رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الجاثية من صــ 221 الى صــ 230 الحلقة (651) النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يكون مثله ، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولى مغاضبا لقومه ، فابتلاه الله بثلاث : سلط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله ، وسلط الذئب على ولده فأكله ، وسلط عليه الحوت فابتلعه ، قال أبو القاسم الحكيم. وقال بعض العلماء : أولو العزم اثنا عشر نبيا أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم ، فأوحى الله إليهم الأنبياء أني مرسل عذابي إلى عصاة بني إسرائيل ؛ فشق ذلك على المرسلين فأوحى الله إليهم اختاروا لأنفسكم ، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل ، لان شئتم نجيتكم وأنزلت العذاب ببني إسرائيل ، فتشاوروا بينهم فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي الله بني إسرائيل ، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب. وذلك أنه سلط عليهم ملوك الأرض ، فمنهم من نشر بالمناشير ، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه ، ومنهم من صلب على الخشب حتى مات ، ومنهم من حرق بالنار. والله أعلم. وقال الحسن : أولو العزم أربعة : إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى ، فأما إبراهيم فقيل له : {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131] ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه ، فوجد صادقا وافيا في جميع ما ابتلي به. وأما موسى فعزمه حين قال له قومه : {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء : 61] . وأما داود فأخطأ خطيئته فنبه عليها ، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة ، فقعد تحت ظلها. وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة وقال : "إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها" . فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : اصبر ، أي كن صادقا فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم ، واثقا بنصرة مولاك مثل ثقة موسى ، مهتما بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود ، زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى. ثم قيل هي : منسوخة بآية السيف. وقيل : محكمة ، والأظهر أنها منسوخة ، لأن السورة مكية. وذكر مقاتل : أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل ، تسهيلا عليه وتثبيتا له. والله أعلم. قوله تعالى : {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} قال مقاتل : بالدعاء عليهم. وقيل : في إحلال العذاب بهم ، فإن أبعد غاياتهم يوم القيامة. ومفعول الاستعجال محذوف ، وهو العذاب. {أَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} قال يحيى : من العذاب. النقاش : من الآخرة. {لَمْ يَلْبَثُوا} أي في الدنيا حتى جاءهم العذاب ، وهو مقتضى قول يحيى. وقال النقاش : في قبورهم حتى بعثوا للحساب. {إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} يعني في جنب يوم القيامة. وقيل : نساهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا. {بَلاغٌ} أي هذا القرآن بلاغ ، قاله الحسن. فـ "بلاغ" رفع على إضمار مبتدأ ، دليله قوله تعالى : {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [إبراهيم : 52] ، وقوله : {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء : 106] . والبلاغ بمعنى التبليغ. وقيل : أي إن ذلك اللبث بلاغ ، قاله ابن عيسى ، فيوقف على هذا على {بلاغ} وعلى {نهار} . وذكر أبو حاتم أن بعضهم وقف على {وَلا تَسْتَعْجِلْ} ثم ابتدأ {لهم} على معنى لهم بلاغ. قال ابن الأنباري : وهذا خطأ ، لأنك قد فصلت بين البلاغ وبين اللام ، - وهي رافعة - بشيء ليس منهما. ويجوز في العربية : بلاغا وبلاغ ، النصب على معنى إلا ساعة بلاغا ، على المصدر أو على النعت للساعة. والخفض على معنى من نهار بلاغ. وبالنصب قرأ عيسى بن عمو والحسن. وروي عن بعض القراء {بلغ} على الأمر ، فعلى هذه القراءة يكون الوقف على {من نهار} ثم يبتدئ {بلغ} . {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أي الخارجون عن أمر الله ، قاله ابن عباس وغيره. وقرأ ابن محيصن {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ} على إسناد الفعل إلى القوم. وقال ابن عباس : إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ثم تغسل وتسقى منها ، وهي : بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله العظيم الحليم الكريم ، سبحان الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات : 46] . {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} صدق الله العظيم. وعن قتادة : لا يهلك الله إلا هالكا مشركا. وقيل : هذه أقوى آية في الرجاء. والله أعلم. تفسير سورة القتال ، وهي سورة محمد سورة القتال وهي سورة محمد صلى الله عليه وسلم مدنية في قول ابن عباس ، ذكره النحاس. وقال الماوردي : في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا : إلا آية منها نزلت عليه بعد حجة الوداع حين خرج من مكة ، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه ، فنزل عليه {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} [محمد : 13] . وقال الثعلبي : إنها مكية ، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير. وهي تسع وثلاثون آية. وقيل ثمان. الآية : 1 {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} قال ابن عباس ومجاهد : هم أهل مكة كفروا بتوحيد الله ، وصدوا أنفسهم والمؤمنين عن دين الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه ، وقال السدي. وقال الضحاك : {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن بيت الله بمنع قاصديه. ومعنى {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وجعل الدائرة عليهم ، قال الضحاك. وقيل : أبطل ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم ، من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وحفظ الجوار. وقال ابن عباس : نزلت في المطعمين ببدر ، وهم اثنا عشر رجلا : أبو جهل ، والحارث بن هشام ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبي وأمية ابنا خلف ، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن عامر بن نوفل. الآية : 2 {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} قوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن عباس ومجاهد : هم الأنصار. وقال مقاتل : إنها نزلت خاصة في ناس من قريش. وقيل : هما عامتان فيمن كفروا وآمن. ومعنى {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} : أبطلها. وقيل : أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق. {وعملوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} من قال إنهم الأنصار فهي المواساة في مساكنهم وأموالهم. ومن قال إنهم من قريش فهي الهجرة. ومن قال بالعموم فالصالحات جميع الأعمال التي ترضي الله تعالى. {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} لم يخالفوه في شيء ، قال سفيان الثوري. وقيل : صدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به. {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم. وقيل : أي إن القرآن هو الحق من ربهم ، نسخ به ما قبله {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي ما مضى من سيئاتهم قبل الإيمان. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي شأنهم ، عن مجاهد وغيره. وقال قتادة : حالهم. ابن عباس : أمورهم. والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم. وحكى النقاش أن المعنى أصلح نياتهم ، ومنه قول الشاعر : فإن تقبلي بالود أقبل بمثله ... وإن تدبري أذهب إلى حال باليا وهو على هذا التأول محمول على صلاح دينهم. {والبال} كالمصدر ، ولا يعرف منه فعل ، ولا تجمعه العرب إلا في ضرورة الشعر فيقولون فيه : بالات. المبرد : قد يكون البال في موضع آخر بمعنى القلب ، يقال : ما يخطر فلان على بالي ، أي على قلبي. الجوهري : والبال رخاء النفس ، يقال فلان رخي البال. والبال : الحال ؛ يقال ما بالك. وقولهم : ليس هذا من بالي ، أي مما أباليه. والبال : الحوت العظيم من حيتان البحر ، وليس بعربي. والبالة : وعاء الطيب ، فارسي معرب ، وأصله بالفارسية بيلة. قال أبو ذؤيب : كأن عليها بالة لطمية ... لها من خلال الدأيتين أريج الآية : 3 {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} {ذَلِكَ} في موضع رفع ، أي الأم ذلك ، أو ذلك الإضلال والهدى المتقدم ذكرهما سببه هذا. فالكافر اتبع الباطل ، والمؤمن اتبع الحق. والباطل : الشرك. والحق : التوحيد والإيمان. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي كهذا البيان الذي بين يبين الله للناس أمر الحسنات والسيئات. والضمير في {أمثالهم} يرجع إلى الذين كفروا والذين آمنوا. الآية : 4 {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} لما ميز بين الفريقين أمر بجهاد الكفار. قال ابن عباس : الكفار المشركون عبدة الأوثان. وقيل : كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة ، ذكره الماوردي. واختاره ابن العربي وقال : وهو الصحيح لعموم الآية فيه. {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} مصدر. قال الزجاج : أي فاضربوا الرقاب ضربا. وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بها. وقيل : نصب على الإغراء. قال أبو عبيدة : هو كقولك يا نفس صبرا. وقيل : التقدير اقصدوا ضرب الرقاب. وقال : {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} ولم يقل فاقتلوهم ، لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره ، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه. الثانية : قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} أي أكثرتم القتل. وقد مضى في "الأنفال" عند قوله تعالى : {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال : 67] . {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} أي إذا أسرتموهم. والوثاق اسم من الإيثاق ، وقد يكون مصدرا ، يقال : أوثقته إيثاقا ووثاقا. وأما الوثاق (بالكسر) فهو اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط ؛ قاله القشيري. وقال الجوهري : وأوثقه في الوثاق أي شده ، وقال تعالى : {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} . والوثاق (بكسر الواو) لغة فيه. وإنما أمر بشد الوثاق لئلا يفلتوا. {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} {فَإِمَّا مَنّاً} عليهم بالإطلاق من غير فدية {وَإِمَّا فِدَاءً} . ولم يذكر القتل ها هنا اكتفاء بما تقدم من القتل في صدر الكلام ، و {مَنّاً} و {فِدَاءً} نصب بإضمار فعل. وقرئ {فَدًى} بالقصر مع فتح الفاء ، أي فإما أن تمنوا عليهم منا ، وإما أن تفادوهم فداء. روي عن بعضهم أنه قال : كنت واقفا على رأس الحجاج حين أتي بالأسرى من أصحاب عبدالرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة فقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من كندة فقال : يا حجاج ، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا قال : ولم ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى قال : {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} في حق الذين كفروا ، فوالله ما مننت ولا فديت ؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق : ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم فقال الحجاج : أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام ؟ خلوا سبيل من بقي. فخلي يومئذ عن بقية الأسرى ، وهم زهاء ألفين ، بقول ذلك الرجل. الثالثة : واختلف العلماء في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال : الأول : أنها منسوخة ، وهي في أهل الأوثان ، لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم. والناسخ لها عندهم قوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة : 5] وقوله : {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال : 57] وقوله : {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة : 36] الآية ، قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس ، وقاله كثير من الكوفيين. وقال عبدالكريم الجوزي : كتب إلى أبي بكر في أسير أسر ، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا ، فقال اقتلوه ، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا. الثاني : أنها في الكفار جميعا. وهي منسوخة على قول جماعة من العلماء وأهل النظر ، منهم قتادة ومجاهد. قالوا : إذ أسر المشرك لم يجز أن يمن عليه ، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين ، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة ، لأنها لا تقتل. والناسخ لها : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة : 5] إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف ، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن يؤخذ منه الجزية. وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة ، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين. ذكر عبدالرزاق أخبرنا معمر عن قتادة { فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قال : نسخها { فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ } . وقال مجاهد : نسخها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة : 5] . وهو قول الحكم. الثالث : أنها ناسخة ، قال الضحاك وغيره. روى الثوري عن جويبر عن الضحاك : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة : 5] قال : نسخها {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . وقال ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء : "فإما منا بعد وإما فداء فلا يقتل المشرك ولكن يمن عليه ويفادى ، كما قال الله عز وجل. وقال أشعث : كان الحسن يكره أن يقتل الأسير ، ويتلو {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . وقال الحسن أيضا : في الآية تقديم وتأخير ، فكأنه قال : فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها. ثم قال : {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} ." وزعم أنه ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله ، لكنه بالخيار في ثلاثة منازل : إما أن يمن ، أو يفادي ، أو يسترق. الرابع : قول سعيد بن جبير : لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف ، لقوله تعالى : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال : 67] . فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره. الخامس : أن الآية محكمة ، والإمام مخير في كل حال ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقال كثير من العلماء منهم ابن عمر والحسن وعطاء ، وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم. وهو الاختيار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك ، قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبرا ، وفادى سائر أسارى بدر ، ومن على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده ، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين ، وهبط عليه عليه السلام قوم من أهل مكة فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن عليهم ، وقد من على سبي هوازن. وهذا كله ثابت في الصحيح ، وقد مضى جميعه في "الأنفال" وغيرها. قال النحاس : وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما ، وهو قول حسن ، لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع ، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ ، إذا كان يجوز أن يقع التعبد إذا لقينا الذين كفروا قتلناهم ، فإذا كان الأسر جاز القتل والاسترقاق والمفاداة والمن ، على ما فيه الصلاح للمسلمين. وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد ، وحكاه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة ، والمشهور عنه ما قدمناه ، وبالله عز وجل التوفيق. الرابعة : قوله تعالى : {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قال ، مجاهد وابن جبير : هو خروج عيسى عليه السلام. وعن مجاهد أيضا : أن المعنى حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام ، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة ، وتأمن الشاة من الذئب. ونحوه عن الحسن والكلبي والفراء والكسائي. قال الكسائي : حتى يسلم الخلق. وقال الفراء : حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقال الكلبي : حتى يظهر الإسلام على الدين كله. وقال الحسن : حتى لا يعبدوا إلا الله. وقيل : معنى الأوزار السلاح ، فالمعنى شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح. وقيل : معناه حتى تضع الحرب ، أي الأعداء المحاربون أوزارهم ، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة. ويقال للكراع أوزار. قال الأعشى : وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا ومن نسج داود يحدى بها ... على أثر الحي عيرا فعيرا وقيل : {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي أثقالها. والوزر الثقل ، ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال. وأثقالها السلاح لثقل حملها. قال ابن العربي : قال الحسن وعطاء : في الآية تقديم وتأخير ، المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، وليس للإمام أن يقتل الأسير. وقد روي عن الحجاج أنه دفع أسيرا إلى عبدالله بن عمر ليقتله فأبى وقال : ليس بهذا أمرنا الله ، وقرأ {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} . قلنا : قد قاله رسول الله : صلى الله عليه وسلم وفعله ، وليس في تفسير الله للمن والفداء منع من غيره ، فقد بين الله في الزنى حكم الجلد ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم الرجم ، ولعل ابن عمر كره ذلك من يد الحجاج فاعتذر بما قال ، وربك أعلم. قوله تعالى : {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} {ذلك} في موضع رفع على ما تقدم ، أي الأمر ذلك الذي ذكرت وبينت. وقيل : هو منصوب على معنى افعلوا ذلك. ويجوز أن يكون مبتدأ ، المعنى ذلك حكم الكفار. وهي كلمة يستعملها الفصيح عند الخروج من كلام إلى كلام ، وهو كما قال تعالى : {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص : 55] . أي هذا حق وأنا أعرفكم أن للظالمين كذا. ومعنى : {لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي أهلكهم بغير قتال. وقال ابن عباس : لأهلكهم بجند من الملائكة. {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي أمركم بالحرب ليبلو ويختبر بعضكم ببعض فيعلم المجاهدين والصابرين ، كما في السورة نفسها. {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يريد قتلى أحد من المؤمنين {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} قراءة العامة {قاتلوا} وهي اختيار أبي عبيد. وقرأ أبو عمرو وحفص {قتلوا} بضم القاف وكسر التاء ، وكذلك قرأ الحسن إلا أنه شدد التاء على التكثير. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة {قتلوا} بفتح القاف والتاء من غير ألف ، يعني الذين قتلوا المشركين. قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون : اعل هبل. ونادى المسلمون : الله أعلى وأجل. وقال المشركون : يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "قولوا لا سواء. قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون" . فقال المشركون : إن لنا العزى ولا عزى لكم. فقال المسلمون : الله مولانا ولا مولى لكم. وقد تقدم ذكر ذلك في (آل عمران "." الآية : 5 {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} قال القشيري : قراءة أبي عمرو {قتلوا} بعيدة ، لقوله تعالى : {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} والمقتول لا يوصف بهذا. قال غيره : يكون المعنى سيهديهم إلى الجنة ، أو سيهدي من بقي منهم ، أي يحقق لهم الهداية. وقال ابن زياد : سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر. قال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها ، ومن ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين : {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ} ومنه قوله تعالى : {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات : 23] معناه فاسلكوا بهم إليها. الآية : 6 {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الجاثية من صــ 231 الى صــ 240 الحلقة (652) أي إذا دخلوها يقال لهم تفرقوا إلى منازلكم ؛ فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم. قال معناه مجاهد وأكثر المفسدين. وفي البخاري ما يدل على صحة هذا القول عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يخلص المؤمنون من النار فحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كان بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا" . وقيل : {عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال. قال الحسن : وصف الله تعالى لهم الجنة في الدنيا ، فلما دخلوها عرفوها بصفتها. وقيل : فيه حذف ؛ أي عرف طرقها ومساكنها وبيوتها لهم ؛ فحذف المضاف. وقيل : هذا التعريف ، بدليل ، وهو الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه ويتبعه العبد حتى يأتي العبد منزله ، ويعرفه الملك جميع ما جعل له في الجنة. وحديث أبي سعيد الخدري يرده. وقال ابن عباس : {عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي طيبها لهم بأنواع الملاذ ؛ مأخوذ من العرف ، وهو الرائحة الطيبة. وطعام معرف أي مطيب ؛ تقول العرب : عرفت القدر إذا طيبتها بالملح والأبزار. وقال الشاعر يخاطب رجلا ويمدحه : عرفت كإتب عرفته اللطائم يقول : كما عرف الإتب ، وهو البقير والبقيرة ، وهو قميص لا كمين له تلبسه النساء. وقيل : هو من وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته ، يقال حرير معرف ، أي بعضه على بعض ، وهو من العرف المتتابع كعرف الفرس. وقيل : {عرفها لهم} أي وفقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنة. وقيل : عرف أهل السماء أنها لهم إظهارا لكرامتهم فيها. وقيل : عرف المطيعين أنها لهم. الآية : 7 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} أي إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار. نظيره : {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج : 40] وقد تقدم. وقال قطرب : إن تنصروا نبي الله ينصركم الله ، والمعنى واحد. {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} أي عند القتال. وقيل على الإسلام. وقيل على الصراط. وقيل : المراد تثبيت القلوب بالأمن ، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب. وقد مضى في "الأنفال" هذا المعنى. وقال هناك : {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال : 12] فأثبت هناك واسطة ونفاها هنا ، كقوله تعالى : {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة : 11] ثم نفاها بقوله : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الروم : 40] . {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك : 2] ومثله كثير ، فلا فاعل إلا الله وحده. الآية : 8 {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} يحتمل ، الرفع على الابتداء ، والنصب بما يفسره {فَتَعْساً لَهُمْ} كأنه قال : أتعس الذين كفروا. و {تعسا لهم} نصب على المصدر بسبيل الدعاء ، قاله الفراء ، مثل سقيا له ورعيا. وهو نقيض لعا له. قال الأعشى : فالتعس أولى لها من أن أقول لعا وفيه عشرة أقوال : الأول : بعدا لهم ، قاله ابن عباس وابن جريج. الثاني : حزنا لهم ، قاله السدي. الثالث : شقاء لهم ، قال ابن زيد. الرابع : شتما لهم من الله ، قاله الحسن. الخامس : هلاكا لهم ، قال ثعلب. السادس : خيبة لهم ، قاله الضحاك وابن زيد. السابع : قبحا لهم ، حكاه النقاش. الثامن : رغما لهم ، قاله الضحاك أيضا. التاسع : شرا لهم ، قاله ثعلب أيضا. العاشر : شقوة لهم ، قال أبو العالية. وقيل : إن التعس الانحطاط والعثار. قال ابن السكيت : التعس أن يخر على وجهه. والنكس أن يخر على رأسه. قال : والتعس أيضا الهلاك. قال الجوهري : وأصله الكب ، وهو ضد الانتعاش. وقد تعس "بفتح العين" يتعس تعسا ، وأتعسه الله. قال مجمع بن هلال : تقول وقد أفردتها من خليلها ... تعست كما أتعستني يا مجمع يقال : تعسا لفلان ، أي ألزمه الله هلاكا. قال القشيري : وجوز قوم تعس "بكسر العين" . قلت : ومنه حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض" خرجه البخاري. في بعض طرق هذا الحديث "تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" خرجه ابن ماجة. قوله تعالى : {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها لأنها كانت في طاعة الشيطان. ودخلت الفاء في قوله : {فتعسا} لأجل الإبهام الذي في {الذين} ، وجاء {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} على الخبر حملا على لفظ الذين ، لأنه خبر في اللفظ ، فدخول الفاء حملا على المعنى ، {وَأَضَلَّ} حملا على اللفظ. الآية : 9 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي ذلك الإضلال والإتعاس ، لأنهم {كرهوا ما أنزل الله} من الكتب والشرائع. {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي ما لهم من صور الخيرات ، كعمارة المسجد وقرى الضيف وأصناف القرب ، ولا يقبل الله العمل إلا من مؤمن. وقيل : أحبط أعمالهم أي عبادة الصنم. الآية : 10 {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} بين أحوال المؤمن والكافر تنبيها على وجوب الإيمان ، ثم وصل هذا بالنظر ، أي ألم يسر هؤلاء في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا بهم {فَيَنْظُرُوا} بقلوبهم {كَيْفَ كَانَ} آخر أمر الكافرين قبلهم. {مَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي أهلكهم واستأصلهم. يقال : دمره تدميرا ، ودمر عليه بمعنى. {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} ثم تواعد مشركي مكة فقال : {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي أمثال هذه الفعلة ، يعني التدمير. وقال الزجاج والطبري : الهاء تعود على العاقبة ، أي وللكافرين من قريش أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة إن لم يؤمنوا. الآية : 11 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي وليهم وناصرهم. وفي حرف ابن مسعود {ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا} . فالمولى : الناصر ها هنا ، قاله ابن عباس وغيره. قال : فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها قال قتادة : نزلت يوم أحد والنبي صلى الله عليه وسلم في الشعب ، إذ صاح المشركون : يوم بيوم ، لنا العزى ولا عزى لكم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : [قولوا الله مولانا ولا مولى لكم] وقد تقدم. {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} أي لا ينصرهم أحد من الله. الآية : 12 {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} تقدم. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} في الدنيا كأنهم أنعام ، ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم ، ساهون عما في غدهم. وقيل : المؤمن في الدنيا يتزود ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع. {وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} أي مقام ومنزل. 3 - الآية : 13 {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} قوله تعالى : {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} تقدم الكلام في {كأين} في "آل عمران" . وهي ها هنا بمعنى كم ، أي وكم من قرية. وأنشد الأخفش قول لبيد : وكائن رأينا من ملوك وسوقة ... ومفتاح قيد للأسير المكبل فيكون معناه : وكم من أهل قرية. {قَرْيَتِكَ الَّتِي} أي أخرجك أهلها. {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} قال قتادة وابن عباس : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : "اللهم أنت أحب البلاد إلى الله وأنت أحب البلاد إلي ولولا المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منك" . فنزلت الآية ، ذكره الثعلبي ، وهو حديث صحيح. الآية : 14 {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} قوله تعالى : {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} الألف ألف تقرير. ومعنى {عَلَى بَيِّنَةٍ} أي على ثبات ويقين ، قال ابن عباس. أبو العالية : وهو محمد صلى الله عليه وسلم. والبينة : الوحي. {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} أي عبادة الأصنام ، وهو أبو جهل والكفار. {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أي ما اشتهوا. وهذا التزيين من جهة الله خلقا. ويجوز أن يكون من الشيطان دعاء ووسوسة. ويجوز أن يكون من الكافر ، أي زين لنفسه سوء عمله وأصر على الكفر. وقال : {سوء} على لفظ {من} {واتبعوا} على معناه. الآية : 15 {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} قوله تعالى : {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} لما قال عز وجل : {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} [الحج : 14] وصف تلك الجنات ، أي صفة الجنة المعدة للمتقين. وقد مضى الكلام في هذا في "الرعد" . وقرأ علي بن أبي طالب {مثال الجنة التي وعد المتقون} . {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أي غير متغير الرائحة. والآسن من الماء مثل الآجن. وقد أسن الماء يأسن ويأسن أسنا وأسونا إذا تغيرت رائحته. وكذلك أجن الماء يأجن ويأجن أجنا وأجونا. ويقال بالكسر فيهما : أجن وأسن يأسن ويأجن أسنا وأجنا ، قاله اليزيدي. وأسن الرجل أيضا يأسن "بالكسر لا غير" إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك فغشي عليه أو دار رأسه ، قال زهير : قد أترك القِرن مصفرا أنامله ... يميد في الرمح ميد المائح الأسن ويروى "الوسن" . وتأسن الماء تغير. أبو زيد : تأسن علي تأسنا اعتل وأبطأ. أبو عمرو : تأسن الرجل أباه أخذ أخلاقه. وقال اللحياني : إذا نزع إليه في الشبه ، وقراءة العامة "آسن" بالمد. وقرأ ابن كثير وحميد {أسن} بالقصر ، وهما لغتان ، مثل حاذر وحذر. وقال الأخفش : أسن للحال ، وآسن "مثل فاعل" يراد به الاستقبال. قوله تعالى : وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ أي لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة. {أَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أي لم تدنسها الأرجل ولم ترنقها الأيدي كخمر الدنيا ، فهي لذيذة الطعم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون. يقال : شراب لذ ولذيذ بمعنى. واستلذه عده لذيذا. {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} العسل ما يسيل من لعاب النحل. {مُصَفّىً} أي من الشمع والقذى ، خلقه الله كذلك لم يطبخ على نار ولا دنسه النحل. وفي الترمذي عن حكيم بن معاومة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد" . قال : حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة" . وقال كعب : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم. وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر. والعسل : يذكر ويؤنث. وقال ابن عباس : "من عسل مصفى" أي لم يخرج من بطون النحل. {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} "من" زائدة للتأكيد. {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي لذنوبهم. {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} قال الفراء : المعنى أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار. وقال الزجاج : أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطى هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار. فقوله : {كمن} بدل من قوله : {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر : 8] . وقال ابن كيسان : مثل هذه الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم. ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمئل أهل النار في العذاب المقيم. {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً} أي حارا شديد الغليان ، إذا أدنى منهم شوى وجوههم ، ووقعت فروة رؤوسهم ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم. والأمعاء : جمع معى ، والتثنية معيان ، وهو جميع ما في البطن من الحوايا. 16 {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} قوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} أي من هؤلاء الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، وزين لهم سوء عملهم قوم يستمعون إليك وهم المنافقون : عبدالله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت وزيد بن الصليت والحارث بن عمرو ومالك بن دخشم ، كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه ، فإذا خرجوا سألوا عنه ، قاله الكلبي ومقاتل. وقيل : كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين ، فيستمعون منه ما يقول ، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر. {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} أي إذا فارقوا مجلسك. {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قال عكرمة : هو عبدالله بن العباس. قال ابن عباس : كنت ممن يُسأل ، أي كنت من الذين أوتوا العلم. وفي رواية عن ابن عباس : أنه يريد عبدالله بن مسعود. وكذا قال عبدالله بن بريدة : هو عبدالله بن مسعود. وقال القاسم بن عبدالرحمن : هو أبو الدرداء. وقال ابن زيد : إنهم الصحابة. {مَاذَا قَالَ آنِفاً} أي الآن ، على جهة الاستهزاء. أي أنا لم ألتفت إلى قوله. و {آنِفاً} يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات إليك ، من قولك : استأنفت الشيء إذا ابتدأت به. ومنه أمر أنف ، وروضة أنف ، أي لم يرعها أحد. وكأس أنف : إذا لم يشرب منها شيء ، كأنه استؤنف شربها مثل روضة أنف. قال الشاعر : ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع وقال آخر : إن الشواء والنشيل والرغف ... والقينة الحسناء والكأس الأنف للطاعنين الخيل والخيل قطف وقال امرؤ القيس : قد غدا يحملني في أنفه أي في أوله. وأنف كل شيء أوله. وقال قتادة في هؤلاء المنافقين : الناس رجلان : رجل عقل عن الله فانتفع بما سمع ، ورجل لم يعقل ولم ينتفع بما سمع. وكان يقال : الناس ثلاثة : فسامع عامل ، وسامع عاقل ، وسامع غافل تارك. قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلم يؤمنوا. {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} في الكفر. {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} أي للإيمان زادهم الله هدى. وقيل : زادهم النبي صلى الله عليه وسلم هدى. وقيل : ما يستمعونه من القرآن هدى ، أي يتضاعف يقينهم. وقال الفراء : زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى. وقيل : زادهم نزول الناسخ هدى. وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل : أحدها : زادهم علما ، قاله الربيع بن أنس. الثاني : أنهم علموا ما سمعوا وعملوا بما علموا ، قاله الضحاك. الثالث : زادهم بصيرة في دينهم وتصديقا لنبيهم ، قاله الكلبي. الرابع : شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان. قوله تعالى : {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} أي ألهمهم إياها. وقيل : فيه خمسة أوجه : أحدها : آتاهم الخشية ، قاله الربيع. الثاني : ثواب تقواهم في الآخرة ، قاله السدي. الثالث : وفقهم للعمل الذي فرض عليهم ، قاله مقاتل. الرابع : بين لهم ما يتقون ، قاله ابن زياد والسدي أيضا. الخامس : أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ ، قاله عطية. الماوردي : ويحتمل. سادسا : أنه ترك الرخص والأخذ بالعزائم. وقرئ {وأعطاهم} بدل {وآتاهم} . وقال عكرمة : هذه نزلت فيمن آمن من أهل الكتاب. الآية : 18 {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} قوله تعالى : {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي فجأة. وهذا وعيد للكفار. {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي أماراتها وعلاماتها. وكانوا قد قرؤوا في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء ، فبعثه من أشراطها وأدلتها ، قاله الضحاك والحسن. وفي الصحيح عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بعثت أنا والساعة كهاتين" وضم السبابة والوسطى ، لفظ مسلم : وخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه. ويروى "بعثت والساعة كفرسي رهان" . وقيل : أشراط الساعة أسبابها التي هي دون معظمها. ومنه يقال للدون من الناس : الشرط. وقيل : يعني علامات الساعة انشقاق القمر والدخان ، قال الحسن أيضا. وعن الكلبي : كثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام ، وقلة الكرام وكثرة اللئام. وقد أتينا على هذا الباب في كتاب "التذكرة" مستوفى والحمد لله. وواحد الأشراط شرط ، وأصله الأعلام. ومنه قيل الشرط ، لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها. ومنه الشرط في البيع وغيره. قال أبو الأسود : فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو ويقال : أشرط فلان نفسه في عمل كذا أي أعلمها وجعلها له. قال أوس بن حجر يصف رجلا تدلى بحبل من رأس جبل إلى نبعة يقطعها ليتخذ منها قوسا : فأشرط نفسه فيها وهو معصم ... وألقى بأسباب له وتوكلا https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الجاثية من صــ 241 الى صــ 250 الحلقة (653) {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} {أن} بدل اشتمال من {الساعة} ، نحو قوله : {أَنْ تَطَأُوهُمْ} [الفتح : 25] من قوله : {رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح : 25] . وقرئ {بَغْتَةً} بوزن جربة ، وهي غريبة لم ترد في المصادر أختها ، وهي مروية عن أبي عمرو. الزمخشري : وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو ، وأن يكون الصواب {بَغَتَةً} بفتح الغين من غير تشديد ، كقراءة الحسن. وروى أبو جعفر الرؤاسي وغيره من أهل مكة {إن تأتهم بغتة} . قال المهدوي : ومن قرأ {إن تأتهم بغتة} كان الوقف على {الساعة} ثم استأنف الشرط. وما يحتمله الكلام من الشك مردود إلى الخلق ، كأنه قال : إن شكوا في مجيئها {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} . قوله تعالى : {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} {ذِكْرَاهُمْ} ابتداء و {أنى لهم} الخبر. والضمير المرفوع في {جَاءَتْهُمْ} للساعة ، التقدير : فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة ، قال معناه قتادة وغيره. وقيل : فكيف لهم بالنجاة إذا جاءتهم الذكرى عند مجيء الساعة ، قاله ابن زيد. وفي الذكرى وجهان : أحدهما : تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر. الثاني : هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيرا وتخويفا ، روى أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة يا فلان قم إلى نورك يا فلان قم لا نور لك" ذكره الماوردي. الآية : 19 {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} قوله تعالى : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} قال الماوردي : وفيه - وإن كان الرسول عالما بالله - ثلاثة أوجه : يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله. الثاني : ما علمته استدلالا فاعلمه خبرا يقينا. الثالث : يعني فاذكر أن لا إله إلا الله ، فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه. وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله حين بدأ به {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فأمر بالعمل بعد العلم وقال : {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} إلى قوله {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد : 20 - 21] وقال : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال : 28] . ثم قال بعد : {فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن : 14] . وقال تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال : 41] . ثم أمر بالعمل بعد. قوله تعالى : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} يحتمل وجهين : أحدهما : يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني : استغفر الله ليعصمك من الذنوب. وقيل : لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان ، أي اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص والحذر عما تحتاج معه إلى استغفار. وقيل : الخطاب له والمراد به الأمة ، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين. وقيل : كان عليه السلام يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين ، فنزلت الآية. أي فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله ، فلا تعلق قلبك بأحد سواه. وقيل : أمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي ولذنوبهم. وهذا أمر بالشفاعة. وروى مسلم عن عاصم الأحول عن عبدالله بن سرجس المخزومي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت من طعامه فقلت : يا رسول الله ، غفر الله لك فقال له صاحبي : هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، ولك. ثم تلا هذه الآية : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، جمعا عليه خيلان كأنه الثآليل. قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} فيه خمسة أقوال : أحدها : يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم. الثاني : {مُتَقَلَّبَكُمْ} في أعمالكم نهارا {وَمَثْوَاكُمْ} في ليلكم نياما. وقيل {مُتَقَلَّبَكُمْ} في الدنيا. {وَمَثْوَاكُمْ} في الدنيا والآخرة ، قال ابن عباس والضحاك. وقال عكرمة : {مُتَقَلَّبَكُمْ} في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات. {وَمَثْوَاكُمْ} مقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان {مُتَقَلَّبَكُمْ} من ظهر إلى بطن الدنيا. {وَمَثْوَاكُمْ} في القبور. قلت : والعموم يأتي على هذا كله ، فلا يخفى عليه سبحانه شيء من حركات بني آدم وسكناتهم ، وكذا جميع خلقه. فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلا أولى وأخرى. سبحانه! لا إله إلا هو. الآية : 20 - 21 {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ، طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} قوله تعالى : {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي المؤمنون المخلصون. {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} اشتياقا للوحي وحرصا على الجهاد وثوابه. ومعنى {لولا} هلا. {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} لا نسخ فيها. قال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة ، وهي أشد القرآن على المنافقين. وفي قراءة عبدالله {فإذا أنزلت سورة محدثة} أي محدثة النزول. {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} أي فرض فيها الجهاد. وقرئ {فإذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال} على البناء للفاعل ونصب القتال. {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي شك ونفاق. {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي نظر مغموصين مغتاظين بتحديد وتحديق ، كمن يشخص بصره عند الموت ، وذلك لجبنهم عن القتال جزعا وهلعا ، ولميلهم في السر إلى الكفار. قوله تعالى : {فَأَوْلَى لَهُمْ} قال الجوهري : وقولهم : أولى لك ، تهديد ووعيد. قال الشاعر : فأولى ثم أولى ثم أولى ... وهل للدر يحلب من مرد قال الأصمعي : معناه قاربه ما يهلكه ، أي نزل به. وأنشد : فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن يزيد على الثلاث أي قارب أن يزيد. قال ثعلب : ولم يقل أحد في {أولى} أحسن مما قال الأصمعي. وقال المبرد : يقال لمن هم بالعطب ثم أفلت : أولى لك ، أي قاربت العطب. كما روي أن أعرابيا كان يوالي رمي الصيد فيفلت منه ليقول : أولى لك. ثم رمى صيدا فقاربه ثم أفلت منه فقال : فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم ... ولكن أولى يترك القوم جوعا وقيل : هو كقول الرجل لصاحبه : يا محروم ، أي شيء فاتك وقال الجرجاني : هو مأخوذ من الويل ، فهو أفعل ، ولكن فيه قلب ، وهو أن عين الفعل وقع موقع اللام. وقد تم الكلام على قوله : {فأولى لهم} . قال قتادة : كأنه قال العقاب أولى لهم. وقيل : أي وليهم المكروه. ثم قال : "طاعة وقول معروف" أي طاعة وقول معروف أمثل وأحسن ، وهو مذهب سيبويه والخليل. وقيل : إن التقدير أمرنا طاعة وقول معروف ، فحذف المبتدأ فيوقف على {فَأَوْلَى لَهُمْ} وكذا من قدر يقولون منا طاعة. وقيل : إن الآية الثانية متصلة بالأولى. واللام في قوله : {لهم} بمعنى الباء ، أي الطاعة أولى وأليق بهم ، وأحق لهم من ترك أمتثال أمر الله. وهي قراءة أبي {يقولون طاعة} . وقيل إن : {طاعة} نعت لـ "سورة" ، على تقدير : فإذا أنزلت سورة ذات طاعة ، فلا يوقف على هذا على {فأولى لهم} . قال ابن عباس : إن قولهم {طاعة} إخبار من الله عز وجل عن المنافقين. والمعنى لهم طاعة وقول معروف ، قيل : وجوب الفرائض عليهم ، فإذا أنزلت الفرائض شق عليهم نزولها. فيوقف على هذا على {فأولى} . {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي جد القتال ، أو وجب فرض القتال ، كرهوه. فكرهوه جواب {إذا} وهو محذوف. وقيل : المعنى فإذا عزم أصحاب الأمر. {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} أي في الإيمان والجهاد. {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} من المعصية والمخالفة. الآية : 22 - 24 {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} اختلف في معنى {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} فقيل : هو من الولاية. قال أبو العالية : المعنى فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجُعِلتم حكاما أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا. وقال الكلبي : أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم. وقال ابن جريج : المعنى فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام. وقال كعب : المعنى فهل عسيتم إن توليتم الأمر أن يقتل بعضكم بعضا. وقيل : من الإعراض عن الشيء. قال قتادة : أي فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام ، وتقطعوا أرحامكم. وقيل : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} أي فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض فتعودوا إلى جاهليتكم. وقرئ بفتح السين وكسرها. وقد مضى في "البقرة" القول فيه مستوفى. وقال بكر المزني : إنها نزلت في الحرورية والخوارج ، وفيه بعد. والأظهر أنه إنما عني بها المنافقون. وقال ابن حيان : قريش. ونحوه قال المسيب بن شريك والفراء ، قالا : نزلت في بني أمية وبني هاشم ، ودليل هذا التأويل ما روى عبدالله بن مغفل قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} - ثم قال - هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألا يفسدوا في الأرض ولا يقطعوا أرحامهم ". وقرأ علي بن أبي طالب {إن تُوُليتم أن تفسدوا في الأرض} بضم التاء والواو وكسر اللام. وهي قراءة ابن أبي إسحاق ، ورواها رويس عن" يعقوب. يقول : إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم. قوله تعالى : {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} بالبغي والظلم والقتل. وقرأ يعقوب وسلام وعيسى وأبو حاتم {وتَقْطعوا} بفتح التاء وتخفيف القاف ، من القطع ، اعتبارا بقوله تعالى : {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة : 27] . وروى هذه القراءة هارون عن أبى عمرو. وقرأ الحسن {وتقطعوا} مفتوحة الحروف مشددة ، أعتبارا بقوله تعالى : {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء : 93] . الباقون {وتُقَطِّعوا} بضم التاء مشددة الطاء ، من التقطيع على التكثير ، وهو اختيار أبي عبيد. وتقدم ذكر {عسيتم} [البقرة : 246] في "البقرة" . وقال الزجاج في قراءة نافع : لو جاز هذا لجاز "عيسى" بالكسر. قال الجوهري : ويقال عسيت أن أفعل ذلك ، وعسيت بالكسر. وقرئ {فهل عَسِيتم} بالكسر. قلت : ويدل قوله هذا على أنهما لغتان. وقد مضى القول فيه في "البقرة" مستوفى. قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} أي طردهم وأبعدهم من رحمته. {فَأَصَمَّهُمْ} عن الحق. {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} أي قلوبهم عن الخير. فأتبع الأخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه لعنته ، وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه ، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل. وقال : {فهل عسيتم} ثم قال : {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك. قوله تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} أي يتفهمونه فيعلمون ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام. {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أي بل على قلوب أقفال أقفلها الله عز وجل عليهم فهم لا يعقلون. وهذا يرد على القدرية والإمامية مذهبهم. وفي حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن عليها أقفالا كأقفال الحديد حتى يكون الله يفتحها" . وأصل القفل اليبس والصلابة. ويقال لما يبس من الشجر : القفل. والقفيل مثله. والقفيل أيضا نبت. والقفيل : الصوت. قال الراجز : لما أتاك يابسا قرشبا ... قمت إليه بالقفيل ضربا كيف قريت شيخك الأزبا القِرْشَبُّ (بكسر القاف) المسن ، عن الأصمعي. وأقفله الصوم أي أيبسه ، قاله القشيري والجوهري. فالأقفال ها هنا إشارة إلى ارتجاج القلب وخلوه عن الإيمان. أي لا يدخل قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر ، لأن الله تعالى طبع على قلوبهم وقال : "على قلوب" لأنه لو قال على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة. والمراد أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها. الثالثة : في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذاك لك - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اقرؤوا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} " . وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار. وقال قتادة وغيره : معنى الآية فلعلكم ، أو يخاف عليكم ، إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض لسفك الدماء. قال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ألم يسفكوا الدماء الحرام ويقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن. فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والإيمان ، التي قد سماها الله إخوة بقوله تعالى : {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات : 10] . وعلى قول الفراء أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية ، والمراد من أضمر منهم نفاقا ، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك يوجب القتال. وبالجملة فالرحم على وجهين : عامة وخاصة ، فالعامة رحم الدين ، ويوجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم ، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم ، والنصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة ، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم ، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم. وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه ، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة ، كالنفقة وتفقد أحوالهم ، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم ، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة ، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب. وقال بعض أهل العلم : إن الرحم التي تجب صلتها هي كل رحم محرم وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال. وقيل : بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث ، محرما كان أو غير محرم. فيخرج من هذا أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم. وهذا ليس بصحيح ، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم تجب صلته على كل حال ، قربة ودينية ، على ما ذكرناه أولا والله أعلم. قد روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال : حدثنا شعبة قال أخبرني محمد بن عبدالجبار قال سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن للرحم لسانا يوم القيامة تحت العرش يقول يا رب قطعت يا رب ظلمت يا رب أسيء إلي فيجيبها ربها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك" . وفي صحيح مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة قاطع" . قال ابن أبي عمر قال سفيان : يعني قاطع رحم. ورواه البخاري. الرابعة : قوله عليه السلام : "إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم..." "خلق" بمعنى اخترع وأصله التقدير ، كما تقدم. والخلق هنا بمعنى المخلوق. ومنه قوله تعالى : {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان : 11] أي مخلوقه. ومعنى [فرغ منهم] كمل خلقهم. لا أنه اشتغل بهم ثم فرغ من شغله بهم ، إذ ليس فعله بمباشرة ولا مناولة ، ولا خلقه بآلة ولا محاولة ، تعالى عن ذلك. وقوله : [قامت الرحم فقالت] يحمل على أحد وجهين : أحدهما : أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة فيقول ذلك ، وكأنه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها ويكتب ثواب من وصلها ووزر من قطعها ، كما وكل الله بسائر الأعمال كراما كاتبين ، وبمشاهدة أوقات الصلوات ملائكة متعاقبين. وثانيهما : أن ذلك على جهة التقدير والتمثيل المفهم للإعياء وشدة الاعتناء. فكأنه قال : لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام ، كما قال تعالى : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ثم قال {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر : 21] . وقوله : "فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة" مقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم ، وأن الله سبحانه قد نزلها بمنزلة من استجار به فأجاره ، وأدخله في ذمته وخفارته. وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول وعهده غير منقوض. ولذلك قال مخاطبا للرحم : "أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك" . وهذا كما قال عليه السلام : "ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله تعالى فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه بذمته بشيء يدركه ثم يكبه في النار على وجهه" . الآية : 25 {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب ، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم ، قاله ابن جريج. وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هم المنافقون ، قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن. {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} أي زين لهم خطاياهم ، قاله الحسن. {وَأَمْلَى لَهُمْ} أي مد لهم الشيطان في الأمل ووعدهم طول العمر ، عن الحسن أيضا. وقال : إن الذي أملى لهم في الأمل ومد في آجالهم هو الله عز وجل ، قاله الفراء والمفضل. وقال الكلبي ومقاتل : إن معنى {أملى لهم} أمهلهم ، فعلى هذا يكون الله تعالى أملى لهم بالإمهال في عذابهم. وقرأ أبو عمرو وابن إسحاق وعيسى بن عمرو أبو جعفر وشيبة {وَأُمْلِى لَهُمْ} بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء ، على ما لم يسم فاعله. وكذلك قرأ ابن هرمز ومجاهد والجحدري ويعقوب ، إلا أنهم سكنوا الياء على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم ، كأنه قال : وأنا أملي لهم. واختاره أبو حاتم ، قال : لأن فتح الهمزة يوهم أن الشيطان يملي لهم ، وليس كذلك ، فلهذا عدل إلى الضم. قال المهدوي : ومن قرأ {وأملى لهم} فالفاعل اسم الله تعالى. وقيل الشيطان. واختار أبو عبيد قراءة العامة ، قال : لأن المعنى معلوم ، لقوله : {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح : 9] رد التسبيح على اسم الله ، والتوقير والتعزير على اسم الرسول. الآية : 26 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا} أي ذلك الإملاء لهم حتى يتمادوا في الكفر بأنهم قالوا ، يعني المنافقين واليهود. {قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} وهم المشركون. {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي في مخالفة محمد والتظاهر على عداوته ، والقعود عن الجهاد معه وتوهين أمره في السر. وهم إنما قالوا ذلك سرا فأخبر الله نبيه. وقراءة العامة {أسرارهم} بفتح الهمزة جمع سر ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ الكوفيون وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم {إسرارهم} بكسر الهمزة على المصدر ، نحو قوله تعالى : {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح : 9] جمع لاختلاف ضروب السر. الآية : 27 {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} قوله تعالى : {فَكَيْفَ} أي فكيف تكون حالهم. {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي ضاربين ، فهو في موضع الحال. ومعنى الكلام التخويف والتهديد ، أي إن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر. وقد مضى في "الأنفال والنحل" . وقال ابن عباس : لا يتوفى أحد على معصية إلا بضرب شديد لوجهه وقفاه. وقيل : ذلك عند القتال نصرة لرسول الله https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الفتح من صــ 251 الى صــ 260 الحلقة (654) صلى الله عليه وسلم ، بضرب الملائكة وجوههم عند الطلب وأدبارهم عند الهرب. وقيل : ذلك في القيامة عند سوقهم إلى النار. الآية : 28 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} قوله تعالى : {ذَلِكَ} أي ذلك جزاؤهم. {بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} قال ابن عباس : هو كتمانهم ما في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. وإن حملت على المنافقين فهو إشارة إلى ما أضمروا عليه من الكفر. {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} يعني الإيمان. {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي ما عملوه من صدقة وصلة رحم وغير ذلك ، على ما تقدم. الآية : 29 - 30 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ، وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} قوله تعالى : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} نفاق وشك ، يعني المنافقين. {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} الأضغان ما يضمر من المكروه. واختلف في معناه ، فقال السدي : غشهم. وقال ابن عباس : حسدهم. وقال قطرب : عداوتهم ، وأنشد قول الشاعر : قل لابن هند ما أردت بمنطق ... ساء الصديق وشيد الأضغانا وقيل : أحقادهم. واحدها ضغن. قال : وذي ضغن كففت النفس عنه وقد تقدم. وقال عمرو بن كلثوم : وإن الضغن بعد الضغن يفشو ... عليك ويخرج الداء الدفينا قال الجوهري : الضغن والضغينة : الحقد. وقد ضغن عليه "بالكسر" ضغنا. وتضاغن القوم واضطغنوا : أبطنوا على الأحقاد. واضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك. وأنشد الأحمر : كأنه مضطغن صبيا أي حامله في حجره. وقال ابن مقبل : إذا اضطغنت سلاحي عند مغرضها ... ومرفق كرئاس السيف إذ شسفا وفرس ضاغن : لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب. والمعنى : أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام. {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} أي لعرفناكهم. قال ابن عباس : وقد عرفه إياهم في سورة "التوبة" . تقول العرب : سأريك ما أصنع ، أي سأعلمك ، ومنه قوله تعالى : {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء : 105] أي بما أعلمك. {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي بعلاماتهم. قال أنس. ما خفي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم. وقد كنا في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشك فيهم الناس ، فأصبحوا ذات ليلة وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب "هذا منافق" فذلك سيماهم. وقال ابن زيد : قدر الله إظهارهم وأمر أن يخرجوا من المسجد فأبوا إلا أن يتمسكوا بلا إله إلا الله ، فحقنت دماؤهم ونكحوا وأنكحوا بها. {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي في فحواه ومعناه. ومنه قول الشاعر : وخير الكلام ما كان لحنا أي ما عرف بالمعنى ولم يصرح به. مأخوذ من اللحن في الإعراب ، وهو الذهاب عن الصواب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" أي أذهب بها في الجواب لقوته على تصريف الكلام. أبو زيد : لحنت له (بالفتح) ألحن لحنا إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره. ولحنه هو عني (بالكسر) يلحنه لحنا أي فهمه. وألحنته أنا إياه ، ولاحنت الناس فاطنتهم ، قال الفزاري : وحديث ألذه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا منطق رائع وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا يريد أنها تتكلم بشيء وهي تريد غيره ، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها. وقد قال تعالى : {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} . وقال القتال الكلابي : ولقد وحيت لكم لكيما تفهموا ... ولحنت لحنا ليس بالمرتاب وقال مرار الأسدي : ولحنت لحنا فيه غش ورابني ... صدودك ترضين الوشاة الأعاديا قال الكلبي : فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم منافق إلا عرفه. وقيل : كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد ، فنبهه الله تعالى عليه ، فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم. قال أنس : فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عرفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} أي لا يخفى عليه شيء منها. الآية : 31 {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} قوله تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي نتعبدكم بالشرائع لان علمنا عواقب الأمور. وقيل : لنعاملنكم معاملة المختبرين. {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} عليه. قال ابن عباس : {حَتَّى نَعْلَمَ} حتى نميز. وقال على رضي الله عنه. {حَتَّى نَعْلَمَ} حتى نرى. وقد مضى في "البقرة" . وقراءة العامة بالنون في {نبلونكم} و {نعلم} {ونبلو} . وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء فيهن. وروى رويس عن يعقوب إسكان الواو من {نبلو} على القطع مما قبل. ونصب الباقون ردا على قوله : {حتى نعلم} . وهذا العلم هو العلم الذي يقع به الجزاء ، لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم. فتأويله : حتى نعلم المجاهدين علم شهادة ، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا ، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة. {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} نختبرها ونظهرها. قال إبراهيم بن الأشعث : كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبتلنا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. الآية : 32 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يرجع إلى المنافقين أو إلى اليهود. وقال ابن عباس : هم المطعمون يوم بدر. نظيرها : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال : 36] الآية. {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} أي عادوه وخالفوه. {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} أي علموا أنه نبي بالحجج والآيات. {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} بكفرهم. {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} أي ثواب ما عملوه. الآية : 33 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} لما بين حال الكفار أمر المؤمنين بلزوم الطاعة في أوامره والرسول في سننه. {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} أي حسناتكم بالمعاصي ، قال الحسن. وقال الزهري : بالكبائر. ابن جريج : بالرياء والسمعة. وقال مقاتل والثمالي : بالمن ، وهو خطاب لمن كان يمن على النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه. وكله متقارب ، وقول الحسن يجمعه. وفيه إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات ، والمعاصي تخرج عن الإيمان. الثانية : احتج علماؤنا وغيرهم بهذه الآية على أن التحلل من التطوع - صلاة كان أو صوما - بعد التلبس به لا يجوز ، لأن فيه إبطال العمل وقد نهى الله عنه. وقال من أجاز ذلك - وهو الإمام الشافعي وغيره - : المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض ، فنهى الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلا فلا ، لأنه ليس واجبا عليه. فان زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه أن النفل تطوع ، والتطوع يقتضي تخبيرا. وعن أبي العالية كانوا يرون أنه لا يضر مع الإسلام ذنب ، حتى نزلت هذه الآية فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل : يقول الله تعالى إذا عصيتم الرسول فقد أبطلتم أعمالكم. الآية : 34 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} بين أن الاعتبار بالوفاة على الكفر يوجب الخلود في النار. وقد مضى في "البقرة" الكلام فيه. وقيل : إن المراد بالآية أصحابة القليب. وحكمها عام. الآية : 35 {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {فَلا تَهِنُوا} أي تضعفوا عن القتال. والوهن : الضعف وقد وهن الإنسان ووهنه غيره ، يتعدى ولا يتعدى. قال : إنني لست بموهون فقر ووهن أيضا (بالكسر) وهنا أي ضعف ، وقرئ {فما وهنوا} بضم الهاء وكسرها. وقد مضى في (آل عمران "." الثانية : قوله تعالى : {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أي الصلح. {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أي وأنتم أعلم بالله منهم. وقيل : وأنتم الأعلون في الحجة. وقيل : المعنى وأنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال. وقال قتادة : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. الثالثة : واختلف العلماء في حكمها ، فقيل : إنها ناسخة لقوله تعالى : {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال : 61] ، لأن الله تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح. وقيل : منسوخة بقوله تعالى : {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} . وقيل : هي محكمة. والآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الحال. وقيل : إن قوله : {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} مخصوص في قوم بأعيانهم ، والأخرى عامة. فلا يجوز مهادنة الكفار إلا عند الضرورة ، وذلك إذا عجزنا عن مقاومتهم لضعف المسلمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى. {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} أي بالنصر والمعونة ، مثل : {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت : 69] : {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي لن ينقصكم ، عن ابن عباس وغيره. ومنه الموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ، تقول منه : وتره يتره وترا وترة. ومنه قوله عليه السلام : "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" أي ذهب بهما. وكذلك وتره حقه أي نقصه. وقوله تعالى : {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي لن ينتقصكم في أعمالكم ، كما تقول : دخلت البيت ، وأنت تريد في البيت ، قاله الجوهري. الفراء : {ولن يتركم} هو مشتق من الوتر وهو الفرد ، فكان المعنى : ولن يفردكم بغير ثواب. الآية : 36 - 37 {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ، إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} قوله تعالى : {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} تقدم في "الأنعام. {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} شرط وجوابه. {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} أي لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة ، بل أمر بإخراج البعض ، قاله أين عيينة وغيره. وقيل : {لا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} لنفسه أو لحاجة منه إليها ، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم. وقيل : {لا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} إنما يسألكم أمواله ، لأنه المالك لها وهو المنعم بإعطائها. وقيل : ولا يسألكم محمد أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة. نظيره : {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان : 57] الآية." قوله تعالى : {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} يلح عليكم ، يقال : أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد. والحفي المستقصي في السؤال ، وكذلك الإحفاء الاستقصاء في الكلام والمنازعة. ومنه أحفى شاربه أي استقصى في أخذه. {تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي يخرج البخل أضغانكم. قال قتادة : قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد {وتخرج} بتاء مفتوحة وراء مضمومة. {أضغانكم} بالرفع لكونه الفاعل. وروى الوليد عن يعقوب الحضرمي {ونخرج} بالنون. وأبو معمر عن عبدالوارث عن أبي عمرو {ويخرج} بالرفع في الجيم على القطع والاستئناف والمشهور عنه {ويخرج} كسائر القراء ، عطف على ما تقدم. الآية : 38 {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} قوله تعالى : {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ} أي ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون {لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في الجهاد وطريق الخير. {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} أي على نفسه ، أي يمنعها الأجر والثواب. {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} أي إنه ليس بمحتاج إلى أموالكم. {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} إليها. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} أي أطوع لله منكم. روى الترمذي عن أبى هريرة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} قالوا : ومن يستبدل بنا ؟ قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال : "هذا وقومه. هذا وقومه" قال : حديث غريب في إسناده مقال. وقد روى عبدالله بن جعفر بن نجيح والد على بن المديني أيضا هذا الحديث عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال أنس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ، من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولينا استبدلوا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ قال : وكان سلمان جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان ، قال : "هذا وأصحابه. والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس" . وقال الحسن : هم العجم. وقال عكرمة : هم فارس والروم. قال المحاسبي : فلا أحد بعد العربي من جميع أجناس الأعاجم أحسن دينا ، ولا كانت العلماء منهم إلا الفرس. وقيل : إنهم اليمن ، وهم الأنصار ، قال شريح بن عبيد. وكذا قال ابن عباس : هم الأنصار. وعنه أنهم الملائكة. وعنه هم التابعون. وقال مجاهد : إنهم من شاء من سائر الناس. {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} قال الطبري : أي في البخل بالإنفاق في سبيل الله. وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "هي أحب إلي من الدنيا" . والله أعلم. "صفحة رقم 259" سورة الفتح مدنية بإجماع وهي تسع وعشرون آية ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن الحديبية روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر بن الخطاب : ثكلت أم عمر نزرت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك فقال عمر : فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن فجئت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسلمت عليه فقال : ) لقد أنزلت على الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) لفظ البخاري وقال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما إلى قوله فوزا عظيما مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة وقد نحر الهدى بالحديبية فقال : ) لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا ) وقال عطاء عن بن عباس : إن اليهود شتموا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين لما نزل قوله تعالى : ) وما أدري ما يفعل بي ولا بكم وقالوا : كيف تنبع رجلا لا يدري ما يفعل به فاشتد ذلك على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ونحوه قال مقاتل تفسير سورة الفتح مدنية بإجماع ، وهي تسع وعشرون آية. ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن الحديبية. روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها. وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر بن الخطاب : ثكلت أم عمر ، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك ، فقال عمر : فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه ، فقال : "لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس - ثم قرأ - {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} " لفظ البخاري. وقال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح. وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} - إلى قوله - {فَوْزاً عَظِيماً} مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة ، وقد نحر الهدي بالحديبية ، فقال : "لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا" . وقال عطاء عن ابن عباس : إن اليهود شتموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما نزل قوله تعالى : {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف : 9] وقالوا : كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} . ونحوه قال مقاتل سورة الفتح مقدمة السورة ابن سليمان : لما نزل قوله تعالى : {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف : 9] فرح المشركون والمنافقون وقالوا : كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به ولا بأصحابه ، فنزلت بعد ما رجع من الحديبية : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} أي قضينا لك قضاء. فنسخت هذه الآية تلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لقد أنزلت علي سورة ما يسرني بها حمر النعم" . وقال المسعودي : بلغني أنه من قرأ سورة الفتح في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع حفظه الله ذلك العام. الآية : 1 {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} اختلف في هذا الفتح ما هو ؟ ففي البخاري حدثني محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال : الحديبية. وقال جابر : ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية. وقال الفراء : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا نعد مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر. وقال الضحاك : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} بغير قتال. وكان الصلح من الفتح. وقال مجاهد : هو منحره بالحديبية وحلقه رأسه. وقال : كان فتح الحديبية آية عظيمة ، نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. وقال موسى بن عقبة : قال رجل عند منصرفهم من الحديبية : ما هذا بفتح ، لقد صدونا عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ويسألكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا" . وقال الشعبي في قوله تعالى : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال : هو فتح الحديبية ، لقد أصاب بها ما لم يصب في غزوة ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبويع بيعة الرضوان ، https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الفتح من صــ 261 الى صــ 270 الحلقة (655) وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال الزهري : لقد كان الحديبية أعظم الفتوح ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة ، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله ، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه ، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف. وقال مجاهد أيضا والعوفي : هو فتح خبير. والأول أكثر ، وخيبر إنما كانت وعدا وعدوه ، على ما يأتي بيانه في قوله تعالى : {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ} [الفتح : 10] وقوله : {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح : 20] . وقال مجمع بن جارية - وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن - : شهدنا الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعض الناس لبعض : ما بال الناس ؟ قالوا : أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال : فخرجنا نوجف فوجدنا نبي الله صلى الله عليه وسلم عند كراع الغميم ، فلما اجتمع الناس قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} فقال عمر بن الخطاب : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : "نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح" . فقسمت خيبر على أهل الحديبية ، لم يدخل أحد إلا من شهد الحديبية. وقيل : إن قوله تعالى : {فتحا} يدل على أن مكة فتحت عنوة ، لأن اسم الفتح لا يقع مطلقا إلا على ما فتح عنوة. هذا هو حقيقة الاسم. وقد يقال : فتح البلد صلحا ، فلا يفهم الصلح إلا بأن يقرن بالفتح ، فصار الفتح في الصلح مجازا. والأخبار دالة على أنها فتحت عنوة ، وقد مضى القول فيها ، ويأتي. الآية : 2 لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً ، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً قال ابن الأنباري : {فَتْحاً مُبِيناً} غير تام ، لأن قوله : {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ} متعلق بالفتح. كأنه قال : إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجمع الله لك مع الفتح المغفرة ، فيجمع الله لك به ما تقر به عينك في الدنيا والآخرة. وقال أبو حاتم السجستاني : هي لام القسم. وهذا خطأ ، لأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها ، ولو جاز هذا لجاز : ليقوم زيد ، بتأويل ليقومن زيد. الزمخشري : فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة ؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة ، وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز. كأنه قال يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك ليجمع لك عز الدارين وأعراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا للغفران والثواب. وفي الترمذي عن أنس قال : أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض" ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، فقالوا : هنيئا مريئا يا وسول الله ، لقد بين الله لك ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ، فنزلت عليه : {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ - حتى بلغ - فَوْزاً عَظِيماً} قال حديث حسن صحيح. وفيه عن مجمع بن جارية. واختلف أهل التأويل في معنى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقيل : {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} قبل الرسالة. {وَمَا تَأَخَّرَ} بعدها ، قال مجاهد. ونحوه قال الطبري وسفيان الثوري ، قال الطبري : هو راجع إلى قوله تعالى : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى قول {تَوَّاباً} [النصر : 1 - 3] . {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} قبل الرسالة {وَمَا تَأَخَّرَ} إلى وقت نزول هذه الآية. وقال سفيان الثوري : {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} ما عملته في الجاهلية من قبل أن يوحى إليك. {وَمَا تَأَخَّرَ} كل شيء لم تعمله ، وقاله الواحدي. وقد مضى الكلام في جريان الصغائر على الأنبياء في سورة "البقرة" ، فهذا قول. وقيل : {مَا تَقَدَّمَ} قبل الفتح. {وَمَا تَأَخَّرَ} بعد الفتح. وقيل : {مَا تَقَدَّمَ} قبل نزول هذه الآية. {وَمَا تَأَخَّرَ} بعدها. وقال عطاء الخرساني : {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} يعني من ذنب أبويك آدم وحواء. {وَمَا تَأَخَّرَ} من ذنوب أمتك. وقيل : من ذنب أبيك إبراهيم. {وَمَا تَأَخَّرَ} من ذنوب النبيين. وقيل : {مَا تَقَدَّمَ} من ذنب يوم بدر. {وَمَا تَأَخَّرَ} من ذنب يوم حنين. وذلك أن الذنب المتقدم يوم بدر ، أنه جعل يدعو ويقول : "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا" وجعل يردد هذا القول دفعات ، فأوحى الله إليه : من أين تعلم أني لو أهلكت هذه العصابة لا أعبد أبدا ، فكان هذا الذنب المتقدم. وأما الذنب المتأخر فيوم حنين ، لما انهزم الناس قال لعمه العباس ولابن عمه أبي سفيان : "ناولاني كفا من حصباء الوادي" فناولاه فأخذه بيده ورمى به في وجوه المشركين وقال : "شاهت الوجوه. حم. لا ينصرون" فانهزم القوم عن آخرهم ، فلم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا وحصباء. ثم نادى في أصحابه فرجعوا فقال لهم عند رجوعهم : "لو لم أرمهم لم ينهزموا" فأنزل الله عز وجل : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال : 17] فكان هذا هو الذنب المتأخر. وقال أبو علي الروذباري : يقول لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك. قوله تعالى : {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} قال ابن عباس : في الجنة. وقيل : بالنبوة والحكمة. وقيل : بفتح مكة والطائف وخيبر. وقيل : بخضوع من استكبر وطاعة من تجبر. {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} أي يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه. {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} أي غالبا منيعا لا يتبعه ذل. الآية : 4 {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} {السكينة} : السكون والطمأنينة. قال ابن عباس : كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في "البقرة" . {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} قال ابن عباس : بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة ، فلما صدقوه زادهم الزكاة ، فلما صدقوه زادهم الصيام ، فلما صدقوه زادهم الحج ، ثم أكمل لهم دينهم ، فذلك قوله : {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} أي تصديقا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان. وقال الربيع بن أنس : خشية مع خشيتهم. وقال الضحاك : يقينا مع يقينهم. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال ابن عباس : يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً} بأحوال خلقه {حَكِيماً} فيما يريده. الآية : 5 {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} أي أنزل السكينة ليزدادوا إيمانا. ثم تلك الزيادة بسبب إدخالهم الجنة. وقيل : اللام في {ليدخل} يتعلق بما يتعلق به اللام في قوله : {ليغفر لك الله} {وكان ذلك} أي ذلك الوعد من دخول مكة وغفران الذنوب. {عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} أي نجاة من كل غم ، وظفرا بكل مطلوب. وقيل : لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قالوا : هنيئا لك يا رسول الله ، فماذا لنا ؟ فنزل : {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} ولما قرأ {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} قالوا : هنيئا لك ، فنزلت : {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة : 3] فلما قرأ {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} نزل في حق الأمة : {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح : 2] . ولما قال : {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح : 3] نزل : وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم : 47] . وهو كقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب : 56] . ثم قال : {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب : 43] ذكره القشيري. الآية : 6 - 7 {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} قوله تعالى : {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين ، وبأن يسلط النبي عليه السلام قتلا وأسرا واسترقاقا. {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} يعني ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى المدينة ، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية ، وأن المشركين يستأصلونهم. كما قال : {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} [الفتح : 12] . وقال الخليل وسيبويه : {السوء} هنا الفساد. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} في الدنيا بالقتل والسبي والأسر ، وفي الآخرة جهنم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {دائرة السوء} بالضم. وفتح الباقون. قال الجوهري : ساءه يسوءه سوءا (بالفتح "ومساءة ومساية ، نقيض سره ، والاسم السوء" بالضم ". وقرئ {عليهم دائرة السُّوء} يعني الهزيمة والشر. ومن فتح فهو من المساءة. {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} تقدم في غير موضع جميعه. والحمد لله. وقيل : لما جرى صلح الحديبية قال ابن أُبي : أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدو ، فأين فارس والروم فبين الله عز وجل أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم. وقيل : يدخل فيه" جميع المخلوقات. وقال ابن عباس : {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ} الملائكة. وجنود الأرض المؤمنون. وأعاد لأن الذي سبق عقيب ذكر المشركين من قريش ، وهذا عقيب ذكر المنافقين وسائر المشركين. والمراد في الموضعين التخويف والتهديد. فلو أراد إهلاك المنافقين والمشركين لم يعجزه ذلك ، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى. الآية : 8 - 9 {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} قوله تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} قال قتادة : على أمتك بالبلاغ. وقيل : شاهدا عليهم بأعمالهم من طاعة أو معصية. وقيل : مبينا لهم ما أرسلناك به إليهم. وقيل : شاهدا عليهم يوم القيامة. فهو شاهد أفعالهم اليوم ، والشهيد عليهم يوم القيامة. وقد مضى في "النساء" عن سعيد بن جبير هذا المعنى مبينا. {وَمُبَشِّراً} لمن أطاعه بالجنة. {وَنَذِيراً} من النار لمن عصى ، قاله قتادة وغيره. وقد مضى في "البقرة" اشتقاق البشارة والنذارة ومعناهما. وانتصب {شاهداً ومبشراً ونذيراً} على الحال المقدرة. حكى سيبويه : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، فالمعنى : إنا أرسلناك مقدرين بشهادتك يوم القيامة. وعلى هذا تقول : رأيت عمرا قائما غدا. قوله تعالى : {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو {ليؤمنوا} بالياء ، وكذلك {يعزروه ويوقروه ويسبحوه} كله بالياء على الخبر. واختاره أبو عبيد لذكر المؤمنين قبله وبعده ، فأما قبله فقوله : {ليدخل} وأما بعده فقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} [الفتح : 10] الباقون بالتاء على الخطاب ، واختاره أبو حاتم. {وَتُعَزِّرُوهُ} أي تعظموه وتفخموه ، قاله الحسن والكلبي ، والتعزيز : التعظيم والتوقير. وقال قتادة : تنصروه وتمنعوا منه. ومنه التعزير في الحد. لأنه مانع. قال القطامي : ألا بكرت مي بغير سفاهة ... تعاتب والمودود ينفعه العزر وقال ابن عباس وعكرمة : تقاتلون معه بالسيف. وقال بعض أهل اللغة : تطيعوه. {وَتُوَقِّرُوهُ} أي تسودوه ، قاله السدي. وقيل تعظموه. والتوقير : التعظيم والترزين أيضا. والهاء فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم. وهنا وقف تام ، ثم تبتدئ {وَتُسَبِّحُوهُ} أي تسبحوا الله {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي عشيا. وقيل : الضمائر كلها لله تعالى ، فعلى هذا يكون تأويل {تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. واختار هذا القول القشيري. والأول قول الضحاك ، وعليه يكون بعض الكلام راجعا إلى الله سبحانه وتعالى وهو {وَتُسَبِّحُوهُ} من غير خلاف. وبعضه راجعا إلى رسول صلى الله عليه وسلم وهو {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. وفي {تُسَبِّحُوهُ} وجهان : تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح. والثاني : هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح. {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي غدوة وعشيا. وقد مضى القول فيه. وقال الشاعر : لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأجلس في أفيائه بالأصائل 10 { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} بالحديبية يا محمد. {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} بين أن بيعتهم لنبيه إنما هي بيعة الله ، كما قال تعالى : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء : 80] . وهذه المبايعة هي بيعة الرضوان ، على ما يأتي بيانها في هذه السورة إن شاء الله تعالى. {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قيل : يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء ، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة. وقال الكلبي : معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة. وقال ابن كيسان : قوه الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم. {فَمَنْ نَكَثَ} بعد البيعة. {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي يرجع ضرر النكث عليه ، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب. {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} قيل في البيعة. وقيل في إيمانه. وقرأ حفص والزهري "عليه" بضم الهاء. وجرها الباقون. {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يعني في الجنة. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر {فسنؤتيه} بالنون. واختاره الفراء وأبو معاذ. وقرأ الباقون بالياء. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، لقرب اسم الله منه. الآية : 11 {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} قوله تعالى : {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} قال مجاهد وابن عباس : يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والديل ، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة ، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح ، بعد أن كان استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش ، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي ، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل ، فنزلت. وإنما قال : {المخلفون} لأن الله خلفهم عن صحبة نبيه. والمخلف المتروك. وقد مضى في "التوبة" . {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} أي ليس لنا من يقوم بهما. {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} جاؤوا يطلبون الاستغفار واعتقادهم بخلاف ظاهرهم ، ففضحهم الله تعالى بقوله : {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} وهذا هو النفاق المحض. قوله تعالى : {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} قرأ حمزة والكسائي {ضُرا} بضم الضاد هنا فقط ، أي أمرا يضركم. وقال ابن عباس : الهزيمة. الباقون بالفتح ، وهو مصدر ضررته ضرا. وبالضم اسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والمصدر يؤدي عن المرة وأكثر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، قالا : لأنه قابله بالنفع وهو ضد الضر. وقيل : هما لغتان بمعنى ، كالفقر والفقر والضعف والضعف. {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} أي نصرا وغنيمة. وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع. الآية : 12 {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} قوله تعالى : {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} وذلك أنهم قالوا : إن محمدا وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون. {وَزُيِّنَ ذَلِكَ} أي النفاق. {فِي قُلُوبِكُمْ} وهذا التزيين من الشيطان ، أو يخلق الله ذلك في قلوبهم. {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} أن الله لا ينصر رسوله. {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} أي هلكى ، قاله مجاهد. وقال قتادة : فاسدين لا يصلحون لشيء من الخير. قال الجوهري : البور : الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قال عبدالله بن الزبعرى السهمي : يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور وامرأة بور أيضا ، حكاه أبو عبيد. وقوم بور هلكى. قال تعالى : {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} وهو جمع بائر ، مثل حائل وحول. وقد بار فلان أي هلك. وأباره الله أي أهلكه. وقيل : {بُوراً} أشرارا ، قاله ابن بحر. وقال حسان بن ثابت : لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد ... يهدي الإله سبيل المعشر البور أي الهالك. 13 {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً} وعيد لهم ، وبيان أنهم كفروا بالنفاق. الآية : 14 {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي هو غني عن عباده ، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى. الآية : 15 {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً} قوله تعالى : {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} يعني مغانم خيبر ، لأن الله عز وجل وعد أهل الحديبية فتح خيبر ، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر. ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبدالله فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر. قال ابن إسحاق : وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة ، وزيد بن ثابت من بني النجار ، كانا حاسبين قاسمين. {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} أي دعونا. تقول : ذره ، أي دعه. وهو يذره ، أي يدعه. وأصله وذره يذره مثال وسعه يسعه. وقد أميت صدره ، لا يقال : وذره ولا واذر ، ولكن تركه وهو تارك. قال مجاهد : تخلفوا عن الخروج إلى مكة ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ قوما https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الفتح من صــ 271 الى صــ 280 الحلقة (656) ووجه بهم قالوا ذرونا نتبعكم فنقاتل معكم. {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} أي يغيروا. قال ابن زيد : هو قوله تعالى : {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة : 83] الآية. وأنكر هذا القول الطبري وغيره ، بسبب أن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة. وقيل : المعنى يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد لأهل الحديبية ، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن فتح مكة إذ رجعوا من الحديبية على صلح ، قاله مجاهد وقتادة ، واختاره الطبري وعليه عامة أهل التأويل. وقرأ حمزة والكسائي {كلم} بإسقاط الألف وكسر اللام جمع كلمة ، نحو سلمة وسلم. الباقون {كلام} على المصدر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، اعتبارا بقوله : {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف : 144] . والكلام : ما استقل بنفسه من الجمل. قال الجوهري : الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير. والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة ، مثل نبقة ونبق. ولهذا قال سيبويه : "هذا باب علم ما الكلم من العربية" ولم يقل ما الكلام ، لأنه أراد نفس ثلاثة أشياء : الاسم والفعل والحرف ، فجاء بما لا يكون إلا جمعا ، وترك ما يمكن أن يقع على الواحد والجماعة. وتميم تقول : هي كلمة ، بكسر الكاف ، وقد مضى في "التوبة" القول فيها. قوله تعالى : {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل رجوعنا من الحديبية إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة. {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أن نصيب معكم من الغنائم. وقيل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن خرجتم لم أمنعكم إلا أنه لا سهم لكم" . فقالوا : هذا حسد. فقال المسلمون : قد أخبرنا الله في الحديبية بما سيقولونه وهو قوله تعالى : {فسيقولون بل تحسدوننا} فقال الله تعالى : {بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً} يعني لا يعلمون إلا أمر الدنيا. وقيل : لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا ، وهو ترك القتال. 16 {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ} أي قل لهؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية. {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن أبي ليلى وعطاء الخراساني : هم فارس. وقال كعب والحسن وعبدالرحمن بن أبي ليلى : الروم. وعن الحسن أيضا : فارس والروم. وقال ابن جبير : هوازن وثقيف. وقال عكرمة : هوازن. وقال قتادة : هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهري ومقاتل : بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة. وقال رافع بن خديج : والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة : لم تأت هذه الآية بعد. وظاهر الآية يرده. الثانية : في هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة ، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم. وأما قول عكرمة وقتادة إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين فلا ، لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه السلام ، لأنه قال : {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. الزمخشري : فإن صح ذلك عن قتادة فالمعنى لن تخرجوا معي أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين. أو على قول مجاهد كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم. والله أعلم. الثالثة : قوله تعالى : {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية ، وهو معطوف على {تُقَاتِلُونَهُمْ} أي يكون أحد الأمرين : إما المقاتلة وإما الإسلام ، لا ثالث لهما. وفي حرف أُبي {أو يسلموا} بمعنى حتى يسلموا ، كما تقول : كل أو تشبع ، أي حتى تشبع. قال : فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وقال الزجاج : قال {أَوْ يُسْلِمُونَ} لأن المعنى أو هم يسلمون من غير قتال. وهذا في قتال المشركين لا في أهل الكتاب. الرابعة : قوله تعالى : {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} الغنيمة والنصر في الدنيا ، والجنة في الآخرة. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} عام الحديبية. {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وهو عذاب النار. الآية : 17 {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} قال ابن عباس : لما نزلت : {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} قال أهل الزمانة : كيف بنا يا رسول الله ؟ فنزلت {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد لعماهم وزمانتهم وضعفهم. وقد مضى في "التوبة" وغيرها الكلام فيه مبينا. والعرج : آفة تعرض لرجل واحدة ، وإذا كان ذلك مؤثرا فخلل الرجلين أولى أن يؤثر. وقال مقاتل : هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم. أي من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما أمره. {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} قرأ نافع وابن عامر {ندخله} بالنون على التعظيم. الباقون بالياء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لتقدم اسم الله أولا. {وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} . الآية : 18 {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ، وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} قوله تعالى : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} هذه بيعة الرضوان ، وكانت بالحديبية ، وهذا خبر الحديبية على اختصار : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام منصرفه من غزوة بني المصطلق في شوال ، وخرج في ذي القعدة معتمرا ، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة فأبطأ عنه أكثرهم ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب ، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة. وقيل : ألف وخمسمائة. وقيل غير هذا ، على ما يأتي. وساق معه الهدي ، فأحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب ، فلما بلغ خروجه قريشا خرج جمعهم صادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام ودخول مكة ، وإنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك ، وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى (كراع الغميم) فورد الخبر بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو (بعسفان) وكان المخبر له بشر بن سفيان الكعبي ، فسلك طريقا يخرج به في ظهورهم ، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة ، وكان دليله فيهم رجل من أسلم ، فلما بلغ ذلك خيل قريش التي مع خالد جرت إلى قريش تعلمهم بذلك ، فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية بركت ناقته صلى الله عليه وسلم فقال الناس : خلأت خلأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها" . ثم نزل صلى الله عليه وسلم هناك ، فقيل : يا رسول الله ، ليس بهذا الوادي ماء فأخرج عليه الصلاة والسلام سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرواء حتى كفى جميع الجيش. وقيل : إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب بن عمير الأسلمي وهو سائق بدن النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ. وقيل : نزل بالسهم في القليب البراء بن عازب ، ثم جرت السفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاء سهيل بن عمرو العامري ، فقاضاه عل أن ينصرف عليه الصلاة والسلام عامه ذلك ، فإذا كان من قابِلٍ أتى معتمِرا ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح ، حاشا السيوف في قِربها فيقيم بها ثلاثا ويخرج ، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام ، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا ، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما من رجل أو امرأة رد إلى الكفار ، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين ، فعظم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجا ، فقال لأصحابه "اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه" فأنس الناس إلى قوله هذا بعد نفار منهم ، وأبى سهيل بن عمرو أن يكتب في صدر صحيفة الصلح : من محمد رسول الله ، وقالوا له : لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريد فلا بد أن تكتب : باسمك اللهم. فقال لعلي وكان يكتب صحيفة الصلح : "امح يا علي ، واكتب باسمك اللهم" فأبى علي أن يمحو بيده "محمد رسول الله" . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اعرضه علي" فأشار إليه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، وأمره أن يكتب "من محمد بن عبدالله" . وأتى أبو جندل بن سهيل يومئذ بأكثر كتاب الصلح وهو يرسف في قيوده ، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه ، فعظم ذلك على المسلمين ، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أبا جندل "أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا" . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الصلح قد بعث عثمان بن عفان إلى مكة رسولا ، فجاء خبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل مكة قتلوه ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ إلى المبايعة له على الحرب والقتال لأهل مكة ، فروي أنه بايعهم على الموت. وروي أنه بايعهم على ألا يفروا. وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة ، التي أخبر الله تعالى أنه رضي عن المبايعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يدخلون النار. وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيمينه على شماله لعثمان ، فهو كمن شهدها. وذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أبو سفيان الأسدي. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ، وقال : بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت وعنه أنه سمع جابرا يسأل : كم كانوا يوم الحديبية ؟ قال : كنا أربع عشرة مائة ، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ، فبايعناه ، غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره. وعن سالم بن أبي الجعد قال : سألت جابر بن عبدالله عن أصحاب الشجرة. فقال : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا ألفا وخمسمائة. وفي رواية : كنا خمس عشرة مائة. وعن عبدالله بن أبي أوفى قال : كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة ، وكانت أسلم ثمن المهاجرين. وعن يزيد بن أبي عبيد قال : قلت لسلمة : على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ؟ قال : على الموت. وعن البراء بن عازب قال : كتب علي رضي الله عنه الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية ، فكتب : هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا تكتب رسول الله ، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : "امحه" . فقال : ما أنا بالذي أمحاه ، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده. وكان فيما اشترطوا : أن يدخلوا مكة فيقيموا فيها ثلاثا ، ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح. قلت لأبي إسحاق وما جلبان السلاح ؟ قال : القراب وما فيه. وعن أنس : أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل بن عمرو : أما باسم الله ، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف : باسمك اللهم. فقال : "اكتب من محمد رسول الله" قالوا : لو علمنا أنك رسوله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اكتب من محمد بن عبدالله" فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم : أن من جاء منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا : يا رسول الله ، أنكتب هذا قال : "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا" . وعن أبي وائل قال : قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال يا أيها الناس ، اتهموا أنفسكم ، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا ، وذلك في الصلح الذي كان ببن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين. فجاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قال "بلى" قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال "بلى" قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال "يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا" قال : فانطلق عمر ، فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قال بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال بلى. قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : يا ابن الخطاب ، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا. قال : فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح ، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه ، فقال : يا رسول الله ، أو فتح هو ؟ قال "نعم" . فطابت نفسه ورجع. قوله تعالى : {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الصدق والوفاء ، قاله الفراء. وقال ابن جريج وقتادة : من الرضا بأمر البيعة على ألا يفروا. وقال مقاتل : من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} حتى بايعوا. وقيل : {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الكآبة بصد المشركين إياهم وتخلف رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم ، إذا رأى أنه يدخل الكعبة ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما ذلك رؤيا منام" . وقال الصديق : لم يكن فيها الدخول في هذا العام. والسكينة : الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد. وقيل الصبر. {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} قال قتادة وابن أبي ليلى : فتح خيبر. وقيل فتح مكة. وقرئ { وآتاهم} {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} يعني أموال خيبر ، وكانت خيبر ذات عقار وأموال ، وكانت بين الحديبية ومكة. فـ {مغانم} على هذا بدل من {فتحا قريبا} والواو مقحمة. وقيل {ومغانم} فارس والروم. الآية : 20 {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} قوله تعالى : {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} قال ابن عباس ومجاهد. إنها المغانم التي تكون إلى يوم القيامة. وقال ابن زيد : هي مغانم خيبر. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} أي خيبر ، قاله مجاهد. وقال ابن عباس : عجل لكم صلح الحديبية. {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} يعني أهل مكة ، كفهم عنكم بالصلح. وقال قتادة : كف أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وخيبر. وهو اختيار الطبري ، لأن كف أيدي المشركين بالحديبية مذكور في قوله : {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [الفتح : 24] . وقال ابن عباس : في {كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} يعني عيينة بن حصن الفزاري وعوف بن مالك النضري ومن كان معهما ، إذ جاؤوا لينصروا أهل خيبر والنبي صلى الله عليه وسلم محاصر لهم ، فألقى الله عز وجل في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي ولتكون هزيمتهم وسلامتكم آية للمؤمنين ، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم. وقيل : أي لتكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين. وقيل : أي ولتكون هذه التي عجلها لكم آية للمؤمنين على صدقك حيث وعدتهم أن يصيبوها. والواو في {ولتكون} مقحمة عند الكوفيين. وقال البصريون : عاطفة على مضمر ، أي وكف أيدي الناس عنكم لتشكروه ولتكون آية للمؤمنين. {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} أي يزيدكم هدى ، أو يثبتكم على الهداية. الآية : 21 {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} قوله تعالى : {وَأُخْرَى} {أخرى} معطوفة على {هذه} ، أي فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى. {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} قال ابن عباس : هي الفتوح التي فتحت على المسلمين ، كأرض فارس والروم ، وجميع ما فتحه المسلمون. وهو قول الحسن ومقاتل وابن أبي ليلى. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وابن زيد وابن إسحاق : هي خيبر ، وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها ، ولم يكونوا يرجونها حتى أخبرهم الله بها. وعن الحسن أيضا وقتادة : هو فتح مكة. وقال عكرمة : حنين ، لأنه قال : {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} . وهذا يدل على تقدم محاولة لها وفوات درك المطلوب في الحال كما كان في مكة ، قال القشيري. وقال مجاهد : هي ما يكون إلى يوم القيامة. ومعنى {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} : أي أعدها لكم. فهي كالشيء الذي قد أحيط به من جوانبه ، فهو محصور لا يفوت ، فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم. وقيل : {أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} علم أنها ستكون لكم ، كسا قال : {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق : 12] . وقيل : حفظها الله عليكم. ليكون فتحها لكم. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} . 22 {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} قوله تعالى : {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} قال قتادة : يعني كفار قريش في الحديبية. وقيل : {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ} غطفان وأسد والذين أرادوا نصرة أهل خيبر ، لكانت الدائرة عليهم. {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} يعني طريقة الله وعاداته السالفة نصر أوليائه على أعدائه. وانتصب {سُنَّةَ} على المصدر. وقيل : {سُنَّةَ اللَّهِ} أي كسنة الله. والسنة الطريقة والسيرة. قال : فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها والسنة أيضا : ضرب من تمر المدينة. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} . الآية : 24 {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} وهي الحديبية. {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} روى يزيد بن هارون قال : أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأخذناهم سلما https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الفتح من صــ 281 الى صــ 290 الحلقة (657) فاستحييناهم ، فأنزل الله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} . وقال عبدالله بن مغفل المزني : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن ، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانا" . قالوا : اللهم لا ، فخلى سبيلهم. فأنزل الله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} الآية. وذكر ابن هشام عن وكيع : وكانت قريش قد جاء منهم نحو سبعين رجلا أو ثمانين رجلا للإيقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم ، ففطن المسلمون لهم فأخذوهم أسرى ، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح ، فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهم الذين يسمون العتقاء ، ومنهم معاوية وأبوه. وقال مجاهد : أقبل النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا ، إذ أخذ أصحابه ناسا من الحرم غافلين فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك الإظفار ببطن مكة. وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له زنيم ، اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا فأتوا باثني عشر فارسا من الكفار ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "هل لكم علي ذمة" قالوا لا ؟ فأرسلهم فنزلت. وقال ابن أبزى والكلبي : هم أهل الحديبية ، كف الله أيديهم عن المسلمين حتى وقع الصلح ، وكانوا خرجوا بأجمعهم وقصدوا المسلمين ، وكف أيدي المسلمين عنهم. وقد تقدم أن خالد بن الوليد كان في خيل المشركين. قال القشيري : فهذه رواية ، والصحيح أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت. وقد قال سلمة بن الأكوع : كانوا في أمر الصلح إذ أقبل أبو سفيان ، فإذا الوادي يسير بالرجال والسلاح ، قال : فجئت بستة من المشركين أسوقهم متسلحين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فأتيت بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عمر قال في الطريق : يا رسول الله ، نأتي قوما حربا وليس معنا سلاح ولا كراع ؟ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من الطريق فأتوه بكل سلاح وكراع كان فيها ، وأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عكرمة بن أبي جهل خرج إليك في خمسمائة فارس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد : "هذا ابن عمك أتاك في خمسمائة" . فقال خالد : أنا سيف الله وسيف رسوله ، فيومئذ سمي بسيف الله ، فخرج ومعه خيل وهزم الكفار ودفعهم إلى حوائط مكة. وهذه الرواية أصح ، وكان بينهم قتال بالحجارة ، وقيل بالنبل والظفر. وقيل : أراد بكف اليد أنه شرط في الكتاب أن من جاءنا منهم فهو رد عليهم ، فخرج أقوام من مكة مسلمون وخافوا أن يردهم الرسول عليه السلام إلى المشركين لحقوا بالساحل ، ومنهم أبو بصير ، وجعلوا يغيرون على الكفار ويأخذون عيرهم ، حتى جاء كبار قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : اضممهم إليك حتى نأمن ، ففعل. وقيل : همت غطفان وأسد منع المسلمين من يهود خيبر ، لأنهم كانوا حلفاءهم فمنعهم الله عن ذلك ، فهو كف اليد. {بِبَطْنِ مَكَّةَ} فيه قولان : أحدهما : يريد به مكة. الثاني : الحديبية ، لأن بعضها مضاف إلى الحرم. قال الماوردي : وفي قوله : {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} بفتح مكة. تكون هذه نزلت بعد فتح مكة ، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحا ، لقوله عز وجل : {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} . قلت : الصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة ، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين. وروى الترمذي قال : حدثنا عبد بن حميد قال حدثني سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس : أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون أن يقتلوه ، فأخذوا أخذا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وقد تقدم. وأما فتح مكة فالذي تدل عليه الأخبار أنها إنما فتحت عنوة ، وقد مضى القول في ذلك في "الحج" وغيرها. {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} . الآية : 25 {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} قوله تعالى : {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني قريشا ، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعمرة ، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله. وهذا كانوا لا يعتقدونه ، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا ، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه ، وأدخل الأنس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانه ووعده. الثانية : {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً} أي محبوسا. وقيل موقوفا. وقال أبو عمرو بن العلاء : مجموعا. الجوهري : عكفه أي حبسه ووقفه ، يعكفه ويعكفه عكفا ، ومنه قوله تعالى : {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً} ، يقال ما عكفك عن كذا. ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس. {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أي منحره ، قاله الفراء. وقال الشافعي رضي الله عنه : الحرم. وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه ، المحصر محل هديه الحرم. والمحل (بكسر الحاء) : غاية الشيء. "وبالفتح" : هو الموضع الذي يحله الناس. وكان الهدي سبعين بدنة ، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع له محلا. وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في "البقرة" عند قوله تعالى : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} والصحيح ما ذكرناه. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر ابن عبدالله قال : نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة. وعنه قال : اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة. فقال رجل لجابر : أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور ؟ قال : ما هي إلا من البدن. وحضر جابر الحديبية قال : ونحرنا يومئذ سبعين بدنة ، اشتركنا كل سبعة في بدنة. وفي البخاري عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين ، فحال كفار قريش دون البيت ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه. قيل : إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينحروا ويحلوا ، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت له أم سلمة : لو نحرت لنحروا ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه ونحروا بنحره ، وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة. ورأى كعب بن عجرة والقمل يسقط على وجهه ، فقال : "أيؤذيك هوامك" ؟ قال نعم ، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية. خرجه البخاري والدارقطني. وقد مضى في "البقرة" . الثالثة : قوله تعالى : {وَالْهَدْيَ} والهَديُ والهَدِيّ لغتان. وقرئ {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة : 196] بالتخفيف والتشديد ، الواحدة هدية. وقد مضى في "البقرة" أيضا. وهو معطوف على الكاف والميم من {صَدُّوكُمْ} . و {مَعْكُوفاً} حال ، وموضع {أنْ} من قوله : {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} نصب على تقدير الحمل على {صَدُّوكُمْ} أي صدوكم وصدوا الهدي عن أن يبلغ. ويجوز أن يكون مفعولا له ، كأنه قال : وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله. أبو علي : لا يصح حمله على العكف ، لأنا لا نعلم {عكف} جاء متعديا ، ومجيء {مَعْكُوفاً} في الآية يجوز أن يكون محمولا على المعنى ، كأنه لما كان حبسا حمل المعنى على ذلك ، كما حمل الرفث على معنى الإفضاء فعدي بإلى ، فإن حمل على ذلك كان موضعه نصبا على قياس قول سيبويه ، وجرا على قياس قول الخليل. أو يكون مفعولا له ، كأنه قال : محبوسا كراهية أن يبلغ محله. ويجوز تقدير الجر في {أن} لأن عن تقدمت ، فكأنه قال : وصدوكم عن المسجد الحرام ، وصدوا الهدي {عن} أن يبلغ محله. ومثله ما حكاه سيبويه عن يونس : مررت برجل إن زيد وإن عمرو ، فأضمر الجار لتقدم ذكره. قوله تعالى : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار ، كسلمه بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل ، وأشباههم. {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ } أي تعرفوهم. وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون. {أَنْ تَطَأُوهُمْ} بالقتل والإيقاع بهم ، يقال : وطئت القوم ، أي أوقعت بهم. و {أن} يجوز أن يكون رفعا على البدل من رجال ، ونساء كأنه قال ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات. ويجوز أن يكون نصبا على البدل من الهاء والميم في {تعلموهم} ، فيكون التقدير : لم تعلموا وطأهم ، وهو في الوجهين بدل الاشتمال. {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} نعت لـ {رجال} و {نساء} . وجواب {لولا} محذوف ، والتقدير : ولو أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة ، ولسلطكم عليهم ، ولكنا صنا من كان فيها يكثم إيمانه. وقال الضحاك : لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطؤوا آباءهم فتهلك أبناؤهم. الثانية : قوله تعالى : {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ} المعرة العيب ، وهي مفعلة من العر وهو الجرب ، أي يقول المشركون : قد قتلوا أهل دينهم. وقيل : المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ ، لأن الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله : {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء : 92] قاله الكلبي ومقاتل وغيرهما. وقد مضى في "النساء" القول فيه. وقال ابن زيد : {مَعَرَّةٌ} إثم. وقال الجوهري وابن إسحاق : غرم الدية. قطرب : شدة. وقيل غم. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي ، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدا لكان عن غير قصد. وهذا كما وصفت النملة عن جنه سليمان عليه السلام في قولها : {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل : 18] . قوله تعالى : {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا } فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} اللام في {ليدخل} متعلقة بمحذوف ، أي لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته. ويجوز أن تتعلق بالإيمان. ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين لأن الجميع يدخلون في الرحمة. وقيل : المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة ، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه ، ودخلوا في رحمته ، أي جنته. الثانية : قوله تعالى : {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي تميزوا ، قاله القتبي. وقيل : لو تفرقوا ، قاله الكلبي. وقيل : لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف ، قاله الضحاك. ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار. وقال علي رضي الله عنه : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} فقال : [هم المشركون من أجداد نبي الله ومن كان بعدهم وفي عصرهم كان في أصلابهم قوم مؤمنون فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله تعالى الكافرين عذابا أليما] . الثالثة : هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن ، إذ لا يمكن أذية الكافر إلا بأذية المؤمن. قال أبو زيد قلت لابن القاسم : أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم ، حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم ، أيحرق هذا الحصن أم لا ؟ قال : سمعت مالكا وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم : أنرمي في مراكبهم بالنار ومعهم الأسارى في مراكبهم ؟ قال : فقال مالك لا أرى ذلك ، لقوله تعالى لأهل مكة : {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه. وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة. فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة ، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا ، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والدية على عواقلهم. فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا. وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة. قال ابن العربي : وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال. وهذا ضعيف ، لأن من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة. وهو سبحانه قد صرح فقال : {ولولا رجالٌ مؤمِنون ونِساءٌ مؤمِناتٌ لم تعلموهم أن تطؤوهم} وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال ، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وأبي جندل بن سهيل. وكذلك قال مالك : وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء ، فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء ، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل ، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا. وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم. ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك ، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة. وقال الثوري : فيه الكفارة ولا دية. وقال الشافعي بقولنا. وهذا ظاهر ، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز ، سيما بروح المسلم ، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه. والله أعلم. قلت : قد يجوز قتل الترس ، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله ، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية. فمعنى كونها ضرورية : أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. ومعنى أنها كلية : أنها قاطعة لكل الأمة ، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين ، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة. ومعنى كونها قطعية : أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا. قال علماؤنا : وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها ، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا ، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين. وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون. ولا يتأتى لعاقل أن يقول : لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه ، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين ، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة ، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها ، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل منها عدم أو كالعدم. والله أعلم. الرابعة : قراءة العامة {لَوْ تَزَيَّلُوا} إلا أبا حيوة فإنه قرأ {تزايلوا} وهو مثل {تزيلوا} في المعنى. والتزايل : التباين. و {تزيلوا} تفعلوا ، من زلت. وقيل : هي تفيعلوا. {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} قيل : اللام جواب لكلامين ، أحدهما : {لولا رجال} والثاني : {لو تزيلوا} . وقيل جواب {لولا} محذوف ، وقد تقدم. و {لو تزيلوا} ابتداء كلام. الآية : 26 {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} قوله تعالى : {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} العامل في {إذ} قوله تعالى : {لَعَذَّبْنَا} أي لعذبناهم إذ جعلوا هذا. أو فعل مضمر تقديره واذكروا. {الْحَمِيَّةَ } فعيلة وهي الأنفة. يقال : حميت عن كذا حمية (بالتشديد) ومحمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. ومنه قول المتلمس : ألا إنني منهم وعرضي عرضهم ... كذي الأنف يحمي أنفه أن يكشما أي يمنع. قال الزهري : حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم ، ومنعهم من دخول مكة. وكان الذي امتنع من كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله : سهيل بن عمرو ، على ما تقدم. وقال ابن بحر : حميتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى ، والأنفة من أن يعبدوا غيرها. وقيل : {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} إنهم قالوا : قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا ، واللات والعزى لا يدخلها أبدا. {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} أي الطمأنينة والوقار. {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وقيل : ثبتهم على الرضا والتسليم ، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل قلوب أولئك من الحمية. قوله تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قيل : لا إله إلا الله. روي مرفوعا من حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول علي وابن عمر وابن عباس ، وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك ، وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وطلحة بن مصرف ، والربيع والسدي وابن زيد. وقال عطاء الخرساني ، وزاد "محمد رسول الله" . وعن علي وابن عمر أيضا هي لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضا : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال الزهري : بسم الله الرحمن الرحيم. يعني أن المشركين لم يقروا بهذه الكلمة ، فخص الله بها المؤمنين. و {كَلِمَةَ التَّقْوَى} هي التي يتقى بها من الشرك. وعن مجاهد أيضا أن "كلمة التقوى" الإخلاص. {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} أي أحق بها من كفار مكة ، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه. {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} . الآية : 27 {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} قال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة ، فلما صالح قريشا بالحديبية ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يدخل مكة ، فأنزل الله تعالى : {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام ، وأن رؤياه صلى الله عليه وسلم حق. وقيل : إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتا بوقت ، وأنه سيدخل. وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية ، وأن رؤيا الأنبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء. {لَتَدْخُلُنَّ} أي في العام القابل {الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} قال ابن كيسان : إنه حكاية ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه ، خوطب في منامه بما جرت به العادة ، فأخبر الله عن رسول أنه قال ذلك ولهذا استثنى ، تأدب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف : 23] . وقيل : خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه ، كما قال : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . وقيل : استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون ، قاله ثعلب. وقيل : كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى ، قال الحسين بن الفضل. وقيل : الاستثناء من {آمنين} ، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة. وقيل : معنى {إن شاء الله} إن أمركم الله بالدخول. وقيل : أي إن سهل الله. وقيل : {إن شاء الله} أي كما شاء الله. وقال أبو عبيدة : {إن} بمعنى {إذ} ، أي إذ شاء الله ، كقوله تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة : 278] أي إذ كنتم. وفيه بعد ، لأن {إذ} في الماضي من الفعل ، و {إذا} في المستقبل ، وهذا الدخول في المستقبل ، فوعدهم دخول المسجد الحرام وعلقه بشرط المشيئة ، وذلك عام الحديبية ، فأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا ، ثم تأخر ذلك عن العام الذي طمعوا فيه فساءهم ذلك واشتد عليهم وصالحهم ورجع ، ثم أذن الله في العام المقبل فأنزل الله : {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} . وإنما قيل له في المنام : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} فحكى في التنزيل ما قيل له في المنام ، فليس هنا شك كما زعم بعضهم أن الاستثناء يدل على الشك ، والله تعالى لا يشك ، و {لَتَدْخُلُنَّ} تحقيق فكيف يكون شك. فـ {إن} بمعنى {إذا} . {آمِنِينَ} أي من العدو. مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الحجرات من صــ 291 الى صــ 300 الحلقة (658) وَمُقَصِّرِينَ والتحليق والتقصير جميعا للرجال ، ولذلك غلب المذكر على المؤنث. والحلق أفضل ، وليس للنساء إلا التقصير. وقد مضى القول في هذا في "البقرة" . وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم على المروة بمشقص. وهذا كان في العمرة لا في الحج ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق في حجته. {لا تَخَافُونَ} حال من المحلقين والمقصرين ، والتقدير : غير خائفين. {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم. وذلك أنه عليه السلام لما رجع مضى منها إلى خيبر فافتتحها ، ورجع بأموال خيبر وأخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام ، وأقبل إلى مكة على أهبة وقوة وعدة بأضعاف ذلك. وقال الكلبي : أي علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم. وقيل : علم أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم. قوله تعالى : {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي من دون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر ، قال ابن زيد والضحاك. وقيل فتح مكة. وقال مجاهد : هو صلح الحديبية ، وقاله أكثر المفسرين. قال الزهري : ما فتح الله في الإسلام أعظم من صلح الحديبية ، لأنه إنما كان القتال حين تلتقي الناس ، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا ، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة. فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ، فلقد دخل تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف. الآية : 28 {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي يعليه على كل الأديان. فالدين اسم بمعنى المصدر ، ويستوي لفظ الواحد والجمع فيه. وقيل : أي ليظهر رسول على الدين كله ، أي على الدين الذي هو شرعه بالحجة ثم باليد والسيف ، ونسخ ما عداه. {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} {شَهِيداً} نصب على التفسير ، والباء زائدة ، أي كفى الله شهيدا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وشهادته له تبين صحة نبوته بالمعجزات. وقيل : {شَهِيداً} على ما أرسل به ، لأن الكفار أبوا أن يكتبوا : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. الآية : 29 {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} {محمد} مبتدأ و {رسول} خبره. وقيل : {محمد} ابتداء و {رسول الله} نعته. {وَالَّذِينَ مَعَهُ} عطف على المبتدأ ، والخبر فيما بعده ؛ فلا يوقف على هذا التقدير على {رسول الله} . وعلى الأول يوقف على {رسول الله} ؛ لأن صفاته عليه السلام تزيد على ما وصف أصحابه ؛ فيكون {محمد} ابتداء و {رسول الله} الخبر {والذين معه} ابتداء ثان. وأشداء خبره و {رحماء} خبر ثان. وكون الصفات في جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو الأشبه. وقيل : المراد بـ {الذين معه} جميع المؤمنين. {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} قال ابن عباس : أهل الحديبية أشداء على الكفار ؛ أي غلاظ عليهم كالأسد على فريسته. {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أي يرحم بعضهم بعضا. وقيل : متعاطفون متوادون. وقرأ الحسن {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} بالنصب على الحال ، كأنه قال : والذين معه في حال شدتهم على الكفار وتراحمهم بينهم. {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} إخبار عن كثرة صلاتهم. {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى. الثانية : قوله تعالى : {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} السيما العلامة ، وفيها لغتان : المد والقصر ، أي لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر. وفي سنن ابن ماجة قال : حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي قال حدثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" . وقال ابن العربي : ودسه قوم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الغلط ، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذكر بحرف. وقد روى ابن وهب عن مالك {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود ، وبه قال سعيد بن جبير. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : صلى صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وقد وكف المسجد وكان على عريش ، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين. وقال الحسن : هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة. وقاله سعيد بن جبير أيضا ، ورواه العوفي عن ابن عباس ؛ قاله الزهري. وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ، وفيه : "حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود" . وقال شهر بن حوشب : يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال ابن عباس ومجاهد : السيما في الدنيا وهو السمت الحسن. وعن مجاهد أيضا : هو الخشوع والتواضع. قال منصور : سألت مجاهدا عن قوله تعالى : {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} أهو أثر يكون بين عيني الرجل ؟ قال لا ، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة ولكنه نور في وجوههم من الخشوع. وقال ابن جريج : هو الوقار والبهاء. وقال شمر بن عطية : هو صفرة الوجه من قيام الليل. قال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال الضحاك : أما إنه ليس بالندب في وجوههم ولكنه الصفرة. وقال سفيان الثوري : يصلون بالليل فإذا أصبحوا رئي ذلك في وجوههم ، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم : "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" . وقد مضى القول فيه آنفا. وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. الثالثة : قوله تعالى : {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ} قال الفراء : فيه وجهان ، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا ، كمثلهم في القرآن ، فيكون الوقف على {الإنجيل} وإن شئت قلت : تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة ، ثم ابتداء فقال : ومثلهم في الإنجيل. وكذا قال ابن عباس وغيره : هما مثلان ، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل ، فيوقف على هذا على {التوراة} . وقال مجاهد : هو مثل واحد ، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل ، فلا يوقف على {التوراة} على هذا ، ويوقف على {الإنجيل} ، ويبتدئ : {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} على معنى وهم كزرع. و {شطأه} يعني فراخه وأولاده ، قاله ابن زيد وغيره. وقال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه. قال الجوهري : شطء الزرع والنبات فراخه ، والجمع أشطاء. وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه. قال الأخفش في قوله : {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي طرفه. وحكاه الثعلبي عن الكسائي. وقال الفراء : أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج. قال الشاعر : أخرج الشطء على وجه الثرى ... ومن الأشجار أفنان الثمر الزجاج : أخرج شطأه أي نباته. وقيل : إن الشطء شوك السنبل ، والعرب أيضا تسميه : السفا ، وهو شوك البهمى ، قاله قطرب. وقيل : إنه السنبل ، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قال الفراء ، حكاه الماوردي. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان {شطأه} بفتح الطاء ، وأسكن الباقون. وقرأ أنس ونصر بن عاصم وابن وثاب {شطاه} مثل عصاه. وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق {شطه} بغير همز ، وكلها لغات فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره ، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه. فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان. وقال قتادة : مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. {فَآزَرَهُ} أي قواه وأعانه وشده ، أي قوى الشطء الزرع. وقيل بالعكس ، أي قوى الزرع الشطء. وقراءة العامة {آزره} بالمد. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس {فأزره} مقصورة ، مثل فعله. والمعروف المد. قال امرؤ القيس بمحنية قد آزر الضال نبتها ... مجر جيوش غانمين وخيب {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له. والسوق : جمع الساق. {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي يعجب هذا الزرع زراعه. وهو مثل كما بينا ، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم ، والشطء أصحابه ، كانوا قليلا فكثروا ، وضعفاء فقووا ، قال الضحاك وغيره. {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} اللام متعلقة بمحذوف ، أي فعل الله هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار. الرابعة : قوله تعالى : {عَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد ، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة. {مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} أي ثوابا لا ينقطع وهو الجنة. وليست {من} في قوله : {منهم} مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم ، ولكنها عامة مجنسة ، مثل قوله تعالى : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج : 30] لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس ، أي فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان ، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى ، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب ، فأدخل {من} يفيد بها الجنس وكذا {منهم} ، أي من هذا الجنس ، يعني جنس الصحابة. ويقال : أنفق نفقتك من الدراهم ، أي اجعل نفقتك هذا الجنس. وقد يخصص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بوعد المغفرة تفضيلا لهم ، وإن وعد الله جميع المؤمنين المغفرة. وفي الآية جواب آخر : وهو أن {من} مؤكدة للكلام ، والمعنى وعدهم الله كلهم مغفرة وأجرا عظيما. فجرى مجرى قول العربي : قطعت من الثوب قميصا ، يريد قطعت الثوب كله قميصا. و {من} لم يبعض شيئا. وشاهد هذا من القرآن {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء : 82] معناه وننزل القرآن شفاء ، لأن كل حرف منه يشفي ، وليس الشفاء مختصا به بعضه دون بعض. على أن من اللغويين من يقول : {من} مجنسة ، تقديرها ننزل الشفاء من جنس القرآن ، ومن جهة القرآن ، ومن ناحية القرآن. قال زهير : أمن أم أوفى دمنة لم تكلم أراد من ناحية أم أوفى دمنة ، أم من منازلها دمنة. وقال الآخر : أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظلامة منه النوفل الزفر فـ {من} لم تبعض شيئا ، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نوفل زفر. والنوفل : الكثير العطاء. والزفر : حامل الأثقال والمؤن عن الناس. الخامسة : روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير : كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ مالك هذه الآية مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} . فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية ، ذكره الخطيب أبو بكر. قلت : لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين ، قال الله تعالى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} الآية. وقال : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح : 18] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم ، والشهادة لهم بالصدق والفلاح ، قال الله تعالى : {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب : 23] . وقال : {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} إلى قوله {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر : 8] ، ثم قال عز من قائل : {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر : 9] . وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم" وقال : "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه" خرجهما البخاري. وفي حديث آخر : "فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه" . قال أبو عبيد : معناه لم يدرك مد أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد ، فالنصيف هو النصف هنا. وكذلك يقال للعشر عشير ، وللخمس خميس ، وللتسع تسيع ، وللثمن ثمين ، وللسبع سبيع ، وللسدس سديس ، وللربع ربيع. ولم تقل العرب للثلث ثليث. وفي البزار عن جابر مرفوعا صحيحا : "إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي" . وقال : "في أصحابي كلهم خير" . وروى عويم بن ساعدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله عز وجل اختارني واختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختانا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة" الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ". والأحاديث بهذا المعنى كثيرة ، فحذار من الوقوع في أحد منهم ، كما فعل من طعن في الدين فقال : إن المعوذتين ليستا من القرآن ، وما صح حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها ، فروايته مطروحة. وهذا رد لما ذكرناه من الكتاب والسنة ، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من الملة. فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجهني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما ، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجرا عظيما. فمن نسبه أو واحدا من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة ، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومتى ألحق واحد منهم تكذيبا فقد سب ، لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من الكذب ، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سب أصحابه ، فالمكذب لأصغرهم - ولا صغير فيهم - داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألزمها كل من سب واحدا من أصحابه أو طعن عليه. وعن عمر بن حبيب قال : حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم ، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم : لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه ، وصرحوا بتكذيبه ، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا : الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب ، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي ، فلم ألبث حتى قيل : صاحب البريد بالباب ، فدخل فقال لي : أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول ، وتحنط وتكفن فقلت : اللهم إنك تعلم أني دافعت عن صاحب نبيك ، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه ،" فسلمني منه. فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب ، حاسر عن ذراعيه ، بيده السيف وبين يديه النطع ، فلما بصر بي قال لي : يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به ، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة ، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول فرجع إلى نفسه ثم قال : أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله ، وأمر لي بعشرة آلاف درهم. قلت : فالصحابة كلهم عدول ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة ، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم ، فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر فقال : إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك ، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء ، فلا بد من البحث. وهذا مردود ، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى : {مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} . وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مُسقط من مرتبتهم وفضلهم ، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد ، وكل مجتهد مصيب. وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة "الحجرات" مبينة إن شاء الله تعالى. تفسير سورة الحجرات الآية : 1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة الحجرات فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال العلماء : كان في العربي جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وتلقيب الناس. فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي : {لا تَقَدَّموا} بفتح التاء والدال من التقدم. الباقون {تُقدِموا} بضم التاء وكسر الدال من التقديم. ومعناهما ظاهر ، أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدمه على الله تعالى ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل. الثانية : واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة : الأول : ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال : حدثني ابن أبي مليكة أن عبدالله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد. وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي. وقال عمر : ما أردت خلافك. فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما ، https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الحجرات من صــ 301 الى صــ 310 الحلقة (659) فنزل في ذلك : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - إلى قوله - وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} . رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح ، ذكره المهدوي أيضا. الثاني : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر ، فأشار عليه عمر برجل آخر ، فنزل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . ذكره المهدوي أيضا. الثالث : ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم ، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفؤوا إلى المدينة ، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا : من بني عامر ، لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما ، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله صلى فقالوا : ان بيننا وبينك عهدا ، وقد قتل منا رجلان ، فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم بمائة بعير ، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين. وقال قتادة : إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا ، لو أنزل فيّ كذا ؟ فنزلت هذه الآية. ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. مجاهد : لا تفتاتوا على الله ورسول حتى يقضي الله على لسان رسوله ، ذكره البخاري أيضا. الحسن : نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. ابن جريج : لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم. قلت : هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي ، وسردها قبله الماوردي. قال القاضي : وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم ، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها ، ولعلها نزلت دون سبب ، والله أعلم. قال القاضي : إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح ، لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج ، وذلك بين. إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة ، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم ، وهو سد خلة الفقير ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استعجل من العباس صدقة عامين ، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر ، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها. وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع. وقال أشهب : لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة ، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب. ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز ، لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح ، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح ، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير. فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر ، والشهر كالسنة. فإما تقديم كلي كما قال أبو حنيفة والشافعي ، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب. الثالثة : قوله تعالى : {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وإيجاب اتباعه والاقتداء به ، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه : "مروا أبا بكر فليصل بالناس" . فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما : قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يُسْمع الناس من البكاء ، فَمُرْ عمر فليصل بالناس. فقال صلى الله عليه وسلم : "إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس" . فمعنى قول [صواحب يوسف] الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز. وربما احتج بُغَاةُ القياس بهذه الآية. وهو باطل منهم ، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه. وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع ، فليس إذاً تقدمٌ بين يديه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} يعني في التقدم المنهي عنه. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لقولكم { عَلِيمٌ} بفعلكم. الآية : 2 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} فيه ست مسائل : الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} روى البخاري والترمذي عن ابن أبي مليكة قال : حدثني عبدالله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : يا رسول الله استعمله على قومه ، فقال عمر : لا تستعمله يا رسول الله ، فتكلما عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت أصواتهما ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي. فقال عمر : ما أردت خلافك ، قال : فنزلت هذه الآية : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} قال : فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه. قال : وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر. قال : هذا حديث غريب حسن. وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا ، لم يذكر فيه عن عبدالله بن الزبير. قلت : هو البخاري ، قال : عن ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر ، فقال نافع : لا أحفظ اسمه ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي. فقال : ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية. فقال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه ، يعني أبا بكر الصديق. وذكر المهدوي عن علي رضي الله عنه : نزل قوله : {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة ، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة ، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر ، لأن خالتها عنده. وقد تقدم هذا الحديث في "آل عمران" . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أعلم لك علمه ، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه ، فقال له : ما شأنك ؟ فقال : شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة ، فقال : "اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة" "لفظ البخاري" وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد. وقيل : أبا عبدالرحمن. قتل له يوم الحرة ثلاثة من الولد : محمد ، ويحيى ، وعبدالله. وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك ، كان يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يقال لحسان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما قدم وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر ، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم ، وقام شاعرهم وهوالأقرع بن حابس فأنشد : أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا خلفونا عند ذكر المكارم وإنا رؤوس الناس من كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وإن لنا المرباع في كل غارة ... تكون بنجد أو بأرض التهائم فقام حسان فقال : بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم في أبيات لهما. فقالوا : خطيبهم أخطب من خطيبنا ، وشاعرهم أشعر من شاعرنا ، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى : {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} . وقال عطاء الخراساني : حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت : لما نزلت : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية ، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه يسأله ما خبره ، فقال : أنا رجل شديد الصوت ، أخاف أن يكون حبط عملي. فقال عليه السلام : "لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير" . قال : ثم أنزل الله : {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان : 18] فأغلق بابه وطفق يبكي ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره ، فقال : يا رسول الله ، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي. فقال : "لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة" . قالت : فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا ، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيقة : ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا ، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة ، فمر به رجل من المسلمين فأخذها ، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له : أوصيك بوصية ، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه ، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس ، وعند خبائه فرس يستن في طوله ، وقد كفأ على الدرع برمة ، وفوق البرمة رحل ، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها ، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني أبا بكر - فقل له : إن علي من الدين كذا وكذا ، وفلان من رقيقي عتيق وفلان ، فأتى الرجل خالدا فأخبره ، فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته. قال : ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت ، رحمه الله ، ذكره أبو عمر في الاستيعاب. الثانية : قوله تعالى : {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} أي لا تخاطبوه : يا محمد ، ويا أحمد. ولكن : يا نبي الله ، ويا رسول الله ، توقيرا له. وقيل : كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك. وقيل : {لا تَجْهَرُوا لَهُ} أي لا تجهروا عليه ، كما يقال : سقط لفيه ، أي على فيه - {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} الكاف كاف التشبيه في محل النصب ، أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها. {لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي من أجل أن تحبط ، أي تبطل ، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون : أي لئلا تحبط أعمالكم. الثالثة : معنى الآية الأمر بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره ، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته ، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم ، وجهره باهرا لجهركم ، حتى تكون مزيته عليكم لائحة ، وسابقته واضحة ، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق. لا أن تغمروا صوته بلغطكم ، وتبهروا منطقه بصخبكم. وفي قراءة ابن مسعود {لا ترفعوا بأصواتكم} . وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام. وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم ، إذ هم ورثة الأنبياء. الرابعة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا ، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قرئ كلامه ، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ، ولا يعرض عنه ، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به. وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى : {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف : 204] . وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي ، وله من الحكمة مثل ما للقرآن ، إلا معاني مستثناة ، بيانها في كتب الفقه. الخامسة : وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة ، لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون. وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جَرْسِه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء ، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك ، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس بن عبدالمطلب لما انهزم الناس يوم حنين : "اصرخ بالناس" ، وكان العباس أجهر الناس صوتا. يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس : يا صاحباه فأسقطت الحوامل لشدة صوته ، وفيه يقول نابغة بني جعدة : زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه. السادسة : قال الزجاج : {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} التقدير لأن تحبط ، أي فتحبط أعمالكم ، فاللام المقدرة لام الصيرورة وليس قوله : {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم ، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر ، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع. كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم. الآية : 3 {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له ، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له. قال أبو هريرة : لما نزلت {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} قال أبو بكر رضي الله عنه : والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار. وذكر سنيد قال : حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال : لما نزلت : {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات : 1] قال أبو بكر : والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السرار. وقال عبدالله بن الزبير : لما نزلت : {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} ما حدث عمر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض ، فنزلت : {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} . قال الفراء : أي أخلصها للتقوى. وقال الأخفش : أي اختصها للتقوى. وقال ابن عباس : {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} طهرهم من كل قبيح ، وجعل في قلوبهم الخوف من الله والتقوى. وقال عمر رضي الله عنه : أذهب عن قلوبهم الشهوات. والامتحان افتعال من محنت الأديم محنا حتى أوسعته. فمعنى أمتحن الله قلوبهم للتقوى وسعها وشرحها للتقوى. وعلى الأقوال المتقدمه : امتحن قلوبهم فأخلصها ، كقولك : امتحنت الفضة أي اختبرتها حتى خلصت. ففي الكلام حذف يدل عليه الكلام ، وهو الإخلاص. وقال أبو عمرو : كل شيء جهدته فقد محنته. وأنشد : أتت رذايا باديا كلالها ... قد محنت واضطربت آطالها {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} . الآية : 4 {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال مجاهد وغيره : نزلت في أعراب بني تميم ، قدم الوفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته أن اخرج إلينا ، فإن مدحنا زين وذمنا شين. وكانوا سبعين رجلا قدموا الفداء ذراري لهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نام للقائلة. وروي أن الذي نادي الأقرع بن حابس ، وأنه القائل : إن مدحي زين وإن ذمي شين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ذاك الله" . ذكره الترمذي عن البراء بن عازب أيضا. وروى زيد بن أرقم فقال : أتى أناس النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس باتباعه ، وإن يكن ملكا نعش في جنابه. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته : يا محمد ، يا محمد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قيل : إنهم كانوا من بني تميم. قال مقاتل كانوا تسعة عشر : قيس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ، والأقرع بن حابس ، وسويد بن هاشم ، وخالد بن مالك ، وعطاء بن حابس ، والقعقاع بن معبد ، ووكيع بن وكيع ، وعيينة بن حصن وهو الأحمق المطاع ، وكان من الجرارين يجر عشرة آلاف قناة ، أي يتبعه ، وكان اسمه حذيفة وسمي عيينة لِِِشَتركان في عينيه ذكر عبدالرزاق في عيينة هذا : أنه الذي نزل فيه {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف : 28] . وقد مضى في آخر "الأعراف" من قول لعمر رضي الله عنه ما فيه كفاية ، ذكره البخاري. وروي أنهم وفدوا وقت الظهيرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم راقد ، فجعلوا ينادونه : يا محمد يا محمد ، أخرج إلينا ، فاستيقظ وخرج ، ونزلت. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "هم جفاة بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم" . والحجرات جمع الحجرة ، كالغرفات جمع غرفة ، والظلمات جمع ظلمة. وقيل : الحجرات جمع الحجر ، والحجر جمع حجرة ، فهو جمع الجمع. وفيه لغتان : ضم الجيم وفتحها. قال : ولما رأونا باديا ركباتنا ... على موطن لا نخلط الجد بالهزل والحجرة : الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها. وحظيرة الإبل تسمى الحجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {الحجرات} بفتح الجيم استثقالا للضمتين. وقرئ {الحجرات} بسكون الجيم تخفيفا. وأصل الكلمة المنع. وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه. ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضا من الجملة فلهذا قال : {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل. الآية : 5 {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لو انتظروا خروجك لكان أصلح في دينهم ودنياهم. وكان صلى الله عليه وسلم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيهما بمهمات نفسه ، فكان إزعاجه في تلك الحالة https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى
https://4.bp.blogspot.com/-RWs2LNow4...6026814512.gif تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (16) سُورَةُ الحجرات من صــ 311 الى صــ 320 الحلقة (660) من سوء الأدب وقيل : كانوا جاؤوا شفعاء في أساري بني عنبر فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم نصفهم ، وفادي على النصف. ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . الآية : 6 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} فيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} قيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم - في رواية : لإحنة كانت بينه وبينهم - ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه ، فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فنزلت هذه الآية ، فكان يقول نبي الله صلى الله عليه وسلم : "التأني من الله والعجلة من الشيطان" . وفي رواية : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم خافهم ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوا صدقاتهم. فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم ، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فاستمر راجعا ، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله ، والله ما خرجنا لذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وسمي الوليد فاسقا أي كاذبا. قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبدالله : الفاسق الكذاب. وقال أبو الحسن الوراق : هو المعلن بالذنب. وقال ابن طاهر : الذي لا يستحي من الله. وقرأ حمزة والكسائي {فتثبتوا} من التثبت. الباقون {فتبينوا} من التبيين {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً} أي لئلا تصيبوا ، فـ {أن} في محل نصب بإسقاط الخافض. {بِجَهَالَةٍ} أي بخطأ. {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} على العجلة وترك التأني. الثانية : في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا ، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق. ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا ، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها. وقد استئنى الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود ، وإثبات حق مقصود على الغير ، مثل أن يقول : هذا عبدي ، فإنه يقبل قوله. وإذا قال : قد أنفذ فلان هذا لك هدية ، فإنه يقبل ذلك. وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر. وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا. وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره : لا يكون وليا في النكاج. وقال أبو حنيفة ومالك : يكون وليا ، لأنه يلي مالها فيلي بضعها. كالعدل ، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم ، وقد يبذل المال ويصون الحرمة ، وإذا ولي المال فالنكاج أولى. الثالثة : قال ابن العربي : ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين. وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم ، ولا استطيعت إزالتهم صلي معهم ووراءهم ، كما قال عثمان : الصلاة أحسن ما يفعل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن ، وإذا أساؤوا فآجتنب إساءتهم. ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله ، ومنهم من كان يجعلها صلاته. ويوجوب الإعادة أقول ، فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة من لا يرضى من الأئمة ، ولكن يعيد سرا في نفسه ، ولا يؤثر ذلك عند غيره. الرابعة : وأما أحكامه إن كان واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه ، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال ، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر أو قول يحكى ، فإن الكلام كثير والحق ظاهر. الخامسة : لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله ، أو إذن يعلمه ، إذا لم يخرج عن حق المرسل ، والمبلغ ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله. وهذا جائز للضرورة الداعية اليه ، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها شيء لعدمهم في ذلك. والله أعلم. السادسة : وفي الآية دليل على فساد. من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول ، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم ، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة. السابعة : فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة ، كالقضاء بالشاهدين العدليين ، وقبول قول العالم المجتهد. وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله. ذكر هذه المسألة القشيري ، والذي قبلها المهدوي. 3 - الآية : 7 - 8 {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} فلا تكذبوا ، فإن الله يعلمه أنباءكم فتفتضحون. {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي لو تسارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر لنالكم مشقة وإثم ، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه لكان خطأ ، ولعنت من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم. ومعنى طاعة الرسول لهم : الإئتمار بما يأمر به فيما يبلغونه عن الناس والسماع منهم. والعنت الإثم ، يقال : عنت الرجل. والعنت أيضا الفجور والزني ، كما في سورة "النساء" . والعنت أيضا الوقوع في أمر شاق ، وقد مضى في آخر "التوبة" القول في {عَنِتُّمْ} [التوبة : 128] بأكثر من هذا. {لَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ} هذا خطاب للمؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخبرون بالباطل ، أي جعل الإيمان أحب الأديان إليكم. {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} {وَزَيَّنَهُ} بتوفيقه. {فِي قُلُوبِكُمْ} أي حسنه إليكم حتى اخترتموه. وفي هذا رد على القدرية والإمامية وغيرهم ، حسب ما تقدم في غير موضع. فهو سبحانه المنفرد بخلق ذوات الخلق وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم ، لا شريك له. {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} قال ابن عباس : يريد به الكذب خاصة. وقاله ابن زيد. وقيل : كل ما خرج عن الطاعة ، مشتق من فسقت الرطبة خرجت من قشرها. والفأرة من جحرها. وقد مضى في "البقرة" القول فيه مستوفى. والعصيان جمع المعاصي. ثم انتقل من الخطاب إلى الخبر فقال : {أُولَئِكَ} يعني هم الذين وفقهم الله فحبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر أي قبحه عندهم {الرَّاشِدُونَ} كقوله تعالى : {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم : 39] . قال النابغة : يا دارَمَيَّةَ بالعلياء فالسند ... أقوَتْ وطال عليها سالف الأمد والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه ، من الرشاد وهي الصخرة. قال أبو الوازع : كل صخرة رشادة. وأنشد : وغير مقلد وموشمات ... صلين الضوء من صم الرشاد {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أي فعل الله ذلك بكم فضلا ، أي الفضل والنعمة ، فهو مفعول له. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {عَلِيمٌ} بما يصلحكم {حَكِيمٌ} في تدبيركم. الآية : 9 {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فيه عشر مسائل : الأولى : قوله تعالى : {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} روى المعتمر بن سليمان عن أنس بن مالك قال : قلت : يا نبي الله ، لو أتيت عبدالله بن أبي ؟ فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فركب حمار وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال : إليك عني فوالله لقد أذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك. فغضب لعبدالله رجل من قومه ، وغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية. وقال مجاهد : نزلت في الأوس والخزرج. قال مجاهد : تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية. ومثله عن سعيد بن جبير : أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه ، فأنزل الله هذه الآية فيهم. وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما : لآخذن حقي عنوة ، لكثرة عشيرته. ودعاه الآخر إلى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبي أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والسيوف ، فنزلت هذه الآية. وقال الكلبي : نزلت في حرب سُمير وحاطب ، وكان سمير قتل حاطبا ، فاقتتل الأوس والخزرج حتى أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت. وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يصلحوا بينهما. وقال السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها : أم زيد تحت رجل من غير الأنصار ، فتخاصمت مع زوجها ، أرادت أن تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها ، وأن المرأة بعثت إلى قومها ، فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها ، فخرج الرجل فاستغاث أهله فخرج بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها ، فتدافعوا وتجالدوا بالنعال ، فنزلت الآية. والطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والأثنين ، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبدالله {حتى يفيؤوا إلى أمر الله فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط} . وقرأ ابن أبي عبلة {اقتتلتا} على لفظ الطائفتين. وقد مضى في آخر "التوبة" القول فيه. وقال ابن عباس في قوله عز وجل : {لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم : 2] قال : الواحد فما فوقه ، والطائفة من الشيء القطعة منه. {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما. {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} تعدت ولم تجب إلى حكم الله وكتابه. والبغي : التطاول والفساد. {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي ترجع إلى كتابه. {فَإِنْ فَاءَتْ} أي فإن رجعت {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} أي احملوهما على الإنصاف. {وَأَقْسِطُوا} أقسطوا أيها الناس فلا تقتتلوا. وقيل : أقسطوا أي اعدلوا. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي العادلين المحقين. الثانية : قال العلماء : لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما ، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أو لا. فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة. فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما. وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى ، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب ، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل. فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة ، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضرحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. والله أعلم. الثالثة : في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين. وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين ، واحتج بقوله عليه السلام : "قتال المؤمن كفر" . ولو كان قتال المؤمن الباغي كفرا لكان الله تعالى قد أمر بالكفر ، تعالى الله عن ذلك وقد قاتل الصديق رضي الله عنه : من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة ، وأمر ألا يتبع مُولٍّ ، ولا يجهز على جريح ، ولم تحل أموالهم ، بخلاف الواجب في الكفار. وقال الطبري : لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حد ولا أبطل باطل ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم ، بأن يتحزبوا عليهم ، ويكف المسلمون أيديهم عنهم ، وذلك مخالف لقوله عليه السلام : "خذوا على أيدي سفهائكم" . الرابعة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، والعمدة في حرب المتأولين ، وعليها عول الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة ، وإياها عني النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : "تقتل عمارا الفئة الباغية" . وقوله عليه السلام في شأن الخوارج : "يخرجون على خير فرقة أو على حسين فرقة" ، والرواية الأولى أصح ، لقوله عليه السلام : "تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحق" . وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه. فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليا رضي الله عنه كان إماما ، وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتال واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح ، لأن عثمان رضي الله عنه قتل والصحابة برآء من دمه ، لأنه منع من قتال من ثار عليه وقال : لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل ، فصبر على البلاء ، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة. ثم لم يمكن ترك الناس سدي ، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر في الشوري ، وتدافعوها ، وكان علي كرم الله وجهه أحق بها وأهلها ، فقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل ، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل. فربما تغير الدين وانقض عمود الإسلام. فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم ، فقال لهم علي رضي الله عنه : ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه. فقالوا : لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحاً ومساءً. فكان علي في ذلك أشد رأيا وأصوب قيلا ، لأن عليا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربا ثالثة ، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة ، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم ، فيجري القضاء بالحق. ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة. وكذلك جرى لطلحة والزبير ، فإنهما ما خلعا عليا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة ، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى. قلت : فهذا قول في سبب الحرب الواقع بينهم. وقال جلة من أهل العلم : إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة ، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به ، لأن الأمر كان قد انتظم بينهم ، وتم الصلح والتفرق على الرضا. فخاف قتلة عثمان رضي الله عنه من التمكين منهم والإحاطة بهم ، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ، ثم أتفقت آراوهم على أن يفترقوا فريقين ، ويبدأوا بالحرب سحرة في العسكرين ، وتختلف السهام بينهم ، ويصيح الفريق الذي في عسكر علي : غدر طلحة والزبير. والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير : غدر علي. فتم لهم ذلك على ما دبروه ، ونشبت الحرب ، فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه ، ومانعا من الإشاطة بدمه. وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى ، إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل. وهذا هوالصحيح المشهور. والله أعلم. الخامسة : قوله تعالى : {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أمر بالقتال. وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضي الله عنهم عن هذه المقامات ، كسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمرو ومحمد بن مسلمة وغيرهم. وصوب ذلك علي بن أبي طالب لهم ، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه. ويروي أن معاوية رضي الله عنه لما أفضى إليه الأمر ، عاتب سعدا على ما فعل ، وقال له : لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين أقتتلا ، ولا ممن قاتل الفئة الباغية. فقال له سعد : ندمت على تركي قتال الفئة الباغية. فتبين أنه ليس على الكل درك فيما فعل ، وإنما كان تصرفا بحكم الاجتهاد وإعمالا بمقتضى الشرع. والله أعلم. السادسة : قوله تعالى : {فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} ومن العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال ، فإنه تلف على تأويل. وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي. وهذا أصل في المصلحة. وقد قال لسان الأمة : إن حكمة الله تعالى في حرب الصحابة التعريف منهم لأحكام قتال أهل التأويل ، إذ كان أحكام قتال أهل الشرك قد عرفت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله. السابعة : إذا خرجت على الإمام العدل خارجة باغية ولا حجة لها ، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو من فيه كفاية ، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة ، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا. ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ، ولا تسبي ذراريهم ولا أموالهم. وإذا قتل العادل الباغي ، أو الباغي العادل وهو وليه لم يتوارثا. ولا يرث قاتل عمدا على حال. وقيل : إن العادل يرث الباغي ، قياسا على القصاص. الثامنة : وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به. وقال أبو حنيفة : يضمنون. وللشافعي قولان. وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فيلزم الضمان. والمعول في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا نفسا ولا مالا ، وهم القدوة. وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا عبدالله أتدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة" ؟ قال : الله ورسوله أعلم. فقال : "لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب طلب هاربها ولا يقسم فيئها" . فأما ما كان قائما رد بعينه. هذا كله فيمن خرج بتأويل يسوغ له. وذكر الزمخشري في تفسيره : إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت بعد الفيئة ما جنت ، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن ، إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها ، فما جنته ضمنته عند الجميع. فحمل الإصلاح بالعدل في قوله : {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل. وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة الباغية قليلة العدد. والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات ، ليس بحسن الطباق المأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. قال الزمخشري : فإن قلت : لم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأول ؟ قلت : لأن المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين أو راكبتي شبهة ، وأيتهما كانت https://4.bp.blogspot.com/-lLeD1xqyR...2871115946.gif |
الساعة الآن : 05:52 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour