والصبيان، واتركوا الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجاهدين في سبيل الله. (1)
* * *
وكان تثبيط الله إياهم عن الخروج مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، لعلمه بنفاقهم وغشهم للإسلام وأهله، وأنهم لو خرجوا معهم ضرُّوهم ولم ينفعوا. وذكر أن الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود كانوا: "عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول" ، و "الجد بن قيس" ، ومن كانا على مثل الذي كانا عليه. كذلك:-
16770- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذين استأذنوه فيما بلغني، من ذوي الشرف، منهم: عبد الله بن أبيّ ابن سلول، والجدّ بن قيس، وكانوا أشرافًا في قومهم، فثبطهم الله، لعلمه بهم، أن يخرجوا معهم، (2) فيفسدوا عليه جنده. (3)
* * *
(1)
انظر تفسير "القعود" فيما سلف 9: 85.

(2)
في المطبوعة والمخطوطة: "يخرجوا معهم" وفي سيرة ابن هشام: "معه" .

(3)
الأثر: 16770 - سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16762. وكان في المخطوطة: "فيفسدوا عليه حسه" غير منقوطة، فاسدة الكتابة. والذي في المطبوعة مطابق لما في سيرة ابن هشام، وهو الصواب.

القول في تأويل قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لو خرج، أيها المؤمنون، فيكم هؤلاء المنافقون = (ما زادوكم إلا خبالا) ، يقول: لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادًا وضرًّا، ولذلك ثبَّطتُهم عن الخروج معكم.
* * *
وقد بينا معنى "الخبال" ، بشواهده فيما مضى قبل. (1)
* * *
(ولأوضعوا خلالكم) ، يقول: ولأسرعوا بركائبهم السَّير بينكم.
* * *
وأصله من "إيضاع الخيل والركاب" ، وهو الإسراع بها في السير، يقال للناقة إذا أسرعت السير: "وضعت الناقة تَضَع وَضعًا ومَوْضوعًا" ، و "أوضعها صاحبها" ، إذا جدّ بها وأسرع، "يوضعها إيضاعًا" ، ومنه قول الراجز: (2)
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ (3)
* * *
(1)
انظر تفسير "الخبال" فيما سلف 7: 139، 140.

(2)
هو دريد بن الصمة.

(3)
سيرة ابن هشام 4: 82، واللسان (وضع) ، وغيرهما، وهذا رجز قاله دريد في يوم غزوة حنين، وكان خرج مع هوزان، عليهم مالك بن عوف النصري، ودريد بن الصمة يومئذ شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخًا مجربًا. وكان مالك بن عوف كره أن يكون لدريد بن الصمة رأي في حربهم هذه أو ذكر، فقال دريد: "هذا يوم لم أشهده ولم يفتني" . يَا لَيْتنِي فِيها جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وأَضَعْ

أَقُودُ وَطْفَاء الزَّمَعْ ... كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ
"الجذع" ، الصغير الشاب. و "الخبب" ، ضرب من السير كالوضع. ثم وصف فرسه فيما تمنى. "وطفاء" ، طويلة الشعر، و "الزمعة" الهنة الزائدة الناتئة فوق ظلف الشاة. و "الشاة" هنا: الوعل وهو شاة الجبل. و "صدع" الفتى القوي من الأوعال.
وأما أصل "الخلال" ، فهو من "الخَلَل" ، وهي الفُرَج تكون بين القوم، في الصفوف وغيرها. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تَرَاصُّوا فِي الصُّفُوفِ لا يَتَخَلَّلكُمْ [الشَّيَاطين، كأنها] أَوْلادُ الحذَفِ" . (1)
* * *
وأما قوله: (يبغونكم الفتنة) ، فإن معنى: "يبغونكم الفتنة" ، يطلبون لكم ما تفتنون به، عن مخرجكم في مغزاكم، بتثبيطهم إياكم عنه. (2)
* * *
يقال منه: "بغيتُه الشر" ، و "بغيتُه الخير" "أبغيه بُغاء" ، إذا التمسته له، بمعنى: "بغيت له" ، وكذلك "عكمتك" و "حلبتك" ، بمعنى: "حلبت لك" ، و "عكمت لك" ، (3) وإذا أرادوا: أعنتك على التماسه وطلبه، قالوا: "أبْغَيتُك كذا" ، و "أحلبتك" ، و "أعكمتك" ، أي: أعنتك عليه. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16771- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
(1)
لم يذكر إسناده، وهو حديث مشهور، رواه أبو داود في سننه 1: 252، رقم: 667، بغير هذا اللفظ، والنسائي في السنن 2: 92. والذي وضعته بين القوسين فيما رواه صاحب اللسان، لأنه في السنن: "كأنها الحذف" ، وفي اللسان أيضًا "كأنها بنات حذف" . أما المطبوعة فقد ضم الكلام بعضه إلى بعض، مع أنه كان في المخطوطة، بياض بين "لا يتخللكم" ، وبين "أولاد الحذف" ، وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ.

و "الحذف" ضأن سود جرد صغار، ليس لها آذان ولا أذناب، يجاء بها إلى الحجاز من جرش اليمن، واحدتها "حذفة" (بفتحتين) ، شبه الشياطين بها.
(2)
انظر تفسير "الفتنة" فيما سلف ص: 86، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(3)
"عكمه" و "عكم له" ، هو أن يسوي له الأعدال على الدابة ويشدها.

(4)
انظر تفسير "بغى" فيما سلف 13: 84، تعليق: 1، والمراجع هناك.

ثم انظر مثل هذا التفصيل فيما سلف 7: 53.
معمر، عن قتادة: (ولأوضعوا خلالكم) ، بينكم = (يبغونكم الفتنة) ، بذلك.
16772- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ولأوضعوا خلالكم) ، يقول: [ولأوضعوا بينكم] ، خلالكم، بالفتنة. (1)
16773- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ، يبطئونكم قال: رفاعة بن التابوت، وعبد الله بن أبيّ ابن سلول، وأوس بن قيظيّ.
16774- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ولأوضعوا خلالكم) ، قال: لأسرعوا الأزقة (2) = (خلالكم يبغونكم الفتنة) ، يبطِّئونكم = عبد الله بن نبتل، ورفاعة بن تابوت، وعبد الله بن أبي ابن سلول.
16775- قال حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: (ولأوضعوا خلالكم) ، قال: لأسرعوا خلالكم يبغونكم الفتنة بذلك.
16776- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) ، قال: هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك. يسلِّي الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقال: وما يُحزنكم؟ (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) ،! يقولون: "قد جُمع لكم، وفُعِل وفُعِل، يخذِّلونكم" = (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ، الكفر.
* * *
(1)
في المطبوعة والمخطوطة: "ولأضعوا أسلحتهم خلالكم بالفتنة" ، وهو لا يفيد معنى، وظني أن "أسلحتهم" هي "بينكم" وهو تفسير "خلالكم" كما مر في أثر قتادة السالف، ولكنه أخر اللفظ الذي فسره وهو "خلالكم" .

(2)
هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "الأزقة" ، وهو جمع "زقاق" "بضم الزاي" ، وهو الطريق الضيق، دون السكة، وجعل "الأزقة" مفعولا لقوله: "أسرعوا" ، غريب، وأخشى أن يكون في الكلام خلل أو تصحيف.

https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 17-07-2025 11:18 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (769)
صــ 281 إلى صــ 290





وأما قوله: (وفيكم سَمَّاعون لهم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى ذلك: وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يؤدُّونه إليهم، عيون لهم عليكم.
* ذكر من قال ذلك:
16777- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وفيكم سماعون لهم) ، يحدِّثون أحاديثكم، عيونٌ غير منافقين.
16778- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وفيكم سماعون لهم) ، قال: محدِّثون، عيون، غير المنافقين. (1)
16779- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وفيكم سماعون لهم) ، يسمعون ما يؤدُّونه لعدوِّكم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيكم من يسمع كلامهم ويُطيع لهم.
* ذكر من قال ذلك:
16780- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وفيكم سماعون لهم) ، وفيكم من يسمع كلامهم.
16781- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذين استأذنوا، فيما بلغني من ذوي الشرف، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، والجدُّ بن قيس، وكانوا أشرافًا في قومهم، فثبطهم الله، لعلمه بهم: أن يخرجوا معهم، فيفسدوا عليه جُنده. وكان في جنده قوم أهلُ محبةٍ لهم وطاعةٍ فيما يدعونهم إليه، لشرفهم فيهم، فقال: (وفيكم سمَّاعون لهم) . (2)
(1)
في المطبوعة: "غير منافقين" ، وأثبت ما في المخطوطة.

(2)
الأثر: 16781 - صدر هذا الخبر مضى برقم: 16770، وساقه هنا فيما بعد، وهو في سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16762.

قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل: وفيكم أهلُ سمع وطاعة منكم، لو صحبوكم أفسدوهم عليكم، بتثبيطهم إياهم عن السير معكم.
وأما على التأويل الأول، فإن معناه: وفيكم منهم سمَّاعون يسمعون حديثكم لهم، فيبلغونهم ويؤدونه إليهم، عيون لهم عليكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب، تأويلُ من قال: معناه: "وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يبلغونه عنكم، عيون لهم" ، لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم: "سمَّاع" ، وصف من وصف به أنه سماع للكلام، كما قال الله جل ثناؤه في غير موضع من كتابه: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) [سورة المائدة: 41] ، واصفًا بذلك قومًا بسماع الكذب من الحديث. وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه: "له سامع ومطيع" ، ولا تكاد تقول: = "هو له سماع مطيع" . (1)
* * *
وأما قوله: (والله عليم بالظالمين) ، فإن معناه: والله ذو علم بمن يوجّه أفعاله إلى غير وجوهها، ويضعها في غير مواضعها، ومن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعذر، ومن يستأذنه شكًّا في الإسلام ونفاقًا، ومن يسمع حديث المؤمنين ليخبر به المنافقين، ومن يسمعه ليسرَّ بما سُرَّ به المؤمنون، (2) ويساء بما ساءهم، لا يخفى عليه شيء من سرائر خلقه وعلانيتهم. (3)
* * *
وقد بينا معنى "الظلم" في غير موضع من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
(1)
انظر تفسير "سماع" فيما سلف 10: 309.

(2)
في المطبوعة: "بما سر المؤمنين" ، وفي المخطوطة: "بما سر المؤمنون" ، وصوابها ما أثبت.

(3)
انظر تفسير "عليم" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .

(4)
انظر تفسير "الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) .

القول في تأويل قوله: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لقد التمس هؤلاء المنافقون الفتنة لأصحابك، يا محمد، التمسوا صدَّهم عن دينهم (1) وحرصوا على ردّهم إلى الكفرِ بالتخذيل عنه، (2) كفعل عبد الله بن أبيّ بك وبأصحابك يوم أحدٍ، حين انصرف عنك بمن تبعه من قومه. وذلك كان ابتغاءهم ما كانوا ابتغوا لأصحاب وسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتنة من قبل. ويعني بقوله: (من قبل) ، من قبل هذا = (وقلبوا لك الأمور) ، يقول: وأجالوا فيك وفي إبطال الدين الذي بعثك به الله الرأيَ بالتخذيل عنك، (3) وإنكار ما تأتيهم به، وردّه عليك = (حتى جاء الحق) ، يقول: حتى جاء نصر الله = (وظهر أمر الله) ، يقول: وظهر دين الله الذي أمرَ به وافترضه على خلقه، وهو الإسلام (4) = (وهم كارهون) ، يقول: والمنافقون بظهور أمر الله ونصره إياك كارهون. (5) وكذلك الآن، يظهرك الله ويظهر دينه على الذين كفروا من الروم وغيرهم من أهل الكفر به، وهم كارهون.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16782- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وقلبوا
(1)
انظر تفسير "ابتغى" فيما سلف قريبا ص: 279، تعليق: 4، والمراجع هناك.

(2)
انظر تفسير "الفتنة" فيما سلف ص:، 279 تعليق: 2، والمراجع هناك.

(3)
انظر تفسير "التقليب" فيما سلف 12: 44، 45، ومادة (قلب) في فهارس اللغة.

(4)
انظر تفسير "الظهور" فيما سلف ص: 214، 215.

(5)
انظر تفسير "الكره" فيما سلف ص: 276، تعليق: 3، والمراجع هناك.

لك الأمور) ، أي: ليخذِّلوا عنك أصحابك، ويردُّوا عليك أمرك = (حتى جاء الحق وظهر أمر الله) . (1)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت في نفرٍ مسمَّين بأعيانهم.
16783- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو، عن الحسن قوله: (وقلبوا لك الأمور) ، قال: منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعبد الله بن نبتل أخو بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن رافع، وزيد بن التابوت القينقاعي. (2)
* * *
وكان تخذيل عبد الله بن أبيٍّ أصحابَه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزاة، كالذي:
16784- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم، كلُّ قد حدَّث في غزوة تبوك ما بلغَه عنها، وبعض القوم يحدِّث ما لم يحدِّث بعضٌ، وكلٌّ قد اجتمع حديثه في هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عُسْرةٍ من الناس، (3) وشدة من الحرّ، وجَدْبٍ من البلاد، وحين طاب الثمار، وأحِبَّتِ الظلال، (4) فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها، على الحال من الزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يخرج في غزوةٍ
(1)
الأثر: 16782 - سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16781.

(2)
الأثر: 16782 - لم أجده في سيرة ابن هشام. ولكنه في تاريخ الطبري 3: 143، بمثله.

(3)
في السيرة: "في زمان من عسرة الناس" .

(4)
"وأحبت الظلال" ليس في سيرة ابن هشام، وهو ثابت في رواية أبي جعفر في التاريخ 3: 142. وكذلك في المطبوعة: "والناس يحبون" وأثبت ما في المخطوطة، فهو مطلب السياق.

إلا كَنَى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يَصْمِدُ له، (1) إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بيَّنها للناس، لبعد الشُّقَّة، وشدة الزمان وكثرة العدوّ الذي صَمَد له، ليتأهَّب الناس لذلك أُهْبَتَه. فأمر الناس بالجهاد، وأخبرهم أنه يريد الروم. فتجهز الناسُ على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه، لما فيه، مع ما عظَّموا من ذكر الروم وغزوهم. (2)
= ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَدَّ في سفره، فأمر الناس بالجهازِ والانكماش، (3) وحضَّ أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله. (4)
= فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع، (5) وضرب عبد الله بن أبي ابن سلول عسكره على حِدَةٍ أسفلَ منه بحذاء "ذباب" (6) = جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع = وكان فيما يزعمون، ليس بأقل العسكرين. فلما سار رَسول الله صلى الله عليه وسلم، تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلَّف
(1)
"صمد للأمر يصمد" ، قصده قصدًا.

(2)
هذه الجملة الأخيرة من أول قوله: "فتجهز الناس" ، لم أجدها في هذا الموضع من سيرة ابن هشام 4: 159، وسأذكر موضع ما يليه في التخريج، فإنه قد أسقط ما بعد ذلك، حتى بلغ ما بعده.

(3)
"الانكماش" الإسراع والجد في العمل والطلب.

(4)
"الحملان" (بضم فسكون) مصدر مثل "الحمل" ، يريد: حمل من لا دابة له على دابة يركبها في وجهه هذا.

وهذه الجملة من أول قوله: "ثم إن رسول الله" ، إلى هذا الموضع، في سيرة ابن هشام 4: 161، والذي يليه من موضع آخر سأبينه.
(5)
وهذه الجملة مفردة في سيرة ابن هشام 4: 162، بعدها كلام حذفه أبو جعفر، ووصله بما بعده.

(6)
في المطبوعة والمخطوطة: "على ذي حدة" ، وكان في المخطوطة كتب قبل "ذي" "دين" ثم ضرب عليها. ولم أجدهم قالوا: "على ذي حدة" ، يؤيد صواب ذلك أن ابن هشام قال: "على حدة" ، وذكر أبو جعفر هذا الخبر في تاريخه 3: 143، فيه أيضًا "على حدة" ، فمن أجل ذلك أغفلت ما كان في المطبوعة والمخطوطة = وكان في المطبوعة، وفي سيرة ابن هشام "نحو ذباب" ، وفي المخطوطة: "نحوا" ، والألف مطموسة قصيرة، والذي في التاريخ ما أثبته "بحذاء" ، وهو الصواب الذي لا شك فيه. وبيان موضع الجبل، ليس مذكورًا في السيرة، وهو مذكور في التاريخ.

من المنافقين وأهل الريب. وكان عبد الله بن أبي، أخا بني عوف بن الخزرج، وعبد الله بن نبتل، أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، (1) أخا بني قينقاع، وكانوا من عظماء المنافقين، وكانوا ممن يكيد للإسلام وأهله.
= قال: وفيهم، فيما حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري، أنزل الله: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل) ، الآية. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) }
قال أبو جعفر: وذكر أن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس.
* * *
ويعني جل ثناؤه بقوله: (ومنهم) ، ومن المنافقين = (من يقول ائذن لي) ، أقم فلا أشخَصُ معك = (ولا تفتني) ، يقول: ولا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر وبناتِهم، فإنّي بالنساء مغرمٌ، فأخرج وآثَمُ بذلك. (3)
* * *
وبذلك من التأويل تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل.
* ذكر الرواية بذلك عمن قاله:
16785- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(1)
في المطبوعة: "رفاعة بن يزيد" ، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، والتاريخ.

(2)
الأثر: 16784 - هذا خبر مفرق، ذكرت مواضعه فيما سلف، وهو في سيرة ابن هشام 4: 159 \ ثم 4: 161 \ ثم 4: 162، وهو بتمامه في تاريخ الطبري 3: 142، 143. والجزء الأخير من هذا الخبر، مضى برقم: 16873.

(3)
انظر تفسير "الفتنة" فيما سلف ص: 283، تعليق: 2، والمراجع هناك.

عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ائذن لي ولا تفتني) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغزُوا تبوك، تغنموا بنات الأصفر ونساء الروم! فقال الجدّ: ائذن لنا، ولا تفتنَّا بالنساء.
16786- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغزوا تغنَموا بنات الأصفر = يعني نساء الروم، ثم ذكر مثله.
16787- قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: (ائذن لي ولا تفتني) ، قال: هو الجدّ بن قيس قال: قد علمت الأنصار أني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي.
16788- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه، للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك يا جدُّ العامَ في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أوْ تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رَجل أشدّ عُجْبًا بالنساء منِّي، وإني أخشى إن رأيت نساءَ بني الأصفر أن لا أصبر عنهن! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك، ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، الآية، أي: إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه، أعظم. (1)
16789- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
(1)
الأثر: 16788 - سيرة ابن هشام 4: 159، 160، وهو تابع صدر الأثر السالف رقم: 16784، بعد قوله هناك: "وأخبرهم أنه يريد الروم" ، وبين الذي رواه أبو جعفر، وما في السيرة خلاف يسير في ختام الخبر.

قوله: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، قال: هو رجل من المنافقين يقال له جَدُّ بن قيس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: العامَ نغزو بني الأصفر ونتَّخذ منهم سراريّ ووُصفاءَ (1) = فقال: أي رسول الله، ائذن لي ولا تفتني، إن لم تأذن لي افتتنت وقعدت! (2) وغضب [رسول الله صلى الله عليه وسلم] ، (3) فقال الله: (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) ، وكان من بني سلمة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من سيدكم يا بني سَلِمة؟ فقالوا: جدُّ بن قيس، غير أنه بخيلٌ جبان! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأيُّ داءٍ أدْوَى من البخل، ولكن سيِّدكم الفتى الأبيض، الجعد: بشر بن البراء بن مَعْرُور. (4) "
16790- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، يقول: ائذن لي ولا تحرجني = (ألا في الفتنة سقطوا) ، يعني: في الحرج سقطوا.
16791- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، ولا تؤثمني، ألا في الإثم سقطوا.
* * *
(1)
في المطبوعة: "سراري ووصفانًا" ، والصواب من المخطوطة. و "الوصفاء" جمع "وصيف" ، والأنثى "وصيفة" ، وجمعها "وصائف" ، وهو الخادم الغلام الشاب، ومثله الخادمة.

(2)
في المطبوعة: "ووقعت" ، مكان "وقعدت" ، وأثبت ما في المخطوطة، وأراد القعود عن الخروج إلى الغزوة خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)
في المطبوعة: "فغضب" ، وفي المخطوطة: "وغضب" ، وظاهر أنه سقط من الخبر ما أثبته بين القوسين.

(4)
في المطبوعة: "الجعد الشعر البراء بن معرور" ، غير ما كان في المخطوطة، وهو الصواب المحض، فإن الخبر هو خبر "بشر بن البراء بن معرور" في تسويده على بني سلمة. وأما أبوه "البراء بن معرور" ، فهو من أول من بايع بيعة العقبة الأولى، وأول من استقبل القبلة، وأول من أوصى بثلث ماله، وهو أحد النقباء، ومات قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل مقدم رسول الله المدينة بشهر، ولما دفنوه، وجهوا قبره إلى القبلة.

ويقال: "رجل جعد" ، يراد به أنه مدمج الخلق، معصوب الجوارح، شديد الأسر، غير مسترخ ولا مضطرب، وهو من حلية الكريم. ويراد به أيضا: جعودة الشعر، وهو مدح العرب، لأن سبوطة الشعر إنما هي في الروم وفي الفرس. وإنما أراد في الخبر المعنى الأول.
وقوله: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) ، يقول: وإن النار لمطيفة بمن كفر بالله وجحد آياته وكذَّب رسله، محدقة بهم، جامعة لهم جميعًا يوم القيامة. (1)
يقول: فكفى للجدّ بن قيس وأشكاله من المنافقين بِصِلِيِّها خزيًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن يصبك سرورٌ بفتح الله عليك أرضَ الروم في غَزاتك هذه، (2) يسؤ الجدَّ بن قيس ونظراءه وأشياعهم من المنافقين، وإن تصبك مصيبة بفلول جيشك فيها، (3) يقول الجد ونظراؤه: (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، أي: قد أخذنا حذرَنا بتخلّفنا عن محمد، وترك أتباعه إلى عدوّه = (من قبل) ، يقول: من قبل أن تصيبه هذه المصيبة = (ويتولوا وهم فرحون) ، يقول: ويرتدُّوا عن محمد وهم فرحون بما أصاب محمدًا وأصحابه من المصيبة، (4) بفلول أصحابه وانهزامهم عنه، (5) وقتل من قُتِل منهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
انظر تفسير "الإحاطة" فيما سلف 13: 581، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(2)
انظر تفسير "الإصابة" فيما سلف: 13: 473، تعليق: 2، والمراجع هناك.

= وتفسير "الحسنة" فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) .
(3)
"الفلول" ، مصدر "فل" ، لازمًا، بمعنى: انهزم. وقد مر آنفًا في كلام الطبري أيضًا، ولم أجد له ذكرًا في كتب اللغة. انظر ما سلف 7: 313، تعليق: 3، وما قلته في تصحيح ذلك استظهارًا من قولهم: "من فل ذل" ، أي: من انهزم وفر عن عدوه، ذل.

(4)
انظر تفسير "التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) .

(5)
"الفلول" ، مصدر "فل" ، لازمًا، بمعنى: انهزم. وقد مر آنفًا في كلام الطبري أيضًا، ولم أجد له ذكرًا في كتب اللغة. انظر ما سلف 7: 313، تعليق: 3، وما قلته في تصحيح ذلك استظهارًا من قولهم: "من فل ذل" ، أي: من انهزم وفر عن عدوه، ذل.

* ذكر من قال ذلك:
16792- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (إن تصبك حسنة تسؤهم) ، يقول: إن تصبك في سفرك هذه الغزوة تبوك = (حسنة تسؤهم) ، قال: الجدُّ وأصحابه.
16793- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، حِذْرنا.
16794- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، قال: حِذْرنا.
16795- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن تصبك حسنة تسؤهم) ، إن كان فتح للمسلمين كبر ذلك عليهم وساءَهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مؤدِّبًا نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عنك: (لن يصيبنا) ، أيها المرتابون في دينهم = (إلا ما كتب الله لنا) ، في اللوح المحفوظ، وقضاه علينا (1) = (هو مولانا) ، يقول: هو ناصرنا على أعدائه (2) = (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) ،
(1)
انظر تفسير "كتب" فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) .

(2)
انظر تفسير "المولى" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) .

https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif




ابوالوليد المسلم 17-07-2025 11:21 PM

رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...083cc77a21.gif
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الرابع عشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ براءة
الحلقة (770)
صــ 291 إلى صــ 300





يقول: وعلى الله فليتوكل المؤمنون، فإنهم إن يتوكلوا عليه، ولم يرجُوا النصر من عند غيره، ولم يخافوا شيئًا غيره، يكفهم أمورهم، وينصرهم على من بغاهم وكادهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم وبينت لك أمرهم: هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخَلَّتين اللتين هما أحسن من غيرهما، (2) إما ظفرًا بالعدو وفتحًا لنا بِغَلَبَتِناهم، ففيها الأجر والغنيمة والسلامة = وإما قتلا من عدوِّنا لنا، ففيه الشهادة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار. وكلتاهما مما نُحبُّ ولا نكره = (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) ، يقول: ونحن ننتظر بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده عاجلة، تهلككم = (أو بأيدينا) ، فنقتلكم = (فتربصوا إنا معكم متربصون) ، يقول: فانتظروا إنا معكم منتظرون ما الله فاعل بنا، وما إليه صائرٌ أمر كلِّ فريقٍ منَّا ومنكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(1)
انظر تفسير "التوكل" فيما سلف ص: 43، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(2)
انظر تفسير "التربص" فيما سلف ص: 177، تعليق: 3، والمراجع هناك.

= وتفسير "الحسنى" فيما سلف 9: 96، 97.
* ذكر من قال ذلك:
16796- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (هل تربصون لنا إلا إحدى الحسنيين) ، يقول: فتح أو شهادة = وقال مرة أخرى: يقول القتل، فهي الشهادة والحياة والرزق. وإما يخزيكم بأيدينا.
16797- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) ، يقول: قتل فيه الحياة والرزق، وإما أن يغلب فيؤتيه الله أجرًا عظيمًا، وهو مثل قوله: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، إلى (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [سورة النساء: 74] .
16798- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إلا إحدى الحسنيين) ، قال: القتل في سبيل الله، والظهور على أعدائه.
16799- قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد قال: القتل في سبيل الله، والظهور.
16800- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إحدى الحسنيين) ، القتل في سبيل الله، والظهور على أعداء الله.
16801- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه = قال ابن جريج، قال ابن عباس: (بعذاب من عنده) ، بالموت = (أو بأيدينا) ، قال: القتل.
16802- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) ، إلا فتحًا أو قتلا في سبيل
الله = (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) ، أي: قتل.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين: أنفقوا كيف شئتم أموالكم في سفركم هذا وغيره، وعلى أي حال شئتم، من حال الطوع والكره، (1) فإنكم إن تنفقوها لن يتقبَّل الله منكم نفقاتكم، وأنتم في شك من دينكم، وجهلٍ منكم بنبوة نبيكم، وسوء معرفة منكم بثواب الله وعقابه = (إنكم كنتم قومًا فاسقين) ، يقول: خارجين عن الإيمان بربكم. (2)
* * *
وخرج قوله: (أنفقوا طوعا أو كرها) ، مخرج الأمر، ومعناه الجزاء، (3) والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها "إن" ، التي تأتي بمعنى الجزاء، كما قال جل ثناؤه: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [سورة التوبة: 80] ، فهو في لفظ الأمر، ومعناه الجزاء، (4) ومنه قول الشاعر: (5)
أَسِيئي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا، ولا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ (6)
(1)
انظر تفسير "الطوع" فيما سلف 6: 564، 565.

= وتفسير "الكره" فيما سلف ص: 283، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(2)
انظر تفسير "الفسق" فيما سلف 13: 110، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(3)
في المطبوعة في الموضعين: "ومعناه الخبر" ، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 441.

(4)
في المطبوعة في الموضعين: "ومعناه الخبر" ، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 441.

(5)
هو كثير عزة.

(6)
سلف تخريجه وبيانه في التفسير 2: 294، ولم أشر هناك إلى هذا الموضع، ومعاني القرآن للفراء 1: 441.

فكذلك قوله: (أنفقوا طوعًا أو كرهًا) ، إنما معناه: إن تنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يُتَقَبَّل منكم.
* * *
وقيل: إن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس، حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم، لما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الخروج معه لغزو الروم: "هذا مالي أعينك به" .
16803- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: قال، الجدّ بن قيس: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي! قال: ففيه نزلت (أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبل منكم) ، قال: لقوله "أعينك بمالي" .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما منع هؤلاء المنافقين، يا محمد، أن تقبل منهم نفقاتهم التي ينفقونها في سفرهم معك، وفي غير ذلك من السبل، إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله، فـ "أن" الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع، (1) لان معنى الكلام: ما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله = (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) ،
(1)
يعني بالثانية "أن" المشددة في "أنهم" ، وأما الأولى فهي "أن" الخفيفة.

يقول: لا يأتونها إلا متثاقلين بها. (1) لأنهم لا يرجون بأدائها ثوابًا، ولا يخافون بتركها عقابًا، وإنما يقيمونها مخافةً على أنفسهم بتركها من المؤمنين، فإذا أمنوهم لم يقيموها = (ولا ينفقون) ، يقول: ولا ينفقون من أموالهم شيئًا = (إلا وهم كارهون) ، أن ينفقونه في الوجه الذي ينفقونه فيه، مما فيه تقوية للإسلام وأهله. (2)
* * *
(1)
انظر تفسير "كسالى" فيما سلف 9: 330، 331.

(2)
انظر تفسير "الكره" فيما سلف ص: 293. تعليق: 1 والمراجع هناك.

القول في تأويل قوله: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: فلا تعجبك، يا محمد، أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقال: معنى ذلك التقديمُ، وهو مؤخر.
* ذكر من قال ذلك:
16804- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) ، قال: هذه من تقاديم الكلام، (1)
(1)
هذه أول مرّة أجد استعمال "تقاديم" جمعًا في هذا التفسير. وهي جمع "تقديم" كأمثاله من قولهم "التكاذيب" ، "والتكاليف" ، و "التحاسين" ، و "التقاصيب" ، وما أشبهها.

وكان في المخطوطة: "هذه من تقاديم الله، ليعذبهم بها في الآخرة" ، ولكن ناشر المطبوعة نقل هذا النص الثابت في المطبوعة، من الدر المنثور 3: 249، وكأنه الصواب، إن شاء الله، ولذلك تركته على حاله.
وانظر معاني القرآن للفراء 1: 442.
يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
16805- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، بما ألزمهم فيها من فرائضه.
* ذكر من قال ذلك:
16806- حدثت عن المسيّب بن شريك، عن سلمان الأنصري، عن الحسن: (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) ، قال: بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله. (1)
16807- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) ، بالمصائب فيها، هي لهم عذابٌ، وهي للمؤمنين أجرٌ.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا، التأويلُ الذي ذكرنا عن الحسن. لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل، فصرْفُ تأويله إلى ما دلَّ عليه ظاهره، أولى من صرفه إلى باطنٍ لا دلالةَ على صحته.
وإنما وجَّه من وجَّه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر، لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا، وجهًا يوجِّهه إليه، وقال: كيف يعذِّبهم
(1)
الأثر: 16806 - "المسيب بن شريك التميمي، أبو سعيد" ، ترك الناس حديثه، وقال البخاري: "سكتوا عنه" . مترجم في الكبير 4 \ 1 \ 408، وإن أبي حاتم 4 \ 1 \ 294، وميزان الاعتدال 3: 171، ولسان الميزان 6: 38.

و "سلمان الأنصري" ، هكذا في المخطوطة، وفي المطبوعة "الأقصري" ، ولم أستطع أن أعرف شيئًا عن هذا الاسم.
بذلك في الدنيا، وهي لهم فيها سرور؟ وذهبَ عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه إلزامُه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيِّب النفس، ولا راجٍ من الله جزاءً، ولا من الآخذ منه حمدًا ولا شكرًا، على ضجرٍ منه وكُرْهٍ.
* * *
وأما قوله: (وتزهق أنفسهم وهم كافرون) ، فإنه يعني وتخرج أنفسهم، فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودهم نبوّةَ نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
يقال منه: "زَهَقَت نفس فلان، وزَهِقَت" ، فمن قال: "زَهَقت" قال: "تَزْهَق" ، ومن قال: "زَهِقت" ، قال: "تزهق" ، "زهوقًا" ، ومنه قيل: "زَهَق فلان بين أيدي القوم يَزْهَق زُهُوقا" إذا سبقهم فتقدمهم. ويقال: "زهق الباطل" ، إذا ذهب ودرس. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويحلف بالله لكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون كذبًا وباطلا خوفًا منكم: (إنهم لمنكم) في الدين والملة. يقول الله تعالى، مكذّبًا لهم: (وما هم منكم) ، أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم، بل هم أهل
(1)
لا أدري ما هذا، فإن أصحاب اللغة لم يذكروا في مضارع اللغتين إلا "تزهق" بفتح الهاء، أما الأخرى فلا أدري ما تكون، ولا أجد لها عندي وجهًا، فتركتها على حالها لم أضبطها.

شكٍّ ونفاقٍ = (ولكنهم قوم يفرقون) ، يقول: ولكنهم قوم يخَافونكم، فهم خوفًا منكم يقولون بألسنتهم: "إنا منكم" ، ليأمنوا فيكم فلا يُقْتَلوا.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لو يجد هؤلاء المنافقون "ملجأ" ، يقول: عَصَرًا يعتصِرون به من حِصْن، ومَعْقِلا يعتقِلون فيه منكم = (أو مغارات) ،
* * *
= وهي الغيران في الجبال، واحدتها: "مغارة" ، وهي "مفعلة" ، من: "غار الرجل في الشيء، يغور فيه" ، إذا دخل، ومنه قيل، "غارت العين" ، إذا دخلت في الحدقة.
* * *
(أو مدَّخلا) ، يقول: سَرَبًا في الأرض يدخلون فيه.
* * *
وقال: "أو مدّخلا" ، الآية، لأنه "من ادَّخَل يَدَّخِل" . (1)
* * *
وقوله: (لولَّوا إليه) ، يقول: لأدبروا إليه، هربًا منكم (2) = (وهم يجمحون) . يقول: وهم يسرعون في مَشْيِهم.
* * *
وقيل: إن "الجماح" مشيٌ بين المشيين، (3) ومنه قول مهلهل:
(1)
في المطبوعة: "أو مدخلا الآية، لأنه" ، وهو خطأ في الطباعة فيما أرجح، زاد "الآية لشبهه بقوله:" لأنه "بعده، وخالف الطابع المصحح، فأثبت له ما صححه! !"

(2)
انظر تفسير "التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) .

(3)
هذا نص نادر لا تجده في كتاب اللغة، فليقيد فيها هو وشاهده.

لَقَدْ جَمَحْتُ جِمَاحًا فِي دِمَائِهِمُ ... حَتَّى رَأَيْتُ ذَوِي أَحْسَابِهِمْ خَمَدُوا (1)
* * *
وإنما وصفهم الله بما وصفهم به من هذه الصفة، لأنهم إنما أقاموا بين أَظْهُرِ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم ولما هم عليه من الإيمان بالله وبرسوله، لأنهم كانوا في قومهم وعشيرتهم وفي دورهم وأموالهم، فلم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنفاق، ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بالكفر ودعوى الإيمان، وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به والعداوة لهم. فقال الله واصِفَهم بما في ضمائرهم: (لو يجدون ملجأ أو مغاراتٍ) ، الآية.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16808- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لو يجدون ملجأ) ، "الملجأ" الحِرْز في الجبال، "والمغارات" ، الغِيران في الجبال. وقوله: (أو مدَّخلا) ، و "المدّخل" ، السَّرَب.
16809- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا لولّوا إليه وهم يجمحون) ، "ملجأ" ، يقول: حرزًا = (أو مغارات) ، يعني الغيران = (أو مدخلا) ، يقول: ذهابًا في الأرض، وهو النفق في الأرض، وهو السَّرَب.
16810- وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(1)
لم أجد هذا البيت فيما وقفت عليه من شعر مهلهل. وقوله: "خمدا" ، أي: سكنوا فماتوا، كما تنطفئ الجمرة.

عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا) ، قال: حرزًا لهم يفرُّون إليه منكم.
16811- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا) ، قال: محرزًا لهم، لفرُّوا إليه منكم = وقال ابن عباس: قوله: (لو يجدون ملجأ) ، حرزًا = (أو مغارات) ، قال: الغيران = (أو مدّخلا) ، قال: نفقًا في الأرض.
16812- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا) ، يقول: "لو يجدون ملجأ" ، حصونًا = (أو مغارات) ، غِيرانًا = (أو مدخلا) ، أسرابًا = (لولوا إليه وهم يجمحون) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن المنافقين الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم في هذه الآيات = (من يلمزك في الصدقات) ، يقول: يعيبك في أمرها، ويطعُنُ عليك فيها.
* * *
يقال منه: "لمز فلان فلانًا يَلْمِزُه، ويَلْمُزُه" إذا عابه وقرصه، وكذلك "همزه" ، ومنه قيل: "فلان هُمَزَةً لُمَزَة، ومنه قول رؤبة:"
قَارَبْتُ بَيْنَ عَنَقِي وَجَمْزِي ... فِي ظِلِّ عَصْرَيْ بَاطِلي وَلَمْزِي (1)
(1)
ديوانه: 64، من رجزه في أبان بن الوليد البجلي، ثم ذكر فيها نفسه، فقال: فَإن ترَيْنِي الْيَوْمَ أُمَّ حَمْزِ ... قَارَبْتُ بَيْنَ عَنَقِي وجَمْزِي

مِنْ بَعْدِ تَقْمَاص الشَّبَابِ الأَبْزِ ... فِي ظِلِّ عَصْرَيْ باطِلِي وَلَمْزِي
فَكُلُّ بَدْءِ صَالحٍ أَوْ نِقْزِ ... لاقٍ حِمَامَ الأَجَلِ المُجْتَزِّ
"أم حمز" ، يعني "أم حمزة" . و "العنق" ضرب من العدو، و "الجمز" فوق العنق، ودون الحضر، وهو العدو الشديد. يعني ما تقارب من جريه لما كبر، "تقماص الشباب" ، من "القمص" ، "قمص الفرس" ، إذا نفر واستن، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معًا، ويعجن برجليه. و "التقماص" مصدر لم تذكره كتب اللغة. و "الأبز" : الشديد الوثب، المتطلق في عدوه، يقال: "ظبي أبوز، وأباز" ، ولم يذكروا في الصفات "الأبز" ، وهو هنا صفة بالمصدر. و "البدء" : السيد الشاب المقدم المستجاد الرأي. و "النقز" (بكسرالنون) : الخسيس الرذال من الناس.


https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...efe9a72437.gif





الساعة الآن : 09:29 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 365.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 364.72 كيلو بايت... تم توفير 0.50 كيلو بايت...بمعدل (0.14%)]