رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
الحلقة (600) تفسير السعدى (سورة تبارك) من (11)الى (19) عبد الرحمن بن ناصر السعدى تفسير سورة تبارك { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ }11 أي: بُعْداً لهم وخسارة وشقاء. فما أشقاهم وأرداهم، حيث فاتهم ثواب الله، وكانوا ملازمين للسعير، التي تستعر في أبدانهم، وتطلع على أفئدتهم! { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }12 لما ذكر حالة الأشقياء الفجار، ذكر حالة السعداء الأبرار فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ } أي: في جميع أحوالهم، حتى في الحالة التي لا يطلع عليهم فيها إلا الله، فلا يقدمون على معاصيه، ولا يقصرون فيما أمر به، { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم، وإذا غفر الله ذنوبهم، وقاهم شرها، ووقاهم عذاب الجحيم، ولهم أجر كبير وهو ما أعده لهم في الجنة، من النعيم المقيم، والملك الكبير، واللذات [المتواصلات] والمشتهيات، والقصور [والمنازل] العاليات، والحور الحسان، والخدم والولدان. وأعظم من ذلك وأكبر رضا الرحمن، الذي يحله الله على أهل الجنان. { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }13 { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }14 هذا إخبار من الله بسعة علمه، وشمول لطفه، فقال: { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ } أي: كلها سواء لديه، لا يخفى عليه منها خافية، فـ { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي: بما فيها من النيات، والإرادات، فكيف بالأقوال والأفعال، التي تسمع وترى؟! ثم قال - مستدلاً بدليل عقلي على علمه -: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا يعلمه؟! { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا [والخفايا والغيوب]، وهو الذي{ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى } [طه: 7] ومن معاني اللطيف، أنه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من [العبد] على بال، حتى إنه يذيقه المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة. { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ }15 أي: هو الذي سخر لكم الأرض وذللها، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم، من غرس وبناء وحرث، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة، { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا } أي: لطلب الرزق والمكاسب. { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحاناً، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة، تبعثون بعد موتكم، وتحشرون إلى الله، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة. { ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } 16 { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } 17 { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ }18 هذا تهديد ووعيد لمن استمر في طغيانه وتعدِّيه، وعصيانه الموجب للنكال وحلول العقوبة، فقال: { ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ } وهو الله تعالى، العالي على خلقه. { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } بكم وتضطرب، حتى تتلفكم وتهلككم. { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } أي: عذاباً من السماء يحصبكم، وينتقم الله منكم { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي: كيف يأتيكم ما أنذرتكم به الرسل والكتب، فلا تحسبوا أن أمنَكُم من الله أن يعاقبكم بعقاب من الأرض ومن السماء ينفعكم، فستجدون عاقبة أمركم، سواء طال عليكم الزمان أو قصر، فإن من قبلكم، كذبوا كما كذبتم، فأهلكهم الله تعالى، فانظروا كيف إنكار الله عليهم، عاجلهم بالعقوبة الدنيوية قبل عقوبة الآخرة، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم. { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }19 وهذا عتاب وحث على النظر إلى حالة الطير التي سخرها الله، وسخر لها الجو والهواء، تصف فيه أجنحتها للطيران، وتقبضها للوقوع، فتظل سابحة في الجو، مترددة فيه بحسب إرادتها وحاجتها. { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } فإنه الذي سخر لهن الجو، وجعل أجسادهن وخلقتهن في حالة مستعدة للطيران، فمن نظر في حالة الطير واعتبر فيها، دلته على قدرة الباري وعنايته الربانية، وأنه الواحد الأحد، الذي لا تنبغي العبادة إلا له، { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } فهو المدبر لعباده بما يليق بهم، وتقتضيه حكمته. |
رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
الحلقة (601) تفسير السعدى (سورة تبارك) من (20)الى (30) عبد الرحمن بن ناصر السعدى تفسير سورة تبارك { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ } 20 { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ }21 يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره، المعرضين عن الحق: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } أي: ينصركم إذا أراد بكم الرحمن سوءاً، فيدفعه عنكم؟ أي: من الذي ينصركم على أعدائكم غير الرحمن؟ فإنه تعالى هو الناصر المعز المذل، وغيره من الخلق لو اجتمعوا على نصر عبد، لم ينفعوه مثقال ذرة، على أيّ عدوٍّ كان، فاستمرار الكافرين على كفرهم، بعد أن علموا أنه لا ينصرهم أحد من دون الرحمن، غرور وسَفَهٌ. { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } أي: الرزق كله من الله، فلو أمسك عنكم رزقه، فمن الذي يرسله لكم؟ فإن الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم، فكيف بغيرهم؟ فالرزاق المنعم، الذي لا يصيب العباد نعمة إلا منه، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، ولكن الكافرون { لَّجُّواْ } أي: استمروا { فِي عُتُوٍّ } أي: قسوة وعدم لين للحق { وَنُفُورٍ } أي: شرود عن الحق. { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }22 أي: أيُّ الرجلين أهدى؟ من كان تائهاً في الضلال، غارقاً في الكفر قد انتكس قلبه، فصار الحق عنده باطلاً، والباطل حقاً؟ ومن كان عالماً بالحق، مؤثراً له، عاملاً به، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين، يعلم الفرق بينهما، والمهتدي من الضال منهما، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال. { قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } 23 { قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } 24 { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 25 { قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }26 يقول تعالى - مبيناً أنه المعبود وحده، وداعياً عباده إلى شكره، وإفراده بالعبادة -: { قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ } أي: أوجدكم من العدم، من غير معاون له ولا مظاهر، ولما أنشأكم، كمل لكم الوجود بالسمع والأبصار والأفئدة، التي هي أنفع أعضاء البدن، وأكمل القوى الجسمانية، ولكنه مع هذا الإنعام { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } الله، قليل منكم الشاكر، وقليل منكم الشكر. { قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي: بثكم في أقطارها، وأسكنكم في أرجائها، وأمركم، ونهاكم، وأسدى عليكم من النعم، ما به تنتفعون، ثم بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة، ولكن هذا الوعد بالجزاء، ينكره هؤلاء المعاندون { وَيَقُولُونَ } تكذيباً: { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } جعلوا علامة صدقهم أن يخبروا بوقت مجيئه، وهذا ظلم وعناد، فإنما العلم عند الله لا عند أحد من الخلق، ولا ملازمة بين صدق هذا الخبر وبين الإخبار بوقته، فإن الصدق يعرف بأدلته، وقد أقام الله من الأدلة والبراهين على صحته ما لا يبقى معه أدنى شك لمن ألقى السمع وهو شهيد. { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } 27 { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } 28 { قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } 29 { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ }30 يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا، فإذا كان يوم الجزاء، ورأوا العذاب منهم { زُلْفَةً } أي: قريباً، ساءهم ذلك وأفظعهم، وقلقل أفئدتهم، فتغيرت لذلك وجوههم، ووبخوا على تكذيبهم، وقيل لهم هذا الذي كنتم به تكذبون، فاليوم رأيتموه عياناً، وانجلى لكم الأمر، وتقطعت بكم الأسباب ولم يبق إلا مباشرة العذاب. ولما كان المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم، [الذين] يردون دعوته، ينتظرون هلاكه، ويتربصون به ريب المنون، أمره الله أن يقول لهم: أنتم وإن حصلت لكم أمانيكم، وأهلكني الله ومن معي، فليس ذلك بنافع لكم شيئاً، لأنكم كفرتم بآيات الله، واستحقيتم العذاب، فمن يجيركم من عذاب أليم قد تحتّم وقوعه بكم؟ فإذاً، تعبكم وحرصكم على هلاكي غير مفيد، ولا مجد عنكم شيئاً. ومن قولهم، إنهم على هدى، والرسول على ضلال، أعادوا في ذلك وأبدوا، وجادلوا عليه وقاتلوا، فأمر الله نبيه أن يخبر عن حاله وحال أتباعه، ما به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم، وهو أن يقولوا: { آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } والإيمان يشمل التصديق الباطن، والأعمال الباطنة والظاهرة، ولما كانت الأعمال، وجودها وكمالها، متوقفةٌ على التوكل، خص الله التوكل من بين سائر الأعمال، وإلا فهو داخل في الإيمان، ومن جملة لوازمه كما قال تعالى:{ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة: 23] فإذا كانت هذه حال الرسول وحال من اتبعه، وهي الحال التي تتعين للفلاح، وتتوقف عليها السعادة، وحالة أعدائه بضدها، فلا إيمان [لهم] ولا توكل، علم بذلك من هو على هدى، ومن هو في ضلال مبين. ثم أخبر عن انفراده بالنعم، خصوصاً بالماء الذي جعل الله منه كل شيء حيٍّ، فقال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } أي: غائراً { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } تشربون منه، وتسقون أنعامكم وأشجاركم وزروعكم؟ وهذا استفهام بمعنى النفي أي: لا يقدر أحد على ذلك غير الله تعالى. |
رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
|
رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
الحلقة (603) تفسير السعدى (سورة القلم) من (17)الى (41) عبد الرحمن بن ناصر السعدى تفسير سورة القلم { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } 17 { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } 18 { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } 19 { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } 20 { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } 21 { أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } 22 { فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } 23 { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } 24 { وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ } 25 { فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ } 26 { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } 27 { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } 28 { قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } 29 { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } 30 { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } 31 { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } 32 { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }33 { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } إلى آخر القصة يقول تعال: إنا بلونا هؤلاء المكذبين بالخير وأمهلناهم، وأمددناهم بما شئنا من مال وولد، وطول عمر، ونحو ذلك، مما يوافق أهواءهم، لا لكرامتهم علينا، بل ربما يكون استدراجاً لهم من حيث لا يشعرون، فاغترارهم بذلك نظير اغترار أصحاب الجنة، الذين هم فيها شركاء، حين زهت ثمارها أينعت أشجارها، وآن وقت صرامها، وجزموا أنها في أيديهم، وطوع أمرهم، [وأنه] ليس ثَمَّ مانع يمنعهم منها، ولهذا أقسموا وحلفوا من غير استثناء، أنهم سيصرمونها أي: يجذونها مصبحين، ولم يدروا أن الله بالمرصاد، وأن العذاب سيخلفهم عليها، ويبادرهم إليها. { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } أي: عذاب نزل عليها ليلاً { وَهُمْ نَآئِمُونَ } فأبادها وأتلفها { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } أي: كالليل المظلم، ذهبت الأشجار والثمار، هذا وهم لا يشعرون بهذا الواقع الملم، ولهذا تنادوا فيما بينهم لما أصبحوا يقول بعضهم لبعض: { أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَٱنطَلَقُواْ } قاصدين له { وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } فيما بينهم، ولكن بمنع حق الله، ويقولون: { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } أي: بكروا قبل انتشار الناس، وتواصوا مع ذلك، بمنع الفقراء والمساكين، ومن شدة حرصهم وبخلهم، أنهم يتخافتون بهذا الكلام مخافتة، خوفاً أن يسمعهم أحد، فيخبر الفقراء. { وَغَدَوْاْ } في هذه الحالة الشنيعة، والقسوة، وعدم الرحمة { عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ } أي: على إمساك ومنع لحق الله، جازمين بقدرتهم عليها، { فَلَمَّا رَأَوْهَا } على الوصف الذي ذكر الله كالصريم، { قَالُوۤاْ } من الحيرة والانزعاج. { إِنَّا لَضَآلُّونَ } [أي: تائهون] عنها، لعلها غيرها، فلما تحققوها، ورجعت إليهم عقولهم قالوا: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } منها، فعرفوا حينئذ أنه عقوبة، فـ { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } أي: أعدلهم وأحسنهم طريقة { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } أي: تنزهون الله عما لا يليق به، ومن ذلك، ظنكم أن قدرتكم مستقلة، فلولا استثنيتم فقلتم: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " وجعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئتة الله، لما جرى عليكم ما جرى، فقالوا { سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي: استدركوا بعد ذلك، ولكن بعد ما وقع العذاب على جنتهم، الذي لا يرفع، ولكن لعل تسبيحهم هذا، وإقرارهم على أنفسهم بالظلم، ينفعهم في تخفيف الإثم ويكون توبة، ولهذا ندموا ندامة عظيمة، { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } فيما أجروه وفعلوه، { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي: متجاوزين للحد في حق الله وحق عباده، { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } فهم رجوا الله أن يبدلهم خيراً منها، ووعدوا أنهم سيرغبون إلى الله، ويلحون عليه في الدنيا، فإن كانوا كما قالوا، فالظاهر أن الله أبدلهم في الدنيا خيراً منها، لأن من دعا الله صادقاً، ورغب إليه ورجاه، أعطاه سُؤْلَه. قال تعالى مبيناً ما وقع: { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ } [أي:] الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلب الله العبد الشيء الذي طغى به وبغى، وآثر الحياة الدنيا، وأن يزيله عنه، أحوج ما يكون إليه. { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ } من عذاب الدنيا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فإن من علم ذلك، أوجب له الانزجار عن كل سبب يوجب العذاب ويحل العقاب. { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } 34 { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } 35 { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } 36 { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ } 37 { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } 38 { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } 39 { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } 40 { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ }41 يخبر تعالى بما أعده للمتقين للكفر والمعاصي، من أنواع النعيم والعيش السليم في جوار أكرم الأكرمين، وأن حكمته تعالى لا تقتضي أن يجعل المسلمين القانتين لربهم، المنقادين لأوامره، المتبعين لمراضيه كالمجرمين الذين أوضعوا في معاصيه، والكفر بآياته، ومعاندة رسله، ومحاربة أوليائه، وأن من ظن أنه يسويهم في الثواب، فإنه قد أساء الحكم، وأن حكمه حكمٌ باطل، ورأيه فاسد، وأن المجرمين إذا ادعوا ذلك، فليس لهم مستند، لا كتاب فيه يدرسون [ويتلون] أنهم من أهل الجنة، وأن لهم ما طلبوا وتخيروا. وليس لهم عند الله عهد ويمين بالغة إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون، وليس لهم شركاء وأعوان على إدراك ما طلبوا، فإن كان لهم شركاء وأعوان فليأتوا بهم إن كانوا صادقين، ومن المعلوم أن جميع ذلك منتفٍ، فليس لهم كتاب، ولا لهم عهد عند الله في النجاة، ولا لهم شركاء يعينونهم، فعلم أن دعواهم باطلة فاسدة، وقوله: { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } أي: أيهم الكفيل بهذه الدعوى الفاسدة، فإنه لا يمكن التصدر بها، ولا الزعامة فيها. |
رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
الحلقة (604) تفسير السعدى (سورة القلم) من (42)الى (52) عبد الرحمن بن ناصر السعدى تفسير سورة القلم { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } 42 { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَٰلِمُونَ }43 أي: إذا كان يوم القيامة، وانكشف فيه من القلاقل [والزلازل] والأهوال ما لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم، فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه، فحينئذ يدعون إلى السجود لله، فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون لله، طوعاً واختياراً، ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا يقدرون على السجود، وتكون ظهورهم كصياصي البقر، لا يستطيعون الانحناء، وهذا الجزاء ما جنس عملهم، فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود لله وتوحيده وعبادته وهم سالمون، لا علة فيهم، فيستكبرون عن ذلك ويأبون، فلا تسأل يومئذ عن حالهم وسوء مآلهم، فإن الله قد سخط عليهم، وحقت عليهم كلمة العذاب، وتقطعت أسبابهم، ولم تنفعهم الندامة ولا الاعتذار يوم القيامة، ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي، و[يوجب] التدارك مدة الإمكان. ولهذا قال تعالى: { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ... }. { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } 44 { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } 45 { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } 46 { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } 47 { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } 48 { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } 49 { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } 50 { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } 51 { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }52 أي: دعني والمكذبين بالقرآن العظيم، فإن عليَّ جزاءهم، ولا تستعجل لهم، فـ { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } فنمدهم بالأموال والأولاد، ونمدهم في الأرزاق والأعمال، ليغتروا ويستمروا على ما يضرهم، فإن وهذا من كيد الله لهم، وكيد الله لأعدائه، متين قوي، يبلغ من ضررهم وعذابهم فوق كل مبلغ. { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } أي: ليس لنفورهم عنك، وعدم تصديقهم لما جئت به ، سبب يوجب لهم ذلك، فإنك تعلمهم، وتدعوهم إلى الله، لمحض مصلحتهم، من غير أن تطلبهم من أموالهم مغرماً يثقل عليهم. { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما كان عندهم من الغيوب، وقد وجدوا فيها أنهم على حق، وأن لهم الثواب عند الله، فهذا أمر ما كان، وإنما كانت حالهم حال معاند ظالم. فلم يبق إلا الصبر لأذاهم، والتحمل لما يصدر منهم، والاستمرار على دعوتهم، ولهذا قال: { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي: لما حكم به شرعاً وقدراً، فالحكم القدري، يصبر على المؤذي منه، ولا يُتَلَقَّى بالسخط والجزع، والحكم الشرعي، يقابل بالقبول والتسليم، والانقياد التام لأمره. وقوله: { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } وهو يونس بن متى، عليه الصلاة والسلام أي: ولا تشابهه في الحال التي أوصلته، وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت، وهو عدم صبره على قومه الصبر المطلوب منه، وذهابه مغاضباً لربه، حتى ركب في البحر، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها أيهم يلقون لكي تخف بهم، فوقعت القرعة عليه فالتقمه الحوت وهو مليم، [وقوله] { إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } أي: وهو في بطنها قد كظمت عليه، أو نادى وهو مغتمٌّ مهتم، بأن قال:{ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] فاستجاب الله له، وقذفته الحوت من بطنها بالعراء وهو سقيم، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، ولهذا قال هنا: { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ } أي: لطرح في العراء، وهي الأرض الخالية { وَهُوَ مَذْمُومٌ } ولكن الله تغمده برحمته، فنبذ وهو ممدوح، وصارت حاله أحسن من حاله الأولى، ولهذا قال: { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أي: اختاره واصطفاه ونقاه من كل كدر،. { فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي: الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم، [وأحوالهم] فامتثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فصبر لحكم ربه صبراً لا يدركه فيه أحد من العالمين. فجعل الله له العاقبة{ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف: 128] ولم يدرك أعداؤه فيه إلا ما يسوؤهم، حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه بأبصارهم أي: يصيبوه بأعينهم، من حسدهم وغيظهم وحنقهم، هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعليّ، والله حافظه وناصره، وأما الأذى القولي، فيقولون فيه أقوالاً، بحسب ما توحي إليهم قلوبهم، فيقولون تارة " مجنون " ، وتارة " ساحر " ، وتارة " شاعر ". قال تعالى { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي: وما هذا القرآن الكريم، والذكر الحكيم، إلا ذكر للعالمين، يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم. |
رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
الحلقة (605) تفسير السعدى (سورة القلم) من (1)الى (19) عبد الرحمن بن ناصر السعدى تفسير سورة القلم { ٱلْحَاقَّةُ } 1 { مَا ٱلْحَآقَّةُ } 2 { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ } 3 { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ } 4 { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } 5 { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } 6 { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } 7 { فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ }8 { ٱلْحَاقَّةُ } من أسماء يوم القيامة، لأنها تحق وتنزل بالخلق، وتظهر فيها حقائق الأمور، ومخبآت الصدور، فعظم تعالى شأنها وفخمه، بما كرّره من قوله: { ٱلْحَاقَّةُ * مَا ٱلْحَآقَّةُ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ } فإن لها شأناً عظيماً، وهولاً جسيماً، [ومن عظمتها أن الله أهلك الأمم المكذبة بها بالعذاب العاجل]، ثم ذكر نموذجاً من أحوالها الموجودة في الدنيا المشاهدة فيها، وهو ما أحله من العقوبات البليغة بالأمم العاتية، فقال: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ } وهم القبيلة المشهورة، سكان الحجر، الذين أرسل الله إليهم رسوله صالحاً عليه السلام، ينهاهم عما هم عليه من الشرك، ويأمرهم بالتوحيد، فردوا دعوته وكذبوه، وكذبوا ما أخبرهم به من يوم القيامة، وهي القارعة التي تقرع الخلق بأهوالها، وكذلك عاد الأولى، سكان حضرموت، حين بعث الله إليهم رسوله هوداً عليه الصلاة والسلام، يدعوهم إلى عبادة الله [وحده]، فكذبوه، وكذبوا بما أخبر به من البعث، فأهلك الله الطائفتين بالهلاك المعجل { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } وهي الصيحة العظيمة الفظيعة، التي انصدعت منها قلوبهم، وزهقت لها أرواحهم فأصبحوا موتى لا يُرى إلا مساكنهم وجثثهم، { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } أي: قوية شديدة الهبوب لها صوت أبلغ من صوت الرعد [القاصف]، { عَاتِيَةٍ } [أي: ] عتت على خزانها، على قول كثير من المفسرين، أو عتت على عاد، وزادت على الحد كما هو الصحيح، { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } أي: نحساً وشراً فظيعاً عليهم، فدمرتهم وأهلكتهم، { فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ } أي: هلكى موتى { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } أي: كأنهم جذوع النخل التي قد قطعت رؤوسها الخاوية، الساقط بعضها على بعض، { فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } وهذا استفهام بمعنى النفي المتقرر. { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ } 9 { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } 10 { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } 11 { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }12 أي: وكذلك غير هاتين الأمتين الطاغيتين، عاد وثمود، جاء غيرهم من الطغاة العتاة، كفرعون مصر، الذي أرسل الله إليه عبده ورسوله موسى [ابن عمران] عليه الصلاة والسلام، وأراه من الآيات البينات، ما تيقنوا بها الحق، ولكن جحدوا وكفروا، ظلماً وعلواً، وجاء من قبله من المكذبين، { وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ } أي: قرى قوم لوط، الجميع جاؤوا { بِالْخَاطِئَةِ } أي: بالفعلة الطاغية، وهي الكفر والتكذيب، والظلم والمعاندة، وما انضم إلى ذلك من أنواع الفواحش والفسوق. { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } وهذا اسم جنس أي: كل من هؤلاء كذَّبَ الرسول الذي أرسله الله إليهم. فأخذ الله الجميع { أَخْذَةً رَّابِيَةً } أي: زائدة على الحد والمقدار، الذي يحصل به هلاكهم. ومن جملة أولئك، قوم نوح، أغرقهم الله في اليم حين طغى [الماء على وجه] الأرض، وعلا على مواضعها الرفيعة. وامتنَّ الله على الخلق الموجودين بعدهم أن الله حملهم { فِي ٱلْجَارِيَةِ } وهي السفينة في أصلاب آبائهم وأمهاتهم، الذين نجاهم الله، فاحمدوا الله واشكروا الذي نجاكم حين أهلك الطاغين، واعتبروا بآياته الدالة على توحيده، ولهذا قال: { لِنَجْعَلَهَا } أي: الجارية، والمراد جنسها، لكم { تَذْكِرَةً } تذكِّركم أول سفينة صنعت، وما قصتها، وكيف نجى الله عليها من آمن به واتبع رسوله، وأهلك أهل الأرض كلهم، فإن جنس الشيء مذكِّر بأصله. وقوله: { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } أي: تعقلها أولو الألباب، ويعرفون المقصود منها ووجه الآية بها. وهذا بخلاف أهل الإعراض والغفلة، وأهل البلادة وعدم الفطنة، فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات الله، لعدم وعيهم عن الله، وفكرهم بآيات الله. { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } 14 { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } 15 { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } 16 { وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } 17 { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } 18 { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ }19 لما ذكر ما فعله تعالى بالمكذبين لرسله، وكيف جازاهم وعجل لهم العقوبة في الدنيا، وأن الله نجى الرسل وأتباعهم، كان هذا مقدمة لذكر الجزاء الأخروي، وتوفية الأعمال كاملة يوم القيامة، فذكر الأمور الهائلة التي تقع أمام القيامة، وأن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل { فِي ٱلصُّورِ } إذا تكاملت الأجساد نابتة. { نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } فتخرج الأرواح، فتدخل كل روح في جسدها، فإذا الناس قيام لرب العالمين. { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } أي: فتتت الجبال واضمحلت، وخلطت بالأرض، ونسفت على الأرض، فكان الجميع قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. هذا ما يصنع بالأرض وما عليها، وأما ما يصنع بالسماء، فإنها تضطرب وتمور وتتشقق ويتغير لونها، وتهي بعد تلك الصلابة والقوة العظيمة، وما ذاك إلا لأمر عظيم أزعجها، وكرب جسيم هائل أوهاها وأضعفها. { وَٱلْمَلَكُ } أي: الملائكة الكرام { عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } أي: على جوانب السماء وأركانها، خاضعين لربهم، مستكينين لعظمته. { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } أملاك في غاية القوة، إذا أتى للفصل بين العباد، والقضاء بينهم بعدله وقسطه وفضله، ولهذا قال: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } على الله { لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } لا من أجسامكم وأجسادكم، ولا من أعمالكم [وصفاتكم]، فإن الله تعالى عالم الغيب والشهادة. ويحشر العباد حفاةً عُراةً غرلاً، في أرض مستوية، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فحينئذ يجازيهم بما عملوا، ولهذا ذكر كيفية الجزاء، فقال: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ... }. |
رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
الحلقة (606) تفسير السعدى (سورة القلم) من (20)الى (52) عبد الرحمن بن ناصر السعدى تفسير سورة القلم { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ } 20 { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } 21 { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } 22 { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } 23 { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } 24 { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ }25 وهؤلاء هم أهل السعادة، يُعْطَوْنَ كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم، تمييزاً لهم، وتنويهاً بشأنهم، ورفعاً لمقدارهم، ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور، ومحبة أن يطلع الخلق على ما مَنَّ الله عليه به من الكرامة: { هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ } أي: دونكم كتابي فاقرؤوه فإنه يبشر بالجنات، وأنواع الكرامات، ومغفرة الذنوب، وستر العيوب، والذي أوصلني إلى هذه الحال، ما مَنَّ الله به عليَّ من الإيمان بالبعث والحساب، والاستعداد له، بالممكن من العمل، ولهذا قال: { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } أي: أيقنت، فالظن - هنا - [بمعنى] اليقين، { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي: جامعة لما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وقد رضوها، ولم يختاروا عليها غيرها. { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } المنازل والقصور، عالية المحل. { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } أي: ثمرها وجناها، من أنواع الفواكه، قريبة، سهلة التناول على أهلها، ينالها أهلها، قياماً وقعوداً ومتكئين، ويقال لهم إكراماً: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } أي: من كل طعام لذيذ، وشراب شَهِيٍّ، { هَنِيئَاً } أي: تاماً كاملاً، من غير مكدر ولا منغص. وذلك الجزاء حصل لكم { بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } من الأعمال الصالحة - وترك الأعمال السيئة- من صلاة، وصيام، وصدقة، وحج، وإحسان إلى الخلق، وذكر لله، وإنابة إليه. فالأعمال جعلها الله سبباً لدخول الجنة، ومادة لنعيمها، وأصلاً لسعادتها. { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ } 26 { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } 27 { يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } 28 { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } 29 { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } 30 { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } 31 { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } 32 { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } 33 { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ } 34 { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } 35 { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ } 36 { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } 37 { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ }38 هؤلاء أهل الشقاء، يُعْطَوْنَ كتب أعمالهم السيئة بشمالهم تمييزاً لهم وخزياً، وعاراً وفضيحة، فيقول أحدهم من الهم والغم والخزي: { يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ } لأنه يبشر بدخول النار، والخسارة الأبدية، { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أي: ليتني كنت نسياً منسياً، ولم أبعث وأحاسب ولهذا قال: { يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } أي: يا ليت موتتي هي الموتة التي لا بعث بعدها. ثم التفت إلى ماله وسلطانه، فإذا هو وبال عليه، لم يقدم منه لآخرته، ولم ينفعه في الافتداء من عذاب الله، فيقول: { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } أي: ما نفعني لا في الدنيا، لم أقدم منه شيئاً، ولا في الآخرة، قد ذهب وقت نفعه. { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } أي: ذهب واضمحل، فلم تنفع الجنود الكثيرة، ولا العدد الخطيرة، ولا الجاه العريض، بل ذهب ذلك كله أدراج الرياح، وفاتت بسببه المتاجر والأرباح، وحضر بدله الهموم والغموم والأتراح، فحينئذ يؤمر بعذابه فيقال للزبانية الغلاظ الشداد: { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } أي: اجعلوا في عنقه غلاً يخنقه. { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } أي: قلبوه على جمرها ولهبها، { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً } من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة، { فَاسْلُكُوهُ } أي: انظموه فيها بأن تدخل في دبره وتخرج من فمه، ويعلق فيها، فلا يزال يعذب هذا العذاب الفظيع، فبئس العذاب والعقاب، وواحسرة من له التوبيخ والعتاب، فإن السبب الذي أوصله إلى هذا المحل: { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ } بأن كان كافراً بربه، معانداً لرسله، رادّاً ما جاؤوا به من الحق، { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } أي: ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين، فلا يطعمهم [من ماله]، ولا يحض غيره على إطعامهم، لعدم الوازع في قلبه، وذلك لأن مدار السعادة ومادتها أمران: الإخلاص لله، الذي أصله الإيمان بالله، والإحسان إلى الخلق، بوجوه الإحسان، الذي من أعظمها، دفع ضرورة المحتاجين، بإطعامهم ما يتقوتون به، وهؤلاء لا إخلاص ولا إحسان، فلذلك استحقوا ما استحقوا. { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا } أي: يوم القيامة { حَمِيمٌ } أي: قريب أو صديق يشفع له، لينجو من عذاب الله، أو يفوز بثواب الله:{ وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ: 23]{ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر: 18]. وليس له طعامٌ إلا من غسلين وهو صديد أهل النار، الذي هو في غاية الحرارة، ونتن الريح، وقبح الطعم ومرارته لا يأكل هذا الطعام الذميم { إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ } الذين أخطؤوا الصراط المستقيم، وسلكوا سبل الجحيم، فلذلك استحقوا العذاب الأليم. { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } 39 { وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } 40 { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } 41 { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } 42 { وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } 43 { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } 44 { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ } 45 { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } 46 { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } 47 { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } 48 { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } 49 { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } 50 { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }51 { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } 52 { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ }52 أقسم تعالى بما يبصر الخلق من جميع الأشياء وما لا يبصرونه، فدخل في ذلك كل الخلق، بل يدخل في ذلك نفسه المقدسة، على صدق الرسول بما جاء به من هذا القرآن الكريم، وأن الرسول الكريم بلغه عن الله تعالى، ونزه الله رسوله عما رماه به أعداؤه، من أنه شاعر أو ساحر، وأن الذي حملهم على ذلك، عدم إيمانهم وتذكرهم، فلو آمنوا وتذكروا، لعلموا ما ينفعهم ويضرهم، ومن ذلك، أن ينظروا في حال محمد صلى الله عليه وسلم، ويرمقوا أوصافه وأخلاقه، لرأوا أمراً مثل الشمس يدلهم على أنه رسول الله حقاً، وأن ما جاء به تنزيل رب العالمين، لا يليق أن يكون قول البشر، بل هو كلام دال على عظمة من تكلم به، وجلالة أوصافه، وكمال تربيته لعباده، وعلوه فوق عباده، وأيضاً، فإن هذا ظن منهم بما لا يليق بالله وحكمته فإنه لو تقول عليه وافترى { بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ } الكاذبة، { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } وهو عرق متصل بالقلب، إذا انقطع، مات منه الإنسان، فلو قدر أن الرسول - حاشا وكلا - تقوَّل على الله، لعاجله بالعقوبة، وأخذه أخذ عزيز مقتدر، لأنه حكيم، على كل شيء قدير، فحكمته تقتضي أن لا يمهل الكاذب عليه، الذي يزعم أن الله أباح له دماء من خالفه وأموالهم، وأنه هو وأتباعه لهم النجاة، ومن خالفه فله الهلاك. فإذا كان الله قد أيد رسوله بالمعجزات، وبرهن على صدق ما جاء به بالآيات البينات، ونصره على أعدائه، ومكنه من نواصيهم، فهو أكبر شهادة منه على رسالته. وقوله: { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } أي: لو أهلكه، ما امتنع هو بنفسه، ولا قدر أحد أن يمنعه من عذاب الله. { وَإِنَّهُ } أي: القرآن الكريم { لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم، فيعرفونها، ويعملون عليها، يذكرهم العقائد الدينية، والأخلاق المرضية، والأحكام الشرعية، فيكونون من العلماء الربانيين، والعباد العارفين، والأئمة المهديين، { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } به، وهذا فيه تهديد ووعيد للمكذبين، فإنه سيعاقبهم على تكذيبهم بالعقوبة البليغة، { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } فإنهم لما كفروا به، ورأوا ما وعدهم به، تحسروا إذ لم يهتدوا به، ولم ينقادوا لأمره، ففاتهم الثواب، وحصلوا على أشد العذاب، وتقطعت بهم الأسباب. { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } أي: أعلى مراتب العلم، فإن أعلى مراتب العلم اليقين وهو العلم الثابت، الذي لا يتزلزل ولا يزول. واليقين مراتبه ثلاثة، كل واحدة أعلى مما قبلها: أولها: علم اليقين، وهو العلم المستفاد من الخبر. ثم عين اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة البصر. ثم حق اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة الذوق والمباشرة. وهذا القرآن الكريم، بهذا الوصف، فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين القطعية، وما فيه من الحقائق والمعارف الإيمانية، يحصل به لمن ذاقه حق اليقين. { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أي: نزهه عما لا يليق بجلاله، وقدّسه بذكر أوصاف جلاله وجماله وكماله. |
رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
الحلقة (607) تفسير السعدى (سورة المعارج) من (1)الى (18) عبد الرحمن بن ناصر السعدى تفسير سورة المعارج { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } 1 { لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } 2 { مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ } 3 { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } 4 { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } 5 { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً } 6 { وَنَرَاهُ قَرِيباً }7 يقول تعالى مبيناً لجهل المعاندين، واستعجالهم لعذاب الله، استهزاءً وتعنتاً وتعجيزاً: { سَأَلَ سَآئِلٌ } أي: دعا داع، واستفتح مستفتح { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ } لاستحقاقهم له بكفرهم وعنادهم { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ ٱللَّهِ } أي: ليس لهذا العذاب الذي استعجل به من استعجل، من متمردي المشركين، أحد يدفعه قبل نزوله، أو يرفعه بعد نزوله، وهذا حين دعا النضر بن الحارث القرشي أو غيره من المشركين، فقال:{ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } إلى آخر الآيات [الأنفال: 32]. فالعذاب لا بدّ أن يقع عليهم من الله، فإما أن يعجل لهم في الدنيا، وإما أن يؤخر عنهم إلى الآخرة، فلو عرفوا الله تعالى، وعرفوا عظمته، وسعة سلطانه وكمال أسمائه وصفاته، لما استعجلوا ولاستسلموا وتأدبوا، ولهذا أخبر تعالى من عظمته ما يضاد أقوالهم القبيحة، فقال: { ذِي ٱلْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ } أي: ذو العلو والجلال والعظمة، والتدبير لسائر الخلق، الذي تعرج إليه الملائكة بما دبرها على تدبيره، وتعرج إليه الروح، وهذا اسم جنس يشمل الأرواح كلها، برَّها وفاجرها، وهذا عند الوفاة، فأما الأبرار، فتعرج أرواحهم إلى الله، فيؤذن لها من سماء إلى سماء، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله عز وجل، فتُحيِّي ربها وتَسلم عليه، وتحظى بقربه، وتبتهج بالدنو منه، ويحصل لها منه الثناء والإكرام، والبر والإعظام. وأما أرواح الفجار فتعرج، فإذا وصلت إلى السماء استأذنت فلم يؤذن لها، وأعيدت إلى الأرض. ثم ذكر المسافة التي تعرج إلى الله فيها الملائكة والأرواح، وأنها تعرج في يوم بما يسر لها من الأسباب، وأعانها عليه من اللطافة والخفة وسرعة السير، مع أن تلك المسافة على السير المعتاد مقدار خمسين ألف سنة، من ابتداء العروج إلى وصولها، ما حُدَّ لها، وما تنتهي إليه من الملأ الأعلى، فهذا الملك العظيم، والعالم الكبير، علويه وسفليه، جميعه قد تولى خلقه وتدبيره، العليُّ الأعلى، فعلم أحوالهم الظاهرة والباطنة، وعلم مستقرهم ومستودعهم، وأوصلهم من رحمته وبره ورزقه، ما عمهم وشملهم وأجرى عليهم حكمه القدري، وحكمه الشرعي، وحكمه الجزائي. فبؤساً لأقوام جهلوا عظمته، ولم يقدروه حق قدره، فاستعجلوا بالعذاب على وجه التعجيز والامتحان، وسبحان الحليم الذي أمهلهم وما أهملهم، وآذوه فصبر عليهم، وعافاهم ورزقهم. هذا أحد الاحتمالات في تفسير هذه الآية [الكريمة]، فيكون هذا العروج والصعود في الدنيا، لأن السياق الأول يدل على هذا. ويحتمل أن هذا في يوم القيامة، وأن الله تبارك وتعالى يُظْهِرْ لعباده في يوم القيامة، من عظمته وجلاله وكبريائه، ما هو أكبر دليل على معرفته، مما يشاهدونه من عروج الأملاك والأرواح، صاعدة ونازلة، بالتدابير الإلهية، والشؤون في الخليقة. في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة من طوله وشدته، لكن الله تعالى يخففه على المؤمن. وقوله: { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } أي: اصبر على دعوتك لقومك صبراً جميلاً، لا تضجّر فيه ولا ملل، بل استمر على أمر الله، وادع عباده إلى توحيده، ولا يمنعك عنهم ما ترى من عدم انقيادهم، وعدم رغبتهم، فإن في الصبر على ذلك خيراً كثيراً، { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } الضمير يعود إلى البعث، الذي يقع فيه عذاب السائلين بالعذاب أي: إن حالهم حال المنكر له، أو الذي غلبت عليه الشقوة والسكرة، حتى تباعد جميع ما أمامه من البعث والنشور، والله يراه قريباً، لأنه رفيق حليم لا يعجل، ويعلم أنه لا بد أن يكون، وكل ما هو آتٍ فهو قريب. ثم ذكر أهوال ذلك اليوم وما يكون فيه، فقال: { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ... }. { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } 8 { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } 9 { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } 10 { يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } 11 { وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ } 12 { وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } 13 { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ } 14 { كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ } 15 { نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } 16 { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } 17 { وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ }18 أي: { يَوْمَ } القيامة، تقع فيه هذه الأمور العظيمة فـ { تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } وهو الرصاص المذاب، من تشققها، وبلوغ الهول منها كل مبلغ. { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } وهو الصوف المنفوش، ثم تكون بعد ذاك هباءً منثوراً فتضمحل، فإذا كان هذا القلق والانزعاج لهذه الأجرام الكبيرة الشديدة، فما ظنك بالعبد الضعيف الذي قد أثقل ظهره بالذنوب والأوزار؟ أليس حقيقاً، أن ينخلع قلبه وينزعج لبه، ويذهل عن كل أحد؟ ولهذا قال: { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ } أي: يشاهد الحميم، وهو القريب حميمه، فلا يبقى في قلبه متسع لسؤال حميمه عن حاله، ولا فيما يتعلق بعشرتهم ومودتهم، ولا يهمه إلا نفسه. { يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ } الذي حق عليه العذاب { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ } أي: زوجته { وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ } أي: قرابته { ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } أي: التي جرت عادتها في الدنيا أن تتناصر ويعين بعضها بعضاً، ففي يوم القيامة، لا ينفع أحد أحداً، ولا يشفع أحد إلا بإذن الله. بل لو يفتدي [المجرم المستحق للعذاب] بجميع ما في الأرضِ ثم ينجيه لم ينفعه ذلك. { كَلاَّ } أي: لا حيلة ولا مناص لهم، قد حقت عليهم كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون، وذهب نفع الأقارب والأصدقاء. { إِنَّهَا لَظَىٰ * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } أي: للأعضاء الظاهرة والباطنة من شدة عذابها. { تَدْعُواْ } إليها { مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ * وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ } أي: أدبر عن اتباع الحق وأعرض عنه، فليس له فيه غرض، وجمع الأموال بعضها فوق بعض وأوعاها، فلم ينفق منها، فإن النار تدعوهم إلى نفسها، وتستعد للالتهاب بهم. |
رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
الحلقة (608) تفسير السعدى (سورة المعارج) من (19)الى (44) عبد الرحمن بن ناصر السعدى تفسير سورة المعارج { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } 19 { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } 20 { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } 21 { إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } 22 { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } 23 { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } 24 { لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } 25 { وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } 26 { وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } 27 { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } 28 { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } 29 { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } 30 { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } 31 { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } 32 { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } 33 { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } 34 { أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ }35 وهذا الوصف للإنسان من حيث هو وصف طبيعته الأصلية، أنه هلوع. وفسر الهلوع بأنه: { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } فيجزع إن أصابه فقر أو مرض، أو ذهاب محبوب له، من مال أو أهل أو ولد، ولا يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى الله، { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } فلا ينفق مما آتاه الله، ولا يشكر الله على نعمه وبره، فيجزع في الضراء، ويمنع في السراء. { إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } الموصوفين بتلك الأوصاف، فإنهم إذا مسهم الخير شكروا الله، وأنفقوا مما خولهم الله، وإذا مسهم الشر صبروا واحتسبوا. وقوله [في وصفهم] { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } أي: مداومون عليها في أوقاتها بشروطها ومكملاتها. وليسوا كمن لا يفعلها، أو يفعلها وقتاً دون وقت، أو يفعلها على وجه ناقص. { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } من زكاة وصدقة { لِّلسَّآئِلِ } الذي يتعرض للسؤال، { وَٱلْمَحْرُومِ } وهو المسكين الذي لا يسأل الناس فيعطوه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه. { وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } أي: يؤمنون بما أخبر الله به، وأخبرت به رسله، من الجزاء والبعث، ويتيقنون ذلك، فيستعدون للآخرة، ويسعون لها سعيها. والتصديق بيوم الدين، يلزم منه التصديق بالرسل، وبما جاؤوا به من الكتب. { وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } أي: خائفون وجلون، فيتركون لذلك كل ما يقربهم من عذاب الله. { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } أي: هو العذاب الذي يخشى ويحذر. { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } فلا يطؤون بها وطأً محرماً، من زنى أو لواطٍ، أو وطءٍ في دبر، أو حيض، ونحو ذلك، ويحفظونها أيضاً من النظر إليها ومسها، ممن لا يجوز له ذلك، ويتركون أيضاً، وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة. { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي: سرياتهم { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } في وطئهن، في المحل الذي هو محل الحرث، { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ } أي: غير الزوجة وملك اليمين، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } أي: المتجاوزون ما أحل الله إلى ما حرم الله، ودلّت هذه الآية على تحريم [نكاح] المتعة، لكونها غير زوجة مقصودة، ولا ملك يمين. { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي: مراعون لها، حافظون مجتهدون على أدائها والوفاء بها، وهذا شامل لجميع الأمانات التي بين العبد وبين ربه، كالتكاليف السرية، التي لا يطلع عليها إلا الله، والأمانات التي بين العبد وبين الخلق، في الأموال والأسرار، وكذلك العهد، شامل للعهد الذي عاهد عليه الله، والعهد الذي عاهد عليه الخلق، فإن العهد يسأل عنه العبد، هل قام به ووفاه، أم رفضه وخانه فلم يقم به؟ { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } أي: لا يشهدون إلا بما يعلمونه، من غير زيادة ولا نقص ولا كتمان، ولا يحابي فيها قريباً ولا صديقاً ونحوه، ويكون القصد بها وجه الله. قال تعالى:{ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } [الطلاق: 2]{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [النساء: 135]. { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } بمداومتها على أكمل وجوهها، { أُوْلَـٰئِكَ } أي: الموصوفون بتلك الصفات { فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } أي: قد أوصل الله لهم من الكرامة والنعيم المقيم ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون. وحاصل هذا، أن الله وصف أهل السعادة والخير بهذه الأوصاف الكاملة، والأخلاق الفاضلة، من العبادات البدنية، كالصلاة، والمداومة عليها، والأعمال القلبية، كخشية الله الداعية لكل خير، والعبادات المالية، والعقائد النافعة، والأخلاق الفاضلة، ومعاملة الله، ومعاملة خلقه، أحسن معاملة من إنصافهم، وحفظ عهودهم وأسرارهم، والعفة التامة بحفظ الفروج عما يكره الله تعالى. { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } 36 { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } 37 { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } 38 { كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ }39 يقول تعالى، مبيناً اغترار الكافرين: { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } أي: مسرعين. { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } أي: قطعاً متفرقة وجماعات متوزعة، كل منهم بما لديه فرح. { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } بأي: سببٍ أطمعهم، وهم لم يقدموا سوى الكفر، والجحود برب العالمين، ولهذا قال: { كَلاَّ } [أي:] ليس الأمر بأمانيهم ولا إدراك ما يشتهون بقوتهم. { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أي: من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، فهم ضعفاء، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً. { فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ } 40 { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } 41 { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } 42 { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } 43 { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }44 هذا إقسام منه تعالى بالمشارق والمغارب، للشمس والقمر والكواكب، لما فيها من الآيات الباهرات على البعث، وقدرته على تبديل أمثالهم، وهم بأعيانهم، كما قال تعالى:{ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الواقعة: 61]. { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي: ما أحد يسبقنا ويفوتنا ويعجزنا إذا أردنا أن نعيده. فإذا تقرر البعث والجزاء، واستمروا على تكذيبهم، وعدم انقيادهم لآيات الله { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي: يخوضوا بالأقوال الباطلة، والعقائد الفاسدة، ويلعبوا بدينهم، ويأكلوا ويشربوا، ويتمتعوا { حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } فإن الله قد أعد لهم فيه من النكال والوبال ما هو عاقبة خوضهم ولعبهم. ثم ذكر حال الخلق حين يلاقون يومهم الذي يوعدون، فقال: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } أي: القبور، { سِرَاعاً } مجيبين لدعوة الداعي، مهطعين إليها { كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } أي: [كأنهم إلى عَلَم] يؤمون ويسرعون أي: فلا يتمكنون من الاستعصاء للداعي، والالتواء لنداء المنادي، بل يأتون أذلاء مقهورين للقيام، بين يدي رب العالمين. { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } وذلك أن الذلة والقلق قد ملك قلوبهم، واستولى على أفئدتهم، فخشعت منهم الأبصار، وسكنت منهم الحركات، وانقطعت الأصوات. فهذه الحال والمآل، هو يومهم { ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } ولا بد من الوفاء بوعد الله [تمت والحمد لله]. |
رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله
الحلقة (609) تفسير السعدى (سورة نوح) من (1)الى (28) عبد الرحمن بن ناصر السعدى تفسير سورة نوح { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 1 { قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } 2 { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } 3 { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } 4 { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } 5 { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } 6 { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } 7 { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } 8 { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } 9 { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } 10 { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } 11 { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } 12 { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } 13 { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } 14 { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } 15 { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } 16 { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } 17 { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } 18 { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } 19 { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } 20 { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } 21 { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } 22 { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } 23 { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } 24 { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } 25 { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } 26 { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } 27 { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً }28 { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } إلى آخر السورة لم يذكر الله في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه، وتكرار دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، فأخبر تعالى أنه أرسله إلى قومه، رحمةً بهم وإنذاراً لهم من عذاب الله الأليم، خوفاً من استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم الله هلاكاً أبدياً، ويعذبهم عذاباً سرمدياً، فامتثل نوح عليه السلام لذلك، وابتدر لأمر الله، فقال: { يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي: واضح النذارة بيّنها، وذلك لتوضيحه ما أنذر به وما أنذر عنه، وبأي: شيء تحصل النجاة، بيّن جميع ذلك بياناً شافياً، فأخبرهم وأمرهم بزبدة ما يأمرهم به، فقال: { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } وذلك بإفراده تعالى بالتوحيد والعبادة، والبعد عن الشرك وطرقه ووسائله، فإنهم إذا اتقوا الله غفر ذنوبهم، وإذا غفر ذنوبهم، حصل لهم النجاة من العذاب، والفوز بالثواب، { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي: يمتعكم في هذه الدار، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى أي: مقدرٍ [البقاء في الدنيا] بقضاء الله وقدره [إلى وقت محدود]، وليس المتاع أبداً، فإن الموت لا بدّ منه، ولهذا قال: { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لما كفرتم بالله، وعاندتم الحق، فلم يجيبوا لدعوته، ولا انقادوا لأمره، فقال شاكياً لربه: { رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } أي: نفوراً عن الحق وإعراضاً، فلم يبق لذلك فائدة، لأن فائدة الدعوة أن يحصل جميع المقصود أو بعضه، { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } أي: لأجل أن يستجيبوا، فإذا استجابوا، غفرت لهم، فكان هذا محض مصلحتهم، ولكنهم أبوا إلا تمادياً على باطلهم، ونفوراً عن الحق، { جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ } حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلام، { وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } أي: تغطوا بها غطاء يغشاهم، بعداً عن الحق وبغضاً له، { وَأَصَرُّواْ } على كفرهم وشرهم، { وَٱسْتَكْبَرُواْ } على الحق { ٱسْتِكْبَاراً } فشرُّهم ازداد، وخيرهم بَعُدَ. { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } أي: بمسمع منهم كلهم { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } كل هذا حرص ونصح، وإتيانهم بكل باب يظن أن يحصل منه المقصود، { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها. { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب، وما يترتب عليها من حصول الثواب، واندفاع العقاب. ورغَّبهم أيضاً بخير الدنيا العاجل، فقال: { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } أي: مطراً متتابعاً، يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد. { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } أي: يكثر أموالكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولادكم، { وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها. { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } أي: لا تخافون لله عظمة، وليس لله عندكم قدر. { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } أي: خلقاً [من] بعد خلق، في بطن الأم، ثم في الرضاع، ثم في سن الطفولية، ثم التمييز، ثم الشباب، إلى آخر ما وصل إليه الخلق، فالذي انفرد بالخلق والتدبير البديع، متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد، وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على الإقرار بالمعاد، وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم. واستدل أيضاً عليهم بخلق السماوات التي هي أكبر من خلق الناس، فقال: { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } أي: كل سماء فوق الأخرى، { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } لأهل الأرض { وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً }. ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الأشياء، وكثرة المنافع في الشمس والقمر الدالة على رحمته وسعة إحسانه، فالعظيم الرحيم، يستحق أن يعظم ويحب ويعبد ويخاف ويرجى، { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } حين خلق أباكم آدم وأنتم في صلبه. { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } عند الموت { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } للبعث والنشور، فهو الذي يملك الحياة والموت والنشور، { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } أي: مبسوطة مهيأة للانتفاع بها، { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } فلولا أنه بسطها، لما أمكن ذلك، بل ولا أمكنهم حرثها وغرسها وزرعها، والبناء، والسكون على ظهرها. { قَالَ نُوحٌ } شاكياً لربه: إن هذا الكلام والوعظ والتذكير ما نجع فيهم ولا أفاد. { إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } فيما أمرتهم به { وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } أي: عصوا الرسول الناصح الدال على الخير، واتبعوا الملأ والأشراف الذين لم تزدهم أموالهم ولا أولادهم إلا خساراً أي: هلاكاً وتفويتاً للأرباح، فكيف بمن انقاد لهم وأطاعهم؟! { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } أي: مكراً كبيراً بليغاً في معاندة الحق. { وَقَالُواْ } لهم داعين إلى الشرك مزينين له: { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } فدعوهم إلى التعصب على ما هم عليه من الشرك، وأن لا يدعوا ما عليه آباؤهم الأقدمون، ثم عينوا آلهتهم فقالوا: { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } وهذه أسماء رجال صالحين، لما ماتوا، زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم، لينشطوا - بزعمهم - على الطاعة إذا رأوها، ثم طال الأمد، وجاء غير أولئك فقال لهم الشيطان: إن أسلافكم يعبدونهم، ويتوسلون بهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم، ولهذا أوصى رؤساؤهم للتابعين لهم، أن لا يدعوا عبادة هذه الآلهة. { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } أي: وقد أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم كثيراً من الخلق، { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } أي: لو كان ضلالهم عند دعوتي إياهم بحق، لكان مصلحة، ولكن لا يزيدون بدعوة الرؤساء إلا ضلالاً أي: فلم يبق محل لنجاحهم ولا لصلاحهم، ولهذا ذكر الله عذابهم وعقوبتهم الدنيوية والأخروية، فقال: { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ } في اليم الذي أحاط بهم { فَأُدْخِلُواْ نَاراً } فذهبت أجسادهم في الغرق، وأرواحهم للنار والحرق، وهذا كله بسبب خطيئاتهم، التي أتاهم نبيهم نوح ينذرهم عنها، ويخبرهم بشؤمها ومغبتها، فرفضوا ما قال، حتى حل بهم النكال، { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } ينصرونهم حين نزل بهم الأمْرُ الأمَرُّ، ولا أحد يقدر يعارض القضاء والقدر. { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } يدور على وجه الأرض، وذكر السبب في ذلك، فقال: { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } أي: بقاؤهم مفسدة محضة، لهم ولغيرهم، وإنما قال نوح - عليه السلام - ذلك، لأنه مع كثرة مخالطته إياهم، ومزاولته لأخلاقهم، علم بذلك نتيجة أعمالهم، لا جرم أن الله استجاب دعوته، فأغرقهم أجمعين، ونجى نوحاً ومن معه من المؤمنين. { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم، ثم عمم الدعاء، فقال: { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً } أي: خساراً ودماراً وهلاكاً. |
الساعة الآن : 08:45 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour