رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (196) صـــــ(1) إلى صــ(20) حكم صيام يوم الشك [فإن لم يُرَ مع الصحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين]: وهذا بالإجماع؛ فإن هذا اليوم هو يوم الشك، وهو يوم يحرم صومه، ويوم الشك هو يوم الثلاثين، وسمي يوم الشك لأن ليلته تحتمل أن تكون من رمضان، وتحتمل أن تكون من شعبان، واليوم نفسه يحتمل أن يكون من رمضان فيصام، ويحتمل أن يكون من شعبان، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ) وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه أنه قال: ( من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ) وهذا يدل على أنه يحرم صيام يوم الشك. والعلماء مجمعون من حيث الأصل على كراهة الصوم، واختلفوا في التحريم، فكانت أسماء و عائشة رضي الله عنهن يرين الجواز، وأنه لا حرج على الإنسان أن يصوم يوم الشك، ويُعتذر لهما بعدم علمهما بالحديث الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن صوم يوم الشك، وقال بعض العلماء: يجوز صومه مع الكراهة، ولكن ظاهر الحديث أنه حرام وأنه لا يجوز أن يصام، بل قال بعض العلماء: إنه يأثم بدل أن يؤجر. وهذا هو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ) وهذا نهي، والأصل في النهي أنه يدل على التحريم. قال العلماء: حرم النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم الشك؛ لأنه ذريعة للتنطع والغلو، ولما فيه من مشابهة أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب فرض عليهم صيام عدد معين من الأيام فزادوا فيها، فلما زادوا فيها ابتدعوا في دين الله ما ليس منه، وهذا على سبيل الشك والوسوسة. وقال بعض العلماء: إنما حرم صيام يوم الشك لما فيه من إدخال الوسوسة على الناس، وبناء الشريعة على الوسوسة؛ لأنه ليس من رمضان فيصومه وهو يعتقد أنه من رمضان، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ) فدل على أنه غير قاصد لرمضان، فكأنه يستثنيه إذا لم يقصد أنه من رمضان، وهذا هو الأولى. فالصحيح: أنه لا يجوز صيام يوم الشك، وأن صومه حرام على ظاهر النهي، إلا إذا وافق صوم إنسان، كأن يكون ممن اعتاد صيام الإثنين والخميس، فوافق يوم الشك يوم الإثنين أو يوم الخميس فإنه يصوم ولا حرج، أو يكون من عادته أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فأفطر يوم التاسع والعشرين ووافق أن الثلاثين شك وثبت أنه ليس من رمضان فإذا أحب أن يصومه؛ فحينئذٍ لا حرج. وعلى هذا فإن الإنسان إذا كان من عادته أن يصوم أو نذر نذراً فإنه يصوم ولا حرج عليه، وأما ما عدا ذلك فإنه باق على الأصل الموجب للحرمة والمنع. قوله: [وإن حال دونه غيم أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه]: قوله: [وإن حال]: الحائل: هو الذي يمنع من رؤية الشيء، فإن حال بينه وبين رؤيته غيم أو قتر أو دخان -كأن يكون هناك دخان حريق ونحو ذلك فتملأ سحب الدخان السماء فتحجب رؤية الهلال، وخاصة إذا كان في جهة المغرب، أو كان هناك عجاج من غبار أو نحوه -فهذا كله على ظاهر المذهب- مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه أنه يصام. والصحيح: أنه لا يصام كما هو مذهب الجمهور لما ذكرناه من السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: [وإن رئي نهاراً فهو لليلة مقبلة]: رؤية الهلال نهاراً إما أن تكون قبل الزوال أو بعد الزوال، وقد اختلف السلف رحمة الله عليهم في رؤية الهلال نهاراً، فمنهم من قال: إذا رئي الهلال نهاراً قبل الزوال وجب قضاء هذا اليوم، وإذا رُئي بعد الزوال فإنه يكون لليلة التالية. ومنهم من قال: إذا رئي قبل الزوال أو بعد الزوال فهو لليلة التالية، وهذا هو الصحيح كما هو مذهب الحنابلة والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع: أنه إذا رئي في النهار سواءً قبل الزوال أو بعد الزوال فإنه لليلة القادمة، وأنه لا يعد دليلاً على أن يوم الشك من رمضان، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صوموا لرؤيته ) فجعل الصيام على الكمال، فمعنى ذلك: أن الرؤية قد وقعت بالليل؛ لأنه لو رئي في النهار فلا يمكن الصيام، وعلى هذا فيكون قوله: (صوموا لرؤيته) يدل على أن الرؤية إنما تكون بالليل؛ ولأنه إذا رئي نهاراً فلا شك أنه أقرب إلى الليلة التي تلي من الليلة التي مضت باحتساب البداية لا باحتساب النهاية. لزوم أهل كل بلد برؤيتهم للهلال قوله: [وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم صومه]. إذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس في ذلك البلد أن يصوموا، فمثلاً: إذا رئي في مكة فيلزم جميع أهل مكة الصيام، وإذا رئي في المدينة فيلزم جميع أهل المدينة وهكذا بالنسبة لبقية البلدان، فإذا رئي في موضع لزم أهله، لكن السؤال إذا تعددت الأمصار كأن تكون رؤيته في المشرق، فهل يصوم أهل المغرب برؤية أهل المشرق أو لا؟ للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: كل أهل بلد يرجعون إلى رؤيتهم، فمثلاً: أهل الجزيرة يرجعون إلى رؤيتهم؛ فإن رأوه لزمتهم الرؤية في خاصتهم ولا تلزم أهل الشام ولا أهل المغرب، ولا أهل المشرق، والعبرة في كل مصر وقطر بحسبه، وهذا دليله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قدم عليه كريب من الشام، فسأل كريباً : ( متى رأيتم الهلال؟ فأخبره: أنهم رأوه ليلة الجمعة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لكنا رأيناه ليلة السبت، فقال: ألا تعتدوا برؤيتنا؟ فقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ). ، ففصل رؤية بلده عن رؤية غيرهم، فقالوا: فهذا يدل على أن كل قطر ومنطقة بحسبها، وهذا هو الذي تدل عليه الرواية الصحيحة في قول ابن عباس رضي الله عنهما ويدل عليه الأصل؛ لأن المطالع مختلفة، والمنازل متباعدة، بل قد يكون الفرق بين البلدين بقدر يومين؛ فحينئذٍ يصعب أن تلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب. ولما وجد التفاوت دل على أنه لا يمكن جعلهم بمثابة المكان الواحد، إذ لو قلت: إن قوله عليه الصلاة والسلام: ( صوموا لرؤيته ) على العموم، فمعنى ذلك: أن يصوم أهل الأرض كلهم برؤية بلد واحد بل برؤية قرية واحدة، وهذا لا شك أنه غير مراد؛ لأنه قد يكون اليوم في بلد في المشرق ثمانية وعشرين، ويكون في بلد في المغرب يوم ثلاثين، فيكون الفارق يومين، ولا يمكن بحال أن نقول لأهل يوم الثمانية والعشرين أن يصوموا برؤية الذين هم من بعدهم، وعلى هذا قالوا: إن كل بلد يعتد برؤيته. القول الثاني: أن رؤية البلد الواحد رؤية للجميع، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) قالوا: وهذا يدل على أن الجميع تكون رؤيتهم واحدة. القول الثالث التفصيل قالوا: إذا تقاربت الأماكن وكانت المنزلة واحدة فإنه يصام برؤية البلد الواحد والعكس بالعكس، وقالوا: لأنهم إذا كانوا في منزلة واحدة أمكننا أن نلزمهم بقوله: ( صوموا لرؤيته ) أي: نلزمهم بالعموم. والذي يترجح -والعلم عند الله- أن لكل أهل بلد رؤيتهم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد من قوله: ( صوموا لرؤيته ) أن رؤية الرجل الواحد في البلد الواحد رؤية للجميع، وليس المراد: أنها رؤية لجميع من في الأرض، ولا يختلف اثنان أن النهار عند غيرنا قد يكون ليلاً عندنا، والنهار عندنا قد يكون ليلاً عند غيرنا، وأن الأماكن تتفاوت يوماً ويومين؛ ولذلك لا يمكننا أن نقول: إن حديث: ( صوموا لرؤيته ) على العموم. قال العلماء: إن العموم قد يخصص بدلالة الحس، ويمثل علماء الأصول لهذا بقوله تعالى: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [الأحقاف:25] قالوا: وهذا العموم مخصص بالحس؛ لأنها ما دمرت كل شيء، فهي ما دمرت الأرض لأنه قال: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } [الأحقاف:25] وهذا عام يشمل كل شيء في الأرض، ومع ذلك قالوا: هذا العام مخصص بدلالة الحس وبدليل الوجود. وكذلك أيضاً دليل الحس عندنا هنا، فإنه لا يمكننا أن نقول: إن رؤية بلد رؤية للجميع، وهذه المسألة يقع فيها خطأ كثير وخلط كبير، ولذلك تجد المسلمين في مشرق الأرض ينقسمون قرابة ثلاث فرق: فرقة تقول: نصوم مع بلد كذا، وفرقة، ففرقه تقول: نصوم مع بلد كذا، وفرقة تقول: لا نصوم لا بكذا ولا بغيره، بل نصوم برؤيتنا. والصحيح الذي يظهر -والله أعلم- من خلال النصوص وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تقطع النزاع: أن كل أهل بلد ملزمون بالرؤية، فإذا رأوا الهلال فالحمد لله، وحينئذٍ يلزمهم ما يلزم الرائي من صيام ذلك الشهر، وأما إذا لم يروا الهلال فإنهم باقون على الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) فإن غم الهلال فنجعل لكل بلد رؤيتهم، فمثلاً: يتراءاه أهل المشرق وأهل المغرب كذلك، فإن ثبت عندهم جميعاً فبها ونعمت، وإن لم يثبت أكملوا العدة والكل على خير، أما لو قلنا: إن رؤية بلد هي رؤية لغيره، فإن ذلك سيكون سبباً في النزاع: هل نتبع هذا البلد، أو نتبع هذا البلد؟ وهل نعتد بهذه الرؤية أو بهذه الرؤية؟ فتقع فتن كثيرة بسبب جعل الرؤية الواحدة رؤية للجميع. والذي يظهر من خلال السنة وخاصة حديث ابن عباس -الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل )- : (لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فصار تفسيراً لقوله: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) أي: صوموا -يا أهل الشام- لرؤيتكم، وصوموا -يا أهل الحجاز- لرؤيتكم، فجعل لكل أهل منطقة رؤيتهم، وهذا هو الذي يندفع به الإشكال ويزول به اللبس، وحينئذٍ إذا رأوا الهلال عملوا بالرؤية، وإذا لم يروه أكملوا العدة ثلاثين يوماً. الأسئلة حكم من مات وعليه صوم السؤال رجل مات وعليه صوم بعض أيام أفطرها في رمضان من غير عذر، فهل يجوز لورثته الصيام عنه ؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمن مات وعليه صوم سواء ترك ذلك متعمداً أو غير متعمد، فإنه يصوم عنه وليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه ) فهذا يدل على أنه يشرع أن يصوم الولي عن نيته، وهذا على العموم، سواءً كان الميت ترك الصيام ذلك متعمداً أو غير متعمد، والله تعالى أعلم. حكم من أفطر أياماً من رمضان لا يعلم عددها السؤال رجل أفطر في رمضان سابق ولا يدري كم يوم أفطر فكيف يقضي؟ الجواب من أفطر من رمضان أياماً لا يدري عددها، فإنه يبني على التقدير والخرص، نقول له: قدر، فلو قلنا: عشرة أيام؟ فقال: أكثر. نقول: عشرين يوماً؟ قال: أكثر. نقول: ثلاثين يوماً؟ قال: أكثر. نقول: أربعين؟ قال: أكثر. نقول: إذاً ستين؟ قال: لا أقل. إذاً نقول: خمسين. ولو قلنا: خمسين؟ فقال: كثير. نقول: أربعين؟ قال: قليل. إذاً: نقول: خمس وأربعون. وهكذا حتى يصل إلى القدر الذي يغلب على ظنه أنه قد أصاب به القدر الواجب عليه، وهذا يسميه العلماء الرجوع إلى التقدير. فإنه إذا تعذر علينا معرفة الحقيقة فإنه يرجع إلى التقدير، ويكلف الإنسان بالتقدير، والسبب في هذا: أن الشريعة تنزل التقدير منزلة اليقين عند تعذر الحساب، ولذلك شرع الخرص كما في النخل، وشرع في المزابنة لأنه يتعذر أن تنزل العرجون وتعلم ما بداخله، وهذا رفق من الله ويسر ورحمة بعباده، والله تعالى أعلم. حكم من جامع زوجته وهو صائم تطوعاً السؤال ما حكم من جامع زوجته في النهار وهو صائم صوم تطوع؟ بالنسبة للجماع للعلماء رحمهم الله فيه وجهان: فبعضهم يقول: إن الصيام إذا وقع فيه الجماع تجب فيه الكفارة فرضاً كان أو نافلة، ومنهم من يقول: النافلة أمرها أخف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المتطوع أمير نفسه )، فإذا كان هذا المتنفل قبل أن يجامعها استشعر أنه يريد الفطر وأنه قد عزف عن صيامه وجامعها، فإنه لا شيء عليه، وهذا على ظاهر الحديث، كما لو أكل وشرب، والله تعالى أعلم. حكم صيام ستٍ من شوال لمن عليه قضاء من رمضان السؤال هل يجوز لشخص عليه قضاء من رمضان أن يصوم ستاً من شوال قبل القضاء؟ الجواب لا حرج أن يصوم الإنسان ستاً من شوال قبل أن يقضي رمضان، والسبب في ذلك: أن قضاء رمضان انتقل إلى الأيام الأخر لقوله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] وبناءً على ذلك يكون قوله: ( من صام رمضان ) خرج مخرج الغالب، وعليه فإنه لو صام هذه الأيام الواجبة عليه بعد أن يصوم الست فإن صيامه صحيح؛ لأنه قد صام ستاً وثلاثين. ولو قلنا: إنه يجب عليه القضاء أولاً وكان القضاء مثلاً عشرة أيام تقولون له: صم العشرة الأيام، ثم صم بعدها ستاً قلنا: لماذا؟ قالوا: حتى يصدق عليك أنك قد صمت رمضان، فإذا صام العشرة نقول لهم: هل تعتبرونه قد صام رمضان؟ قالوا: نعم، بعد أن يصوم العشرة يصوم الست، نقول: قد نزلتم العشرة التي هي من شوال منزلة رمضان بالقضاء. قالوا: نعم. نقول: إذاً لا فرق بين شوال وبين غيره، فهي في القضاء سيان كما أنكم تقولون: إذا صام العشرة من شوال فإنه يعتبر قد صام رمضان كاملاً، فكذلك إذا صامها من رجب أو صامها من جمادى أو صامها من غيره. ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة : (إن كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان)، وقد كانت تصوم يوم عرفة -كما ثبت في الموطأ- وكانت تصوم الأيام الفاضلة، فدل هذا على أن قوله: ( من صام رمضان ) خرج مخرج الغالب، سواء قضاءً أو أداءً، ولو أخذ هذا على ظاهره، وهو أنه لابد وأن يصوم القضاء أولاً، ثم بعد ذلك يصوم الست فإن المرأة النفساء لا تنال هذا الفضل؛ لأن المرأة النفساء ربما تستغرق رمضان كله، فمتى تقضي؟ هل نقول: إنها لا تصوم الست لأنه لا يمكنها ذلك. وبناءً على ذلك نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ( من صام رمضان ) المراد به أن يصوم رمضان أصلاً أو يصوم ما يقوم مقام رمضان من القضاء، ويستوي ذلك في جميع شهور السنة. وغالب النساء عندهن نقص في رمضان، لمكان العادة إذا كانت تحيض، فإذا قلت: إذا صامت من شوال قضاءً لهذه الأيام تعتبر بمثابة الصائم لرمضان كاملاً، فنقول: شوال وغيره في ذلك على حد سواء، إضافة إلى ظاهر السنة في حديث عائشة رضي الله عنها. ثم إننا إذا نظرنا إلى جهة المعنى -كما جاء في حديث زيد رضي الله عنه- وجدنا أن المعنى أن ثلاثين يوماً بثلاثمائة؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها، وستة أيام بستين فأصبح المجموع ثلاثمائة وستين يوماً، فإذا كان هذا هو المعنى فإنه يستوي في الست أن تكون قبل القضاء أو بعد القضاء. والله تعالى أعلم. حكم نزول المذي في نهار رمضان السؤال ما حكم نزول المذي في نهار رمضان؟ الجواب المذي لا يخلو من حالتين: الأولى: إما أن يستدعيه الإنسان ويحرك شهوته ويتعاطى أسبابه بالنظر ونحو ذلك من الأمور التي تهيج شهوته حتى خرج منه المذي، فهذا ينقص الله به أجره، ويعتبر من اللغو الذي يؤثر في صوم الإنسان ثواباً، وأما بالنسبة لصيامه، فإن صومه صحيح حتى يخرج منه المني، فإن خرج منه المني فقد أفطر، سواءً أخرجه بمباشرة للمرأة، أو أخرجه باستمناء والعياذ بالله. فإن أخرجه بالاستمناء كان له حكمان: أحدهما: بطلان صومه. الثاني: حصول الإثم بمخالفة الشرع بالاستمناء. أما بالنسبة لبطلان صومه بالاستمناء فلظاهر السنة كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله عز وجل: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته )، فقوله: (وشهوته) مطلق، وإن من الخطأ أن يقول بعضهم بجواز الاستمناء، وبجوازه في رمضان وأنه لا يؤثر في الصوم، ولا شك أن طالب العلم الذي يفتي بهذا: ليس عنده من الورع وخوف الله عز وجل ما يردعه عن أن يأمر الناس بأمر مشتبه؛ فإن طالب العلم إذا تقلد الفتوى وتوجيه الناس ينبغي أن يأخذهم بالورع، وأن يصونهم عن حدود الله عز وجل وأن يحفظهم وخاصة في المسائل التي يكون فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، وتفضي إلى ضرر في دين الناس، فكون الإنسان يتساهل في شهوته على هذا الوجه، ويتعاطاها فإن هذا أمر يفضي إلى استرسال الناس إلى ما فيه الحرمة، ولذلك قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ) قالوا: وأقل درجاته الشبهة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) لأنه إذا لم يكن هناك ورع وخوف من الله عز وجل يردعه عن هذا المشتبه فلا يأمن أن يسترسل منه إلى الحرام. ولذلك لا يجوز فتح الباب للناس في مثل هذا، كقول بعضهم بجواز الاستمناء؛ لأنه ليس بجماع حقيقي، وبجواز شرب الدخان؛ لأنه ليس بأكل وشرب حقيقي، وأن هذا لا يفطر، وكل ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- تبعات ومسئوليات على صاحبه، فينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى قوله عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) والتفقه: تفعل يحتاج إلى إمعان النظر في الأحكام ودقة النظر في مقاصد الشريعة ومعرفة مراميها، أما أن يأتي ويقول: لا أعلم نصاً، ولا أرى بأساً، وهذا يجوز، وليس فيه أمر ظاهر يدل على تحريمه، وهذا حسب علمه، ولكنه لو أمعن النظر كما أمعن من هو أعلم منه وأتقى لله منه وأورع لوجد الأمر جلياً، فإن الشهوة تحصل بالاستمناء ويجد به اللذة كما يجدها بالجماع، وإن كان في الجماع أشد وأكمل، لكنه يجدها في الاستمناء. ولذلك تجده إذا استمنى فإنه لا ينصرف إلى الحرام، ومن هنا قالوا: بإباحته عند الضرورة لا على سبيل أنه مباح بذاته، ولكن من باب ارتكاب أخف الضررين، قالوا: إذا خاف على نفسه الزنا، هل يستمني؟ قالوا: يستمني، لكنه إذا استمنى يكون حينئذٍ آثماً إثماً أصغر من وقوعه في الزنا، ففهم البعض أن الإذن به في حال الزنا إذن به على الإطلاق، وهذا من عدم إمعان النظر في كلام العلماء الأجلاء رحمة الله عليهم، وهذا له أمثلة: لو أنه خير بين حرام قليل وحرام كثير، فإنه لا شك أنك ستصرفه إلى الحرام الأقل، لكن مع ذلك تقول: يأثم بهذا الحرام الأقل، فالمقصود: أن العلماء رحمة الله عليهم لما قالوا: من يخاف على نفسه الزنا يستمني، فإنما هذا من باب ارتكاب أخف الضررين لا أنه يشرع ويجوز ومباح في دين الله عز وجل. وعلى هذا فإنه إذا خرج منه المني يعتبر مفطراً، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (197) صـــــ(1) إلى صــ(13) شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [2] من الأحكام المتعلقة برمضان: معرفة دخوله وخروجه، وهذا يتعلق برؤية الهلال، لكن تحقق ذلك والعمل به يرتبط بصفات من قال برؤيته، من عدالة ونحوها، ويتفرع على ذلك أحكام مختلفة. وقد وضح الشيخ هذه الأحكام في هذه المادة، ثم ذكر من يجب عليه الصوم، ومن يكون معذوراً يحق له الفطر، ومن لا يصح صومه من أهل الأعذار، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بأهل الأعذار. صفة من يعتد برؤيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويصام برؤية عدل ولو أنثى]: أي: يصام شهر رمضان إذا رآه شخص واحد، والعدل المراد به: من يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر. العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا فإذا كان مجتنباً للكبائر وهي المعاصي الكبيرة كالقتل والزنا وشرب الخمر ونحوها فهو عدل. وقلنا: ويجتنب في غالب حاله؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يسلم من الصغائر، وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى ذلك بقوله في الحديث: : ( إن تغفر اللهم تغفر جما، وأي عبد لك ما ألما؟ ) . جماً: أي شيئاً كثيراً. وأي عبد لك ما ألما: أي: أي عبد من عبادك لم يصب اللمم وهي صغائر الذنوب. فلا يمكن لإنسان أن يسلم من صغائر الذنوب، وصغائر الذنوب لها أمثلة منها: مثل النظرة، وإن كان بعض العلماء يفاوتها بحسبها؛ فالنظر إلى العورة المغلظة ليس كالنظر إلى الوجه، ونحو ذلك. فالمقصود أنه إذا اتقى في غالب حاله صغائر الذنوب فهو عدل، أما لو أصر على الصغيرة وداوم عليها فإنه لا يكون عدلاً، ولذلك قالوا: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. فإن صغائر الذنوب تهلك صاحبها، كما أن الجبال تكون من دقائق الحصى، فإن هلاك الإنسان قد يكون بصغائر الذنوب. ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت)، فإذا كان نظر الإنسان إلى عظمة الله سبحانه وتعالى فإن الصغيرة تصبح في عينه كبيرة؛ لكن إذا استخف بذلك ونظر إلى أنها شيء يسير فقد تهلكه وتوبقه، نسأل الله السلامة والعافية. فالعدل هو الذي يتقي في غالب حاله صغائر الذنوب، ويمتنع من كبائر الذنوب، فإذا كان كذلك فهو العدل الذي تقبل شهادته، وهو الرضا الذي يعتد بشهادته، أشار الله إليهما بقوله: { وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ } [الطلاق:2] وقوله: { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } [البقرة:282] فلا يرضى إلا العدل. وقوله: (شهد عدل) معناه: إذا شهد غير العدل لم تقبل شهادته، وغير العدل هو الذي يفعل كبائر الذنوب، سواء كانت قولية كأن يكون إنساناً نماماً، أو يكون كثير الاغتياب للناس، فهذا لا تقبل شهادته، وهذه من الكبائر القولية، وأما الفعلية فكشرب الخمر والزنا؛ ولهذا تسقط عدالته ويجب رد شهادته، والسبب ذلك كما يقول العلماء: أنه إذا كان جريئاً على هذه الكبيرة فمن باب أولى أن يجرؤ على الكذب، ومن هنا كان وجود هذه الكبيرة يعتبر دليلاً على أنه غير مأمون؛ لأنه إذا لم يؤتمن على حق الله فمن باب أولى ألا يكون أميناً على حقوق الناس. أما الحنفية رحمة الله عليهم فعندهم تفصيل في الفاسق، فيقولون: إن الفاسق ينقسم إلى قسمين: الأول: فاسق تحصل بفسقه التهمة. الثاني: وفاسق لا تحصل بفسقه التهمة. فالفاسق التي تحصل بفسقه التهمة: كأن يكون معروفاً بالكذب ومعروفاً بارتكاب كبائر الذنوب. والفاسق الذي لا تحصل التهمة بفسقه: كأن يكون إنسان يشرب الخمر ولكنه لا يكذب، وهذا موجود فإنك قد ترى بعض الناس على سمته أنه ليس بمطيع، وتجده من أبر الناس بوالديه، وتجده محافظاً على العهد لا يكذب ولا يغش، فتجد مظهره على أن عنده بعض الإخلال، لكن تجد في نفسه وفي قرارة قلبه مالا تجده عند من يوصف بكونه صالحاً، فقد تجد الإنسان على سمت ظاهره طيب لكنه كذاب أو غشاش أو خائن -والعياذ بالله- أو سارق أو شارب خمر في الخفية. فالحنفية رحمة الله عليهم يقولون: العبرة بالأمانة، فإذا عرف بالصدق ولو كان يشرب الخمر أو يزني فإننا نقبل شهادته؛ لأنه لما عرف بالصدق غلب على الظن أنه صادق فيما يقول؛ قالوا: فلا تقوى التهمة في رد شهادته. والذي يظهر أنه لا تقبل شهادة من طعن في عدالته، لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات:6] فأمرنا بالتثبت والتبين والتروي في خبر هذا النوع، فدل على عدم قبوله؛ لأن التثبت والتروي نوع من الرد؛ لأنه لم يقبلها مباشرة، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تقبل شهادته، سواء كان ممن يغلب على الظن صدقه أو لا يغلب على الظن صدقة. حكم إكمال رمضان عند تبين خطأ الشهادة يقول المصنف رحمه الله: [وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا]. لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا الأحكام المتعلقة برؤية الهلال، فبعد أن بين الأحكام المتعلقة بثبوت شهر رمضان ودخوله، شرع في بيان ما يتعلق بالخروج من شهر رمضان، والأصل أن الخروج من شهر رمضان يكون بتمام الشهر ثلاثين يوماً، وذلك أنهم إذا صاموا ثلاثين يوماً فقد تم الشهر، وحينئذٍ يكون ما بعده من شوال قطعاً. وأما العلامة الثانية: فهي أن يشهد العدلان لرؤية هلال شهر شوال، فإذا شهد العدلان أنهما رأيا هلال شهر شوال فإن الناس يفطرون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن شهد عدلان فصوموا، وإن شهد عدلان فأفطروا ) فجعل رؤية العدلين موجبة لثبوت دخول شهر شوال وانتهاء شهر رمضان. لكن هنا مسألة، وهي: إذا شهد عدل واحد، ثم أكمل الناس العدة ثلاثين يوماً من رمضان ولم يروا الهلال، قال العلماء: هذه أمارة ودليل على خطأ الشاهد، ومن هنا فإنه يجب عليهم أن يتموا العدة لظهور خطأ الشهادة. وهكذا الحال في المسألة التي ذكرناها: لو كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شهر شعبان، ولم يتمكنوا من رؤية الهلال، فإن المذهب -على ما قرره المصنف- أن يصام ذلك اليوم، وإن كان الصحيح: أنه لا يصام، لكن على القول بصيامه لو صاموا ثم أتموا العدة ثلاثين، وتراءوا الهلال ليلة الواحد من شوال على تمام الشهر فلم يروه، قالوا: هذا يدل على أن الشهر -أعني: شهر شعبان- يعتبر كاملاً، وحينئذٍ عليهم أن يتموا عدة رمضان ثلاثين يوماً ولا يفطرون. وعلى هذا هناك حالتان ذكرهما المصنف: الأولى: أن يشهد عدل واحد، ثم نحكم بدخول شهر رمضان، ثم بعد تمام العدة ثلاثين يوماً نتراءى الهلال ليلة شوال فلا نراه، وعلى هذا تبين لنا خطأ الشاهد الواحد؛ لأن الخطأ في الشاهد الواحد أكثر منه من الخطأ في الشاهدين، وحينئذٍ يلزمون بتمام شهر رمضان ثلاثين يوماً، وهذا على سبيل الاحتياط، وهذه قاعدة: أن بعض العلماء يحتاط في الخروج من شهر رمضان أكثر من احتياطه في دخول شهر رمضان، ولذلك يرون أنهم في هذه الحالة يتمون العدة ثلاثين يوماً حتى يخرجوا من الصوم بيقين. الثانية في قوله: (أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا). هذا على المذهب المرجوح، وإن كان الصحيح: أنه إذا كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شعبان أنه يجب إتمام عدة شعبان ثلاثين يوماً. حكم من رأى هلال رمضان أو شوال وحده وقوله: [ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله، أو رأى هلال شوال، صام]. هذه مسألة مفرعة على الشاهد الواحد، فلو أن إنساناً رأى هلال شهر رمضان -أو رأى هلال شهر شوال، فجاء يشهد فلم تقبل شهادته وردت، وهو متأكد أنه قد رأى الهلال- فقد وقع في يقين نفسه أن رمضان قد دخل، ولكن في حكم الشرع الظاهر أن رمضان لم يدخل، فهل نوجب عليه في خاصة نفسه أن يصوم هذا اليوم أو لا يصوم؟ للعلماء مذاهب: منهم من يقول: نوجب عليه الصيام لأنه قد تحقق من دخول شهر رمضان؛ وهو متعبد لله عز وجل بما تحققه، وقد أوجب الله على من رأى الهلال أن يصوم، وهذا قد تحقق من رؤيته وأن هذه الليلة من رمضان، فلا وجه لإسقاط الصوم عنه، قالوا: فحينئذٍ يلزمه أن يصوم. القول الثاني: أن العبرة بجماعة المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) قالوا: كما لو أنهم تراءوا الهلال فلم يروه -مع أنه رمضان حقيقة- قالوا: فقد تعبدهم الله عز وجل بالدخول، فحينئذٍ لا نوجب عليه هذا اليوم؛ لأنه ليس من رمضان حكماً. والقول الثالث يفصل فيقول: دخول رمضان يوجب عليه الصيام، وفي خروجه لا يفطر احتياطاً. وهذا المذهب من أقوى المذاهب -أي: التفريق بين الدخول وبين الخروج- والسبب في هذا: أن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد كما ذكرنا، وأنه من باب الخبر. ولذلك نقول: من رأى هلال رمضان وحده -كما لو كان مسافراً فرآه وحده- فبالإجماع أنه يصوم، مع أنه في هذه الحالة لم يثبت شهر رمضان عند الجميع، فنقول: إذا رآه في الدخول وجب عليه أن يصوم؛ لأن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد. أما الخروج فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( فطركم يوم تفطرون ) فرد الأمر إلى جماعة المسلمين، ففي الخروج لا نقول له: إنه يفطر، وإنما يبقى مع جماعة المسلمين؛ لأن الفطر للجميع بخلاف دخول شهر رمضان، ولذلك نقول: إنه قد ثبت في ذمته صيام اليوم الأول من رمضان بيقين؛ لأنه قد استيقن برؤية الهلال بنفسه، وحينئذٍ نوجب عليه الصيام دخولاً، ولكننا لا نوجب عليه الفطر خروجاً؛ لأن الفطر مقيد بالجماعة، فيفطر إذا ثبتت رؤيته مع رؤية غيره وحكم بها، ولا يفطر إذا ردت شهادته أو كان شاهداً واحداً ولم تقبل شهادته. وهناك مذهب يقول: يفطر سراً، ولكن القول بالتفصيل اعتماداً على السنة أقوى وأظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة ابن عمر وحده في دخول شهر رمضان، فألزم الجماعة بشهادة ابن عمر ، فلئن نلزم الشاهد نفسه والرائي نفسه من باب أولى وأحرى، ولكن في الخروج ردنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى جماعة المسلمين فقال: ( فطركم يوم تفطرون ) فجعل الفطر لجماعة المسلمين كلهم، كما لو رأى هلال ذي الحجة -مثلاً- ليلة الخميس والناس لم يروه، ثم بعد ذلك أصبح وقوف الناس متأخراً عن وقوفه؛ فإننا نقول: لا يصح وقوفه لوحده؛ لأن الوقوف بجماعة المسلمين، وعلى هذا فإنه يصح أن يصوم وحده ولا يصح أن يفطر لوحده. وقد يشكل على هذا مسألة: كيف نحكم بالظاهر ونترك الباطن؟ و الجواب أن الشرع يحكم بالظاهر، ويلغي الحقيقة والباطن. مثال ذلك: لو أن رجلاً -والعياذ بالله- رأى امرأة على الزنا، وقد رآها بعينه وشهد أنها زانية، أو شهد رجلان أو ثلاثة أنها زانية، فأتي بها إلى القاضي فلم تعترف وأنكرت، فإنه بالإجماع يجلد هؤلاء الثلاثة، ويعتبرون قذفه، والله تعالى يقول: { فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [النور:13] فوصفهم بالكذب بالنسبة للظاهر؛ لكنهم في الحقيقة والباطن صادقون، ولذلك يعطي الحكم للظاهر، والباطن مرده إلى الله عز وجل. ومن أمثلته: قوله عليه الصلاة والسلام : ( إنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع ) فدل على أن حكم الظاهر لا يبيح الباطن، كما أن الباطن لا يبيح حكم الظاهر، وعلى هذا فرقت الشريعة، فما كان الشرع معتبراً فيه بشهادة الواحد -وهو دخول شهر رمضان- فنعتبره ملزماً بالصيام برؤيته، كما لو رآه وحده في الصحراء فإنهم كلهم يقولون: عليه أن يصوم. أما بالنسبة لخروج رمضان فقد جاء النص باعتبار الشاهدين، ولم يأت استثناء كالدخول، فالدخول جاء فيه استثناء في حديث ابن عمر ، فقبلت فيه شهادة الواحد، وأما الخروج فلم يأت فيه استثناء، فبقينا على الأصل من كونه مطالباً بصيام هذا اليوم الذي هو يوم الثلاثين، والأصل أن الشهر كامل، وعلى هذا يقولون: إنه يقيد بجماعة المسلمين؛ لورود النص بتأكيد الجماعة. ففي الخروج ورد النص بتأكيد الجماعة، وفي الدخول ورد النص بالاعتداد بشهادة الواحد، فخفف في الدخول ولم يخفف في الخروج، وهذا هو الذي يسميه العلماء مذهب الاحتياط. والاحتياط ينقسم إلى قسمين: الأول: احتياط ينبني على دفع الشبهة والبعد عن الريبة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) وقوله عليه الصلاة والسلام: ( دع ما يربيك إلى ما لا يريبك ). الثاني: احتياط يكون مستنداً إلى النصوص، فلما جاء النص بقبول شهادة الواحد دخولاً؛ احتطنا وقلنا: يجب عليه الصوم، فكان الاحتياط أن يصوم، بخلاف ما لو قلنا له: أفطر؛ لأنه لو أفطر ربما أفطر يوماً من رمضان، ولكن في الخروج نقول له: يبقى على صيامه، فأصبح الاحتياط هنا مستنداً إلى أصل الشرع، فكان اعتباره أولى وأحرى مع الأصل الذي دل على أنه ينبغي للمسلم أن يخرج من الريبة والشبهة. وجوب الصيام على كل مسلم مكلف قادر [ويلزم الصوم لكل مسلم مكلف قادر]. يلزم: أي: يجب، وهو فريضة الله عز وجل على كل مسلم، فالكافر لا يلزمه صوم بالنسبة له، بمعنى أنه لا يخاطب ولا يصح منه صومه إلا بعد أن يحقق أصل الدين وهو التوحيد، فلو صام الدهر كله وهو لم يوحد الله فلا عبرة بصيامه، قال تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان:23] فالكافر لا يعتد بصومه ولا يعتد بطاعته حتى يسلم، فإن أسلم أثناء الشهر وجب عليه أن يصوم ما بقي، ولا يجب عليه قضاء ما مضى. وإن أسلم أثناء اليوم وجب عليه الإمساك بعد إسلامه وقضاء ذلك اليوم، وهذا مبني على حديث يوم عاشوراء الذي رواه معاوية رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه لما كان يوم عاشوراء قال: إن الله فرض عليكم صيام هذا اليوم، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه ) قالوا: فيجب على الكافر أن يمسك بقية اليوم، ثم يقضي هذا اليوم؛ لأنه لما أسلم ولو قبل غروب الشمس بلحظة فقد وجب عليه قضاء هذا اليوم، ولذلك يقولون: إنه يطالب بالقضاء، وأما بالنسبة للأيام التي مضت فإنه لا يطالب بقضائها لوجود الانفصال، وفرق بين المتصل والمنفصل، فإن إفطاره في اليوم نفسه متصل، وإلزامه بقضاء ما مضى من رمضان منفصل؛ فوجبت عليه العبادة المتصلة دون العبادة المنفصلة. وقوله: (على كل مسلم مكلف) ويشترط بعد الإسلام أن يكون مكلفاً، والتكليف يكون بالعقل والبلوغ. فإذا قيل: مكلف، تضمن ذلك كونه عاقلاً وكونه بالغاً، فلا يجب الصوم على صبي، ولا يجب الصوم على مجنون. أما الصبي فالسنة إذا أطاق الصوم أن يعود عليه من الصغر، كما في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا يروضونهم على الصيام، ويعطونهم اللعب يلعبون بها وهم صبيان)، ولكن ينبغي أن يكون مطيقاً لذلك. أما إذا كان صغير السن ويتضرر بالإمساك ولو بعض اليوم؛ فإنه لا يحمل فوق طاقته؛ لأن هذا يزعجه ولربما يجعله يكره هذه العبادة، فإنه إذا أطاقها ألفها وأحبها كما أمر الأولياء أن يأمروا صبيانهم بالصلاة لسبع؛ تعويداً لهم على هذه العبادة وترويضاً لهم عليها، فيعود الصبي الصيام من الصغر، كأن يكون ابن العاشرة أو الحادية عشرة، أو يكون دون ذلك إذا أحب هذه العبادة وألفها، وإذا صام فليشجعه وليه على ذلك ويعينه عليه؛ لما فيه من تحصيل مقصود الشرع من تحبيب العبادة لنفسه وتعويده عليها. وأما المجنون فلا نطالبه بالصوم، سواء بلغ مجنوناً أو طرأ عليه الجنون. وهكذا لو صار كبير السن فأصبح يضيع ويخلط، فإذا أصبح يضيع ويخلط أو كان مجنوناً وحصل له هذا التضييع والخلط أو الجنون أثناء الصوم، فإننا لا نلزمه بذلك اليوم، سواء كان جنونه مسترسلاً أو متقطعاً. وإذا كان جنونه متقطعاً بأن طرأ عليه الجنون في نصف رمضان، فالنصف الذي جن فيه ليس عليه قضاؤه، والنصف الذي كان فيه عاقلاً صحيحاً فإنه يطالب بصيامه. وإذا أفاق بعد ذلك فلا نطالبه بقضاء الشهر إن كان مجنوناً في الشهر كله؛ لأن المجنون حال جنونه غير مكلف. وجوب الإمساك حال قيام البينة برؤية الهلال وقوله: [وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه]. البينة: مأخوذة من البيان، يقال: بان الصبح إذا اتضح ضوؤه، والشيء البين هو الواضح، والبينة: هي الدليل الذي يظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، فلو أن اثنين اختصما عند القاضي، فادعى أحدهما على الآخر شيئاً، كأن يقول: لي على فلان ألف ريال ديناً. فقال فلان: ليس له عندي شيء، وأنكر. فجاء المدعي بشاهدين عدلين، فنقول: هذه بينة أظهرت صدق الدعوى؛ لأنه لما قال: لي على فلان ألف ريال. احتمل أن يكون صادقاً واحتمل أن يكون كاذباً، والأصل أن المدعى عليه بريء حتى يثبت أنه مدان بهذا الحق، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى. والظهور الغلبة، كما قال تعالى: { فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } [الصف:14] أي: غالبين، فكأن صدق الدعوى وكذبها في منزلة واحدة عند الادعاء، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى وكشفت وجه الحق، لأنه لما قال: لي على فلان ألف. فقال فلان: ليس له علي ألف ريال، التبس وجه الحق، فلما قام الشاهدان انكشف أن الحق مع من قال: لي على فلان ألف ريال. فعلى هذا قالوا: إن البينة هي ما يظهر صدق الدعوى ويكشف الحق. والأصل في البينة أن تكون بشهادة العدلين على الشروط المعتبرة، لكن قد تكون البينة امرأة واحدة كالشهادة على الرضاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( كيف وقد قيل؟! ) فقد قبل شهادة المرأة الواحدة، فلو قالت امرأة: أرضعتك وفلانة، فإنه يثبت حينئذٍ أنها أخت لك، وهكذا لو أن امرأة قابلة -وهي التي تشرف على الولادة- شهدت بأن المولود استهل صارخاً، فإن المولود والجنين لا يرث إلا إذا تحققنا من حياته، ولا نتحقق من حياته إلا إذا عاش لحظة على الأقل بعد ولادته، فلو ولد ميتاً لم يكن له شيء، فنحتاج لكي نثبت الميراث له أن يستهل صارخاً، بمعنى: بأن يحدث منه الصوت أو الحركة التي تدل على الحياة حال ولادته على خلاف عند العلماء، فإذا شهدت امرأة واحدة أنه استهل صارخاً قبلت شهادتها في الاستهلال، لمكان الضرورة والحاجة، كما قبلنا شهادة المرضعة. وهذه من المسائل التي تكون فيها البينة قاصرة وناقصة، وعلى هذا فالبينة هي: شاهدان عدلان قاما بالشهادة على وجهها بأنهما قد رأيا الهلال ليلة البارحة، وإذا لم ير الناس الهلال فأصبحوا مفطرين في يوم الثلاثين من شعبان، فجاءت البينة وشهدت عند القاضي أنها رأت الهلال ليلة البارحة، وأن هذا اليوم هو الأول من رمضان، فيأمر القاضي بالنداء في الناس أن يمسكوا. والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله فرض عليكم صوم هذا اليوم -يعني: يوم عاشوراء- فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه ) فإن هؤلاء الذين أفطروا إنما أفطروا في أول الأمر وهم يظنون أن الصوم غير واجب، بل على يقين بأنهم يفطرون، وكان الصيام تخييراً لا إلزاماً، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك بقية اليوم، قالوا: فيعذر أهل البلدة إذا لم يروا الهلال أول اليوم؛ لمكان عدم العلم، فإذا علموا وتحققوا فقد تبين أن هذا اليوم يجب عليهم صيامه، فعذروا بالفطر بأوله ولا يعذرون بالفطر في باقيه، فيلزمهم الإمساك بقية اليوم على ظاهر حديث معاوية رضي الله عنه. ثم يلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن القاعدة في الشرع: أنه لا عبرة بالظن البين خطؤه، أي: لا عبرة بالظن الذي بان أنه خطأ، فهم قد بنوا على غلبة الظن بأن شعبان كامل، ثم تبين أن هذا الظن خاطئ، وقد تحقق أن هذا اليوم من رمضان، فنعذرهم لأن الشيء إذا جاء لعذر يقدر بقدره. فجاز لهم أن يفطروا أول اليوم لأنهم معذورون بعدم العلم، فلما زال السبب الذي من أجله عذروا رجعوا إلى الأصل من كونهم مخاطبين بإتمام العدة، وعلى هذا قالوا: يلزمهم الصوم بقية اليوم، ويلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الله أوجب عليهم صيام رمضان كاملاً وقال: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة:185] فهؤلاء مطالبون بصيام رمضان كاملاً، وهذا اليوم من رمضان ولا وجه لإسقاطه. وقال بعض العلماء: لا يجب عليهم قضاؤه، بل يمسكون بقية اليوم ولا يقضون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بقضاء يوم عاشوراء. وهذا مذهب مرجوح، والجمهور على أنهم يقضون، ووجه كونه مرجوحاً: أولاً: يجاب عن حديث معاوية من وجهين: الوجه الأول: أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء ويحتمل أنه لم يأمرهم، والسكوت عن النقل لا يدل على عدم الوجوب كما هو معلوم في الأصول، وعلى هذا قالوا: إنه قد يكون سكت للعلم به بداهة بأنهم مطالبون بالقضاء. الوجه الثاني: أن هناك فرقاً بين استئناف التشريع وبين ثبوته، فقالوا: إن التشريع استؤنف في أثناء اليوم بخلاف بقية الأمة، فإنهم مطالبون بصيام الشهر كاملاً لأن التشريع موجود، وإنما سقط عنهم القضاء لأن التشريع استؤنف؛ ففرق بين كون التشريع مستأنفاً وبين كونه ثابتاً. فعلى هذا قالوا: إنه يجب عليهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الأصل أنهم مطالبون بصيام ثلاثين يوماً بخلاف أهل يوم عاشوراء، فإنهم لم يطالبوا به في الأصل، وعلى هذا فرق بين الإلزام بصيام اليوم إذا قامت البينة، وبين عدم ورود أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء في حديث يوم عاشوراء. وجوب القضاء على من نوى الصيام متردداً وقوله: [والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه]. معنى ذلك: أنه لو أصبح إنسان صائماً يوم الشك، ثم تبين أن هذا اليوم من رمضان، قالوا: يلزمه أن يقضي؛ لأنه صام يوم الشك على نية مترددة، والنية المترددة لا تسقط الجزم؛ فإن الإنسان إذا قال: يحتمل أنه من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، فأنا أصومه إن كان من رمضان ففرض، وإن كان من شعبان فنفل، فأصبحت نيته ليست بمتمحضة للفرض، وقد نوى النفل أثناءها؛ لأنه قال: إن كان من شعبان فنفل. فقد أدخل نية النفل عليه، ولا تصح نية الفريضة إلا متمحضة؛ فيلزمه القضاء. وقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم بالنية في الصوم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ( من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له ) كما هو حديث ميمونة ، وهو حديث صحيح، فلما ألزمنا بتبييت النية فكانت النية للفريضة فريضة، ولا تكون مترددة، وهذا قد نوى على التردد فلم تقع نيته وفق النية المعتبرة شرعاً، فألزمه الجمهور بقضاء هذا اليوم، وهذا معنى قول العلماء: يلزم القضاء للجميع. لكن لو أن إنساناً رأى الهلال وحده فأصبح ناوياً صيام رمضان، وقدم عليهم وهم مفطرون أول اليوم فأمسك، ثم ثبت بالبينة أنه من رمضان فإن صومه يجزيه، ولا يلزمه القضاء. صيام أهل الأعذار بعد زوال الأعذار وقوله: [وكذا حائض ونفساء طهرتا]. أي: وكذا المرأة الحائض والمرأة النفساء، فإنها إذا طهرت أثناء يوم رمضان فإنه يلزمها إمساك بقية اليوم وقضاؤه، وذلك أن المرأة الحائض سقط عنها الصوم أثناء تلبسها بالعذر، والقاعدة في الشرع: أن ما جاز لعذر بطل بزواله. فمثلاً: جاز للإنسان أن يسأل الناس إذا أصابته حاجة، فإذا تبرع له الناس حتى سدت هذه الحاجة حرم عليه أن يسأل، لقوله عليه الصلاة والسلام : ( حتى يمسك قواماً من عيش ) فلما أمسك القوام من العيش رجع إلى الأصل من كون السؤال حرام عليه. قالوا: كذلك ما جاز لحاجة وعذر، فإنه قد جاز للمرأة الحائض والنفساء أن تفطر لمكان العذر وهو الحيض والنفاس، فإذا زال العذر وطهرت رجعت إلى الأصل من كونها مطالبة بالإمساك، فيجب عليها أن تمسك بقية اليوم، ثم بعد ذلك تقضي هذا اليوم. وهكذا المسافر إذا قدم من سفره، فإن الله قد أباح الفطر للمسافرين إذا كانوا على سفر؛ فإذا قدموا وزال عنهم وصف السفر بقوا على الأصل من كونهم مطالبين بالإمساك بقية اليوم، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الإمساك بقية يوم عاشوراء. ولذلك فحكم المسافر والمرأة الحائض والنفساء حكم صيام يوم عاشوراء كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا وجه للتفريق بالتعليل والنظر، ولذلك يُبقى على الأصل الذي دل عليه حديث يوم عاشوراء، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو أقوى المذاهب وأعدلها، إضافة إلى أنه يرجع إلى الأصل، ويكون أقوى الأقوال في الفقه هو ما يشهد الأصل باعتباره. فالأصل أنه مطالب بالإمساك، وهذا شهر إمساك وصوم، ولذلك لا يفرق بين أجزاء النهار كاملة أو ناقصة، فإذا جاز أن يفطر أو يأكل في حالة معينة على صفة معينه، ثم زالت هذه الحالة والصفة؛ وجب عليه أن يرجع إلى الإمساك الذي هو أصل الشهر، فالشهر إنما سمي بشهر الإمساك لكون الصائم يمسك فيه، فإذا جاز له أن يأكل بسفر أو مرض، أو جاز للمرأة أن تأكل لحيض أو نفاس، ثم زال الحيض والنفاس والسفر والمرض؛ رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك. وقوله: [ومسافر قدم مفطراً]. أي: وهكذا لو سافر إنسان وقدم من سفره أثناء اليوم؛ فإنه يلزمه أن يمسك بقية اليوم؛ لأنه جاز له الفطر أثناء السفر: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] فجعل المريض والمسافر معذوراً أثناء السفر والمرض؛ فإذا زال السفر وزال المرض رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك في هذا اليوم. حكم من أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه وقوله: [ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، أطعم لكل يوم مسكيناً]. هذا النوع الثاني ممن يرخص له أن يفطر في شهر رمضان، وهو المريض الذي لا يرجى برؤه من المرض، والكبير أي: الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم. فبالنسبة للمريض الذي لا يرجى برؤه كمن به فشل في الكلى، أو معه مرض مزمن لا يمكنه أن يمسك عن الطعام والشراب، فهذا يلزمه أن يطعم؛ فيعدل من الصوم إلى الإطعام، لقوله تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة:184] وفي قراءة: (وعلى الذين يطَيّقونه) وفي قراءة: (وعلى الذين يَطوّقونه) والمراد بهذه القراءة أنهم يجدون المشقة والعناء، ويتكلفون ما في طاقتهم ووسعهم للصوم، فهؤلاء أوجب الله عليهم أنه يطعموا المسكين؛ فيعدلون من الصيام إلى الإطعام، ولا يكون الصوم واجباً عليهم لا أداءً ولا قضاءً، فيسقط عنهم الصوم بالكلية. والمريض الذي لا يرجى برؤه؛ لأنه إذا أفطر لا يستطيع أن ينتقل إلى بدل، فالمرض معه والعذر مستديم معه، وهكذا الشيخ الهرم، فإنه يفطر ولا يلزمه أن يقضي، وإنما يعدل هذان النوعان إلى الفطر بدون قضاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليهم الإطعام ولم يوجب عليهم الصيام لظاهر آية البقرة التي ذكرناها. وقوله: (أطعم لكل يوم مسكيناً): إطعام المساكين له صور: إن شاء في كل يوم أن يرتب طعامه ويعطيه للمسكين، وإن شاء جمع في آخر رمضان ثلاثين مسكيناً وأطعمهم، أو مر على الثلاثين وأطعمهم دفعة واحدة؛ لكن لو أنه من بداية رمضان أخذ طعام الثلاثين وفرقه على ثلاثين ناوياً به الشهر كاملاً لم يجزه؛ لأنه لا يجب عليه الإطعام إلا بالإخلال، وذلك بفطره في اليوم، فلا يطعم إلا بعد فطره، ولذلك قالوا: لو أراد أن يطعم عن كل يوم فإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يفطر بعد طلوع الفجر، وحينئذٍ يكون متوجهاً عليه الخطاب بالإطعام، أما قبل الفطر فإنه لا يطعم ولو كان قبل تبين الفجر الصادق. وإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يتعين عليه حينئذٍ الإطعام، أما لو أطعم قبل فإنه يكون إطعامه حينئذ نافلة ولا يكون فريضة؛ لأن الله لم يوجب عليه الإطعام بعد، كما لو صلى قبل دخول الوقت، وبناء على ذلك قالوا: العبرة بوقت الصوم، فإذا دخل عليه وقت صوم هذا اليوم أطعم عن هذا اليوم، فلو أراد أن يقدم لم يصح ذلك منه، ووقع الإطعام نافلة لا فريضة. وأما لو أخر وأطعم عن ثلاثين يوم دفعة واحدة فيأتي على وجهين: إما أن يجمع طعام ثلاثين يوماً ويعطيه لمسكين واحد. وإما أن يجمع طعام الثلاثين ويفرقه على الثلاثين. فإن فرق طعام الثلاثين على الثلاثين أجزأه، فأما إطعام مسكين طعام ثلاثين يوماً فلا يجزيه إلا عن يوم واحد؛ لأن كل يوم يخاطب فيه بحسبه، فعلى هذا يجب عليه أن يطعم ثلاثين مسكيناً إذا كان الشهر كاملاً، وتسعة وعشرين مسكيناً إذا كان الشهر ناقصاً، والأولى والأحرى والأفضل أن يطعم كل يوم مسكيناً في يومه، لكن لو أخر إلى آخر رمضان فإنه يجزيه الإطعام، لكن هل يأثم أو لا يأثم؟ قال بعض العلماء: يأثم بالتأخير، ويصح إطعامه. وقال بعض العلماء: يجوز له التأخير، لكن القول بإثمه من الوجاهة والقوة بمكان، وبناءً على ذلك فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (198) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [3] صيام رمضان واجب على كل مسلم مكلف قادر، ومن تعذر عليه الصيام فإنه يفطر ويقضي بعد رمضان، ومن أهل الأعذار في رمضان: الحائض، والنفساء، والمريض، والمسافر سفراً يقصر فيه، والحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما أو على ولدهما. حكم فطر أهل الأعذار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد حكم من صام ثم جن أو أغمي عليه ذكر المصنف رحمه الله مسألة جنون الصائم وإغمائه، وصورة ذلك: أن ينوي الإنسان الصوم لفريضة كرمضان أو نذر أو كفارة، ثم إذا أصبح وهو مغمى، واستمر إغماؤه النهار كله، وهكذا لو أصابه جنون ولم يفق من جنونه إلا بعد مغيب الشمس، فإنه يبطل صومه بهذا الإغماء وبهذا الجنون؛ والسبب في ذلك -كما ذكر العلماء رحمهم الله-: أن النية تزول ويزول منه القصد ولا يستصحب، وإن كانت هناك مسائل يقال فيها باستصحاب الحكم في المغمى عليه والمجنون كالإسلام والردة ونحو ذلك، ولكن هذه المسألة لا يحكم فيها بالاستصحاب، وحينئذٍ يسقط عنه هذا اليوم، فلا يصح صومه ولا يعتد به؛ لمكان فوات النية بزوال الإدراك والشعور. وقوله: [لا إن نام جميع النهار]. اختلف العلماء في الصائم إذا نام جميع النهار: فمنهم من قال: إن النائم يصح صومه، وبناءً على ذلك فلو نام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فصومه صحيح، بخلاف المجنون وبخلاف المغمى عليه، وهذا التفريق مبني على الأصل؛ وذلك أن الصحابة كانوا ينامون؛ ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بانتقاض الصوم بالنوم، والإجماع قائم على أن النوم المعتبر -كالنوم بين الظهر والعصر، والنوم ضحوة، ونوم القيلولة- لا يبطل الصوم، ولكن الخلاف إذا نام أكثر النهار أو نام كل النهار. وصحح جمع من العلماء رحمهم الله التفريق بين الجنون والإغماء والنوم، فقالوا: إن النوم لا يبطل، بخلاف الجنون والإغماء. وقال بعض العلماء: إذا نام أغلب النهار أو كله بطل صومه؛ وذلك لأن المغتفر في النوم ما كان معتاداً، وما خرج عن العادة فإنه يرجع إلى الأصل، فيكون في حكم المجنون والمغمى عليه؛ فيبطل صومه. وقوله: [ويلزم المغمى عليه القضاء فقط]. أما بالنسبة للمجنون فبالإجماع أنه لا يطالب بالقضاء، فلو أن إنساناً يصيبه الجنون متقطعاً، فجن من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس، فإن صومه لا يعتد به حتى ولو صام، ولا يلزمه قضاء هذا اليوم. وأما بالنسبة للمغمى عليه فللعلماء فيه قولان: من أهل العلم من يقول: إن المغمى عليه يأخذ حكم المجنون، وبناءً على ذلك لا يلزمه قضاء ولا يصح صومه. وقال بعض العلماء: المغمى عليه في حكم النائم، فصومه صحيح. والصحيح الذي يترجح -والعلم عند الله-: أن المغمى عليه في حكم المجنون، وبناءً على ذلك يطالب بالقضاء ولا يصح صومه. وعلى هذا فما اشتهر في هذه الأيام مما يسمى بموت السرير أو موت الدماغ، فيكون الإنسان قد زال شعوره وليس فيه إلا نبضات قلبه، وحكم الأطباء بموت دماغه، وقد يستمر في جهاز الإنعاش شهوراً وقد يستمر سنوات، فمثل هذا غير مكلف، ولا يلزم بالقضاء، ولا يلزم أهله بالقضاء ولا بالإطعام عنه، بل يسقط عنه التكليف بمجرد موت دماغه وتقرير الأطباء لذلك. اشتراط النية في الصيام وقوله: [ويجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب]. شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان المسائل والأحكام المتعلقة بنية الصائم؛ والسبب في ذلك: أن الصوم عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، وبيان أحكام العبادة التي لها نية يستلزم بيان حكم النية وحدودها وضوابطها. وينقسم الصوم إلى قسمين: صوم فريضة، وصوم نافلة. فكلا القسمين لا يصح إلا بنية، فلو أن إنساناً أضرب عن الطعام واستمر إضرابه يوماً كاملاً، فإننا لا نقول: إنه صائم، ولا يحكم بصومه لا نافلة ولا فريضة؛ لأنه لم يقصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الامتناع، وهكذا لو امتنع عن الطعام والشراب ليخفف وزنه، أو خوفاً من الطعام والشراب أن يضره في جسده، فمثل هذا لو استمر يوماً كاملاً لا نحكم بكونه صائماً؛ لأنه لم ينو التقرب لله سبحانه وتعالى. أما بالنسبة للصوم الذي فرضه الله على المكلف: فإنه لا يُجزئه ولا يصح منه إلا إذا بيت النية بالليل، والدليل على ذلك: قوله سبحانه وتعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [البينة:5] وقوله سبحانه وتعالى: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } [الزمر:2]. ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمر بإخلاص العبادة لوجهه، والإخلاص يتوقف على النية، فلا عبادة إلا بنية، والصوم عبادة لا يصح إلا بنية. وأما دليل السُّنة: فحديث أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها وأرضاها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لم يُبَيِّتِ النية بالليل فلا صوم له ) وفي رواية: ( من لم يجمع النية بالليل فلا صوم له ). ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بعدم صحة الصوم إذا لم يبيت صاحبه النية بالليل. وثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات ) والصوم عمل. ومن أدلة السُّنة أيضاً: ما ثبت في الصحيح من الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) فقال: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) أي: قاصداً التقرب لي؛ فدل على أنه لا صوم شرعاً إلا إذا قصد أن يترك الطعام والشراب لوجه الله عز وجل. ولذلك فضل العلماء الصوم حتى قال بعض فقهاء الشافعية -وهو أحد الأوجه في مذهب الإمام الشافعي -: والصوم أفضل من الصلاة؛ والسبب في ذلك هذا الحديث، قالوا: لأن الله تعالى يقول: ( إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ) قالوا: وأفضل الأعمال وأحبها إلى الله: الإخلاص، الذي هو التوحيد، فلما كان الصوم قائماً على الإخلاص وروحه ولبه للإخلاص قالوا: شرُف وفضل على الصلاة من هذا الوجه. والصحيح: أن الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ) ولما ثبت في الصحيحين من قوله: ( سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها ). والصوم ينقسم إلى قسمين: الفريضة، والنافلة: أما الفريضة: فلا تصح إلا بنية وجهاً واحداً. وأما النافلة ففيها قولان للعلماء رحمة الله عليهم: منهم من يقول: لابد من تبييت النية في النافلة، فلو أردت أن تصوم الإثنين أو الخميس تقرباً إلى الله عز وجل فلا بد أن تنوي الصيام في ليلة الإثنين وليلة الخميس. وقال جمع من العلماء: يصح أن يصوم النافلة وينشئ نيتها وهو لم يجمع النية بالليل، وهو الصحيح؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه قال: ( هل عندكم شيء؟ قالت: لا. قال: إني إذاً صائم ) وهذا في النهار؛ فدل على أن صوم النافلة يجوز أن ينشئ الإنسان صومه من النهار، ولا يجب عليه أن يبيت النية من الليل. فلو أصبحت يوم الإثنين وأنت لا تدري أنه الإثنين، ثم قيل لك بعد صلاة الفجر قبل أن تطعم شيئاً: هذا يوم الإثنين، فقلت: إني إذاً صائم؛ صح صومك. وهكذا لو أصبحت ولم تجد فطوراً، وكنت قد أصبحت من بعد طلوع الفجر لم تأكل شيئاً، فلما لم تجد طعاماً أو شيئاً تفطر به قلت: إني إذاً صائم أو أستمر بقية يومي صائماً، صح ذلك وأجزأك؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتبر حديث أم المؤمنين عائشة مخصصاً لحديث أم المؤمنين حفصة . فنقول: الأصل تبييت النية بالليل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له ) لكن يستثنى صيام النافلة لحديث أم المؤمنين عائشة الصحيح؛ فصيام النافلة يجوز لك أن تنشئه بعد طلوع الفجر ولا حرج عليك في ذلك. حكم من نوى الإفطار وقوله: [ومن نوى الإفطار أفطر]. هذه مسألة خلافية: قال بعض العلماء: إن نية الإفطار أثناء اليوم كالتردد في النية، فمن نوى أن يفطر فكأنه تردد في النية. وبعضهم يقول: لم يصبح متردداً، بل أبطل النية ورفعها، وقالوا: بناءً على ذلك يبطل صومه، وهو اختيار المصنف رحمه الله. ومن أهل العلم من قال: إن نية الفطر مغتفرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله عفا لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل ) فهذا قد حدثته نفسه ولم يتكلم ولم يعمل. وأُجيب عن ذلك: بأن هذا الحديث المراد به: ما يكون من جنس الأشياء التي تبطل بالأقوال والأفعال؛ لكن الإبطال هنا متعلق بعمل القلب، وإذا تعلق بعمل القلب خرج الحديث عن موضع النزاع كما لا يخفى. الأسئلة حكم التتابع في صيام كفارة اليمين السؤال في كفارة اليمين هل يشترط التتابع في صيام الثلاثة أيام؟ الجواب هذه مسألة خلافية بين أهل العلم رحمة الله عليهم، والسبب في الخلاف: هل القراءة الشاذة يثبت بها الحكم أو لا يثبت؟ فبعض العلماء يرى أن القراءة الشاذة توجب ثبوت الحكم، وهذا هو أصح القولين. والسبب في ذلك: أن قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فهذه القراءة في آية المائدة التي في كفارة اليمين ورد فيها التتابع في قراءة ابن مسعود ، وهي قراءة شاذة، وكونها شاذة فإن بعض العلماء يقول: إن القراءة الشاذة لا تقبل قراءة كما هو عمل القراء؛ لأن القراءة الشاذة تخالف العرضة الأخيرة التي جاءت من جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يعتد بهذه القراءة عندهم في القراءة، ولا يعتد بها في الحكم. وإذا كانت القراءة شاذة فإنهم يقولون: لم يثبت كونها قرآناً ولا كونها سنة، وإذا لم يثبت ذلك فإنها لا توجب ثبوت الحكم، وهذا مذهب الجمهور. وذهب الإمام أحمد وطائفة من علماء الأصول إلى أن القراءة الشاذة يثبت بها الحكم. ومن أمثلة هذه المسألة: حديث أم المؤمنين عائشة : ( كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن ) فهذه قراءة شاذة، بل إنها قراءة منسوخة، وقولها: (وهن مما يتلى من القرآن) أي: كان بعض الصحابة يتلوها ويظن أنها من القرآن، ولم يعلموا بكونها منسوخة في العرضة الأخيرة، هذا معنى قولها: (وهن مما يتلى من القرآن). وهذا يقع كثيراً؛ لأن الصحابة كانوا يقرءون القراءات التي نسخت لعدم علمهم بنسخها، ولعدم ثبوتها في العرضة الأخيرة التي عرض فيها جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وهي آخر سنة من حياته صلوات الله وسلامه عليه، وعلى هذا نقول: إن القراءة الشاذة فيها جانبان: الجانب الأول كونها قرآناً، وهذا لا يثبت إلا بالتواتر بشروط معتبرة من كونها توافق اللغة العربية، وضوابط أخرى ذكرها أئمة القراءة في اعتبار القراءة، فقالوا: كونها قراءة لا نثبته، فبقي الجانب الثاني: وهو ثبوت الحكم بها، فكون الحكم موجوداً فيها يوجب ثبوته؛ لأنها ثبتت بالنص، فكما أن حديث الآحاد يوجب ثبوت الحكم مع كونه لم يبلغ مبلغ التواتر، كذلك القراءة التي جاءت من طريق الآحاد وهي شاذة توجب ثبوت الحكم، وإن كانت لا توجب ثبوت كونها قراءة. وهذا المذهب انتصر له شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، وتكلم عليه كلاماً نفيساً، وتكلم عليها في مسألة الخمس رضاعات وأجاد وأفاد كعادته رحمة الله عليه، وقرر أن القراءة الشاذة فيها جانبان: كونها قرآناً، وكونها توجب حكماً. أما كونها قرآناً فقال: إننا لا نتعبد إلا بما ثبت بطريق التواتر، وهي العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة لكونها متضمنة للحكم فإنه يوجب ثبوت الحكم بها، وحينئذٍ نقول: بأن صيام كفارة اليمين يجب فيه التتابع، فيصوم فيه ثلاثة أيام متتابعة، والله تعالى أعلم. حكم تعزير الشاهدين عند تبين الخطأ السؤال هل يعزر الشاهدان إذا تبين خطؤهما، سواء في شهادة دخول الشهر أو في خروجه؟ الجواب الشاهد لا يعزر إلا في حالة واحدة وهي: أن يتبين كونه زور وكذب، ويتبين كونه شاهد زور أو كذب بإقراره على نفسه، كأن يأتي للقاضي ويقول: إنه شهد كذباً على فلان أنه فعل كذا وكذا وهو لم يفعل، فإذا شهد الإنسان على نفسه بكونه شاهد زور، فحينئذٍ يترتب على ذلك أحكام: أولاً: إسقاط الحكم الذي ثبت بهذه البينة على خلاف عند العلماء، فبعض العلماء يقول: إذا كان رجوعه بعد ثبوت الحكم وقبل التنفيذ فإنه ينفذ، قالوا: لأنه لما رجع عن شهادته طعن في عدالته، ونحن قبلنا شهادته للحكم وهو عدل، فلما رجع بعد ثبوت الحكم شككنا هل هو صادق أو غير صادق، فنبقي الشهادة الأولى؛ لأنه شهد بتزكية الشهود العدول أنه عدل، فقالوا: لا نقبل رجوعه. والصحيح وهو مذهب الجمهور: أنه إذا شهد على كونه مزوراً وكاذباً أنه ينقض الحكم. والأمر الثاني: يعزر، والتعزير يختلف باختلاف الأشخاص، فبعض الأشخاص يعزر بالقول وبعضهم يعزر بالفعل، فالذي يعزر بالقول كالتوبيخ، كأن يكون من ذوي الهيئات وممن يعرف بالاستقامة ولكن حصلت منه فلتة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود ) ففي هذه الحالة يخفف عليه القاضي، ويكون تعزيره بالتوبيخ، كالناس الذين يتألمون بالكلام؛ لأن بعض الناس ينجرح بالكلام أكثر من انجراحه بالضرب والأذية، فيوبخه القاضي ويقرعه. والنوع الذي يعزر بالفعل، كأن يأمر القاضي بجلده، فيجلد -مثلاً- عشر جلدات أمام الناس، أو يجلد في الملأ، فيؤتى به ويقيمه أمام باب المسجد ويضربه ويقرعه أمام الناس؛ حتى يكون ذلك تشهيراً له وزجراً لغيره. أما الحكم الثالث فهو: التشهير، والتشهير: أن يركب على دابة ويطاف به في الأسواق، وقد فعل هذا السلف الصالح رحمة الله عليهم وأفتوا به. فالتشهير أن يطاف به في الأسواق، ويقال: إن الشيخ فلان يقرئكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور؛ فلا تصدقوه، فيطاف به في الأسواق تشهيراً له وردعاً له عن العودة إلى مثل هذا الفعل، وزجراً لغيره أن يرتكب مثل ما ارتكب. فإذا تبين خطأ الشهود فلا نحكم بتعزيرهم ولا نحكم بأنهم شهود زور؛ لأنهم ربما أخطئوا، والخطأ محتمل في الشهادة، فقد يتراءى له الشيء فيظن أنه هلال، فيحتمل أنه أخطأ ويحتمل أنه زور، ولما وجد التأويل لا يجوز اتهام الناس والوقيعة فيهم مادام أنه يوجد مساغ للتأويل ومساغ لنفي التهمة عنهم. فحينئذٍ ما دام أنا وجدنا لهم المخرج من كونهم أخطئوا فإننا لا نوجب تعزيرهم، ولا الحكم بكونهم شهود زور، بل إننا نترك البينة على حالها؛ لأنها زكيت وعدلت وحكم القاضي بكونها على العدالة، فلا ننقض هذا الحكم ولا نوجب كونها زوراً إلا إذا جاء الشاهد وقال إنه تعمد الكذب، وإنه كذب من أجل أن يصوم الناس خطأً، فهذا حكمه حكم شاهد الزور سوءاً بسواء، والله تعالى أعلم. لزوم التأكد من غروب الشمس عند الإفطار السؤال هل إفطار الصائم يتعلق بغروب الشمس أو بأذان المغرب، خاصة إذا رأى الغروب واستبطأ الأذان لاسيما وقد جاء الأمر بتعجيل الفطور؟ الجواب إذا كان الإنسان في مدينة فلا يمكنه أن يتحقق من غروب الشمس، فإنه يعتمد الأذان؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) فجعل الأذان دليلاً على دخول الليل، وحينئذٍ يحل الفطر ويجوز للصائم أن يفطر. وأما إذا كان في موضع يمكنه أن يرى الشمس ويتحقق من غروبها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم )، فإذا رأى إقبال الليل وإدبار النهار، وهو يعرف أمارات الغروب حل له الفطر. أما مجرد غياب الشمس فيحتاج إلى ضبط؛ لأن الله عز وجل يقول: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة:187] وإلى الليل: أي مع الليل، وهو أن تمسك جزءاً يسيراً من الليل، وهذا الذي يضبطه البعض بذهاب الصفرة القليلة بعد المغيب، ولذلك قالوا: إن ذهاب هذه الصفرة يتحقق به من غروب الشمس، ولذلك يحتاج إلى إنسان عنده معرفة وعلم، فليس بمجرد أن يرى الشمس كادت أن تتوارى بالحجاب فيقول: غابت الشمس وحل الفطر، بل لابد أن يكون عنده إلمام بالتحقق من غروب الشمس بالصفة المعتبرة، فإذا تحقق بنفسه من مغيب الشمس بالصفة المعتبرة حل له أن يفطر، والله تعالى أعلم. حكم الإفطار بالجماع أثناء قضاء صوم رمضان السؤال إذا كان الصوم قضاءً لأيام من رمضان ووقع الجماع، فهل يلزم المجامع بالكفارة؟ الجواب مسألة الفطر في قضاء رمضان بالجماع، بعض العلماء يقول: إن القضاء يحكي الأداء، والإخلال في القضاء كالإخلال في رمضان؛ لأن الله عز وجل قال: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] فجعل العدة من أيام أخر في منزلة رمضان، وعلى ذلك قالوا: إنه لو جامع فيها فإنه يجب عليه أن يقضي ويجب عليه أن يكفر كما لو جامع في رمضان نفسه. وقال بعض العلماء: إنه لابد بأن يكون الجماع في نهار رمضان، فإذا وقع الجماع في أي صوم في غير رمضان فلا يلزم بالكفارة؛ لأن الرجل قال: ( هلكت وأهلكت! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أهلكك؟ قال: جامعت أهلي في رمضان ) فنص على رمضان، وإنما وجبت الكفارة في رمضان. قالوا: فلا ينزل غير رمضان منزلة رمضان لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، وهذا المذهب هو أقوى من جهة النظر، والأول أحوط، والله تعالى أعلم. لزوم جماعة المسلمين عند الفطر واجب شرعي السؤال أشكل علي صوم واحد وثلاثين يوماً لمن ردت شهادته فصام لرؤية نفسه، مع حديث ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) وذكر فيه أن الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً، فكيف الجواب على هذا؟ الجواب أما بالنسبة لكونه يصوم واحداً وثلاثين يوماً فبطبيعة الحال أنه إذا رأى الهلال في ليلة الثلاثين سيصوم هذا اليوم من يوم رمضان -الذي هو من رمضان- وأما بالنسبة للواحد والثلاثين -وهو يوم العيد بالنسبة له- فقد ألغي من كونه عيداً، وألزم بالبقاء تبعاً، وفرق بين أن نقول: إن شهر رمضان واحد وثلاثون وبين أن نقول: إنه ألزم به تبعاً. ومن أمثلة ذلك: من خرج من مدينة وكانت قد تأخرت في الصوم يوماً، وارتحل إلى مدينة أخرى، فإنه يعتد بهذه المدينة فطراً؛ لأنه ملزم بالجماعة، فإذا جلس معهم قد يكون صومه واحداً وثلاثين، فحينئذٍ يلزم بصيام هذا اليوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فطركم يوم تفطرون ) فجعل الفطر لنا يوم يفطر الناس، فألغي حكم هذا اليوم، وصار واحداً وثلاثين تبعاً لا أصلا. أي: أننا لا نلزمه بذلك أصلاً من جهة أن رمضان واحد وثلاثين يوماً، وإنما ألزمناه في حالة فريدة، والقاعدة: أن الأصول العامة إذا ورد ما يستثنى منها فلا يعتبر قادحاً في الأصل. فأنت تقول: الأصل عندي أن الشهر ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً، لكن هذه الحالة ورد بها نص أنه لا يفطر في الثلاثين، وأنه ينبغي أن يكون مع جماعة المسلمين، فأبقيه أنا لحكم يقصدها الشرع. والاستثناء من القواعد العامة لا يعد قادحاً في تلك الأصول، ولا يعد معارضاً لها؛ لأنها أشياء وردت بأسباب معينة لمقاصد شرعية، فحينئذٍ نقول: إنه يلزمه أن يمسك يوم الثلاثين الذي هو واحد وثلاثون بالنسبة له ويتقيد بجماعة المسلمين، وهذا كله لمقصد في الشرع. وكان الوالد رحمة الله عليه يقول: إن الشريعة اعتنت بلزوم الجماعة أيما عناية، وأن أكثر البلاء الذي يجر الناس إلى الشقاء هو الخروج والشذوذ عن الجماعة، ولذلك كان الشرع يربي في الإنسان الانتماء إلى جماعة المسلمين وعدم الشذوذ عنها. قال صلى الله عليه وسلم: ( فما أدركتم فصلوا ) وقد تدخل المسجد والإمام في التشهد الأخير وقبل السلام بلحظة، فيجب عليك أن تدخل معه؛ لأنه لا يجوز لك أن تشذ عن جماعة المسلمين، فما دام أنها جماعة وهي قائمة في المسجد فأنت ملزم شرعاً بالدخول لظاهر قوله: (ما أدركتم) أي: أي شيء أدركتموه ولو للحظة واحدة قبل السلام فصلوا. ثانياً: لما صلى عليه الصلاة والسلام بخيف منى ورأى الرجلين لم يصليا قال: ( علي بهما! ألستما بمسلمين -وهما على ظاهرهما وسمتهما ما دخلا المسجد إلا وهما مسلمان-؟ قالا: بلى يا رسول الله، ولكنا صلينا في رجالنا، قال: إذا حضرتما المسجد فصليا مع الناس ) وجاء بالرجل حينما لم يصلِ فقال: ( ألست بمسلم؟ قال: بلى، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك ) . وهو من حديث عمران في الصحيح. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) وقال في الرواية الأخرى: ( فلا تختلفوا علي ) فكأن مقصود الشرع أن يربي الإنسان على ملازمة الجماعة، وهذا منهج علماء التربية فإنهم يقولون: إن تعويد الإنسان على وتيرة معينة من أقوى الأشياء التي تجعله يألفها بنفسيته؛ بمعنى: أن الإنسان إذا ربيت عنده الشعور بالانتماء للجماعة والحرص عليها، وعدم الشذوذ عن جماعة المسلمين؛ ألف ذلك وأصبح ديدناً له، فعندما تأتي في صيام رمضان وتقول له: إنه يفطر، ويكون العيد له وحده، ويشذ عن جماعة المسلمين في فطره وعبادته، وفي فرحته وسروره، وهو يحس أن عيده هذا اليوم من دون سائر المسلمين؛ فكأنه يتربى عنده إلف الشذوذ والانفراد، لكن حينما تقول له: أنت ملزم بالجماعة، ويجب عليك أن تبقى معها وأن تصوم معها؛ فإنك تربي فيه هذه الملكة. وكذلك إذا كان ثلاثين يوماً وهو يمتنع عن الطعام والشراب الذي أحله الله وأباحه له، وامتنع ولم يأكل ولم يشرب، فلو وقف على طعمة من حرام، وقيل له: إن هذا الطعام فيه لحم خنزير، يقول: لا آكل؛ لأنه صار عنده إلف أن يمتنع عن الطعام الذي حرم الله، وصار عنده إلف أن يمتنع عن الطعام الذي أحله الله له في الوقت حرم الله عليه فيه أن يطعمه، فمن باب أولى أن يمتنع عن الطعام الذي حرمه الله عليه بالكلية، وقس على هذا مما لا يحصى. وحينما نأمر أولادنا بالصلاة لسبع فليست القضية قضية صلاة فقط، بل إن الصبي إذا تربى من الصغر والوالد يأمره وهو يأتمر وينفذ أمر الوالد؛ يصبح عنده شعور بالطاعة لوالديه، وشعور بالتبعية للوالدين. لكن انظر إلى المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات المسلمة التي تفرط في أمر الأبناء بالصلاة، فيأتي يوم من الأيام وإذا بالابن متمرد بالكلية على والده، وكثيراً ما تجد الشذوذ والعقوق في الابن الذي لم يروض على الصلاة من الصغر، فقل أن تجد إنساناً عنده ابن عاق إلا ووجدته من الصغر لا يأمره بالصلاة؛ لأنك إذا ربيته على الاستجابة لأمر الله عز وجل، والاستجابة لأمرك؛ فإنه يألف ذلك، فكأنها قضايا لها أبعاد لا تقف عند مسألة العبادة فقط؛ ولذلك قال سبحانه: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة:216] أي: هناك أمور لا تعلمونها، وهناك حكم وأسرار عجيبة غريبة تعود على الإنسان بالنفع في دينه ودنياه وآخرته. فكون الإنسان يربى على الارتباط والانتماء لجماعة المسلمين فذلك فيه مصالح عظيمة؛ لأنه وإن كان فرداً يتضرر بصيام واحد وثلاثين يوماً، لكنه يحقق غايات أعظم وأسمى من كونه يشق على نفسه، وقد تأمر الشريعة بمشقة للفرد لمصلحة تترتب للجماعة، ولذلك كان العلماء رحمة الله عليهم يربون في طلابهم الشعور بالانتماء للعلم ومحبة العلماء، وكانوا يكرهون من طالب العلم كثرة الاعتراضات؛ لأنه حينما يتعود طالب العلم على الاعتراض والنقد وعلى هذا الشعور؛ تجده جريئاً على أئمة السلف وعلى العلماء، صلفاً وقحاً -نسأل الله السلامة والعافية- لا يتورع في كلامه ولا يتورع في تخطيئهم؛ لكن إذا ربيت فيه الشعور بالأدب والإجلال والتقدير لأهل العلم أصبح إذا جاء ليرد على العلماء تحفظ وتوقى، وصان لسانه عن الوقيعة في أعراضهم؛ لأن لديه إلفاً وشعوراً بتعظيم وإجلال السلف الصالح رحمة الله عليهم. ولذلك كان بعض العلماء إذا وجد من الطالب هذا الشعور ربما طرده، ولربما أعرض عنه، وهذا معنى قول الإمام مالك رحمة الله عليه: (لا تعلموا أولاد السفلة العلم؛ حتى لا يستطيلوا على العلماء) لأن عندهم الإلف والشعور بذلك، فقد ألفوا ذلك في بيئاتهم وفي مجتمعاتهم، فالإلف له تأثير على نفسية الإنسان، ومن هنا كان من الخطأ الذي يقع فيه بعض المربين وبعض المدرسين أن يأتيه الطالب فينتقد شيئاً فيشيد به أمام الطلاب أنه انتقد، وأصبحنا نعود أبناءنا على الانتقاد، ولربما تجد البحث يقول لك: انقد كتاباً، فربينا فيهم الشعور على الجرأة. وقد كان الناس قبل مائة سنة يجلون العلماء، وما وجدنا أحداً من أهل العلم يأتي ويجعل من منهجية تعلميه نقد الكتب والعلماء، ولكن أصبحنا اليوم بمجرد أن يأتي الشاب وعمره ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة- بل بعضهم حديث عهد بهداية- فنقول له: حضر كلمة انقد فيها كتاباً، أو لربما تكون مسابقة في عطلة صيفية أو مركز صيفي على نقد كتاب معين! من الذي ينقد؟! وما هذا الشعور الذي نربيه في الطالب؟ فالذي يتعود على النقد يصبح إلفاً له. وابحث عن عالم يكون درسه وعلمه قائماً على نقد العلماء والتجريح فيهم وتتبع عثراتهم، أو تكون كتبه قائمة على نقد العلماء والتجريح في العلماء، إلا وجدت طلابه يسيرون وراءه حذو القذة بالقذة، حتى إن الله ينتقم منه في الدنيا قبل الآخرة، فيسلط عليه من طلابه من ينتقده كما انتقد، ويسل عليه ما سله على علماء المسلمين، لكن من يربي في طلابه حب العلم، ويجعل عندهم الشعور بالانتماء لجماعة المسلمين، والانتماء للعلم والعلماء وإجلال السلف الصالح وإعظامهم وإكبارهم؛ تجد طلابه قد تربوا على حب الله ووده وإجلاله؛ لأنهم ألفوا ذلك وأحبوه واعتادوه؛ فصار ديدناً لهم شاءوا أم أبوا. فهذا المنهج ينبغي أن نعتني به كما اعتنى به الشرع، فهذا على شاهد قضية: أننا لا نفطر شذوذاً عن الجماعة، وهذا ابن مسعود رضي الله عنه كان يصلي وراء عثمان وهو يعلم أن عثمان قد زاد في الصلاة ما ليس منها، ومعلوم أن الزيادة في ركن من أركان الإسلام، ومع ذلك يصلي وراءه، قالوا له: ألا تجتزي بالركعتين؟ قال: الخلاف شر. أي: لا أريد أن أشذ عن جماعة المسلمين. وهذا عمر بن الخطاب يقف في وجه أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ويقول له: كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله )؟! فأصر أبو بكر وقال: (ألم تسمع قوله: إلا بحقها؟! والله لو منعوني عناقاً كان يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه) فقال عمر : (فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعملت أنه الحق) فما جاء يشذ ويقول: أيها الناس! أخطأ أبو بكر ، أو يؤلف رسالة ويقول: إن أبا بكر قد أخطأ، ويشهر به، لكن اجتمعت الكلمة واجتمع الشمل واتحد الصف؛ فكانت قوة على أعداء الإسلام، فجعل الله رأي أبي بكر عزاً للإسلام والمسلمين. ولما أراد أن ينفذ جيش أسامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والعرب مرتدة، فاختار أبو بكر أن ينفذه، فصارت الكلمة مع أبي بكر ، فراجعه الصحابة فقال: (والله لا أحل لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: لا أستطيع أن أحل هذا اللواء وقد عقده الرسول صلى الله عل |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (199) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [1] للصيام مفسدات من ارتكبها فقد بطل صومه، ومنها ما يوجب القضاء مع التوبة إلى الله تعالى، ومنها ما يوجب القضاء مع الكفارة، كالجماع في نهار رمضان، وقد شرعت الكفارة تكميلاً للنقص الذي يطرأ على أداء الفريضة، مع ما فيها من الزجر عن الوقوع في حدود الله ومحارمه. مفسدات الصوم بسم الله الرحم الرحيم بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول: المصنف رحمه الله: [ باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة]. يقول رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم) أي: يبطله، فبعد أن بين لنا أن الله فرض علينا صيام رمضان، وبين لنا المسائل المتعلقة بهذه الفريضة، شرع رحمه الله في بيان ما يوجب فساد الصوم ويبطله، ويوجب الكفارة؛ لأن ما يبطل الصوم يأتي على صور: الصورة الأولى: يفسد الصوم ويلزم صاحبه بالقضاء. الصورة الثانية: يفسد الصوم ويلزم صاحبه بالقضاء مع الكفارة. وبناءً على ذلك جمع بينهما؛ لأن الكفارة مترتبة على وجود الإفساد للصوم كما هو الحال فيمن جامع أهله في نهار رمضان وهو صائم، فإن إيجاب الكفارة عليه مرتب على كونه أفسد صيامه، فقال رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم -أي: سواء كان نافلة أو فريضة- ويوجب الكفارة) أي: يوجب على صاحبه أن يُكَفِّر، والكفارة مأخوذة من الكَفْر، وكَفَر الشيء إذا ستره، وسمي الكافر كافراً لأنه يستر نعمة الله عز وجل عليه، والكَفْر: هو الستر، ومنه قول الشاعر: فِيْ لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا أي: ستر نجومَها غمامُها، وسمي المزارع كافراً لأنه حينما يبذر البذر يستره ويُغيبه في الأرض. وقوله: (الكفارة) عقوبة شرعية، اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيها: فبعض العلماء يقول: إن الله شرعها عقوبة للمُخل بالطاعة، كما هو الحال في الصيام فيمن جامع أهله في نهار رمضان. ومنهم من قال: شرعها الله جبراً للنقص الموجود في العبادة. ومنهم من جمع بين الأمرين فقال: الكفارات تعتبر عقوبات وزواجر ومكملات، فهي عقوبة لمن فعل، وزجرٌ لغيره أن يفعل، وتكميل للنقص الموجود بسبب الإخلال في العبادة. ولذلك قالوا: إن من جامع أهله في نهار رمضان جعل الله كفارته عتق الرقبة، وهذا من أبلغ ما يكون، وقالوا: لأنه إذا أعتق الرقبة أعتقه الله من النار؛ وكأنه حينما تقحّم المجامعة لأهله متعمداً مخلاً بفريضة الله تقحّم نار الله عز وجل، فجعل الله الرقبة فكاكاً له من النار، ولذلك ثبت في الحديث: (أن من أعتق يُعتق بمن أعتقه حتى العضو بالعضو) يعتق كل عضو بعضوه. ومن هنا قالوا: اشترط الله فيمن قتل مؤمناً خطأً أن يعتق رقبة مؤمنة، ولم يشترط الإيمان في كفارة الظهار، وقالوا: لمكان العتق، كذلك أيضاً قالوا: نزَّل الله عز وجل عند فقد العتق صيام شهرين متتابعين مكانه؛ فكأن هذا اليوم يقوم مقامه ستون يوماً متتابعة، وهذا يدل على حرمة شهر رمضان، وحرمة الإفطار في شهر رمضان. قالوا: ومن هنا تكون الكفارة أشبه بالتكميل للنقص، مع ما فيها من معنى الزجر، فإن الناس ينزجرون، ولذلك جعلت هذه الكفارات جوابر، وجعلت عقوبة، وجعلت زواجر للمكلفين أن يقعوا في حدود الله ومحارمه بالإخلال بالفرائض والواجبات أو الانتهاك للحدود والمحرمات. يقول رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة) كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بما يخل بصوم الإنسان ويوجب بطلانه. الأكل والشرب عمداً من مفسدات الصيام وقوله: [من أكل أو شرب أو استعط أو احتقن أو اكتحل بما يصل إلى حلقه، أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع غير إحليله، أو استقاء أو استمنى، أو باشر فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد]. (من أكل أو شرب): أي: من أكل وهو صائم أو شرب، بشرط أن يكون ذاكراً لصومه، فلو كان ناسياً أنه صائم فالجمهور على أن صومه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكل أو شرب وهو ناسٍ فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه ) فهذا يدل على أن الناسي إذا أكل أو شرب في نهار رمضان أو غيره فصيامه صحيح؛ والسبب في ذلك: أن النسيان يعتبر عذراً له بنص الشرع، وهذه من المسائل التي يُسقِطُ فيها النسيان الضمان. قال رحمه الله: (من أكل) سواءً وقع الأكل كثيراً أو قليلاً، ولو أخذ جزءاً يسيراً من الطعام وجاوز به اللهاة -اللهاة: هي اللحمة المتدلية في أعلى الحلق، وهذه اللهاة هي الفاصل بين أول الجوف وبين الفم- فإنه يحكم بفطره. وقوله: (أو شرب): الشرب للمائعات والأكل للجامدات، ويستوي في ذلك القليل والكثير، ولو بقطرة ماء فأحس أنها بلغت الحلق فإنه يفطر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم. وعلى هذا (من أكل أو شرب) هذا فيه إطلاق، وهو شامل لكل ما يصدق عليه أنه أكل أو شرب، سواء كان قليلاً أو كان كثيراً، يغذي أو لا يغذي، يحصل به الارتفاق بالبدن أو لا يحصل، وفي حكم الأكل والشرب أن يدخله تداوياً، كما لو بخ على حلقه ذرات من الماء كالبخاخ المعروف للربو، فإن هذه القطرات -وإن قيل: إنها هواء لكنها ماء- تعتبر في حكم الماء، ورطوبتها واصلة إلى الحلق مندية له موجبة للفطر، وهذا قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم. وقال بعض المتأخرين: إنها لا تفطر؛ والسبب في ذلك قالوا: إن هذا هواء؛ ولكن بسؤال أهل الخبرة يقولون: فيه من المركبات ما هو غريب عن الهواء، ولذلك: لو كان هواءً لما كان دواءً؛ لأنه لو كان هواءً مجرداً لكان بإمكان الإنسان أن يتداوى بدونه؛ لأن الهواء داخلٌ إليه لا محالة؛ فدل على أنه دواء، ولذلك قالوا: إن مادته لها جرم كالدخان ونحو ذلك، وبناءً عليه قالوا: لو أنه بخ فإنه يعتبر غير مفطر، وبسؤال أهل الخبرة والرجوع إليهم أثبتوا أنها مواد مركبة تتحلل وتمتص، ثم بعد ذلك يحصل بها رفق البدن والتداوي، وعلى ذلك: فكل ما جاوز اللهاة من ماء أو جامد أو دخان له جرم كالعود والشراب المحرم، كل ذلك يوجب الفطر. ومن يفرق ويقول: هذا دواء وهذا هواء، فيحتاج إلى دليل؛ والسبب في ذلك: أن الإجماع منعقد على أن من أخذ قطرة من دواء وقطرها في حلقه فأنه يفطر، فدل على أن كونه يغذي أو لا يغذي لا معنى له، وأن العبرة بكونه يمسك، فإذا جاوزت قطرة واحدة حلقه فقد أفطر، دليلنا على ذلك: السُّنة الصحيحة في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث لقيط بن صبرة : ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) فأنت إذا لاحظت هذا الحديث وتأملته فإن الذي يبالغ في الاستنشاق يحصل منه الغلط اليسير ببلوغ الذرة اليسيرة لحلقه، ومع ذلك قال له: (إلا أن تكون صائماً) ومن هنا أخذ جماهير العلماء على أن قليل المفطر وكثيره على حد سواء؛ وكأن الشرع قصد أن هذا حد لحرمته، لا يجاوزها مطعوم ولا مشروب، بل ولا دخان له جرم، فإذا جاوزها فقد خرج عن كونه ممسكاً صائماً على الوجه المعتبر شرعاً، وعلى هذا حكم جماهير العلماء بفطره. وبناءً على ذلك: (من أكل أو شرب) الحكم هنا يشمل كل ما يحصل به الأكل أو الشرب ولو كان شيئاً يسيراً كما قلنا في قطرات الماء اليسيرة أو البخات التي لها ذرات؛ فإنها توجب الحكم بفطره. وقوله: (أو استعط) السعوط يكون عن طريق الأنف، فلو أنه استعط عن طريق أنفه سواءً بلغ إلى دماغه كما هو الحال في بعض الأمراض التي يتداوى منها، وكما هو موجود في القديم بحيث يضعون -مثلاً- السمن في أنف الإنسان علاجاً لخياشيمه، فهذا الجفاف الذي يعالج بهذه المادة لو أنه استنشقه إلى أن بلغ الدماغ قالوا: يعتبر منفذاً. ودليلنا على ذلك: حديث لقيط بن صبرة ، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم من الأئمة الأربعة، على أنه إذا استعط من أنفه ونزل إلى حلقه ووجد طعمه في الحلق أنه يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ). وفي هذا الحديث نقطة تحتاج إلى تأمل، وذلك أن العلماء المتقدمين رحمة الله عليهم ينظرون إلى علة الحكم، يعني: السبب الذي يحكم بكون الإنسان مفطراً به وما لا يعد فطراً، يعني: ما هو الشيء الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالفطر في بعض الأحوال ولا يحكم بالفطر في بعضها؟ العلماء في حديث لقيط بن صبرة على ثلاثة خيارات: منهم من يقول: الشرع يوجب فطر الإنسان إذا تناول الشيء عن طريق معين وهو الفم والمنفذ، ولذلك هذا المذهب يقوم على اعتبار الجهة التي يدخل منها المفطر. وبعضهم يقول: لا. العبرة بما يدخل إلى البدن بغض النظر عن جهة دخوله، سواء دخل من أعلى البدن أو أسفل البدن، ما دام أنه مادة مفطرة كالمغذيات والأدوية فإنه يعتبر مفطراً. ومنهم من قال: يعتبر مجموع الأمرين. وفقه هذه المسألة: أنك إذا جئت تتأمل حديث لقيط بن صبرة الذي اعتمده جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وتجد كتب الفقهاء رحمة الله عليهم والفتاوى مشحونة بالفتوى بفطر من دخل جوفه شيء من غير طريق الفم والأنف، وقالوا: لأن حديث لقيط بن صبرة حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالتأثير في الصوم بغير المدخل المعتاد، فإن دخول الماء عن طريق الأنف مدخل غير معتاد، فلو قلت: لابد وأن يكون الشيء الذي يأكله الإنسان ويشربه يقوي البدن ويرفقه، فنرد عليك بقولنا: إن القطرات اليسيرة لا تقوي البدن ولا ترفق به، ونرد عليك أيضاً بقولنا: إن الإجماع حاصل على أن مجرد مجاوزة القطرة الواحدة للهاة يفطر، إذاً: كون المادة بذاتها مادة معينة غير وارد. بقي مسألة أن تقول: العبرة بالدخول، بغض النظر عن كون الداخل دواءً أو طعاماً قليلاً أو كثيراً؛ والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من دخول القطرة اليسيرة عن طريق الأنف، فدل على أن الجوف ممنوع أن يصل إليه شيء، وعلى هذا تُفرع فتقول: يستوي عندي أن يصل للجوف من أعلى البدن أو من أسفله. وقد يعترض معترض فيقول: لو حقنه بحقنة في العضل فإنها لا تصل إلى داخل الجوف، والمراد بها علاج موضعي لالتهاب أو نحو ذلك. يرد عليك ويقول: القطرة إذا دخلت من الأنف في الاستنشاق لا تصل إلى الجوف، وإنما تمتص قبل وصولها إلى الجوف، فكأن الشرع قصد من الصوم الإمساك المطلق. ومن هنا نجد الفرق بين مسلك المتقدمين والمتأخرين، فنجد المتقدمين يشددون في وصول الشيء إلى البدن؛ لأن حقيقة الصوم: إمساك، وهذا الإمساك استنبطوه من جهة المعنى؛ فقد يخفى هذا المعنى على بعض العلماء ويقول: لا دليل على كون الكحل يفطر أو على كون القطرة تفطر. نقول: لو كان كل أمر يحتاج إلى دليل لم تكن هناك حاجة للعلماء؛ وإنما الفقه أن يفقه ويفهم: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) فاجتهد العلماء في المسألة من نص، ولم يجتهدوا من رأي مجرد. إذ تأملوا حديث لقيط بن صبرة فظهر لهم أنه لا عبرة بالفم؛ لأن الأنف ليس بمدخل لطعام ولا شراب، ودائماً الشرع ينبه بالنظير على نظيره. ولذلك الفطر بالفم مدخل معتاد، والفطر بالأنف -أي: بالاستنشاق- مدخل غير معتاد؛ فكأنه لما استنشق ونزل إلى حلقه صار الوصول إلى البدن موجباً للفطر، فقالوا: إذا قَطّر القطارة في عينه فوجد طعمها في حلقه أفطر، وإن وضع الكحل في عينه فوجد طعمه في حلقه أفطر؛ لأنه قد وصل إلى جوفه، فهذا هو فقه المسألة. فليست المسألة كما يظن البعض أن هذا اجتهاد من العلماء دون وجود دليل عليه ولا نص، والحقيقة من لم يظهر له هذا المعنى ولم تظهر له هذه العلة لا يعده دليلاً حسب اجتهاده ورأيه؛ لكن الأئمة والعلماء المتقدمون رحمة الله عليهم الذين قرروا ذلك وبسطوه وبينوه وشرحوه إنما ركبوه من هذا الحديث، وهو حديث لقيط بن صبرة . ولذلك تجد من يقول: إن الإبرة لا تفطر إذا كانت في العضل، قيل لهم: فلو كانت مغذية؟ قالوا: تفطر، فتناقضوا؛ لأنهم إذا قالوا: إن الإبرة تدخل من غير المدخل المعتاد في العضل، نقضه قولهم: إن الإبرة المغذية تفطر؛ فإن قالوا: تفطر لكونها مغذية. رددنا بأن الوصول إلى البدن لا يلتفت فيه إلى كونه مغذياً أو كونه غير مغذ. وهذه المسألة من جهة النظر والإمعان في حديث لقيط بن صبرة تدل دلالة واضحة على رجحان مذهب جماهير السلف رحمة الله عليهم والأئمة المتقدمين الذين كانوا يفرعون هذه المسألة على حديث لقيط بن صبرة ، ومن رجع إلى الشروحات والمطولات يجد ذلك جلياً، ولذلك تتعارض أنظار العلماء في تحديد الوصول إلى الجوف، وتجدهم يختلفون -كما سيأتي إن شاء الله- في ضوابط مفسدات الصوم. ومن هنا أقول: لا ينبغي الاستعجال في الحكم على كون الأئمة المتقدمين رحمة الله عليهم يقولون بالمسألة بدون دليل، فقد كان السلف رحمة الله عليهم أورع وأخشى وأتقى لله سبحانه من أن يقولوا في دين الله ما لا علم لهم به. وينبغي أن يعلم كل طالب أن الأئمة المتقدمين رحمة الله عليهم أصون وأحفظ لدين الله من أن يتجرءوا على تحليل حرام أو تحريم حلال بمحض الرأي أبداً، فهذا لا يمكن أن يكون من أئمة السلف رحمة الله عليهم، ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله، وقد قرر ذلك شيخ الإسلام رحمة الله عليه في رفع الملام وفي مجموع الفتاوى، وتكلم كلاماً نفيساً في هذا، مبيناً أن الأئمة رحمة الله عليهم اجتهدوا، واجتهاداتهم كانت مبنية على النصوص. ولذلك فإن الشرع مبني على الفقه والفهم، قال صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) فهم يفهمون العلل ويقولون: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما) الاحتقان من مفسدات الصوم قوله: [أو احتقن] كأن تكون حقنة في الدبر، فهذه قالوا: إنها توجب الفطر؛ لأنها تصل إلى الجوف ويتغذى بها الإنسان ويرتفق بها دواءً وعلاجاً، وكما أنه يرتفق بالدواء من أعلاه، فهو يرتفق به من أسفله، ولذلك قالوا: إنه إذا احتقن بالحقنة من أسفل بدنه فإنه يعتبر مفطراً. الاكتحال بما يصل إلى الحلق يفسد الصوم وقوله: [أو اكتحل بما يصل إلى حلقه]. اكتحل: وضع الكحل في عينيه أو إحدى عينيه، (ووصل إلى الحلق) هذا هو الشرط؛ لأنه لو اكتحل قبل غروب الشمس بنصف ساعة ولم يجد طعم الكحل إلا بعد غروبها بنصف ساعة أو بساعة أو بلحظة، فإننا لا نحكم بفطره؛ لأنه لم يصل هذا المفطر إلى المكان إلا بعد انتهاء وقت الصوم، فصومه صحيح. ولو اكتحل بالليل ووجد الطعم بالنهار لم يفطر؛ وذلك لأن الدخول كان بالليل، ولا عبرة بالوصول ولا تأثير له؛ لأن الإمساك الذي خوطب به المكلف قد تحقق؛ ولأن حقيقة الصوم الإمساك، ولذلك نجد الجمهور يقولون بالفطر في هذه الأحوال لأنها ليست بإمساك، فالإنسان إذا أدخل الكحل فيعتبر مفطراً إذا وجد طعم الكحل في يومه، أما إذا وجده بعد اليوم أو وضعه في الليل ووجده في النهار فإنه لا يفطر. دخول أي شيء إلى الجوف من مفسدات الصيام وقوله: [أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير إحليله]. أو أدخل إلى جوفه أي شيء كان، سواء كان مما يغتذي به البدن أو لا يغتذي به البدن. (من أي موضع) أي: سواءً من أعلى البدن أو وسطه أو أسفله، فكل ما وصل إلى الجوف فإنه يوجب الفطر، والدليل على ذلك: ما ذكرناه من حديث لقيط بن صبرة ؛ فكأن حقيقة الصوم في الشرع هي الإمساك، ومن أدخل إلى جوفه شيئاً فليس بممسك، سواء كان الشيء يؤكل أو يشرب أو كان من غير ما يؤكل أو يشرب، فكل ذلك يوجب فطر الإنسان ويحكم بفطره. (غير إحليله) والإحليل: هو مجرى البول من الذكر، واختلف فيه، ولما قال: (الإحليل) فهو بالنسبة للرجل، وأما بالنسبة للمرأة فالإيلاج في فرجها يوجب الفطر كالدبر، بخلاف قُبُل الرجل، فاختلف العلماء في الإحليل، فقال بعضهم: إنه لا يصل إلى الجوف، وليس بنافذ إلى الجوف لمكان الرشح الذي يكون عن طريق الكلية، قالوا: وهذا لا يوجب فطره، ومن هنا استثنى المصنف رحمه الله الإدخال عن طريق الإحليل بالنسبة للرجل. الأسئلة الإفطار بالنية إذا لم يجد شيئاً يفطر به السؤال من لم يجد ما يفطر عليه فهل يفطر بالنية؟ الجواب على القول بأن النية تعتبر موجبة للفطر؛ فإنه يجزيه أن يفطر بالنية، بل يجب عليه أن ينوي أنه مفطر، وحينئذٍ يعتبر مفطراً، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: ( أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً ) فيصيب السنة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السنة والهدي تعجيل الفطر وتأخير السحور، وعلى هذا فإنه ينوي إذا لم يجد طعاماً وشراباً، كما لو خرج من بيته، وأدركه وقت الأذان وهو في سيارته، وليس عنده طعام ولا شراب؛ فإنه ينوي في قلبه أنه مفطر على هذا الوجه، والله تعالى أعلم. حكم وضع الطعام في الفم ثم لفظه السؤال من وضع الطعام في فمه وتذكر أنه صائم فلفظ الطعام، ثم وجد طعمه في فمه، فما حكمه؟ الجواب من وضع الطعام في فمه، ثم تذكر أنه صائم ولفظه؛ فإن صومه صحيح، ويجب عليه أن يتمضمض وأن ينظف فمه حتى لا يمازج اللعاب تلك المادة الغريبة عن الفم، ومن هنا: إذا استاك بالمعجون ونحو ذلك فإنه يجب عليه أن يتنظف حتى تذهب مادة المعجون، فإذا مازجت مادة المعجون اللعاب واختلطت به فإن هذا يوجب فطره؛ لأنها مادة غريبة كما لو وضع تلك المادة الغريبة قصداً. وعلى هذا: لابد له من المضمضة ومن التنظيف، فإن امتنع من المضمضة والتنظيف وبلع ريقه الذي فيه طعم ذلك الطعام، وفيه مادة ذلك الطعام وجرمه، أو حتى تحلل في ريقه، فإن هذا يوجب فطره، والله تعالى أعلم. حكم من بالغ في الاستنشاق جاهلاً بالحكم السؤال ما حكم من كان يبالغ في الاستنشاق وهو جاهل بالحكم، وكان يجد الماء في حلقه؟ الجواب من كان يبالغ في الاستنشاق ويجد طعم الماء في حلقه فإنه مفطر، ويلزمه قضاء تلك الأيام، والعذر بالجهل عذر في زمان التشريع، وأما بعد استقرار الشريعة فإنه ليس بعذر لإمكان سؤال العلماء، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على أن من بلغ ووجبت عليه عبادة فينبغي قبل أن يفعلها أن يسأل عن كيفية فعلها، فكونه يقصر في سؤال العلماء لا يعد جهله عذراً شرعياً، وعليه القضاء بالتقدير، والله تعالى أعلم. حكم استعمال حبوب منع العادة في رمضان السؤال إذا تناولت المرأة ما يؤخر عادتها لكي تتمكن من صيام رمضان كاملاً، فما حكم ذلك؟ الجواب ترد هنا مسألتان: المسألة الأولى: هل يجوز للمرأة أن تتناول الحبوب التي تؤخر العادة؟ الصحيح: أنه لا يجوز لها ذلك؛ لما فيه من إدخال الضرر على النفس، ولما فيه أيضاً من فوات المقصود شرعاً من حصول النسل، ولما فيه من إرباك العادة واختلالها على وجه قد تصبح المرأة فيه مضطربة العادة، حتى لا تستطيع أن تميز بين كونها حائضاً أو كونها مستحاضة، وتعاطي الأسباب للإخلال لا يجوز، وبناءً على ذلك: أرجح الأقوال في هذا أنه لا يجوز تعاطي مثل هذه الحبوب، وقد ثبت طبياً مؤخراً أنها تضر بالبدن، وأصبح وجود الضرر فيها موجباً لمنعها. المسألة الثانية: لو أنها استعملت هذه الحبوب، ومنعت الدم شهر رمضان كاملاً، فهل صومها صحيح؟ أصح الأقوال: أن صومها صحيح؛ وذلك لأن الشرع علق الإبطال بوجود الدم، والدم غير موجود، ولذلك أصح الأقوال أن صومها صحيح، وحجها وطوافها بالبيت على هذا الوجه صحيح، وهو أصح أقوال العلماء المتأخرين الذين تكلموا على هذه المسألة، وبناءً عليه: فإن الدليل على صحة صومها وحجها وصلاتها أن الشرع علق المنع والتحريم على وجود الدم، والدم غير موجود، وبناءً على ذلك يعتبر صومها وصلاتها وسائر عبادتها صحيحاً من هذا الوجه، والله تعالى أعلم. حكم مباشرة الزوجة في نهار رمضان السؤال من باشر أهله في نهار رمضان من غير إنزال، فهل يعتبر مفطراً وعليه الكفارة؟ الجواب من باشر أهله فإنه يعتبر متعدياً لحد الله عز وجل؛ وذلك لأن الغالب في المباشرة أنه لا يأمن معها الوقوع في المحظور، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) ولذلك قال العلماء: ينقص أجره في الصوم بقدر مباشرته، وعلى هذا فإنه لا يجوز له أن يتعاطى هذه الأسباب، وقد قال عليه الصلاة والسلام ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه ) فالله عز وجل حرم على المكلف أن يجامع أهله، والحمى الذي حول الجماع للصائم أن يباشر أهله فيتجرد هو وزوجته على وجه يحرك الشهوة، وهو صائم في فريضة من فرائض الله عز وجل فلا يأمن معها الإخلال، ولا يأمن معها أن يقع في حد الله عز وجل وحرمته. ولذلك: لا يجوز له أن يتعاطى مثل هذه الأسباب، فإن حفظ نفسه ولم ينزل فإن صومه صحيح، ولكنه ناقص الأجر، وقال بعض العلماء: شرعت صدقة الفطر جبراً لمثل هذا النقص، وأما لو أنزل وحصل منه الإنزال دون إيلاج فللعلماء فيه قولان: قال الحنفية والمالكية: عليه القضاء والكفارة؛ لأن الكفارة مرتبة على كونه انتهك حرمة شهر رمضان. وقال الشافعية والحنابلة: عليه القضاء دون الكفارة -وهو الصحيح- وإنما يجب عليه أن يقضي ذلك اليوم؛ لأنه بإنزاله لم يمسك على الوجه المعتبر في صومه، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وشهوته) ومن أنزل بالاستمناء أو مباشرة الأهل أو النظر إلى الصورة التي تثير شهوته، أو النظر إلى زوجته، أو كثرة تعاطي الأسباب الموجبة للإنزال فأنزل فإن صومه يعتبر فاسداً، وعليه القضاء، والله تعالى أعلم. معنى صيام يوم في سبيل الله السؤال في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من صام يوماً في سبيل الله ) إلى آخر الحديث هل هذا الحكم خاص بالمرابط، أم هو على العموم؟ الجواب للعلماء في هذا الحديث قولان: قال بعض العلماء: هذا الحديث خاص بالمجاهد في سبيل الله، سواء كان مرابطاً أو كان في حال القتال، وقالوا: السبب في ذلك: أن سبيل الله إذا أطلق المراد به الجهاد، وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة، فينصرف إلى الغالب المشهور، وقال بعض العلماء: إن قوله: (في سبيل الله) أي: ليس بواجب، وإنما صامه قربة ونافلة لله عز وجل، وقالوا: لأن المجاهد الأفضل له أن يتقوى بالفطر، ولذلك لا يكون صائماً في حال قتاله؛ حتى لا يضعف عن لقاء العدو، ويرجحون من هذا الوجه أن قوله: (في سبيل الله) المراد به النافلة، وكلا الوجهين له قوة وحظ من النظر، وكنت أرجح القول الذي يقول بالتخصيص، ولكن تبين أن الإطلاق أقوى، وإن كنت لا زلت متردداً في ترجيحه، والتوقف في هذه المسألة في نظري هو الذي ملت إليه. فالحديث محتمل لكونه في سبيل الله في الجهاد، ومحتمل أن يكون (في سبيل الله) أي: طاعة وقربة لله عز وجل، وكان الذي يترجح عندي من قبل أنه الجهاد؛ وذلك لأنه المعهود في إطلاق الشرع؛ ولأنه لو كان المراد به النافلة المطلقة لقال: من صام نافلة ولم يخص بقوله: (في سبيل الله). فهذان الوجهان يقويان أن يكون في الجهاد، ولما ظهر قول من يقول: إن المجاهد يتقوى بفطره على الجهاد، وكان ذلك أبلغ في حصول المقصود من جهاده تعارض القولان عندي، وتوقفت في هذه المسألة حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين. والله تعالى أعلم. حكم من أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان التالي السؤال إنسان لم يصم سنتين قديماً، وهو الآن شارع في القضاء، فهل القضاء كاف أم عليه القضاء والإطعام معاً، أم عليه الإطعام مع التوبة فقط؟ الجواب من أفطر في رمضان فإنه يلزمه القضاء، سواء وقع فطره متعمداً أو لعذر؛ فإذا أفطر رمضان كاملاً لزمه قضاء رمضان كاملاً، ويعتبر القضاء مؤخراً في حقه، فيجوز له أن يؤخر القضاء ما لم يبق على رمضان الثاني بقدر ما عليه من القضاء؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: ( إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ) أخذ العلماء من هذا دليلاً على أن قضاء رمضان موسع، فإذا ماطل الإنسان وأخر وقصر حتى دخل رمضان الثاني، فجماهير العلماء على أنه يلزمه القضاء مع الكفارة، فيكفر عن كل يوم ربع صاع، وعن كل شهر سبعة آصع ونصف، وعلى هذا: فإنه يحسب الرمضانات التي أخل فيها، ويلزمه القضاء مع التكفير على قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم. والله تعالى أعلم. مسألة في حكم حياة الشخص بالتنفس الصناعي السؤال من مات دماغياً واحتيج إلى الجهاز الذي يستخدمه لوصله بشخص آخر، فهل يؤخذ منه ولا يكون في ذلك إزهاق لنفس مسلمة؟ الجواب هذه المسألة تعتبر من النوازل المعاصرة، وموت الدماغ مسألة تحتاج إلى نظر وعدم استعجال في الفتوى، وذلك لأن مسألة موت الدماغ نفسها لم يتفق فيها الأطباء على ضوابط معينة، فهناك تقريباً ثلاث مدارس في تحديد المفهوم لموت الدماغ، ومع هذا حصلت حوادث يحكم فيها على إنسان بأنه ميت دماغياً، ثم بعد ذلك يفيق، وقد حصل هذا ووقع، وقد اطلعت على بعض الحوادث التي نقلت بأنه حكم بموته دماغياً، وأعرف حتى من أهل العلم والفضل من حكم عليه بالموت دماغياً، وأرادوا أن يأخذوا منه أعضاء للتبرع، ثم تأخر الورثة وحصل بينهم شقاق خلال أسبوع، فشاء الله أن يفيق بعد أسبوع. فهذه مسألة ليست من السهولة بمكان، إضافة إلى أن التشخيص والضوابط التي اطلعت عليها من كلام الأطباء في مسألة الموت الدماغي أو الموت السريري، هذه الضوابط لا تتيسر إلا في أرقى المستشفيات، فكوننا نفتي وتكون الفتوى عامة فهذا أمر يحتاج إلى تريث؛ فإنه لابد من الاحتياط لأرواح الناس وعدم الاستعجال في مثل هذه المسائل. لكن لو أن شخصين أحدهما ميئوس منه؛ لأن الأمراض تتفاوت ودرجاتها مختلفة، فهناك أمراض ميئوس من علاجها كالسرطانات ونحوها، أو يكون الإنسان في سن يغلب على الظن هلاكه وأصابه مرض قل أن يشفى منه أو الغالب أنه لا يشفى منه، وهناك حالة طارئة طرأت لإنسان مرضه غير ميئوس منه، والغالب أننا لو وضعنا عليه الجهاز فإنه يشفى ويعافى، فحينئذ هل للطبيب أن يسحب الجهاز من هذه الحالة الميئوس منها إلى هذه الحالة التي يمكن علاجها؟ فالجواب: نعم، كما لو دخل مريضان على طبيب وقد أشرفا على الموت، وأحدهما أرجى نجاة من الآخر؛ فإنه ينصرف إلى الذي هو أرجى ويغلب على ظنه أنه يحيا، والسبب في هذا: أن اشتغاله بهذه الحالة الميئوس منها مفض إلى مصلحة مظنونة وضعيفة الحصول، مع فوات مصلحة متيقنة أو غالبة وهي مصلحة الشاب أو الشخص الذي مرضه غير ميئوس منه، لكن إقباله على هذه الحالة التي لا ييئس منها مصلحة غالبة ومصلحة راجحة، تعارضها مصلحة متوهمة، فكان الترجيح؛ لأن الشرع يقدم في المفاسد درء أقواهما وفي المصالح أرجحهما، فإذا تعارضت مصلحتان تقدم أرجحهما، وإذا تعارضت مفسدتان تدرأ أكبرهما، والدليل على ذلك أن الخضر كسر السفينة لخوف أن تؤخذ السفينة بكاملها، فقالوا: هذا يدل على أنه إذا تعارضت مفسدة فوات السفينة بكاملها، وكونه يكسر جزءاً منها ويعيبها، يدل على أن الضرر الأخف يَدْفَع ما هو أعظم منه، ويراعى ما هو أغلب ضرراً وأعظم. فمثل هذه الحالات التي يغلب على الظن الشفاء والعلاج فيها، مثل: حوادث السيارات، فيدخل المريض وهو في حالة من الخطر ويتوقف علاجه على الأجهزة؛ فإننا نقدمه على تلك الحالة الميئوس منها، ويجوز للطبيب في هذه الحالة خاصة، وهي التي توصلت إليها من خلال البحث -أي: هي الحالة التي يجوز فيها سحب أجهزة الإنعاش عن المريض- أن توجد حالات غير ميئوس منها أو الغالب على الظن علاجها، فإنها تقدم على الحالة الميئوس منها والتي كانت تعالج من قبل، والله تعالى أعلم. مسألة الإنصات عند سماع القرآن السؤال قال الله تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا } [الأعراف:204] هل الحكم خاص بالصلاة، أم هو عام حتى خارج الصلاة؟ الجواب هذا فيه تفصيل: إذا كان المكان مهيأ لتلاوة كتاب الله عز وجل، كأن يكون في حلق علم وحلق دراسة للقرآن فلا يجوز لأحد أن يجلس في الحلقة وهو يحدث صاحبه؛ حتى لا يشوش على إخوانه، بل ينتحي مع زميله ناحية بعيداً عن هذه الحلق. أما لو كان المكان غير مهيأ، كأن يكون الإنسان ماشياً في الطريق، أو سمعه عرضاً في دكان أو بقالة أو نحو ذلك فلا يلزمه أن يستمع، ولكن لو استمع فهو أفضل، والمرد بذلك أن يكف عن الكلام ويصغي، حتى ولو كان يمشي، وهكذا المرأة لو كانت في عملها وشأنها وتصغي لكتاب الله وتستمع له، وتتأثر بالآيات التي فيه فهذا خير، وهي عبادة السمع والقلب. فإذا كان الإنسان يريد الأفضل فليستمع، وأما بالنسبة لوجوب الإنصات فهذا في الصلاة من جهة تعين الإنصات، أما في الطريق أو أثناء المرور على حلقة علم لا يلزمه أن يجلس ويستمع، وإنما يلزمه الاستماع والإنصات في الصلاة، وأما خارج الصلاة فالعلماء يفصلون بين المكان المهيأ وغير المهيأ. ومن هنا ينبه على مسألة جلوس البعض في حلق العلم يتحدث بعضهم مع بعض وخاصة النساء، وقد اشتكت بعض الأخوات في بعض المساجد من أن بعض النساء يأتين في أثناء حلق العلم أو المحاضرات ويتكلمن ويتحدثن داخل مصلى النساء، ويشوشن على أخواتهن. وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر، ومن أعظم الضرر أن يأتي طالب العلم أو تأتي طالبة العلم وقد تركت مصالحها وتفرغت لكلام ربها وكلام رسولها عليه الصلاة والسلام؛ تريد أن تستفيد وأن تتعلم، ثم تأتي هذه المرأة لكي تشوش على أخواتها، فهذا من أعظم الضرر، وإني أخشى على أمثال هؤلاء أن تصيبهم دعوة المؤمنين والمؤمنات، والإنسان إذا ظلم أخاه ودعا عليه فإنه لا يعود عليه بخير، فعلى الإنسان أن يبتعد عن أذية إخوانه المسلمين؛ فإذا كان يريد التحدث فليخرج من المسجد أو ينتحي ناحية بعيدة عن الحلق؛ حتى لا يشوش على إخوانه المصلين وكذلك على إخوانه الذاكرين لله عز وجل، سواءً كان ذلك في حلق علم أو في محاضرات أو في قراءة قرآن . أو نحو ذلك. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (200) صـــــ(1) إلى صــ(24) شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [2] مما يفسد الصوم ويوجب القضاء: القيء عمداً، والاستمناء، والمباشرة مع الإنزال، والإنزال بسبب تكرار النظر، وهناك خلاف بين العلماء في الحجامة هل تفطر أو لا؟ وهناك أمور لا تفسد الصوم ولا توجب القضاء، ومنها: من طار الى حلقه ذباب ونحوه، ومن فكر فأنزل المني أو احتلم في نهار رمضان ونحوها، وهناك مسائل متعلقة بالشكل في طلوع الفجر وغروب الشمس مبينة في موضعها. من مفسدات الصيام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المؤلف عليه رحمة الله: [أو استقاء أو استمنى، أو باشر فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد]. القيء عمداً مفسد للصوم لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا ما يوجب فساد صوم الصائم، فقال رحمه الله: (أو استقاء) وقد تقدم أن طلب القيء يعتبر موجباً لفساد الصوم، والأصل في ذلك ما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من استقاء فقاء فليقض ) فقد دل هذا الحديث على أن الصوم يفسد بالقيء، وهناك فرق بين من استقاء وبين من ذرعه القيء؛ فالإنسان له حالتان: الحالة الأولى: أن يستدعي القيء، وذلك بإدخال إصبع أو نحو ذلك من الأفعال التي تحركه فيقيء ما في بطنه، فإذا استقاء بمعنى أنه تعاطى الأسباب التي يستدعي بها القيء فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً، وعليه قضاء ذلك اليوم. أما الحالة الثانية: بالنسبة لمن ذرعه القيء وغلبه، سواء سمع ما يكره أو رأى ما يوجب اشمئزازه ونفرته فذرعه القيء فقاء؛ فكل هؤلاء يعتبرون في حكم المعذورين، ولذلك لا يجب عليهم قضاء، وحكي الإجماع على هذه المسألة -أعني مسألة القيء- فقالوا بالتفريق بين من ذرعه القيء وغلبه، وبين من تعاطى أسباب القيء، فإذا تعاطى وجب عليه القضاء، وإذا غلبه القيء لا قضاء عليه. الاستمناء من مفسدات الصيام [أو استمنى]. الاستمناء: أن يطلب خروج المني، وهو على وزن (استفعال)، والمراد بذلك أن يحرك شهوته إما بيد أو بتحكك على أرض أو على جدار أو نحو ذلك، كل ذلك يعتبر استمناءً، وكانت العرب في الجاهلية تسميه (جلد عميرة) يكنون به عن استخراج المني، ومنه قول الشاعر: إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لا أَنِيسَ بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لا عَيْبٌ ولا حَرَجُ فجاء الإسلام بتحريم هذه العادة المشينة القبيحة، فقد قال سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [المؤمنون:5-7] فبين سبحانه أن من طلب شهوته، وكان طلبه خارجاً عما أحل الله من الزوجة والسّرية؛ فإنه يعتبر متعدياً لحدود الله عز وجل. وهذا القول قال به أئمة من السلف وفسروا به الآية، وقالوا: إنها تدل على تحريم الاستمناء، وقد وردت أحاديث في تحريم هذه العادة؛ حتى إن بعض العلماء جمع طرقها وقال: إنها يقوي بعضها بعضاً، بحيث تدل على أن للحديث أصلاً في التحريم. والشاهد من هذه المسألة: أن من حرك شهوته بنفسه أو عن طريق زوجته: فاستمنى بها بمفاخذة أو نحو ذلك؛ فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم إذا خرج منه المني. والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي عن الله تعالى في حق الصائم: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته ) فلما قال: (وشهوته) أطلق، فشمل الشهوة الكبرى سواءً كانت عن طريق الجماع أو كانت عن طريق الاستمناء، فإذا أنزل المني فقد حصلت شهوته، وهي شهوة كبرى، وبناءً على ذلك يعتبر غير صائم؛ لأن الصائم يدع هذه الشهوة، ومن استمنى لم يدع هذه الشهوة. وبناءً عليه: فإن الاستمناء يعتبر من موجبات الفطر. وشذّ الظاهرية رحمة الله عليهم فقال بعض فقهائهم: إن الاستمناء ليس بحرام، ولا يوجب الفطر. ولا شك أن النصوص التي قدمنا تدل على حرمته، إضافة إلى ما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ) فلو كان الاستمناء جائزاً لقال: فعليه بالاستمناء، فدلت هذه النصوص من الكتاب والسُّنة على تحريم الاستمناء، ودل حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه -وهو ثابت في الصحيح- وفيه: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) على أن من استمنى أنه يعتبر مفطراً. وعلى هذا: فإنه يستوي أن يستمني بنفسه أو يستمني بواسطة الغير، فكل ما استدعى به خروج منيه يعتبر موجباً لفطره إذا خرج ذلك المني. والعبرة في المسألة بخروج المني، فلو استمنى ولم يخرج مني أو حرك شهوته ولم يخرج المني فإن الشهوة لم تقع على الصورة الكاملة، فلا ينتقض صومه ولا يلزمه قضاء، ولكنه يعتبر ناقص الأجر بمثل هذا كما ذكر ذلك بعض العلماء رحمة الله عليهم. المباشرة المسببة لنزول المني أو المذي مفسدة للصوم [أو باشر فأمنى أو أمذى]. أو باشر امرأته فأمنى أو أمذى، والمباشرة (مفاعلة) من البشرة، والمراد بها: أن تلي بشرته بشرة المرأة فتتحرك شهوته فينزل، وهذا يكون فيه المضاجعة التي لا جماع فيها، فإذا باشر امرأته فكأنه تعاطى السبب للفطر كما لو استقاء أو استمنى، ولذلك إذا أنزل المني سواءً بمباشرة أو استمناء فإنه يعتبر مفطراً. والدليل على كونه إذا باشر فأنزل أنه يعتبر مفطراً ما تقدم من حديث الشهوة، حيث دلت هذه السُّنة الصحيحة على أن الصائم لا يقضي شهوته بإنزال المني ولا بالجماع، فإذا باشر زوجته وأنزل منيه فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً ويلزمه القضاء. لكن قوله: (أمذى) المذي: هي القطرات القليلة اللزجة التي تخرج عند بداية الشهوة، بخلاف المني الذي يخرج دفقاً عند الشهوة واللذة الكبرى، فإذا حصل المني أفطر لقول جماهير العلماء كما ذكرنا، أما لو باشر زوجته فخرج منه المذي قطرة أو قطرات فإنه يعتبر مفطراً في قول الحنابلة والمالكية. وذهب الحنفية والشافعية إلى أنه غير مفطر، والصحيح: أن من باشر أو نظر إلى شيء فأمذى أن المذي لا يوجب الفطر؛ لأن المذي ليس كمال الشهوة، وبذلك لا ينتقض صومه. الإنزال بسبب تكرار النظر يفسد الصوم [أو كرر النظر فأنزل]. أو كرر النظر إلى ما يُشتهى فأنزل؛ لماذا قال: (كرر)؟ التكرار يحصل بالمرة الثانية؛ وذلك لأن النظر في المرة الأولى عفي عنه؛ لأنه ومما يشق التحرز عنه، فلو نظر إلى زوجته فأعجبته وبمجرد نظره إليها أنزل قالوا: إن هذا ليس بيده، وغالباً يكون مثل من ذرعه القيء؛ فاغتفروه، وأما إذا كرر النظر وتابع النظرة بعد النظرة فإنه يحرك شهوته كما يحركها المباشر والمستمني، فإن حصل إنزال على هذا الوجه فإنه يجب عليه القضاء. الحجامة من مفسدات الصيام [أو حجم أو احتجم وظهر دم]. أو حجم غيره أو احتجم لنفسه، فهناك حاجم وهناك محجوم، والحجامة تكون بمص الدم، وهي من الجراحات القديمة، وقد ثبتت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها من الأدوية، فقال عليه الصلاة والسلام: ( إن كان في شيء مما تتعالجون به شفاء ففي شرطة من محجم، أو آية من كتاب الله، أو شربة من عسل، أو كية من نار، ولا أحب أن أكتوي ) . فالحجامة من أنواع العلاج، ولا تزال إلى يومنا هذا، وتسمى من تخصصات الجراحة العامة في عصرنا الحاضر، وقد أقرتها الشريعة وحمدت العلاج بها، وهي تقوم على مص جزء من الدم من الجسم، ويختلف العلاج بها فتكون في الرأس، وتكون في الظهر، وتكون في أسافل البدن، وتحجم المواضع على حسب الأمراض والأدواء، فلكل داء ومرض مكان معين، ولربما لو تحرك عنه أو عدل عنه جاء بداءٍ أعظم من المرض الذي يريد أن يعالج من أجله، ففي الرأس مواضع لو حُجمت شفي الإنسان من ثقل النوم ومن أمراض الصداع، وفيه مواضع لو حُجمت أصابه النسيان، ولربما ذهبت ذاكرته، ولذلك هي تعتبر من أنواع العلاج لكن بشرط: ألا يحتجم الإنسان إلا عند إنسان يعرفها، فهي خطيرة، فكما أنها تأتي بالنفع فقد تأتي بالضرر. وهذه الحجامة تعتبر محل خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، هل إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره يعتبر مفطراً أو لا؟ ففي ذلك سنن وآثار مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث أحمد و أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) وهذا الحديث رواه بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أوصلهم الإمام الحافظ الزيلعي رحمة الله عليه إلى ثمانية عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم روى عنه هذا الحديث. إلا أن أكثر هذه الأحاديث ضعيف ولا يقوى سنده؛ ولكن هناك أحاديث حكم بتحسينها، وجزم بعض العلماء والحفاظ بتصحيحها، فقد صححها الإمام أحمد رحمة الله عليه، والإمام البخاري يحكى عنه تصحيح حديث الحجامة في الفطر، وغيرهما من الأئمة رحمة الله على الجميع، والعمل على ثبوت قوله عليه الصلاة والسلام: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) قالوا: فقوله: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) يدل على أن من حجم أو احتجم يعتبر مفطراً. ووجه ذلك: أن الحاجم -وهو الشخص الذي يقوم بالحجامة- ولأن الحجامة تحتاج إلى مص الدم -فيُشرَّط الموضع ثم يُمص الدم الفاسد- فلا يأمن من أن يمص شيئاً من ذلك الدم. وأما المحجوم: فلأن الحجامة تضعف بدنه وتنهك قوته، ولذلك قالوا: إنه يعتبر مفطراً، ويستوي الحكم في الحاجم والمحجوم. وذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم -وهو قول طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أنس وغيره- أن هذا الحديث منسوخ، ومنهم من يقول: إن حديث: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) يُخرج على غير الفطر الحقيقي. واختلفوا في ذلك، فقالت طائفة: إن هذا الحديث ورد في سبب مخصوص، وذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بالبقيع -كما في بعض الروايات- على حاجم ومحجوم وسمعهما يغتابان الناس وهما صائمان، فقال عليه الصلاة والسلام: أفطر الحاجم والمحجوم ) أي: أنهما بغيبتهما للناس قد أذهبا أجر صيامهما، فكأنهما أفطرا. والعرب تقول: أفطر، وتقول: أصبح، وتقول: أمسى، وهو لم يمس ولم يفطر ولم يصبح حقيقة؛ وإنما المراد: أنه تعاطى شيئاً يفوّت المقصود كما في حال الصائم هنا: لما تعاطى الغيبة كأنه ذهبت حسناته فكأنه لم يصم أصلاً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) هذا الوجه الأول. والوجه الثاني -وهو أقوى الوجوه-: أن قوله عليه الصلاة والسلام: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) المراد به أنهما أوشكا على الفطر، كما تقول: أصبحتَ أصبحتَ. أي: ويحك كدت أن تصبح. كما في حديث ابن أم مكتوم ( وكان لا يؤذن إلا إذا قيل له: أصبحتَ أصبحتَ ) . وهذا موجود في لغة العرب إلى يومنا هذا، فإنك تقول للرجل: هلكتَ هلكتَ! وأنت لا تقصد أنه هلك حقيقة، كأن يكون قريباً من نار أو قريباً من بلاء، فتقول له: احترقتَ احترقتَ! وهو لم يحترق حقيقة؛ وإنما المراد أنه في موضع يعرضه للاحتراق. قالوا: فقوله: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) أي: أن الحاجم لا يأمن من دخول شيء من الدم إلى جوفه، والمحجوم لا يأمن من الضعف الذي يفضي به إلى الفطر، وهذا نسميه تأويل الحديث بما يدل عليه الحال، فإن الحال يدل دلالةً واضحةً على أنه سينهك بدن المحجوم، ولا يأمن الحاجم من ازدراد الدم، ولذلك لا تستطيع أن تقول: إن الحاجم أفطر حقيقة؛ لأن المفطر حقيقة يأكل أو يشرب أو يتعاطى شهوة توجب فطره، فلما كان الحاجم والمحجوم لا يأكلان ولا يشربان، وإنما فيهما معنىً يفضي بهما إلى الضعف الذي ينتهي إلى الفطر قَوِيَ حمل الحديث على هذا الوجه. وهناك وجه ثالث -وهو من أقوى الأوجه، واختاره جمع من الأئمة رحمة الله عليهم كما أشار إليه الإمام ابن حزم الظاهري وغيره- وهو: أن حديث: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) كان في أول الإسلام ثم نسخ، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك قال: (إنما كان رخصة) وكذلك مثله حديث أبي سعيد الخدري قال: ( ثم رُخص في الحجامة ) قالوا: فقوله: (ثم رخص في الحجامة) يدل على أن الأمر كان في الأول عزيمة ثم خفف فيه، وهذا هو القول الأقوى والأوجه في هذه المسألة. إضافة إلى أنه ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ) و ابن عباس من صغار الصحابة، ولذلك قالوا: إنه يقوى أن يكون حديث الناسخ متأخراً عن المنسوخ، وهو حديث الرخصة الذي ذكرناه عن أنس بن مالك و أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. وعلى هذا الوجه: فإن الحجامة كانت في أول الأمر موجبة لفطر الحاجم والمحجوم، ثم نسخ ذلك وأصبحت رخصة، كما قال أنس : (ثم رخص بَعْدُ في الحجامة) وعليه: فإنه إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره فإنه لا يعتبر مفطراً. لكن على القول بأن الحجامة تفطر فقالوا: لا تكون مفطرة إلا إذا مص الدم - أعني الحاجم - فلو أنه فصده، بمعنى قطع منه العرق وجرى الدم، والفرق بين الحجامة والفصد: أن الحجامة تكون لأوعية الدم، فتمتص ما هناك من الدم الفاسد، وأما بالنسبة للفصد فإنه يكون للعروق، فالفصد لايعتبر موجباً لفطر الفاصد؛ لأنه لا يمص؛ ولكن هل يكون مؤثراً في صيام المفصود؟ قال بعض العلماء: الفصد يلتحق بالحجامة من جهة أنه ينهك بدن المفصود، بل قد يكون الفصد أقوى وأبلغ في التأثير على الجسم من الحجامة؛ لأنه يتصل بالعروق، وجريان الدم في العروق أشد من جريانه في الأوعية، وتضرر الإنسان بالفصد أعظم من تضرره بالحجامة. وعلى القول بأن الفصد يوجب الفطر فإن من تبرع بدمه يدخل في هذا؛ لأن الفصد إخراج للدم من العرق، والتبرع بالدم إخراج للدم من العروق. وعلى هذا فإنهم يقولون: إذا خرج منه الدم على هذا الوجه فإنه يعتبر مفطراً؛ لكن لو خرج الدم بغير اختياره كرعاف ونزيف من جرح ونحو ذلك قالوا: لا يعتبر مفطراً؛ لأنه هناك أدخل الضرر على نفسه، بخلاف ما إذا غلبه الرعاف أو طعن أو جرح؛ فإنه لا يعتبر مفطراً. [وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد]. يشترط في الحجامة -كما قلنا-: أن يظهر الدم، ومفهوم قوله: (وظهر دم) أنه إذا لم يظهر الدم فإنه لا يعتبر مفطراً. ومثال ذلك: لو أنه شرطه وأذن المغرب فخرج الدم بعد أذان المغرب فإنه لا يعتبر مفطراً؛ لأن خروج الدم الذي ينبني عليه الحكم بالفطر إنما وقع بعد الأذان، وعليه: فإنه لا يعتبر مفطراً من هذا الوجه. وأما لو شرطه وخرج الدم قبل الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً على هذا القول. [عامداً ذاكراً لصومه فسد]. (عامداً): أي متعمداً للحجامة، فلو أكره عليها لم يؤثر. (ذاكراً لصومه): فلو كان ناسياً لم يؤثر، وقد قلنا إن الصحيح في هذا كله: أن الحجامة لا توجب الفطر. [عامداً ذاكراً لصومه لا ناسياً أو مكرهاً]. (لا ناسياً) أي: لا إن كان ناسياً؛ لأن النبي قال: ( من أكل أو شرب في نهار رمضان وهو ناس فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه ) فإذا كان الأكل والشرب مع النسيان لا يوجب الفطر، فكذلك الحجامة مع النسيان لا توجب الفطر. وقوله (لا ناسياً أو مكرهاً) المكره: ضد المختار وهو الذي يأتي الشيء بغير اختياره، والإكراه له شروط، فإذا تحققت شروط الإكراه المعتبرة شرعاً فإنه يسقط عنه التكليف في قول جماعة من أهل العلم رحمة الله عليهم، وأصول الشريعة دالة على ذلك، فقد قال تعالى: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } [النحل:106] فأسقط الله المؤاخذة بالردة، وهي كلمة الكفر إذا كان الإنسان مكرهاً عليها؛ فمن باب أولى فروع الشريعة، فإذا كان الإكراه لا يوجب الكفر فمن باب أولى أن لا يوجب الفطر ولا غيره من الإخلالات. الأشياء التي لا تفسد الصيام [أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار، أو فكر فأنزل، أو احتلم، أو أصبح في فيه طعام فلفظه، أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر، أو زاد على الثلاث، أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد]. من طار إلى حلقه ذباب أو غبار لم يفسد صومه [أو طار إلى حلقه ذباب]. كأن يكون الإنسان يتكلم فلا يشعر إلا والذباب قد دخل في حلقه، فقد غلبه، فهذا لا يؤثر. [أو غبار]. فالغبار إذا قصده فإن له جرم ومادة ويوجب هذا الفطر، وقد قررنا هذه المسألة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل قطرات الاستنشاق يحظر على الإنسان أن يتعاطى أسبابها في الأنف -في قوله صلى الله عليه وسلم: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )-؛ والسبب في ذلك: أن لها جرماً، ويستوي في ذلك القليل والكثير، ولذلك لو أخذ قليلاً من الطين وطعمه وجاوز اللهاة فإنه يفطر بلا إشكال، فكذلك لو قصد الغبار فلعقه، أو فتح فمه له قاصداً دخوله فإنه يعتبر مفطراً، فإذا طار الغبار أو الذباب فدخل حلقه فلا يفطر؛ لأنه مما يشق التحرز منه. من تفكر فأنزل المني لم يفسد صومه [أو فكر فأنزل]. قوله: (أو فكر فأنزل) لا يفطر فإنه مما يشق التحرز والتوقي عنه، والأصل في الشريعة أنه لا حرج فيه، فإننا لو قلنا: إن الإنسان إذا فكر فأنزل يجب عليه القضاء فإن هذا مما يشق التحرز عنه كحديث العهد بالعرس ونحو ذلك، كما يكون حديث العهد بالجماع قبل الفجر، فمثل هذا إذا دهم عليه التفكير فإنه يعتبر مما يشق التحرز عنه كمسألة الغبار. والمصنف يقصد من هذا أن الفقهاء عندما يأتون بهذه الصور مرادهم أن تأخذ القاعدة والأصل، وهو: أن الفطر يكون بالاختيار، ولذلك انظر في قوله: (لا ناسياً أو مكرهاً) ثم بعد ذلك قال: (أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار) تأمل قوله: (مكرهاً) ثم أتبع بعدها طيران الغبار والذباب، فتفهم من هذا دقة المصنف وأن مراده أن يجعلك في دائرة معينة، وهي: أن تفرق في الفطر بين ما يغلب الإنسان وبين ما لا يغلبه. فإذا سألك السائل عن شيء غلبه وشق التحرز عنه فإنه يعتبر في حكم المعذور، وأما إذا كان شيئاً يمكن توقيه وتحفظه منه فإنه يعتبر مفطراً. الاحتلام في نهار رمضان لا يفسد الصوم [أو احتلم]. والاحتلام: أن يرى الإنسان وهو نائم ما يحرك شهوته فينزل، فإذا احتلم على هذا الوجه فإنه لا يفسد صومه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: النائم حتى يستيقظ ) وقد أجمع العلماء على أن من نام واحتلم أنه لا يجب عليه الفطر، وبناءً على ذلك: إذا تقرر هذا كأن الإجماع يدلنا على أن الشريعة تفرق بين ما يغلب الإنسان وبين ما لا يغلبه، فهذا الشيء الذي هو الاحتلام أو طيران الغبار كأن تمشي في صحراء أو نحوها ولا يمكنك التوقي منه، فهذا كله مما يعفى عنه. من أصبح وفي فمه طعام فلفظه لم يفسد صومه [أو أصبح في فيه طعام فلفظه]. وهذا يحصل بعد السحور، فيؤذن أذان الفجر ولا يزال بقايا الطعام في فم الصائم، وخاصة فيما يكون بين الأسنان، فإذا لفظه فإنه لا يؤثر في صومه، لكنه لو بلعه وازدرده فإنه يعتبر مفطراً. الاغتسال في نهار رمضان لا يفسد الصوم [أو اغتسل]. أو اغتسل بالماء، فإن الاغتسال بالماء لا يوجب الفطر، ولذلك اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ابن عباس رضي الله عنه يجلسان في البرك بين مكة والمدينة يتنافسان أيهما أطول نفساً وهما ينغمسان في الماء؛ والسبب في ذلك: أنه ليس بشرب ولا بأكل حقيقة، ولا في حكم الأكل والشرب. وعلى هذا: فإن الانغماس في الماء والسباحة لا يوجب الفطر، وهكذا لو اغتسل فرش الماء وصبه عليه، فإن هذا كله مما لا يوجب الفطر؛ والسبب في هذا: أنه يصب الماء على ظاهر الجسد، وقد دلت الشريعة على أن صب الماء على ظاهر الجسد لا يوجب الفطر، ولذلك من تمضمض وهو صائم بالإجماع لا يفطر؛ لأن الفم من ظاهره، فكذلك إذا صب الماء على ظاهره. المضمضة والاستنثار والمبالغة فيها لا تفسد الصوم [أو تمضمض أو استنثر، أو زاد على الثلاث، أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد]. لو أنه تمضمض أو استنشق فله حالتان: الحالة الأولى: أن يتمضمض ويستنشق بدون تكلف، فهذا لا يفطر عند العلماء رحمة الله عليهم في قول الجماهير. الحالة الثانية: إذا كان تمضمضه واستنشاقه بطريقة فيها تكلف ومبالغة فللعلماء وجهان: منهم من يقول: إذا بالغ أفطر وهذا يفهم من السُّنة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط بن صبرة ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) قالوا: ففي هذه الحالة يعتبر مفطراً، وهذا القول هو أحوط القولين، وهو خلاف ما اختاره المصنف رحمة الله عليه. وعليه: فإنه إذا بالغ في المضمضة فغرغر بالماء، فأحس بالماء في حلقه فإنه يعتبر مفطراً، وهكذا لو بالغ في الاستنشاق فوجد طعم ذرات الماء في حلقه فإنه يعتبر مفطراً على أصح قولي العلماء؛ لأنه تعاطى السبب للإخلال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السبب، فدل على أنه إذا ارتكب المحظور وخالف النهي أنه يعتبر مفطراً. [أو زاد على الثلاث] قالوا: لأن الزيادة على الثلاث تعتبر غير مشروعة، فكأنه إذا زاد عن الثلاث زاد وبالغ، فكما أنه لا يشرع له المبالغة في حال الصيام في الاستنشاق والمضمضة، كذلك أيضاً إذا بالغ فزاد على الثلاث فإنها محظورة شرعاً، كالمبالغة في الاستنشاق المأذون به شرعاً، فيفطر هنا كما يفطر هناك سواءً بسواء لتعاطي السبب. من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه [ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه]. استيقظ رجل من الليل فشك هل طلع الفجر فيمسك أو لا زال الليل فيأكل؟ فبالإجماع على أنه يعتبر نفسه بالليل ويأكل ويشرب، وحينئذٍ لا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن لا يتبين له شيء، فإذا لم يتبين له شيء مثل أن يقوم في جوف الليل ولا يدري هل طلع الفجر أو لم يطلع، فيشرب أو يأكل ثم يرجع فينام، ويستيقظ بعد صلاة الفجر فلا يدري حينما قام فأكل أو شرب هل وقع أكله وشربه بعد تبين الفجر فيعتبر مفطراً أو وقع قبل الفجر فهو صائم؟ بالإجماع يعتبر نفسه أنه في الليل، ويحل له الأكل والشرب، وإذا لم يتبين له شيء فصومه صحيح. والدليل على ذلك: أن الأصل بقاء الليل حتى يتحقق من أن النهار قد طلع، والله أمرنا أن نبقى على اليقين، والشك لا عبرة به، وأصول الشريعة دالة عليه، ونصوص الكتاب والسُّنة تقتضي ذلك: أن العبرة باليقين، وأن الشك لا يلتفت إليه. ومن قواعد الشريعة: (اليقين لا يزال بالشك) وتفرع عليها قولهم: (الأصل بقاء ما كان على ما كان). فالأصل بقاء الليل، ونحكم بكونه يحل له الأكل والشرب والجماع حتى يتحقق أنه قد أصبح، فينتقل من يقين الحل إلى يقين التحريم. الحالة الثانية: أن يتبين له الأمر، فإن تبين له الأمر لا يخلو من صور: الصورة الأولى: أن يأكل ويشرب ثم يتبين له أن الفجر لم يطلع، مثال ذلك: استيقظت فأكلت أو شربت على أن الليل باقٍ، ثم نظرت في الساعة أو سمعت الأذان الأول فقد تبين لك أن الفجر لم يطلع، فحينئذٍ بالإجماع لا يؤثر؛ لأنه أكل وشرب في وقت مأذون به شرعاً. الصورة الثانية: أن يتبين له أن النهار قد طلع، فاختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: صومه صحيح. وقال الجمهور: عليه القضاء؛ لأنه تعاطى سبباً فيه تقصير؛ فألزم بعاقبة التقصير، وتوضيح ذلك أنه لو تحرى لتبين له أن الفجر قد طلع، فلما قصر فإنه يُلزم بعاقبة تقصيره، ويلزمه القضاء؛ لأن الله تعالى أوجب عليه أن يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا لم يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس حقيقة؛ فيُلزم بالقضاء، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم؛ لأنه قصر ويلزم بعاقبة تقصيره ويلزمه القضاء. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (201) صـــــ(1) إلى صــ(24) من أكل شاكاً في غروب الشمس فسد صومه [لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس]. لو غابت الشمس في الغيم، وفي الأزمنة التي لم يكن فيها ساعات، أو يكون الإنسان ليست عنده ساعة، فحينئذٍ يشك هل غابت الشمس أو لم تغب؟ فالأصل واليقين: أنه في النهار، فنقول له: يحرم عليك الأكل والشرب حتى تتحقق أو يغلب على ظنك أن الليل قد أقبل وأن الشمس قد غابت. بناءً على ذلك: إذا أمكن أن يرجع إلى ساعة ونحوها لا يجوز له أن يفطر حتى يتحقق عن طريق الساعة. وإذا لم توجد ساعة فإنه يُقدر الزمان، وذلك أن يحسب فيجلس إلى فترة يغلب على ظنه أن الشمس قد غابت، والدليل على ذلك حديث الدجال : ( أنه يمكث أربعين يوماً، يوم منها كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، قالوا: يا رسول الله! هذا اليوم الذي هو كسنة أتُجزينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، ولكن اقدروا قدره ) قال العلماء: فيه دليل على أن الصائم يرجع إلى التقدير إذا تعذر عليه الضبط بالحقيقة، فتقدر زماناً يغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فيه، فإذا قدرت هذا الزمان تفطر بعده. فإن أفطرت فلا تخلو من حالتين: إما أن يتبين لك الأمر أو لا يتبين -مثل ما تقدم معنا في السحور- فإن لم يتبين لك شيء، وغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فصومك صحيح؛ لأن الله تعبدنا بغلبة الظن، ولم يظهر ما يدل على بطلان الصوم وفساده. ثانياً: الحالة الأولى: أن يتبين لك أن تقديرك صحيح، مثلاً: لو أنك أكلت في هذه اللحظة، ثم دخل عليك رجل فسألته: كم الساعة؟ قال: الساعة السادسة، وغروب الشمس يكون عند السادسة إلا ربعاً، أو عند السادسة إلا عشرة دقائق، فما بين أكلك ودخوله عليك وإخباره لك وقت يدل على أن أكلك وشربك قد وقع بعد الغروب قطعاً، فحينئذٍ تبين لك صحة اجتهادك، فصومك صحيح. الحالة الثانية: أن يتبين لك أن الشمس لم تغب، وأن النهار لا زال باقياً، وأن أكلك وشربك وقع في حال النهار، فللعلماء قولان مشهوران: قال بعضهم: إنه يلزمه القضاء؛ لأنه قصر فيُلزم بعاقبة تقصيره كمسألتنا في السحور، وكذلك فيه حديث البخاري وسئل هشام بن عروة رحمة الله عليه: (أَقضوا ذلك اليوم؟ قال: ليس في القضاء شك، أو ما من القضاء بُد). قالوا: فهذا يدل على أنه يُلزم بالقضاء، وهذا أقوى، ولذلك قال عمر : الخطب يسير. أي: قضاء يوم مكانه. وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس لما فيه من الورع، ولما فيه من إعمال الأصل من مطالبة الصائم بالضمان بسبب تقصيره؛ لأنه قصر نوع تقصير؛ إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً، والقاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه). وتوضيح ذلك: أن الصوم حقٌ لله، وحق الله دين على المخلوق، ودلت السنة الصحيحة على هذا الأصل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج: ( أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى ) فجعل الحج الذي هو ركن الإسلام دَيْناً، والصوم الذي هو ركن الإسلام دَينٌ على المخلوق. وعلى هذا: إذا كان الصوم دَيْناً وحقاً لله عز وجل، فإنك لو كنت في دين المخلوق وظننت أنك قضيته حقه، ثم تبين أنك لم توفه وأن هناك نقصاً ألزمت بكمال النقص، فحق الله أولى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( فدين الله أحق أن يقضى ). فإذاً: قد دلت أصول الشريعة على أنه يطالب بالقضاء؛ لأنه لم يصم اليوم على وجهه؛ ولأنه قصر، إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً؛ ولأنه حق لله عز وجل لا يسقط بالظن الخاطئ، فيلزمه القضاء. قد يقول القائل: ما فائدة الخطأ؟ نقول: خطؤه يسقط الإثم عنه، وكونه لا إثم عليه لا يسقط الضمان، كما لو قتل إنساناً خطأً، نقول: قَتْلُه بالخطأ يسقط الإثم عنه؛ لكن الضمان لهذه النفس يجب عليه. ومن هنا نرى أن أصول الشريعة تجعل المخطئ يُلزم بالضمان، ولذلك حتى في قتل الخطأ تلزمه الشريعة بعتق الرقبة، فإذا لم يجد صام شهرين متتابعين لمكان الإخلال؛ لأنه ما من مخطئ إلا وقد قصر نوع تقصير، وعلى هذا قوي أن يقال: إنه يطالب بقضاء ذلك اليوم، ولما فيه من براءة الذمة والقيام بحق الله عز وجل على أتم وجوهه. [ أو معتقداً أنه ليلٌ فبان نهاراً ]. مثل ما ذكرنا في مسألتنا: أكل أو شرب ظاناً أن الشمس قد غابت، ثم تبين له أن الشمس لم تغب، فإنه يلزم بقضاء ذلك اليوم، خلافاً لما اختاره رحمة الله عليه بأنه لا قضاء عليه. الأسئلة حكم الإفطار لظن الغروب خطأ السؤال إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب في رمضان خطأً، وأفطر الناس على أذانه قبل الغروب، فهل عليهم القضاء أثابكم الله؟ الجواب إن المؤذنين مؤتمنون على صيام الناس، ويتحملون هذه الأمانة ويسألون عنها بين يدي الله عز وجل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أحمد و أبي داود في السنن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن ) . قالوا: فقوله: (والمؤذن مؤتمن) أي: مؤتمن على صيام الناس؛ لأنه يؤذن للإمساك ويؤذن للفطر؛ فإذا تساهل المؤذن ولم يتحر ولم يضبط الوقت بأذانه خاصة في الفجر وفي المغرب فإنه يتحمل إثم كل من أفطر بأذانه، خاصة إذا كان ذلك على سبيل الاستهتار والتلاعب، وتجده يتسحر ويأكل، ولربما خرج من بيته وقد دخل الفجر ولا يؤذن إلا بعد الوقت المعتبر بعشر دقائق أو خمس دقائق. فمثل هذا آثم شرعاً، خائن للأمانة التي حمله الله إياها، خاصة إذا كان معيناً ويعطى راتباً على ذلك، فإنه يعتبر ماله فيه نوع من الحرمة؛ لأنه أخل بأمانته التي كوفئ عليها، ولذلك تجتمع عليه المظالم من وجوه: منها: أنه يعرض صيام الناس للفطر، وحينئذ يكون آثماً بإثم هؤلاء الذين أفطروا على أذانه، وهم معذورون إذا كانوا لا يعلمون بالحقيقة. وثانياً: أنه قد ضيع هذه الأمانة وأخل بها، والمال الذي يأخذه تجاهها -خاصة إذا كان منصباً، ويعطى راتباً على ذلك- يعتبر مالاً فيه حرمة بقدر ما حصل منه من إخلال مقصود. وعلى هذا: فالأمر على المؤذنين شديد، فينبغي على الأئمة أن يتفقدوا مؤذني مساجدهم، وأن ينصحوا لعامة المسلمين، وأن ينتبهوا لهذا الأمر، وألا يتساهل الإمام مع مؤذنه، فإذا رأى المؤذن يقصر في مثل هذا فإنه ينصحه ويذكره، فإذا لم ينتصح ولم يذكر فإنه يجب عليه أن يرفع أمره إلى من يردعه ويمنعه عن هذا. وهكذا أهل الحي فإنه يحرم عليهم السكوت على المؤذنين الذين يتساهلون في مواقيت الصلاة، فإذا سكتوا على ذلك فهم شركاء لهم في الإثم، إذ لا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور؛ لأنها تضيع حقوق الله عز وجل، خاصة في نهار رمضان، بل ينبغي أخذ الأمر بالحزم والاحتياط في صيام الناس، وبذل جميع الأساليب لكي يقع الأذان في وقته المعتبر. وإذا كان عند المؤذن ظرف أو يخشى النوم فإنه يأمر من يوقظه، أو يعهد إلى شخص أمين إذا غاب أو تأخر يؤذن للناس، ويقيم لهم هذه الفريضة على وجهها، فهذا الأمر يعتبر أمانة في أعناق المؤذنين، وعلى الأئمة مسئولية، وعلى الجماعة الذين يصلون في هذا المسجد أو يسمعون الأذان أيضاً مسئولية ألا يسكتوا على تلاعب المؤذنين، وقد تساهل الكثير في هذا الزمان، ولقد سمعت بأذني حتى في المدينة، لربما تسمع الإنسان يؤذن قبل الحرم مع أن مسجده قريب من الحرم، وقد سمعت من يؤذن قبل الحرم بسبع دقائق، بل سمعت بأذني من أذن قبل أذان الحرم بربع ساعة! وهذا كله يدل على الاستخفاف وعدم المبالاة بحقوق الله عز وجل، وإلى الله المشتكى في ضياع هذه المسئوليات العظيمة. فلذلك ينبغي الحزم في مثل هذه الأمور، وعدم التساهل مع المؤذنين، وإذا كان المؤذن يتساهل في أذانه فيؤخر الأذان في السحور ويعجل الأذان في المغرب فإنه ينبغي نصحه وتوجيهه وتذكيره بالله، وتخويفه من عذاب الله، وأن هؤلاء الناس أمانة في عنقه، وأنه إذا تساهل وهو يعلم أن الوقت قد ذهب وفرط فإنه يلزم بهذا التفريط، ويحمل بين يدي الله إثم من أفطر على أذانه أو تسبب في فطره، سواء كان أذان الفجر أو كان أذان المغرب. أما بالنسبة للمؤذن: فالمؤذن إذا أخطأ ووقع منه الخطأ فيجب عليه أن يعلم الناس، وأن يبين لهم أنه في اليوم الفلاني أو في هذا اليوم قد أذن بعد دخول الوقت، وأن من أمسك على أذانه مباشرة أن عليه القضاء، وإذا سكت عن ذلك فإنه يتحمل مسئولية من أفطر على هذا الأذان، وقس على ذلك من المسائل؛ سواء كان في الصلاة أو غيرها، فعلى الإمام أن ينبه، فإذا أخطأ مؤذن وجب عليه أن ينبه على الأقل من في الحي، أنه يلزمهم أن يعيدوا هذا اليوم؛ لأنهم قد أفطروا، وذلك بوقوع الأكل والشرب بعد تبين الفجر، والله قد حرم الأكل والشرب. والله تعالى أعلم. الجواب عن حديث أسماء من أن الصحابة لم يؤمروا بقضاء السؤال بماذا يجيب الذين يوجبون القضاء على من أفطر ظاناً غروب الشمس على حديث أسماء رضي الله عنها، الذي جاء فيه: (أنهم أفطروا في يوم غيم ولم يؤمروا بالقضاء) أثابكم الله؟ الجواب هذا يسميه العلماء (المسكوت عنه) فالحديث سكت: هل أمروا بالقضاء أو لم يؤمروا؟ لم يبين شيئاً، بعض العلماء الذين يقولون: لا قضاء، يقولون: لو أمروا بالقضاء لبين، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به. وكمسلك أصولي: الحديث مسكوت، وإذا كان مسكوتاً ترجع إلى الأصل، وهذا هو الفقه: أن النص إذا جاء يدل باللفظ الصريح قبلناه، أو فيه دلالة ظاهرة قبلناه، أما إذا كان متردداً بين الأمرين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسكت عن القضاء للعلم به؛ لأنه إذا تبين أنهم قد أكلوا وشربوا في النهار فإنهم لم يصوموا على الوجه المعتبر، فيسكت للعلم به بداهة، وأما كونه لم ينقل إلينا، وقد يكون أمروا ولم ينقل، لكن الحديث مسكوت عنه. ولذلك يقول بعض العلماء: هو من رواية أسماء رضي الله عنها، والنساء قد يخفى عليهن حال الرجال، وقد يحصل في الرواية نقص، ومن هنا: يقوى القول أنه يرجع إلى الأصل، والأصل أنهم مطالبون بضمان اليوم كاملاً، والإخلال موجود، والأقوى والأحوط والأبرأ للذمة أن نأمرهم بالقضاء، ولا نستطيع أن نقول بأنه لا قضاء عليهم بأمر محتمل، فإن الأصول تقتضي أنهم مطالبون بحق الله كاملاً، وما وردت به الرخصة صريحة نرخص فيه، وما لم ترد به الرخصة صريحة واضحة فإننا نبقى على الأصل الذي يوجب القضاء. والله تعالى أعلم. الفرق بين إنزال المني بالفكر وبالنظر السؤال هل يقاس من فكر فأنزل بمن كرر النظر فأنزل، من جهة كون كل منهما لم يتعاط ما يحفظ صومه أثابكم الله؟ الجواب الفكر أضعف من النظر -قال بعض العلماء هذا- والفكر تهجم فيه الخواطر أكثر من هجومها بالنظر، والفكر مما يشق التحرز عنه أكثر من النظر، ففي حال النظر يمكنه أن يغض بصره ويصرفه، ولكن الفكر يقهر الإنسان، وقد يدخل عليه فجأة والنفس ضعيفة، فإذا دهم عليها فجأة فإنها قد تسترسل معه، ومن هنا فرق بين الفكر وبين النظر. لكن القول بأنهما بمنزلة واحدة له وجه، وله حظه من الاستدلال كما ذكرناه، وبناءً على ذلك: فإن التفريق بينهما من جهة كونه يدهم على الإنسان هو الأقوى في نظري، ولا يبعد القول الذي قال: بأنهما بمنزلة واحدة من القوة. والله تعالى أعلم. الفرق بين الشك في طلوع الفجر أو غروب الشمس في رمضان السؤال ما الفرق بين قول المؤلف رحمه الله: (من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه) وبين قوله: (أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً) أثابكم الله؟ الجواب هناك فرق بين من يعتقد وبين من يشك، الشك: يستوي عندك الاحتمالان: هل طلع الفجر أو لم يطلع، هل أذن أو لم يؤذن، فأنت الآن ما عندك جزم؛ لكن إذا اعتقد أنه ليل فإنه غلب الظن أو جزم، فالفرق بين الاعتقاد وبين الشك: أن الشك استواء الاحتمالين، تقوم في جوف الليل ولا تدري هل هو ليل أو طلع الفجر فدخل النهار، فهذا يسميه العلماء (شك)، فإذا قلت: هو نهار، قلت: يحتمل أن يكون ليلاً، وإذا قلت: هو ليل، قلت: يحتمل أن يكون نهاراً، فبناءً على ذلك تكون في مرتبة كالحائر لا تدري هل هو ليل أو نهار، ولكن الاعتقاد تعتقد واحداً من الأمرين فتجزم به، وتقول: أعتقد أن الليل إلى الآن لا زال باقياً، فهذا اعتقاد وجزم، فحينئذٍ يكون أقوى من الحالة الأولى. فالشك: استواء الاحتمالين، فترجع إلى الأصل؛ فإن شككت في الليل هل هو باق أو لا فالأصل بقاؤه، وإن شككت في النهار هل غابت الشمس أو لم تغب، فالأصل بقاؤه، ففي الأول تأكل وفي الثاني تمسك، وهذا الفرق بينهما: أنه لا جزم في الشك، والاعتقاد فيه جزم إما على سبيل اليقين أو على سبيل الغالب. والله تعالى أعلم. حكم من تبرع بالدم في نهار رمضان السؤال من تبرع بدم في نهار رمضان لإنقاذ حياة مصاب، فهل يؤثر ذلك في صومه أثابكم الله؟ الجواب التبرع بالدم بإنقاذ حياة المصاب قربة وطاعة وصدقة، وهو داخل في عموم قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة:32] وقال بعض العلماء: من تسبب في حياة نفس وكانت صالحة، وقصد أن تعان على صلاحها، كان له كأجرها بعد إنقاذها. وهذا فضل عظيم! فتكون حسناته من الخير والبر لك مثلها، ولذلك إنقاذ مثل هذه الأنفس التي تكون في الحوادث أو النساء في الولادة إذا حصل لهن نزيف، التبرع في مثل هذه الحالات من أجل القربات، ولا شك أن تفريج كربة المسلم من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وقد غفر الله لزانية بسبب شربة ماء لكلب، فكيف بمن أنقذ نفساً مؤمنة أو تسبب في نجاتها؟! ولا شك أنها من أجل القربات وأفضل الطاعات. وأما بالنسبة لهذا التبرع: فإنه لا يوجب الفطر، فلو سحب منه الدم وقويت نفسه، واستطاع أن يبقى إلى آخر النهار وهو ممسك فإن صومه صحيح، لكن بعض العلماء يقول: يعتبر مفطراً من جهة إدخال الإبرة إلى منفذ في الجسم، وهذا فيه ضعف لا يخلو من نظر، وعلى هذا: فإن الأصح أنه لا يفطر. والله تعالى أعلم. حكم من أكل مع سماع أذان الفجر في رمضان السؤال ما حكم الأكل مع سماع أذان الفجر في رمضان أثابكم الله؟ الجواب من سمع الأذان لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتحقق من أن المؤذن قد أخطأ، كأن يكون عنده معرفة بالفجر الصادق، وينظر في السماء كما يحصل في البادية والأماكن البعيدة من المدن، فيمكنك أن تنظر وتعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، فإذا كان النهار أمامك لم يطلع، فإنه يجوز لك في هذه الحالة -إذا كنت تعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، وتحققت أن الفجر لم يطلع- أن تأكل وتشرب، وترجع إلى يقين نفسك، ولست مطالباً بظن غيرك. الحالة الثانية: أن يكون الإنسان ليس عنده وسيلة يتمكن بها من معرفة خطأ المؤذن، فيجب عليه أن يمسك بمجرد الأذان، فإذا أكل أو شرب بعد الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً بنص الكتاب والسنة؛ لأن الله عز وجل يقول: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة:187] فأمرنا أن نأكل إلى التبين، فعند بداية التبين يحرم على الإنسان أن يأكل، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) وقوله: (حتى يؤذن) أي: حتى يبدأ بالأذان. وعليه: فإنه إذا أكل أو شرب ولو بعد الأذان بلحظة واحدة فإنه يلزم بالقضاء، وهذا هو ظاهر الكتاب والسنة. وأما ما ورد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد، حتى إن بعضهم يأكل وقد تبين النهار، بل بعضهم يأكل وقد اتضح الفجر واستبان الصبح، فكل ذلك اجتهاد من الصحابة، فكان بعضهم يجتهد في قوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) ويرى أنه غاية التبين فينظر إلى لفظ الآية، وقد خطأ النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاد الصحابي كما في الصحيحين من حديث عدي ، فإن عدياً مع كونه عربياً يعرف اللسان ويعرف دلالة الكتاب، أخطأ في فهم الآية كما هو ظاهر في رواية الصحيحين، وبين له النبي صلى الله عليه وسلم خطأ اجتهاده. فلا يمنع أن يكون غيره من الصحابة ممن لم يطلع على الأحاديث المبينة المفسرة للآية قد اجتهد كهذا الاجتهاد، وينبغي على طالب العلم دائماً أن ينظر إلى نصوص الكتاب والسنة الصريحة، فيعمل بها، ويلقى الله عز وجل بحجة بينة واضحة؛ فإن قوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة:187] وحديث السنة في الصحيحين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الفجر قال: ( لا أن يقول هكذا، وإنما يقول هكذا وهكذا ) أي: ينتشر، كل ذلك يدل على أنه ينبغي عليك الرجوع إلى تبين الفجر، وأنه بمجرد تبين الفجر ودخول وقت الفجر يحرم على الإنسان أن يأكل أو يشرب. هذا هو الذي دل عليه ظاهر الكتاب والسنة، ويلقى المسلم ربه بنص صحيح صريح من الكتاب والسنة. وأما الأحاديث المحتملة المختلف في أسانيدها، وآثار الصحابة، فقد كان أئمة السلف وقول الجماهير كلهم على هذا، وعمل جماهير السلف رحمة الله عليهم على: أن العبرة بتبين الفجر، وأنه إذا تبين حرم الأكل والشرب. وبناءً على ذلك: نقول بهذا القول الذي درج عليه أئمة سلفنا الصالح، مع أنه أسعد بنص الكتاب والسنة، وأوفق دليلاً، وأرعى لأصول الشريعة، وهذا هو المنبغي على طالب العلم الذي يريد أن يلقى الله عز وجل بحجة بينة. وأما من احتج باجتهاد الصحابة فنعتذر لهم بأن الصحابي ربما لم يبلغه النص، ولا نستطيع أن نعدل عن نص كتاب ربنا وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه الصحيحة الصريحة في تحديد الأكل إلى حال التبين؛ لأن ذلك مما يعتبر خلاف الأصل. والله تعالى أعلم. حكم من سافر إلى بلد متأخر في الصيام عن بلده الأصلي السؤال لو أن رجلاً سافر إلى بلد تأخر صيامه بيوم أو يومين عن بلده الأصلي، فهل يفطر عند تمام الثلاثين، أم يعمل بميقات البلد الذي هو فيه أثابكم الله؟ الجواب من سافر إلى بلد فإنه يعتبر حال أهل البلد الذي يسافر إليه، فإن كان البلد متقدماً أو متأخراً فعليك أن تفطر معهم تقدماً أو تأخراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فطركم يوم تفطرون ) فجعل الفطر لعامة المسلمين. وبناءً على ذلك: تتأقت بهذا التأقيت الذي طرأ عليك، فإن كان هناك زيادة كأن يكون هذا البلد تأخر -كما ورد في السؤال- فحينئذٍ ستزيد يوماً أو يومين؛ لأن فطرك مع فطرهم، ويعتبر شهرك كشهرهم، والعبرة في فطرك بموافقتهم. وأما إذا كان هناك نقص فبلغ عدد الأيام ثمانية وعشرين يوماً، فإنك في هذه الحالة تقضي يوماً واحداً، فتفطر معهم يوم العيد ثم تقضي يوماً واحداً، ويعتبر على أصح قولي العلماء. وقال بعض العلماء: تقضي يومين؛ لأن الشهر يكون ثلاثين يوماً. وقال بعضهم تقضي يوماً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الشهر هكذا وهكذا ) وعقد تسعاً وعشرين وثلاثين، فاليقين أنه تسع وعشرون، والثلاثون في بعض الأحوال، والأقوى: أنه يقضي يوماً واحداً، والأحوط: أنه يقضي اليومين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (202) صـــــ(1) إلى صــ(20) شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [3] مما يفسد الصوم ويوجب الكفارة: الجماع في نهار رمضان، فمن جامع امرأته في نهار رمضان وجب عليه الكفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، وهناك أحكام ومسائل متعلقة بالجماع في نهار رمضان وكفارته ذكرها الشيخ وفصَّل فيها في هذه المادة. مسائل في الجماع في نهار رمضان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ومن جامع في نهار رمضان في قُبُل أو دبر فعليه القضاء والكفارة]. فإن الله حرم على الصائم أن يجامع زوجته، ولذلك يعتبر الجماع موجباً لفساد الصوم، وقد ذكرنا أدلة الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة على تحريم ذلك على الصائم. وبقي السؤال لو وقع هذا الإخلال من الصائم فما حكمه؟ الجماع المعتبر في إيجاب الكفارة فقال رحمه الله: (ومن جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر). هذا الفصل خصه المصنف رحمه الله بالإخلال بالصوم من طريق الشهوة، وابتدأ بالشهوة الكبرى لورود النص بالعقوبة فيها، ثم تدرج بعد ذلك إلى المسائل المتفرعة على الجماع في نهار رمضان. أما بالنسبة لقوله: (ومن جامع) فلا يتحقق الجماع إلا بإيلاج القبل، والعبرة بالحشفة -وهي رأس الذكر- وقد فرع العلماء رحمهم الله على إيلاجها أكثر من ثمانين حكماً، ومنها وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، وذلك بتحقق الإيلاج بالصورة التي ذكرناها. فقوله رحمه الله: (ومن جامع) سواءً كان جماعه لزوجته الجماع المأذون به شرعاً في الأصل، أو المحرم في الزمان في نهار رمضان، أو كان جماعه وطأً لشبهة كأن يجامع امرأة يظنها زوجته أو يظنها سريّته، أو يكون جماعه بالحرام -والعياذ بالله- كالزنا. فإن وقع الجماع في مأذون به شرعاً كزوجته، أو معذور به شرعاً من حيث وجود الشبهة كوطء من ظنها زوجة له، فيترتب الحكم بالقضاء إجماعاً، وكذلك بالكفارة. وأما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- فقد اجتمعت فيه موبقات: أولها: كونه أخل بهذا الركن من أركان الإسلام، وهو: صومه الذي فرضه الله عليه. الموبقة الثانية: كونه زنى والعياذ بالله. فيكون هناك عدة إخلالات: أولها: تعمده للفطر، ووقوع الفطر بأشنع صوره وهو الجماع. وثانياً: كونه والعياذ بالله حرام. وكذلك الحال لو وقع الوطأ في الدبر، فيستوي الجماع في القبل أن تكون المرأة حية أو ميتة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم: أنه لو حصل الإيلاج بامرأة وهي ميتة فإنه يحكم بكونه مجامعاً إعمالاً للصورة، كما لو جامعها وهي نائمة أو مجنونة، ولذلك يجب عليه القضاء والكفارة، وهكذا بالنسبة لوطء الدبر؛ فإنه يوجب القضاء والكفارة والحد الشرعي على الأصل الذي هو مقرر شرعاً في باب الجنايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى. تخصيص الكفارة بجماع نهار رمضان قال رحمه الله: [ومن جامع في نهار رمضان]. الشافعية والحنابلة على أن الكفارة تختص برمضان، وأما ما عدا رمضان فإنه لا يأخذ حكم رمضان. وقالت المالكية والحنفية: إن الله عز وجل أوجب على من جامع في نهار رمضان الكفارة، والعبرة بكونه أخل بفريضة الله عز وجل وهو الصوم الواجب، فقاس بعضهم على ذلك قضاء رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر الواجب، فقالوا: لو صام قضاءً عن رمضان، وجامع امرأته في اليوم الذي هو قضاء عن رمضان فإنه تلزمه الكفارة كما تلزم من جامع في نهار رمضان، وقالوا: إن الله عز وجل جعل هذا اليوم بدلاً عن يوم رمضان، ولذلك قالوا: إذا وقع الإخلال في القضاء فهو إخلال كإخلال الأداء، والقاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء) فإذا كان القضاء يحكي الأداء، والشرع نزّل القاضي منزلة المؤدي فإننا كذلك نحكم بأن الإخلال بالقضاء كالإخلال بالأداء. وأصح القولين والعلم عند الله: القول بعدم وجوب الكفارة على من جامع في قضاء رمضان، وأن الحكم يختص برمضان دون غيره؛ والسبب في ذلك ظاهر النص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه السائل يستفتيه وأخبره أنه واقع أهله في نهار رمضان وهو صائم، أي: والحال أنه صائم، فاجتمع فيه شرط الزمان وهو كونه مجامعاً في نهار رمضان، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل ألا نوجب على المكلفين كفارة، ولا نعاقبهم بعقوبة، وتشغل الذمم بأدائها والقيام بها حتى يدل الدليل على ذلك. فلما دل الدليل على شغل الذمم في نهار رمضان بقي ما عدا رمضان آخذاً حكم الأصل من مطالبته بالقضاء، ولكنه لا يخلو من الإثم، فلو كان في نهار القضاء وجامع أهله أو أفطر متعمداً بدون عذر لا يخلو من الإثم كما نص على ذلك جمع من العلماء رحمة الله عليهم. قوله رحمه الله: [في نهار رمضان]. خرج من ذلك الجماع في الليل فإنه بالإجماع ليس فيه كفارة، والمراد بالنهار: من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فإذا طلع الفجر الصادق فإنه يبتدئ حكم اليوم الذي أوجب الله صيامه. قال رحمه الله: [من جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر]. وهذا كما ذكرنا أنه مذهب جمهور العلماء، وخالف بعض الأئمة فقال: من وطأ في الدبر سواءً زوجته أو غيرها فإنه يعتبر مخلاً بالصوم ولا تجب عليه الكفارة. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الكفارة عليه، بل هو أشد وأشنع. ومن هنا يقول الأئمة رحمة الله عليهم: إن الله أوجب الكفارة على من جامع في نهار رمضان في فرج حلال، فنبه بالجماع في الفرج الحلال على ما هو أشد منه، وهو: الجماع في فرج حرام أو وطءٍ في الدبر. حكم من جامع دون الفرج قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل]. هذه المسألة ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها وهي: ضابط الجماع من الناحية الشرعية؛ لأن مسائل الجماع تترتب عليها أحكام في العبادات وأحكام في المعاملات، فبعض من الناس يظن أن مجرد مس الفرج للفرج أنه يوجب الغسل، وأنه لو وضع العضو على العضو أنه يجب عليه الغسل، وبعضهم يعتقد أنه لو حصل مس للعضو بالعضو أنه يجب عليه الحد وأنه قد زنى، وهذا كله خلاف الأصل، فالأصل الشرعي: أنه لا يتحقق الجماع إلا بإيلاج رأس الذكر وهو الذي حده العلماء-رحمة الله عليهم- بقولهم: بإيلاج الحشفة، وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعه، ولذلك لا يثبت حد الزنا إلا إذا سأل القاضي وتحقق أنه قد حصل إيلاج لهذا القدر. وبناءً على ذلك نبه الشرع على هذا بقوله: ( إذا مس الختان الختان -وفي رواية: إذا جاوز الختان الختان. وفي رواية: إذا التقى الختانان- فقد وجب الغسل ) وكل ذلك -كما يقول الأئمة رحمة الله عليهم- يُعتبر من باب التنبيه على إيلاج رأس العضو، فلو كان مقطوع الرأس فقدره حكماً؛ لأن الشرع ينزِّل الشيء بالتقدير عند العجز عن الشيء بعينه، فإذا كان يتعذر فيه ذلك الشيء لقطع أو خِلقة لم يوجد فيه فإنه يُنَزَّل قدرها من مقطوعه. بناءً على ذلك: إذا حصل الإيلاج لهذا القدر ثبت الحد وثبت الإحصان، بمعنى: لو أن رجلاً تزوج امرأة ودخل عليها، وحصل منه إيلاج برأس العضو فقط ولو لم تفتض البكارة فإنه يثبت كونه ثيباً (محصناً) ويعطى حكم الثيب، وإذا زنى يرجم ولا يجلد كالبكر، فهناك ثمانون حكماً كلها مفرعة على هذه المسألة، ونحن نذكرها ونبينها لترتب الأحكام الشرعية عليها، فلابد من حصول هذا القدر، فقوله رحمه الله: (ومن جامع) هنا المراد به تحقق هذا الشرط. وأما قوله: (ومن جامع في غير القبل والدبر) كما هو الحال في المفاخذة -كما يسميها العلماء- أو المباشرة دون إيلاج، فهذه في الأصل الشرعي لا تسمى مجامعة، فالمجامعة لا تتحقق إلا بالإيلاج لكنها في الصورة مجامعة؛ لأن الجماع سمي جماعاً من الاجتماع. المقصود: أن المصنف رحمه الله تجوز في هذه العبارة وقال: (ومن جامع في غير القبل والدبر) فلا يحصل الجماع في غير القبل والدبر، ولكنه تَجَوّز في العبارة، وإلا لو وقع الجماع لثبتت الكفارة، وإنما الصورة هنا: ألا يقع الجماع، كأن يضع العضو على العضو دون إيلاج، أو مثلاً يضعه مفاخذة كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، فهذا كله لا يوجب الكفارة، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم. وذهب المالكية إلى أن من فاخذ امرأته أو استمنى بيدها أنه يعتبر منتهكاً لحرمة شهر رمضان، والشرع أوجب الكفارة على من جامع أهله في نهار رمضان ليس من الجماع فقط؛ وإنما للجماع ولكونه انتهك حرمة شهر رمضان، فاستوى عندهم أن يكون قد جامع أو يكون باشر امرأته ثم أنزل بمفاخذة أو غير ذلك حال المضاجعة. فعندهم يجب عليه في هذه الحالة أن يُكَفِّر؛ لأنه قد حصل المحظور من انتهاك حرمة الشهر بالفطر عمداً بالإنزال، وهكذا بالنسبة للمفاخذة وما في حكم ذلك من صور الاستمتاع. المصنف رحمه الله يتكلم على مسألة شرعية دلت النصوص عليها وهي: وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، يلزمه حينئذٍ أن يتكلم عن الصور التي لا تتحقق بها المجامعة، وكأنه حينما يبين لك حكم المفاخذة والمضاجعة بدون إيلاج كأنه يضع لك الحدود التي إذا وصل المكلف إليها وجبت عليه الكفارة، وإذا لم يجاوزها ولم يصل إليها فإنه يعتبر مطالباً بالقضاء إذا حصل إنزال، ولا تجب عليه الكفارة لما ذكرنا. قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورة]. هذا هو الشرط، لكن لو جامع دون الفرج كأن فاخذها وضاجعها ولكن لم يحصل إيلاج ولا إنزال فيعتبر صومه صحيحاً، ولو حصل منه مذي فإننا قدمنا أن الصحيح أنه لا يوجب الكفارة ولا يوجب القضاء، فالمذي والمني لا يوجب كفارة، ولكن يختص المني بإيجاب القضاء، وأما المذي فيه التوبة والاستغفار، ولا شيء على المكلف من جهة العقوبات والكفارات. إذا كانت المرأة معذورة في جماع زوجها لها في رمضان [أو كانت المرأة معذورة]. إذا كانت المرأة معذورة في الجماع فإنه لا يجب عليها كفارة، وتعذر المرأة بالإكراه، والأصل أنه لا يجوز لها أن تمكّن الزوج منها في نهار رمضان؛ لأن الله حرم عليها أن تستمتع بهذه الشهوة، وحرم على الزوج أن يستمتع بها، وحينئذٍ إذا طاوعته أعانته على الإثم والعدوان، وعلى انتهاك حد الله عز وجل وإصابة حرماته، ومن هنا يجب عليها أن تدفعه، بل قالوا: تدفعه بقدر ما تستطيع، حتى ولو أنه حاول فرمته وألقته على الأرض لم يكن عليها شيء، وتنصحه وتذكره بالله عز وجل وتعظه بلسانها، فإن طاولها وأرادها بفعله فإنها تدفعه بيدها وبرجلها ما استطاعت؛ شريطة ألا يحصل الضرر، بل قال بعض العلماء: حتى ولو حصل ضرر؛ لأنه هو المتعاطي للسبب في الإخلال بحد الله عز وجل والانتهاك لحرمته، فيجوز لها أن تدفعه، ولو كان ذلك بدفعه برجلها أو بيدها ولو حصل ضرر، قال بعض الأئمة: إنها تعذر في هذا الضرر، وتعتبر هذه الصورة من الصور المستثناة في إعراض المرأة عن طاعة زوجها؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فهذه معصية لله سبحانه وتعالى، بل متعلقة بفرض وركن من أركان الإسلام وهو الصيام. ولذلك: ينبغي عليها أن تتعاطى الأسباب في دفعه، فإذا كانت مغلوبة على أمرها -كأن تكون نائمة أو مكرهة- فغالبها فوقع عليها ولم تستطع دفعه، فقالوا: إنها في هذه الحالة تعذر، وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان بعضهم يُفَصِّل ويفرق بين مسائل الجماع وبين مسائل الزنا في إكراه المرأة كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الخلاف بين الجمهور والحنفية في ضابط إكراه المرأة في مسألة الزنا. فالمقصود: أنها تدفع وترد زوجها ما أمكنها، فإن غلبها فلا كفارة عليها؛ ولكن عليها القضاء لحصول الشهوة واللذة ولا تلزمها الكفارة. حكم جماع من نوى الصوم في سفره قال رحمه الله: [أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة]. رجل سافر وكان قد نوى أول اليوم أن يصوم، فقال بعض العلماء: لماذا ذكر نية الصوم؟ لأن بعض العلماء يفرق في المسافر بين أن ينوي أو لا ينوي، فإذا نوى السفر ونوى الفطر فلا إشكال، لكن لو نوى الصوم ونوى السفر، قال: إنه مسافر غداً إلى المدينة مثلاً، فلما نوى أصبح وفي نيته أن يصوم، قالوا: يلزمه أن يتم صومه، ففي هذه الحالة لو تلبس بالرخصة -وهي حال السفر- وخرج من مكة وجاوزها وأفطر، ثم أراد أن يجامع زوجته وهما في حال السفر فلا شيء عليه؛ لأنه معذور، وفي هذه الحالة لا يعتبر مفطراً بالجماع على وجه محرم، وإنما أفطر على وجهٍ يعذر فيه شرعاً. لكن لو دخل المدينة -يستوي في ذلك أن يكون دخوله للمدينة آخر النهار أو وسط النهار- أو وصل إلى بلده فهل يُمسك ولا يجوز له أن يجامع أم يجوز له أن يجامع؟ جمهور العلماء على أنه يجب عليه الإمساك، وقد ذكرنا هذه المسألة وذكرنا دليلها الصحيح من حديث صوم يوم عاشوراء، وبينا الوجه الذي استند العلماء رحمة الله عليهم فيه على تحريم الأكل والشرب في هذه الحالة، فإذا أكل أو شرب فإنه يأثم، ولو جامع زوجته في هذه الحالة بعد أن استقر أو وصل إلى مدينته أو نزل، فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، ولكنه يعتبر آثماً على القول بوجوب الإمساك. أما عند من لا يرى وجوب الإمساك بقية اليوم ويقول: قد أفطر وأصبح مفطراً فإنه لا يرى عليه إثماً، ولا يلزمه بالاستغفار والتوبة. فتلخص من هذا: أن المسافر إذا قدم قبل نهاية اليوم وكان قد أفطر في سفره فإنه يلزمه الإمساك بقية اليوم، فإن وقع منه الجماع في هذه البقية من اليوم فللعلماء وجهان: منهم من يقول: لا حرج عليه ولا إثم، بل لو شاء أن يجامع اختياراً لا حرج عليه. ومنهم من يقول: إنه يجب عليه الإمساك، فإذا جامع أهله فإنه يعتبر آثماً شرعاً، وعليه التوبة والاستغفار، ولكن لا تجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يفطر بجماع على الوجه المحظور. كفارة من كرر الجماع في نهار رمضان قال رحمه الله: [وإن جامع في يومين أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان]. جامع امرأته متعمداً في اليوم الأول، وجامعها في اليوم الثاني، فهذا جماع تكرر في يومين وفي محلين مختلفين، قد أوجب الله عز وجل عليه صيام اليوم الأول وصيام اليوم الثاني، فانتهك الحرمة في اليوم الأول وانتهك الحرمة في اليوم الثاني فعليه كفارتان، سواء كفّر عن اليوم الأول أو لم يكفر، فعليه كفارتان. وأما لو جامع في اليوم الواحد وتكرر منه الجماع في اليوم الواحد فإنه لا تجب عليه إلا كفارة واحدة، سواء كفر عن الجماع الأول أو لم يُكَفِّر. مثال ذلك: لو جامع امرأته أول النهار، ثم جامعها وسط النهار، ثم جامعها آخر النهار قبل غروب الشمس، فهذه ثلاث مرات، فتجب عليه كفارة واحدة؛ لأنه قد أفطر وحصل الإخلال بالجماع الأول، وتلزمه الكفارة من ثم، وأما بقية اليوم فإنه لا تلزمه فيه كفارة هذا بالنسبة للجماع. من الصور التي ذكرها العلماء: لو جامع أربع زوجات في يوم واحد فإنه تلزمه كفارة واحدة بالنسبة لنفسه، أما بالنسبة للنساء فعلى التفصيل الذي ذكرناه في المرأة: أن المرأة إذا طاوعت واختارت فعليها كفارة غير كفارة زوجها، وأما إذا كانت دافعت ومانعت فمن العلماء من يقول: إنه يجب عليه أن يكفر عنها، ومنهم من يقول: لا تجب عليه الكفارة على ظاهر حديث الذي جامع امرأته في نهار رمضان وهو صائم. [أو كرره في يوم ولم يكفر، فكفارة واحدة في الثانية، وفي الأولى اثنتان]. قال بعض العلماء: إن جامع أكثر من مرة في يوم واحد نظرنا: فإن كفر عن الجماع الأول لزمته الكفارة عن الجماع الثاني، وهذا مذهب مرجوح. والصحيح: أنه إذا كرر الجماع في اليوم الواحد ولو عشر مرات فإنه تلزمه كفارة واحدة، ولكنه في إخلاله بحق الله عز وجل قد تكرر إخلاله عشر مرات، ولذلك عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل من هذا الوجه، وأما بالنسبة للكفارة فلا تلزمه إلا كفارة واحدة، ولا يلزمه إلا القضاء والكفارة ليوم واحد. والذين يقولون: إنه تتكرر الكفارة يقولون: إذا كفر عن الجماع الأول، وحصل الجماع الثاني بعده فعليه كفارة ثانية، كأن يجامع في أول النهار في الساعة الثامنة صباحاً، ثم يكفر في الساعة العاشرة، ثم يجامع في الثانية عشرة وفي الواحدة وفي الثانية وفي الثالثة، قالوا: لما كفر عن الجماع الأول في الساعة العاشرة فإنه يلزم بتكرار الكفارة، وحينئذٍ تلزمه كفارة عن الجماع الثاني الذي وقع منه في بقية اليوم. والصحيح: ما ذكرناه أن اليوم الواحد له كفارة واحدة، سواء وقع الجماع مرة أو وقع مرات؛ وذلك لأنه إخلال واحد وقد أفطر ذلك اليوم بجماعه الأول، فكأنه بجماعه الثاني والثالث والرابع والجماع المتكرر قد وقع بعد جماعه الأول وهو مفطر ولم يقع وهو صائم، ولذلك لا تجب عليه الكفارة من هذا الوجه. قال رحمه الله: [وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في يومه فكفارة ثانية]. الصحيح: أنه ليس عليه كفارة ثانية، وأن الكفارة الأولى تغنيه؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، ووقع جماعه الثاني وهو مفطر، وشرطه: أن يقع جماعه وهو صائم. حكم جماع من لزمه الإمساك بقية اليوم قال رحمه الله: [وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع]. كما ذكرنا في من وصل إلى مدينته وقد بقي شيء من اليوم، قالوا: يعتبر في حكم الصائم، فلو وقع منه جماع في بقية اليوم تلزمه الكفارة، والصحيح ما ذكرناه وأشرنا إليه سابقاً أنه لا تلزمه الكفارة؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، وإنما تجب الكفارة على من صام لا على من أفطر. حكم من جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر قال رحمه الله: [ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط]. بعد أن بين لنا رحمه الله وجوب الكفارة بالجماع، يرد السؤال لو تكرر الجماع ما الحكم؟ فقال لك: إما أن يتكرر في أيام متكررة أو يتكرر في يوم واحد، فإن تكرر في يوم واحد إما أن يكفر عن الجماع الأول أو لا يكفر، فبين حكم هذه الصور كلها. ثم شرع رحمه الله في مسألة وهي: لو أن إنساناً جامع امرأته في رمضان من أول النهار وهو غير معذور بالفطر، فجامع ووقع منه الإخلال على وجه تلزم به الكفارة، وقبل أن تغيب الشمس طرأ عليه عذر يُعذر فيه بالفطر كما لو جنّ أو سافر أو مرض، فهل نقول: بأن العبرة باليوم كاملاً إلى تمامه؟ فإن قلنا: العبرة باليوم إلى تمامه وكماله فحينئذٍ هذا اليوم يباح له الفطر بالجنون وبالسفر وبالمرض، ولم يوجب الله عليه صيامه؛ لأن أمره إلى الرخصة؛ فتسقط عنه الكفارة من هذا الوجه. وهذا وجه شاذ عند العلماء، يحكى في مذهب الشافعية رحمة الله عليهم؛ لكن عندهم تفصيل أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أن من جامع في أول اليوم ثم طرأ عليه عذر يبيح له الفطر أنه تلزمه الكفارة؛ لأن الإخلال وقع في صورة هو مكلف فيها، وقد حصل الإخلال والانتهاك لحد الله عز وجل، وأنت ترى أن المجامع في نهار رمضان لما يعاقب هذه العقوبة إنما عوقب للزجر عما وقع منه من الجرأة على حدود الله، والجرأة قد وقعت في أول اليوم، ولا عبرة بطروء العذر بعد ذلك، ومن هنا طروء الأعذار لا يؤثر، وهذه من صور مسائل طروء الأعذار التي توجب زوال الحكم أو زوال الوصف، ولها نظائر كثيرة، منها: لو حكم القاضي ثم جن ولم ينفذ الحكم، ومنها لو أن الشهود شهدوا عند القاضي ثم ماتوا، أو شهدوا ثم جنّوا، أو شهدوا ثم فسقوا وطرأ عليهم فسق بعد الشهادة وثبوتها عند القاضي، هذه كلها مسائل تسمى مسألة طروء العذر، وهذه تقع في العبادات والمعاملات، فتارة يعتبر الطروء مؤثراً وتارة لا يعتبر مؤثراً، وسنذكر جملة من هذه المسألة إن شاء الله إذا جاء كتاب القضاء، وقد تتخلل هذه المسألة في بعض أبواب المعاملات المالية. لكن الذي يعنينا هنا: أن الشرع قصد عقوبة هذا المخالف بانتهاكه لحدود الله عز وجل، وقد انتهك حد الله عز وجل وجاوز الحدود بجماعه لامرأته في حال تكليفه وحال مؤاخذته؛ فثبتت وتعلقت بذمته الكفارة. أما كونه يطرأ له العذر آخر النهار أو يطرأ له العذر ولو بعد الإخلال بلحظة فهذا كله لا يؤثر؛ لأن العبرة بالحال والابتداء لا بالانتهاء في هذه الصورة، ومن هنا تلزمه الكفارة حتى ولو طرأ عليه العذر. الإفطار بغير الجماع لا يوجب كفارة قال رحمه الله: [ ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان ]. فلا تجب بالاستمناء، ولا تجب بالمفاخذة وغير ذلك من صور الاستمتاع، فلا تجب إلا بالجماع، ولا تجب أيضاً إلا في صوم رمضان أداءً لا قضاءً، فلا يدخل في ذلك حكم الواجبات، وقد أشرنا إلى هذه المسألة والخلاف بين الحنفية والمالكية من جهة، وبين الشافعية والحنابلة من وجه آخر، ولذلك يأخذها طالب العلم كقاعدة أو ضابط، يقولون: لا كفارة على الصائم إلا إذا وقع جماع في رمضان. فلا تلزمه الكفارة إذا كان في غير رمضان ولو كان صوم فرض، ولو كان قضاءً عن رمضان، ولا تلزمه في غير الجماع كما لو قلنا في الاستمناء ونحو ذلك، فهذا لا تجب فيه الكفارة؛ لأن المذهب عندهم متعلق بصورة معينة، وهذه المسألة تعتبر من مسائل القياس في الكفارات، وهذه مسألة أصولية، فالشافعية والحنابلة لا يرون القياس في هذه المسألة، والمالكية والحنفية يرون القياس، والعلة عندهم انتهاك حرمة الشهر. فكأن الذين قالوا بوجوب الكفارة في غير رمضان يرون أنه إذا صام قضاءً أو صام واجباً فإنه ينتهك الحرمة كما ينتهكها من جامع في نهار رمضان، ولا فرق، فهذا صوم فرضه الله وهذا صوم فرضه الله، فاستوى أن يكون من رمضان أو غير رمضان. ثم قالوا أيضاً: لما كانت العبرة بالشهوة فيستوي أن يخرج منه المني، سواء كان ذلك بجماع أو مفاخذة أو غيرها كالاستمناء، وقالوا أيضاً: يستوي عندنا الجماع وغيره مما تحصل به اللذة أو يحصل به الإنزال، فنوجب عليه القضاء والكفارة من هذا الوجه. والصحيح: ما ذكرناه من الاقتصار على مورد النص؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها وإلزام الكفارة بها، وهنا قوي الدليل على البقاء على الصورة التي ورد السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزم فيها المجامع بالكفارة، فنقتصر عليها دون غيرها. أحكام كفارة الجماع في نهار رمضان قال المصنف رحمه الله: [وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت]. عتق الرقبة وما يشترط فيها [وهي عتق رقبة] قوله: (وهي) تعود على الكفارة، والرقبة منهم من يشترط فيها الإيمان قياساً على رقبة كفارة القتل. وهذه المسألة من المسائل التي يختلف العلماء فيها، فالأمر بعتق الرقبة يأتي على صورتين: صورة يكون فيها مقيداً كما في صورة كفارة القتل: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [النساء:92] فاشترط الله عز وجل أن تكون الرقبة مؤمنة. وصورة ترد الرقبة مطلقة كما في آية المظاهر من امرأته، وكذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: ( أتجد رقبة أو أعتق رقبة ) كما في الروايات، فهذا الإطلاق للعلماء فيه قولان ومذهبان: منهم من يقول: المطلق هنا -في مسألة المجامع في نهار رمضان- أحمله على المقيد الوارد في كفارة القتل، فلا كفارة بالعتق إلا إذا كانت الرقبة مؤمنة. واستدلوا بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام لما سأل الجارية فقال: ( أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة ). فقوله: (فإنها) جملة تعليلية أي: لأنها مؤمنة، فكأنها لو لم تكن مؤمنة ما أمره بعتقها، وهذا من جهة النظر له وجهه، يعني: إذا جئت تنظر إلى النصوص وتراها له وجهه؛ لكن الأولين يجيبون عن هذا ويقولون: إن الرجل أراد أن يُعْتِقَ اختياراً لا إيجاباً وإلزاماً، فلما أراد أن يعتق باختياره فالأفضل والأكمل أن تكون الرقبة مؤمنة؛ حتى يكون عتقها معيناً لها على الطاعة والخير؛ فيتحقق المقصود من عتق النافلة. وأما عتق الفريضة فالمراد به حصول العتق والغرم المالي، فإن الإنسان يغرم بفوات عبيده؛ لأنه كانت العبيد بمثابة الأموال، وينتفع الإنسان بهم ويرتفق، فيتضرر بماله، كما أُلزم عند فقدها والعجز عن الصيام شهرين متتابعين بإطعام ستين مسكيناً، وهذا غرم مالي. فقالوا: المقصود أن يغرم، وحينئذٍ لا يحملون المطلق على المقيد، ويقولون: لو كان عتق المظاهر يشترط فيه الإيمان أو عتق الكفارة في نهار رمضان يشترط فيها الإيمان لنبه الشرع على ذلك ولم يسكت عنه، فكيف هناك يقول: (تحرير رقبة مؤمنة) وهنا يطلق؟! قالوا: فلو كان مقيداً بوصف الإيمان لقيده. وهذا المذهب يقويه أن عتق الرقبة المؤمنة في القتل له قصد وذلك أن من أعتق رقبة أُعتق بها من النار، حتى يعتق العضو بالعضو، كما جاء في الخبر، حتى إن الفرج يعتق بالفرج. ومن هنا قالوا: لما كان القاتل كأنه أورد نفسه النار بقتله لأخيه المسلم، فإنه حينئذٍ يكفر بعتق الرقبة المؤمنة، وكأنه يعتق نفسه من النار، وأشكل على هذا: أنها كفارة خطأ، والقاتل ليس بمتعمد، فقالوا: الخطأ لا يخلو من تقصير؛ لأن القاتل خطأً لو تحرى وتفقد لما وقع منه ذلك، ولذا لزمته الكفارة لوجود التقصير والإخلال. فمن هنا قالوا: يجبر هذا الإخلال بكونه يعتق الرقبة المؤمنة حتى يُعْتَق بها من النار، وأيّاً ما كان فالقول بعدم التقييد له قوة وله وجاهة لإطلاق النصوص، وحمل المطلق على المقيد أحوط القولين، لكن القول بالإطلاق من القوة بمكان، وعلى هذا فيلزمه عتق الرقبة. وعتق الرقبة يستوي فيه أن تكون صغيرة أو كبيرة، ويستوي فيها حتى لو كانت صبية صغيرة في عتق رقبة القتل، وإذا كانت مولودة من أم مؤمنة فإن الصبيان يلتحقون بأمهاتهم، فإذا كان والداها مؤمنين فإنه حينئذٍ يعتق هذه الرقبة وتكون موصوفة بكونها مؤمنة. وهذا الوصف لصبيان المسلمين بالإيمان يسميه العلماء الوصف التقديري، وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس "قواعد الأحكام" في مسألة التقديرات، قال: التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود، ومن أمثلته الصبيان إذا كانوا في ديار المسلمين فإننا نعطيهم حكم الإسلام، فمن وجد لقيطاً في بلد مسلم أعطاه حكم أولاد المسلمين، ومن وجد لقيطاً في بلد كافر أعطاه حكم أولاد الكافرين لماذا؟ من باب التقدير؛ ولكنه وإن لم يكن حقيقة أنه يحكم له بالإيمان لكنهم يقولون: من باب التقدير. إضافة إلى أن النص يقول: ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه ) فهم يقولون: إن الأولاد يتبعون الوالدين تقديراً من باب الأحكام الشرعية، فهنا لو أراد أن يعتق رقبة ولو كانت صغيرة فإنه يجوز عتقها. وهذا القول اختاره أئمة منهم الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله عليه في تفسيره، وعلى هذا فيجوز عتق الصغار من أولاد المسلمين إذا كانوا أرقاء، ويكون لها وصف الإيمان بالحكم التقديري. وهنا لو جامع امرأته في نهار رمضان فأعتق صبياً أو صبية أجزأه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعتق رقبة. وفي رواية: أتجد رقبة؟ ) فهذا فيه إطلاق فشمل الذكر والأنثى، فالرقبة التي تعتق تشمل الذكور والإناث، فلو أعتق جارية صح وأجزأه، ولو أعتق ذكراً صح وأجزأه، فكل يجزئه؛ لأن الشرع أطلق. وهذه الرقبة اختلف العلماء: هل يشترط سلامتها من العيوب أو لا يشترط؟ فبعض العلماء يقول: لا يصح العتق إلا إذا كانت سالمة من عيوب النقص، وعيوب النقص تكون في الأخلاق وفي الجسد؛ لأن العيوب في الأرقاء تنقسم إلى قسمين: عيوب مؤثرة، وعيوب غير مؤثرة. فالعيوب غير المؤثرة هي العيوب اليسيرة التي لا يتوقف عليها مصلحة الانتفاع بالرقيق، وهكذا لو كانت عيوباً مثل أن يكون لا يعرف الكتابة ولا يعرف القراءة، فهذا ليس بعيب مؤثر؛ لأنه لا يمنعه من الانتفاع به في مصالح خدمته. لكن العيوب المؤثرة والتي هي النوع الثاني تنقسم إلى قسمين أيضاً: نقص الجسد أو العيب الخُلقي، فإما أن يكون عيباً خِلْقياً وهو نقص الجسد كالشلل والعمى والعرج، فهذا نقص خِلقي. والنوع الثاني: النقص الخُلقي، كأن يكون مجنوناً فإنه لا يستطيع أن يضبط مشاعره ولا أن يضبط أقواله وأفعاله وتصرفاته، فهذا النقص الذي هو الجسدي أو الخُلقي إذا وجد في الرقيق فبعض العلماء يقول: لا يجزئه، ويشترط أن تكون الرقبة كاملة سالمة من العيوب. وبعض العلماء يقول: لو أعتق مشلولاً أجزأه، ولو كان أعمى أو كان مجنوناً كل ذلك يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعتق رقبة ) وهذا مطلق يشمل الرقبة الكاملة والناقصة. وفي الحقيقة: لا شك أن المذهب الذي يرى كمال الخلقة وسلامة الإنسان من العيوب المؤثرة هو أسلم وأحوط وأولى بالاعتبار. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (203) صـــــ(1) إلى صــ(20) صيام الشهرين المتتابعين وما يشترط فيه [فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين]. الرقبة إذا كان الإنسان لا يجد قيمتها وأعطيت له هدية ونحلة، فإنه حينئذٍ يكفر بعتقها، ولو جاءته على سبيل الهدية فإنها تجزئه، وإذا ملكها قبل أن يشرع في الصوم فإنه يجب عليه أن يكفر بعتق الرقبة؛ لأنه قال: (فإن لم يجد) فكفارة الجماع في نهار رمضان مرتبة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وأفتى بعض العلماء بالانتقال إلى صيام شهرين متتابعين مع إمكان العتق، وفعل ذلك استحساناً كما حصل للإمام الحافظ المحدث يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس الليثي رحمة الله عليه في قصته مع عبد الرحمن الأموي والي الأندلس، فإنه استفتاه في الجماع في نهار رمضان، فقال: تصوم شهرين متتابعين. وكان إمام القضاة في زمانه، ولما أفتى بهذه الفتوى عجب العلماء الذين معه وسكتوا هيبة له، وظنوا أن له مساغاً من الاجتهاد، فلما خرج راجعوه فقال: إننا لو قلنا له: اعتق رقبة لجامع وخف عليه الأمر، وهان عليه كل يوم أن يجامع ويعتق رقبة، وأما إذا أمرته بالصيام فإنه يحفظ حدود الله ومحارمه أن ينتهكها، فأمرته بالصوم لعظيم مشقته عليه؛ ولأنه أمكن لزجره من الوقوع في هذا المحظور. والحقيقة: هذه الفتوى مردودة وباطلة، وقد نبه العلماء وأئمة الأصول على ذلك، حتى إن صاحب المستصفى ذكرها مثالاً للتعليل الباطل والفاسد؛ لأنها في مقابل النص، والشرع إذا أمر بالعتق نأمُر بالعتق، وليس لأحد أن يجاوز حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا وجه لهذا الاجتهاد ولمثل هذه الاستحسانات. ولا شك أن الأصل يلزمنا أن نأمره بالعتق ولو كان قادراً على العتق، ولو كان غنياً؛ لأن الله أعلم بخلقه وأحكم في حكمه سبحانه وتعالى، وهو يعلم أن هناك الغني الذي لا يضره أن يعتق الرقاب ولو جامع كل يوم، ولكننا نقول بما أمرنا الله عز وجل به من الفتوى، وما ثبت به النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا ننبه على أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب الاستحسانات والآراء المصادمة للنصوص، وأنه ينبغي على المسلم أن يتقيد بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في الفتوى والقضاء ونحو ذلك من الأمور التي يكون فيها الإنسان مؤتمناً على شرع الله عز وجل. فليس لأحد كائناً من كان أن يُدْخِل في دين الله عز وجل ما ليس منه ولو كان برأي واستحسان، ولذلك قال الإمام الشافعي : (من استحسن فقد شَرَّع). وكان أئمة السلف رحمة الله عليهم يشددون على أهل الرأي من هذا الباب: إذا كان الرأي فاسداً مصادماً للنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الآراء التي يفهمها الإنسان من النص فهذه آراء شرعية بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا اجتهد الحاكم ) وبدليل قوله: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) فأنت تفهم من قوله: (يفقهه) أي: يفهمه، فمعنى ذلك أنه نظر في النص ففهم شيئاً، فهذا يدل على أن الرأي إذا استخلص من الشرع فحي هلاً ونعمَّا به، والإنسان مجزيٌ عليه خيراً؛ إن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر واحد. أما أن يأتي شخص إلى نص عنده في الكتاب والسُّنة، ويرى الواقع أو الحياة تقتضي أن يغير النص، أو يأتي بشيء أثقل حتى يكون أزجر، فهذا كله من المصادمة لشرع الله عز وجل والتعدي لحدوده، ولا يجوز للمسلم أن يتقحّم النار على بصيرة، فيفتي بهواه ورأيه في دين الله عز وجل حيث يؤتمن على الفتوى أو يؤتمن على قضائه، فهذا أمر ينبغي الحذر منه، فأي شيء تعلم أن فيه نصاً في الكتاب والسُّنة، وأن الشرع ألزمك بهذا النص فلا تتقدم ولا تتأخر؛ لأنك كقاضٍ أو مفتٍ أو معلم لا يجوز لك أن تتجاوز ما علمت، والذي علمته من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تخبر به، فإن خرجت عن الكتاب والسنة إلى محض رأيك واجتهادك، وخالفت ما نص الله عليه في كتابه أو نص عليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- عين الهلاك، والضلال، ولا يجوز للمسلم أن يترك هذه المحجّة التي دل عليها نص الكتاب والسُّنة. وهذا أمر مهم جداً لطلاب العلم، فينبغي عليهم دائماً أن يضعوا نصب أعينهم أنهم مؤتمنون على شرع الله عز وجل، ولا يجوز لطالب العلم أن يستحسن أو يصوب شيئاً ويجتهد فيه إلا إذا أذن له الشرع بالرأي والاجتهاد. قال رحمه الله: [فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين]. فإن لم يجد عتق الرقبة ولم يستطعها يصوم شهرين متتابعين. والشهران لهما صورتان: الصورة الأولى: أن يستفتح الشهر من أوله، كأن يبدأ من أول شهر محرم أو شهر صفر أو شهر ربيع، فإذا ابتدأ بأول محرم فحينئذٍ العبرة بالشهر ناقصاً أو كاملاً، فلو ابتدأ من محرم وتبين أن محرماً تسعة وعشرون يوماً فقد صام شهراً، وحينئذٍ إذا انتهى شهر صفر فقد تمّ صيامه وأدى الكفارة على وجهها ولو صام ثمانية وخمسين يوماً -تسعة وعشرين لشهر محرم، وتسعة وعشرين لشهر صفر- أجزأه ذلك، وهذا بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا )فأشار بيده في الأول إلى الثلاثين، وفي الثاني عقد الإبهام تسعة وعشرين، فدل على أن من صام تسعة وعشرين يوماً ورئي الهلال للشهر الأول والشهر الثاني فإنه حينئذٍ يجزئه، ويكون صيامه ثمانية وخمسين يوماً يجزئه عن الكفارة. الصورة الثانية: أن يستفتح صيام الشهرين المتتابعين أثناء الشهر، كأن يبدأ في العاشر من محرم، فإذا ابتدأ في العاشر من محرم لا يتم شهره الأول إلا في العاشر من شهر صفر، ولا ينتهي شهره الثاني إلا في العاشر من ربيع الأول، وحينئذٍ يؤقت بالأيام، ويلزمه في هذه الصورة الثانية أن يصوم ستين يوماً كاملة. بقيت مسألة وهي: لزوم التتابع يعني: هذان الشهران يشترط فيهما التتابع، والتتابع: ألا يفطر فيهما، فلو أفطر قبل إتمامهما بيوم واحد لزمه أن يستأنف العدد من جديد، فلو جاء في يوم تسعة وعشرين من شهر صفر وأفطر فإنه حينئذٍ يلزمه أن يقضي، ويعود من جديد ويصوم الشهرين متتابعين، وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في حديث المجامع لأهله في نهار رمضان، إذ أمره أن يصوم شهرين متتابعين فقال: ( يا رسول الله! وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟! ) وكان رجلاً لا يصبر عن النساء، فكأنه اعتذر لأنه لا يستطيع الصوم. فحينئذٍ يلزمه أن يصوم الشهرين متتابعين إذا كان قد أفطر ولو قبل تمامهما بيوم واحد. لكن بقي السؤال لو أنه ابتدأ صيام الشهرين المتتابعين في كفارة الجماع أو كفارة القتل أو كفارة الظهار في شعبان ودخل عليه رمضان فهل يقطع رمضان التتابع؟ الجواب لا يقطع رمضان التتابع، ويصوم شهر رمضان كاملاً، فإذا انتهى شهر رمضان يرد السؤال: هل يفطر يوم العيد أو لا يفطره؟ فللعلماء وجهان: أصحهما أنه يفطر يوم العيد، ثم بعد ذلك يتم ويبني على ما مضى، فلو صام شهر شعبان كاملاً ثم صام رمضان، فإذا أفطر أثناء رمضان لسفر أو نحوه فلا يقطع التتابع ولا يؤثر فيه حتى يتم رمضان، فإذا أتم رمضان ودخل عليه العيد فإن يوم العيد محرم الصوم، وحينئذٍ لو صام يوم العيد لا يجزئه عن صوم التتابع، وإذا كان لا يجزئه بنص الشرع -لأن الشرع حرم صيام هذا اليوم- فحينئذٍ يسقط عنه صيام يوم العيد، ويصبح يوم العيد هذا وجوده وعدمه على حد سواء. فحينئذٍ يفطر فيه كما أفطرت المرأة الحائض، فإن المرأة الحائض لا تستطيع أن تصوم ستين يوماً متواصلة؛ لأن الحيض يأتيها في الغالب -أو غالب النساء- فحينئذٍ يكون وجود هذا العذر الشرعي ينزل منزلة العذر الحسي، فلما كان الحيض لا يقطع التتابع لدخوله بغير اختيار المكلف، كذلك دخول يوم العيد لا يقطع التتابع على من ابتدأ في شهر شعبان، فيفطر يوم العيد ثم يتم العدد من بعد يوم العيد، فإذا أتم العدد من بعد يوم العيد لم يقطع تتابعه فطره لذلك اليوم. والمسألة الثانية: المرأة الحائض والنفساء لا يقطع التتابع حيضها ونفاسها؛ فإنها تصوم الشهرين المتتابعين في كفارتها، وإذا صامت الشهرين المتتابعين وقطع ذلك الحيض فإنها تفطر في أيام حيضها، وصومها تبنيه بعد انتهاء أيام الحيض. لكن لو أن إنساناً ابتدأ صومه في شهر المحرم، ثم أصابه المرض أثناء صيامه، فهل يقطع المرض التتابع أو لا؟ وجهان للعلماء في ذلك: قال بعضهم: لا يقطع، كما هو الحال في المرأة الحائض، وهذا قوي من جهة النظر. وقال بعضهم: يقطع؛ لأن العبرة بالصورة وهي التتابع، فيلزمه حينئذٍ أن يستأنف العدد بعد صحته وقوته. والأقوى: أنه إذا كان المرض يضر به أن يصوم معه فلا يقطع، ويرخص له بالفطر على عدد الأيام التي مرضها، ثم بعد ذلك يبني بعد انتهاء هذه الأيام أعني: أيام فطره بعذر المرض. قال: (صوم شهرين متتابعين) يصوم شهرين كاملين متتابعين بالصورة التي ذكرناها، قال بعض العلماء: إن الشهرين بمثابة الفدية لهذا اليوم الذي أفطره، ولذلك وجب عليه أن يصوم، فإذا لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، وكأن كل مسكين عن يوم، فأنت إذا نظرت إلى عدد الشهرين فإنه ستون يوماً، والمساكين الذين يلزم إطعامهم ستون مسكيناً، وكل مسكين يأخذ ربع صاع كما سيأتي، فكأنها فدية عن فطر ذلك اليوم، وكأن فطره ذلك اليوم يفديه بصيام الشهرين المتتابعين. قال بعض العلماء: وفي هذا دليل على تعظيم فرائض الله عز وجل، وأنه لا يجوز للمسلم أن يتساهل في أداء حقوق الله عز وجل، وأنه إذا تساهل فيها وأفطر من دون عذر أو ترك ما أوجب الله عليه من دون عذر، ولو قضى ذلك الشيء فإنه لا ينزل منزلته، خاصة إذا كان متعمداً، ومن هنا ورد حديث أبي هريرة : ( من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر ولو صامه ) أي: أنه لا ينزل منزلة ذلك اليوم من حيث الفضل وحصول الثواب. إطعام ستين مسكيناً قال المصنف رحمه الله: [فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً]. فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين، وعدم الاستطاعة إما لمرض كإنسان عنده فشل الكلى مثلاً، فهذا لا يستطيع أن يصوم، وقرر الأطباء أنه إذا صام يموت، فهذا يجوز له أن يعدل من الصيام إلى إطعام ستين مسكيناً، وهكذا الحال لو كان شديد الشهوة لا يصبر على النساء، فلو صام لا يستطيع الصبر ستين يوماً؛ رخص له أن ينتقل؛ لأن المجامع قال (وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟!) وقالوا: إنه عدل عن الصيام إلى الإطعام لعدم القدرة على الصبر، وهو شديد الشهوة ومن به شبق، فإذا وجد العذر من المرض، أو وجد العذر من شدة الشهوة وعدم الصبر عن النساء انتقل إلى الإطعام. (إطعام ستين مسكيناً) يطعم كل مسكين ربع صاع، وذلك لما جاء في رواية الموطأ أن الذي جامع أهله في نهار رمضان أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم ستين مسكيناً، فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجد، فجاء في الحديث: ( أتجد ما تطعم به ستين مسكيناً؟ قال: لا ). فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -والعرق: المكتل، مثل ما يسمى في عرفنا اليوم القفّة، وهي القفة الكبيرة تكون من الخوص ونحوه، وهذه القفاف الكبيرة كان الناس في القديم يحملون فيها التمور والثمار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق به. والعرق فيه خمسة عشر صاعاً، وهذا كما جاء في رواية الموطأ أن العرق كالمكتل فيه خمسة عشر صاعاً، فإذا كان هذا العرق فيه خمسة عشر صاعاً، فمعنى ذلك أنك لو قسمته على ستين مسكيناً فكل مسكين سيكون نصيبه ربع صاع، أي ربع الصاع الذي يخُرج في آخر رمضان، وربع الصاع يسمى المد، وهذا المد هو الصاع النبوي الصغير؛ لأن هناك صاعاً نبوياً صغيراً وكبيراً، فالصغير هو الذي ضبطه العلماء بقولهم: هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وسمي مداً لهذا، فهذا القدر هو قدر المد النبوي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، فإذا أطعم يطعم ستين مسكيناً، لكل مسكين ربع صاع، فإذا فعل ذلك فقد أجزأه. حكم من عليه كفارة إذا لم يجد ما يكفر به قال المصنف: [فإن لم يجد سقطت]. ولذلك إن لم يجد لفقر وعوز وليس عنده ما يشتري به الطعام ويتصدق به على الفقراء؛ سقطت عنه الكفارة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتكى له المجامع لأهله في نهار رمضان، فلما أتي عليه الصلاة والسلام بعرق أمره أن يأخذه وأن يتصدق به، فقال: ( يا رسول الله! أعلى أفقر مني؟! -جاء وهو يشتكي فأصبح الآن يسأل- والله ما بين لابتيها رجل أفقر مني، وفي رواية: أهل بيت أفقر منا ). اللابتان: مثنى لابة، وذلك لأن المدينة بين حرتين، وهي التي تسمى في يومنا هذا الحرة الشرقية والحرة الغربية، فالحرة الشرقية كانت تسمى في القديم حرة واقم، وهي التي وقعت فيها الموافقة أيام يزيد ، وفيها قول قيس الرُّقَّيات : فإِنْ تَقْتُلُونَا يَوْمَ حَرَّةِ وَاقِمٍ فِإنا عَلى الإِسْلاَمِ أَوَّلِ مَنْ قُتِلْ الثانية: حرة الوبرة، وهي الحرة الغربية، ومراده: ما بين لابتيها يعني ما بين الحرتين: الحرة الغربية والحرة الشرقية، كأنه يريد المدينة كلها، والسبب في ذلك: أن مساكن المدينة كانت لا تجاوز الحرتين، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذه ويطعمه لأهله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده. لكن هذه المسألة من خصوصيات هذا الرجل كما نبه العلماء رحمة الله عليهم، وإلا لو أنه أُعطي مكتلاً فلا يصح للعالم أن يقول له: خذه إلى أهلك، ولو أن إنساناً جاء يسألك وعليه كفارة، ثم تصدق عليه أحد بمكتل، وقال: هو فقير، تقول له: تجب عليك الكفارة؛ لأن هذا -كما يقولون- صورة عين، وقضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم. فهذه سماحة من الشرع ويسر من الله عز وجل أجراه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما نبه الأئمة رحمة الله عليهم في شرح الحديث على أن هذا الحكم يختص بهذا الرجل. أما من أُهدي له هذا القدر الذي يستطيع به التكفير، أو أعطي مالاً يستطيع به التكفير فقال: أريد أن آخذه لنفسي. فإنه لا يستحل ذلك، ويجب عليه أن يكفر الكفارة التي أوجب الله وفرض عليه. الأسئلة وجوب الكفارة لأجل الجماع هل وجبت على المرأة في حديث الأعرابي السؤال في حديث الأعرابي لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكمه على امرأة الأعرابي من حيث مطالبتها بالقضاء أو الكفارة، فكيف نوفق بين هذا وبين القاعدة: (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، وضحوا هذا الإشكال أثابكم الله؟ الجواب هذه المسألة في الحقيقة للعلماء فيها كلام طويل -وهي مسألة المجامع في نهار رمضان- ولذلك لما تكلم العلماء على مسألة التعليل ومسالك التعليل كان هذا الحديث من أنسب الأحاديث لبيان صور التعليل، ولذلك تجد الأئمة رحمة الله عليهم وكتب الأصول تعتني بشرح هذا الحديث من جهة أصولية والتعليل به. هناك مسلكان للأصوليين فيه: مسلك اعتباره لطيف وجميل؛ لأنه يدفع كثيراً من الإشكالات، يقولون: الرجل جاء يسأل أول ما يسأل عن نفسه، فوقع السؤال أول ما وقع عن نفسه، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرر له وبين له، فتبين أن الرجل ما عنده شيء لنفسه، فسقطت عنه الكفارة، فسكت عن زوجه لأن الحكم واحد؛ لأنه إذا كان هو سقطت عنه الكفارة فمن باب أولى تسقط عن الزوجة التي يعولها. وهذا المسلك لا يعطي أي مدخل للاحتجاج في المسألة، فتبقى المرأة داخلة تحت حكم الأصل من كونها مطالبة بالكفارة كالرجل، يقولون: إن الرجل سأل أول ما سأل عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يجيب السائل عما سأل عنه، ولا يتكلف في الإجابة عن شيء لم يسأل عنه، فأجاب وما زال مع الرجل يوجب عليه الكفارة وينتقل معه خصلة خصلة، حتى إذا انتهى من ذكر مراتبها منها إذا بالرجل ليس عنده شيء، وإذا بالكفارة ساقطة عنه بالحال، فإذا سقطت عنه بالحال من باب أولى أن تسقط عن زوجته وأهله ومن يعول، فقالوا: لذلك سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن أن يتكلف مرة ثانية، خاصة وأن الرجل قال له: (والله ما بين لابتيها أهل بيت) فلما قال: (أهل بيت) شمله وشمل زوجه. وهذا الجواب من أدق الأجوبة، والذي يقفل جميع الاعتراضات، ومن هنا يقول جمهور العلماء: تبقى المسائل مسكوت عنها، كون الزوجة طاوعت أو لم تطاوع تبقى مسائل اجتهادية، وهذا من دقة الشرع، وهو أنه في بعض الأحيان ينص على شيء ويترك ما عداه لاجتهاد العلماء، حكمة من الله سبحانه وتعالى؛ يرفع بها درجاتهم، ويجعلها خلافاً بينهم؛ يبين بها فضل العالم على غيره، فتبقى المسائل المسكوت عنها في النص وتترك لاجتهاد العلماء يبينون حكمها، فمنهم من يلحقها بالأصل، وينظر أقوى شبه لها فيلحقها به؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، وهذا الاجتهاد مستند إلى أصول الشرع. ومنهم من يقول: هي عفو، كما هو مسلك الظاهرية رحمة الله عليهم، وهذا المسلك يقول: هي عفو، فكل شيء لم يرد النص به عفو، والمرأة لا يجب عليها عندهم شيء، حتى ولو طاوعت زوجها ورضيت واختارت، يقول: لا يجب عليها شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوجب على المرأة في هذا الحديث شيء. فإن قلت لهم: سكت. يقولون: السكوت عفو. والواقع: أن ما سكت عنه الشرع هو عفو من الله من جهة النص على حكم معين؛ لكن يبقى الفقيه مطالب بالاجتهاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا اجتهد الحاكم ) فمعنى ذلك أن هناك مسائل تحتاج إلى نظر وبحث وتحتاج إلى بيان حكمها. فإذا بإعطاء الشيء حكم نظيره فقد اجتهد بالشرع، (وفقه) يعني: فهم من الشرع، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) يعني: يفهمه مقصود الشرع فيبني الحكم عليه، فأنت إذا نظرت إلى أن مقصود الشرع تحريم هذا الشيء فحينئذٍ تقول: لا يجوز. وإذا فهمت أن مقصود الشرع جوازه والتوسعة على الناس تقول: يجوز، وكل ذلك مبني على فهمك لأصول الشرع. وفي هذه المسألة كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الرجل هل طاوعته المرأة أو لم تطاوعه، وهل هي مكرهة أو غير مكرهة، معذورة أو غير معذورة . لا يقال: تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنسب شيء ما يذكره علماء الأصول بقولهم: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما استفصل من الرجل، وما قال له: هل امرأتك طاوعت أو لم تطاوع؟ هل امرأتك مكرهة أو غير مكرهة، راضية أو غير راضية؟ بل ترك الاستفصال في مقام الاحتمال. أي: في مقام يحتمل فيه أن تكون المرأة معذورة، ويحتمل أن تكون غير معذورة، فكونه لم يستفصل ينزل منزلة العموم. يعني: لا تجب كفارة إلا على الرجل، أما المرأة فلا تجب عليها سواء طاوعت أو لم تطاوع هذا معنى القاعدة. ولكن مثلما ذكرنا: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ليس هذا موضعه، إنما موضعه في مقام السؤال حينما يسأل السائل عن الشيء بذاته، كأن يسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم امرأته فيقول: عليها الكفارة. ولا يستفصل طاوعت أو لم تطاوع، فتقول: ترك الاستفصال هنا مؤثر ودليل وحجة؛ لكن كونه لم يرد سؤال عن المرأة وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ فهذا مما يسع الاجتهاد فيه. فلا يعقل؛ لأن المرأة قد تغري الزوج على الجماع، وقد يقع منها الجماع ابتداءً بزوجها، وذكر هذا بعض العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان الغالب أن الرجل تكون منه بواعث الجماع، لكن كونها هي التي تبعثه وتدفعه، يقولون: هذا يدل على أن المرأة تأخذ حكم الرجل إن طاوعت ورضيت وأغرت وقصدت وأرادت ذلك. فإذا كانت المرأة هي التي تريد الجماع، وحصل منها ذلك وطاوعت زوجها مختارة راضية؛ فالمرأة والرجل سواء، وتجب عليها الكفارة؛ لأن المعنى الذي عاقب الشرع به الرجل موجود في المرأة كما هو موجود في الرجل. هذا من ناحية فقهية ومن ناحية الأصول والضوابط والاجتهادات صحيح؛ لأن العلة الموجودة في الرجل موجودة في المرأة، فتجب عليها الكفارة كما تجب على الرجل؛ لكن إذا استكرهها وغالبها فحينئذ يكون كأنه أوقعها في هذا المحظور، فتجب عليه الكفارة؛ لأنه متسبب في ذلك كما هو الحال في الضمانات في الحقوق، ولما كان الشرع ينزل حقوق الله عز وجل قياساً على حقوق الآدميين بدليل الحديث الصحيح ( فدين الله أحق أن يقضى ) وجعل الحقوق مقضية تنزيلاً لشغل الذمم بها، كذلك هنا حق الله يضمن، فكما أن المرأة سقط عنها المؤاخذة بالكفارة لكونها مكرهة، فحينئذ من الذي أكرهها؟ ومن الذي قسرها؟ ومن الذي أوقعها؟ هو الرجل. فهناك محل تتعلق به الكفارة ويسع أن تتعلق به الكفارة الثانية، بخلاف ما إذا أكرهت المرأة فإنا لا نجد إلزاماً؛ لأن الإخلال غير موجود، وعلى هذا فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن تكون المرأة مكرهة ومغلوبة، فبالنسبة للرجل ما عندنا إشكال، لكن بالنسبة للمرأة المحل -الذي هو المرأة المكلفة- غير قابل لإيجاب الكفارة؛ لأنها لم تتوفر فيه شروط الإخلال؛ لكن إذا كانت مكرهة فمعنى ذلك أن هناك إخلالاً من الرجل من ناحيتين: من ناحية نفسه، ومن ناحية إيقاعه للغير في الإفطار. وهذا الإفطار وقع بشهوة الجماع، فكما أن الجماع في حقه يوجب الكفارة، كذلك بالنسبة للمرأة. على هذا القول الذي يرى أن المكرهة يجب على زوجها أن يكفر، حينئذ يقولون: تجب عليه الكفارات المتعددة في اليوم الواحد؛ ولذلك يلغز بعض العلماء ويقول: على المذهب الذي يرى أن من جامع أكثر من مرة في يوم واحد ليس عليه إلا كفارة واحدة، فقد تجب عليه الكفارة متعددة في أي صورة؟ تقول: إذا قلنا: إن المرأة المكرهة -التي أكرهها زوجها- تجب عليه الكفارة، فحينئذ إذا جامع الجماع الأول وجبت عليه الكفارة لنفسه وكفارة لزوجه التي جامعها، فصارت كفارتان، فإن جامع الزوجة الثانية -وليس الزوجة الأولى- فقد حصل فطر وجماع ثان، فتجب عليه الكفارة الثانية، فإن جامع زوجته الثالثة وجبت عليه الكفارة الرابعة، وإن جامع زوجته الرابعة وجبت عليه الكفارة الخامسة. فهذه خمس كفارات تجب بجماع يوم واحد على رجل واحد، هذه المسألة يلغز فيها بعض العلماء، لكن محله أن ترى أن المرأة التي أكرهت على الجماع من قبل الرجل كأن يهددها أو يغلبها بقوة أو تكون نائمة ثم لا تشعر به إلا وقد أصابها، قالوا: هذه يجب عليه أن يكفر عن نفسه وعنها؛ لأنه وقع الإخلال بالصوم من وجهين: من جهته ومن جهة زوجه، فتتكرر عليه الكفارة من هذا الوجه. وبناءً على ذلك: فإن حديث المجامع في نهار رمضان يعتبر من المسكوت عنه؛ لأن السؤال لم يرد عن المرأة أصلاً، ولا يعتبر هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة. والله أعلم. كفارة العبد إذا جامع في نهار رمضان السؤال هل كفارة الجماع في نهار رمضان على الحر والعبد سواء، أم أن الأمر فيه تفصيل أثابكم الله؟ الجواب بالنسبة للعبد فإنه لا يملك؛ لكن قال بعض العلماء: لو ملكه سيده وأذن له بالعتق يعتق، وحينئذٍ تجزيه، ومذهب طائفة من علماء السلف أن العبد ينتقل إلى الصيام فيلزمه أن يصوم؛ فإن عجز عن الصوم سقطت عنه الكفارة؛ لأنه لا يملك، والدليل على أنه لا يملك: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ) فأخلى يد العبد عن الملكية؛ فدل على أنه لا يملك، وهذا أصل عند العلماء، وقد سبق بيانه وبسط الكلام عليه في مسائل الزكاة. والله تعالى أعلم. العبد المكاتب لا يجزئ في الكفارة الواجبة السؤال من كان يدفع إلى سيده أنجم المكاتبة وبقيت بعضها، فأعتقه سيده بكفارة الجماع، فهل يجزئه ذلك أم لابد أن يرجع إلى عبده ما أخذ من المكاتبة أثابكم الله؟ الجواب إذا اتفق السيد على الكتابة وأدى العبد أنجم الكتابة كاملة فإنه يجب على السيد أن يعتق عبده، وإذا لم يعتقه واشتكى العبد إلى القاضي فإن القاضي يحكم بعتقه، وهذا من العقود التي تكون لازمة في أول حال وفي آخر حال؛ لأن العقود منها ما يلزم في أول حال وفي آخر حال، ومنها ما يلزم في أول حال دون آخر حال، ومنها ما لا يلزم في أول الحال ويلزم في آخر الحال. فالمكاتبة تعتبر في أول الحال إذا تعاقد الاثنان، وفي الأصل السيد لا يلزمه أن يكاتب عبده على القول بعدم وجوب الكتابة عليه، ومنهم من يقول بوجوبها لظاهر قوله تعالى: { فَكَاتِبُوهُمْ } [النور:33] فإذا قلنا بعدم الوجوب فهي غير لازمة في أول الحال على السيد، لكنه إذا وقع العقد وتم بينهما وافترقا فحينئذ يلزمه الوفاء بهذا العقد، وعلى الرقيق أن يسدد ما عليه، فلو قال له: كاتبتك بعشرة آلاف، تؤدي لي كل شهر ألفاً، فإذا أتممت العشرة فأنت حر. فإذا أعطى العشرة كاملة أعتق بآخر نجم منها، وأما إذا عجز عن سداد أنجم الكتابة يعود رقيقاً لسيده. وبناءً على ذلك: إذا عجز العبد عن السداد لبعض أنجم الكتابة وعاد رقيقاً لسيده فأعتقه سيده عن ظهار أو عن قتل أو عن جماع في نهار رمضان أجزأه؛ لأنه إذا عجز وثبت العجز رجع إلى ملكية سيده. أما إذا كان أثناء أنجم الكتابة ووصل إلى آخرها، فقال له السيد: أنت حر؛ فإن هذا العتق لا يعتبر عتقاً عن الواجب عليه في ذمته؛ لأن الأصل يلزمه بأداء أنجم الكتابة حتى يكون العبد حراً بأنجم الكتابة، لا بما عليه من فرض الله، كأنه يتخلص مما عليه من حق الله عز وجل فيعتق حتى لا يشتري رقبة ثانية، فكأنه يدفع الغرم عن نفسه لما أوشك العبد أن يسدد، فمعنى ذلك: أنه يريد ألا يتحمل رقبة ثانية ويشتريها، فهو يريد أن يعتق هذه الرقبة حتى يتخلص من تبعة الرقبة الثانية؛ ولذلك لا يصح العتق على هذا الوجه، ولا يجزيه في الكفارات، سواء كانت عن ظهار أو قتل أو أي عتق واجب آخر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (204) صـــــ(1) إلى صــ(28) شرح زاد المستقنع - باب ما يكره ويستحب في الصوم وحكم القضاء هناك أمور ذكر العلماء أنه يكره فعلها في الصيام؛ لأنها تخدش في الصيام وتنقص أجره، وهناك أيضاً مستحبات ينبغي على الصائم أن يعلمها ويحافظ عليها حتى يكون صومه تاماً صحيحاً مقبولاً عند الله تعالى. ومما يتعلق بالصيام: أحكام القضاء لمن أفطر في رمضان لعذر، وحكم من مات وعليه صوم وغيرها من أحكام ومسائل القضاء. مكروهات ومستحبات الصوم وحكم قضائه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء]. يقول المصنف رحمه الله: (باب ما يكره) أي: ما يكره على الصائم أن يفعله حال صيامه، سواء كان لنافلة أو فريضة، والمكروه: هو الذي تعافه النفوس، وكره فلانٌ فلاناً إذا وجد فيه ما يوجب نفرته منه، وأما المكروه في الشريعة: فهو الذي نهى الشرع عنه نهياً غير جازم، وهذا المكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وكأن المصنف رحمه الله يريد أن يبين لنا بعض الأمور التي لا يستحب للصائم أن يفعلها، وإذا تركها بقصد التقرب فإنه يثاب شرعاً، ولكنها لا توجب فطره. وقوله: (ويستحب) ضد المكروه، فالأمر من الأقوال والأفعال إن كان جازماً فهو واجب، وإن كان غير جازم فهو مندوب ومستحب. وحكمه: أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. ومعنى: يستحب أي: يستحب للصائم أن يفعله أو أن يقوله؛ والسبب في ذلك: أن الصيام فيه أمور محرمة، وفيه أمور مكروهة، وفيه أمور واجبة، وفيه أمور مستحبة، وفيه أمور مباحة، ولذلك تكلم -رحمة الله عليه- في الأبواب الماضية عن الأمور المحرمة والأمور الواجبة، وبعد بيانه لكلا القسمين شرع في بيان ما يكره وما يستحب، ولكن السؤال لماذا قال: باب ما يكره فقدم المكروه على المستحب، والتقديم للشيء فيه دلالة على شرفه في الغالب؟ قدم المكروه؛ لأن الصيام يقوم على الترك، ولذلك المكروه ألصق بمادة الصيام من المستحب الذي يطلب فيه الفعل في الغالب. وقوله رحمه الله: (وحكم القضاء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل المتعلقة بقضاء صيام رمضان، والسبب في ذلك أن المكلف لا يخلو من حالتين: إما أن يوقع صيام الفريضة في زمانه المعتبر على وجهه المعتد به شرعاً، فحينئذٍ لا إشكال، ويسمى هذا الصيام منه: صيام الأداء. وإما أن لا يوقعه؛ وذلك لوجود العذر الشرعي الذي يبيح له الفطر، من مرض أو سفر أو غير ذلك فيفطر؛ فإذا أفطر توجه إليه خطاب الشرع بأن يقضي أياماً أخر على عدد الأيام التي أفطرها من غير رمضان، وحينئذٍ ينتقل من رمضان إلى غير رمضان. ويرد السؤال عن هذه الأيام والأحكام المتعلقة بها، هل تنزل منزلة أيام رمضان أو لا تنزل؟ كذلك أيضاً من جهة كون الذي يقضي إذا أفطر متعمداً، هل يجوز له ذلك أو لا يجوز؟ وما الحكم في فطره إذا وقع على هذا الوجه؟ يقول رحمه الله: (باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء) جمعها رحمة الله عليه في هذا الموضع لتجانسها، فإن المكروه والمستحب يتضادان في الغالب، وإن كان هناك صور يكون فيها المستحب لا يضاد المكروه. أقوال العلماء في جمع الريق وبلعه لمن كان صائماً [يكره جمع ريقه فيبتلعه]. أي: يكره للصائم أن يجمع ريقه، والريق: لعاب أوجده الله في الفم، ويكون في أصله لعاب قوي المادة أو يتحلل مع حركة الفم، وهذا اللعاب أوجده الله عز وجل لحكمة، وإذا أراد الإنسان أن ينظر إلى عظيم نعمة الله عليه بهذا اللعاب، فلينظر إلى حاله في شدة الظهيرة وقد جف حلقه من لعابه كيف يكون حاله؟ فلو أن الله خلقه على هذه الصفة لوجد من المشقة والعناء ما لا يخفى؛ ولكنه أحسن كل شيء خلقه سبحانه وتعالى وتبارك وهو أحسن الخالقين، فخلقه على هذه الصفة فجعل اللعاب في فمه؛ يمكنه من الكلام؛ ويدفع عنه مشقة يبس حلقه وصعوبة كلامه، ولذلك تجد من جف لعابه أو قل -خاصة في أحوال الصيام وشدة الظمأ- يصعب عليه الحديث ويصعب عليه الكلام. فهذا اللعاب والريق له حالتان: الحالة الأولى: أن يتركه المكلف على خلقة الله عز وجل فيرتفق به في حال يبس حلقه أو يبس فمه، على الوجه المألوف المعتاد المعروف. وهذه الحالة لا إشكال فيها بإجماع العلماء؛ لأن اللعاب يعتبر غير مؤثر في الصيام ولو بلعه الإنسان؛ لأنه مما يشق التحرز عنه، ولذلك يمثل العلماء له بما يشق التحرز عنه في الصيام، واغتفروا في حكمه اللعاب اليسير الذي يكون من فضلة الطعام إذا شق عنه التحرز عنه في الصلاة، وكذلك اغتفروا ما يكون بين الأسنان في الصلاة كوضر اللبن الذي يكون من دسامة مادة اللبن. وأما في الصيام فقالوا: إذا بزغ الفجر وانتهى وقت السحور، فإنه يتمضمض إن بقيت مادة الطعام في فمه؛ لأن اللعاب متصل بممنوع، وهو وإن كان لعاباً في أصله لكنه خرج عن الأصل؛ لامتزاجه مع المادة التي هي مادة الطعام، وعلى هذا قالوا: إن اللعاب في هذه الحالة يجب إزالته إما ببصاق، أو بغسل الفم بالمضمضة، ولذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه تمضمض قبل الصلاة من وضر اللبن ودسومته. وأما الحالة الثانية للريق: فهي أن يجمع الريق فيبلعه وهو صائم، فهذا الجمع للريق يعتبر متردداً بين أصلين، فيحتاج تقرير هذين الأصلين إلى أمر مهم لابد من بيانه، حاصله: أن فم الإنسان يعتبر من خارج الجسد ولا يعتبر من داخل الجسد، وتوضيح ذلك: أنك في الصيام تحتاج إلى أن تفرق بين خارج البدن وداخل البدن؛ حتى تستطيع أن تفتي في مسائل الصيام، وهذا أمر مهم لطالب العلم وللعالم، ولا يستطيع أن يفتي في مسائل الفطر حتى يقرر ما الذي من خارج البدن، وما هو الذي من داخله بحيث إذا وصل إليه الغريب حكم بفطر الصائم بسبب ذلك. فالفم دلت الأدلة على أنه من خارج البدن، فإذا قلت: إنه من خارج؛ فأي شيء يصل إليه من المفطرات لا يضر ولا يؤثر ما لم يتجاوز الحد المعتبر شرعاً، وما هو هذا الحد؟ الحد: هو اللهاة، واللهاة هي: اللحمة المتدلية عند بداية الحلق، فهي فاصل بين داخل البدن وبين خارج البدن، وخارج البدن هو الفم، فما كان دون اللهاة فهو من داخل، وبناءً على ذلك لو استقاء فخرج القيء إلى فمه ورد ولو يسيراً من القيء إلى جوفه -إلى ما وراء اللهاة- فقد أفطر، وهذا بإجماع العلماء: أنه إذا رد مادة القيء إلى داخل البدن بعد وصولها إلى الفم أنه يفطر؛ لأنه بمجرد وصولها إلى الفم خرجت من البدن. إذاً تثبت أن هناك داخلاً وخارجاً؛ فالداخل ما دون اللهاة من جهة الجوف، والخارج ما قبل اللهاة من جهة الفم، وعلى هذا: إذا كان الريق موجوداً في الفم ليس عندنا إشكال، حتى ولو جمعه ثم أداره في فمه ثم بصقه لا إشكال؛ لأن الأمر كله في خارج البدن؛ لكن الإشكال لو جمع هذا الريق ثم ابتلعه بعد ذلك، فهذا الفعل يتردد بين وجهين: أحدهما: يقتضي الحكم بالفطر. والثاني: يقتضي عدم الحكم بالفطر. فأما كونه مقتضياً للفطر فهم يقولون: هذا اللعاب مادة متعلقة بخارج البدن، وكون الإنسان يبلع ريقه يسيراً يسيراً، قالوا: هذا على المعروف المألوف الذي يشق التحرز منه، فرخص الشرع فيه، لكن كونه يجمع ريقه باختياره وقدرته وتمكنه، ثم يبلع كما لو أفضل الجسم فضلة ثم بلعها، فهم يقولون: اللعاب فضلة الجسم، وهذا بالإجماع أنه فضلة من الجسم، فكما أن فضلة الجسم كالقيء إذا خرجت إلى الفم ثم ردت أنها تفطر، قالوا: اللعاب إذا جمع خرج عن الرخصة، فالرخصة فيه أن يكون متحللاً لترطيب الفم، لكن إذا جمعه فإنه يقصد ما يقصده الشارب أو من يريد بل حلقه، فخرج عن كونه مادة للفم إلى كونه مادة للحلق؛ فأفطر من هذا الوجه. قالوا: وأشبه ما لو إذا خرج القيء ثم رده إلى داخل البدن. وأما الوجه الثاني الذي يقتضي أنه لا يفطر: فهم يقولون: هذا اللعاب مادة تسامح الشرع فيها، والإجماع منعقد على أن اللعاب الذي في داخل البدن لو بلعه الإنسان قليلاً قليلاً أنه لا يفطر؛ فلا فرق عندي بين أن يبلعه دفعة واحدة وبين أن يبلعه شيئاً فشيئاً. إذاً عندك وجهان: أحدهما: يقتضي الحظر والحكم بالفطر. والثاني: يقتضي الإباحة، وأنه لا يوجب فطر صاحبه. والقاعدة عند بعض العلماء: أنه إذا تردد الفعل أو القول بين مأذون به شرعاً، وبين غير مأذون به شرعاً وهو المحرم، وأصبح فيه شبهاً من هذا وشبهاً من هذا فإنه يكره. هذا ضابط للمكروه عند بعض العلماء، ولذلك يمثلون بإسبال الإزار، قال صلى الله عليه وسلم: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) وأجاز الأزر إذا كانت فوق الكعبين، وقد ثبت عنه أنه قال: ( أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ) فإذا ارتفع الإزار عن الكعبين فالإجماع على حله، وإذا نزل عن الكعبين فإنه يعتبر داخلاً في قوله: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ). لكن لو أنه وصل إلى الكعبين ولم يجاوز ولم يرتفع عنهما وكان محاذياً للكعبين؛ فليس عندك نص يقتضي التحريم، وليس عندك نص يقتضي الإباحة، فإذا جئت تقول: أبيحه. أجابك المجيب بأن الشرع أباح ما فوق الكعبين، وإذا قلت: أحرمه. أجابك المعترض بأن الذي حرمه الشرع ما نزل عن الكعبين، قالوا: فيصبح بين الحظر والإباحة فهو مكروه، فيسكت عنه الشرع لتردده بين الحظر والإباحة، فيقولون: هو مكروه. فإذاً: كأن المكروه يتردد بين الحلال والحرام، ويتردد بين الحظر والإباحة، فجمع الريق فيه وجه لأن تجيزه، وفيه وجه لأن تمنعه، فإن قلت: الشرع رخص في الريق لمكان مشقة التحرز والتوقي؛ فإن الريق المجموع لا يشق التحرز عنه؛ لأنه بإمكانه أن يبصقه، قالوا: فحينئذٍ كأنه قصد الإخلال، فيعتبر هذا الوجه يقتضي الحظر. وتقول: الريق مأذون به شرعاً، فيستوي أن يكون مجموعاً أو متفرقاً، فهذا الوجه يقتضي الإباحة؛ فأصبح جمع الريق مكروهاً من هذا الوجه. فهذا هو وجه كون العلماء رحمة الله عليهم ينصون على كراهية مثل هذه الأمور، ويستشكل بعض طلاب العلم كيف يحكم بالكراهة بما لا نص فيه؟ وهذا من ورع السلف والأئمة رحمة الله عليهم، ولذلك لما تكلم العلماء عن ضابط المكروه قالوا: إن هناك صوراً للشيء المتردد بين الحظر والإباحة، يؤكد الشرع على قصد الترك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) ولذلك فالفقيه لا يستطيع أن يقول: هذا حرام، وإذا قال: هو حلال وجد في نفسه الشبهة فتردد، ولذلك إذا قال لك قائل: أجمع الريق وأبلعه. فستجد في نفسك الشبهة، لكن ما تستطيع أن تقول: إنه حرام؛ فالبر طمأنينة، قالوا: فوجود هذه الشبهة كونه يجمع الريق فستفهم منه أنه في حكم من يدخل على البدن الشيء الغريب عنه؛ لأن الذي ليس بغريب أن يترك اللعاب على طبيعته، لكن كونه يجمعه وكونه يبلعه قالوا: هذا يقتضي الشبهة. ومن هنا يقوى القول بكون جمع الريق من مكروهات الصيام. وخلاصة الكلام أن لبلع الريق ثلاثة أحوال: الحالة المعروفة المألوفة، ولا إشكال فيها، ولكن هناك حالتان يذكرهما العلماء، وهما: الحالة الأولى: أن يجمع الريق من داخل -أي: من داخل الفم-. والحالة الثانية: أن يخرج الريق المجتمع إلى خارج الفم. فأما إذا كان الريق في داخل الفم فجمعه وبلعه فمثلما ذكرنا أنه مكروه، لكن لو جمع الريق فأخرجه عن الفم بلسانه وجاوز شفتيه ثم رده فإنه يفطر في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأنه إذا أخرجه عن الفم فإنه حينئذٍ يخرج عن الرخصة قولاً واحداً عند أهل العلم؛ ولأنه يعتبر خارجاً عن اللعاب المأذون به أو المرخص به شرعاً؛ لأن الذي يشق التحرز عنه ما كان في داخل الفم، أما إذا خرج قالوا: إنه يفطر. ما فائدة قول العلماء رحمة الله عليهم: الريق يجمع من داخل أو يجمع من خارج؟ قد يقول قائل: إنه من القبيح من الإنسان أن يخرج الريق من فمه ثم يرده! وهذه المسائل يذكرها العلماء لأمور قد يحتاج إليها الفقهاء، فمثلاً في زماننا قد يوجد في بعض أحوال أن تقوم بعض الآلات بشفط ما في الفم وإعادته إليه لتكريره عليه، كما يكون في بعض من يكون في أجهزة الإنعاش، فإنه يحتاج إلى وجود بعض المواد التي تكون في فمه، فإذا كانت الآلة التي تشفط تشفط المادة إلى خارج الفم وتجاوزه ثم تعيده؛ فمثل هذا يرد فيه الكلام، وإن كانت في داخل الفم ولا تجاوزه فلا إشكال فيها. فالمقصود: أن مسألة جمع الريق لا تخلو من هاتين الصورتين: إن خرج الريق وجاوز حد الشفتين أفطر قولاً واحداً، وإن لم يجاوز فإنه يرد فيه ما ذكرناه من الحكم بالكراهة، ولا يحكم بفطر صاحبه. حرمة بلع النخامة بعد وصولها إلى الفم قال رحمه الله: [ويحرم بلع النخامة ويفطر بها فقط إن وصلت إلى فمه]. (ويحرم بلع النخامة) هناك مادة ثانية من فضلة الفم، وهو: المخاط الذي يكون في الخياشيم وفي الأنف، وقد يخرج من الصدر كالبلغم، فأما بالنسبة للمخاط الذي يكون في الخياشيم فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون سحب الإنسان له إلى الجوف مباشرة، كما لو استنشق ثم ذهب إلى جوفه دون أن يمر بفمه، هذا بالإجماع لا يفطر، ولو كان للنخامة جرم، كما هي القطعة الصغيرة التي تتجلط من المخاط، فهذا لا يفطر. الحالة الثانية: أن تكون النخامة قد خرجت إلى الفم، فإن خرجت إلى الفم وأدارها في فمه فلا يخلو من حالتين: إما أن يديرها في فمه ثم يبلعها، وهذا هو الذي حكم المصنف عليه أنه يحرم، وأنه يوجب الفطر إن بلعها، وهناك وجه ثان: أنه لا يفطر، ويرون أن الفم مغتفر كالأنف، والذي اختاره المصنف من القوة بمكان؛ لأن الأصول تقتضيه. وإما أن يخرجها إلى الشفتين كما ذكرنا، كأن يخرج لسانه وعليه النخامة ثم يزدردها، فإنه يفطر في قول جماهير العلماء رحمهم الله قولاً واحداً. على هذا يفرق في النخامة بين هاتين الحالتين. أما بالنسبة للبلغم الذي يكون من الصدر، فإن كح وأخرجه إلى حلقه دون أن يصل إلى فمه ويجاوز لهاته، فلا إشكال إن ازدرده مباشرة، وأما إذا أخرجه إلى فمه ففيه الكلام الذي ذكرناه، والصحيح والأقوى: أنه يفطر، كما لو أخرج القيء ثم رده. وبناءً على ذلك، فإن النخامة والبلغم يفصل فيهما هذا التفصيل. حكم تذوق الطعام بلا حاجة [ويكره ذوق طعام بلا حاجة] قوله: (ويكره ذوق طعام بلا حاجة) له حالتان: الحالة الأولى: إذا نظرت إلى ذوق الطعام، فأنت ترى أن الذي يذوق الطعام فيه شبهة؛ لأنه إذا ذاقه وازدرده لا إشكال أنه يفطر بالإجماع؛ كأن يتحسى شراباً أو يتذوق طعاماً، ثم بعد ذلك يزدرده ويجاوز اللهاة، فإنه بالإجماع يفطر. الحالة الثانية: أن يذوق الطعام ثم يغسل الفم مباشرة ويلقيه، فهذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم والصحيح ما أفتى به ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة من السلف: أنه لا حرج ولا بأس أن يذوق الإنسان الطعام؛ لكن بشرط أنه بعد تذوقه يغسل فمه، ويذهب المادة التي ذاقها، أما إذا لم تذهب المادة وبقيت وتحللت في اللعاب، ووجد طعم الطعام في حلقه فقد أفطر. حكم مضغ الصائم للعلك وأنواعه [ومضغ علك قوي]. العلك: هو اللبان وهو أنواع: النوع الأول: ما يكون دواءً وعلاجاً كاللبان المر، فهذا له فوائد للصدر، وله فوائد للجوف. وهناك النوع الثاني الذي لا يقصد منه التداوي، وهو الذي يستعمل من باب الترفيه عن النفس، فهذا يشدد فيه بعض العلماء لما فيه من شبه بقوم لوط، ولا يحفظ في ذلك نص صحيح يدل على ثبوت هذا، لكنه من خوارم المروءة، يعني: إن الحياء والمروءة أن لا يستعمله من له مكانة، كالوالد أمام أولاده، وهكذا الأم أمام بناتها وصغارها، وهكذا طالب العلم والعالم ومن له مكانة بين الناس، فمضغ اللبان يسقط مروءته ويدل على قلة حيائه، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ) وضابط ذلك أن يفعله أمام الناس كما أشار إلى ذلك بعض العلماء بقوله: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فكونه يمضغ اللبان أمام الناس، فهذا يوجب سقوط عدالته والجرح في شهادته، ويدل على نقص عقله؛ لأن العقل يمنع من فعل هذه الأمور أمام الناس. وبالنسبة للتحريم بأن أهل لوط يفعلون ذلك، هذا لم يثبت به نص صحيح، والأصل الجواز، ولا حرج في مضغه، وكون الإنسان يمضغ اللبان لا حرج؛ لكن لا يفعل ذلك أمام الناس، وأما لو كان صغير السن كالأحداث ونحوهم فهذا مما جرت العادة باغتفاره، والدليل على الجواز: أن الله سخر لبني آدم الارتفاق بالمطعوم والمشروب ما لم يدل الدليل على التحريم، وهذا مما يطعم، وأما اللبان الذي يتداوى به كمرضى السكر ونحوهم لكونهم يحتاجون إلى وجود اللعاب في أفواههم، وهكذا بالنسبة للبان المر الذي يتداوى به الإنسان فهذا لا إشكال فيه. فاللبان أو العلك له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون قوياً ومادته متحللة، وهذه الحالة أوضح ما تكون حينما يأخذ الإنسان في بدايته، فإنه يجد قوة المادة ويجد تحللها وأثرها في فمه، فتجد لعاب الإنسان يسيل بسبب قوة المادة؛ فإذا كانت المادة حلوة سال لعابه؛ فتجد قوة المادة مؤثرة، هذا هو المتحلل. الحالة الثانية: غير المتحلل: وهو الذي لا تجد له طعماً، فأنت إذا نظرت إلى هذا اللبان كاللبان المر إذا علكه الإنسان لمدة ربع ساعة تقريباً أصبح مادة يعلكها، لا يجد لها طعماً قوياً ولا تكون مؤثرة، والمقصود منها في الغالب أن الإنسان يريد منها جريان اللعاب. فهذا معنى القوي المتحلل، والضعيف غير المتحلل، فاللبان في بدايته يكون متحللاً قوياً. ما فائدة هذا التفصيل؟ فائدة هذا التفصيل: أنه لو كان قبل أذان الفجر يعلك اللبان فعلكه وذهبت قوته، ثم أذن عليه الفجر وهو في فمه، ولا يجد إلا إسالة اللعاب، ولا يجد لمادة اللبان أثراً؛ فهذا أضعف مما لو كان في بداية العلك، فيفرق بين الذي له مادة تتحلل والذي ليست له مادة، وتوضيح ذلك: أن الفم من الخارج كما قررناه، فكونه يجري اللعاب في داخل فمه عن طريق اللبان هذا لا يؤثر، ما لم يكن من لبان مادته قوية متحللة، ويكتسب طعم الريق فيها، ثم يزدرد هذه المادة فيفطر، وأما إذا كانت مادة اللبان جافة، خاصة لو شرب الماء بعد مضغ اللبان بربع ساعة تقريباً أو عشر دقائق فإن اللبان يصبح جافاً ومادته جافة ولا تتحلل؛ فحينئذٍ يضعف عن التأثير، بخلاف ما لو كان في بدايته. إفطار الصائم بوجود طعم العلك والطعام في الحلق [وإن جد طعمهما في حلقه أفطر]. وإن وجد طعم العلك سواء كان قوياً أو ضعيفاً -يعني: المتحلل وغير المتحلل- إن وجد طعمه في حلقه أفطر قولاً واحداً؛ والسبب في ذلك: أنه بوصول هذه المادة إلى الحلق، فإنه يعتبر في حكم من طعم الطعام، ووجد الطعام أو أثر الطعام في حلقه. [ويحرم العلك المتحلل إن بلع ريقه]. قال: يكره إذا لم يكن قوياً، وأما إذا كان متحللاً فإنه يحرم إن بلع ريقه، أما لو أجراه في فمه ثم لفظه ولفظ ما فيه، فهذا لا يؤثر. حكم القبلة بالنسبة للصائم [وتكره القبلة لمن تحرك شهوته]. وتكره القبلة للشخص الذي تحرك القبلة شهوته، فالشخص إذا قبَّل لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن لا يأمن من نفسه أن تقوى شهوته، ويندفع إلى درجة لا يأمن معها أن يفسد صومه بالجماع. الحالة الثانية: أن تتحرك شهوته إلى درجة لا تصل إلى الجماع ولكن إلى أن ينزل، ويستطيع أن يحبس نفسه عن الجماع لكن لا يستطيع أن يحبس نفسه عن إنزال المني كأن يكون سريع الإنزال عند بداية شهوته. والحالة الثالثة: أن يكون قوياً مالكاً لإربه، فلا ينزل ويأمن أن يقع منه الجماع. هذه ثلاثة أحوال بالنسبة للشخص الذي تقع منه الشهوة: إما أن تحركه حتى يصل إلى غايتها من الجماع، وإما أن تحركه فيصل إلى الإنزال ولا تؤدي به إلى الجماع، وإما أن تحركه فيجد النشوة، ولكن لا يصل إلى الإنزال ولا يقع منه جماع. أما إذا كان لا تحرك القبلة شهوته فهو الشخص الذي لا يجد الانتشاء بالتقبيل، كأن يقبل لعاطفة، كأن يقبل أبناءه ويقبل بناته، فهي ليست بقبلة شهوة؛ لأن التقبيل يكون لمعانٍ: أن يقبل محبة وشهوة وهي قبلة الزوج لزوجته والعكس، وأن يقبل لرحمة كتقبيل الابن لأبيه والأب لابنه، ويقبل لعاطفة وهي صورة العكس الأب لابنه، ويقبل لهيبة وإجلال كأن يقبل جبهة العالم أو يده. فهذه أحوال للمقبل، لكن الذي يتكلم العلماء عنه: التقبيل للمرأة، وهو تقبيل الشهوة، أما لو رأى المرأة في حزن ورحمها وعطف عليها فقبلها من باب العطف والحنان، فإنه خارج عن مسألتنا، وحمل بعض العلماء عليه تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة قبل أن يدخل إلى المسجد، فقالوا: إن هذا التقبيل من النبي صلى الله عليه وسلم ليس تقبيل محبة، وإنما هو صدق مودة من النبي صلى الله عليه وسلم لها، ليس يقصد منه تحريك الشهوة، أو ما يكون بين الرجل وامرأته من باب الشهوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما قالت: كان إذا أذن عليه المؤذن لا يعرفنا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يشتغل بأمر الصلاة. فالتقبيل الذي يبحثه العلماء في هذا الموضع: تقبيل الشهوة، ولا يريدون منه مطلق التقبيل، فلو قبل الأب ابنه فإن قبلته قبلة عطف وحنان وشفقة، كما قال أحدهم للنبي صلى الله عليه وسلم: ( إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم. قال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟! ) فوصف التقبيل بكونه رحمة، فهذا لا يتكلم العلماء عنه، وهكذا لو قبلت الأم بنتها إذا رأت عليها الحزن وقبلتها ونحو ذلك، فإذا كان التقبيل للشهوة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل وهو صائم، كما في الصحيحين من حديثٍ يرويه هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، أن عائشة رضي الله عنها قالت: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، فسألها عروة رضي الله عنه وقال: ما أراه إلا أنت. قال: فضحكت رضي الله عنها وأرضاها )، ما فائدة سؤال عروة رضي الله عنه بهذا الأسلوب؛ لأنه قد يقول البعض: ما داعي أن يقول عروة ذلك؟ الواقع أننا استفدنا من هذا أنها رواية متصلة لا منفصلة؛ لأنه قد تحكي أم المؤمنين شيئاً من حاله عليه الصلاة والسلام عن غيرها من أمهات المؤمنين؛ لكن كونها تضحك هذا يدل على أنه وقع لها من النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون الرواية متصلة، ويكون الفعل بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة. هذا يدل على أنه لا حرج أن يقبل الصائم زوجه؛ لكن قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: ( ولقد كان أملككم لإربه -وفي رواية: لأرْبه، وقيل: لأرَبِه- ) واختلف العلماء فيه على وجهين: قيل: الأَرَب هو العضو، أرادت أنه لا ينزل عليه الصلاة والسلام، وقيل: شهوته، يعني الشهوة مطلقاً؛ فإذا قلت: إن المراد بالأرب العضو، فيكون مرادها أنه يتحفظ من الإنزال، فيدل على حل أن يقبل للشهوة، ولكن بشرط أن يأمن الإنزال، وإن قلت: إن المراد بتقبيل النبي صلى الله عليه وسلم مطلق الشهوة، فحينئذٍ تشمل الشهوة المنبعثة من التقبيل، والشهوة التي يكون منها الجماع؛ فحينئذٍ تقول: إنه قبل لمعنى غير الشهوة، كأن يقبل لعطف أو لحنان أو نحو ذلك، والأول أقوى. وعلى هذا: فإنه لو قبل زوجته للشهوة لا حرج، لكن فيه تفصيل: إن غلب على ظنه أنه يجامع أو يقع في الجماع فلا يجوز له أن يقبل؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها؛ فإنك لو قلت: الشرع يأذن للرجل أن يقبل زوجته، مع أنه يغلب على ظنك أنه سيقع في الجماع ويفسد الصيام، فهذا مما لا يأذن الله عز وجل به، وحينئذٍ يتناقض الشرع، ولذلك نبهت أم المؤمنين رضي الله عنها على هذا فقالت: (كان أملككم لإربه) وكأنها تريد أن تفرق بين من يملك ويقدر على حفظ نفسه، وبين من لا يملك ولا يقدر على حفظ نفسه. وقد دل الشرع على أن تعاطي السبب يوجب الضمان للإنسان، وأن الإنسان ينبغي عليه أن يتحفظ عن الأسباب التي تفضي به إلى الإخلال، سواء بالمأمورات أو بالمنهيات، وبناءً على ذلك إذا غلب على ظنه أنه يفسد صيامه بالجماع أو بالإنزال؛ فإنه لا يقبل. الحالة الثانية: فلو اعترض معترض وقال: هذا ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل، فلا داعي بأن نفرق بين من يقع وبين من لا يقع، نقول: إذا استدليت بفعله عليه الصلاة والسلام يلزمك الاستدلال به كاملاً، والذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئان: التقبيل مع التحفظ، والذي نتكلم فيه: التقبيل مع عدم التحفظ، فصورة القبلة منه صلى الله عليه وسلم فيها محافظة ولا إخلال فيها، والصورة التي ذكرها العلماء واستثنوها التي فيها الإخلال، فبقيت على الأصل الموجب للمنع، وهكذا لو أنه لم يأمن أن ينزل؛ لأن إنزاله يفضي به إلى الفطر، فاستوى أن لا يأمن الجماع وأن لا يأمن الإنزال، ففي هذه الأحوال يمنع منه. وأما بالنسبة لما ورد في حديث أبي داود ، وتفريقه عليه الصلاة والسلام بين الشيخ وبين الشاب فهو حديث ضعيف؛ لكن متنه صحيح، وأصول الشريعة دالة على أن الذي لا يملك نفسه، وقصدنا الشاب الذي لا يملك نفسه فإنه لا يقبل، وأما بالنسبة للذي يملك نفسه ويقدر فإنه لا حرج عليه أن يقبل. حرمة الكذب من الصائم وغيره [ويجب اجتناب كذب وغيبة وشتم]. ويجب على الصائم أن يجتنب الكذب، في الحقيقة الكذب محرم على المسلم سواءً كان صائماً أو مفطراً، ولكن لماذا يقول المصنف رحمه الله: ويجب اجتناب كذب؟ وتوضيح ذلك أن الكذب محرم في أصل الشرع، ولكنه في رمضان أو في حال الصيام المفروض إذا كذب عليه وزران وإثمان: الإثم الأول: من جهة كونه كاذباً، والإثم الثاني: عدم رعايته لحرمة صيامه، ولذلك يضيف العلماء في باب الصيام تأكيداً، وإلا فالكذب محرم مطلقاً. والكذب هو مخالفة الخبر للواقع، كأن يقول: محمد في الدار. والواقع أنه ليس في الدار، الواقع: يعني الذي حدث وحصل أو الخارج عن الكلام الذي يوصف به ذلك؛ فلو قلت: ومحمد موجود في حال النفي أو غير موجود في حال الإثبات، فهذا كذب، أي يكون كاذباً إن كان عالماً بأنه ليس بموجود فأخبر بالوجود، والعكس. فالكذب محرم مطلقاً، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة:119] وقال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح-: ( عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة ) وقوله: (يهدي إلى البر) يعني: يهدي لكل خير، فقل أن تجد إنساناً لسانه صدوق إلا وجدته أكثر الناس حرصاً على الطاعة، وقل أن تجد إنساناً كذوباً ويوفق للخير، فغالباً ما تجد الصادق في قوله الأمين في خبره موفقاً للخير؛ لأنه قد سد عن نفسه إثم لسانه، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف كمال المسلم قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) فمن أذية المسلمين باللسان الكذب عليهم، فيكذب ويخبرهم بأمور ليس لها حقيقة، فهذا من الكذب، وأشد ما يكون الكذب إذا كان على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتحليل الحرام أو تحريم الحلال، فهذا من أعظم الكذب نسأل الله السلامة والعافية! وهو من كبائر الذنوب التي توعد الله عليها باللعنة والغضب، نسأل الله السلامة والعافية. وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب حيث قال: ( وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور؛ وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) فالإنسان الذي لا يبالي بالكلام الذي يخرج منه، ويتكلم بما لا حقيقة له؛ فإن هذا الفعل منه اعتداء لحدود الله في اللسان، فيفجر بلسانه. وقد ثبت في الحديث عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: هذا أي: لسانك ) فإذا كذب لسانه وتحرى الكذب -نسأل الله السلام والعافية- اعوجت جوارحه، وهذا يشهد له ما جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أن الأعضاء تكفر اللسان في صباح كل يوم، وتقول: ( يا هذا! اتق الله فينا، فإنما نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ) وهذا يدل على خطر الكذب، ولذلك قال: ( فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً )، والكذب حرام سواء كان في الصيام أو غيره، ولكنه في الصيام أشد، وهو كبيرة من كبائر الذنوب. واختلف العلماء متى يكون الكذب كبيرة؟ فبعض العلماء يقول: الكذب كبيرة ولو بمرة واحدة، فمن كذب الكذبة الواحدة فإنه -نسأل الله السلامة والعافية- يعتبر فاسقاً مردود الشهادة مقدوح العدالة. وقال بعض العلماء: لابد وأن يتكرر الكذب ثلاث مرات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) فالناس فيهم كاذب وفيهم كذاب وفيهم كذوب، فالكذاب والكذوب هو الذي يتكرر منه الكذب، وصيغة فعّال تدل على الكثرة من ذلك الشيء، فبعض العلماء يرى أنه لا يعتبر من كبائر الذنوب إلا بثلاث، ولكن الأقوى أنه يفرق في نوعية الكذب، فبعض الكذبات تعتبر كبيرة بمرة واحدة، وبعضها لا تعتبر كبيرة إلا بالتكرار، فالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بحديث واحد يعتبر كبيرة، حتى ولو روى حديثاً وهو يعلم أنه ضعيف ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسكت على ذلك وأقره، أو عبر بصيغة تدل على ثبوته، وهو يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله السلامة والعافية! قوله: (ويجب اجتناب كذب) قال بعض العلماء: من كذب وهو صائم فقد أفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) قالوا: فإذا كذب فقد انتقض صيامه، وهذا مذهب بعض الظاهرية وبعض أهل الحديث رحمة الله عليهم، وجماهير السلف على أن الكذب لا يوجب الفطر، ولكنه ينقص أجر الصائم ويخل بثوابه الكامل، وقد يمنع من قبول الله لصيامه -نسأل الله السلامة والعافية-؛ لأن الله يقول: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة:27] وقال تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة:119] فجعل الصدق من تقواه سبحانه وتعالى من باب عطف الخاص على العام. وعلى هذا قالوا: إنه لا يأمن لو كذب مرة واحدة وهو صائم أن يرد الله صيامه عليه ولا يتقبله، وإذا لم يتقبل العمل فكأن الإنسان لم يعمله، نسأل الله السلامة والعافية! يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (205) صـــــ(1) إلى صــ(28) حرمة الغيبة للصائم وغيره قوله: [وغيبة]. ويجب اجتناب الغيبة بالنسبة للصائم فلا يغتاب الناس، والغيبة حقيقتها أن تكون بالقول وتكون بالفعل. وعلى ذلك فالغيبة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون باللسان. والحالة الثانية: أن تكون بالجوارح والأركان. فأما الغيبة باللسان: فهو أن يذكر أخاه بما يكره، فيقول مثلاً: فلان قصير، فلان سمين، فلان أعرج، فلان أعور، بشرط أن لا يكون من باب التمييز المحتاج إليه أو مما اشتهر به، فهذا يعتبر من الغيبة إذا ذكر نقصاً خَلقياً أو خُلقياً، والنقص الخلقي مثلما ذكرنا: فلان قصير، فلان كذا، بصفاته الخِلقية. أما النقص الخلقي فينقسم إلى قسمين: منه ما يتصل بالشرع، ومنه ما يكون من أحوال الإنسان ولا يتصل بالشرع، فالنقص الخلقي المتصل بالشرع: كأن يقول: فلان فاسق، فلان فاجر، نسأل الله السلامة والعافية! فيتهمه بالفجور وبالفسق، حتى ولو كان فاسقاً أو فاجراً فهي غيبة، أما إذا لم يكن فاسقاً ولم يكن فاجراً فإنه يعتبر جامعاً بين السوءتين والعظيمتين: الغيبة والبهتان، نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أعظم ما يكون، كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام عندما قيل له: ( يا رسول الله! إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ) فهذا النقص المتعلق بالدين، أما النقص الخُلقي الذي لا يتصل بالدين: كأن يقول: فلان يستعجل في رأيه، فلان لا يشاور، فلان مستبد برأيه، فهذا عيب في الإنسان، لكنه لا يتصل بالدين ولا يعتبر قادحاً دينياً، فهذا يعتبر من الغيبة، لكنه ليس بعيب ديني، إنما هو عيب خُلقي، وهذا كله يندرج تحت الغيبة باللسان. أما الغيبة بالجوارح والأركان فقد تكون باليد، كأن يشير عند قوله: فلان قصير، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( والذي نفسي بيده -لما أشارت أم المؤمنين أنها قصيرة- لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لأنتنته ) أي: أن هذا الفعل منك تعيرين به هذه الأمة من إماء الله بالقصر، فيه أذية للمؤمنة، وأذية المؤمن عظيمة عند الله سبحانه وتعالى. فقوله: (لو مزجت بماء البحر) أي: لو كانت شيئاً حسياً يظهر قذره للعيان، ووضع هذا القذر في البحر الذي يعرف بكثرة الماء ولا يتغير، قال: (لأنتنته) أي: لوجد نتنه وضرره. فهذا يدل على خطر الغيبة، فهذه غيبة اليد. ويندرج تحت الغيبة بالجوارح غيبة اللسان: مثل أن يأتي الشخص يحكي لهجة الشخص، أو يحكي أسلوبه في الكلام؛ كأن يحاكي كلام رجل أعجمي فيتكلم كلاماً أعجمياً، أو يكون في لسانه رتق أو لثق، فيأتي بالرتق واللثق على أساس أنه يحكي كلامه، فهذا كله من الغيبة وآخذ حكمها -نسأل الله السلامة والعافية!- وكما تقع الغيبة بالكلام تقع كذلك بالجوارح والأركان؛ فبعض الناس يظن أن الغيبة لا تقع إلا بالكلام، والواقع أنها أعم من هذا كله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإشارة غيبة، ومن هنا قال العلماء: إن الفعل آخذ حكم القول؛ لأن المراد أن تحفظ حرمة أخيك المسلم، ويستوي في ذلك أن يكون انتهاكها بالقول أو يكون انتهاكها بالفعل، بل إن انتهاكها بالفعل في بعض الأحيان أشد من انتهاكها بالقول. والغيبة لا خير فيها، فلا يغتاب الناس إلا إنسان دنيء؛ لأن الإنسان الكامل في خلقه، والكامل في أدبه مع الناس يحفظ لسانه عن أذية المسلمين، ويصونه عن الوقيعة في أعراضهم، وعلى ذلك يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فكما أنه يكره أن يذكر عند الناس، كذلك يكره أن يذكر الناس بما لا يحبونه، فهذه الغيبة محرمة، وهي بالإجماع من كبائر الذنوب. واختلفوا متى تكون كبيرة، قال بعض العلماء: تعد كبيرة بحسب الأشخاص الذين يذكرهم المغتاب، فغيبة العلماء سواءً كانت باللسان أو كانت بالجوارح والأركان، يقصد منها تجريح عالم أو انتقاصه، فقالوا: هذا يعتبر كبيرة، فذكر العالم بما يكره في غيبته يعتبر كبيرة ولو مرة واحدة، وذلك لعظيم حرمتهم عند الله عز وجل. ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما قال المنافقون: ( ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة:65-66] ) قالوا: لأن المنافقين وقعوا في أعراض القراء واغتابوهم، وهم قراء لكتاب الله؛ ولأن الأذية لهم من جهة الشرع فكذلك العلماء والقضاة. والناس يقعون في الغيبة وهم لا يشعرون، فتجد الواحد يقول: القضاة لا يعرفون، أو الدعاة لا يعرفون. فإذا قال: القضاة فإنه قد اغتاب جميع من يقضي على وجه الأرض بشريعة الإسلام، ويعتبر متحملاً لوزرهم، نسأل الله السلامة والعافية! وهكذا إذا قال: العلماء لا يحسنون الفتوى، فإنه يعتبر متحملاً لوزر جميع العلماء إذا وصفهم بكونهم لا يفقهون، ولذلك الأمر خطير جداً! فإذا ذكرت جنساً معيناً وقلت: جنس كذا لا يفهمون، جنس كذا يسرقون، جنس كذا يفعلون، جنس كذا يتركون، جنس كذا طوال أو قصار، فهذه غيبة لتلك الأمة كلها؛ لأنه وصفهم جميعاً، وشهد عليهم بهذا، فالأمر خطير جداً والله تعالى يقول: { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف:19]. فالإنسان يتكلم وهو لا يدري، ويظن أن الأمر سهل، ومن هنا أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: ( والذي نفسي بيده! إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً، يهوي بها أبعد مما بين المشرق والمغرب في نار جهنم ) الكلمة الواحدة، فهذا أمر صعب، حتى قال بعض العلماء: إن العبد يبيت قائماً ويصبح صائماً وحسناته قد ذهبت بغيبة واحدة، كأن يغتاب أمة بكاملها والعياذ بالله! فالأمر جد خطير، وعلى طالب العلم والعلماء والدعاة أن ينصحوا الناس وأن يذكروهم، فهذا أمر حرمه الله عز وجل، إذا وقع فيه الصائم -قال بعض العلماء- فسد صيامه وأفطر ولزمه القضاء. وهو قول ضعيف، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور أنه يأثم، وصيامه صحيح. وجوب اجتناب الشتم للصائم قوله: [وشتم]. الشتم له حالتان: إما أن يكون شتماً يوجب النقص للمشتوم في دينه، كأن يشتمه شتيمة كفر -والعياذ بالله- فيصفه بالكفر، فهذا من أشد الشتم وهو الذي أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه أنه إذا قال لأخيه المسلم: يا كافر! إن كان كما قال وإلا حارت عليه، يعني: رجعت إليه والعياذ بالله! فهذا أعظم الشتم، وهو الشتم بالعيب الديني الموجب لخروجه من الملة. وبعده الشتم بالفسق، كأن يشتمه بعيب فيه فسق كشرب خمر أو زناً أو غير ذلك، فهذا من كبائر الذنوب، ومنه قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وهو الذي توعد الله عليه باللعنة والغضب والعذاب العظيم في الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أشد أنواع الشتم. ويليه بعد ذلك: الشتم بالمحقرات، أو قد يكون الشتم غير مباشر، فيكون بالتشبيه، كأن يصفه بوصف يقصد به المنقصة، فهذا من الشتم؛ لأنه يتضمن الانتقاص والعيب. هذا كله مما يحرم على الصائم، ولذلك كان بعض العلماء يكره ويتقي أن يعنف الطالب في رمضان أو وهو صائم؛ خوفاً أن يكون منقصاً لأجره وموجباً لذهاب كمال ثوابه، حتى كان بعضهم يتورع ويتقي أن يقول للطالب: أنت لم تفهم؛ لأنه عيب وانتقاص؛ ولأن أصل الشتم الانتقاص. وعلى هذا ينبغي للصائم أن يتحفظ ولا يؤذي إخوانه المسلمين بالشتم واللعن والسب، وقد ثبت في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة ) اللعانون هم الذين يكثرون اللعن فهم لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية! فهؤلاء حرمهم الله من هاتين المرتبتين الكريمتين اللتين يحتاجهما الإنسان أكثر ما يكون لقرابته كأبنائه وبناته، فهو يريد أن يشفع لهم بخروجهم من النار أو بعذاب استحقوه، فلا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، والشهادة مرتبة شرف وكمال، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتحفظ من اللعنة. واللعنة إذا خرجت من الفم لا تعود، وإذا نطق بها اللسان إن كان الملعون كما ذكر أصابته، وأما إذا لم يكن كذلك رجعت في الذي قالها، نسأل الله السلامة والعافية! ما يسن لمن شُتِم قال رحمه الله: [وسن لمن شتم قوله: إني صائم]. أما الدليل على أنه لا يسب ولا يشتم: قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ) والجهل: أن يسب الناس؛ لأنه فعل الجاهلية والجهل من الجاهلية، فمراده بأن لا يجهل: يعني بأن لا يقول قولاً فيه جهل، كالسب والشتم ونحو ذلك من الغيبة، ( ولا يجهل ولا يصخب -والصخب: رفع الصوت- فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم ) هذه هي السنة التي تدل على أنه ينبغي أن يتحفظ، فإذا استفزه الغير وحركه للانتقام ذكره بالصيام، ويقول: إني صائم. أي: عندما يقول: إني صائم، فإنه يذكر أخاه المسلم أن يتقي الله فيه، وأن لا يجمع له بين ذنبين: بين كونه يسبه وينتقصه وبين أن يحركه لإفساد صومه، ويقول بذلك ويسمعه حتى يذكره أيضاً بتقوى الله عز وجل، خاصة إذا كان صائماً مثله. إذا وقع السباب والمخاصمة بين اثنين فهناك سنن تتعلق بالذي شُتِمَ وسُبَّ، وسنن تتعلق بالذي يتكلم ويشتم، فالأصل أن الإنسان لا يشتم الناس كما ذكرنا، وإذا كان صائماً فإن الأمر في حقه أشد، فإن تعدى وشتم سن للذي يُشْتَمُ أن يقول: إني صائم، إني صائم. وبعد أن بين لنا المصنف رحمه الله أنه يحرم على الإنسان أن يسب الغير ويشتمه في حال الصيام أو أن يصخب أو يجهل، شرع في بيان ما ينبغي على من خوطب بالجهل فَسُبَّ أو شُتِمَ أو انتُهِكَ عرضُه أن يقول بلسانه: إني صائم، إني صائم. لقوله عليه الصلاة والسلام: ( فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم ) والصحيح: أنه يقول ذلك بلسانه ويسمعها للشخص، وقيل: يقول ذلك في نفسه، وهذا ضعيف؛ لأن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة حتى يدل الدليل على غيره، وقوله: (فليقل) القول: هو اللفظ، والكلام النفسي الذي بداخل الإنسان ليس بلفظ؛ لأنه لم يلفظه، وقد قال تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ } [ق:18] ووصف القول بأنه يلفظ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فليقل) معناه: فليلفظ هذا اللفظ فيقول: إني صائم، إني صائم. فإذا قال في نفسه: إني صائم، فمعنى ذلك: أنه لم يلفظ وحينئذٍ لم يقل، فلا يعتبر مصيباً للسنة من هذا الوجه. يسن تأخير السحور قال رحمه الله: [وتأخير سحور]. وسن له أن يؤخر السحور، والسحور: فعول من السحر، والسحر آخر الليل قبل الفجر بساعة، تزيد أو تنقص على حسب طول الليل وقصره في الشتاء والصيف، والسحر: هو السدس الأخير من الليل، فتقسم الليل على ثلاثة أجزاء: ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ثم بعد ذلك تأخذ نصف الجزء الأخير وهو السدس، فهذا السدس هو السحر الذي انتهى إليه وتره عليه الصلاة والسلام كما قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيحين: ( من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوله وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر ) وهو أفضل الأوقات لذكر الله عز وجل كما قال تعالى: { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } [آل عمران:17]. وسمي السحور سحوراً لوقوعه في هذا الوقت، والعرب تسمي الشيء بزمانه، كما سميت صلاة الضحى؛ لأنها تقع في الضحى، وعيد الأضحى؛ لأن الأضحية تذبح في الضحى وهو أول النهار، فالمقصود: أن السحور سمي سحوراً بهذا، والسحور: فعل الأكل في وقت السحر، سواء كان قليلاً أو كثيراً، فمن أكل تمرة واحدة فقد تسحر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا فقال: ( ولو بتمرة ) فهو إذا أكل في السحور ولو تمرة واحدة فقد تسحر، والأفضل أن يؤخر الأكل إلى هذا الوقت؛ لأنه إذا أخر الأكل إلى هذا الوقت قويت نفسه على العبادات وعلى الطاعات؛ ولأنه يخالف شريعة من قبلنا من اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا لا يأكلون إذا استيقظوا من نومهم وإنما يمسكون، فكان في شريعتهم أنه إذا نام أحدهم حرم عليه الأكل إلى اليوم الثاني، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( فرق ما بيننا وبينهم طعمة السحر ) فهو يطعم ولو تمرة؛ حتى يخالف اليهود، وحينئذ تكون فضيلة وقربة لله عز وجل. والأكل في وقت السحور مما يعين على أداء فريضة الفجر؛ لأن الإنسان إذا وقام وحافظ على السحور؛ فإنه أدعى لأن يحفظ صلاته وأن يتمكن من أدائها، لكنه إذا تسحر أول الليل ربما تساهل وقصر حتى يذهب وقت الفجر عليه، أو تفوته الجماعة فلا يصلي معها. فالمقصود: أن الأفضل له أن يتسحر. لكن لو أكل من الليل ثم نام واستيقظ في السحر ولم يأكل، وواصل فإنه لا إثم عليه؛ لأنه سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ولا تؤدي إلى الإخلال، فهذه من السنن ومن الفضائل. إذاً يؤخر السحور بحيث أنه بمجرد انتهائه من السحور يكون قد دخل وقت الفجر، وهذا من أفضل ما يكون، لكن ينبغي أن يكون ذلك مع حفظ وقت الفجر، أما إذا كان يتساهل ولا يضبط الوقت وعلى شبهة فيتحرى ويتحفظ؛ فالمقصود: أن تأخير السحور شرطه أن يضبط الوقت، أما إذا كان على وجه لا يأمن منه الإخلال فإنه يمنع منه؛ لأنه لا يعقل أن يطلب السنة على وجه يضيع به فريضة الله عز وجل، وهذا ركن من أركان الإسلام. سنية تعجيل الفطر والمبادرة به قال رحمه الله: [وتعجيل فطر]. ويسن أن يعجل الفطر من صيامه، فبمجرد مغيب الشمس يبادر بالفطر، وقال بعض العلماء: بذهاب الصفرة التي تكون بعد المغيب حتى يقبل الليل، قالوا: وهذا هو السر في قوله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة:187] أي: مع إمساك جزء يسير من الليل، وعناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إذا أدبر النهار من هاهنا -وأشار إلى المغرب- وأقبل الليل من هاهنا -وأشار إلى المشرق- فقد أفطر الصائم ) ويبادر بالفطر ( وأحب العباد إلى الله أعجلهم فطراً )، كما ورد في الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، فهذه من الفضائل؛ لما فيه من الأخذ برخصة الله عز وجل، وترك التنطع في الدين والتشدد؛ لأن التنطع لا خير فيه، والتنطع يهلك صاحبه كما قال عليه الصلاة والسلام: ( هلك المتنطعون ) ولا ينبغي للإنسان إذا وقت له الشرع شيئاً أن يجاوزه؛ فلما وقت له أن يبقى صائماً إلى مغيب الشمس، فينبغي له إذا غابت الشمس أن يأخذ برخصة الله عز وجل ويفطر. سنية الفطر على رطب أو تمر أو ماء والحكمة من ذلك قال رحمه الله: [على رطب، فإن عدم فتمر. فإن عدم فماء] السنة أن يكون الفطر على رطب، والرطب أفضل من التمر، فإذا لم يجد الرطب فالتمر، فإذا لم يجد التمر حسا حسوات من ماء؛ لحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه كان إذا أفطر أفطر على رطبات، فإن لم يكن أفطر على تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء ) صلوات الله وسلامه عليه. وكان بعض العلماء يذكر في الطب النبوي: أن للرطب خاصية طيبة للجسم، وأنه يقابل ما في جوف الإنسان من الشدة والحرارة، ويصلح بذلك البدن ويرتفق به، بخلاف الماء فإنه ينزل نزولاً سريعاً، ويفاجئ به أعضاء الإنسان في جوفه، فيستحبون أن يسبق بالرطب؛ لأن الرطب أقل انسياباً من التمر، والتمر أسرع انسياباً. ثم في التمر فضائل من جهة كونه هضيماً، كما أخبر الله عز وجل: { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } [الشعراء:148] فهذا الطلع إذا كان رطباً فهو أفضل وأكمل، فإذا اكتمل استواؤه صار تمراً، ومن المعلوم أن أول ما يكون من ثمرة النخل هو البسر، ويسمى: البلح، وهو الذي يكون عند الإزهاء من اصفرار أو احمرار، فتبقى البلحة على حالها ويضربها اللون، وهذه مرتبة الإزهاء، فبعد أن تزهي تبدأ تستوي قليلاً قليلاً، فيبدأ طرفها الأسفل بالاستواء والنضج، وبعض التمرات تبدأ بالترطيب من أعلاها، وبعضها تبدأ بالترطيب من أوسطها؛ حكمة من الله سبحانه وتعالى، وهذا من أبلغ الآيات التي ترد على الطبيعيين الذين يقولون: هذا من خيرات الطبيعة. وما هذه الطبيعة التي ليست برازقة ولا خالقة؟! فلو كان للطبيعية دور في ذلك لكان الرطب إما أن يستوي من أسفله أو من أعلاه أو من أوسطه، فيتفق على حالة واحدة، فهذا الاختلاف في الألوان والأشكال والخلقة، والاختلاف في الصور، والاختلاف في الترطيب كما في الثمر، يدل على وحدانية الله عز وجل ووجوده؛ لأن هذا يدل على وجود من فرق بين هذه الأحوال، ولذلك جعل الله الاختلاف آية على وحدانيته سبحانه وتعالى. فالمقصود: أن الرطوبة تبدأ من أسفلها، فلو كان في بداية الرطب يكون آخذاً حكم هذه الفضيلة، إذا لم يجد غيره، أما إذا كان بلحاً فلا يستحب؛ لأن البلح ييبس في الحلق، وله أثر يضر بالإنسان؛ لكنه إذا كان رطباً فإن لين الاستواء يقابل خشونة ما فيه من البلح فيعتدلا، ويكون نزوله إلى الأمعاء برفق، وهذا يذكره بعض العلماء في الطب النبوي، ثم يأتي بعده التمر؛ لأن التمر ينساب أكثر من الرطب، والشيء إذا جاء برفق للبدن صلح وانتفع به البدن. يقولون: فإذا انساب برفق امتصته الأمعاء، ويكون هذا أكثر وأبلغ في الرفق بالبدن، فجاءت الشريعة بطب الأرواح وطب الأبدان، فكان هديه عليه الصلاة والسلام أن يبدأ بالرطب، ثم التمر، ثم الماء، وكرهوا أن يفطر على شيء فيه نار، وفيه حديث تكلم العلماء على سنده، والأطباء يؤكدون أنه لا يستقيم؛ لأن الجوف حار بسبب الصيام، فإذا شرب الحار لا يكون مما يحمد للبدن، وكان بعض الأطباء القدماء يذكرون هذا، وأشار إليه بعض الأئمة -رحمة الله عليه- في شرح حديث أنس رضي الله عنه، وبين السبب في كونه عليه الصلاة والسلام يفطر على هذا الوجه، فلا يستحبون الفطر بما فيه نار أو بالأشياء الحارة؛ لأنه لا يأمن منها الضرر لنفسه. سنية الدعاء عند الإفطار والحكمة منه قال رحمه الله: [وقول ما ورد]. (وقول ما ورد) أي: يسن أن يقول ما ورد: ( ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله ) وأما الحديث ( اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا ) فإنه ضعيف، وإنما يدعو الإنسان بما تيسر وليس في ذلك توقيف؛ ولكن الهدي على أنه إذا انتهى الإنسان من العبادة يرجى له القبول؛ وإذا انتهى من الصلاة قبل أن يسلم شرع له الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم ( ثم ليتخير من المسألة ما شاء ) وجعل هذا الموضع موضع مظان الإجابة، كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن مواضع الإجابة: ( أي الدعاء أسمع؟ قال: أدبار الصلوات المكتوبات ) قيل: أدبار الصلوات المكتوبات، يعني: عند آخر الصلاة، فهذا من مواضع الإجابة، وبعد الصلاة الزكاة، ولذلك قال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [التوبة:103] فإذا أدى الزكاة دعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكلما انتهى من الفريضة وقام بحق الله كأن الله سبحانه وتعالى يرحمه، ويكون ذلك عاجل المكافأة له في الدنيا. وفي الصيام إذا انتهى من صيامه رجي له القبول، وفي الحج تجده إذا انتهى من موقفه بعرفة، وأصبح في يوم العيد الذي هو تمام عشية عرفة، يصلي صلاة الصبح ثم يقف عليه الصلاة والسلام بالمشعر ويدعو. قال بعض السلف: شهدت هذا الموضع ستين عاماً أسأل الله أن لا يجعله آخر العهد به فيردني الله إليه، وإني لأستحيي أن أسأله، فرجع فمات من عامه. وورد مثله عن الثوري رحمه الله. المقصود: أنهم يقولون: إن انتهاء الإنسان من الطاعة والقربة مظنة الإجابة، ولذلك يقولون في الصيام: إذا انتهى من أداء صيامه يدعو وليس فيه توقيت، يعني: ليس هناك لفظ معين يحد به، وإنما يدعو بما تيسر. استحباب القضاء متتابعاً وفائدته قال رحمه الله: [ويستحب القضاء متتابعاً]. ويستحب أن يقضي رمضان متتابعاً، وهذا الاستحباب لما فيه من براءة ذمة الإنسان وأدائه لحق الله عز وجل؛ فإنه لا يأمن الموت، ووجه الاستحباب: أنه بادر بأداء حق الله عز وجل: ( وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) فكونه يترك التأخير ويبادر بالتقديم، هذا أفضل وأكمل؛ ولذلك قالوا: الاستحباب أن يكون القضاء متتابعاً، وذلك بأن يبدأ بعد انتهاء أيام العيد بقضاء رمضان في اليوم الأول، أما لو أفطر بعده في اليوم الثاني فقد تأخر عن إبراء ذمته، فكان خلاف الأفضل، والأفضل والأكمل أن يبادر، وأن يكون قضاؤه متتابعاً، ولكن ليس بلازم، فلو قضى رمضان متفرقاً أجزأه؛ لأن الله قال: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] وبالإجماع على أن المراد بها أي أيام، ما دام أنها تصح للقضاء، فيستوي في ذلك أن تقع مرتبة أو تقع مع وجود الفاصل بالفطر. لكن هنا مسألة، وهي: أن البعض ربما يؤخر قضاء رمضان إلى أوقات يكون القضاء فيها أخف، كأن يؤخر إلى أيام الشتاء حيث يطول ليلها ويقصر نهارها، ويكون تأذيه بضرر الصيام والعطش أقل وأخف. قالوا: يفوته الأفضل والأكمل. حكم من أخر قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر قال رحمه الله: [ولا يجوز إلى رمضان آخر من غير عذر، فإن فعل فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم]. ولا يجوز أن يؤخر قضاء رمضان إلى دخول رمضان آخر من غير أن يوجد له عذر، أما لو وجد له عذر فإنه يجوز له ذلك. توضيح هذا: أن قضاء رمضان إذا أفطر الإنسان يوماً أو يومين أو أكثر لعذر فإنما نقول له: أنت بالخيار أن تقضي متى ما شئت، بشرط أن لا يدخل عليك رمضان الثاني وأنت لم تصم. وما الدليل على ذلك؟ حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح قالت: ( إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ). فكانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان، وهذا يدل على أن القضاء موسع، ولذلك يذكر العلماء هذه المسألة مثالاً على الواجب الموسع، ودل على هذا القرآن في قوله: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] لكن إطلاق القرآن يقيد بما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما ذكرناه؛ وذلك بأن لا يدخل رمضان آخر. فإذا دخل رمضان آخر ولم يصم نظرنا، نقول له: أنت بالخيار في صيامك إن شئت أن تصوم من الشهر الأول أو الثاني أو الثالث؛ لكن إذا دخل شعبان فحينئذٍ ننظر فيه، إن بقي من شعبان قدر الأيام التي عليك من رمضان الأول وجب عليك الصيام، فلو كانت عليه عشرة أيام فإنه يجب عليه أن يصوم من اليوم العشرين؛ لأن يوم الثلاثين يحتمل أن يكون من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، وحينئذٍ يصوم يوم عشرين والواحد والعشرين ثم ما بعده حتى يتم العدة. وأما إذا كان عليه مثلاً خمسة أيام فنقول له حينئذٍ: صم من الرابع والعشرين، فيصوم اليوم الرابع والعشرين والخامس والعشرين والسادس والعشرين، حتى لا يصل إلى يوم الشك، لاحتمال أن يكون من رمضان؛ فإذا بقي على قدر الأيام التي عليه من شعبان تعين عليه الصوم، وهذا يمثل له العلماء فيقولون: الواجب الموسع يصير مضيقاً في آخره إذا بقي على قدر فعله. كالصلاة إذا دخل وقتها فإن الإنسان إذا لم يكن ملزماً بالجماعة، كأن يكون في سفر أو نحوه، فله أن يؤخرها إلى آخر وقتها ولا حرج، فحينئذٍ إذا بقي على قدر فعلها تعينت عليه، وانتقل الواجب الموسع إلى الواجب المضيق. فإذا بقي من شعبان على قدر الأيام التي عليه فلا يخلو من حالتين: إما أن يقول: لا أريد أ ن أصوم -نسأل الله السلامة والعافية- ويترك الصيام مع القدرة عليه؛ فهو آثم شرعاً، وسيأتي بيان الحكم. وأما الحالة الثانية: وهي أن يكون معذوراً كالمرأة الحائض يصيبها الحيض، أو تصير نفساء في هذه الفترة؛ فإذا كان معذوراً فحينئذٍ ينتقل قضاؤه إلى ما بعد رمضان الثاني بدون أن نطالبه، ولا إثم عليه. فمن سألك وقال: لم أستطع قضاء رمضان الأول حتى دخل رمضان الثاني، تقول: هناك تفصيل في مسألتك: إن كنت قد قصرت عند بقاء المدة التي عليك من رمضان الأول قبل رمضان الثاني فحينئذٍ أنت آثم شرعاً. وهل عليه الكفارة أو لا؟ فيه قولان: الجمهور على أنه يكفر، فيطعم عن كل يوم ربع صاع، وإذا كان عليه أربعة أيام يطعم صاعاً كاملاً، فكل مسكين يعطيه ربع صاع. وقال بعض العلماء: لا يجب عليه إلا القضاء والاستغفار. وهذا أقوى؛ لأن الحديث الذي دل على الكفارة ضعيف؛ ولكن العمل عند جماهير العلماء على المطالبة بالكفارة، وإذا كفر فهو أفضل حتى يخرج من الخلاف. حكم من مات وعليه صوم قوله: [وإن مات وعليه صوم] إن مات المكلف وفي ذمته صوم واجب عليه، كصوم رمضان أو صوم نذر، فإنه يصوم عنه وليه؛ لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه ). فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الولي أن يحل محل مُوْليه إذا مات ذلك المولي ولم يصم، وهذا أصل عند جمع من العلماء رحمهم الله، إلا أن بعض أهل العلم فرّق بين صوم رمضان وصوم النذر، ورأوا أن الحديث خاص بصوم النذر. ولكن الصحيح: أن الحكم عام في كل صيام مفروض؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صوم النذر نبه به على سائر الصيام المفروض. وثانياً: لأن القاعدة تقول: (إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فكون السؤال ورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام النذر لا يقتضي تخصيص الحكم به، إذ كانت العلة في النذر وغيره واحدة؛ والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في صيام النذر بالقضاء بعد الموت، وذلك لكون النذر ديناً كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( أرأيتِ لو كان على أمك دين ) فدل هذا على أنه لا فرق بين صوم النذر وغيره، والمهم أن يكون الصوم واجباً على الميت، فيشمل صوم رمضان وصوم النذر. ويستوي في هذا الولي أن يكون ذكراً أو أنثى، ويستوي في الميت أن يكون ذكراً أو أنثى، فالرجل يقضي عن المرأة والمرأة تقضي عن الرجل، فالابن الذكر يقضي عن والدته، وكذلك البنت الأنثى تقضي عن والدتها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه ) والمراد بذلك: جنس الولي. حكم من مات وعليه حج قال رحمه الله: [أو حج]. أي: من مات وعليه حج، سواء كان حج فرض كأن يموت ولم يحج، ومن مات ولم يحج فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مستطيعاً الحج وفرّط في ذلك حتى مات، فحينئذٍ يجب أن يُخْرَج من ماله على قدر الحج عنه ويحج عنه. والحالة الثانية: أن يموت ولم يجب عليه حج؛ وذلك لأنه لم يتمكن؛ بسبب عجز مالي، ويكون معذوراً حينئذ ولا يجب عليه الحج، ومن ثم قالوا: إنه لا يجب عليه أن يُحج عنه، وهكذا لو كانت امرأة فلا يجب أن يحج عنها بعد الموت، فيستوي الرجال والنساء، المقصود أنه لا يؤمر الولي بالحج عن مُوليه إلا إذا وجب الحج على ذلك المُولي. وأما إذا كان الحج غير واجب عليه فلا يجب على ورثته؛ لأن القاعدة تقول: (إن البدل يأخذ حكم المبدل عنه) فالولي بدل عن الأصيل الذي هو الميت، فإذا لم يجب الحج على الميت، فمن باب أولى أن لا يجب قضاؤه على ورثته، وعلى هذا فإنه إذا وجب الحج على ميت ولم يحج وفرّط حَجّ عنه وليه. وهكذا إذا كان الحج واجباً بالنذر، كأن يكون حَجّ حجة الإسلام ثم قال: لله عليَّ أن أحج وَأَطْلَقَ ثم مات فيبقى النذر في ذمته على القول ببقائه بعد الموت، وإن كان بعض العلماء يسقطه؛ لأنه قد صار في عداد ما لا يملكه، ويسقط عنه كما يسقط النذر إذا لم يكن في ملك الإنسان. ففي هذه الحالة إذا لزمه الحج يُحج عنه إذا قصر وفرَّط فيه، ويؤخذ من ماله على قدر ما يحج به الغير عنه. وللعلماء تفصيل في مسألة المفرّط في الحج: فإذا كان الذي فرط في الحج وهو الميت قد وجب عليه الحج من ميقات بعيد، فإن وليه ومن يريد أن يحج عنه ينبغي عليه أن يحرم بالحج من هذا الميقات البعيد، فمثاله: لو أنه فرط في الحج وهو من أهل المدينة وقصر في ذلك، ومات ولم يحج، فإن وليه إذا أراد أن يحج عنه وكان من أهل الطائف، أو من أهل الرياض مثلاً، فإن ميقات أهل الطائف والرياض أقرب من ميقات المدينة، فحينئذٍ يلزمه أن يحرم من ميقات المدينة؛ لأن الحج وجب على الأصل من المدينة من ميقات الأبعد، فلا يحج من هو مُبْدَل عنه مما هو دون الميقات الأبعد الواجب. حكم من مات وعليه اعتكاف قوله: [أو اعتكاف]. أو كان عليه اعتكاف، كأن نذر أن يعتكف، قالوا: استحب لوليه أن يعتكف عنه، وهذا مبني على العبادات البدنية التي يدخلها التناوب، وأما إذا كانت العبادة بدنية لا تمكن فيها النيابة، فلا ينزل الولي منزلة الميت، كأن يموت وعليه صلاة؛ فإنه بالإجماع لا يقضي الولي الصلاة عن الميت؛ لأنها عبادة بدنية محضة. ورخص في الصوم لورود النص، وقيس الاعتكاف على الصوم ونزل منزلته، وإلا فالأصل أن العبادات البدنية لا ينزل فيها الولي منزلة الميت؛ وإنما جاز ذلك في العبادات البدنية المُشْتَرِكة مع المال، كالحج والصوم لورود النص باستثنائه، وبقي ما عدا ذلك على الأصل الموجب لعدم دخول النيابة فيه. حكم من مات وعليه صلاة نذر قوله: [أو صلاة نذر]. أو كان عليه صلاة نذر، فللعلماء وجهان في الصلاة عنه: أصحهما أن الصلاة لا تقضى عن الميت، وبعض أهل العلم يفرق بين الصلاة المفروضة في الأصل وبين الصلاة التي فرضها المكلف على نفسه، ووجه ذلك: أنهم يسلِّمون بأن الأصل في العبادات البدنية أنه لا تدخلها النيابة. فلا يصلي حي عن ميت، ولا يصلي حي عن حي، لكن ورد الحديث أن المرأة لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن وليّها الذي مات وعليه صوم نذر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصوم عنه، قالوا: فهذا يدل على أن العبادة البدنية المحضة وهي الصوم تدخلها النيابة إذا كانت نذراً؛ لأن السؤال وقع من المرأة عن النذر، فأبقوا الفريضة على الأصل، ثم قالوا: إن النذر ينزل فيه الولي منزلة مُوليه إذا توفي ولم يفعله. وبناءً على ذلك ألحقوا الصلاة المنذورة، فإذا نذر أن يصلي مائة ركعة أو يصلي عشرين ركعة ونحو ذلك، وتوفي ولم يقم بهذه الصلاة، يقوم وليه بالصلاة عنه، والأول أشبه وأقوى أنه لا تدخل النيابة في مثل هذا. استحباب الصوم عن الميت من وليه قوله: [استحب لوليه قضاؤه]. استحب لوليه أن ينزل منزلة الميت فيقوم بقضاء ما على الميت، وفي بعض الأحيان لابد من الإفراد في الولي، وفي بعض الأحيان يمكن للأولياء أن يقتسموا ما على ميتهم، فلو كان على ميتهم صوم مائة يوم وهذا الصوم نذره مفرقاً، فإنه في هذه الحالة يمكن أن تفرق المائة على الأولياء، ويصوم هذا عشرة أيام وهذا عشرة أيام حتى يتم العدد. وأما إذا كان الصوم لا يدخله الاشتراك كأن ينذر صيام شهر بعينه، فإنه في هذه الحالة لا يمكن أن يتأتى القيام بهذا النذر إلا من واحد من الأولياء، فحينئذ ينتدب أحدهم ويصوم عن ميته. الأسئلة حكم بلع ما علق بين الأسنان بعد طلوع الفجر السؤال ما كان عالقاً بين الأسنان من أثر السحور فابتلعه الصائم هل يفطر أم لا أثابكم الله؟ الجواب ما كان من فضلات الطعام بين الأسنان مما لا يشق التحرز عنه؛ فإنه إذا خلله وأخرجه -كبقايا اللحم أو بقايا الخبز- وقام وبلعها أو وجد طعمها في حلقه بعد طلوع الفجر الصادق عامداً لذلك؛ فإنه يفطر قولاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم. وعلى هذا: فإنه يخرج هذه الفضلات ويتفلها، أو يستاك ثم يبصق ما استاكه وما بقي من وضر ذلك الطعام، والله تعالى أعلم. حكم استخدام معجون الأسنان للصائم السؤال هل نستطيع أن نقيس معجون الأسنان على العلك بحيث نحكم بفطره إذا وجد طعمه في حلقه أثابكم الله؟ الجواب نعم، بالنسبة لمعجون الأسنان إذا وجد طعمه في حلقه أفطر، أما لو استاك بالمعجون ثم تمضمض ونظف فمه حتى ذهبت مادة المعجون فحينئذٍ لا يؤثر؛ لأن الفم من الخارج كما ذكرنا، كما لو استاك بمسواك؛ فإن هذا لا يضر، لكن لو تحلل المعجون ووجد طعمه في حلقه فإنه يعتبر مفطراً، والله تعالى أعلم. وجوب القضاء على المكرهة دون الكفارة السؤال أشكل عليَّ أن المكرهة لا كفارة عليها، وعليها القضاء علماً بأن الطارئ واحد وهو الإكراه، فلم لم نرفع الكل أثابكم الله؟ الجواب بالنسبة للإكراه يسقط عنها ولا كفارة، والسبب في ذلك أن الكفارة بمثابة العقوبة على الجرأة، فإذا كانت مكرهة لم يوجد فيها الجرأة التي من أجلها وجدت الكفارة، أي أننا أسقطنا عن المرأة المكرهة على الجماع الكفارة لكونها لم تتعد حدود الله عز وجل، وحصل منها هذا الشيء وهي كارهة، فحينئذ لا وجه لأن تطالبها بالكفارة حتى تجبر ما في نفسها من الجرأة على حدود الله. لكن في القضاء من باب خطاب الوضع، فحينئذ تطالب بضمان حق الله؛ لأنه من باب حكم الوضع لا من باب حكم التكليف، والله تعالى أعلم. حكم ماء المضمضة المتبقي في الفم بالنسبة للصائم السؤال بعد الوضوء أحسست في فمي ماء المضمضة، ما حكم بلعه أثابكم الله؟ الجواب بالنسبة لماء المضمضة إذا كان موجوداً في الفم، أو بقايا المضمضة موجودة في الفم فيجب إلقاؤها، فإن بلعها فإنه يكون في حكم الشارب. أما إذا كانت بقايا المضمضة، وهي التي تكون مع اللعاب فهذا مما العلماء اغتفره؛ لأنه يشق التحرز عنه، فلو أبقى بعض الماء من المضمضة ثم ازدرده، فإنه يفطر قولاً واحداً عند العلماء، أما لو بقيت بقايا الماء مما هو مع اللعاب ومصاحب للعاب فإن هذا لا يضر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (206) صـــــ(1) إلى صــ(24) شرح زاد المستقنع - باب صوم التطوع [1] لقد شرع الصيام فرضاً ونفلاً، وما ذلك إلا لعظيم أجره وثوابه، ومما ندب إلى صيامه: صيام الست من شوال، وأيام البيض، والإثنين والخميس، ويوم عرفة، وعاشوراء، وشهر المحرم، وما ذلك إلا ليبقى العبد على صلة دائمة بالله عز وجل عن طريق الصيام، فالصيام يطهر النفس، ويكسر الشهوة، ويحصل التقوى التي هي الغاية والحكمة من مشروعيته. فضل صيام التطوع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول عليه رحمة الله: [باب صوم التطوع] التطوع: تفعّل من الطاعة، والمراد بذلك زيادة الطاعة والتقرب لله عز وجل بفعل الصوم، وتوضيحه أن الصوم ينقسم إلى قسمين: قسم أوجبه الله عز وجل وفرضه على المكلف، كصيام رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر، فهذا يلزم المكلف به نفسه فيجب عليه القيام به. وقسم ثانٍ لا يجب على المكلف وهو صيام النافلة. وصيام النافلة: منه ما هو مطلق، كأن يصوم من الأيام ما شاء، ومنه ما هو مقيد، ندب الشرع إليه وحث العباد عليه، وهذا أفضل من النوع الذي قبله. فالمؤلف لما فرغ من بيان أحكام الصيام الواجب، شرع رحمه الله في بيان أحكام الصوم الذي لا يجب على المكلف. يقول العلماء: إن صيام التطوع تجبر به الفريضة، فلو أن إنساناً أخل بصوم الفرض جبر الله نقص صيام الفريضة بصيام النافلة. واستدلوا لذلك: بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ( إن أول ما يحاسب عنه العبد من عمله الصلاة، فإن كان فيها نقص قال الله لملائكته: انظروا هل لعبدي من تطوع ) . قالوا: فهذا يدل على أن نقص الفرائض يكمل من النوافل والتطوع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ثم سائر عمله على ذلك ) قالوا: فهذا يدل على أن سائر الأعمال يفرق بين فرضها ونفلها، فيكون نفلها مكملاً لفريضتها. وعلى هذا فمن فوائد صيام التطوع من فوائده أن الله يجبر به تقصير العبد في الفرائض، ثم إن صيام التطوع زيادة قربة وامتثال وطاعة لله عز وجل، فتزيد من محبة الله للعبد كما في الحديث الصحيح: ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ) . فالتقرب بالنوافل يزيد من حسنات العبد ويرفع من درجته، ويوجب محبة الله للعبد، وبقدر حرص الإنسان على فعل النوافل والطاعات يكون أقرب لمحبة الله، فأولى الناس بمحبة الله من حافظ على النوافل وأكثر منها. والسبب في ذلك أنه يفعل شيئاً لم يلزمه الله به بل ترك له الخيار، فصدق في طاعته ومحبته لله عز وجل فتطوع، ويشمل ذلك الطاعات البدنية من صلاة وصيام، والنوافل المالية كالصدقات التي ينفقها الإنسان من ماله ونحو ذلك من القرب. كأن المصنف رحمه الله يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصيام التطوع، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن أفضل الطاعات وأشرفها الصيام؛ والسبب في ذلك أن الصيام يقوم على الإخلاص، والإخلاص هو أحب الأعمال إلى الله عز وجل. حتى قال بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع: إن الصيام أفضل من الصلاة؛ والسبب في ذلك أن الصلاة ربما دخلها الرياء، كما قال تعالى: { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء:142]. ولكن في الصيام قال الله عز وجل في الحديث القدسي: ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) ففضلوا الصيام، وقالوا: إنه من أفضل الطاعات فريضة ونافلة، ففي الفرائض هو أفضل من بقية الفرائض، وفي النوافل نافلته أفضل من بقية النوافل. وعلى هذا خرّجوا أن الاستكثار من الصوم أفضل من الاستكثار من بقية النوافل إذا كانت تشغل عنه. والصحيح أن الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة )؛ ولأنها عماد الدين؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل -كما في الصحيحين: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- ( أي: العمل أحب إلى الله عز وجل ؟ قال: الصلاة على وقتها ) فالصلاة أفضل من الصيام؛ لكن المراد هنا الإشارة إلى تفضيل صيام التطوع. ولا شك في أن صيام التطوع له فضيلة عظيمة، ومنزلة شريفة كريمة، ولا يحافظ على الصيام لوجه الله عز وجل إلا مؤمن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( من صام يوماً في سبيل الله شديداً حره باعد الله عن وجهه النار سبعين خريفاً ) فهذا يدل على فضيلة الطاعة والتقرب لله سبحانه وتعالى بالصيام. صيام أيام البيض وحقيقتها قال رحمه الله: [يسن صيام أيام البيض]. أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام أيام البيض، وأيام البيض هي: اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وقال بعض العلماء: هي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، والصحيح الأول. وقد ثبت بذلك حديث أبي ذر الذي رواه الترمذي حسنه غير واحد من الأئمة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بصيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر )، ووُصفت هذه الأيام بكونها أيام بيض؛ لأن السماء تبيضّ من شدة ضياء القمر؛ والسبب في ذلك اكتمال ضوئه، وقال العلماء: إن صيامها سنة ومستحب. وذهب الإمام مالك رحمة الله عليه وطائفة من أصحابه إلى المنع من صيام أيام البيض ومنع تحريها، ولعل الإمام مالكاً رحمه الله لم يبلغه الحديث في ذلك، وإن كان بعض العلماء يرى أن الإمام مالكاً كان يشدد في صيام أيام البيض أول الأمر، ثم لما ثبتت عنده السُّنة خفّف في ذلك، بل روي عنه أنه كان يصومها. وقال بعض أصحابه: إنما منع منها أول الأمر؛ لأنه لم تثبت عنده السُّنة، وهذا عذر للأئمة الذين ربما يؤثر عنهم القول بخلاف السنة؛ لعدم اطلاعهم عليها، كما قرر ذلك الإمام شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه النفيس: رفع الملام، وكذلك صاحب كتاب: الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف بين الأئمة، رحمة الله عليهم. فالصحيح أن صيام أيام البيض قربة ومستحب وأنه ليس بممنوع، وأيام البيض كما قلنا: هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. وللعلماء فيها وجهان: الوجه الأول: أن أيام البيض هي الأيام الثلاثة التي ندب إلى صيامها من كل شهر، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام، وبركعتي الضحى ) فقوله: (ثلاثة أيام من كل شهر) الصحيح أنها هي الأيام البيض، وأن أفضل ما يكون من صيام ثلاثة أيام من كل شهر أن تكون الأيام البيض. وقال بعض العلماء: الأيام البيض غير الأيام الثلاث. والصحيح أنها هي الثلاث؛ لحديث أبي ذر رضي الله عنه: ( إذا صمت ثلاثاً من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ) . فهذا حديث صريح في أن الأيام الثلاثة من كل شهر أفضل ما تكون الأيام البيض، وقد جاءت السنة بخلاف تنوعي وليس فيه تضاد في الروايات والأحاديث، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصوم الثلاثة أيام من غرة كل شهر، وجاء في رواية أنه كان يصوم السبت والأحد والإثنين إذا وافقت أول الشهر، فإذا كان الشهر الثاني صام الثلاثاء والأربعاء والخميس. قال الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه: لعل الحكمة في ذلك أن يعدل بين الأيام صلوات الله وسلامه عليه، فكان إذا وافق بداية الشهر صام السبت والأحد والإثنين كما جاءت عنه الرواية، وإذا كان الشهر الذي يليه صام الثلاثاء والأربعاء والخميس. وجاءت الرواية أنه كان يصوم الثلاثة الأيام من غرة كل شهر، فيقول بعض العلماء: هذه الثلاث التي هي من كل شهر تنوعت السُّنة بها، فتارة تكون من غرة الشهر، وتارة تكون من أوسط الشهر في الأيام البيض، وتارة تكون من آخر الشهر. والخلاف هنا خلاف تنوع وليس بخلاف تضاد، بأن تحمل على أيام مخصوصة؛ فالصحيح والأقوى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل جميع ذلك توسعة؛ لأن الناس يختلفون في أحوالهم. قالوا: إنما كانت الغرة؛ لأنها مبادرة بالخير؛ لأن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر سنة مستحبة، فالأفضل أن تبادر بها في أول الشهر؛ لأنه مسارعة إلى الخير ومسابقة إلى الطاعة، وذلك مندوب ومرغوب فيه، ويكون صيام الإنسان له على هذا الوجه قربة وطاعة. وأما إذا لم يتيسر لك صيام الغرة، فإنك تصوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، أي: تنتقل إلى منتصف الشهر، فإذا لم يتيسر لك أوله وأوسطه صمت آخره، والأمر في ذلك واسع. وعلى هذا فإن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر الأفضل أن تكون الأيام البيض، ولا حرج أن تكون من غرة الشهر لورود السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وقد ذكر بعض العلماء -كما نبه بعض الأطباء- ومنهم الحكيم الترمذي في كتابه: المنهيات، إلى أن هذه الأيام وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، يكتمل فيها ضياء القمر ويكثر فيها الأرق ويشتد فيها هيجان الدم، فالصوم يخفف من هذا ويكون فيه لطف بالبدن. فجمعت السنة بين خير الدين والدنيا، وعلى هذا ففي صيام الأيام البيض علة أخرى مع كونها قربة لله عز وجل، فإنها تتضمن الرفق بالبدن من هيجان الدم في ليالي البيض عند اكتمال واشتداد الضوء. ومن بعد الخامس عشر ينكسر ضوء القمر، ويكون الأرق أخف من أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وهذا أمر معروف لمن جرّب ذلك في النوم تحت السماء مباشرة، فإن الأرق في هذه الأيام يشتد ويكون أكثر من غيرها كما لا يخفى. صيام الإثنين والخميس قال رحمه الله: [والإثنين والخميس]. أي: ويسن صيام يومي الإثنين والخميس، وهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله عز وجل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين والخميس، وقال -كما في الحديث الصحيح عنه-: ( تعرض الأعمال على الله في كل إثنين وخميس ) . وجاء في الرواية الأخرى: ( تفتح أبواب الجنة كل إثنين وخميس فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئاً، إلا اثنين بينهما شحناء، فيقال: أَنْظِرا هذين حتى يصطلحا ) وهذا من شؤم القطيعة والعياذ بالله. قال بعض العلماء: يشمل هذا أن تكون القطيعة في حدود الأيام المسموح بها، وهي حدود الثلاثة الأيام، أو تكون قد جاوزت، قالوا: إذا كانت في حدود الثلاثة الأيام أن توافق يوم إثنين، فتكون بينه وبين رجل قطيعة فيقطعه يوماً ويوافق ذلك يوم إثنين، فيمنع من حصول هذا الخير من إصابة الرحمة له، نسأل الله السلامة والعافية. وقد جاءت في السُّنة ثلاثة أدلة تدل على شؤم القطيعة: أولها: حديث أبي داود : ( هجر المسلم سنة كسفك دمه ) ، وقد صححه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، يقولون: إنه إذا هجر المسلم أخاه سنة كاملة، فإنه تتراكم عليهم الذنوب حتى تصل في جرمها وقدرها جرم من قتل نفساً بدون حق؛ لأنه لا يأمن خلال هذه السنة من الحقد عليه والضغينة عليه، فتجتمع عليه مظالم القلب ومظالم اللسان، فلا يأمن من غيبته ولا يأمن من الوقيعة فيه، مع ما في القطيعة نفسها من إثم. وأما النص الثاني: فحديث ليلة القدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أراه الله ليلة القدر، فأثناء بيانها له تلاحى رجلان واختصما، ووقعت بينهما الفتنة وهما: أُبي و أبو حدرد الأسلمي رضي الله عنهما في دَيْن لهما، فتخاصما وتشاجرا حتى ارتفعت أصواتهما في المسجد، فشوشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورُفعت ليلة القدر. قال بعض العلماء: فمن شؤم الخصام والخلاف أن الله رفع هذا الخير العظيم عن الأمة. وأما الأمر الثالث: فهذا الحديث، وهو كونه تعرض الأعمال على الله في كل إثنين وخميس، فلا يغفر للإنسان إذا كان قاطعاً لأخيه. وأما بالنسبة لصيام الإثنين والخميس فمندوب إليه، ومفضّل لمكان عرض الأعمال على الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام: ( فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ) أي: والحال أني صائم. قال بعض العلماء: لأنه إذا عُرِضَ العمل وهو صائم فهو مظنة أن يُرحم العبد، وأن يتجاوز الله عز وجل عن إساءته، وأن يتقبل ما كان من طاعته فيحصل على الخيرين، فإن كان عبداً طائعاً فهو أحرى أن يتقبل الله طاعته، والقبول هو خير ما يطلبه الإنسان من ربه إذا عمل العمل. وأما إن كان مسيئاً فيكون مظنة أن يرحمه الله عز وجل ويغفر له. أقوال العلماء في صيام الست من شوال والراجح منها قال رحمه الله: [وست من شوال]. أي: يندب له صيام ست من شوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: ( من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر ) والست من شوال يستوي أن تقع مرتبة أو تقع متفرقة، ويجزئه أن يصوم الإثنين والخميس ينوي بها الست من شوال، وينوي بها أن يعرض عمله وهو صائم فيحصل على الفضيلتين؛ لأن المقصود من صيام الإثنين والخميس أن يعرض العمل والعبد صائم، وهذا يقع في حالة نيته عن ست من شوال. وتقع الست من شوال إذا كان الإنسان عليه قضاء من رمضان، فلو أخر قضاء رمضان ولم يصمه وصام ستاً من شوال قبل فإنه يجزئه، ويحصّل هذه الفضيلة والخير؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان) خرج مخرج الغالب، يعني على الأصل من صيامه، أو يقال: إن قوله: (من صام رمضان) يشمل صيام رمضان بعينه وصيام القضاء. وقال بعض العلماء كما هو مذهب طائفة من الحنابلة والشافعية لا يجزئ أن يصوم الست قبل صيام رمضان؛ وذلك لأنه لم يصم رمضان؛ ولأنه لا يتأتى منه أن يتنفل وعليه فريضة. والصحيح أنه يجزئ أن يصوم ستاً من شوال قبل القضاء؛ لأن قوله: (من صام رمضان) لو أخذ بظاهره لم يدخل النساء في هذه الفضيلة؛ لأن المرأة لابد وأن يأتيها العذر أثناء رمضان، فلابد وأن يكون عليها قضاء. فإذا قيل: إنها إذا صامت بعد انتهاء يوم العيد صامت قضاءها ثم صامت الست، فإنها قد صامت رمضان وحينئذٍ يحصل لها الفضل، نقول: يستوي أن تصوم من شعبان أو تصوم من غيره، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: ( من صام رمضان ) على غير ظاهره؛ وإنما المراد أن يجمع العدد وهو ست وثلاثون، فإذا كان الإنسان قد صام ستاً وثلاثين، فإنه يستوي أن تكون أيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ثم يصوم ستاً من شوال فحينئذٍ يكون محصلاً لهذه الفضيلة سواء سبق القضاء أو تأخر. ومن الأدلة على ذلك: أنه لو قيل بأنه لابد من تقدم القضاء، فإن المرأة النفساء يأتيها النفاس ويستمر معها شهر رمضان كله، وقد يستمر معها خمسة وعشرين يوماً مثلاً، فكيف ستصوم ستاً من شوال؟ لا يتأتى لها بحال أن تصيب هذا الفضل، فعلمنا أن المراد من ذلك إنما هو المبادرة بالخير بصيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ويستوي في ذلك أن يكون قضاؤه من شوال أو يكون قضاؤه من غير شوال. أما كونه يتنفل وعليه فرض فهذا لا إشكال فيه؛ لأن الفرض إذا كان موسعاً فإنه لا حرج أن يتنفل صاحبه، بدليل ما لو أذن أذان الظهر فإنه يجوز للمسلم أن يصلي الراتبة القبلية مع أنه مخاطب بالفرض، لأن الوقت واسع، وقضاء رمضان وقته واسع كما ثبتت بذلك السُّنة الصحيحة في حديث أم المؤمنين عائشة : ( إن كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ) والإجماع على هذا. وبناءً على ذلك فلا حرج أن يصوم القضاء بعد صيام الست، وحديث عائشة : ( إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان ) يدل دلالة واضحة على أنها كانت تتنفل قبل الفريضة، ولذلك كانت تصوم الست؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يندب إليها، والغالب أنها كانت تصوم، وثبت عنها في الرواية أنها صامت يوم عرفة. وعلى هذا فإن الصحيح والأقوى أنه يجوز أن يؤخر القضاء إلى ما بعد الست، لكن الأفضل والأكمل للإنسان أن يقدم قضاء رمضان ثم يصوم الست من بعد ذلك، وهذا أكمل من عدة وجوه، فضلاً عن كونه خروجاً من الخلاف، فإنه أفضل لما فيه من المعاجلة والمبادرة بإبراء الذمة، وذلك مندوب إليه شرعاً. فصيام ست من شوال مندوب إليه، خلافاً للمالكية الذين يشددون في صيام ست من شوال، وأُثر عن الإمام مالك أنه كره صيام الست من شوال. وللعلماء خلاف في سبب كراهية الإمام مالك لصيام الست، فقيل: إن الناس كانوا بمجرد فطرهم بعد يوم العيد يبتدئون صيام الست كما يفعله البعض الآن، فأصبح الناس في أيام العيد يضيقون على أنفسهم مع أنها أيام عيد، ولذلك كره هذه المبادرة والمعاجلة بصيام الست بمجرد انتهاء يوم العيد. وقال بعضهم: إنما كره متابعتها بعد العيد؛ حتى لا يُظن أنها من رمضان، فيأتي زمان يعتقد الناس أنها كالفرض والواجب، فكان من باب سد الذرائع، ومن أصول مالك رحمة الله عليه التي بنى عليه مذهبه: القول بسد الذرائع، فكان يقول: بالمنع من الصيام على هذا الوجه سداً للذريعة. وقيل: إنه كان يكره تتابعها، وهي أن يصومها ستاً سرداً وراء بعضها؛ حتى لا يعتقد أن ذلك فرض، والصحيح أنه يُشرع أن يصوم ستاً من شوال سواء أوقعها متتابعة أو أوقعها بعد يوم العيد، أو فرقها؛ لأن السنة أطلقت، لكن الأفضل الذي تطمئن إليه النفس، أن الإنسان يترك أيام العيد للفرح والسرور. ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أيام منى: ( إنها أيام أكل وشرب )، كما جاء في حديث عبد الله بن حذافة : ( فلا تصوموها ) ، فإذا كانت أيام منى الثلاثة لقربها من يوم العيد أخذت هذا الحكم، فإن أيام الفطر لا تبعد فهي قريبة. ولذلك تجد الناس يتضايقون إذا زارهم الإنسان في أيام العيد فعرضوا عليه ضيافتهم، وأحبوا أن يصيب من طعامهم فقال: إني صائم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما دعاه الأنصاري لإصابة طعامه ومعه بعض أصحابه، فقام فتنحى عن القوم وقال: إني صائم، أي: نافلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أخاك قد تكلّف لك فأفطر وصم غيره ) . فحينما يدخل الضيف في أيام العيد، خاصة في اليوم الثاني والثالث، فإن الإنسان يأنس ويرتاح إذا رأى ضيفه يصيب من ضيافته، كونه يبادر مباشرة في اليوم الثاني والثالث بالصيام لا يخلو من نظر، فالأفضل والأكمل أن يطيب الإنسان يطيّب خواطر الناس، وقد تقع في هذا اليوم الثاني والثالث بعض الولائم، وقد يكون صاحب الوليمة له حق على الإنسان كأعمامه وأخواله، وقد يكون هناك ضيف عليهم فيحبون أن يكون الإنسان موجوداً يشاركهم في ضيافتهم، فمثل هذه الأمور من مراعاة صلة الرحم وإدخال السرور على القرابة لا شك أن فيها فضيلة أفضل من النافلة. والقاعدة تقول: (أنه إذا تعارضت الفضيلتان المتساويتان وكانت إحداهما يمكن تداركها في وقت غير الوقت الذي تزاحم فيه الأخرى، أُخرت التي يمكن تداركها)، -فضلاً عن أن صلة الرحم لاشك أنها من أفضل القربات فصيام ست من شوال وسّع الشرع فيه على العباد، وجعله مطلقاً من شوال كله، فأي يوم من شوال يجزئ ما عدا يوم العيد. بناءً على ذلك فلا وجه لأن يضيق الإنسان على نفسه في صلة رحمه، وإدخال السرور على قرابته ومن يزورهم في يوم العيد، فيؤخر هذه الست إلى ما بعد الأيام القريبة من العيد؛ لأن الناس تحتاجها لإدخال السرور وإكرام الضيف، ولا شك أن مراعاة ذلك لا يخلو الإنسان فيه من حصول الأجر، الذي قد يفوق بعض الطاعات كما لا يخفى. فضل صيام شهر الله المحرم بعد رمضان قال المصنف: [وشهر المحرم]. أي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى صيامه، وهو أول الشهور من السنة القمرية وهو شهر الله المحرم؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن أفضل الصوم بعد شهر رمضان صوم شهر الله المحرم. والأفضل أن يستكثر من الصيام من شهر محرم، وأفضله يوم عاشوراء كما سينبه عليه المصنف رحمة الله عليه. قال العلماء: إن هذا الشهر اختص بفضيلة، ولذلك يحرص الإنسان على صيامه وهو من الأشهر الحرم، والأشهر الحرم ثلاثة منها سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة وشهر الله المحرم، وواحد فرد وهو رجب كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع. الأقوال في صيام يوم عاشوراء والراجح منها قال رحمه الله: [وآكده العاشر ثم التاسع] أي: وآكد صيام شهر الله المحرم أن يصوم اليوم العاشر، وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء، فسأل عن ذلك؟ فقالوا: إنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه ). وللعلماء في عاشوراء قولان: منهم من يقول: إن يوم عاشوراء كان فريضة في أول الأمر ثم نُسخ برمضان. ومنهم من يقول: لم يكن فريضة وإنما كان سنة ولم يجب. والصحيح أنه كان فريضة ثم نسخت فرضيته برمضان وأصبح مستحباً. والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة قال: ( هذا يوم كتب الله عليكم صيامه، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه ) فهذا حديث صريح في الدلالة على أنه كان فريضة. وهذا في السنة الأولى من الهجرة، وفي السنة الثانية نزلت فرضية شهر رمضان فنسخت فرضية صيام عاشوراء، وبقي صوم يوم عاشوراء على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب، وصيام عاشوراء من شكر الله عز وجل على نعمته، فصامه عليه الصلاة والسلام شكراً لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل دمغ فيه الباطل ونصر فيه الحق، وأظهر فيه أولياءه وكبت فيه أعداءه، فهو شكر لله عز وجل على عظيم نعمته وجزيل منته. والمسلم يفرح بما يصيب إخوانه المسلمون من الخير والنعمة، وتصيبه الغبطة بذلك، وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا كالأمة الواحدة، وأن فرحه عليه الصلاة والسلام إنما هو تبع لفرح نبي الله وكَليِمه موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام. ثم لما صام عاشوراء بعد ذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ) أي: لأصومن التاسع مع العاشر؛ لأن الأصل بقاء العاشر، ولم ينص على رفع العاشر فقال: (لأصومن التاسع) بلفظ محتمل أن يصوم التاسع وحده أو يصوم التاسع والعاشر، فبقي ما كان على ما كان. فلما كانت النصوص تنص على العاشر، وتبين فضيلته وأن صومه يكفّر السنة الماضية كما جاء الخبر بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بقي العاشر كما هو، فصار قوله: (لأصومن التاسع) أي: لأصومن التاسع مع العاشر مخالفة لليهود. وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان في أول الأمر يحب موافقة أهل الكتاب خاصة حينما كان بمكة؛ لأن أهل الكتاب كانوا أهل دين سماوي، وكان المشركون على الوثنية، فكان يحب موافقة أهل الكتاب لإغاظة أهل الشرك والوثنية. فلما انتقل إلى المدينة كان اليهود يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون أنه يأخذ من دينهم، فأصبحت الموافقة هنا محظورة، وقصد عليه الصلاة والسلام مخالفتهم، ومن ذلك قوله: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ) أي: لأصومن التاسع والعاشر مخالفة لليهود. استحباب صيام التسع الأول من ذي الحجة قال رحمه الله: [وتسع من ذي الحجة]. أي: ويندب صيام التسعة الأيام، وهي اليوم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع من أول شهر ذي الحجة. وأما اليوم العاشر فهو يوم عيد النحر، ولا يجوز صومه بالإجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى، وهما يوم ضيافة من الله سبحانه وتعالى وكرامة، ولذلك لا يصومهما المؤمن؛ ويجب الفطر فيهما حتى ولو كان الإنسان يصوم صيام كفارة، ككفارة القتل، فلو صام صيام كفارة القتل فابتدأ صيامه بشهر ذي القعدة وأتم شهر ذي القعدة، ثم شرع في شهر ذي الحجة، فإنه إذا كان يوم النحر وهو يوم العيد وجب عليه الفطر، ولا يقطع ذلك تتابع صيامه، فيصوم التسعة الأيام الأول من شهر ذي الحجة، وما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من النفي لا يقتضي عدم السنية للصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله ؟، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع بشيء من ذلك ). فدل هذا الحديث على فضيلة العمل الصالح المطلق في العشر، ولم يفرق صلوات الله وسلامه عليه بين الصوم ولا غيره، والأصل أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، وما ورد عن أم المؤمنين من نفي صومه عليه الصلاة والسلام للعشر من ذي الحجة فهذا مبلغ علمها. وأياً ما كان فلا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك صيام الشيء مع سنيته وفضيلته، ألا تُراه عليه الصلاة والسلام فضل صيام نبي الله داود ولم يكن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فندب إلى ذلك بالقول، فنقول: صيام تسع من ذي الحجة مندوب إليه بالقول ولا يفتقر إلى دلالة الفعل، فنفي وجود الصوم منه عليه الصلاة والسلام لتسع ذي الحجة لا تقتضي عدم الوجود، فهو مبلغ علم. ولأنه عليه الصلاة والسلام إن لم يكن يصمها فقد دل على فضيلة صيامها بالقول، فلم يفتقر ذلك إلى وقوع الفعل منه، ومثله صيام يوم وإفطار يوم، حيث ندب إليه وفضله وجعله من أفضل الصيام وأحبه إلى الله عز وجل، وهو صيام نبي الله داود، ومع ذلك لم يكن يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام. ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يفعل العمل ويتركه خشية أن يفترض على الأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وعلى هذا فإنه لا يكره صيام تسع من ذي الحجة، بل من الأفضل صيامها، فإذا كان يوم النحر فإنه يجب فطره ولا يجوز صومه. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (207) صـــــ(1) إلى صــ(24) فضيلة صيام يوم عرفة لغير الحاج قال رحمه الله: [ويوم عرفة لغير حاج بها]. أي: ويسن صيام يوم عرفة لغير حاج بها. أي: أن فضيلة صيام يوم عرفة ثبتت بها السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صام يوم عرفة فإنه يكفر السنة الماضية والسنة الباقية قال وفي الحديث: ( أحتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والسنة الباقية ) . ولكن الحاج الأفضل له أن يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قدح اللبن وهو واقف بعرفة صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لما اختصم الصحابة هل هو صائم أو مفطر، فبُعث إليه بقدح من لبن فشربه صلوات الله وسلامه عليه وهو قائم يدعو عشية عرفة. فدل هذا على أن السُّنة والأفضل والأكمل أن لا يصوم، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت تصوم يوم عرفة، ولكن الأفضل كما روى مالك في الموطأ: (كانت تصوم يوم عرفة حتى إذا ابيض ما بينها وبين الحاج - يعني دفع الناس من عرفة وأفاضوا - دعت بفطورها فأفطرت). ولا شك أن الأفضل والسنة والأكمل للحاج أن لا يصوم يوم عرفة؛ والسبب في ذلك أنه إذا صام يوم عرفة فإنه يضعف عن الدعاء، ويضعف عن الذكر، وتأتي ساعات العشي التي هي أفضل ما في الموقف والإنسان منهك، وقد يشتغل بتهيئة فطوره قبل غروب الشمس، وهذا الوقت وقت دعاء وابتهال ومناجاة لله عز وجل، ولذلك كان التقوي بالفطر أفضل؛ لأنه يحقق المقصود من النسك من إصابة الدعاء ورجاء الإجابة في مثل هذا الموقف. ومن هنا كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفطر، قال العلماء: الأفضل أن يحج الإنسان راكباً مع أن الحج ماشياً أكثر مشقة وأكثر تعباً، والأصول تقتضي أنه أعظم أجراً؛ لكنهم قالوا: الأفضل أن يكون راكباً؛ لأنه إذا كان راكباً قوي على العبادة وتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم. أفضل صوم التطوع صيام يوم وإفطار يوم قال رحمه الله: [وأفضله صوم يوم وفطر يوم]. أي: وأفضل صيام التطوع صوم يوم وفطر يوم، وبذلك ثبتت السُّنة الصحيحة كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أحب الصيام إلى الله صيام نبي الله داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) وهذا أقصى ما يكون من صيام النافلة، ولا أفضل من هذا الصيام، أي: لا يشرع أن يصوم الأيام كلها، ولذلك قال: ( لا صام من صام الأبد ) . فلا يجوز صيام الدهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ وإنما يصوم الإنسان يوماً ويفطر يوماً، وهذا يدل على سماحة هذا الدين ويسره، وأنه لا خير في التنطع والتشدد في العبادات. ولذلك لما قال الرجل: أما أنا فأصوم ولا أفطر قال عليه الصلاة والسلام: ( هلك المتنطعون ) فلا يجوز يسرد المرء الصوم؛ وإنما يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهو أقصى ما يؤذن فيه من صيام التطوع؛ لأن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يطيق أكثر من صيام يوم وإفطار يوم قال عليه الصلاة والسلام: ( لا أفضل من هذا ) . فأمره أن يقتصر على هذه الفضيلة التي هي غاية الصوم، وهي أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويستوي في ذلك أن يوافق يوم الإثنين أو لا يوافقه، فإذا كان الإنسان يريد أن يصوم يوماً ويفطر يوماً فإنه يتمسك بذلك ويسير عليه، سواء وافق الإثنين والخميس أو خالفهما؛ لأنه يحصل على أعلى المراتب في الصيام. ولذلك يقولون: يغتفر ما دونها من الفضائل، وتصبح مندرجة تحت هذا الصوم تحقيقاً لفضيلة الشرع؛ لأنه لو أدخل الإثنين بأن يكون صائماً يوم الأحد ثم أتبعه بالإثنين فإنه حينئذٍ تفوته فضيلة هي أكمل من صيام الإثنين، لأنه إذا صام الإثنين فكأنه صام الأبد لأنه يعتبر كأنه سرد الصوم. وقال بعض العلماء: يجمع بين الفضيلتين فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ويصوم الإثنين والخميس إن لم يوافقهما الصيام، وهذا القول الثاني له وجه، فلو صام يوماً وأفطر يوماً وصام الإثنين والخميس فلا حرج عليه، كما لو لم يوافق صومه يوم عرفة ويوم عاشوراء، فإنهم يقولون: يصوم ذلك اليوم ولا حرج عليه. إفراد رجب بصوم وغيره قال رحمه الله: [ويكره إفراد رجب]. كانت العرب تعظم شهر رجب في الجاهلية، فبقيت هذه العادة في الإسلام، فنُهي عن إفراد رجب وتخصيصه بالعبادات، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه يضرب على أيدي المترجبين، أي الذين يفضلون شهر رجب ويخصونه بالصيام ويلزمهم بالفطر، وكان رضي الله عنه شديداً عليهم في ذلك، وحُق له ذلك إحياءً للسُّنة وإماتة للبدعة، فلم يكن عليه الصلاة والسلام يخص شهر رجب بفضائل. وتوسع الناس في ذلك حتى فضلوا هذا الشهر على غيره من الشهور، ولا شك أنه من الأشهر الحرم، ولكن لا يُخص بالعبادات، ولا يخص بالأذكار، ولا يخص بالصلوات، ولا يعتقد في أيامه ولا في لياليه؛ لأنه لم تثبت بذلك نصوص صحيحة لا في الكتاب ولا في السنة. والأحاديث التي وردت في تخصيص شهر رجب بالصيام والقيام والفضائل في منتصفه، وفي ليلة سبع وعشرين، كلها من الأحاديث الضعيفة، بل المكذوبة والموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يجوز لمسلم أن يعتقد نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أن يتدين ويتقرب إلى الله عز وجل بها. فلا يجوز له أن يفرد شهر رجب بالصيام، لكن لو صام فيه الإثنين والخميس، وكذلك أيام البيض فلا حرج؛ لأن هذا في رجب وغيره على حدٍ سواء. إفراد يوم الجمعة بصوم قال رحمه الله: [والجمعة]. أي: وكذلك الجمعة لا يجوز إفرادها بصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على أم المؤمنين وهي صائمة سألها: ( هل صمت الخميس؟ قالت: لا، قال: وهل تريدين أن تصومي الغد ؟ قالت: لا قال: فأفطري ) فأمرها بالفطر. وهذا يدل على حرمة تخصيص يوم الجمعة بصيام، لأن هذا يؤدي إلى الغلو فيه. وقال بعض العلماء: بل النهي لأن يوم الجمعة يوم فيه صلاة فإذا صام ضعف عن الصلاة، والأقوى أن العلة هي الاعتقاد في اليوم والمبالغة فيه، بدليل أنه لو كان من أجل الجمعة لكان مشروعاً للنساء؛ لأنه لا جمعة عليهن. وبناءً على ذلك فالذي يقوى ويترجح أن العلة هي الغلو في اليوم، وهو يوم عيد للمسلمين، وهو أفضل أيام الأسبوع كما لا يخفى، وبعض العلماء يقول: إن العلة كونه عيداً والعيد لا يصام، لكن ما ذكرناه من خوف الغلو في هذا اليوم هو الأولى والأحرى. وإذا نذر المسلم صوم يوم من الشهر كالخامس عشر أو الثاني عشر أو الثالث عشر ووافق نذره يوم الجمعة جاز له؛ لأنه فرض، وهكذا إذا صام يوماً قبله وهو يوم الخميس أو يوماً بعده وهو يوم السبت فإنه لا حرج عليه. إفراد يوم السبت بصوم قال رحمه الله: [والسبت]. أي: وكذلك يحرم أن يخص السبت بصوم؛ وذلك لأن اليهود تعظم هذا اليوم، فإذا صام يوم السبت كان كما لو قصد الجمعة؛ لأنه إذا حُظر علينا أن نصوم يوم الجمعة وهو يوم عيدنا، كذلك يحظر علينا أن نخص يوم السبت بصيام لما فيه من معنى التعظيم كما ذكرنا في الجمعة. لكن لو أن يوم السبت وافق يوماً من الأيام البيض فإنه يشرع صيامه، وهكذا لو صام الجمعة وأحب أن يصوم معها السبت فلا حرج عليه، لأن النصوص صحيحة في الدلالة على ذلك. وأما نهيه عليه الصلاة والسلام في قوله: ( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ) فهو حديث تكلم العلماء على سنده وفيه اضطراب، والعمل عند جمع من أهل العلم على ضعفه لقوة الاضطراب فيه، لكن على القول بتحسينه فإن القاعدة تقول: (إن الحديث الحسن لا يُعارض ما هو أصح منه). والأدلة صحيحة صريحة في صيام يوم عاشوراء ويوم عرفة، وهي ثابتة في الصحيحين، ولا شك أن الحديث الحسن لا يرتقي إلى معارضة الحديث الثابت الصحيح، كما قال بعض الفضلاء في الحديث الحسن: وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح فإذا جئنا ننظر إلى قوله: ( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ) مع أمره عليه الصلاة والسلام بصيام يوم عاشوراء وندبه إلى صيام يوم عرفة، فإننا نرى أن هذه النصوص أقوى وأسعد وأوفق للسُّنة، وأما المبالغة في النهي إلى درجة أن البعض منع بعض الناس في الأعوام الماضية أن يصوم يوم عرفة؛ لأنه وافق السبت؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فهذا ضعيف؛ لأنه تقديم للحديث المختلف في إسناده على الأحاديث التي هي أصح وأثبت. إضافة إلى أن عمل جماهير السلف رحمة الله عليهم من الأمة والعلماء والأجلاء، على أنه لا حرج في صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء ولو وافقت يوم السبت، ولم يمنع ذلك أحدٌ منهم إذا وافقت يوم السبت ولم ينص على المنع منه. إضافة إلى أن السُّنة لم تنص على ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) ومن المعلوم أن صوم عرفة وعاشوراء قد يوافق السبت فقد ندب إلى صيامهما، ولم يقل: إلا أن يوافق السبت، وهو عليه الصلاة والسلام أرعى لحرمات الله. ومذهب بعض المحدثين وأئمة أهل الحديث كـ أبي داود وغيره: أن النهي عن صيام يوم السبت منسوخ، وقد أشار إلى ذلك بعد روايته للحديث. النهي عن صيام يوم الشك قال رحمه الله: [والشك]. المراد بذلك يوم الشك، وهو اليوم الثلاثين من شعبان؛ لأنه يشك فيه هل هو من رمضان أو ليس من رمضان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ) وفي الحديث الصحيح: ( من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ) . وأشار المصنف إلى هذه المسألة هنا؛ لأن صيام يوم الشك يكون على سبيل النافلة في حالة تحقق أنه من شعبان. حكم صيام أعياد الكفار قال رحمه الله: [وعيد الكفار]. أي: ولا يجوز صوم يوم عيد الكفار؛ لأنه تعظيم له، ولا يجوز للمسلم أن يشابه الكفار في تعظيمهم لأيام أعيادهم. حرمة صوم العيدين فرضاً ونفلاً [ويحرم صوم العيدين ولو في فرض]. أي: ويحرم على المسلم أن يصوم يومي العيد، والمراد بذلك يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى؛ وذلك لأنهما يوم ضيافة من الله سبحانه وتعالى، فيوم عيد الفطر يفطر الناس فيه من الصوم، ويوم عيد الأضحى فإن المسلم يأكل من أضحيته التي تقرب فيها لله سبحانه وتعالى. ويحرم عليه أن يصوم يوم النحر ويوم الفطر ولو كان في صيام فرض، فلو كان عليه كفارة قتل فصام شهر شعبان كاملاً ثم صام رمضان ثم أراد أن يستتم الشهر الثاني بشوال فإنه يفطر يوم العيد ثم يصوم اليوم الثاني من العيد ويُتابع صيامه بعد ذلك. وعلى هذا فلو نذر وقال: لله علي أن أصوم يوم عيد الفطر أو يوم عيد النحر فإنه لا يصوم اليومين؛ لأنه معصية وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم هذين اليومين. النهي عن صيام أيام التشريق لغير الحاج المتمتع والقارن [وصيام أيام التشريق إلا عن دم متعة وقران]. ولا يصام أيام التشريق كما في حديث عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي: ( إن أيام منى أيام أكل وشرب ) وفي رواية ( وبعال ) فهي أيام أكل وشرب فلا يصومها الإنسان، إلا الحاج الذي لم يجد دم المتعة ولا دم القران، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله. فالثلاثة الأيام من الحج يصومها إذا أحرم بحجه في اليوم السادس كأن يصوم اليوم السادس والسابع والثامن، فإذا لم يتيسر له ذلك فإنه يصوم أيام التشريق، ويشمل ذلك اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر. الأسئلة جواز جعل أيام البيض من الست من شوال السؤال علمنا أنه يجوز إدراج الإثنين والخميس تحت ست من شوال، ولكن ماذا عن الأيام البيض أثابكم الله؟ الجواب لو صام الثلاثة الأيام البيض، ونواها عن ست من شوال فإنه يجزيه وحينئذ يحصل الاندراج، وقال بعض العلماء: إنها مقصودة لشهر شوال فلا يحصل الاندراج، لكن الأشبه والأقوى أنه يحصل الاندراج، وهذا آخر ما رجعت إليه في المسألة. والله تعالى أعلم. حكم القبلة للمعتكف السؤال ما حكم القبلة بالنسبة للمعتكف أثابكم الله؟ الجواب القبلة للمعتكف لا تجوز؛ لأن الله عز وجل قال: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] وهذا أمر يخطئ فيه بعض طلاب العلم، يظن أنه كما جازت القبلة للصائم أنها تجوز للمعتكف، وفي المعتكف شيء ليس في الصائم، ولذلك انعقد الإجماع على أنه لا يقبل المعتكف زوجه؛ لأن في الاعتكاف شغلاً عن الزوجة وغيرها. وقد قال تعالى: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] وقد كان عليه الصلاة والسلام يدخل بيته ولم يقبل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإنما كان يمضي لحاجته فإذا فرغ انطلق إلى مسجده، فالمعتكف لا يجوز له أن يقبل المرأة ولا أن يباشرها، وإذا قبلها قال جمع من العلماء: فسد اعتكافه وبطل. والله تعالى أعلم. حكم إفطار المؤذن قبل الأذان السؤال هل المؤذن يفطر قبل الأذان أو بعد أن يؤذن أثابكم الله؟ الجواب هذه المسألة في الحقيقة تنبني على التقديم عند ازدحام الفضائل، فالسنة أن يبادر الإنسان بالفطر، فالمؤذن إذا بادر بالفطر فإننا نقول: يأكل التمرة أو يحتسي من الماء ثم يؤذن، فهذا وجه من يقول: يفطر ثم يؤذن؛ لأن ظاهر السنة تعجيل الفطر. هناك وجه ثانٍ: أنه يؤذن ثم يفطر؛ لأنه إذا أذن أصاب الناس السنة وتأخر فرد عن إصابة هذه السنة، فيقولون: الأفضل أن يبادر بالأذان؛ لأنه إذا بادر بالأذان كان تحصيل سنة التعجيل لأمة؛ لكنه لو بادر بالفطر، كان تحصيل هذه السنة لواحد وفرد. وهذا الوجه أقوى، ويعتبره العلماء مستثنى من قاعدة: (لا إيثار في القربات)؛ لأن الأفضل أن الشخص يصيب الفضيلة لنفسه، لكنه حينما يؤذن يحصل أجور من بادر بالفطر فيكون له مثل أجورهم، فحينئذ يزول الإشكال ولا يكون هذا من باب الإيثار في القرب. فالذي تطمئن إليه النفس أنه يبادر بالأذان، ثم بعد ذلك يفطر، لما ذكرناه. والله تعالى أعلم. حكم من أفطر من النفل إبراراً لمن أقسم عليه السؤال إذا أقسم عليَّ إنسان أن آكل معه، وكنت صائماً صيام نفل، هل أبر بقسمه أم أواصل صومي أثابكم الله؟ الجواب لاشك أن برك بالقسم أفضل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء : ( أمرنا بسبع ونهانا عن سبع )، ومن السبع التي أمر بها كما في الصحيحين إبرار المقسم، فإذا أقسم عليك أخوك فإنك تبر قسمه وتنال الأجرين: أجر الصيام بوجود العذر، وأجر إبرار أخيك المسلم في قسمه، إضافة إلى ما تحصله من كسب وده ومحبته، وذلك مندوب ومطلوب شرعاً. والله تعالى أعلم. حكم صيام من حاضت قبل المغرب بقليل السؤال امرأة حاضت قبيل المغرب بقليل هل تواصل صومها أم تفطر أثابكم الله؟ الجواب إذا حاضت المرأة قبل المغرب بقليل فإنها تفطر؛ وذلك لأن الحائض لا تصوم ولا يصح منها الصوم، وهي مفطرة شاءت أم أبت، وعلى هذا فإنها تعتبر في حكم المفطر ولا تتشبه بالصائم؛ لأنه لا وجه لها أن تتشبه بالصائم، بل الأفضل أن تفطر وتصيب الأجر حيث امتثلت أمر الله عز وجل لها بالفطر. والله تعالى أعلم. تقديم طاعة الوالدين على صيام النوافل السؤال ما الحكم إذا تعارض صيام التطوع مع بر الوالد، وهل يجوز للوالد منع الابن من صيام النفل شفقة عليه أثابكم الله؟ الجواب بر الوالدين من أفضل الطاعات وأجل القربات، وقد تتهم الناس إذا نصحوك أو نهوك عن أمر يريدون الخير لك، لأنك ربما اشتبهت في نصيحتهم، ولكن الوالد والوالدة لا يمكن أن تتهمهما في نصيحتهما، ولا في أي أمر يمنعانك أو يأمرانك به؛ لأنهما جبلا على محبة الخير لك، وخلق الله في قلبيهما من الرحمة والحنان والعطف ما يزيل الشبهة والشك والتهمة. وبناءً على ذلك فإن الوالد قد يمنعك من الصيام شفقة عليك؛ لما يرى من نحول جسمك أو ضعف بدنك، أو خوفاً عليك من أن تمل الطاعة، أو نحو ذلك من المقاصد التي قد يؤجر بحسن نيته فيها. وعلى هذا إذا وجدت من والديك العزيمة على أن تفطر فأفطر، فإنك تصيب البر، وهو آكد من صيامك؛ لأن صيامك نافلة، وتحصيلك لبر والديك فريضة، فقد دلت على ذلك السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (لما نادت أم جريج العابد جريحاً وهو في الصلاة، فقال: ربي أمي وصلاتي، أي: لست أدري هل أجيب أمي أو أتم صلاتي، فأتم صلاته فدعت عليك. وقد بوب الإمام النووي رحمه الله: باب إذا دعاه والداه أو أحدهما وهو في النافلة قطعها وأجاب، والسبب في ذلك أن بر الوالدين فرض، والنافلة نافلة ليست بعزيمة، وأحب ما تتقرب به الفريضة، وهي مقدمة على النافلة. ولو كان البر نافلة لكان التنفل بالبر أفضل من التنفل بالنوافل الأخرى، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما سئل عن أحب الأعمال إلى الله قال: الصلاة على وقتها قيل له: ثم أي؟ قال: بر الوالدين ) ولم يفرق فيه بين الفريضة والنافلة، وعلى هذا فإنك تجيب و الديك، فإن قال الوالد: لا تصم الإثنين والخميس؛ شفقة عليك وخوفاً على صحتك، فإنك تبره وحينئذٍ يكتب لك أجر الصيام لأنه حبسك عذر البر، ويكتب لك أجر البر، وأنت على خير، وكم من إنسان صرف عن طاعة لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، فما من إنسان يبر والديه في الغالب ما لم يأمر بمعصية إلا كان عاقبته خيراً. والإنسان قد يغلبه حب الخير فيترك الفريضة بالنافلة، ولا شك أن بر الوالدين غالباً ما يأتي بأحسن العواقب وأفضلها، وقد تصرف عن النافلة بخير أعظم من ذلك، وقد يعلم الله عز وجل أنك لو داومت على خير لفتنت به بالعجب أو بالغرور. فذات مرة اتصل بي رجل وهو يريد أن يتزوج بامرأة صالحة، وقال: إن أمه لا ترضى عن هذه المرأة، وإنها تريد امرأة قريبة له ولكنها أقل صلاحاً من هذه المرأة، فقال: نفسي تميل إلى هذه المرأة الصالحة، ولكن الوالدة تلح على ابنة خالتي؛ لأنها بنت أختها، قال: فأجد في نفسي الضيق أن أترك هذه الصالحة وأبر والدتي. فقلت له: فيما يظهر من نصوص الشرع ما دام أن هذه بنت الخالة لا ترتكب الحرام، وأنها محافظة على أصول دينها ولكنها ليست في مرتبة الكمال، فبرك لوالدتك أفضل، فما زال يلح حتى تكرر منه السؤال ثلاث أو أربع مرات، وما زلت أحثه على بر والدته، وشاء الله أن يبر والدته وأن يترك المرأة التي كانت أصلح وعلى خير واستقامة، وانصرف إلى بنت خالته، وتزوجت المرأة الصالحة، ويشاء الله عز وجل بعد عام كامل أن ألتقي به في سفر وإذا به يكب عليَّ يسلم ويبكي، قال: والله يا شيخ! لقد سألتك عن أمر كذا وكذا إن كنت لا تذكره فإني أذكرك به، لقد شاء الله عز وجل أن تتزوج هذه المرأة الصالحة وأن أتزوج بنت خالتي، فوضع الله لي البركة في بنت الخالة، فصلحت واهتدت وحصل منها الخير الكثير، وشاء الله أن المرأة الصالحة أنه بعد زواجها بشهرين أن انتكست والعياذ بالله، وأصبحت من أفسق النساء حتى إنها اتهمت. فالله عز وجل لحكمة يوقفك على شيء تهواه وتحبه، وقد تتحمس لعاطفة الدين وأنت على خير وأنت تريد نية الخير، ولكن الله يقيض لك أماً تدعوك إلى برها ويقيض الله لك والداً يدعوك إلى بره، فقد ترى أن هذه المرأة صالحة، ولكن علم الله أن خاتمتها ليست بحسنة، أو تراها صالحة ولكن علم الله أن ذريتها ليست بصالحة، فيقيض الله لك الوالد أو الوالدة يقفان في وجهك ويصرفانك عما هو أجود، فقد ترى بنت الخالة أو بنت العم أقل صلاحاً، وقد تبتلى في آخر عمرك ببلية وتكون بنت العم أصبر على بليتك، وقد تكون بنت العم التي تراها أقل التزاماً أو أقل طاعة، قد يجعل الله لك منها ذرية ونسلاً صالحاً. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا البر وأن يعيذنا من العقوق، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضى. إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (208) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - باب صوم التطوع [2] الدخول والشروع في الفرض الموسع يحرم قطعه، ويوجب إتمامه، أما إذا كان نفلاً فلا يحرم؛ ولكن الإتمام أفضل. وقد فضل الله شهر رمضان فاختصه بوجوب الصيام، وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير ليالي العام، وفضائلها مشهورة، وهذه الليلة كما ينبغي الحرص عليها ينبغي معرفة آدابها وما يستحب من الدعاء والعمل فيها، ومعرفة الليلة التي يرجى أن توافقها. يحرم قطع الفرض الموسع لمن دخل فيه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه]. بين المصنف رحمه الله بهذه العبارة أن الشروع في الفريضة يمنع من قطعها، وهذا أصل قد دل عليه قوله سبحانه وتعالى: { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [محمد:33] ولا شك أن العبادة في الأصل إذا شرع الإنسان فيها فعليه أن يحرص على إتمامها وكمالها، وإذا أحب الله العبد ووفقه للطاعة والخير والبر فمن دلائل حبه له أن يعينه على فعل ذلك الخير، فإذا أراد أن يتمم عليه النعمة ويكملها أعانه على تكميل ذلك الخير. فالشروع في الفرض الموسع يحرم قطعه. والفرض ينقسم إلى قسمين: مضيق، وموسع. فالمضيق: يلزم فعله في وقته الذي ضيق الشرع فيه، ولا يجوز للمكلف أن يؤخره. وأما الموسع: كقضاء رمضان، فإنه يجب عليك أن تقضي ما فاتك من أيام رمضان، إلا أن هذا القضاء لا تطالب به مباشرة بعد انتهاء شهر الصوم؛ فقد وسع الله في قضائه إلى رمضان الآخر، فهو واجب موسع وفرض موسع. وهكذا لو أذن عليك أذان الظهر وأنت في أول الوقت فإنه فرض موسع، أي أنك بالخيار أن تؤخره ما لم يكن ذلك سبباً في تفويت جماعة أو نحوه، إذا كان يجب على الإنسان أن يشهدها. فالمقصود: أن الواجب الموسع ذكره المصنف لكي ينبه على أن الواجب المضيق من باب أولى وأحرى. بناءً على العبارة الأولى، فلو أن إنساناً كان عليه صيام يوم من رمضان، وقضاؤه موسع، فأنت بالخيار أن تصوم مباشرة بعد يوم العيد، وبين أن تؤخر القضاء إلى شعبان، فلو أنك بادرت وصمت هذا اليوم في شوال، فإنك بشروعك فيه لا يجوز لك أن تقطعه ولا أن تفطر فيه. أقوال العلماء في قطع النفل بعد الشروع فيه قال رحمه الله: [ولا يلزم في النفل]. أي: إذا صام الإنسان صوم نفل فهل يلزمه بمجرد شروعه في صوم النفل أن يتمه أو لا يلزمه الإتمام؟ قولان عند العلماء رحمة الله عليهم، وتعرف هذه المسألة عند أهل العلم رحمهم الله بمسألة: الشروع في النوافل، وأوردوا عليها السؤال المشهور: هل الشروع في النوافل يصيّرها فرائض أو لا؟ فذهب طائفة من العلماء إلى أن الشروع في النوافل يصيرها فرائض. وذهب طائفة من العلماء إلى أن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض. ومحل الخلاف: إذا بدأ الإنسان بالنافلة. ومن أمثلة ذلك: لو أن إنساناً أحرم بنافلة في الضحى مثلاً، فإنه لا يجب عليه إتمامها، فلو أنه عرض له العارض فسلَّم منها ومضى، فإنه لا حرج عليه على القول الثاني، وأما على القول الأول فيأثم؛ لأن الشروع فيها ملزم بإتمامها، وهكذا في الصوم، فمن شرع في صوم نافلة كأن يصوم الإثنين والخميس، ثم طرأ عليه ما يوجب فطره من غير عارض لازم، فلم يكن ذلك لمرض أو عذر، فعلى القول بأن الشروع في النوافل يصيرها فرائض لا يجوز له الفطر، ويجب عليه أن يتم صوم ذلك اليوم، وعلى القول بأن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض، فإنه لا يجب عليك الإتمام، فإن شاء أفطر، وإن شاء أتم، وهو الصحيح. والدليل على جواز فطرك في صوم النافلة إذا شرعت فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المتطوع أمير نفسه ) فدل هذا الحديث على أن الخيار لمن تطوع، ولكن الأفضل والأكمل للمسلم إذا بدأ خيراً أن لا يقفل بابه على نفسه، ولذلك ينبغي للمسلم دائماً أن يحرص على شكر نعمة الله عليه بالطاعة، فأي عمل خير يفتحه الله عليك من نافلة أو بر فلا تقطعه ما استطعت لإتمامه سبيلاً. وهذه المسألة يقع فيها بعض الأخيار خاصةً، إذا عرضت لهم أمور فيها خير ومصلحة، فتجد الإمام يتقدم بالناس ويؤمهم أو يعظهم ويخطب فيهم، فقلّ أن تجد الشيطان يترك مثل هذا، فيأتيه من باب الخير فيسوّل له ترك هذا العمل، أو الإعراض عنه بحجة الاشتغال بغيره. وهذا لا شك أنه يقفل على نفسه باب الخير، ويحرم نفسه من خير عظيم، وهكذا إذا فتح الله عليك باب خير في دعوة أو بر أو قربة ونحو ذلك مما يحتسب فيه الأجر عند الله، إياك أن تكون سبباً في قفل باب الخير عليك! فلو كنت مشتغلاً بالصدقات وتفريج كربات المسلمين وستر عوراتهم، فجاءك الشيطان وقال لك: اترك هذا، وأقبل على كذا وكذا؛ فانظر رحمك الله في أمرك؛ وارجع إلى العلماء ولا تستعجل؛ لأنه قلّ أن يوفق إنسان لباب خير فيقفله عليه ثم يوفق له ثانية؛ لأنه إذا تسبب في قفل باب الخير على نفسه كأنه أعرض عن نعمة الله، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه. ولذلك تجد الإنسان إذا كان مذبذباً في أموره، وكلما فتح الله عليه باب خير قفله على نفسه، قلّ أن تجده موفقاً، وقلّ أن يصيب الكمالات في أمور الطاعة والبر، فينبغي على الإنسان دائماً إذا وجد أن الله هيأ له باب خير، كالصلاة والصيام وقيام الليل أن لاّ يسعى في قفل هذا الباب على نفسه، فإن حال بينه وبين هذا الخير عذر كمرض أو شغل أو نحو ذلك مما هو آكد، فإنه يندم، ويشتكي إلى الله عز وجل أنه لو كان فارغاً لقام بهذا الخير حتى يجمع الله له بين الحسنيين، ويُبَلِّغه أجر الطاعتين، والله كريم وفضله عظيم، وكلما حسنت نية الإنسان بلغ من الخير الشيء الكثير. فهذه الجملة المقصود منها: أن الإنسان إذا بدأ بالطاعة، فإنه مخير بين أن يتمها، وهذا أفضل بإجماع العلماء، وبين أن يتركها، وهذا دون الكمال، ولا يجب عليه أن يتم؛ لأن الطاعات ليست بواجبة في أصل الشرع إلا شيئاً واحداً استثناه العلماء من النوافل فيجب إتمامه بمجرد الدخول فيه، وهو النسك، والمراد به الحج والعمرة. فمن أحرم بحج نافلة أو أحرم بعمرة نافلة فإنه يجب عليه إتمامهما، ولا يحل إلا بإتمامهما إلا في ما استثنى الله من المحصر وما في حكمه، فلو أن إنساناً أحرم بعمرة نافلة في رمضان مثلاً، ثم جاء فوجد الزحام، فقال: لا أريد أن أتمها، ولبس ثيابه ومضى، فقال: ما دامت نافلة فإني لا أتمها، ورجع إلى أهله، فإنه لا يزال محرماً حتى يتحلل من عمرته، وجميع ما يصيب من محظورات الإحرام فإنه يجب عليه أن يفتدي عنها، ولو مضت على هذه العمرة أيام وأسابيع وشهور، فإنه لا يزال مخاطباً بنص كتاب الله عز وجل بإتمامها، كما في قوله سبحانه: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]. وقد أجمع العلماء على أن الحج والعمرة إذا كانا نافلة، أنه يجب على من شرع فيهما أن يتمهما، وعلى هذا: فإن العلماء استثنوا من مسألة الشروع في النوافل الحج والعمرة إذا كانا نافلتين، فيجب على الإنسان أن يتمهما ولا يخرج منهما إلا بالتحلل، أو بالصورة التي أذن الله فيها في مسائل الإحصار، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية. عدم وجوب قضاء الفاسد من النوافل إلا نافلة الحج قال رحمه الله: [ولا قضاء فاسده إلا الحج]. أي: ولا يجب عليه قضاء الفاسد من النافلة. فلو أن إنساناً صلى ركعتين وتبين له فسادهما، فإنه لا يجب عليه قضاء الركعتين، وأما الحج والعمرة فإنه يجب عليه قضاء الفاسد. توضيح ذلك: لو أن إنساناً أحرم بالحج أو أحرم بالعمرة وقد نوى النافلة، ثم أفسد ذلك بالجماع، فيقال له: يجب عليك أن تمضي في هذا الفاسد وأن تتمه، ثم تنشئ بعد ذلك عمرة بدلاً عن هذه العمرة، أو حجاً بدل هذا الحج. وهذا هو ظاهر القرآن في قوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196] قال العلماء: وردت الآية الكريمة عامة تأمر بالإتمام للفاسد والصحيح على حد سواء، فيجب عليه أن يتم عمرته الفاسدة ويتم أيضاً حجه الفاسد، وعليه القضاء. وبذلك أفتى عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر في الرجل الذي جامع أهله، وأصله قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: عليه أن يمضي في حجه حتى يتمه، ثم يأتي بحج من عام قابل ويهدي، ويفترقا. يعني: أنه لا يحج مع امرأته في السنة القادمة عقوبة له، وخوفاً من الوقوع مرة أخرى، من باب تعاطي الأسباب لحفظ الحق لله عز وجل. طلب ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان قال رحمه الله: [وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان] حديث المصنف هنا عن الصوم، ولما بين أحكام الصوم المفروض والصوم النافلة شرع فيما يتبع الصوم من قيام رمضان. وقيام رمضان في الأصل يراد به تحصيل فضيلة الشهر كله، وفضيلة ليلة القدر على وجه الخصوص، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ). وقال أيضاً في الصحيح: ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ). فقوله رحمه الله: (وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر): أولاً: ليلة القدر سميت بذلك لعظيم قدرها ومكانتها عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك شرفها الله عز وجل فجعل قيامها خيراً من ألف شهر يقومها الإنسان، ولا شك أن هذا يدل دلالة واضحة على أن الله فضلها واختارها من بين الليالي، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله في تفسير قوله تعالى: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [القصص:68] : إن الله اختار من الليالي ليالي العشر الأواخر، واختار من الليالي العشر ليلة القدر. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [الفجر:1-2]: هي ليالي العشر الأواخر من رمضان، أقسم الله عز وجل بها لشرفها وعظيم قدرها ومكانها؛ لاشتمالها على أعظم وأفضل ليلة وهي ليلة القدر. والله سبحانه وتعالى اختار من الناس، واختار من الجماد، واختار من الأزمنة، واختار من الأمكنة ما شاء سبحانه وتعالى، فاختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة، واختار من ليالي السنة ليالي العشر، واختار من ليالي العشر ليلة القدر، واختار من الأيام أيام العشر من ذي الحجة، فأيام العشر من ذي الحجة أيام مفضلة، واختار من أيام العشر من ذي الحجة يوم عرفة، فكان اختيار الله عز وجل لجميعها. فإذا نظرت إلى الأيام كانت الأيام العشر من ذي الحجة أفضل، وفضيلتها في النهار آكد، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة ) وخصت ليالي العشر الأواخر من رمضان بفضيلة الليل دون النهار، وهذا الذي دعا بعض العلماء إلى قوله: إن أيام عشر من ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر؛ وذلك لأن العشر الأواخر فضيلتها في الليل، وأما عشر من ذي الحجة ففضيلتها عامة شاملة لليل والنهار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من أيام) فشمل ذلك النهار والليل. وأما بالنسبة لليالي: فالفضيلة لليالي العشر، وبها ورد القسم، وأفضل ليالي العشر ليلة القدر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وأفضل أيام العشر من ذي الحجة يوم عرفة، وهذا التفضيل لله فيه الحكمة البالغة. والله سبحانه وتعالى فضل ليلة القدر وندب إلى إحيائها، وذلك في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله سبحانه: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر:1-3] فوصفها بأنها خَيْرٌ، وقوله: (خَيْرٌ) في لغة العرب بمعنى: أخير، فالعرب تقول: فلان خير من فلان. أي: أخير، وتقول: فلان شر من فلان. أي: أشر، كما في قول أبي طالب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم في البائية المشهورة: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّا وَجدْنا مُحَمَّداً نَبِيّاً كَمُوْسَى خطَّ في أَوَّلِ الكُتْبِ وَأن عليه في العباد محَبَّةً وَلاَ خَيْرَ مِمَّنْ خَصَّهُ الله بالحُبِّ أي: ولا أخير ممن خصه الله بالحب، فمعنى قول الله في ليلة القدر: { خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر:3] أخير من ألف شهر، وهذا يدل على فضيلتها وعظيم شأنها عند ربها. وقال بعض العلماء: ليلة القدر من التقدير؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقدر فيها الأرزاق والأمور، وهي الليلة التي يكون فيها التقدير من عام إلى عام، والله أعلم بما يكتب فيها من سعادة السعداء ومن شقاء الأشقياء، ولذلك فضلت وَشُرِّفَت بهذا. وقوله: ( ترجى ليلة القدر) أخفى الله ليلة القدر؛ وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى، وهذا الخفاء -كما يقول العلماء- لكي يجتهد الناس في الطاعة، فلا يقتصرون على ليلة من بين الليالي، ولا يجعلون طاعتهم مقصورة عليها، فإذا علموا أنها في العشر الأواخر اجتهدوا في العشر الأواخر كلها، وهذا هو مقصود الشرع. تأكد طلب ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر قال رحمه الله: [وأوتارة آكد] وعلى هذا: فإن الأفضل أن يحرص على قيام ليالي العشر لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف العشر الأواخر من رمضان. وأوتار العشر الأواخر آكد؛ وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم عليه. وللعلماء في الوتر وجهان: منهم من يقول: الوتر بعدد الشهر، فيبتدئ بالليلة الحادية والعشرين، ثم بعدها ليلة ثلاث وعشرين، ثم ليلة خمس وعشرين، ثم ليلة سبع وعشرين، ثم ليلة تسع وعشرين. وقيل: الوتر لما بقي من الشهر، فيشمل ذلك ليلة الثلاثين، وليلة ثمانٍ وعشرين، وليلة ست وعشرين، وليلة أربع وعشرين، وليلة اثنتين وعشرين؛ وذلك بسبب كون الباقي وتراً إذا نظرت إلى العدد. ومن هنا قال العلماء: إنها تشمل الأوتار والأشفاع لاحتمال النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( في ثالثة تبقى، في خامسة تبقى ) والثالثة التي تبقى هي: ليلة ست وعشرين، والخامسة التي تبقى هي: ليلة أربع وعشرين، وقس على هذا، ومن هنا قال العلماء: شمل الأمر بالوتر ما بقي وشمل عدد الشهر، ومن هنا بقيت محتملة للعشر الأواخر كلها. وأقوى الأقوال: أنها تنتقل؛ وذلك لأن النصوص قوية جداً في إثبات ليلة الحادي والعشرين وإثبات ليلة التاسع والعشرين، ولذلك لا يمكن التوفيق بين هذه النصوص إلا بمسألة الانتقال. وهذا قول جمع من السلف رحمة الله عليهم وجمع من الأئمة؛ بأنه لا يمكن الجمع بين هذه النصوص إلا على هذا الوجه، مع أن هناك بعض الأدلة يقوي ليلة خمس وعشرين، وهناك بعض الأدلة يدل على إحدى وعشرين، وهو ثابت في الصحيح، وليلة سبع وعشرين وهو آكدها وأقواها لورود كثير من الأدلة، فدل هذا على وجود مسألة الانتقال. والمسلم يتحرى هذه الليلة ويحرص على قيام العشر الأواخر طلباً لفضيلتها، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى يختص بفضله من شاء، وإذا حسنت نية الإنسان وصدق مع الله فإن الله يصدق معه. هذان قولان للعلماء رحمة الله عليهم؛ لأن السُّنة وردت بهما في حديث: ( التمسوها في الوتر من العشر الأواخر ) وكذلك تفصيله في قوله: ( في ثالثة تبقى، في خامسة تبقى ) ومن قال: إنها ليلة إحدى وعشرين فقد استدل عليها بحديث المطر ( أُريت أني أسجد صبيحتها على الماء والطين ) فوكف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين، وأُري الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه في مسجده، فهذا يقوي قول من قال: هي ليلة إحدى وعشرين. القول بأن ليلة القدر في ليلة سبع وعشرين قال رحمه الله: [وليلة سبع وعشرين أبلغ]. فإنه قد قال به جمع من السلف رحمهم الله، ويختاره بعض الأئمة كما نبه عليه المصنف رحمه الله عليه. والذي يظهر -والله أعلم- أن القول بانتقالها قول من القوة بمكان، أي: أنها تنتقل خلال العشر، وأن ليالي العشر محتملة؛ ولله في ذلك حكمة بالغة، فلو علم الناس ليلة القدر لأهلك بعضهم بعضاً بالدعاء، ولتسلط السفهاء بمسائل وحوائج الدنيا، ولخمل الناس عن إحياء العشر الأواخر، والعناية بغيرها، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى: أنه جعلها مخفية، وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليها ثم رفعت. وسبب رفعها: أنه تلاحى رجلان -وهما: أُبي و أبو حدرد الأسلمي رضي الله عنهما- فلما تلاحيا، أي: حصلت بينهما الخصومة داخل المسجد في الدَّين، كشف النبي صلى الله عليه وسلم الستار من قبته التي كان يعتكف فيها، فأمر عليه الصلاة والسلام بالوضع من الدَّين، وأمر المديون أن يقوم بالقضاء، وقال لأصحابه: ( أُريت ليلتكم هذه فتلاحى رجلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً ...) أي: عسى الله أن يجعل الخير في رفعها. ولا شك أنه خير عظيم إذ صرف الله عز وجل الناس إلى الاشتغال بإحياء الليالي العشر، وهذا أعظم في أجورهم؛ والإنسان إذا أحيا ليالي العشر كاملة فلا شك أنه مصيب لليلة القدر، وأنه سينال هذه الفضيلة بلا إشكال؛ لنص النبي صلى الله عليه وسلم على كونها داخل العشر. دعاء ليلة القدر قال رحمه الله: [ويدعو فيها بما ورد]. أي: ويدعو في ليلة القدر إذا رآها بما ورد؛ والسبب في ذلك: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( يا رسول الله! أرأيت لو أني رأيت ليلة القدر ما أقول. قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ) استدل بعض العلماء بقولها: (رأيت) على أن السُّنة دالة على أن لليلة القدر أمارات وعلامات، وأن الإنسان يتبين بهذه العلامات أن الليلة ليلة القدر؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (لو أني رأيت ليلة القدر). وتوسع العوام في ذلك وأحدثوا في ذلك بدعاً وأموراً لا أصل لها في الشرع، وذلك في الدلالة على ليالي القدر، والصحيح: أن هذا أمر مسكوت عنه، والله أعلم بالعلامات التي تكون والتي تقع. ولكن من أهل العلم رحمة الله عليهم من قال: إن الله وصف هذه الليلة بنزول الملائكة، والملائكة سكينة، والسكينة تغشى معها الطمأنينة للناس، خاصة في المساجد، قالوا: فالغالب أن الإنسان يجد من انشراح الصدر وطمأنينة القلب ما لا يجده في غيرها من الليالي؛ لأن الملائكة تتنزل، ولا شك أن السكينة إذا تنزلت فإن فيها الثبات وفيها الطمأنينة، ويجد الناس أثر ذلك. فهذه من العلامات التي استؤنس فيها بورود نص القرآن بقوله سبحانه: { تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ } [القدر:4] لكن ينبغي الوقوف في مثل هذا على مورد النص؛ لأنه هو الأصل. الأسئلة الشروع في النافلة لا يصيرها فريضة السؤال على القول الراجح بأن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض، فما معنى قول الله عز وجل: { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [محمد:33] أثابكم الله؟ الجواب أن ظاهر هذه الآية الكريمة المراد به: ما أوجبه الله وفرضه على عبده، فهذه الأعمال التي فرضها الله سبحانه وتعالى على العبد، لا ينبغي له أن يسعى في إبطالها وإفسادها باختياره. أما بالنسبة للنوافل وبالنسبة وما لم يوجبه الله عليه فإننا نقول: يجوز له أن يقطعه؛ والسبب في ذلك: أنه لو قيل: إن الآية عامة فإننا نقول: هذا العام مخصص؛ لأنك لو قلت: إن الشروع في النافلة يصيرها فريضة؛ أصبحت النافلة التي نص الشرع على كونها نافلة فريضة، والشرع إنما نص على كونها نافلة، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) فدل على أن النافلة ليست بفريضة، إذ لو كانت النافلة فريضة بالشروع للزم إتمامها ولو فاتت الفريضة. فدلت هذه النصوص بمجموعها على أن النافلة نافلة، وأننا لو قلنا: إن الشروع فيها يصيرها فريضة فقد خالفنا أصل الشرع الذي جعلها ليست بلازمة، كما في الصحيحين عندما سئل عليه الصلاة والسلام: ( هل علي غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع ) فوصفه بكونه متطوعاً من بداية العمل إلى نهايته، فدل على أن النافلة نافلة، وأنها لا تصير فريضة بالشروع. والله تعالى أعلم. حكم من نذر أن يصوم يوماً ثم أراد قطع الصيام السؤال من نذر أن يصوم لله يوماً، ثم صام وأراد أن يقطع صومه ويصوم في يوم آخر، فهل له ذلك؟ الجواب من نذر أن يصوم لله يوماً: إن سمّى اليوم وحدده فلا يجوز له أن يفطر قولاً واحداً؛ كأن يقول: لله علي أن أصوم غداً، فحينئذ لا يجوز له أن يفطر قولاً واحداً، لكن إذا قال: لله عليّ أن أصوم يوماً وأطلق، فهذا واجب موسع يصدق على أي يوم، لكنه بمجرد دخوله فيه صار مضيقاً عليه، وحينئذٍ هو فريضة في أصله، وبتحديده لذلك وابتداء الصيام يجب عليه الإتمام. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (209) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب الاعتكاف [1] الاعتكاف سنة مستحبة، ثبت فضله في الكتاب والسنة، وذلك لما فيه من الخير الكثير، ولأنه تجتمع فيه فضائل وخصال حميدة، منها: لزوم المساجد، ومداومة ذكر الله سبحانه، وكثرة الصلاة، وتلاوة القرآن، وغيرها من الفضائل والقرب والطاعات، وأفضل الاعتكاف في العشر الأواخر؛ لأن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والمعتكف فيها هدفه إدراك هذه الليلة المباركة. وللاعتكاف شروط وأحكام وآداب يجب مراعاتها حتى تحصل الفائدة من هذه القربة العظيمة. مشروعية الاعتكاف وفضله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [باب الاعتكاف]. الاعتكاف: مأخوذ من قولهم: عكف على الشيء يعكف عكوفاً، إذا لزم ذلك الشيء، سواء كان خيراً أو شراً، كما قال سبحانه: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء:52] أي: عليها عاكفون ملازمون لها، والاعتكاف: هو لزوم المسجد للطاعة والقربى والتقرب لله سبحانه وتعالى، فهو لزوم مخصوص، من شخص مخصوص، في وقت مخصوص. فهذا اللزوم المخصوص المراد به لزوم المساجد، وهذه القربة والطاعة مستحبة، ولها فضيلتها، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنها من الطاعات والقرب المستحبة؛ لثبوت فضيلتها في كتاب الله عز وجل، وكذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الكتاب فقوله سبحانه: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [البقرة:125]، وهذا يدل على شرف وفضل العكوف والاعتكاف في المسجد. وكذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه اعتكف، واعتكف معه أصحابه رضي الله عنهم، فهي من السنن التي يقتدى ويتأسى فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، واعتكف أزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن، وأجمع العلماء على فضيلة الاعتكاف، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة الاعتكاف نصوص صحيحة كما نص على ذلك الأئمة رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام أحمد ، قال: لا أعلم فيه شيئاً صحيحاً. يعني: في فضيلة الاعتكاف وما يكون فيه من الأجر. إلا أن هناك بعض الأحاديث التي تدل على الفضيلة، وما خلت من كلام وما خلت من مطعن. والاعتكاف: قربة وطاعة شرعها الله عز وجل لعظيم ما يحصل فيها من الخير والبر للإنسان، فالإنسان إذا اعتكف في بيت الله عز وجل لزم طاعة الله سبحانه، ولزم أفضل الطاعات وأشرفها وأحبها إلى الله عز وجل، ألا وهي ذكره عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عنه: ( ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله ) ولو لم يكن في فضل هذه الطاعة إلا قوله سبحانه: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [البقرة:152] لكفى، فإن الإنسان إذا لزم بيت الله فقد لزم أحب البيوت إلى الله سبحانه كما في الحديث الصحيح: ( أحب البلاد إلى الله مساجدها ). فهو يلزم أحب البلاد لفعل أحب الطاعات، ولا شك أنه سيصيب من ذلك الخير في دينه ودنياه وآخرته؛ فالإنسان إذا لزم المساجد معتكفاً على الوجه المعتبر، وأدى لهذه العبادة حقها، وقام بها وأقامها على وجهها؛ فإنه أسعد الناس بما يكون فيها من الخير. ولذلك من الناس من اعتكف فخرج من اعتكافه بصيام النهار وقيام الليل، ومنهم من خرج من الاعتكاف بختم كتاب الله عز وجل كل ثلاث ليال، ومنهم من خرج من الاعتكاف بلزوم ذكر الله عز وجل؛ لأنك إذا بَقِيْتَ عشر ليال وأنت في طاعة الله صائم النهار قائم الليل، والناس حولك يذكرون الله سبحانه، ويعينونك على الطاعة والذكر، حتى لو أنك سئمت أو مللت فنظرت إلى غيرك ووجدته مجداً مشمراً في الخير؛ قويت نفسك على الخير، وانبعثت على الطاعة والبر. وهذا يجعلك مستديماً للطاعة، فتمر عليك العشر الليالي وأنت محافظ على ختم كتاب الله كل ثلاث ليال؛ فتجد لذة العبودية لله والأنس بالله عز وجل، ولذة مناجاته وحلاوة دعائه وذكره سبحانه؛ فتخرج منشرح الصدر مطمئن القلب؛ وقد وجدت خيراً كثيراً غفل عنه الغافلون. فإذا كان الإنسان كامل العقل سوي الفطرة ووجد هذه اللذة فإنه لا يفرط فيها، ويقول: الله عز وجل ندبنا إلى الخير في كل زمان ومكان، وندبنا إلى الطاعة في كل زمان ومكان، فيخرج وهو أقوى ما يكون على العبادة، وأقوى ما يكون على الذكر، ولذلك من الناس من يحافظ على ختم القرآن كل ثلاث ليال؛ لأنه اعتاد ذلك في اعتكافه فقويت نفسه على ذلك بعد الاعتكاف. ومن هنا قال العلماء: إن الاعتكاف يعين على الخير، ويقوي النفوس على الطاعة والبر، وهذا هو الاعتكاف الحق الذي يخرج الإنسان منه وهو أقوى ما يكون على طاعة الله وأقرب ما يكون إلى الخير. وَذِكْرُ المصنف لهذا الباب في كتاب الصوم واضح؛ لأن الاعتكاف إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في شهر الصوم، ولذلك السُّنة في الاعتكاف أن يكون في رمضان؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا بأس بالاعتكاف في غير رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف عشراً من شوال. قال بعض العلماء: في هذا دليل على مشروعية الاعتكاف في رمضان وغير رمضان؛ ولأن الله سبحانه وتعالى قال: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } [البقرة:125] ولم يفرق بين اعتكاف وآخر، فالمعتكف في أي زمان هو على طاعة الله عز وجل وبره، ولا يخص ذلك رمضان على سبيل اللزوم، لكن الأفضل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والحرص على الاعتكاف في رمضان ما لم تكن هناك أمور آكد من الاعتكاف: كبر الوالدين، والقيام على الأهل في نفقاتهم، ونحو ذلك من الحقوق الواجبة، فإذا كان عند الإنسان والدان يحتاجان إليه، ويحتاجان إلى بره وقربه فإنه يقدم بر الوالدين على الاعتكاف؛ لأن بر الوالدين فريضة فرضها الله عز وجل وقرنها بتوحيده، وألزم عباده بها، وحثهم وحضهم عليها، وأكد هذا الحث والحض، وأما الاعتكاف فإنه سنة ومندوب إليه، ولا يشتغل بالمندوب على وجه يضيع به الحق الواجب بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ وإنما يتقرب إلى الله بما فرض، ولذلك لا يعتكف الإنسان إلا بعد أن يكون قائماً بحقوق نفسه، وحقوق أهله، وحقوق الناس، فإذا كان على هذا الوجه فَنِعْمَ الاعتكاف! ثم إنه إذا دخل إلى معتكفه عليه أن يعلم أن هذا الاعتكاف ينبغي أن يتقيد بالضوابط الشرعية، وأن يكون قائماً فيه بالواجبات على أتم وجوهها وأكملها. فأول ما ينبغي على المعتكف: أن تكون نيته وطويته وسريرته خالصة لله سبحانه وتعالى، وأحب ما يكون عنده أن لا تسمع به أذن ولا تراه عين ولا يعلم أحد أنه معتكف؛ وذلك من كمال إخلاصه، وهذا هو الذي دعا بعض السلف لما سئل عن الإخلاص، قال: أن يتمنى العبد أن عمله بينه وبين الله لا يعلم به أحد. وهذا كمال الإخلاص، فتدخل إلى المسجد ولا يشعر أحد بك أنك معتكف على قدر استطاعتك. على خلاف ما يفعله البعض -أصلحهم الله- في هذا الزمان، فتجد الرجل يحدث بالاعتكاف قبل أن يفعله نسأل الله السلامة والعافية! ويقول: إذا كانت العشر الأواخر سنعتكف في مكة أو نعتكف في المدينة أو نحو ذلك. وهذا لا يأمن صاحبه من الغرور، ولا يأمن من الرياء، ولا يأمن من الإدلاء على الله عز وجل بطاعته، بل ينبغي على الإنسان أن يحفظ طاعته، وأن يجعلها خالصة لوجه الله عز وجل، وهذا هو أصل الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه. فإن الإنسان إذا راءى راءى الله به، وإذا سمّع سمّع الله به كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به ) فإذا كان الإنسان يخرج إلى معتكفه وهو يريد وجه الله، فإنه ينال أجره حتى يعود إلى بيته؛ لأنه خرج في حسبة وطاعة وقربة لله عز وجل، فخطواته مكتوبة وأوقاته مكتوبة، حتى نومه في المسجد يكون عبادة له؛ لأنه قد اعتكف ولزم المسجد في طاعة الله سبحانه وتعالى، وهذا لا شك أنه مقرون بإخلاص النية لله عز وجل، وكلما خلصت نية الإنسان نال من التوفيق في الاعتكاف بقدرها. ولذلك تجد البعض من الأخيار إذا دخل الاعتكاف وقد حدث الناس باعتكافه، أو دخل وفي نيته أن يجلس مع زيد وعمرو، وأن يؤانس الأصحاب والأحباب ونحو ذلك؛ وجدته ينصرف كثيراً عن ذكر الله عز وجل، ولا يوفق إلا إلى النزر القليل من الخشوع والإنابة إلى الله عز وجل، ولا شك أن هذا كما قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الرعد:11] فمن كانت نيته خالصة لله، ثم غيرها فجعلها للأنس بالناس، ولإضاعة الأوقات بالجلوس مع زيد وعمرو؛ فإن الله يغير ما به من حلاوة طاعته ولذة مناجاته. وإذا علم المعتكف أنه سيأنس بالناس، فليعلم أن الأنس بالله أعظم من الأنس بالناس، وإذا كان جلوس الإنسان مع زيد وعمرو يدخل السرور عليه، فإن الصلاة وإحياء الوقت بذكر الله أعظم سروراً وأنساً وبهجة وطمأنينة في قلب من فعل ذلك، فليحرص الإنسان على أن يقوم بهذه العبادة على وجهها. كذلك أيضاً ينبغي عليه أن يحفظ هذه العبادة من العوارض التي تصرفه عن ذكر الله عز وجل، فلا ينبغي له أن يكون خاملاً مكثراً من النوم، ومكثراً من رغبات النفس التي تريدها، ومن شهواتها الكثيرة من مأكل ومشرب ونحو ذلك، بل عليه أن يحمل نفسه على العزيمة، وأن يقويها على الطاعة، وأن يعد أيامه التي يعتكفها، ويقول: يا نفس! -كأنه يناجي نفسه- كم نمت؟وكم ارتحت؟وكم استجميت؟ فاجعلي هذه الأيام من السنة في طاعة الله عز وجل خالصة لوجهه. والاعتكاف له شروط وله واجبات ينبغي توفرها، وسينبه المصنف رحمه الله على جميع هذه الشروط والواجبات، إلا أن المنبغي على الإنسان أن يحرص في اعتكافه على السؤال عن السُّنة وتحري هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. حقيقة الاعتكاف ومحل وقوعه قال المصنف رحمه الله: [وهو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى] الضمير (وهو) عائد للاعتكاف؛ كأنه يقول رحمه الله: حقيقة الاعتكاف عندنا معشر الفقهاء والعلماء لزوم المسجد. هذا المسجد مفهومه: المسجد مَفْعِل من السجود، والمراد بذلك المسجد المعهود، وليس المراد به كل موضع يسجد عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) فالمراد بالمسجد هنا: المعهود الذهني، وهو المسجد المعروف الذي إذا أطلق في الشرع انصرف إليه الحكم، فلا يشمل المصلى، والمصلى: هو الذي تفعل فيه بعض الصلوات دون بعضها. فالمُصَلَّى لا يعتكف فيه، أي: ليس محلاً للاعتكاف، ودليل ذلك قوله سبحانه: { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] فدل على أن الاعتكاف يختص بالمساجد. وبناءً عليه قالوا: لو كان المعتَكَفُ مصلًّى فإنه لا يعتكف فيه؛ وإنما يعتكف في المسجد. ثم المسجد ينقسم إلى قسمين: هناك مسجد يجُمَّع فيه، وهناك مسجد لا يجمَّع فيه. والمراد بقولنا: (يجمّع فيه) أي: تصلى فيه صلاة الجمعة؛ فالمسجد الذي تصلى فيه الجمعة بالإجماع يعتكف فيه. وأما المسجد الذي لا يجمّع فيه، ففيه تفصيل: إن كان قد أوجب على نفسه أن يعتكف العشر الأواخر فحينئذٍ ينصرف إلى مسجد يجمّع فيه؛ والسبب في ذلك: أنه إذا نذر اعتكاف العشر الأواخر أو أوجبها على نفسه فإن هذه العشرة الأيام ستتخللها الجمعة قطعاً، وبناءً على ذلك لابد وأن يكون في موضع أو مسجد يجمّع فيه، ومن هنا يقولون: إنه لابد وأن يكون اعتكافه للعشر كاملة في مسجد يجمّع فيه؛ لأنه لو اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة فسيكون مضطراً إلى الخروج لصلاة الجمعة، وحينئذٍ يفسد اعتكافه بالخروج إذا كان قد نذر اعتكاف العشر كاملة. أما إذا كان اعتكافه اعتكاف طاعة وقربة ولم يقصد به العشر كاملة، فإنه يصح في المسجد الذي يجمّع فيه والمسجد الذي لا تكون فيه الجمعة، لكن بشرط: أن تكون فيه جماعة؛ لأنه مخاطب بشهود الصلاة مع الجماعة، وبناءً على ذلك لابد وأن يكون اعتكافه في موضع تقام فيه الجماعة بالصلوات الخمس. وبناءً على ما سبق: فلا يصح الاعتكاف في مسجد لا تقام فيه الجمعة إن كان مريداً لاعتكاف العشر كاملة، أو أوجبها على نفسه، وأما بالنسبة للمسجد الذي لا يجمّع فيه وتقام فيه الجماعة، فإن الاعتكاف فيه صحيح، إذا لم يكن قد أوجبه على نفسه وفرضه. الغرض من الاعتكاف والأعمال التي يقوم بها المعتكف قوله: (لطاعة الله) (اللام) للتعليل، أي: لزوم المسجد من أجل طاعة الله تعالى. والطاعة هنا نكرة شاملة لكل طاعة أي: لكل أمر مشروع، سواء كان من الأقوال أو الأفعال. أما الأقوال: فيشمل ذلك: قراءة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، والاستغفار، ونحو ذلك من القرب القولية. وكذلك أيضاً يشمل الطاعة التي هي القرب الفعلية: فيشمل ذلك الصلاة وهي أفضلها وأحبها إلى الله عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ) فمن أفضل الطاعات التي يداوم عليها المعتكف كثرة الصلاة، فإن كثرة الصلاة تزيد من صلة العبد بربه كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: ( وما تقرب إلىّ عبدي بشيء أحب إلىّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ) الحديث. فيحرص العبد على طاعة الله عز وجل سواء كانت قولاً أو فعلاً، وكذلك الاعتقاد، وهو الطاعة بالقلب؛ كذكر الله في قلبه، والنظر في ملكوت الله عز وجل، والتفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، كل ذلك يعتبر من الطاعة والقربة، كما أثنى الله عز وجل على عباده الأخيار من أولي الألباب الذين يذكرونه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ويثنون على الله عز وجل بما هو أهله، من ذكره وتعظيمه سبحانه وتعالى. قوله: (لطاعة الله) فخرجت المعصية، فلا يجوز للمعتكف إذا كان معتكفاً أو غير معتكف أن يرتكب معصية؛ لكنه في الاعتكاف أشد، فالغيبة في المسجد أعظم من الغيبة خارج المسجد، وهكذا أذية المسلم في المسجد بلسان؛ كَسَبِّ الناس وشتمهم، وهذا ما يقع فيه بعض الجهال -أصلحهم الله- حينما يحجزون الأماكن فهم يحجزونها بدون حق، فإذا جاء أحد وقعد فيها سبوه وشتموه، ونسوا حقوق المسلم على أخيه المسلم، ولم يرعوا فيه حق الإسلام، ولربما كان ذلك على سبيل الظلم، فتجده يحجز المكان الذي يسعه ويسع غيره، فإذا جاء الغير وجلس فيه أقام الدنيا وأقعدها، فانتهك حد الله عز وجل ومحارم الله بسبه وشتمه وأذيته وانتقاصه وعيبه. ولا شك أن هذا يعود على صاحبه بالوزر العظيم، فلا يجوز أذية الناس باللسان والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) فالمسلم يحفظ لسانه عن أذية المسلمين والنيل منهم والانتقاص لهم، وإذا زلّوا عليه وأخطئوا فزاحمه إنسان في الصف الأول أو نحو ذلك فليذكره بالله عز وجل، وليقل: يا أخي! اتق الله. لأن الله سائلنا ومحاسبنا عما نقول، فبدلاً من أن تبادر الإنسان بالأذية والسب والشتم والثلب وكشف عورته وأذيته، فبادره بالنصيحة، وذكره بالله عز وجل حتى تعذر إلى الله، فإذا أصر وأبى فحينئذٍ يخير الإنسان بين أمرين: بين أن يعفو عنه إذا أخطأ عليه، وهذا أحسن، وبين أن يقتص منه، وهذا حسن؛ ولذلك قال تعالى: { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر:17-18] ففي القرآن حسن وأحسن، فالحسن: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى:40] والأحسن: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [الشورى:40] فهذا أكمل وأعظم، وهو أكثر قربة لله سبحانه وتعالى، وأرضى لله عز وجل. فإذا كان الإنسان معتكفاً، وجاء شخص وجلس في مكانه، جاءه برفق وقال له: يا أخي! هذا مكاني. وهذا إذا كنت خرجت من هذا المكان لقضاء الحاجة فقط، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز حجز المكان، فإذا خرج الإنسان لقضاء حاجته ثم جاء ووجد الغير قد جلس مكانه فليقل: أصلحك الله يا أخي! هذا مكاني. فإذا أصر وأبى ذكره بالله، وقال له: يا أخي! لا يجوز لك أن تجلس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا قام أحدكم من مجلسه لحاجته فهو أحق به إذا عاد إليه ) فتذكره بالسُّنة وتقيم عليه الحجة، فإن أبى فاعلم رحمك الله أن الأجر من الله، وأن الله يعلم أن هذا المكان مكانك، وأنك في الصف الأول ولو كنت في آخر الصفوف، فما دمت قد صرفت عن حقك بالظلم؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيؤتيك أجرك، والله مطّلع على السرائر والضمائر، فلا يجوز لك أن تضيع الأجر عليك. فإذا كان الإنسان معتكفاً فليحذر من مثل هذه الآفات، وليعلم كما قال هذا الإمام الجليل: إن الاعتكاف للطاعة وليس للأذية ولا للتشويش على الناس ولا للتضييق عليهم، ولا شك أن أذية المسلمين عامة لا تجوز، فكيف إذا كانت في المساجد؟! سنية الاعتكاف قوله رحمه الله: [مسنون]. أي: أن هذا الاعتكاف الذي هو ملازمة المسجد لطاعة الله مسنون، أي: هو سنة، وقد دل على سنيته وشرعيته دليل الكتاب -كما قلنا- ودليل السُّنة من هديه عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال لأصحابه: ( فمن كان معتكفاً فليعتكف معنا ) أي: ليعتكف العشر الباقية كما في حديث أبي موسى في الصحيح حينما نزل عليه الوحي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه اعتكف أول الشهر ثم اعتكف أوسطه، ثم نزل عليه جبريل بالوحي من السماء ( إن الذي تطلبه -يعني: ليلة القدر- أمامك ) أي: أمامك فاطلبه، فدل هذا على فضيلة العشر، وفيه دليل على مشروعية الاعتكاف وفضيلته. جواز الاعتكاف بلا صوم قال رحمه الله: [ويصح بلا صوم]. أي: ويصح الاعتكاف بلا صوم، وهذا له صور: الصورة الأولى: أن تعتكف في الليل مجرداً عن النهار، وقد ثبت بذلك الحديث الصحيح عن عمر رضي الله عنه كما في الصحيح لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نذر أن يعتكف ليلة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره، فدل هذا على مسألتين: المسألة الأولى: أن الاعتكاف لا يشترط له الصوم، وهذا هو أصح قولي العلماء، خلافاً للحنفية والمالكية رحمة الله عليهم الذين يقولون باشتراط الصوم لصحة الاعتكاف. والأمر الثاني: أنه يجوز أن تعتكف أجزاء النهار؛ لأنه إذا لم يشترط الصوم فإنه يجوز لك أن تعتكف أجزاء النهار؛ لأن الليل جزء من اليوم، فدل على جواز اعتكاف جزء من اليوم، سواء كان ليلة كاملة أو كان نهاراً كاملاً أو كان ساعة كاملة، بل قال العلماء: لو أن إنساناً دخل الفريضة فنوى أن يعتكف مدة جلوسه في المسجد فإنه معتكف، ويكون له فضل الاعتكاف إذا نوى ذلك؛ وذلك لإطلاق الكتاب والسُّنة. والأفضل والأكمل: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف الكامل خاصةً في العشر الأواخر. وجوب الاعتكاف مع الصوم بالنذر قال رحمه الله: [ويلزمان بالنذر]. ويلزم الاعتكاف والصوم بالنذر، هذا إذا كان اعتكافه نافلة، ولا ينتقل من كونه نافلة إلى الوجوب إلا في صور: منها: النذر، فإذا نذر وقال: لله عليّ أن أعتكف يوماً. فقال بعض العلماء: إذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماً، فلابد وأن يكون صائماً فيه. وقال بعض العلماء: يغنيه أن يعتكف اليوم بدون صيام. وهكذا لو قال: لله عليَّ أن أعتكف ليلة. فإنه يجزئه أن يعتكف الليل ولا يلزمه الصوم في هذه المسألة، إنما يلزمه الصوم إذا نوى النهار، فقال بعض العلماء: إذا نوى اعتكاف النهار كاملاً فإنه يصوم. والصحيح: أنه يلزمه الصوم ويلزمه الاعتكاف بالنذر، بمعنى إذا نذر وصرّح في نذره أن يكون صائماً، فإنه يلزمه الاعتكاف مع الصوم، وإلاّ أجزأه ولو جزء النهار، فلو قال: لله عليّ أن اعتكف في النهار. فإنه يصدق عليه أنه معتكف ويتم نذره ولو بساعة واحدة من النهار. عدم صحة الاعتكاف إلا في مسجد جامع قال رحمه الله: [ولا يصح إلاّ في مسجد يجمّع فيه]. ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد يجمّع فيه؛ لأنه إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة، فإن معنى ذلك أنه سيترك فريضة الله من شهود الصلاة مع الجماعة. وكذلك أيضاً إذا اعتكف العشر الأواخر في مسجد تقام فيه الجماعة ولا تقام فيه الجمعة، فمظنة أن يترك الجمعة في يوم الجمعة. واستثنى بعض العلماء من ذلك: المريض المعذور في الجمعة، قالوا: يجوز أن يعتكف العشر الأواخر في مسجد لا يجمع فيه؛ لأنه إذا حضرت الجمعة صلاها ظهراً، ولا يجب على مثله أن يشهد الجمعة. جواز الاعتكاف للمرأة في كل مسجد قال رحمه الله: [إلا المرأة ففي كل مسجد سوى مسجد بيتها]. إلا المرأة فإنه يجوز لها أن تعتكف في كل مسجد، والأصل في جواز الاعتكاف للنساء: أن الله تعالى عمم في قوله سبحانه: (وَالْعَاكِفِينَ) فشمل هذا الرجال والنساء. وكذلك السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أقر نساءه على الاعتكاف معه صلوات الله وسلامه عليه، وإنما عاتبهن في الغيرة ومنافسة بعضهن لبعض وقال: ( آلبر أردتن ) وهذا يدل على مشروعية اعتكاف المرأة، ولكن بشرط أن لا يكون في النية دخن، كأن يكون ذلك على سبيل المضارة، كأن يكون بين الضرتين كما وقع لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن. واعتكاف المرأة جائز؛ لكن بشرط: ألا يؤدي إلى المحاذير الشرعية كمخالطة الرجال، وكذلك أيضاً وقوع الفتنة والمحظور. والأفضل للمرأة أن تلزم بيتها كما قال تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [الأحزاب:33]، والأفضل أن تصلي في مسجدها في بيتها وفي مخدعها، فهذا أفضل لها وأكمل وأفضل لغيرها؛ لأن الخير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، وكلما سُتِرَ النساء عن الرجال، كلما كان ذلك أحفظ لدين الرجال وأحفظ لدين النساء، فما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده فتنة أضر على الرجال من فتنة النساء، ولذلك الأفضل للمرأة أن تلزم بيتها. فإن أحبت أن تعتكف فلا حرج، لكن بشرط: أن لا يؤدي اعتكافها إلى فوات الحقوق الواجبة عليها، فإن كان هناك حق لزوج فإنها لا تعتكف، وإنما تؤدي حق زوجها؛ لأن الله فرض عليها القيام بحقه، ولا يعقل أن تنصرف من الواجب إلى النفل، فالله يُتَقَّربُ إليه بما افترض، وإذا نوت المرأة في نفسها أنه لولا شغل زوجها لاعتكفت كتب الله أجرها، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم شعباً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم شركوكم الأجر. قالوا: يا رسول الله! كيف وهم بالمدينة ؟ قال: حبسهم العذر ) . فالمرأة التي يحبسها عذر زوجها والقيام بحقوق زوجها أجرها كامل، وهكذا لو حبسها تربيتها لأطفالها، وقيامها بحقوق أطفالها؛ فإن أجرها كامل، فكم من متمن للخير يبلغه الله درجته! ولعل الله لحكمة صرف المرأة عن شهود المساجد حتى تنصرف عن الفتنة، ويكتب لها الأجر بالنية. فلا يجوز للمرأة أن تخرج للاعتكاف وتضيع حقوق أولادها أو حقوق زوجها، فلا شك أنها مطالبة بالحقوق المفروضة قبل القيام بالنوافل والمستحبات. عدم جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها قال رحمه الله: [سوى مسجد بيتها]. أي: يجوز لها أن تعتكف في كل مسجد؛ لأنه لا تجب عليها الجمعة ولا تجب عليها الجماعة، إلا مسجد بيتها فلا يصح لها أن تعتكف فيه؛ لأن المراد بالمساجد: المساجد المعهودة، ومسجد بيتها يعني: مخدعها الذي تصلي فيه، فهو ليس بمحل للاعتكاف؛ لأن الاعتكاف إنما هو في المساجد المعهودة. عدم الوفاء بالنذر إذا شدت الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة قال رحمه الله: [ومن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة، وأفضلها المسجد الحرام، فمسجد المدينة، فالمسجد الأقصى لم يلزمه فيه]. ومن نذر الاعتكاف فقال: لله عليّ أن أعتكف. فإنه لا يلزمه الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) ولذلك خص الله عز وجل هذه المساجد، فلا يجوز شد الرحال للقرب المتعلقة بالمواضع إلا إلى هذه المساجد، فلا تشد الرحال للمشاهد ولا للقبور ولا لزيارتها، ولا كذلك للدعاء عندها، ولا للذبح عندها، وكل ذلك مما يعتقد أنه قربة لا يجوز فعله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ). بل إن بعض هذه الأفعال يفضي إلى الشرك، والخروج من الملة -والعياذ بالله- وكفر صاحبه، كأن يشد الرحل للذبح عند القبر، أو دعاء صاحب القبر، أو التوسل بصاحب القبر بالذبح والاستغاثة والاستجارة به، مما وقع فيه كثير من الجهال في الأزمنة المتأخرة نسأل الله السلامة والعافية! ولا شك أن هذا الأمر تُنْقَضُ به عرى الإسلام، ويوجب خروج صاحبه من الملة نسأل الله السلامة والعافية! فالمقصود: أن شد الرحال للاعتكاف ولو أوجب ذلك على نفسه فقال: لله عليّ أن أعتكف في مسجد قباء، فإنه لا يلزمه أن يذهب إلى مسجد قباء وأن يعتكف فيه، فإذا نوى ونذر في أي مسجد فإنه يغنيه أحد هذه المساجد الثلاثة، إلا إذا نوى أفضلها فلا يغني المفضول عن الأفضل، فلو نوى أن يعتكف في مسجد بيت المقدس فإن الصلاة فيه بخمسمائة، فيجزئه أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً لو نوى أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يغنيه أن يعتكف في مسجد الكعبة. وهذا على الأصل الذي ذكرناه؛ لأن الأعلى يغني عن الأدنى، ولا يغني الأدنى عن الأعلى، فالعكس لا يصح، فلو نوى أن يعتكف في المسجد الحرام فإنه لا يجزئه أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ينتقل من الأعلى إلى الأدنى. عدم جواز النقل في النذر من الأعلى إلى الأدنى قال رحمه الله: [وإن عين الأفضل لم يجز فيما دونه وعكسه بعكسه]. لقد بين المصنف رحمه الله في هذه المسألة حكم نذر الاعتكاف، فالشخص إذا نذر الاعتكاف في مسجد، وكان هذا المسجد أفضل من غيره، فإنه لا يجزئه أن ينصرف إلى ما دونه، ومثال ذلك: أن ينوي الاعتكاف في المسجد الحرام؛ فإنه لا يجزئه أن ينصرف إلى مسجد المدينة، وكذلك لو نوى الاعتكاف في مسجد رسول صلى الله عليه وسلم لم يجز له أن ينصرف إلى ما دونه من سائر المساجد، غير المسجد الحرام. والأصل في ذلك: أنه إذا نوى الأفضل أنه لا تبرأ ذمته إلا به أو بما هو أفضل منه، ولذلك إذا نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وانصرف إلى المسجد الحرام، فإنه قد حصَّل فضيلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة، حيث فضل الله المسجد الحرام على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بمضاعفة أجر الصلاة فيه، وبوجود عبادة الطواف. إذاً المسجد الحرام اختص بهاتين الفضيلتين اللتين لا يشاركه فيهما غيره من سائر المساجد، فمن نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز له أن ينصرف إلى المسجد الحرام، ولا يجزيه أن ينصرف من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأقصى، أو إلى غيره من سائر المساجد ما عدا المسجد الحرام، وفي ذلك سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر الصحابي حينما نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى أن يعتكف في مسجده صلى الله عليه وسلم. جواز النقل في النذر من الأدنى إلى الأعلى قال رحمه الله: (وعكسه بعكسه). أي: إذا نوى الأقل جاز له أن ينصرف إلى الأعلى -كما ذكرنا- ومن نوى الأعلى لا ينصرف إلى الأدنى، فالحكم في هذا على ما ذكرناه. الأسئلة المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة السؤال هل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) يخصص الدليل العام في قوله تعالى: { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] فلا يجوز الاعتكاف إلا في هذه الثلاثة أثابكم الله؟ الجواب ( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) للعلماء فيه وجهان: يقولون: هذا نفي بـ(لا نافية) وهو نفي لحقيقة شرعية، والنفي المسلط على الحقيقة الشرعية عهدنا من الكتاب والسنة أنه يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يقصد به نفي الكمال. والصورة الثاني: أن يقصد به نفي الصحة. أما مثال النفي المسلط على الحقيقة الشرعية لنفي الكمال: قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) فأهل السنة والجماعة على أن هذا النفي نفي لكمال الإيمان، وليس المراد به نفي الإيمان كلية كما يقول الخوارج، وإنما قالوا: إنما هو نفي لكمال الإيمان؛ لثبوت النصوص الأخرى التي تدل على أن الإيمان لا يحبط بنقصانه عن الكمال. فقوله: (لا إيمان) نفي للإيمان، والإيمان حقيقة شرعية، فتسلط النفي على الحقيقة الشرعية وهي الإيمان، فحمل على الكمال لورود النصوص الأخرى التي تدل على أنه مراد للكمال. كذلك أيضاً: تنفي الحقيقة الشرعية للصحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) فإن هذا نفي لصحة القبول من أساسه، فلا يحكم بصحة العبادة ولا بإجزائها -أعني الصلاة- إذا وقعت من غير طهارة؛ لأن النفي هنا مسلط على القبول المراد به نفي الصحة. وعلى هذا قالوا: إذا ورد النص بنفي حقيقة شرعية نظرنا: فإن دلت النصوص على العموم بالصحة بقينا على ذلك، كقوله تعالى: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] فهذا يدل على إطلاق الاعتكاف في جميع المساجد، فصرف النفي عن ظاهره من إفادته لعدم صحة الاعتكاف إلى نفي الكمال. ثم في الحديث ما يدل على نفي الكمال: ( لا اعتكاف -كامل- إلا في المساجد الثلاثة ) لأن هذه الثلاثة المساجد فيها فضائل لا توجد في غيرها، فالمسجد الحرام الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، مع فضيلة الطواف بالبيت، وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالصلاة فيه بألف صلاة، وأما المسجد الأقصى ففيه الصلاة بخمسمائة صلاة. فكأن المعتكف في هذه المساجد الثلاثة لا يمكن أن يوازيه غيره ولو بلغ ما بلغ من كثرة الطاعات؛ لأنه يحصل على فضائل اختصت بها هذه المساجد الثلاثة. والقاعدة في الأصول: (أنه إذا تردد الحديث بين معنيين: معنى يعارض به النصوص، ومعنى لا يعارض به النصوص، وأشعر معنى النص بأحد المعنيين وجب صرفه عليه) فلما كان في هذه المساجد مزية وفضل دل على أن قوله: (لا اعتكاف) أي: لا اعتكاف كامل؛ لمزية هذه المساجد ودلالة الشرع على وجود خصوصيتها بالفضائل. فقوي حمل الحديث على اعتكاف كامل، وهذا قول جماهير السلف رحمة الله عليهم، وبه أفتى الأئمة الأربعة، وهو أنه يجوز أن يعتكف في غير المساجد الثلاثة. وذهب مجاهد بن جبر رحمه الله -من أئمة السلف، وهو تلميذ ابن عباس رحمه الله- إلى القول بأن الاعتكاف لا يصح في غير المساجد الثلاثة، واختاره بعض المتأخرين من العلماء، وهذا قول له وجهه من ظاهر الحديث، فمن أخذ به فإنه لا يعتكف في غير هذه المساجد الثلاثة، ولكن الظاهر والأقوى: أنه يعتكف في غير هذه المساجد الثلاثة، وأن الفضيلة للمساجد الثلاثة ومن اعتكف فيها، فإن غيره لا يحصل فضله؛ لعظيم ما ورد فيها من الخصائص كما لا يخفى، والله تعالى أعلم. حكم قطع صلاة الفريضة لمن سمع جماعة بقربه السؤال هل يجوز لمن دخل في الصلاة وسمع جماعة بقربه أن يقطع الصلاة ليصلي معهم أثابكم الله؟ الجواب من دخل في صلاة وظاهر السؤال أنه دخل في صلاة الفريضة، كأنه يريد أن يصلي مع الجماعة بدلاً من أن يصلي لوحده، وهذا مبني على مسألة تسمى: ازدحام الفضائل. هل يقطع الصلاة ليدرك فضيلة الجماعة، أو يصلي وحده لإدراك فضيلة الوقت؟ هو كبر تكبيرة الإحرام؛ فأدرك وقتاً لم تدركه الجماعة التي كبرت بعده، فبعض العلماء يرى أن فضيلة الوقت مقدمة على فضيلة الجماعة. وبعضهم يرى أن فضيلة الجماعة أفضل من فضيلة الوقت؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة عن أول وقتها لاجتماع الناس، كما في الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال: ( والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر ) قالوا: فهذا يدل على الفضيلة، لكن أجيب بأن هذا الحديث في صلاة العشاء والتي الأفضل فيها التأخير، فكان طلب الجماعة لفضيلة الوقت. وعلى هذا: فإن الأقوى والأظهر أنه لا يقطع؛ لأنه بدخوله في الفريضة قد أوجب الله عليه الإتمام، فحينئذ لا ينتقل إلى النافلة ويقطع هذه الفريضة التي أوجبها الله عليه. وتوضيح ذلك: أنه إذا كبر في صلاة الظهر -مثلاً- يريد أن يصليها، وأحرم بها، فإن النصوص دالة على أنه يجب عليه الإتمام، فإذا كبرت بعده جماعة فإننا لو قلنا: ينصرف إلى الجماعة. فمعنى ذلك: أننا نرد النص الذي أوجب عليه الإتمام بفضيلة، وهي تحصيل فضيلة الجماعة، ولا شك أن هذا يضعف من جهة الأثر والنظر. والصحيح: أن يتم الصلاة منفرداً وقد أدرك فضيلة الوقت التي لها شأن لا يخفى لورود النصوص به، والله تعالى أعلم. الفرق بين الصلاة مع الإمام حتى ينتهي وبين إحياء الليل كله السؤال هل إذا صليت مع الإمام حتى ينتهي، هل أعتبر أحييت ليالي العشر كاملة، أم لابد أن يصلي الإنسان في بيته ويحيي ليله أثابكم الله؟ الجواب هناك فرق بين الإحياء وبين القيام نفسه، فقوله عليه الصلاة والسلام: ( من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) والمراد بذلك: فضيلة الاستمرار مع الإمام حتى يسلم وينتهي من آخر صلاته وهي الوتر، ومن فعل هذا يحصل على فضيلة قيام الليلة، أي: كأنه في الأجر والثواب قام الليلة كاملة، لكن هذا لا يتعلق بقيام الليالي المقصودة بذاتها؛ فإن التعبير المشعر بفضيلة الفعل لا يدل على تحقق الفعل بنفسه. ولذلك فرق بعض العلماء في الأدلة التي وردت بفضائل الأعمال التي ينزل الإنسان فيها منزلة الفاعل، فقالوا: قوله عليه الصلاة والسلام ( من صلى الفجر في جماعة، ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين؛ كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة ) قالوا: يكون له أجر الفعل، وهو أجر الحجة والعمرة في الأصل، أما من حج واعتمر وتكبد المشاق وتحملها فله أجر الفعل الأصلي، وأجر المتاعب والمشاق. ولذلك قالوا: إنه يفرق في هذا بين فضيلة قيام الليلة وبين كونه قد قام ليالي العشر حقيقة، فمقصود الشرع: أن يقوم ليالي العشر كاملة، وعلى هذا فإنه يكتب له قيام ليلة فضيلة، ولا يعتبر قائماً حقيقة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصيام) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (210) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - باب الاعتكاف [2] للاعتكاف أحكاما من جهة المكان ومن جهة الزمان، وأحكام الاعتكاف من جهة الزمان يندرج تحتها تحديد أول اليوم وآخره، وما يلزم المعتكف عند خروجه أثناء الاعتكاف، وكذلك تخصيص الأزمنة الفاضلة بالاعتكاف، كعشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان؛ لما تمتاز به من الفضيلة على سائر الأيام، ويلزم المعتكف اجتناب ما يفسد اعتكافه، ويستحب له الاشتغال بالطاعات وترك فضول القول والعمل. أحكام الاعتكاف الواجبة من جهة الزمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ومن نذر زمناً معيناً دخل معتكفه قبل ليلته الأولى وخرج بعد آخره]. لما بين لنا رحمه الله أحكام الاعتكاف المنذور من جهة المكان، شرع في بيان أحكام الاعتكاف الواجب من جهة الزمان، فالاعتكاف فيه جانبان: أولاً: من جهة المكان حيث يتقيد بالمسجد، وإذا تقيد بالمسجد فلا يخلو من أمرين: إما أن ينوي مسجداً مطلقاً فلا إشكال، وحينئذٍ يجزيه أي مسجد. وإما أن يعين، فإن عين إما أن يحدد ما هو أدنى فيجزيه ما هو أعلى، أو أعلى فلا يجزيه ما هو أدنى، على التفصيل الذي ذكرناه. ثانياً: من جهة الزمان فلو أن رجلاً نذر أن يعتكف يوماً كاملاً -أي: نهاراً بليلته- فإنه إذا قال: لله عليَّ أن أعتكف يوم الأحد أو الإثنين أو الثلاثاء. فإنه يدخل قبل مغيب الشمس من يوم السبت؛ وذلك لأن يوم الأحد يبدأ من ليلة الأحد، وليلة الأحد إنما تكون بمغيب شمس يوم السبت، فإذا أراد أن يعتكف الليلة كاملة فلابد وأن يكون بكامل جسمه في داخل المسجد من أول الزمان. ولا يتأتى ذلك إلا بالدخول قبل غروب الشمس، فإن دخل بعد غروب الشمس فإنه لم يعتكف الليلة كاملة، ولذلك من نوى العشر الأواخر فإنه يدخل قبل مغيب شمس يوم العشرين، وأما الدخول إلى المعتكف نفسه فيكون بعد فجر ليلة الحادي والعشرين، فقد كان يدخل عليه الصلاة والسلام إلى معتكفه بعد فجر ليلة الحادي والعشرين. فالشاهد من هذا: أن السُّنة لمن نوى الاعتكاف يوماً كاملاً أن يدخل قبل مغيب شمس اليوم الذي قبله، حتى يحُصِّل الليلة كاملة، وهكذا بالنسبة لآخر زمان الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف فيه أول زمانه وفيه آخر زمانه، فأنت إذا ما ألزمت نفسك باعتكاف يوم كامل فإن الله فرض عليك أن تستغرق الزمان بكامله، فأوله قبل مغيب الشمس، وآخره بعد مغيب الشمس من اليوم الذي نويته، فإن كنت ناوياً للاعتكاف يوم الأحد فإنك تدخل قبل مغيب الشمس من يوم السبت؛ لتحصل على أول الزمان، ثم إذا غابت الشمس من يوم الأحد فقد تم نهارك، وحينئذ يجوز لك الخروج، فإن خرجت قبل مغيب الشمس لم يستتم اعتكافك على الوجه المعتبر. وعلى هذا فإن المعتكف للعشر الأواخر إذا ألزم نفسه بها ونذرها، فإنه يخرج بعد مغيب الشمس من آخر يوم من رمضان، وحينئذٍ لا يخلو الشهر من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون تاماً ثلاثين يوماً، فإن تم الشهر ثلاثين يوماً فحينئذ تنتظر إلى مغيب شمس الثلاثين، فإن غابت شمس يوم الثلاثين من رمضان تخرج بعد المغيب، فبمجرد أذان المغرب ينتهي الاعتكاف الواجب عليك، وحينئذٍ إذا صليت المغرب جاز لك أن تنصرف. وأما إذا كانت الليلة ليلة شك فتنتظر إلى ثبوت كونها ليلة الفطر، فإذا جاء الخبر أنها ليلة الفطر في الساعة التاسعة أو الساعة الثامنة أو الساعة العاشرة فتخرج بمجرد علمك أنها ليلة العيد؛ وذلك لأنك لما تحققت أنها ليلة العيد لم يجب عليك اعتكافها ولا تلزم بها. عدم جواز خروج المعتكف من المسجد إلا لضرورة قال رحمه الله: [ولا يخرج المعتكف إلا لما لابد له منه]. المعتكف حبس نفسه لطاعة الله، وفر من الدنيا وشواغلها إلى مرضات الله ومحبته، فالمنبغي عليه أن يحقق هذه العبادة، وأن يقوم بها على الوجه الذي يرضي الله عز وجل؛ حتى يكون أسعد الناس بالقبول منه سبحانه وتعالى، فإنها نعمة من الله إذا وفق عبده لاغتنام هذا الاعتكاف بذكره وشكره وحسن عبادته، ثم تقبل منه، ولا يتقبل الله إلا من المتقين، الذين حفظوا حقوق العبادات، وقاموا بها على أتمّ وجوهها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى. إذاً فالمعتكف في اعتكافه لا يجوز له أن يخرج من المسجد إلا لضرورة وحاجة، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم؛ لأن حقيقة هذا اللفظ الشرعي -أي: الاعتكاف- المتضمن للعبادة الشرعية يدل على اللزوم وعلى المكث، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يخرج من المسجد إلا لحاجة وضرورة، كما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: ( كان لا يخرج إلا لحاجته ) . والمراد بالحاجة: البول والغائط، فإذا احتاج إلى بول وغائط فإنه يجوز له أن يخرج؛ والسبب في ذلك: أن المساجد لا يجوز قضاء الحاجة فيها، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابي في المسجد وأنكر الصحابة عليه ذلك أقرهم، ولكن أنكر عليهم أنهم يريدون قطعه عن البول، أما كون البول في المسجد لا يجوز فهذا محل إجماع، والله تعالى نبه إلى ذلك بقوله: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } [النور:36] فلا يجوز للمعتكف أن يقضي حاجته داخل المسجد، فإذا كان لا يجوز له ذلك فمعنى ذلك أنه لابد له من الخروج، فيصير الخروج مسموحاً وجائزاً. فلو قلنا: إنه يحرم على المعتكف أن يخرج لقضاء حاجته، لما استطاع إنسان أن يعتكف؛ لأنه ما من إنسان إلا وهو مضطر لقضاء حاجته، ولا يمكنه أن يحبس هذه الحاجة؛ لأن ذلك ربما أهلكه وأتلف نفسه، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجوز له أن يخرج لقضاء الحاجة من بول وغائط. وفي حكم ذلك ما يضطر إليه من الأكل والشرب، فإذا لم يجد أحداً يقوم بإحضار الطعام والشراب إليه -إذ لابد له من الأكل ولابد له من الشرب- جاز له أن يخرج. فإن قلنا: إن السُّنة قد دلت على جواز الخروج للحاجة، وأنه يجوز له أن يقضي حاجته، فإن الأصل يقتضي أن ما أبيح للحاجة والضرورة يقدر بقدرها، ومن هنا فصّل العلماء فقالوا: إذا اضطر للخروج لقضاء البول أو الغائط فلا تخلو أماكن قضاء البول والغائط من حالتين: إما أن تكون قريبة، وإما أن تكون بعيدة: فإن كانت قريبة فإنه يقضي حاجته فيها بلا إشكال؛ لأن قربها من المسجد ينفي الإشكال في جواز قضاء الحاجة فيه، كأن تكون لا تبعد عن المسجد إلا يسيراً، أما إذا كانت بعيدة فإنه يختار أقربها، ولا يجوز له أن ينصرف إلى المكان الأبعد مع وجود الأقرب. فلو اختار منزله أو شقته أو عمارته، وهو أبعد عن المسجد من دورة مياه قريبة لم يجز له ذلك؛ والسبب في هذا: أنه إذا خرج لقضاء حاجته فقد استغل الوقت الذي يجب صرفه في الاعتكاف لقضاء الحاجة، وما أبيح للحاجة يقدر بقدرها، فكأنه يترفه ويزداد في الوقت المسموح له، فلما سُمِحَ له أن يقضي حاجته في الأقرب، لم يجز له أن يقضي حاجته في الأبعد. (أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) هي أصل عام عند العلماء، ولذلك قالوا: إذا أراد الشخص أن يطعن في أحد الشهود، وعلم فيه أكثر من جَرْح ترد شهادته، ويكون بعضها أشد من بعض، فإنه يختار أقل جرح ترد به شهادته؛ لأن كشف العورات غير مأذون به إلا بقدر الحاجة. وكذلك من أكل من الميتة بسبب المخمصة والمجاعة قالوا: إنه يأكل ويسد رمقه، ولا يجوز له أن يتزود؛ لأن الزاد زائد عن حاجته، والأصل أنه محرَّم، فأبيح له قدر الحاجة. فالأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يخرج من المسجد ما دام معتكفاً، وأبيح له أن يخرج لقضاء حاجته، وعليه فلا يجوز للمعتكف أن يقضي حاجته في مكان بعيد؛ لأن الشرع إنما أجاز له الأقرب. إذاً لا يجوز الانصراف إلى دورات المياه البعيدة مع وجود القريبة إلا في حالات: الحالة الأولى: أن تكون شديدة الزحام، ويكون الإنسان شديد الحصر، أو يتضرر بالانتظار في الزحام لضيق نفس، أو يتضرر من وجود بعض الروائح الكريهة أو نحو ذلك، فيجوز له حينئذ أن يختار شقته أو يختار عمارته إذا لم يكن بعدها متفاحشاً. كذلك الحكم إذا كان محتاجاً للطعام والشراب، فلو كان يتيسر له أن يطعم في مطعم وهو قريب من المسجد فحينئذ ننظر: إن كان جلوسه في المطعم ينقص من قدره كالعالم وطالب العلم ومن هو قدوة، فتسقط مروءته بوجوده في هذا المكان، فإنه يجوز له أن ينصرف إلى شقته وبيته؛ لأنه يتضرر بالجلوس في هذا المكان، فوجود هذا المكان وعدمه على حد سواء. وأما إذا كان يمكنه أن يأكل فيه ولا يستضر بذلك، والمكان محفوظ ولا يجد غضاضة فيه، فإنه لا يجوز له أن ينصرف إلى مكان أبعد مع وجود الأقرب. فالقاعدة: أن هذا الشخص جاز له أن يفارق المسجد لضرورة، وإذا جاز له لضرورة لا يجوز له أن يتمادى أكثر منها. ومن هنا فرَّع العلماء أنه إذا خرج من أجل أن يستحم أو يغير ثيابه، ولم يستضر بالثياب التي عليه فإنه يفسد اعتكافه، لكن لو خرج لقضاء الحاجة وأخذ ثيابه معه من أجل أن يزيل العرق والنتن عنه، أو عليه جنابة فحينئذٍ لا إشكال، لكن أن يخرج من معتكفه من أجل أن يستحم، ومن أجل أن يترفه بالاستحمام لشدة الحر أو نحو ذلك فلا، وإنما يخرج بقدر الحاجة والضرورة؛ لقضاء الحاجة، أو إصابة الطعام ونحو ذلك. والدليل على هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث السنن: ( أنه كان إذا خرج من معتكفه إلى بيته لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة، وإنما يكون لما لابد منه ) وعلى هذا: فإنه لو تأمل الإنسان عيادة المريض وكذلك شهود الجنازة فإنها قد تصل في بعض الأحيان إلى مقام الحاجة، وقد يحتاج المريض منك أن تواسيه وتسليه، ومع ذلك لم يكن عليه الصلاة والسلام من هديه أن يُعَرِّج على المريض أو يجلس عنده، وإنما كان يسأل وهو مار: كيف فلان؟ وهذا أصل يخل به البعض بسبب الجهل بأحكام الاعتكاف، ولذلك تجد الإنسان يدخل إلى معتكفه ويخرج وقد تكون حالته هي هي لم يتغير؛ لأنه لم يستشعر أنه في عبادة تلزمه بالتقيد والانضباط بالحدود الشرعية، بحيث ينصرف عن هذه العبادة بقلبه وقالبه. فلذلك: ينبغي على المسلم أن يحفظ هذه الأحكام، وهي: أنه لا يجوز له أن يفارق المسجد إلا من ضرورة وحاجة، فإن وُجدت الضرورة والحاجة جاز له أن يخرج. أقوال العلماء في اشتراط المعتكف الخروج لحاجة قال رحمه الله: [ولا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه] أما إذا اشترط كأن يشترط أن يتفقد حال أهله أو يعود مريضاً أو يشهد جنازة، فللعلماء قولان: منهم من قال: الأصل الشرعي أن المعتكف لا يجوز له أن يخرج، ولا يجوز له أن يترفه، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الاشتراط في الحج ولم يجزه للمعتكف، فُنْبقي الاعتكاف على ظاهر النصوص، ولا نجيز لأحد أن يشترط فيه، وأصحاب هذا القول يُضَعِّفون القياس في هذا. ومنهم من يقول: نقيس الاعتكاف على الحج، فكما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم في الحج أن تشترط المرأة، فإنه يجوز للمعتكف أن يشترط. والقول الأول ألزم للأصل؛ وذلك لأنه أوفق، إلا أنه لو قال قائل: لو أن المعتكف في أثناء اعتكافه أو عند دخوله للمعتكف، كانت بنته مريضة أو أمه مريضة أو والده مريضاً وخشي عليهم، أو كان هو نفسه مريضاً وخشي على نفسه فاشترط، كان القياس هنا أقرب إلى الصواب؛ لحديث ضباعة رضي الله عنها حين قالت: ( إني أريد الحج وأنا شاكية ) فكأنها ألزمت نفسها مع وجود المرض، بخلاف من دخل العبادة وهو صحيح قادر. فكأن الشرع أعطى فسحة للمكلف الذي دخل العبادة وهو ضعيف؛ لأنه دخل فيها مع وجود الضرر، فألزم نفسه ما لم يَلْزَمْه، ولذلك يقوى أن يقال بجواز الاشتراط، إذا كان في حالة وجود العذر عند الدخول، تحقيقاً لدلالة النص الذي هو أصل في مباحث الاشتراط. فعلى القول الثاني: إذا كان عنده مريض من أهله له أن يسأل ويقول: كيف حالك يا فلان؟! وهو مار، ولا يعرج عليه، ولا يقصد إلى غرفته ولا يجلس عنده أو يسأل زوجته عن أبنائه فلا حرج، أما أن يقصد عيادته فلا، وفي حكم ذلك أن يخرج من اعتكافه بقصد الاتصال على أهله للاطمئنان على مريض، فإنه في حكم العيادة، ولذلك لا يعود، وهذا أصل، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما بينت سنة المعتكف قالت: ( أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يخرج إلا لما لابد له منه ) هذه ثلاثة أمور مضت بها السُّنة في المعتكف: أن لا يعود المريض، وأن لا يشهد الجنازة، وأن لا يخرج من معتكفه إلا لما لابد منه، يعني الأمر الضروري. مفسدات الاعتكاف قال رحمه الله: [وإن وطئ في فرج فسد اعتكافه]. بعد أن بين رحمه الله حقيقة الاعتكاف، والأمور التي ينبغي على المعتكف أن يلتزم بها في اعتكافه، شرع في بيان ما يفسد الاعتكاف. الجماع أعظم مفسد للاعتكاف يفسده الجماع، فإنه إذا حصل جماع بينه وبين زوجه، أو جماع محرم -والعياذ بالله- فقد فسد الاعتكاف بإجماع العلماء رحمهم الله. والأصل في ذلك: أن المعتكف لا يجوز له أن يجامع لقوله سبحانه وتعالى: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] فحرم الله على المعتكف أن يباشر أهله، فدل على حرمة المباشرة، والمباشرة هنا بالإجماع إذا بلغت غايتها أي: المباشرة بالجماع فإنها محرمة. وقال بعض العلماء: إنها مُحَرِّمَة للمباشرة التي يراد بها الاستمتاع؛ إعمالاً للعموم في قوله: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ } [البقرة:187] كالتقبيل والهمز والغمز ونحو ذلك من الأفعال التي تكون مقدمات للاستمتاع بالمرأة، وهذا على ظاهر قوله: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ } [البقرة:187] ومن هنا تنقسم المباشرة إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون المباشرة مفضية إلى الجماع أو من مقدمات الجماع كالتقبيل ونحوه، فهذه بالإجماع لا تجوز، فلا يجوز للمعتكف أن يقبل زوجه ولا يجوز له أن يستمتع على سبيل إثارة الشهوة وهذا بالإجماع. القسم الثاني: أن تكون المباشرة لغير الشهوة، كأن تسرح المرأة شعر زوجها أو يدني رأسه من المسجد لزوجته لتسرح شعره أو تغسل يده أو نحو ذلك، ويحصل اللمس والمباشرة، لكنها ليست مقصودة للاستمتاع، فهذه جائزة بالإجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح-: ( كان يدني لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رأسه فترجله وهو معتكف في المسجد صلوات الله وسلامه عليه ) . فإن جامع بطل اعتكافه، وأما إن باشر ولم يجامع كأن يقبل أو نحو ذلك، فإذا باشرها ولم يجامع، وحصلت مقدمات الاستمتاع فلا يخلو من ضربين: الضرب الأول: أن ينزل فيفسد اعتكافه. الضرب الثاني: أن لا ينزل، فللعلماء فيه قولان، أصحهما: أن اعتكافه لا يفسد. وأما إذا جامع فللعلماء قولان: منهم من يقول: يفسد اعتكافه، ولا شيء عليه وهو مذهب الجمهور. ومنهم من يقول: يفسد اعتكافه، وتلزمه كفارة الجماع في نهار رمضان وهو رواية عن الإمام أحمد . والصحيح القول الأول: أن من جامع زوجته وهو معتكف أنه يفسد اعتكافه، ولا يجب عليه أن يكفر؛ لأن الكفارة خاصة بالجماع في نهار رمضان على ظاهر السُّنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل أن ذمته بريئة من المطالبة بالكفارة، ولا دليل على شغلها بالجماع في الاعتكاف، إذْ لو كان الجماع في الاعتكاف موجباً للتكفير لما سكت الشرع عن ذلك. ومحل الخلاف في مسألة الكفارة وعدمها: إذا وقع الجماع ليلاً، أما لو وقع جماع المعتكف في نهار رمضان وهو صائم، فإنه تجب عليه الكفارة للإخلال بصيامه، لا من باب إفساد الاعتكاف، وفرق بين كونها تجب للإخلال بالصيام وبين كونها تجب من أجل الاعتكاف. على هذا لو سألك سائل وقال: اعتكف رجل وجامع زوجته فما الذي يجب عليه؟ تقول له: فسد اعتكافه بالإجماع. وأما الجماع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إن وقع جماعه في نهار رمضان وهو صائم لزمته الكفارة؛ من أجل الصيام لا من أجل الاعتكاف. والحالة الثانية: إن وقع جماعه في الليل، فإنه لا تجب عليه الكفارة على أصح القولين، وهو مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم. مستحبات الاعتكاف قال رحمه الله: [ويستحب اشتغاله بالقرب] الاشتغال بالقرب من مستحبات الاعتكاف الاشتغال بالقرب قوله: (يستحب) أي: الأفضل والأكمل والأعظم أجراً للمعتكف أن يشتغل بالقرب، وهي كل ما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى من الاعتقاد والأقوال والأعمال الظاهرة. فمن الاعتقاد: التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، وكذلك استشعار عظيم فضل الله عليك، فإن الإنسان لو تفكر وتأمل وتدبر في نعم الله عز وجل المغدقة عليه؛ فعظّم الله وهابه، وخشي منه سبحانه، كان هذا منه عبادة وقربة، حتى قال بعض العلماء: أعمال القلوب أعظم من أعمال الجوارح، وأعمال القلوب تشمل تعظيم الله سبحانه وتعالى والخوف منه وخشيته وحبه وإجلاله، فهي أعظم من أعمال الجوارح. ولذلك غفر الله عز وجل لعبده لما عظمه كما في الحديث الصحيح: ( أن عبداً قال لأبنائه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، وذروا نصفي في البر ونصفي في البحر، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين. قال: فلما مات صنعوا به ذلك، ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فقال الله للبحر: اجمع ما فيك، وقال للبر: اجمع ما فيك، فإذا هو قائم بين يدي الله، قال الله: عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: خوفك يارب! قال: قد غفرت لك ). قالوا: فهذه من أعمال القلوب، ولذلك أثنى الله على أهل هذه العبادة فقال: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } [آل عمران:191] فالتفكر والتدبر من أعمال القلوب، فإذا كان الإنسان في معتكفه وتفكر في عظمة الله، وتذكر ذنوبه وإساءته وتفريطه في جنب الله، وذرفت عيناه من خشية الله فهذه قربة بقلبه. كذلك إذا سبح وهلل وحمد وكبر، وأثنى على الله بما هو أهله فهي قربة بلسانه، وهكذا إذا قام يصلي فركع وسجد وتلا كتاب ربه، فهي قربة بجوارحه، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله سبحانه وتعالى. فالمقصود: انصراف الإنسان في معتكفه إلى الله عز وجل، وهي عبادة مخصوصة المراد منها: أن يستكثر الإنسان فيها من طاعة الله عز وجل. لكن لو أن المعتكف تحدث وقتاً في شيء من الدنيا وكان ذلك منه بقدر، فإن هذا لا يفسد الاعتكاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام مع أم المؤمنين صفية رضي الله عنها يَقْلِبُها، وكانت تأتيه وهو معتكف، فكان صلى الله عليه وسلم يتحدث معها ويباسطها، ثم يقوم يقلبها كما ثبت عنه ذلك في الصحيحين. فهذا من سماحة الإسلام، فالإسلام دين وسط، ليس فيه رهبنة بحيث يقبل الإنسان إقبالاً كلياً ينصرف فيه عن أموره الضرورية، وعن الأمور التي هي من جبلة البشر، فإن النصارى غلت في العبادة حتى أصبحت في مقام الرهبنة، والإسلام لا يريد هذا من المسلم، فلا رهبانية في الإسلام؛ وإنما يريد من المسلم أن يعبد الله، ولكن لا يصل إلى درجة الغلو ولا إلى درجة التنطع؛ وإنما إلى درجة معتبرة يصل الإنسان بها إلى مرضات الله عز وجل، متأسياً ومقتدياً بنبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين. فيستحب له الاشتغال بالقرب الظاهرة والباطنة التي يحبها الله ويرضاها، ويستجمع أمرين هامين: الأمر الأول: الندم على ما فات من الذنوب والعصيان؛ فإن الإنسان في أوقات مظنة أن يرحمه الله عز وجل برحمته، فإن مواسم الخير وساعات الطاعة والبر مظنة الرحمة؛ لأن الله فضلها وشرفها واختارها لحكمة منه سبحانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة ) كما في الصحيح من حديث أبي هريرة . قال بعض العلماء: وأعظم ما تكون الرحمة إذا كانت في العشر الأواخر؛ لأن الله اختار من الشهر العشر الأواخر، فإذا كان الإنسان معتكفاً في العشر الأواخر واستجمع نفسه في الإقبال على الله، فعليه أن يندم على ما فات من الذنوب والعصيان، لعله أن يخرج من معتكفه كيوم ولدته أمه. لأن المقصود من الاعتكاف: أن يصيب ليلة القدر، ومن أصاب ليلة القدر وقامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فكم من أناس تشرق عليهم الشمس في صبيحة ليلة القدر وقد خرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم! فهذا هو المقصود من ليلة القدر، والمقصود من الاعتكاف: أن الإنسان يصيب رحمة الله عز وجل وعفوه ومغفرته. الأمر الثاني: الإكثار من الدعاء، وسؤال الله العافية فيما بقي من العمر، ويتضرع إلى الله عز وجل أن يحسن له الخاتمة في ما بقي له من عمره، كما قال تعالى: { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [الأحقاف:15] فالإنسان إذا نظر إلى ما هو قادم عليه من عمره خاف من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وخاف أن يختم له بخاتمة السوء، وخاف أن تزل القدم بعد ثبوتها. فلذلك يخشى من الله عز وجل في ما هو قادم عليه، ويسأل الله عز وجل أن يلطف به، فإذا حصّل المعتكف الشعور بالندم على ما فات، احتقر نفسه؛ بسبب تفريطها في جنب الله، وأيضاً أحسن الظن بالله سبحانه وتعالى ورجا أن يرحمه وأن يغفر له. وهذه أمور تعين على شغل الوقت بذكر الله عز وجل: الأمر الأول: عليه أن ينصرف إلى الله بكليته، فإذا جاء من يشغله عن ذكر الله، أو جاءه أصحابه أو أحبابه، ورأى منهم الإفراط في الجلوس وإضاعة الوقت والتفريط في الأوقات، فلا يحرص على مثلهم، وإنما يفر منهم. ولذلك كلما كان الإنسان بعيداً عن الخلطة كلما كان آنس بالله عز وجل، ومن كان أنسه بالناس أعظم من أنسه بالله فلا خير فيه، إنما يكون الأنس بالله جل جلاله، وإذا كنت تستشعر أن أصحابك وأحبابك يدخلون السرور عليك، فوالله إن سرورك بهم لا يكون شيئاً أمام سرورك بالله عز وجل، وإذا أحس الإنسان بالأنس بالله عز وجل فإنه يقبل على الله بكليته. الأمر الثاني: أن يستشعر أنه ما ترك الوالدين ولا الأولاد ولا القَرابات؛ من أجل إضاعة الوقت في القيل والقال، ومن أجل شغل الأوقات في الأمور التي قد يكون فيها الغيبة والنميمة والأمور المحرمة، إنما ترك الوالدين والأولاد من أجل ذكر الله ومن أجل طاعة الله، فيستحب للإنسان أن يستشعر هذا الشعور؛ حتى يستفرغ همته للخير والطاعة والبر، ونسأل الله التوفيق! فإن العبد لا يستطيع أن يصيب الخير إلا بتوفيق الله عز وجل، فكم من محب للخير لا يوفق له، فيحال بينه وبين التوفيق للخير بسبب الذنوب، نسأل الله العظيم أن لا يحول بيننا وبين رحمته بما كان من ذنوبنا وإساءتنا. اجتناب المعتكف وغيره لما لا يعنيه قال رحمه الله: [واجتناب ما لا يعنيه]. هذا أصل عام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) أي: من كماله وجلاله وفضله، ومن علو مرتبة الإنسان في الإسلام، وإذا أردت أن ترى المسلم الكامل فانظر إلى الذي يترك ما لا يعنيه، فالله عز وجل كلفك نفسك، وكلفك أن تأمر الناس بالخير وتنهاهم عن الشر؛ استجابة لأمر الله عز وجل، وما وراء ذلك من لمز الناس وأذيتهم، أو الاشتغال بفضول الدنيا فهذا مما لا يعنيك. ولذلك إذا فَرَّغ الإنسان نفسه لما يعنيه ساد، فهذا الأحنف بن قيس عندما قال له رجل: كيف سدت قومك وأنت قصير، دميم الخلقة؟ وكان الأحنف من سادات العرب ومن أهل الحلم والفضل، فقال كلمة عظيمة في جواب هذا السائل المحتقر له المزدري له في خلقته قال له: بتركي لما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك. فهذا الأمر -وهو خلقة الله عز وجل- لا تعنيك، وأنت اشتغلت بها مع أنها لا تعنيك، فَسُدتُ قومي حينما تركت الفضول وتركت الاشتغال بالناس وهمزهم ولمزهم واحتقارهم والوقيعة فيهم، فالسيد الذي يتبوأ المنزلة العالية هو الذي يسلم الناس منه. وإذا سلم الناس منك أحبوك وهابوك، وكلما كنت عفيفاً عن أعراضهم وعن عيوبهم، فإنهم يعفون عن عرضك وعن عيوبك، كما قال الإمام مالك : أعرف أقواماً عندهم عيوب ستروا عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وأعرف أناساً لا عيوب عندهم تكلموا في عيوب الناس وكشفوها؛ فكشف الله عيوبهم، أي: أوجد الناس لهم عيوباً ليست لهم. فلذلك على الإنسان ألاّ يشتغل بما لا يعنيه، خاصة الكلام في الناس، وتتبع عثراتهم والوقيعة فيهم، وخاصةً إذا كانت غيبة ونميمة، وأشد ما تكون إذا كانت في العلماء والأئمة وطلاب العلم والفضلاء. بعض الأحيان يجلس المعتكفون ويقعون في الغيبة وهم لا يشعرون، فلان طوّل بنا، وفلان قصّر، وفلان تلاوته أحسن من فلان، وفلان أفضل من فلان، وليت فلاناً قرأ بكذا ولم يقرأ بكذا، وفلان يخطئ، فهذه أمور من الغيبة يقع الإنسان فيها وهو لا يشعر، وفي الحديث ( قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) . فلذلك ينبغي على المسلم أن يعلم أن الاعتكاف لله لا لأي شيء سواه، فيشتغل بالأمور التي تعنيه، ويترك عنه فضول الحديث. وقد كان السلف رحمة الله عليهم يخافون من فضول الحديث كخوفهم من الأمور المحرمة؛ خوف الاشتغال بها فتوصلهم إلى الحرام، وينبغي للمسلم أيضاً أن يوطن نفسه على اجتناب فضول الكلام، سواءً كان معتكفاً أو غير معتكف، خاصةً طلاب العلم وأهل الفضل؛ لأن الناس تنظر إليهم على أنهم القدوة، والشاب الملتزم الصالح إذا كان بين أهله وإخوانه وقرابته ينظرون إليه أنه قدوة، فإذا وجدوه يكثر من ذكر الدنيا ومن العقارات والبيع والشراء سقط من أعين الناس واحتقروه وازدروه. ولذلك يقول العلماء: الأمر في أهل العلم وأهل الفضل آكد، كالأئمة والخطباء والوعاظ والدعاة والعلماء ونحوهم، هؤلاء ينبغي عليهم أن يحفظوا ألسنتهم، وأن يتحفظوا فيما يتكلمون فيه ويسمعونه، فإذا جلس الإنسان في المجلس ووجد فضول الكلام وفضول الأحاديث، اشتغل بما يعنيه من ذكر الله عز وجل والتسبيح والاستغفار، قال أحد الصحابة رضي الله عنه: ( كنا نعد للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة: أستغفر الله، أستغفر الله ) لأنه قدوة، ولأنه كان إماماً في الخير وكان معلماً للخير، فكان إذا جلس استغفر الله، فما كان يشتغل بما لا يعنيه صلوات الله وسلامه عليه، فالمنبغي على الإنسان أن يحرص على هذه الخلة. فالمعتكف إذا حافظ في هذه العشرة الأيام على أنه لا يشتغل بما لا يعنيه، قد يستمر على هذه الخصلة الكريمة طيلة حياته؛ لأن الاعتكاف مدرسة، فإذا كان وطن نفسه في خلال العشرة الأيام على أن يستجمع قواه فيضغط على نفسه وعلى شهوته، فينضبط في سلوكه وأقواله وأفعاله، فإنه يبقى أثر هذه الطاعة. ومن دلائل قبول الاعتكاف: أن تجد المعتكف يخرج بخصلة من خصال الخير، بل يخرج بخصال، فإذا تعوّد على أنه معتكف وأنه مراقب في أقواله وأفعاله، فإنه قد يبقى معه هذا الشعور. يقول العلماء: والمقصود من الاعتكاف أن المعتكف حينما يُلْزَم بمكان، ويستشعر أنه ينبغي أن يستفرغ جميع جهده، يحس كأنه في الدنيا من حيث هو مخلوق ينبغي أن يستفرغ وقته في ذكر الله عز وجل، فمثل هذه المواسم وهذه المواقف تعين الإنسان على أن يضبط شهوته، وأن يضبط نفسه، فلا يسترسل في الكلام وفي ما لا يعنيه. نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الأسئلة الفرق بين الاعتكاف وغيره من العبادات السؤال أشكل عليّ مسألة عدم جواز نقل نية النافلة إلى الفريضة، أي: من أدنى إلى أعلى، بينما يجوز في الاعتكاف الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، كمن نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز أن يعتكف في المسجد الحرام، فما الفرق بينهما أثابكم الله؟ الجواب أن النية إذا انعقدت بالنافلة فلا يجوز لك أن تصرفها إلى فريضة، فلو أن إنساناً كبر تكبيرة الإحرام، أو صلى ركعتي الوضوء أو راتبة الظهر ناوياً النافلة، ثم فكر وقال: لو أني قلبتها إلى الفريضة. فإنه لا يجزيه ذلك؛ لأن النية انعقدت للنافلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما لكل امرئٍ ما نوى ) والفريضة أعلى من النافلة، ولا يجزئ أن ينصرف من الأدنى فتبرأ ذمته بالأعلى، بدليل: أنه إذا صلى أربع ركعات نافلة ثم نواها عن الفريضة فإنه بالإجماع لا تنقلب فريضة. أما مسألة أنه لو نوى الاعتكاف في الأقل كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم مع المسجد الحرام، وانصرف إلى الأعلى، فهذا من جهة الإسقاط، بخلاف الصلاة التي تنعقد بتكبيرة الإحرام، فإن الإنسان إذا كبر تكبيرة الإحرام نافلة فإنها لا تنصرف فريضة، بخلاف الاعتكاف، فإنه في الفضائل، ولأنك لما تعتكف في البيت الحرام فإنك تحصل الواجب وزيادة، ولكن إذا نويت النافلة فإنك تحصل ما دون الواجب، فلا تنتقل إلى الواجب. وتوضيح ذلك: أنه عندما يكبر تكبيرة الإحرام للنافلة، فإنها تقع من أول التكبير للأقل، فلا تنتقل للأعلى؛ لأنه أعلى بحكم الشرع وهو الواجب والفرض. وأما بالنسبة لمن اعتكف في البيت الحرام، وكان قد نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الفعل الذي يقع منه يقع على الأكمل، فهو صورة عكسية تماماً، وكذلك إذا اعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد نوى الاعتكاف في المسجد الأقصى والذي تكون الصلاة فيه بخمسمائة صلاة، فمعناه: أنه قد حصل الفرض -وهي الخمسمائة صلاة وزيادة- فجاز له أن ينصرف من الأدنى إلى الأعلى. وأما إذا كبر تكبيرة الإحرام فقد دخل في الأدنى، ولم يجز أن ينتقل إلى الأعلى في النافلة؛ لأنه لا يحقق الفرض ولا يحقق الزيادة. وبناءً على ذلك اختلفت المسألتان فكان الحكم بالجواز في الاعتكاف، و الحكم بالمنع في صلاة النافلة. والله تعالى أعلم. جواز الطواف حول البيت للمعتكف السؤال إذا كان الاعتكاف بالمسجد الحرام، هل هناك حرج إذا خرج إلى الطواف؟ الجواب البيت الحرام كله مهيأ للاعتكاف، فمن اعتكف في الدور الأول أو الدور الثاني أو الدور الثالث، أو اعتكف في الساحات فإنه معتكف؛ لأن الله عز وجل أطلق البيت كله، ولذلك قال: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } [البقرة:125]. فإذا تأملت أن البيت كله مكان للاعتكاف صح أن ينزل للطواف؛ لأنه أثناء طوافه في حكم المعتكف، وأثناء طوافه واشتغاله بالطواف كاشتغاله بالصلاة أثناء الاعتكاف، لأن الطواف صلاة، وكونه ينزل إلى صحن بيت الله الحرام فهو في أفضل الأماكن وأشرفها، وهذا لا يضر ولا يخرجه عن كونه معتكفاً. ولذلك قال العلماء: من طاف في أي مكان من البيت، بحيث أنه لم يخرج عن حدود المسجد؛ فإن طوافه صحيح، لكن لو خرج عن حدود المسجد وجاوز المسجد، أو طاف من خارج المسجد بسيارة مثلاً لم يصح طوافه؛ لأنه قال: { طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [البقرة:125] فالطائف لا يصدق عليه أنه طائف إلا إذا كان في داخل البيت، وداخل حدود البيت، أعني: المسجد المبني. فالمقصود: أن هذا التعبير بقوله: (بيتي) شامل لجميع المسجد، فالمعتكف ما دام داخل المسجد فإنه لا يضره، وإذا نزل إلى الطواف فقد نزل إلى أفضل الأماكن، خاصة وأنه يجمع بين الاعتكاف وبين الطواف، وهو ضرب من الصلاة بنص حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم. حكم من اشترط الخروج من المعتكف ليصلي بالناس السؤال من اشترط الخروج من المعتكف ليصلي بالناس كأن يكون إماماً لمسجد غير المسجد الذي اعتكف فيه؟ الجواب أما بالنسبة لمسائل الاشتراط في الاعتكاف فأنا أتوقف فيها؛ لأنها مبنية على القياس، وأنا أرى أن الأحوط للإنسان أن يبقى على السنة، وأن لا يعتكف إلا بالصورة المعتبرة شرعاً، والأفضل في مثل هذا أن يخرج من الخلاف فيجعل اعتكافه جزئياً، فينوي الاعتكاف ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، حتى إذا قارب وقت أذان الظهر خرج من المعتكف؛ تحصيلاً للواجب الذي عليه، فيصلي الظهر بالناس ثم يرجع، وينوي الاعتكاف بين الظهر والعصر، وهكذا يجزئ الاعتكاف، فهذا يخرج من الخلاف وهو أرفق به، والله تعالى أعلم. عدم لزوم تجديد النية من البيت لمن فسد اعتكافه السؤال هل الذي يفسد اعتكافه يلزمه خروجه من المسجد ورجوعه إلى منزله وأهله لكي يجدد نية الاعتكاف؟ الجواب من فسد اعتكافه وجدد النية صح ذلك وأجزَأَه، ولا يجب عليه الخروج إلى البيت لكي ينوي الاعتكاف من جديد من البيت، فهذا لا أصل له، وإنما يجدد نيته في المسجد، ويصح اعتبار اعتكافه المستأنف، فلو أنه فسد اعتكافه في الساعة الثانية ظهراً بخلل شرعي؛ كخروجه من المسجد من دون حاجة، ثم قال: أستغفر الله! ورجع إلى المسجد، فإنه يكون اعتكافه مستأنفاً بالرجوع الثاني، والله تعالى أعلم. حكم الصفرة والكدرة قبل الحيض وبعده السؤال أحياناً وقبل مجيء العادة الشهرية بيوم أو يومين تأتي صفرة وكدرة فما حكمها، أثابكم الله؟ الجواب الصفرة والكدرة لا تخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تأتي قبل زمان الحيض الذي اعتادته المرأة، كأن تكون عادتها الستة الأيام من أول كل شهر، فإذا جاءتها في نهاية الشهر السابق فإنها تعتبر استحاضة لا تمنع من الصوم ولا تمنع من الصلاة، وتغسلها ثم تضع قطنة في الفرج ثم تصلي. الحالة الثانية: أن تكون الصفرة والكدرة أثناء أمد الحيض، فهي حيض على الصحيح من أقوال العلماء؛ لحديث أم عطية : (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الحيض شيئاً) ومفهوم هذا الحديث أنها في الحيض حيض. وأما إذا جاءت الصفرة والكدرة بعد انتهاء أمد العادة، كأن تكون عادتها سبعة أيام فجاءتها بعد السبعة الأيام، فإنها استحاضة قولاً واحداً عند أهل العلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (211) صـــــ(1) إلى صــ(12) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [1] الحج ركن من أركان الإسلام، وقد فرضه الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين مرة واحدة في العمر، وذلك عند توفر الشروط وانتفاء الموانع. وللحج شروط عدة منها: الإسلام، والحرية، والتكليف، والقدرة والاستطاعة، فإن توفرت هذه الشروط وجب الحج. وهناك موانع تمنع من إيجاب الحج على الإنسان منها: الكفر، والجنون، والرق، وعدم البلوغ، وبعض هؤلاء قد يصح منهم الحج نفلاً لا فرضاً، وبعضهم لا يصح منهم الحج لا نفلاً ولا فرضاً. مقدمة عن الحج وبيان أهميته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول رحمه الله: [كتاب المناسك] هذا الكتاب المراد به بيان أحكام الحج والعمرة، وما يتصل بهما من بيان أحكام الهدي والأضاحي، وما أوجب الله عز وجل في هذه الفريضة العظيمة الجليلة الكريمة، التي هي الركن الخامس من أركان الإسلام. ذكر رحمه الله كتاب المناسك عقب كتاب الصيام؛ لأنها الركن الخامس من أركان الإسلام؛ مراعاة للترتيب كما في حديث ابن عمر : ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً ) فلما رتب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأركان بهذا الترتيب، اعتنى الفقهاء رحمة الله عليهم بذكرها مرتبة على هذا الوجه. المناسك: جمع منسك، والنسك يطلق ويراد به المعنى العام وهو العبادة وحملوا عليه قوله سبحانه: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } [الأنعام:162] قيل: النسك كل ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون قوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي من عطف العام على الخاص. وأيضاً يطلق النسك ويراد به العبادة الخاصة كالذبح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ( انسك نسيكة ) كما في حديث كعب بن عجرة في الصحيحين، أي: اذبح ذبيحة، فالنسك يطلق بمعنى الذبح، وهو الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } [الأنعام:162] أي: ذبحي. كما قال تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر:2]. والمناسك المراد بها هنا: أفعال الحج والعمرة، ويشمل ذلك: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والمبيت بمنى وبقية المناسك، فهذه مناسك الحج. كذلك أيضاً مناسك العمرة من الإحرام والطواف بالبيت، والسعي بن الصفا والمروة، والحلق أو التقصير. في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل الشرعية المتعلقة بعبادة الحج وعبادة العمرة. لقد فرض الله عز وجل الحج على عباده بقوله: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] وكذلك العمرة -على أصح قولي العلماء- فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده، كما في الحديث الصحيح عند الإمام أحمد في مسنده، و النسائي في سننه: ( أن عائشة رضي الله عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل على النساء جهاد؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة ) . فقال: (عليهن) يعني: أنهن ملزمات، فهي صيغة إلزام، مثل : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } [المائدة:105] أي: ألزموها. فدل هذا الحديث على أن العمرة واجبة، فتبين بهذا أن الحج والعمرة كل منهما واجب على الذكر والأنثى، بقيود وشروط سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. فضل الله الكعبة البيت الحرام وجعلها قياماً للناس يقيمون فيها طاعته، ويتقربون إليه سبحانه بأفضل وأحب وأجل ما يتقرب إليه وهو التوحيد. والله سبحانه وتعالى جعل هذا البيت وهذه المشاعر والمناسك لشيء واحد وهو توحيده سبحانه وتعالى، فتكون العبادة خالصة لوجهه، فالمسلم يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، وكذلك يقف بعرفة، ويبيت بمزدلفة، ويفعل سائر أفعال الحج؛ توحيداً لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ما من منسك من هذه المناسك إلا وفيه معلم من معالم التوحيد، بل معالم عديدة من معالم التوحيد، قصد منها أن يخرج الإنسان من هذه العبادة وهو أخلص ما يكون لله عز وجل في قوله وفعله وظاهره وباطنه. وعبادة الحج والعمرة فيها خير كثير من منافع الدنيا، كما أنها تحقق أعظم منفعة في الدين، فإن فيها منافع ومصالح عظيمة دينية ودنيوية. أما منافع هذه المناسك الدينية: توحيد الله عز وجل، وجمع المسلمين في صعيد واحد ليستشعروا به أخوة الإسلام، وما ألف الله به بين قلوبهم، حتى يحس المسلم أن الله جمع بينه وبين أخيه المسلم بهذا الدين. ورابطة الدين هي أعز وأكرم وأشرف عند الله سبحانه من رابطة النسب والقرابة؛ ولذلك يجمع الله المسلم مع جيرانه وأهل حيه في اليوم خمس مرات، فإذا تم الأسبوع جمعه مع أهل البادية وضاحية المدينة؛ حتى يأتلف الناس ويحسوا أنه لا فرق بينهم، وأن هذه الأشكال والصور والألوان والأماكن والبلدان لا فرق بينها في دين الله عز وجل، فيركعون ويسجدون خلف إمام واحد، ويتقيدون بهذا الإمام وينصتون إليه، فتجد المليون يستمعون إلى رجل واحد؛ حتى نشعر بالألفة وبالأخوة. ولا يجتمع على وجه الأرض المليون والمليونان ينصتون لرجل واحد وهو يتكلم؟! ولو اجتمع مائة ألف عجز الناس عن إسكاتهم، ولو جاءوا بعدد من الخلق من أجل أن يُسْكِتُوا هؤلاء المائة ألف لحظة أو ساعة مؤقتة، لكان من الصعوبة بمكان، ولحصل اللغط، ولكن في الإسلام يجتمع المليون والأكثر من المليون ويستمعون لخطيب واحد على صعيد عرفة، لا يتكلمون ولا يهمسون. وكذلك أيضاً عندما يجتمعون في صلاة الجمعة؛ من أجل أن يشعر المسلم بأخوة هذا الدين، وأن هذا الإسلام جمع بين القلوب وألف بين الأرواح، وهي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك جعل الله عز وجل المسلمين بمثابة الجسد الواحد، وأشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( مثل المسلمين في توراتهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . فيجتمعون في الأسبوع على مستوى المدينة والأحياء القريبة من المدينة، فإذا كان يوم العيد اجتمعوا على أبعد من المدينة، وتجد الناس تأتي من أماكن بعيدة من أجل شهود العيد داخل المدينة. كل ذلك من أجل جمع القلوب وتآلف الأرواح: { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } [الأنفال:63] وهذا هو مقصود الإسلام، ولذلك يقول بعض العلماء: إن الله امتن على عباده بالألفة والأخوة والتواد والتراحم قبل منَّةِ الدين، فقال: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } [آل عمران:103] فجعل نعمة الاعتصام والائتلاف والتواد والتراحم واجتماع الكلمة قبل قوله: { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } [آل عمران:103] وهذا يدل على عظيم أمر الائتلاف والاجتماع والاعتصام بحبل الله عز وجل. وهذا مقصود ومراد في الحج، ولذلك يجتمع الناس بإمام واحد، ولا حج إلا بإمام، ويدفعون بدفع الإمام، وتراهم جميعاً بثوب واحد وزي واحد، وعلى هيئة واحدة، وفي مقام واحد وصعيد واحد، كل ذلك لكي يشعروا بأخوة الإسلام وما ربط الله عز وجل بينهم. كذلك من مقاصد الحج: أن المسلم يجتمع بأخيه المسلم، يسأله عن حاله وأشجانه وأحزانه، فإن وجد خيراً حمد الله، وأمره أن يشكر الله على فضله، وإن وجد غير ذلك ثبته وقواه، ودعاه إلى الاعتصام بحبل الله، وتواصى المسلمون بالثبات على الحق إلى الممات، والصبر على ما يكون من بلايا الدنيا ومصائبها، فتجدهم متآلفين متعاطفين متكاتفين متراحمين متواصلين كالجسد الواحد، فالمسلم الذي في مشرق الأرض يتأوه لأخيه المسلم الذي في مغرب الأرض؛ وما ذلك إلا برابطة هذا الدين. فالمقصود من الحج: جمع الكلمة وائتلاف القلوب. أما المنافع والمصالح الدنيوية من المناسك: التجارة وغيرها. ولقد فضل الله أهل البيت الحرام فساق إليهم الخيرات، وجعل بلدهم آمناً مطمئناً تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً منه سبحانه؛ لكي يشكروه ويحمدوه ويعظموه، فحق جيران بيت الله الحرام آكد من غيرهم، فلما رأوا الناس تتوافد عليهم، من كل حدب وصوب شعروا بحرمة هذا البيت، وشعروا بنعمة الله عليهم وفضل الله عليهم بأن جعل القلوب تهوي إلى هذا البيت! يُسأل المسلم في أقصى الشرق عن أمنية عزيزة عليه، فيقول: أتمنى أن أرى البيت الحرام، وأن أحج، وأن أعتمر. وهذا كله لاشك يدعو الإنسان أن يشعر بنعمة الله عز وجل عليه. ومن مصالح الحج الدنيوية أن يجتمع الناس ويتعرف بعضهم على بعض، وتتعرف على عادات وتقاليد، وترى أشياء وصنوف عجيبة غريبة من تصرفات الناس وأفعالهم، فترى الحكيم بحكمته والجاهل بجهله، فإن وجدت خيراً تعلمته، وإن وجدت غير ذلك حمدت الله على نعمته وفضله عليك. ففي الحج غايات عظيمة وأسرار كريمة، فليس المقصود أن الإنسان يحج من أجل أن يصيب هذه العبادات خالية عن هذه المعاني. وقال بعض العلماء: من أعظم معاني التوحيد في الحج أن الحج يذكر الإنسان بالآخرة، فإن الإنسان من أول لحظة في الحج إذا خرج من بيته يتوجه إلى الميقات، فيأتيه أمر الله عز وجل في الميقات أن يتجرد من ثيابه، وأن ينزع عنه المخيط. فإذا تجرد من ثيابه تذكر إذا جرده أهله من ثيابه حين يموت ليغسلوه، هو اليوم يجرد نفسه؛ ولكنه غداً يُجَرَّدَ. ثم إذا لبس ثياب الإحرام فإنه يتذكر لبس الأكفان، وعندما يلبس ثياب الإحرام فإنه يمنع من الطيب، ومن قص الشعر، ومن الترفه، فيتذكر أنه إذا صار إلى قبره يحال بينه وبين أي شيء من ملاذ الدنيا ومتعها وما فيها من الشهوات والملهيات، كذلك هو في حجه يُمنع من هذه الأمور لكي يتذكر الآخرة. ثم إذا صار إلى صعيد عرفات تذكر وقوف الناس بين يدي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً، فيتذكر مثل هذه المواقف؛ ولذلك يقولون: الحج يعين على تذكر الآخرة. ومن غايات الحج وأهدافه وأسراره: أنه يقوي شكيمة المسلم، ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بكونه جهاداً، فتتعود على التغرب عن الأوطان، ولذلك جعل الله عز وجل شهواتك تستجيب لك، ولس مشروعية الحج والعمرة وحكمهما يقول المصنف عليه رحمة الله: [الحج والعمرة واجبان على المسلم الحر المكلف القادر] شرع المصنف رحمه الله في بيان حكم الحج والعمرة، وهما النسك. فبيّن رحمه الله أن كلاً من الحج والعمرة يعتبر فريضة من فرائض الله عز وجل. أما بالنسبة للحج فهذا محل إجماع واتفاق بين أهل العلم رحمهم الله؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] . وقال عليه الصلاة والسلام: ( بني الإسلام على خمس ) وذكر منها: حج البيت من استطاع إليه سبيلاً. وأجمع المسلمون على أن الحج ركن من أركان الإسلام. أقوال العلماء في فرضية العمرة وأما بالنسبة للعمرة ففيها قولان مشهوران لأهل العلم رحمة الله عليهم: القول الأول: إن العمرة سنة وليست بواجبة، وبهذا القول قال فقهاء الحنيفة والمالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وقول للشافعي رحمة الله على الجميع. والقول الثاني: إن العمرة واجبة، وبهذا القول قال الشافعية والحنابلة في المشهور. فأما دليل من قال: إن العمرة سنة وليست بواجبة فقد استدلوا بظاهر قوله سبحانه وتعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [آل عمران:97] قالوا: ولو كانت العمرة واجبة لقال الله: ولله على الناس الحج والاعتمار، ولكن الله سبحانه وتعالى خص الفريضة بالحج، فدل على أن العمرة لا تأخذ حكم الحج. واستدلوا كذلك بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث عبد الله بن عمر في الصحيح ( بني الإسلام على خمس، وفيه: حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر العمرة مع الحج، فدل على أن الحج فريضة والعمرة سنة. وكذلك استدلوا بحديث عمر في الصحيحين حينما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فذكر شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، قالوا: ولم يذكر العمرة. وكذلك أيضاً استدلوا بحديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه، وذلك أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله فقال: ( زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً. قال: صدق، فقال بعد ذلك: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة ) فقال: لا أزيد على هذا. والعمرة زائدة على الحج، فدل على أن العمرة ليست بواجبة. كذلك أيضاً استدلوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أعرابي عن العمرة أواجبة هي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا وأن تعتمر خير لك ) وهذا الحديث رواه الإمام الترمذي في سننه، وقال: إنه حديث حسن صحيح، وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده. قالوا: فهذا الحديث الصحيح يدل على أن العمرة ليست بواجبة، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل: ( أهي واجبة؟ قال: لا ) وهذا يدل على أنها ليست بلازمة، ثم قال: ( وأن تعتمر خير لك ) أي: أنها سنة مستحبة وليست بفريضة واجبة. كذلك استدلوا بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج جهاد والعمرة تطوع ) وهذا الحديث رواه ابن ماجة بسند ضعيف. هذه هي حاصل حجج من قال: بأن العمرة ليست بواجبة. أما من قال: بأن العمرة واجبة فقد استدل بقوله سبحانه: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]. وجه الدلالة: أن الله قرن العمرة بالحج، فدل على أن حكمهما واحد، وهذه الدلالة تسمى عند العلماء: بدلالة الاقتران، وهي دلالة ضعيفة، والدليل على ذلك أن الله يقرن الواجب وغير الواجب كما قال سبحانه وتعالى: { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام:141] فإن الله قرن الأكل بأداء الزكاة، فدل على أنه قد يقرن الواجب بغير الواجب. ثم إن هذه الدلالة في الآية محل نظر، وذلك أن الله تعالى قال: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } [البقرة:196] ففي قراءة ( والعمرة لله ) على العطف وهناك قراءة على الاستئناف ( وأتموا الحج والعمرةُ لله ) وعلى هذه القراءة لا يستقيم الاستدلال. وكذلك أيضاً استدلوا بالسنة، وذلك لما ثبت من حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه وأرضاه: ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه حيث قال: إن أبي لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، فقال صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك واعتمر ) وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وكذلك الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه غير واحد من الأئمة، قالوا: إن هذا الحديث أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أبا رزين أن يعتمر عن أبيه، فدل على أن العمرة واجبة. واستدلوا أيضاً بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وذلك ( أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل على النساء جهاد؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة ) فقوله: (عليهن) أي: يلزمهن كقوله تعالى: { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } [المائدة:105] أي: ألزموها، فهذه الصيغة صيغة إلزام، وصيغة الإلزام تدل على الوجوب، وبناءً عليه فإن هذا الحديث يدل على وجوب العمرة. وبناءً على ذلك قالوا: إن العمرة واجبة، وهذا القول أعني: القول بوجوب العمرة هو أصح القولين والعلم عند الله، وذلك لقوة دلالة الأدلة التي استدلوا بها، وأما الآية فدلالتها ضعيفة هي قوله: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196] لكن الأقوى حديث أبي رزين وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وكيف نجيب عن دليل القائلين بالسنة؟ الجواب عن ذلك من وجوه: أقواها ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله من أن الحج ينقسم إلى قسمين: - حج أكبر. - وحج أصغر. وهذا هو الذي دل عليه القرآن في قوله سبحانه وتعالى: { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } [التوبة:3] فهناك حج أكبر وهو الحج المعروف، وهناك حج أصغر وهو العمرة، فلما قال: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [آل عمران:97] شمل الحج الأكبر والأصغر. وكذلك ما ورد من الأحاديث في قوله: ( وأن تحج البيت ) فإنه يشمل حج البيت بالأكبر والأصغر؛ لأنه مطلق فيشمل الاثنين، وهذا هو أنسب الوجوه؛ لأن الله وصف الحج بكونه أكبر وأصغر. وأجيب أيضاً بأن سكوت الأدلة عن ذكر هذه الفرائض في العزائم والأركان لا يدل على عدم وجوبها، وأن وجوبها شُرِعَ متأخراً، وهذا الوجه يختاره بعض الأئمة رحمهم الله. وبناءً على ذلك فإنه يترجح قول القائل بوجوب العمرة. إذا ثبت وجوب الحج والعمرة فيرد السؤال هل هذا الوجوب وهذه الفريضة عامة أو خاصة؟ أما بالنسبة للحج فهو واجب وفريضة على المستطيع عموماً بالشروط التي سنذكرها، أما العمرة فللعلماء الذين قالوا: بوجوبها وفرضيتها مسلكان: منهم من يقول: العمرة واجبة على الجميع دون فرق بين أهل مكة وغيرهم. ومنهم من يقول: هي واجبة على غير أهل مكة، أما أهل مكة فإنه لا تجب عليهم العمرة. والصحيح فرضيتها على الجميع؛ وذلك لأنه لم يدل دليل على استثناء المكي وإخراجه من هذا العموم. شروط وجوب الحج وأما بالنسبة لقوله: (الحج والعمرة واجبتان على المستطيع): هذا الشروع الذي بدأه المصنف في كتاب المناسك، إنما هو في بيان حكم هذه العبادة. وهذه الفرضية وهذا الوجوب مقيد بشروط، بدليل قوله سبحانه وتعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] فقال (حِجُّ) وفي قراءة: (حَجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا) فقيد هذا الوجوب وهذا اللزوم بالاستطاعة، ولذلك قال العلماء: إن هذه الفرضية تتقيد بشروط. الشرط الأول: الإسلام قوله: (الحج والعمرة واجبان على المسلم ): أي: واجبان على المسلم أما الكافر فلا يجب عليه أن يحج، ولا يجب عليه أن يعتمر، حتى يحقق أصل الإسلام والتوحيد من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بعد ذلك يخاطب بفروع الإسلام، أما الدليل على أن الكافر لا يحج ولا يعتمر فلأن الله سبحانه وتعالى قال: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [التوبة:28] وقوله سبحانه: { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } [التوبة:3] فهذا يدل على أنه لا يجوز دخول المشرك والكافر إلى مكة، ويشمل ذلك الحج والعمرة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه بعث علياً رضي الله عنه ينادي بندائه: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان )، ولذلك قالوا: لا يدخل الكافر لحج ولا لعمرة، ومُنِعَ المشركون من الحج والعمرة بعد نزول هذه الآية الكريمة. الشرط الثاني: الحرية قوله: [الحر]: أي: يجب الحج وتجب العمرة على الحر، أما الرقيق فلا يجب عليه حج ولا عمرة؛ لأن الله قال: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] والرقيق ليس عنده مال، فشرط الاستطاعة ليس بمتوفر ولا متحقق فيه، والدليل على أن الرقيق لا يملك المال، ما ورد من حديث ابن عمر الذي ذكرناه في كتاب الزكاة، وبينا أن الشرع أخلى يد العبد عن الملكية، وإذا خلت يدُ العبد عن ملكية المال فإنه لا يتحقق فيه شرط الوجوب، فلا يخاطب بالحج، ولا بالعمرة حتى يعتق. لكن لو أذن السيد لعبده بالحج وبالعمرة، فحج أو اعتمر فحجه صحيح وعمرته صحيحة. وخالف الظاهرية جمهور العلماء، فقالوا: إن العبد يطالب بالحج لعموم الأدلة، ولكن يجاب عنهم بأن هذا العموم مقيد بشروط، وذلك في قوله: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] والاستطاعة تشمل الاستطاعة المالية، والعبد لا يملك المال فلا يتوجه إليه الخطاب بوجوب الحج، لكن لو حج بإذن سيده فلا إشكال. والعبد الذي لا يجب عليه الحج يشمل العبد الذي هو متمحض الرق، والعبد المبعض، أي: الذي بعضه حر وبعضه عبد، فلا يطالب بالحج وذلك لوجود حق السيد فيه، وإذا ازدحم الحقان حق المخلوق وحق الخالق، قدم حق المخلوق لوجود المشاحة فيها. الشرط الثالث: التكليف قوله: [المكلف]: والمراد بذلك شرطا التكليف: الأول: البلوغ. الثاني: العقل. والتكليف مأخوذ من الكلفة والمشقة؛ والسبب في ذلك أن شرائع الإسلام فيها مشقة مقدور عليها، وأما المشقة غير المقدور عليها فلا يكلف الله بها، فإذا كان الشرع فيه مشقة وكلفة ظهر المطيع من العاصي، ولذلك حفت الجنة بالمكاره حتى يظهر من يمتثل أمر الله ومن يترك. والتكليف شرطه العقل والبلوغ. وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل فلا يحكم بكون الإنسان مكلفاً بشرائع الإسلام إلا إذا كان عاقلاً، فالمجنون لا يكلف ولا يجب عليه الحج، وهل إذا حج المجنون وأحرم عنه وليه يصح حجه؟ للعلماء وجهان: الأول: من أهل العلم من قال: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بفج الروحاء، وسألته المرأة وقد رفعت صبياً لها فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولكِ أجر ) قالوا: والمجنون في حكم الصبي، كل منهما فاقد للحلم والعقل، فقالوا: كما صحح النبي صلى الله عليه وسلم حج الصبي يصحح أيضاً حج المجنون. وبناءً على ذلك إذا أحرم عنه وليه، واستقامت له أركان الحج وشرائط صحته، حكمنا باعتبار حجه وصحته. الثاني: ومن أهل العلم من قال: المجنون لا يصح منه الحج البتة، لا يحرم بنفسه ولا يحرم عنه وليه، وذلك أنهم يرون أن الصبي استثني بالنص وبقي المجنون على الأصل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- المجنون حتى يفيق ). والمجنون له حالتان: الأولى: إن كان جنونه مطبقاً فإنه لا يجب عليه الحج ولا العمرة، ولا تجب عليه الشرائع؛ لأنه قد رُفِعَ عنه القلم، وَسَقَطَ عنه التكليف. الثانية: أن يكون جنونه متقطعاً، وهو الذي يجن تارة ويفيق أخرى، فإنه إذا حج في حال الإفاقة وكان قادراً مستطيعاً في حال إفاقته، فإنه يجب عليه الحج ويصح منه. وأما بالنسبة لشرط البلوغ: فهو أن يبلغ الصبي طور الحلم، وقد بينّا ذلك في كتاب الصلاة، وبينّا تعريف البلوغ وضابطه. والمراد بذلك أننا لا نوجب الحج على الصبي، ولكن لو حج الصبي وأحرم عنه وليه صح حجه، ولكن لا يجزيه عن حجة الإسلام وفريضته، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لأنه إذا حج في حال صباه كان له نافلة، والنافلة لا تجزئ عن الفريضة، والرقيق إذا حج حال رقه فإنها كذلك نافلة؛ لأن الله لم يوجب عليه الحج، فإذا عتق العبد وبلغ الصبي لزمهما أن يعيدا حجهما وعمرتهما. الشرط الرابع: القدرة والاستطاعة قوله: [القادر] وهذا هو الذي نص القرآن عليه بشرط الاستطاعة، فقال سبحانه: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] أي: من استطاع إلى بيت الله سبيلاً، وهذه الاستطاعة تشمل الزاد والراحلة، فلا يجب الحج على من ليس عنده زاد أو راحلة تبلغه البيت، هذا إن كان على مسافة القصر من مكة، أما من كان من أهل مكة فإنما يشترط وجود الزاد، أما الراحلة فلا تشترط؛ لأنه بداخل مكة ويمكنه أن يخرج إلى المناسك ماشياً على رجليه. وفي حكم أهل مكة من كان دون مسافة القصر، فهؤلاء يجب عليهم الحج إذا وجدوا الزاد، والمراد بالزاد طعامهم ومئونتهم التي تكفيهم لحجهم، بشرط أن تكون فاضلة عن قوتهم وقوت من تلزمهم نفقتهم كما سيأتي. وقد عبّر المصنف رحمه الله بالقدرة، وهذه القدرة تشمل الزاد والراحلة، وقد جاءت في ذلك أحاديث موصولة ومرسلة وموقوفة، قال شيخ الإسلام : إنها أحاديث حسان، وينضم بعضها إلى بعض، ويقوي بعضها بعضاً، وهي تدل على أن شرط الاستطاعة قائم على الزاد والراحلة. وبناءً على ذلك فإن العبرة في الزاد نفقة الذهاب ونفقة الرجوع، فيقدر كم يحتاج للسفر إلى مكة ذهاباً وإياباً، ومن أهل العلم من قال: العبرة بالذهاب، أما الإياب فلا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون رجوعه إلى بلده لازماً من أجل من يقوم عليهم من أولاده وأهله، فيكون الشرط بالرجوع لازماً، أي: أنه يشترط أن يكون قادراً على نفقة الذهاب والإياب. الثانية: أن يكون لا أهل له ويمكنه أن يبقى بمكة، فزاد الرجوع ليس بلازم. وفائدة الخلاف: لو كان الرجل الذي يسافر من المدينة إلى مكة محتاجاً إلى زاد يقدر بمبلغ خمسمائة ريال في الذهاب، وخمسمائة ريال للرجوع، فبلغ ماله خمسمائة وليس عنده ألف، فحينئذٍ إن كان له أهل، ورجوعه إلى المدينة متعين لم يجب عليه الحج، وإن كان لا أهل له ويمكنه البقاء بمكة فيلزمه الحج، ويعتبر مخاطباً بأداء الحج فوراً. هذا بالنسبة على القول بأنه تقدر نفقة الإياب كما تقدر نفقة الذهاب. ولقوله تعالى: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] يدخل في ذلك الطريق، فإذا كان الطريق مخوفاً لوجود السباع والعوادي، أو كان سفره إلى مكة يتوقف على ركوب البحر والسفر، وكان الزمان ضيقاً، بحيث لم يكن بينه وبين الحج إلا ثلاثة أيام أو أربعة أيام، وهاج البحر فيها، وغلب على ظنه أنه لو ركبه لهلك، لم يجب عليه الحج؛ لأن الله يقول: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة:195] وقال: { وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء:29] فالله لا يخاطب بما فيه فوات الأنفس، إلا ما شرع من الجهاد، وأما ما عدا ذلك من الفرائض فإنها لا تكون لازمة على وجه يؤدي إلى فوات الأنفس. وبناءً على ذلك فإنه إذا خاف من الطريق لوجود السباع العادية، أو وجود ضرر كركوب البحر أو نحو ذلك من المسائل؛ فإنه لا يلزمه الحج. أما إذا أمن الطريق؛ فحينئذٍ لا إشكال. وفصّل العلماء: إذا كان الطريق مخوفاً بين أن يجد بديلاً أو لا يجد، فإن وجد بديلاً كأن يكون الطريق الأول فيه سباع عادية، والطريق الثاني أشق وأكثر كلفة، ولكنه آمن ويمكنه أن يسلكه، فإنه يلزمه أن ينصرف إلى الحج؛ وذلك لوجوبه عليه. هذا بالنسبة لشرط القدرة، أما المكي فالأمر فيه خفيف بالنسبة للحج والعمرة؛ والسبب في ذلك أنه لا يفتقر إلى سفر، ومن هنا قالوا: ينظر إلى زاده في الحج، بحيث لو كان عنده نفقة وأمكنه أن يحج، فإنه يجب عليه أن يحج. الأسئلة أقوال العلماء في الإنصات لخطبة يوم عرفة السؤال هل يجب الإنصات لخطبة يوم عرفة وتأخذ حكم خطبة الجمعة، وذلك استناداً لقوله صلى الله عليه وسلم قبل خطبته: ( استنصت لي الناس )؟ الجواب حديث جابر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإنصات إليه يوم عرفة، وفتح الله له قلوب الناس وأسماعهم، فبين شرع الله عز وجل فأحل حلاله وحرم حرامه، وبين نظامه صلوات الله وسلامه عليه، وأعذر إلى العباد، فأقام عليهم حجة الله، وأشهد الله على أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة. فبعض العلماء يقول: إن هذا الاستنصات لإقامة الحجة، ولا يلزم الإنصات في خطبة يوم عرفة، كلزومه في خطبة الجمعة. وبعضهم يقول: ظاهر الحديث أنه أمر بالإنصات فيجب. وفي الحقيقة لا ينبغي للمسلم أن يفرط في هذا الخير، والمسلم إذا استشعر أنه تغرب عن الأوطان وفارق الأهل من أجل هذه الطاعة؛ فلا يفرط في أي شيء ولو كان سنة، ولو كان غير واجب لا يفرط فيه. واعلم رحمك الله! أنك إذا جئت إلى خطبة يوم عرفة، وحضرتها كاملة على أتم الوجوه، وصليت في مسجد عرفة، وأصبت أفضل الأماكن كالصفوف الأول، وخشعت وخضعت وتأثرت بالخطبة، وأنصت لها وأحضرت لها سمعك وقلبك؛ فاعلم أن هذا من محبة الله لك، والله عز وجل لا يوفق لطاعته إلا من يحب؛ فإنه يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن لا يعطي الدين إلا لمن أحب. فاعلم رحمك الله! أن مسألة الإنصات لخطبة يوم عرفة ليست هي الأهم، إنما الأهم أن تعلم أنك ما تغربت إلا من أجل أن تطيع الله سبحانه وتعالى، وأنه بمقدار ما توفق للقيام بالسنن وتتبع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، تكون أحظى بالقبول من الله عز وجل، وهذا مجرب، فإن من أراد أن يجد لذة الحج وحلاوة الحج فليحرص على تطبيق السنة بحذافيرها، ولا يعلم شيئاً من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحبه ولزمه وتأثر به وحرص عليه. ولا شك أن أداء المناسك تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم له لذة يعرفها من وجدها، ولا شك أن الإنسان إذا قام بأركان الإسلام على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سنته وعلى طريقته؛ فإنه يكون من الموفقين، وهذا لا شك أنه من محبة الله له، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل! فينبغي أن يحرص الإنسان على السنة، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يحرص كل الحرص أن لا يزاحم الناس ولا يؤذي الناس، ولكن يحرص كل الحرص على أن يصيب السنة، فإذا لم يوفق لها أو غلبه الناس عليها، فإنك تجده يتمعر ويتغير وجهه، ويقول: إنا لله، أستغفر الله من ذنب حال بيني وبين سنة النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا شأن أهل العلم الذين هم قدوة، والإنسان كلما حرص على السنة كلما أصابته الرحمة؛ لأن الله جعل الرحمة والهداية في التأسي به عليه الصلاة والسلام. تجد بعض الناس ينتهي من عمرته خلال نصف ساعة، وبعضهم ربما يتسابق مع أصحابه وزملائه على الانتهاء من العمرة، وكنا نصحب بعض العلماء فيبقى في عمرته الساعتين والنصف إلى الثلاث ساعات؛ لأنه يمشي بسكينة ووقار، ويتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أخذ الأشواط بين الصفا والمروة تضرع لله عز وجل، وكرر الدعاء تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر من المسألة والحاجة. إذاً تجد لذة العبادة، وتستشعر فعلاً أنك تؤدي عبادة، إذا قمت بها على وجهها؛ لكن بعض الناس كلما علم سنة تركها، وأصبح علمه بالسنة سبباً في تركها! بل قد تجد بعض العوام يحرص على السنة فلا يتركها، بينما تجد بعض طلاب العلم يرى أنها سنة فيتركها، حتى صار العلم وبالاً على بعض الناس وحرم من الخير. ولا ينبغي لطالب العلم أن يكون زاهداً في السنن، فالإنصات إلى الخطيب في يوم عرفة، بل الإنصات لكل مذكر بالله عز وجل فيه خير وبركة. وبالمناسبة: أن الإنسان إذا عظم الله عز وجل عظم كل شيء يدعو إليه، وكلما كمل التزام الإنسان وكملت هدايته وكمل إيمانه أحب كل شيء يقربه إلى الله. ولذلك تجد المهتدي كامل الاهتداء كثير الحب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولهديه، كثير الحب للعلماء والصالحين؛ لأنه يرى أن العالم يدعوه إلى السنة فيحبه، فينبغي على الإنسان أن يحرص على تعظيم شعائر الله عز وجل، وعلى تطبيق السنة، وأن لا يجعل علمه بالسنة سبباً في تركها والزهد فيها. نسأل الله العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة والثبات عليها إلى لقائه. والله تعالى أعلم. دخول العمرة في الحج للقارن والمتمتع السؤال هل تندرج العمرة تحت الحج، وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ) وذلك في مسألة وجوب العمرة أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فتندرج العمرة تحت الحج في حج القارن وحج المتمتع؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دخلت العمرة في الحج ) والسبب في ذلك أن العرب أحدثوا في الجاهلية أحدثوا أموراً خالفت السنن، وخالفت الحنيفية، ومنها أنهم كانوا يحرِّمون على الناس أن يعتمروا في أشهر الحج، فإذا دخل شهر شوال، حرموا على الناس أن يحرموا بالعمرة، وألزموهم بالحج حتى ينسلخ صفر، وقد أشار إلى ذلك حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بقوله: كانوا يقولون -أي العرب في الجاهلية- إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وأبطله. ولذلك لما أمر الصحابة أن يفسخوا حجهم بعمرة، وأمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، ( قالوا: يا رسول الله! أي الحل قال: الحل كله، -فاستبشعوا ذلك على ما ألفوه في الجاهلية- وقالوا: يا رسول الله! أنذهب إلى منى ومذاكرنا تقطر منياً؟! ) لأنهم كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن العمرة دخلت في الحج، بمعنى: أنه يجوز للإنسان أن يعتمر في أشهر الحج، ولذلك اعتمر من الجعرانة صلوات الله وسلامه عليه بعد فراغه من فتح الطائف، وقسمته لغنائم حنين، وقد وقعت في أشهر الحج إبطالاً لهذه العادة، وتأكيداً وتقريراً لمبدأ الإسلام بجواز العمرة في أشهر الحج. فهذا معنى قوله: ( دخلت العمرة إلى الحج، وشبك بين أصابعه، وقيل: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: لأبد الأبد ) أي: أن هذا الحكم بجواز العمرة في أشهر الحج لأبد الأبد، فهذا هو المراد بقوله : ( دخلت العمرة في الحج ) أي: أنه لا حرج عليك أن تأتي بالعمرة في أشهر الحج. فلو سأل إنسان وقال: هل لي أن أعتمر في شهر شوال ثم أرجع إلى بلدي ولا أريد أن أحج؟ نقول: لا حرج، وكذلك لو سأل أنه يريد العمرة في شهر ذي القعدة ثم يرجع إلى بلده لا حرج، ولو أهل شهر ذي الحجة وأراد أن يؤدي عمرته ثم ينطلق إلى بلده لحاجة أو نحو ذلك، كما لو مر بمكة وأراد أن يصيب العمرة نقول: لا حرج؛ لأن الشرع بيّن حكم دخول العمرة في أشهر الحج، وأن هذا الحكم لا يختص بحجته صلوات الله وسلامه عليه، وأنه باقٍ إلى قيام الساعة، لقوله: لأبد الأبد. حكم حج من زال عنه المانع فأعاد الوقوف بعرفة السؤال إذا زال الرق والجنون والصبا بمزدلفة، ثم رجع إلى عرفة ودفع مرة أخرى فهل يصح فرضاً أثابكم الله؟ الجواب يقول بعض العلماء: إذا وقع قبل انتهاء أمد الوقوف صح وأجزأ، وأما إذا وقع بعد انتهاء أمد الوقوف فإنه لا عبرة به ويمضي في حج النافلة حتى يتمه، ثم يحج من عامه الذي بعده إن توفرت فيه شروط الفرضية والوجوب. والله تعالى أعلم. وجوب إعادة الحج لمن ارتد عن الإسلام ثم أسلم السؤال من ارتدّ عن الإسلام -والعياذ بالله- ثم أسلم فهل يعيد حجه مرة أخرى أثابكم الله؟ الجواب للعلماء في هذه المسألة قولان، إن وقعت منه الردة ثم أسلم ثانية فالصحيح أنه يعيد؛ لأن الله تعالى يقول: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65] . فالردة -والعياذ بالله- توجب حبوط العمل، ولو كان العبد من أتقى عباد الله عز وجل وارتد عن الإسلام، فإنه بكلمة الكفر وردته عن الإسلام قد أصبح صفر اليدين؛ لقوله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان:23] يصبح كأنه لم يعمل خيراً قط، نسأل الله السلامة والعافية! فإذا ثبت بالنص أن العمل يحبط، فإنه يجب عليه إذا أسلم من جديد أن يعيد حجه وعمرته، وكذلك إذا كان ممن يلزمه أن يحج ويعتمر. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (212) صـــــ(1) إلى صــ(15) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [2] فرض الله الحج على عباده مرة في العمر، وكذا العمرة، ومن رحمة الله أن جعل فرضيته على المستطيع دون العاجز، والاستطاعة إنما تتحقق بوجود الزاد والراحلة فائضاً عن نفقة ممونه حتى يرجع. ولذلك تفصيل لابد من معرفته. وجوب الحج والعمرة مرة على الفور بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: [في عمره مرة على الفور]: قوله: (في عمره مرة) أي: يجب على المسلم الحر المكلف القادر أن يحج ويعتمر مرة في العمر، فهذه الفريضة تجب على الإنسان مرة في عمره؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف للناس في حجة الوداع، فقال: ( أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقيل: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت عليه الصلاة والسلام وقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) إلى آخر الحديث. وجه الدلالة من الحديث: أنه لم يقل: نعم. والصحابي عندما سأل: أفي كل عام؟ لم يجبه بنعم، وإنما قال: لو قلت نعم لوجبت، أي: لوجب عليكم الحج في كل عام، ولكنه لم يقل ذلك، فدل على أن الحج إنما يجب مرة في العمر، وهذا بإجماع المسلمين. قوله: [على الفور] فلا يتراخى ولا يتأخر، على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم. أحكام تتعلق بحج الصبي ونحوه صحة حج من زال رقه وجنونه وصباه قبل غروب شمس يوم عرفة قوله: [فإن زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضاً] أي: لو خرج الرقيق من المدينة إلى مكة وهو يريد الحج، فإننا ننظر إن وقع عتقه قبل الوقوف بعرفة فللعلماء فيه أقوال: أصح الأقوال أنه يجزيه عن حجة الإسلام، ولا يجب عليه أن يرجع إلى الميقات. وقال فقهاء الحنفية: يجب أن يرجع إلى الميقات؛ لأنه وجب عليه الحج من ميقاته، فيرجع لكي يحرم منه، فإن لم يرجع لم يجزه، فقيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأن نيته الأولى وقعت نافلة ولم يكن الحج واجباً عليه، فلما وقعت نافلة فلا ينقلب النفل إلى الفريضة. وقال بعض العلماء: يجب عليه أن يرجع إلى الميقات حتى يسقط عنه الدم، فإن حج من مكانه ومضى فإنه يصح حجه ولكن يجب عليه دم. فهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم: منهم من يقول: يصح ما دام أنه قد عتق قبل الوقوف بعرفة، أو أثناء وقوفه بعرفة قبل أن يدفع، ويجزيه عن حجة الإسلام. ومنهم من قال: يلزمه الرجوع إلى الميقات حتى يخرج بنية الفريضة بدل نية النافلة. ومنهم من قال: إنه يلزمه الرجوع إلى الميقات حتى يسقط عنه الدم؛ لأنه سَيُحْرِمُ بالحج الفرض من موضع دون الميقات. والصحيح أنه يجزيه في حجه أن يمضي؛ وذلك لما ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً وهو يطوف بالبيت يقول: لبيك عن شبرمة ، لبيك عن شبرمة ، فقال عليه الصلاة والسلام: ومن شبرمة ؟ قال: أخي -أو ابن عم لي- مات ولم يحج، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ) . فهذا الحج الذي وقع من هذا الرجل كان في الميقات قد نوى عن شبرمة ، فلو كان يلزمه الرجوع إلى الميقات لقال له: ارجع إلى الميقات وانوِ عن نفسك؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فاغتفر الشرع ذلك وصار من سماحة الشرع ويسره. وإلا فالأصول تقوي أن يرجع، فلما استثنى النبي صلى الله عليه وسلم هذا، دل على أن من طرأ له الحكم وانقلبت نيته أن ذلك لا يؤثر، وقد قال علي رضي الله عنه: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد قدم من اليمن، فلم يقل له: ارجع إلى يلملم وجدد النية بما نويت به. يقول العلماء: إن هذا يدل على أنه لا يلزم الرجوع إلى الميقات، وأنه إذا عتق الرقيق وبلغ الصبي قبل الوقوف بعرفة، فإنه يجزيهما أن يمضيا في حجهما. صحة عمرة من زال رقه وجنونه وصباه قبل طوافه أما في العمرة فتنظر إلى أول الأركان، وهذا مسلك الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم: أن العبرة عندهم في العمرة بتغيير النية وانقلابها أن يكون قبل بداية الطواف، فإذا ابتدأ الطواف فقد تلبس بالنسك نافلة، أما لو غير نيته قبل الطواف فإنه يجزيه ذلك. ولذلك فمسائل الفسخ من حج إلى عمرة ونحوها من المسائل، إنما تكون قبل أن يتلبس بالطواف، فإذا وقع عتقه قبل طواف الركن، أي: طواف العمرة، فإنه حينئذٍ تجزيه عن عمرة الإسلام وتعتبر عمرته فريضة؛ لأنها وقعت قبل ركن الطواف. وذكرنا أنه إذا وقع بلوغ الصبي باحتلام وغيره قبل الوقوف بعرفة، أو أثناء وقوفه بعرفة قبل دفعه أجزأه وصحت حجته عن حجة الإسلام، وإن وقع بلوغه قبل طوافه بالبيت في عمرته أجزأه وانقلبت عمرته إلى فريضة الإسلام. قوله: (صح فرضاً): أي: أجزأه عن عمرة الإسلام وحجه. الحج والعمرة من الصبي والعبد حال الصبا والرق لا تجزئ عن الفريضة [وفعلهما من الصبي والعبد نفلاً] أي: أن الصبي والعبد إذا حج كل منهما أو اعتمر في حال الصبا والرق، فهي عمرة نافلة وحجة نافلة ولا تجزي عن الفريضة، هذا مراد المصنف رحمه الله، وفي ذلك حديث ابن عباس الذي ذكره الشافعي في مسنده وغيره أنه قال: ( أيما صبي حج ثم بلغ فإنه يعيد حجه ) وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم، فيقول جمع من السلف: إنه يلزمه أن يعيد حجه، ولا تجزيه الحجة النافلة ولا العمرة النافلة عن فريضة حجة الإسلام وعمرته. وجوب الحج على من قدر وأمكنه الركوب قال رحمه الله: [والقادر: من أمكنه الركوب] قوله: (والقادر) أي: الشخص الذي يجب عليه الحج لوجود شرط القدرة، والقادر من وجد راحلة، ومسألة وجود المركوب للعلماء فيها وجهان: الأول: لا يجب الحج إلا على من وجد الراحلة. وهذا في غير المكي كما سبق، فالخلاف بين العلماء في غير أهل مكة، فلا بد من وجود الراحلة لغيرهم، وهو قول الجمهور. الثاني: قال بعض السلف: إذا كان يطيق المشي لزمه الحج؛ لأن الله تعالى يقول: { يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } [الحج:27] فوصفهم بكونهم يأتون رجالاً. ولا شك أن اشتراط وجود الراحلة أصح؛ وذلك لوجود الأحاديث التي أشرنا إليها، وأنها بمجموعها تتقوى، وكما وصفها العلماء والأئمة أنها ترتقي إلى درجة الحسن بالاعتضاد، وتقوي شرط الراحلة. وبناءً عليه فإنه لا يجب الحج على من أطاق المشي، لكن لو مشى وبلغ مكة وحج فحجه صحيح، وليس هذا بشرط للصحة، وإنما هو شرط وجوب، فلا يجب عليه إلا إذا ملك الراحلة. والراحلة في زماننا تشمل أن يكون قادراً على الركوب بالبر أو بالجو أو بالبحر، بأن تكون عنده مئونة الركوب، فإذا كان عنده المال الذي يستطيع أن يكتري به سيارة لبلوغ مكة، أو طائرة أو نحو ذلك؛ فحينئذٍ يجب عليه الحج، فلو كان سفره إلى مكة يحتاج فيه إلى استئجار سيارة بمائتين؛ فحينئذٍ نقول: لا يجب عليه الحج إلا إذا ملك مائتي ريال لركوب سيارته، بحيث تكون زائدة عن حاجته وحاجة أولاده والحقوق الواجبة عليه. فلو كان مديوناً وعنده مال لا يفي بسداد دينه لم يجب عليه الحج؛ لأن هذا المال مستحق للغير، وإنما يجب عليه الحج إذا ملك ما فضل عن استحقاق الغير، كذلك أيضاً إذا كان يملك المائتين، ولكن هناك حقوق واجبة عليه: لنذر، أو كفارة، أو عتق، أو نحو ذلك من الحقوق الواجبة، فاحتاج المائتين لشراء طعام الكفارة، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج، ويبدأ بهذه الحقوق الواجبة حتى يخاطب بعد ذلك بما فضل، إن كان يملك به القدرة للحج إلى بيت الله الحرام وإلا فلا. فلا بد من أن يكون المال الذي عنده فاضلاً عن حاجته وحاجة من تلزمه نفقته، كزوجته وأولاده، فلو كان الحج يكلفه ألف ريال، أو ألفي ريال، فحينئذٍ نقول: لا يجب عليه الحج إلا إذا ملك هذا المبلغ، فاضلاً عن الحقوق الواجبة عليه لنفسه ولأهله، وهكذا للناس كالديون والنذور والكفارات، أما إذا كانت لله عز وجل فيشترط لها القدرة والاستطاعة. إذاً لابد من الزاد، ثم بعد الزاد الراحلة التي يستطيع أن يركب عليها، فلو ملك الزاد وملك الراحلة فلا بد من شرط الاستطاعة البدنية، فقد يكون الإنسان غنياً، وعنده الزاد وعنده الراحلة، ولكنه لا يستطيع أن يركب السيارة، بل قد لا يستطيع أن يقوم بأعمال الحج، وذلك بسبب شلل أو نحو ذلك، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج؛ لأنه لا يستطيع، وإنما فرض الله الحج على المستطيع. ولذلك لما سأل أبو رزين العقيلي رضي الله عنه وأرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فريضة الحج التي أدركت أباه شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يحج ولا أن يعتمر، ولا أن يظعن -والظعن هو السفر ومنه قوله تعالى: { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } [النحل:80] - فأمره أن النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج عن أبيه. قال العلماء: في هذا دليل على أن الشخص إذا كان عنده قدرة مالية، وعنده أيضاً راحلة يركب عليها، فإنه لا يكفي لوجوب الحج حتى يكون قادراً ببدنه، فإن كان مبتلىً بالمرض نظرنا فيه، إن كان المرض يمنع مثله من الحج، فحينئذٍ لا يخلو من حالتين: إما أن يكون مرضه مرضاً مزمناً فهذا ينظر في توكيله للغير بشرطه. وإما أن يكون مرضه مرضاً يرجى برؤه فيسقط عنه الحج في السنة التي مرض فيها، فإن شفي بعد ذلك لزمه أن يحج، وهذا مبني على وجود العذر، والعذر يسقط التكليف مادام موجوداً، فعندنا في شرط الاستطاعة أن يكون واجداً للزاد والراحلة، مع قدرة البدن، فلا يكفي أن يجد الزاد والراحلة، وهو غير قادر ببدنه. كذلك أيضاً يشترط أن يكون طريقه آمناً، فإن كان في طريقه من السباع ونحوها ما قد يؤدي إلى هلاكه أو تلفه أو حصول الضرر والبلاء عليه، فكما ذكرنا فيما سبق أنه يعذر حتى يزول عنه المانع. أدلة اشتراط وجود الزاد والراحلة لوجوب الحج قال رحمه الله: [ووجد زاداً وراحلة صالحين لمثله]. وهذا مبني على أن العرف محتكم إليه؛ لأن الشرع جعل لكل ذي قدر قدره، فلو وجد سيارة تصلح لمثله، مثل أن يكون الشخص كبير السن، ولا يمكنه أن يحج إلا إذا كانت السيارة فيها وسائل الراحة التي تمكنه من بلوغ البيت، دون أن يصل إلى درجة الحرج والمشقة غير المقدور عليها، فحينئذٍ يجب عليه أن يحج إن وجد هذا النوع من السيارات، لكن إذا لم يجد إلا نوعاً لا يأمن معه زيادة المرض، ولا يأمن معه حصول المشقة الفادحة عليه، فوجود هذا النوع وعدمه على حد سواء، فلا يجب عليه الحج. عدم وجوب الحج والعمرة لمن عليه نفقات وواجبات شرعية حتى يقضيها قال رحمه الله: [بعد قضاء الواجبات والنفقات الشرعية والحوائج الأصلية] قوله: (بعد قضاء الواجبات والنفقات) كأن يكون عليه دين فيجب عليه أن يسدده. والمديون له أحكام تتعلق به تحتاج إلى تفصيل: فالشخص المديون ينبغي أن يبادر بسداد دينه ثم يحج، ولا يجوز للمديون أن يحج بدون إذن أصحاب الدين؛ لأن حقوقهم متعلقة به، والأصل أنه يطالب بسداد ديون المخلوقين، ثم بعد ذلك يوجب عليه الحج؛ ولأنه بتعلق الدين بذمته، أصبح غير مستطيع للحج، فيستأذن أصحاب الحقوق أن يسمحوا له بالحج، فإن سمحوا له بالحج صح حجه وأجزأه، وإن لم يسمحوا له بالحج صح حجه وأثم، فلو كانت عليه ديون ولم يرض أصحاب الدين أن يسافر، فحينئذٍ يأثم بإضاعة حقوقهم؛ لأنه كان المفروض أن يبدأ بسداد ديونه، ثم بعد ذلك يحج ويعتمر، فلما تجاوز هذا الحكم، فإننا نقول: يأثم ويصح حجه. وعلى هذا فإنه إذا أذن صاحب الدين باللفظ، أو كان هناك إذن ضمني فإنه يحج ويعتمر، يقول بعض العلماء: إن الديون المقسطة التي تكون على أشهر يجزيه إذا سدد الشهر الأخير الذي هو قبل شهر ذي الحجة أن يحج؛ والسبب في ذلك أنها ديون غير حالة بجميعها، وإنما حلت أقساطاً فيؤدي للناس حقوقهم في أوقاتها، لأنهم إنما أوجبوا عليه الأداء للزمان، فلما أدى قسط ذي القعدة، حل له أن يحج في ذي الحجة، وإذا أدى قسط شعبان حل له أن يعتمر في رمضان، وقس على هذا. فلو كان عليه دين خمسة آلاف ريال، ومقسطة في كل شهر ألف ريال، أو بكل شهر خمسمائة ريال فأدى قسط ذي القعدة وبقيت عليه الأقساط الباقية، فإننا لا نقول بوجوب الحج عليه وفرضية الحج عليه؛ لأن ذمته لا تزال مشغولة بهذا الحق حتى يؤديه كاملاً. وهكذا إذا كانت عليه حقوق واجبة لله عز وجل، كأن يكون عنده خمسة آلاف ريال، يكفيه لحجه ألفا ريال، فإذا كان يكفيه الألفان، فحينئذٍ ننظر في الخمسة آلاف، فلو كان عليه كفارات تقدر بثلاثة آلاف ريال، وعليه نذور تقدر بألف وخمسمائة ريال، فالباقي معه خمسمائة ريال، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج؛ لأنه مطالب بحقوق لا يكون معها قادراً على الحج أو مستطيعاً الحج بماله. فإذا أراد أن يحج فعليه أن يترك عند أهله نفقتهم حال غيبته عنهم، فإذا كان يكفيه في حجه ألف وخمسمائة ريال مثلاً وعنده ألفا ريال مثلاً، ونفقة أهله في حال غيبته خمسمائة ريال، نقول: يجب عليه أن يحج؛ لأنه إذا أدى الخمسمائة فقد أدى الحقوق التي عليه، ففضل الفضل الذي يجب بمثله أن يحج. وأما إذا كانت الحقوق التي لأهله تحتاج إلى ألف ريال وعنده ألفان، وهو يحتاج لحجه إلى ألف وخمسمائة فقد سقط الحج عنه؛ لأنه لا يكفيه المال للقيام بهذه الفريضة. وكذلك الحوائج الأصلية من مأكل ومشرب وملبس، فلو كان الشخص مثلاً في نهاية ذي القعدة يريد أن يسافر للحج، وحوائجه الأصلية في بيته تقدر نفقتها بخمسمائة ريال، وعنده ألف وخمسمائة، وحجه لا يمكن أن يكون إلا بهذه الألف والخمسمائة فوجود العوز في الخمسمائة يسقط الحج عنه، فحوائجه الأصلية لنفقته ونفقة أولاده، وهكذا من تلزمه مئونته تسقط الحج عنه إذا استغرقت ماله على وجه لا يملك به الفضل الذي يجب معه الحج وتجب معه العمرة. حكم من عجز عن أداء الحج بسبب كبر أو مرض مزمن [وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه] أي: إن عجز عن الحج إلى بيت الله، وذلك بسبب الكبر، فإنه يكون من الحطمة، والدليل على أن الكبر من الأعذار حديث أبي رزين ، وذلك عندما سأل النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وقال: ( إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستقيم على الراحلة ) فهذا يدل على أن الكبر يعتبر من الأعذار؛ لأن الكبر يوهن الإنسان، كما قال سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه زكريا عليه السلام لما سأل ربه: { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم:4] فذكر حال الكبر أنه وهن في الداخل ووهن في الظاهر، فقال: { وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } [مريم:4] وهذا وهن الكبر في الداخل { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم:4] وهذا وهن الكبر في الظاهر. فالكبر يضعف الإنسان ظاهراً وباطناً، ولذلك لا يجب الحج على من أصابه الكبر، على وجه لا يستطيع معه أن يقيم الفرائض ويقوم بالأركان؛ فالحج يحتاج إلى جلد وصبر وتحمل، ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بكونه جهاداً، والجهاد لا يجب على الشيخ الكبير الحطمة الذي يستضر. والكبر نسبي، فبعض الناس يكون كبيراً وهو أجلد من الشاب، فهذا يحج، وبعض الناس قد يعاجله الكبر؛ وذلك بسبب الهموم وما يصيبه ويعتريه من الأمراض، فهذا أمر نسبي لا يتأقت بزمان، فلا نقول: من بلغ خمسين سنة أو ستين سنة فهذا لا يجب عليه الحج، وإنما نرد ذلك إلى أحوال الناس، فقد ترى الإنسان كبير السن والله عز وجل أبقى له العافية، فهذا يجب عليه أن يحج، فليس الكبر عذراً إلا إذا استضر الإنسان ومنعه مانع من القيام بفريضة الحج والعمرة. قوله: (أو مرض لا يرجى بؤره): فالمرض يكون مانعاً من الحج إذا كان مزمناً، فإن كان المرض مزمناً مقعداً كالشلل ونحو ذلك من الأمراض والأسقام، وفي حكم ذلك الكسور التي تكون في الإنسان ويلزم بها فراشه فلا يستطيع أن يبرحه، فهذه تعتبر أعذاراً في حال وجودها، فإن انجبر الكسر حج من عام يليه، أما في العام الذي ينكسر فيه ويكون الإنسان لازماً لفراشه، فإنه يسقط عنه الحج في ذلك العام. فالمرض له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون مانعاً على الدوام، وهو المرض المزمن، قد يكون الإنسان مصاباً بمرض في قلبه، لا يستطيع معه أن يحج ولا يتحمل معه مشقة الحج، فهذا يسقط عنه الحج. الحالة الثانية: أن يكون المرض مؤقتاً؛ وهو الذي يحصل للإنسان في فترة زمنية، فهذا يكون مانعاً مؤقتاً، فالتفصيل في المرض على هذين الوجهين. وشرط كون المرض مانعاً من الحج والعمرة أن يكون مؤثراً، وإذا شك الإنسان في مرضه هل يستطيع معه الحج أو لا، فليرجع إلى قول الطبيب العدل المسلم. وأما الكافر فمذهب طائفة من السلف: أنه لا تقبل شهادة الطبيب الكافر في ترك النسك والعبادة؛ لأنه متهم في شهادته. ومذهب طائفة من العلماء: أن الطبيب الكافر إذا وثق فيه وعرف فيه الأمانة عمل بقوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بشهادة الكافر كما في استئجاره لـ عبد الله بن أريقط ، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة في الفتاوى كلاماً نفيساً بيّن فيه أن هدي الشرع بالرجوع إلى مثله. الشاهد أن المرض إذا شهد به الطبيب العدل أو من يوثق بقوله فحينئذٍ يعتبر مانعاً، فإذا شك المريض في وجوب ذهابه إلى الحج فإنه يرجع إلى قول الأطباء الذين عرفوا بالخبرة، وعرفوا بكونهم مهرة في هذا الأمر، ولا يرجع لكل طبيب. فإن اختلفت أقوال الأطباء رجح بالأكثرية، فإن لم يستطع وتساوى عددهم رجح بالمهارة، يعني: أن يكون الإنسان معروفاً بمهارته، وهذا أصل ذكره بعض فقهاء الحنفية رحمهم الله في تعارض شهادة أهل الخبرة في مسائل العبادات والعادات. إقامة العاجز عن الحج من يحج عنه وأنواع الإجارة في الحج [لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا] أي: يلزم الشخص الذي لا يستطيع الحج والعمرة؛ لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أن يقيم غيره إن كان قادراً؛ لأن الله عز وجل فرض عليه الحج في نفسه إن استطاع، فإن لم يستطع فهو قادر على استئجار من يقوم بالحج عنه. والإجارة تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: يسمى بإجارة البلاغ: وهي أن تأخذ من الشخص الذي تريد أن تحج عنه مقدار نفقتك وما يبلغك الحج، فلو كانت النفقة تقدر بثلاثة آلاف ريال للحج متمتعاً أو قارناً تقول: أعطيني ثلاثة آلاف ريال فتذهب وتسافر، فإن نقص المبلغ وجب عليه أن يكمله، كما لو حججت وسرت بالقصد، وعلى حسب الشرط وعلى حسب الاتفاق، فحصل عجز عندك بخمسمائة ريال، فحينئذٍ لزمه أن يدفع الخمسمائة، وإن كان متوفى فإنها تخرج من تركة الميت وتضمن. هذه الإجارة جائزة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، لما فيها من المعونة على البر والتقوى، والإنسان لا يأخذ فيها حظاً لنفسه، وإنما يتقوى بها على عبادة الله عز وجل، وإسقاط الحق عن أخيه المسلم. النوع الثاني من الإجارة: يسمى بإجارة المقاطعة والمفاضلة، فيكون فيها الشيء أشبه بالسوم، يقول له: تحج عن ميتي بألفين، فيقول: لا، بل بثلاثة. أو قال: بثلاثة. فقال: لا، بل بأربعة. فيكون السوم بينهم والمقاطعة، كأنه يبحث عن ربح وفضل، فهذا النوع، للعلماء فيه قولان: القول الأول: لا يجوز هذا النوع من الإجارة؛ لأنه يتخذ العبادة وسيلة للدنيا، والحج إنما يراد به وجه الله عز وجل، ولا يراد به أي شيء سواه، وشددوا في هذا النوع من الإجارة. القول الثاني: يجوز؛ لأنها قربة ليست بفرض عين، والقرب التي هي من فروض الكفايات يجوز أخذ الأجرة عليها ولو فضلت، كما في الأذان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى الأذان على أبي محذورة فلما أَذَّنَ ألقى عليه أسورة من فضة، قالوا: وهذا يدل على مشروعية المكافأة على الطاعة، إذا لم تكن فرض عين على الإنسان. فلما قام بها تفضلاً عن أخيه المسلم جاز له أن يأخذ الفضل والزيادة. وفي النفس شيء من هذا القول، فالأفضل أن الإنسان يأخذ أجرة البلاغ حتى يصيب الأجر من الله عز وجل، وهذا في حق طلاب العلم وأهل العلم آكد، لما فيه من صيانة وجوههم، وصيانة العلم وحفظ حقه الذي جعله الله عز وجل نوراً في صدورهم، من أن يكون مظنة الامتهان والابتذال واستخفاف الناس بهم. فالأفضل والأكمل على طلاب العلم ونحوهم من أهل الفضل أن لا يأخذوا مثل هذه الإجارة، إلا على سبيل البلاغ، فإن قدرت من نفسك أن تحج تفضلاً فهذا أفضل وأعظم أجراً، وثوابك على الله، ومن كان أجره على الله فنعم الأجر ونعم الثواب في الدنيا وفي المآب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. ومن أعظم الإحسان أن تحسن إلى أخيك الميت أو أخيك المسلم فتسقط عنه فريضة، وبذلك يأجرك الله أجر الفريضة، خاصة إذا لم تأخذ عليها مالاً؛ فكأنك حججت فرضاً، وهذا لا إشكال فيه من جهة وجود العناء والتعب والنصب، إذا قصد الإنسان وجه الله عز وجل. وجوب الإحرام على الوكيل من ميقات الأصيل قوله: [من حيث وجبا]: أي: من حيث وجب عليه الحج والعمرة؛ لأن الوكيل ينزل منزلة الأصيل، فلو كان من أهل المدينة فإن الذي يحج عنه لا بد وأن يحج من المدينة، وهذا أصل شرعي صحيح؛ لأن الحج فرض عليه من المدينة، وهذا الذي يريد الحج إنما يريد الحج عن غيره، فإذا أراد أن يحج عن غيره وجب أن يتقيد بذلك الغير، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو أصح قولي العلماء. فالوكيل منزل منزلة الأصيل، وأصول الشريعة تدل على هذا؛ لأنهم أقاموا البدل مقام مبدله، فلما كان المبدل مطالباً ومخاطباً بالحج من حيث وجب عليه الحج، كأن يكون من أهل المدينة، فإنه إذا حُجَّ عنه من الجحفة، أو من يلملم، أو من السيل، فقد حُجَّ عنه من الأدنى، ولا يصح للإنسان أن يحج من الأدنى وقد وجب عليه الحج من الأبعد، وقد فرض الله عليه الحج من ميقات ذي الحليفة، فحينئذٍ يلزمه أن يحج من ميقات ذي الحليفة، وهذا أحوط وأبرأ للذمة وأبلغ في القيام بحق الله عز وجل وأدائه على وجهه. قال رحمه الله: [ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام] أي: لو أقام وكيلاً عنه وهو معذور ثم شفي بعد إحرام الوكيل، فإنه يجزئ عنه حجة الوكيل، حتى وإن تغير الحال وزال العذر بعد الإحرام، فالعبرة عندهم بالإحرام. وبعض العلماء يرى أن العبرة بالطواف، فإذا طاف بالبيت في عمرته أو وقف بعرفة في حجه، فإنه حينئذٍ يمضي هذا الوكيل، ولا يلزم الموكل بإعادة الحج ثانية، ويجزئه هذا عن حجة الإسلام. وقال بعض العلماء: إذا شفي وعوفي أو زال العذر قبل نهاية حجه، فإنه يلزم بإعادة هذا الحج، والسبب في ذلك أنه عذر في حال العجز، فإذا زال العذر عنه رجع الأمر إلى وجوب الحج عليه، وهذه المسألة تعرف بمسألة: زوال العذر، ولها صور: الأولى: أن يزول العذر قبل الشروع. الثانية: أن ويزول العذر أثناء الشروع. الثالثة: أن يزول العذر بعد الانتهاء. فتارة يكون زوال العذر موجباً للقطع، ويكون الاستئناف من الأصل والرجوع إلى الأصل فيه خلاف، مثلاً مسألة المتيمم: إذا تيمم في أول الوقت ثم كبر تكبيرة الإحرام، فرأى الماء أو وجد الماء وقدر على استعماله، فالصحيح أنه يقطع صلاته؛ لأنه قد زال العذر الذي جوز له أن يصلي وهو على تيممه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ) فخوطب بالرجوع إلى الأصل، ولا يمكن الحكم بثبوت العذر إلا إذا تم العمل، حتى يوصف الإنسان بكون ذمته قد برئت على الوجه المعتبر. والفقه أنه إذا كان الأصيل مخاطباً بفعل العبادة، وأن هذا الوكيل منزل لحاجة وزالت الحاجة، وشككنا هل يمضي في العبادة أو لا يمضي، أن نرجع إلى الأصل من كون الأصيل أو الموكِّل مخاطباً شرعاً بالقيام بالحج بنفسه، فلما شككنا في إجزاء الوكيل عنه رجعنا إلى الأصل من مخاطبته بالفعل بنفسه. الأسئلة حكم من جُنَّ بعد أن تلبس بالنسك ولم يتم السؤال من أحرم بالنُّسك ثم جُنَّ وأفاق بعد زمن، فهل يعتبر ما زال متلبساً بالنسك فيجب عليه الإتمام أثابكم الله؟ الجواب هذه المسألة تسمى مسألة: تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وهي مسألة راجعة إلى التقديرات الشرعية. التقديرات الشرعية تنقسم إلى قسمين: - تنزيل المعدوم منزلة الموجود. - وتنزيل الموجود منزلة المعدوم. وتوضيح ذلك، أن من جُنَّ على حالة فإنه أثناء الجنون يعتبر فاقداً للحالة، مثلاً: لو جُنَّ وهو مؤمن فإنه قبل جنونه مؤمن؛ لكن لما جُنَّ فقد العقل وقد يتكلم بكلمات الكفر فننزل المعدوم من الإيمان منزلة الموجود، ونقول: لما كان مسلماً قبل جنونه فهو مسلم الآن وآخذٌ حكم المسلم، فلو مات دفن مع المسلمين ووُرث وأخذ حكمهم سواءً بسواءٍ، وهذا تنزيل للمعدوم منزلة الموجود، وهذا من باب التقديرات الشرعية وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام. لكن البعض يرى أن الإحرام يفسد بزوال العقل، وحينئذٍ عليه أن يعيد النسك كما لو أحرم بالصلاة، فيرى أن العبادة تبطل بزوال العقل وزوال التكليف ويرى أن عليه الإنشاء. لكن هناك مذهب لبعض العلماء رحمة الله عليهم وهو: أن المجنون يجوز لوليه أن يحجِّجه كالصبي، وحينئذٍ إذا جُنَّ بعد إحرامه صح من وليه أن يأخذه وأن يؤدي مناسك الحج فعلاً، ويكون الولي هو الذي ينوي عنه، وهو الذي يتلفظ عنه كما هو الحال في الصبي. قالوا: إنه لما رفعت المرأة الصبي وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ( ألهذا حج؟ قال: نعم. ولكِ أجر ) والصبي لا عقل له فالمجنون مثله، ورد بعض العلماء هذا. وهذا القول موجود في مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وأشار الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني وكذلك الزركشي في المختصر إلى هذا القول، وأنه يمكن إتمام النسك في حال الجنون؛ وذلك أن النسك يقوم على شيئين: - الفعل. - والقول المستصحب للنية وقصد التقرب لله عزَّ وجلَّ. فلما فات في المجنون أن يتكلم ويقول بقصد النية ويعمل بنية معتبرة، قالوا: بقي الفعل، والمجنون بإمكانه أن يقف بعرفة، وبإمكانه أن يؤدي الأفعال، فيأخذه وليه ويجعله يؤدي أفعال الحج والعمرة ويتمها، ثم يتحلل كما هو الحال في الصبي سواءً بسواءٍ. والله تعالى أعلم. صحة حج من كانت نفقته على غيره السؤال من حج مع رفقة قاموا بنفقة حجه، فهل له ذلك إذا كان حجه للفريضة، أم لا بد من الإنفاق من حر ماله أثابكم الله؟ الجواب هذا حج غنيمة، ما دام أن الله عزَّ وجلَّ يسر له من ينفق عليه، وهذه رحمة ساقها الله إليه، وإذا جاء المال للإنسان من دون مسألة ومن دون استشراف فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى عمر المال وأراد عمر أن يمتنع قال: ( إذا جاءك من غير مسألة ولا استشراف فخذه وتموَّله ) خاصةً إذا كان الذي حج معه له حق عليه، كعمه وخاله وقريبه، أو إنسان أعطاه الله بسطة من المال ويحب طلاب العلم ويكرم العلماء، ولا يقصد بهذا إذلالهم، ولا يريد شيئاً في نفسه من الرياء والفخر، وإنما أراد وجهَ الله ومحبةً لأهل العلم وطلابه، وإكراماً لهم. أما إذا وجدت عنده أغراض كأن يقصد مثلاً: الرياء والسمعة وأن ينظر الناس إليه، أو أراد أن يهين طلاب العلم بهذه الطريقة، أو أنك إذا حججت معه ربما يذلك ببعض التصرفات، فلا تُهِن العلم الذي في صدرك؛ فإن الله أكرمك بالعلم فلا تهنه، وحقٌ على من أكرمه الله بالعلم أن يكرم العلم، وهذا العلم الذي يرفعك على رءوس الناس في منبرك، وفي درسك، وفي موعظتك، وفي خطبتك، تكرمه كما أكرمك. ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما فحق على أهل العلم وطلاب العلم أن يترفعوا عن مثل هذه الأمور إذا وجدت شائبة، أما إذا لم توجد شائبة وكان الرجل قد عرف بالفضل والصلاح والتقوى، وأوسع الله له في الدنيا، فَأُحِبَّ أن تكون معه؛ تفتي الجاهل وتعلِّمه، وترشد الحائر وتدله، ويكون الخير له ولمن معه من الرفقة، وتكون معونة على البر والتقوى، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( نعم المال الصالح عند الرجل الصالح ). فإذا وجدت رفقةً صالحة أو أناساً أثرياء وأغنياء فيهم الفضل، فلا بأس أن تذهب معهم، ففي الأغنياء أناس وضع الله عز وجل في غناهم البركة، فتجدهم يكرمون طلاب العلم، ويكرمون العوام، ويكرمون الضعفاء والفقراء، فأمثال هؤلاء الذين عُرِفوا بهذا الفعل وعُرِفوا بإرادة وجه الله عز وجل تُقبل منهم المكرمة، أما إذا وجدت الشبهة فلا. ومع هذا فإن الأفضل والأكمل دائماً لطالب العلم أن يتقي الله في علمه، وأن يكرم هذا العلم. وكانوا يقولون: إن من أسباب القبول في العلم الورع، فإذا كان الشخص ورعاً عن أموال الناس قذف الله في قلوب الناس حبه ووُضِع له القبول، ولذلك لا يستشرف إنسان من أهل العلم الدنيا إلا أهانه الله وأذله، ونزع من قلوب العباد القبول فلا تجد لمواعظه تأثيراً؛ لأن أكمل ما يكون العالم إذا كمل يقينه وزرع الله في قلبه عزة النفس، وتعوَّد من بداية طلبه للعلم أن يجعل فقره إلى الله وغناه بالله سبحانه وتعالى، وأحس أنه في نعمة عظيمة، وأنه أوتي شيئاً هو أفضل ما يؤتى، وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فخاف من الله جلَّ وعَلا أن يهين هذا العلم الذي في صدره، فإن الله يكرمه كما أكرم هذا العلم، وإذا لقي الله عزَّ وجلَّ لقيه يوم يلقاه مُكْرِماً لدينه ومُعِزّاً له، ويَشْهَد الله له بأنه أراد وجهه وأراد حفظ دينه، وهذا مظنة المثوبة العظيمة من الله جلَّ جلالُه. وكم قرأنا في تراجم العلماء من السلف الصالح رحمة الله عليهم، أنهم لما تورعوا عن الدنيا ملأ الله قلوبهم بالغنى! وكان الرجل منهم يمشي مرقع الثياب؛ ولكنه أغنى الناس بما قذف الله في قلبه. وكم من أناس أهانوا العلم! وهذا موجود، فتجده كلما جاءه إنسان يريد أن يعطيه شيئاً من حظ الدنيا، أو تجده دائماً عند أهل المال يطلبهم حظوظ نفسه، فإنك تجده مهاناً مُذَلاً مَقِيتاً، نُزِع من قلوب الناس القبول له. نسأل الله السلامة والعافية! ونعوذ بوجه الله العظيم من غضبه وسخطه! فإذا فعل العبد بعلمه هذا وأكل به الدنيا مَقَتَه الله عزَّ وجلَّ. وأهل العلم هم أهل الآخرة: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً } [القصص:83]. ولقد بايع أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يسألوا الناس شيئاً، وكان الواحد منهم يسقط سوطُه فلا يسألُ أحداً أن يناوله، بل ينزل من على فرسه ويأخذ سوطه، وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزة النفس؛ لأن الله شرفهم بعلم الكتاب السنة، فأخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فمن مظنة الخير لطالب العلم أن تجده دائماً عفيفاً عن أموال الناس، عفيفاً عن الدنيا، مستغنياً بالله عزَّ وجلَّ، مع أنه مديون أو فقير؛ لكن لا يمكن أن يهين العلم الذي في صدره، وهو مع ذلك لا يضيع حقوق الناس، وكذلك تجده لا يمكن أن يريق ماء وجه لأحد من أهل الدنيا أبداً، حفظاً لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو والله ما ضاقت عليه الدنيا إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً، ولا أصبح في ضنك من العيش إلا جاءه الفرج من حيث لا يحتسب، وهذا موجود ومعروف ومعهود؛ لأنه لا أوفى من الله لعبده! وهذا بالمناسبة يشمل طلاب العلم وغيرهم؛ لكننا نؤكد على طلاب العلم؛ لأنهم أحق، والناس كلما وجدت أهل العلم على ورعٍ واستغناءٍ بالله عزَّ وجلَّ أحبتهم، وأحبت العلم الذي في صدورهم، وأحبت العلم من أفواههم، وشعرت أن هذا العلم يخرج من معدنٍ طيب ونفسٍ كريمة؛ لأن الذي يكرم دين الله عزَّ وجلَّ خليقٌ أن يُكْرَم، وخليقٌ أن يُحَب، ولا يمكن للإنسان أن يسيء ظنه بالله عزَّ وجلَّ، فوالله ما أرقتَ ماء وجهك لأحد من أهل الدنيا إلا عَظُم عليك أن ترد هذا الماء بعد إراقته؛ ولكن إذا جعلتَ فقرك لله عزَّ وجلَّ صان الله وجهك عن عباده، وصانه عن ذل المسألة، وهذا لا يكون إلا باليقين في الله جلَّ جلالُه. فإن طلاب العلم وأهل العلم يتأكد عليهم هذا الحق؛ لأنهم عرفوا الله بأسمائه وصفاته، ومن صفاته سبحانه وتعالى أنه الغني وأنه الكريم، يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، فطالب العلم عنده اليقين أنه إن أغناه الله لا يفقره أحد، وأنه إن أفقره الله لا يغنيه أحد. فإذا أصبح أهل العلم يستشعرون هذه العقيدة، وهم أعلم الناس بالله، وهم أهل خشية الله، وأهل الإيمان بالله عزَّ وجلَّ رفع الله قدرهم بهذا، وصانهم وأجلهم وأكرمهم، وجعل حسن العاقبة لهم، وإذا رأيت الرجل يهين العلم، أو بمجرد ما يطلب العلم يريد أن ينال به حظوظ الدنيا، أو ينال به السمعة والرياء، فإنك لا تجده إلا في فقر وضيعة، حتى إنك تجد عنده الأموال الكثيرة الطائلة، ومع ذلك تجده يزداد كل يوم فقراً إلى فقر نسأل الله السلامة والعافية! هذا الشخص بعد أن أغناه الله وبسط له من رزقه، لا تجده يحمد الله عزَّ وجلَّ من كل قلبه، فيملأ الله عزَّ وجلَّ قلبه فقراً، ويملأ الله عزَّ وجلَّ نفسه شَرَهاً وطمعاً، نسأل الله السلامة والعافية! فالله الله يا طلاب العلم! وكان العلماء والمشايخ كثيراً ما يوصون بهذه؛ لأن هذه ثغرةٌ فساد عظيمة على طالب العلم. ولا يقتصر الأمر على كون الإنسان يقبل الشيء، بل حتى جلوس الإنسان مع إنسان من أهل الدنيا، من أجل أن يغنيه أو يحسن إليه، أو نحو ذلك من الأمور التي يفعلها بعض طلاب العلم طلباً للدنيا، فهذا كله مما يضر الإنسان ولا ينفعه: { يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } [الحج:13]. فالغنى من الله، والفقر من الله وإليه سبحانه. أستودع الله أموري كلها إن لم يكن ربي لها فمن لها لنا مليك محسن إلينا مَن نحن لولا فضله علينا تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه سبحان من ذلت له الأشراف أكرم مَن يُرجى ومَن يُخاف اختار الله منك قلبك، فهو محل النظر من الله عزَّ وجلَّ في كل لحظة، ونظره إلى قلبك لما فيه من توحيده والغنى به سبحانه، والافتقار إليه واليقين به سبحانه، فوالله ما ملأتَ هذا القلب بحسن الظن به إلا تلقاك برحمته وفضله ومنَّه وكرمه، ولا نزع عبد من قلبه اليقين بالله والغنى بالله والفقر إلى الله، إلا ملأ الله قلبه فقراً ولو كان من أغنى الناس، ثم لم يبالِ الله به في أي أودية الدنيا هلك. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل فقرنا إليه وغنانا به، ونسأله تعالى أن يرزقنا حسن الظن به، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (213) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [3] من الشروط المعتبرة للحكم بوجوب الحج على المرأة: وجود المحرم لها، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته وتيسيره على عباده، فلا يجوز للمرأة أن تحج بدون محرم، ومن باب أولى لا يجوز لها أن تسافر لغير الحج بدون محرم. وبناءً على ذلك فلابد من معرفة من هم المحارم الذين يجوز للمرأة أن تسافر معهم، فإن هذه المسألة من المسائل التي عمت بها البلوى. والمحرمية لها ثلاث جهات: محرمية بسبب النسب، ومحرمية بسبب الرضاع، ومحرمية بسبب المصاهرة. عدم وجوب الحج والعمرة على من عدمت المحرم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فالمصنف عليه رحمة الله يقول: [ويشترط لوجوبه على المرأة وجودُ محرمها وهو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب]. شرع المصنف رحمه الله في بيان شرط من الشروط المعتبرة للحكم بوجوب الحج على المرأة، فلا يجب الحج على المرأة إلا إذا وجدت المحرم، ولا يجوز لها أن تخرج لحج ولا لعمرة إلا إذا كان معها محرمها، هذا كله إذا لم تكن بمكة، أما إذا كانت بمكة أو من حاضري المسجد الحرام دون مسافة القصر، فإنه إذا أُمِنَت الفتنة وأمكنها أن تحج مع الرفقة المأمونة فلا بأس؛ لأن خروجها إلى البيت الحرام والمناسك ليس هو بسفر ولا في حكم السفر، وإنما أوجب الله المحرم فيما إذا كان سفراً؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم ). فهذا الحديث الصحيح يدل على أن المرأة يجوز لها أن تخرج لما دون مسافة القصر بدون محرم؛ ولكن بشرط أمن الفتنة، ولذلك كان أمهات المؤمنين رضي الله عنهن يخرجن إلى المناصع من أجل البراز وقضاء الحاجة، وهذا خارج عن حجراته عليه الصلاة والسلام وبأطراف العمران بالمدينة. وثبت في الحديث: ( أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني اكتتب في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك ) . قوله: (ويشترط لوجوبه محرمها)، والمحرم: أصله من حرم الشيء يحرم فهو حرام ومحرم، ووصف المحرم بكونه محرماً؛ لأن الله حرم عليه نكاح هذا النوع من النساء، فمن حرم عليه نكاح المرأة؛ بسبب النسب، أو بسبب الرضاعة، أو بسبب المصاهرة، فإنه يعتبر محرماً لهذه المرأة، إضافة إلى الزوج، فإذا حرَّم الله عز وجل عليه نكاحها للسبب المباح، فإنه حينئذٍ يجوز له أن يسافر معها وأن يختلي بها وأن يصافحها، وأن يرى وجهها ويديها ونحو ذلك مما لا فتنة فيه. ومسألة المحارم مسألة مهمة ويحتاجها الناس عامة، سواءً كانوا طلاب علم أو لم يكونوا من طلاب العلم. فينبغي على المسلم أن يعلم إذا بلغ ما الذي أحل الله له من النساء، أن يختلي بهن وأن يصافحهن وأن يعطيهن حكم المحارم، وما الذي حرم الله عليه الخلوة بهن والسفر معهن وكذلك النظر إليهن ولمسهن. وهذه مسألة -كما يصفها العلماء- من المسائل التي تعم بها البلوى، وينبغي تعليم أبناء المسلمين، وينبغي العناية بهذه المسألة خاصة من الخطباء والوعاظ والمرشدين، فالناس يحتاجون إلى بيان من هم المحارم، حتى يكونوا على بينةٍ من أمرهم، فيأتوا ما أحل الله ويذروا ما حرم الله عليهم. جهات المحارم المؤبدة والمؤقتة وبيان أحكامها والمحرمية لها ثلاث جهات: الجهة الأولى: محرمية بسبب النسب. الجهة الثانية: محرمية بسبب الرضاع. الجهة الثالثة: محرمية بسبب المصاهرة. فأما الذين حرم الله على المسلم نكاحهن والزواج منهن من جهة النسب: فسبع. ويأخذ نفس الحكم مَن حرم الله من جهة الرضاعة. وأما المصاهرة: فأربعة أنواع من النساء كما سيأتي إن شاء الله تفصيله. وسنذكر هذه الثلاث الجهات من جهة النساء. فإذا قلنا: الأم فيقابلها الأب بالنسبة للمرأة، فإذا قلنا: أول المحارم الأم، فنحن نتكلم بالنسبة للرجل، أما المرأة فأول المحارم لها هو الأب. وإذا قلنا: الأخت بالنسبة للرجل، تعكس المرأة وتقول: الأخ. وإذا قلنا: بنت الأخ بالنسبة للرجال، فتعكس النساء ويقلن: ابن الأخ؛ لأنهن يسألن عن المحارم من جهة الذكور، والرجال يسألون من جهة الإناث. أنواع المحارم من جهة النسب وحكم كل نوع منها أما بالنسبة للجهة الأولى: وهي النسب، فهن سبع من النسوة: الأولى: الأم: والأم هي: كل أنثى لها عليك ولادة سواءً كانت مباشِرة أو كانت بواسطة فهي محرم لك، يشمل ذلك: - الأم المباشرة. - وأم الأم. - وأم أم الأم، وإن علت. - ويشمل أيضاً أم الأب. - وأم أب الأب، وإن علا. فأم الإنسان المباشِرة حرام، وأم أصوله أم له، فلو سألك السائل وقال: أم أب الأب هل هي محرم لي؟ تقول: نعم. ولا يجوز لك نكاحها، ويجوز لك مصافحتها والسفر معها، وأنت محرم لها. أما الدليل فقوله سبحانه وتعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [النساء:23]، فنص الآية الكريم جاء بالجمع، قال بعض المفسرين: تنبيه من الله سبحانه وتعالى على أن التحريم لا يختص بالأم المباشِرة، وإنما يشمل الأم المباشِرة والأم بواسطة كأمهات الأصول. الثانية: البنت: والبنت هي: كل أنثى لك عليها ولادة سواءً كانت مباشرة: - كبنت الصلب التي هي مباشِرة من صلبك. - أو بنت بنتك وإن نزلت. - أو بنت أبنك، وإن نزل. فجميع الإناث اللاتي ولدن منك أو من فروعك من الذكور والإناث فهن محارم لك. وهذا دليله قوله تعالى: { وَبَنَاتُكُمْ } [النساء:23] فجمعت الآيةُ الكريمة تنبيهاً على البنت المباشِرة والبنت بواسطة. الثالثة: الأخت: والأخت ضابطها هي: كل أنثى لأحد أصليك عليها ولادة، أو هما معاً، فيشمل ذلك ثلاثة أنواع من الأخوات: النوع الأول: الأخت الشقيقة: لأن الولادة من أصليك. والثاني: الأخت لأب: وقد شاركتك في أصل واحد وهو الأب. والثالث: الأخت لأم: وقد شاركتك في أصل واحد وهو الأم. فالأخت محرم لك سواءً كانت شقيقةً أو كانت لأب أو كانت لأم. أما دليل كونها محرماً فقوله تعالى: { وَأَخَوَاتُكُمْ } [النساء:23]. الرابعة: العمة: العمة هي: كل أنثى شاركت أباك في أحد أصليه أو فيهما معاً، فيشمل: - العمة الشقيقة. - والعمة لأب. - والعمة لأم. فكل أنثى اجتمعت مع والدك سواء من جهة أحد أصليه كالعمة لأب: وهي أختُ الأب من أبيه، والعمة لأم: وهي أختُ الأب من أمه، أو العمة الشقيقة: وهي أخته من أبيه وأمه شاركته في الأصلين معاً. العمة محرم، والدليل على ذلك قوله تعالى: { وَعَمَّاتُكُمْ } [النساء:23]. يستوي في العمات عماتك المباشِرة، وعماتك بواسطة من جهة الأصول: فعمة أبيك محرم لك، وعمة جدك محرم لك، وعمة جدتك محرم لك، وعمة أمك محرم لك، فاجعل العمات والخالات من جهة الأصول عمات وخالات لك. ولذلك إذا سألك السائل فقال: عمة جدي هل هي محرم لي؟ تقول: عمة أصلك عمة لك. ولو سألك عن عمة أمه أهي محرم له؟ تقول: عمة أصلك عمة لك، فهي محرم لك. الخامسة: الخالة: وهي: كل أنثى شاركت الأم في أحد أصليها أو فيهما معاً، فيشمل: - الخالة لأب: شاركت الأم في أحد أصليها وهو الأب. - والخالة لأم: لأنها شاركت الأم في أحد أصليها وهي الجدة أم الأم. - والخالة الشقيقة: وهي أخت الأم من جهة الأب والأم، شاركت الأم من أصليها معاً. فالخالة محرمٌ لك سواءً كانت خالةً مباشِرة وهي أخت أمك لأب أو أم أو لهما معاً، أو خالةً لأصلك. فلو سألك سائل عن خالة أبيه: هل يجوز له أن يختلي بها ويسافر معها؟ تقول: نعم. خالة أصلك خالة لك، وخالة أب الأب، وخالة جد الأب، كل هؤلاء من النسوة محارم. والدليل قوله تعالى: { وَخَالاتُكُمْ } [النساء:23] قال المفسرون بالإجماع: إن خالاتِ الأصول خالاتٌ للفروع، وعماتِ الأصول عماتٌ للفروع. السادسة: بنت الأخ: وضابط بنت الأخ هي: كل أنثى لأخيك عليها ولادة، ويشمل: - الأخ الشقيق. - والأخ لأب. - والأخ لأم. - ويشمل الولادة المباشِرة كبنت أخيك الشقيق. - والولادة بواسطة كبنت بنت أخيك الشقيق. - وبنت ابن أخيك الشقيق. فالفروع هنا يأخذن حكم ما تفرعن عنه، فبنت الأخ محرم لك سواء كان أخاً شقيقاً، أو لأب، أو لأم. والدليل: قوله تعالى: { وَبَنَاتُ الأَخِ } [النساء:23]. وأما السابعة: فبنات الأخت: وضابطهن: كل أنثى لأختك عليها ولادة، سواءً كانت مباشِرة أو كانت بواسطة، وسواءً كانت الأخت: - شقيقة. - أو لأب. - أو لأم. فجميع ما تنجبه الأخت يعتبر من محارمك من الإناث سواءً باشَر أو كان بواسطة. هؤلاء السبع تحريمهن جاء من جهة النسب. والنسب: مأخوذ من النسبة يقال: نسب الشيء إلى الشيء إذا أضافه، وسمي النسب نسباً؛ لأن الابن يضاف إلى أصله، فيقال: محمد بن عبد الله، وعبد الله بن عبد الرحمن، فيضاف الابن لأبيه، والأب للجد، والجد لأبيه وهكذا. فهؤلاء السبع إذا تأملتهن وجدت التحريم جاء من جهة القرابة، فتجد إما من جهة الأصول أو من جهة الفروع، أو من جهة فروع الأصول، أو من جهة فروع مَن شارك في الأصول. فهؤلاء النسوة من السبع الجهات يعتبرن محارم للرجل. والعكس في الإناث: فتقول في الأمهات: الآباء. وتقول في البنات: الأبناء. وتقول في الأخوات: الإخوة الذكور. وتقول في العمات: الأعمام. وفي الخالات: الأخوال. وفي بنات الأخ: أبناء الأخ. وفي بنات الأخت: أبناء الأخت. هذا بالنسبة للتحريم من جهة النسب، وكل واحد منا ينبغي أن يكون حافظاً لهؤلاء السبع؛ حتى يعلم أن الله أحل له الخلوة بهذا النوع من النساء ومصافحتهن والسفر معهن، وغير ذلك من أحكام المحرمية المعروفة. أنواع المحارم من جهة الرضاع وحكم كل نوع منها أما بالنسبة للجهة الثانية فهن المحارم من جهة الرضاع: وجهة الرضاع كجهة النسب سواءً بسواءٍ، فتقول: الأم من الرضاع، وأم أمها، وإن علت، وأمهات الأصول من الرضاع أمهاتٌ للفرع الرضيع. كذلك أيضاً: البنات من الرضاع وإن نزلن. فبنتك من الرضاع تعتبر محرماً لك، وبنت بنتها، وبنت ابنها، وإن نزل الجميع. كذلك أيضاً: الأخت من الرضاع: سواءً اجتمعت معك في المرأة المرضعة من الأصلين، فكان الزوج الذي ارتضعت هذه الأخت من لبنه، فهي أختٌ لك من الرضاع شقيقة، أو كانت بنتاً لهذا الرجل من هذه المرأة التي رضعت منها، فهي أخت لك من الرضاعة شقيقة. ولكن هذا الرضاع يعتبر فيه ما يعتبر في النسب، فلو أن هذا الرجل الذي رضعتَ من لبنه من هذه المرأة تزوج امرأة ثانية، أو كانت عنده امرأة ثانية فأنجبت، فجميع ما ينجبه هذا الرجل الذي ارتضعت من لبنه يعتبرون أخوة لك من الرضاعة. إن كان من المرأة نفسها فهو أخٌ شقيق وأخت شقيقة، وإن كان من غير المرأة قَبْل أو بَعْد فهو أخ من الرضاع لأب. ثم هذه المرأة التي ارتضعتَ منها جميعُ ما تنجبه من قبل هذا الرجل أو من غيره، فإنهم يعتبرون أخوة لك من الرضاع من جهة الأم فقط إذا كانوا من غير الرجل، وإن كانوا من الرجل فيعتبر أخاً شقيقاً من الرضاع وأختاً شقيقةً من الرضاع. هذا بالنسبة للرضاع. فالأخت من الرضاعة، وكذلك بنات الأخت والأخ من الرضاعة، والعمة من الرضاعة، والخالة من الرضاعة، كل هؤلاء السبع من جهة الرضاع يُنَزَّلن منزلة السبع من جهة النسب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فدل هذا الحديث الصحيح على أننا ننزل الحكم في الرضاع منزلة الحكم الموجود في النسب. أنواع المحارم من جهة المصاهرة وحكم كل نوع منها أما بالنسبة للجهة الثالثة فهن المحارم من جهة المصاهرة فيشمل أربعة أنواع من النساء. والمصاهرة: تقوم على الصهر وهو الزواج من الناس، والإنسان يصاهر القوم إذا تزوج منهم، وصِهْرهم زوج بنتهم أو زوج أختهم. أولاً: ما كانت المصاهرة في أصولك، وما كانت المصاهرة من جهة فروعك: - فتنظر إلى أصولك، وهم: آباؤك وإن علوا كالجد. - وتنظر إلى فروعك، وهم: أبناؤك وإن نزلوا. ثانياً: تنظر إلى المرأة التي تزوجتها: - أصلِها. - وفرعِها. فهذه أربع جهات: النوع الأول من المحرمات من جهة المصاهرة: زوجات الآباء وإن علوا: فزوجة الأب: هي المرأة التي عقد عليها الأب، وبمجرد عقده عليها تعتبر محرماً لك، سواءً دخل بها أو لم يدخل بها، طلقها أو مات عنها، ما دام أنه قد عقد على هذه المرأة فهي حرام عليك إلى الأبد، وهي مَحْرَمٌ لك إلى الأبد، يستوي في ذلك أن يكون أباً مباشِراً وهو الذي ولد الإنسانَ مباشَرةً، أو أباً لأبيه وإن علا. فلو سألك سائل: عن امرأة عقد عليها أبو الأم وهو جدك من جهة الأم أو امرأة عقد عليها أبو الأب. تقول: إنه لا يحل لك نكاحها وهي محرم لك. ما الدليل؟ قوله تعالى: { وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } [النساء:22]. والأبُ أبٌ تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، فإن جدك من جهة الأم كأبيك، يعتبر وفي حكم الأب، ولذلك قالوا: كل من عقد عليها الأب أو أبوه، وإن علا، والجد وجده، وإن علا، فهو محرم للفروع. الخلاصة: أن أي امرأة بمجرد ما يعقد عليها الوالد، أو يقع بينه وبين وليها الإيجاب والقبول بحضور شاهدين عدلين يصح بهما العقد، فإنه يحل لك أن تجلس معها، وأن تصافحها، وتختلي بها، وتسافر معها، وأنت محرم لها. هؤلاء زوجات الآباء. النوع الثاني: زوجات الأبناء: عرفنا أن اللاتي تزوجهن الأصول أنهن محارم، وعكسهن اللاتي تزوجهن الفروع. فكل امرأة عقد عليها ابنك أو ابن ابنك وإن نزل، بمجرد العقد تصير محرماً لك. فزوجات الأبناء وأبناء الأبناء وأبناء البنات، كل هؤلاء من النسوة محارم لك. والدليل على ذلك قوله تعالى: { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } [النساء:23] أي: حرمت عليكم نكاح الحليلة للابن إذا كان من الصلب، ومراده (مِنْ أَصْلابِكُمْ) أن يُخرِج الابن من التبني، وقد كان في الجاهلية كـ زيد بن حارثة كان يقال له: زيد بن محمد ، فقوله: (مِنْ أَصْلابِكُمْ) ليس المراد به قصر الحكم على الابن المباشر وإنما المراد به جميع ما كان من صلبك ومن ولدك، فالابن الذي من صلبك وولدك سواءً كان مباشراً أو كان بواسطة، تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، فإنه ابن لك، وزوجته التي عقد عليها محرمٌ لك، بمجرد ما يعقد الابن تحرم زوجته على أبيه وإن علا، فتحرُم على أبيه وعلى جده وجد أبيه وإن علا، سواءً كان من جهة الذكور أو من جهة الإناث. هذا بالنسبة لزوجات الأبناء. والدليل على أن مجرد العقد على زوجة الابن يحرِّمها: أن الله تعالى قال: { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ } [النساء:23] فقال: (حلائل) والمرأة حلال للولد بمجرد العقد، فلا يشترط دخول الولد حتى تصير محرماً لأبيه، وإنما بمجرد عقد الابن على هذه المرأة تصير محرماً لأصوله. النوع الثالث من المحرمات من جهة المصاهرة: أم الزوجة: هذه الأم تعتبر محرماً لك، وتكون أم الزوجة محرماً لزوج بنتها بمجرد العقد، فلا يشترط الدخول ببنتها، فكل امرأة عقدتَ عليها فإن أمها تعتبر محرماً لك بمجرد عقدك عليها، وحينئذٍ يحرم عليك نكاحها إلى الأبد، سواءً طلَّقتَ بنتها أو بقيت في عصمتك أو ماتت عنك فهي محرم إلى الأبد. والدليل على ذلك قوله تعالى: { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } [النساء:23] والمرأة تكون من نساء الرجل بمجرد العقد عليها، ولذلك تقول: هذه من نسائي، بمجرد عقدك عليها ولا يشترط الدخول بها. هذا بالنسبة لأم الزوجة فهي محرم لك بمجرد العقد عليها. يستوي في ذلك أن تكون أماً مباشرة أو أماً بواسطة، فأم أم الزوجة، وأم أم أم الزوجة تعتبر محرماً لزوج بنتها، وسواءً تمحضت بالذكور أو تمحضت بالإناث فالحكم في ذلك سواء؛ لأن الله قال: { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } . فأم أبي الزوجة تعتبر محرماً لك؛ لأنها أم لزوجتك، ويستوي في ذلك تمحضها بالذكور كأم أبي أبي الزوجة، أو تمحضت بالإناث كأم أم أم الزوجة، فهؤلاء النسوة جميعهن يعتبرن محارم بمجرد العقد على بناتهن. النوع الرابع: بنت الزوجة وهي التي تسمى الربيبة: وسميت ربيبة؛ لأنها تتربى عند زوج أمها، وجاء التعبير في القرآن متضمناً لهذا المعنى في قوله تعالى: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } [النساء:23] فقوله: (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب إذا تزوج إنسان امرأةً، ولها بنات من رجل قبله أن يعطف عليهن وأن يربيهن كأنهن بنات له. فهذه الربيبة تحرم على الإنسان بشرط الدخول على أمها، وهي التي تنفرد من بين المحرمات بالصهر بشرط الدخول، فلو عقد على أمها فإنها لا تزال أجنبية حتى يدخل بأمها، فإن دخل بأمها حرُمَت عليه؛ وذلك لقوله تعالى: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [النساء:23]. إذاً الربيبة تنفرد من بين الأربع في المحرمات من الصهر، بحيث يشترط في تحريمها أن يدخل الزوج على أمها، فإن لم يدخل الزوج على أمها فلا تزال حلالاً، وهذا يدل على حكمة الله عزَّ وجلَّ ولطفه بالعباد، فإن أم الزوجة الغالبُ أن تكون أكبر ولا تُرْغَب، ولذلك حرُمَت بمجرد العقد، ولكن بنت الزوجة قد تُرْغَب، ولذلك لو كان مجرد العقد على أمها يحرمها؛ لكان فيه تضييق، فجعل الله في الأمر سعة، فلو عقد على أمها ثم نفر من أمها ورغب في الزواج منها كان الأمر أوسع، ولذلك قالوا: حتى يكون أدْفَعَ للفتنة؛ لأنه ربما افتتن بها أو تعلق بها، فكان ذلك أدعى لدفع الفتنة قبل أن يدخل بأمها. ولا يشترط أن تكون ربيبة في حجرك، وقال الظاهرية: يشترط، فلا تحرم عليك بنت الزوجة إلا إذا تربت في حجرك. والصحيح أنه لا يشترط، وهو مذهب الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم حبيبة -لما عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أختها-: ( أترضين ذاك؟ فقالت: إني لست لك بمخلية، وأحب من يشاركني أختي، إني سمعت أنك ناكح، بنت أبي سلمة ؟! فقال عليه الصلاة والسلام: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة )، ثم قال كلمة هي الحجة والفيصل في هذه المسألة يخاطب زوجته أم حبيبة ( فلا تعرضن عليَّ أخواتكنَّ ولا بناتكنَّ ) فقال: (بناتكنَّ) ولم يقل: اللاتي تربين في حجري، وإنما قال: (بناتكنَّ) وأطلق. ففُهِم من هذا أن تعبير القرآن في قوله: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } [النساء:23] خرج مخرج الغالب، والقاعدة في الأصول: أن النص إذا خرج مخرج الغالب لا يعتبر مفهومه. وعلى هذا: فلو كانت بنت الزوجة قد بلغت قبل أن تدخل بأمها، فإنها لا تكون محرماً لك إلا إذا دخلت بأمها، وهكذا لو تربت من باب أولى وأحرى وهي بالإجماع. هؤلاء أربع من النسوة من أربع جهات: فتقول: التحريم بالمصاهرة: من جهة أصلي، ومن جهة فرعي. فأما من جهة أصلي: فزوجات آبائي. وأما من جهة فرعي: فزوجات أبنائي، وإن نزلوا. وأما بالنسبة للثالث والرابع منهن: فأم زوجتي، وبنت زوجتي. فالأمر فيهن واضح، وجمعهن يكون على هذه الصورة؛ أن تنظر إلى أصولك، وفروعك، وتسند بالزوجية إليهما، وتنظر إلى أصل زوجتك، وفرع زوجتك، فيصبح المجموع أربعة أنواع من النسوة. ويضاف إلى المحرمات من جهة المصاهرة أربع من جهة الرضاع. هذا بالنسبة للمحرمات وكما قلنا: سبعٌ من النسب. وسبع من الرضاع. وأربع من المصاهرة. إضافة إلى أربع من المصاهرة من جهة الرضاع. فأصبح المجموع اثنتين وعشرين امرأة من جميع الجهات، فهؤلاء النسوة يعتبرن محارم بالنسبة للرجل. يضاف إليهن: الزوجة، وهي ليست من المحرمات؛ لكنها أبيحت له، ولذلك لا تتعلق بنسب ولا تتعلق برضاع ولا تتعلق بمصاهرة، لا من جهة الأصول ولا من جهة الفروع؛ ولكنها هي التي أحل الله. فأصبح عددُ النسوةِ ثلاثاً وعشرين امرأةً. هذا بالنسبة للمحرمات على التأبيد. أنواع المحرمات على التأقيت وحكم كل نوع منها هناك نوع من المحرمات حرم الشرع نكاحهن على التأقيت: أخت الزوجة: حرام على الإنسان أن ينكحها مؤقتاً، فلا نقول: إنها من المحارم، وهذا يغلط فيه البعض، بل بلغني عن بعض طلاب العلم أنه يجلس مع أخت زوجته، ويقول: إن الله عزَّ وجلَّ عدَّها في المحرمات، فهي كالأم وكالبنت، وهذا خطأ؛ لأن التحريم في حقها مؤقت، وإنما تثبت المحرمية في التحريم المؤبد. كذلك أيضاً: من التحريم المؤقت: الخامسة من النسوة: فمن كان عنده أربع من النسوة لا يحل له أن ينكح الخامسة، فليست الخامسة حلالاً له، بل يحرم عليه نكاحها؛ لكن تحريماً مؤقتاً. وكذلك: المحصنات من النساء: كما ذكر الله في القرآن، من المحرمات؛ لكنهن لسن من المحارم، فليُنْتَبَه إلى قولنا: من المحرمات، ومن المحارم، فالمحارم شيء، والمحرمات شيء آخر؛ لأن المحرمات أعم من المحارم؛ لكن وصف هؤلاء النسوة بكونهن محارم لوجود التحريم من جهة التأبيد. بقي إشكال؛ هناك نوع من النسوة يحرمن على التأبيد ولسن من المحارم، ويُلْغِز بعض العلماء في هذا ويقول: امرأة محرمة إلى الأبد ليست بمحرم؟ فجوابه: زوجة الملاعِن، فإن الزوج إذا لاعن زوجته -والعياذ بالله- فُرِّق بينهما فراقاً أبدياً، ولا تحل له إلى الأبد، وهذا التحريم يسمونه: تحريماً مؤبداً؛ لكنه لا يقتضي المحرمية وليست بمحرم له، وإنما هي أجنبية تبين منه بمجرد انتهاء المرأة من قولها -في اللعنة الخامسة والعياذ بالله-: أَنْ غضب الله عليها إن كان صادقاً فيما ذكر، فإذا قالت هذه الكلمة فحينئذٍ يفرق بينهما فراقاً أبدياً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ عويمر العجلاني بعد أن فرغت المرأة من اللعان وقالت الموجبة الخامسة-: ( حسابكما على الله، الله أعلم أن أحدكما كاذب، فقال عويمر : كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلقها ثلاثاً، فقال: إنها لا تحل لك ) يعني: إلى الأبد، فهذا يدل على أن التحريم إلى الأبد؛ لكن ليست بمحرم. وعلى هذا اختص التحريم بالمحرمات من جهة النسب، والمحرمات من جهة الرضاعة، والمحرمات من جهة المصاهرة، إلا أن التحريم من جهة الرضاع يشترط فيه ما يشترط في الرضاع المؤثر، وإن شاء الله سيأتي بيان حدود الرضعات المؤثرة، وضابط ذلك في كتاب النكاح. هؤلاء النسوة وما يقابلهن من جهة الذكور، يعتبر محارم للرجال وهم محارم لهن، على التفصيل الذي ذكرناه. فلا يحل للمرأة أن تسافر إلى الحج ولا إلى العمرة إلا مع محرم، ومن باب أولى السفر إلى غير الحج والعمرة، مع أن الحج والعمرة واجبتان. قد يقول قائل: سفر الحج والعمرة واجب عليها، وإن لم تجد محرماً فإنها تخاطَب بالخروج إبراءً للذمة، فما الدليل على أنه لا يجوز لها الخروج إلا مع المحرم؟ الجواب أولاً: قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم ) وجه الدلالة: أن الحديث عام لم يفرق بين سفر وآخر، فشمل السفر الواجب وغير الواجب. ثانياً: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الصحابي: يا رسول الله! إني اكتُتِبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك ) ، فدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر وليس معها ذو محرم منها، ولو كان السفر واجباً على المرأة. ضرورة توفر السبب المباح في المحرمية قوله: [أو سبب مباح]. يخرج به السبب غير المباح كالبنت من الزنا، والأخت من الزنا والعياذ بالله! فهؤلاء وأمثالهن من النسوة لسن بمحارم للإنسان، أي: لا يسافر مع أخته من الزنا، كأن تزني أمه أو يزني أبوه والعياذ بالله! فتكون له أختٌ من الزنا لأب أو لأم، أو كأن يزني الرجل بالمرأة والعياذ بالله! ثم يتزوجها بعد أن تلد بنتاً، فالبنت التي وقعت قبل الزواج الشرعي بنتُ سفاح، وما كان من بعد ذلك فهو ابن نكاح وبنت نكاح، فلا تكون هناك نسبة بين الحلال والحرام، ولا يجوز لأحد -مثلاً- أن يسافر مع بنته من الزنا ويقول: هذه محرم؛ لأنها بنتي، بل إنها تعتبر أجنبية عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الولد للفراش وللعاهر الحَجَر ) فقطع الصلة بين الزاني وما كان من مائه الحرام. ولذلك لو تحقق أن هذه البنت بنته وأن هذه المرأة لم تزنِ بغيره، فهي ليست ببنته وليس له إلا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وللعاهر الحَجَر ) كناية على أنه لا شيء له، ولا تنسب البنت إلا لأمها. والحرام لا يحلل، فلو وطأ امرأة بدون عقد وحملت ثم عقد عليها بعد انعقاد الحمل وهو يعلم أن هذا الحمل حمله وولدت بنتاً من الزنا، فهي بنت زنا، ويكون ما وقع من مائه بعد العقد سقيٌ للحرام بالحلال، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم كما في سبي أوطاس لما رأى الرجل يريد أن يلم بالمرأة من السبي وهي قائمة على الباب، فقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: ( أيغذوه في سمعه وبصره؟! لقد هممتُ أن ألعنه لعنةً تدخل معه إلى قبره ). والمراد بذلك أن هذه المرأة السبي كانت قد حملت قبل الغزو، ثم أسرت فأصبح حملها للأول الذي كان يطؤها وهو زوجها، فلما وقعت في السبي حلت بالغنيمة لمن أخذها وأصبحت من سبيه ومن إمائه، ويجوز له وطؤها؛ ولكن لما كانت حاملاً فإنه لا يجوز له وطؤها إلا بعد الاستبراء، وحينئذٍ ينتظر حتى تضع حملها ثم يستمتع بها بما أحل الله؛ لكن الرجل استعجل فقال عليه الصلاة والسلام: ( أيغذوه في سمعه وبصره؟! ) يعني: أنه لو جامعها فأنزل الماء اغتذى الولد وانتشى بمائه، فهذا يدل على حرمة إدخال الماء على الماء. ولا يجوز ما يفعله بعض العامة بحيث إذا زنى فيهم الرجل بالمرأة زوجوه بها قبل أن تستبرئ، وهذا لا شك أنه من حكم الجاهلية ولا يجوز ذلك، وإذا أراد أن يتزوجها والعياذ بالله، فإنه لا يتزوجها حتى يتوب توبة نصوحاً، وكذلك حتى تتوب توبة نصوحاً، فإن تابا توبة نصوحاً، فلا يجوز له أن يعقد عليها ولا أن يدخل عليها إلا بعد أن يستبرئها من الحرام، حتى لا يخلط النكاح بالسفاح، وما أحل الله بما حرم الله. فالشاهد: أن البنت من الزنا ليست بمحرم لأبيها الزاني، وهكذا بالنسبة لفروعها من الإناث . حكم من لزمه الحج ومات قبل أن يحج قال رحمه الله: [وإن مات من لزماه أُخْرِجَاْ من تركته]. قوله: (وإن مات من لزماه): أي: من لزمه الحج ولزمته العمرة، أخرج من تركته بقدر ما يُحَجُّ ويعتمر به عنه، فإن كان موته بالمدينة وَوُجِدَ شخص يحج عنه ويعتمر عنه، نُظِر إلى كلفة ومئونة الحجة والعمرة فإذا كانت ألف ريال أو ألفين فيُخْرَج من تركته قبل قسمتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فدين الله أحق أن يقضى ) ، والميت إذا مات أول ما يقام به مئونة التجهيز من تغسيله وتكفينه وحمله ودفنه، ثم بعد ذلك تقضى عنه ديونه التي عليه إبراءً لذمته، فيشمل الديون التي للآدميين، والديون التي لله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج ديناً فقال: ( فدين الله أحق أن يقضى ) . فعلى هذا تخرج الألف أو الألفان من تركته ويُحَجَّجُ عنه، فإن وجد من ورثته من يتبرع عنه المال، فيُتْرَك مالُه حظاً للورثة يقتسمونه بقسمة الله عزَّ وجلَّ في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فقوله: (من لزماه): أن من مات ولم يلزمه الحج كأن يموت فقيراً، ولا يجد الزاد الذي يجب معه الحج، فحينئذٍ لا يجب أن يخرج من تركته ما يحجج به عنه، ولو صار غنياً بعد الحج، مثال ذلك: فقير جاءه شهر ذي الحجة من آخر عمره وهو على الفقر طيلة حياته، أي: لا يجد الزاد لكي يؤدي فريضة الحجة والعمرة عنه، فلما ولَّى شهرُ الحج اغتنى، فحينئذٍ إذا اغتنى ينتظر إلى السنة القادمة حتى يحج، فإن عاجله الموت قبل أن يأتي وقت الحج فإنه لا يُخْرَج من تركته ما يحج به عنه؛ لأنه لم يجب الحج عليه، وإنما يجب عليه الحج إذا دخلت أشهر الحج، فحينئذٍ يخاطَب بالحج إلى بيت الله الحرام. الأسئلة خالة الزوجة وعمتها ليستا محرمين للزوج السؤال ماذا عن خالة الزوجة وعمة الزوجة أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فخالة الزوجة وعمة الزوجة محرمة على التأقيت، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كما في الصحيح: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ) والسبب في ذلك: أن النكاح والزواج مظنة الغيرة، وحينئذٍ كأنه بهذا الزواج يقطع الأرحام؛ فتحصل القطيعة بين البنت وعمتها والبنت وخالتها، وفي هذا مفسدة عظيمة تُقَدَّم على المصلحة، فحرم عليه أن يجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ولكن هذا التحريم يعتبر تحريماً مؤقتاً، والتحريم المؤقت لا يوجب المحرمية، فلا يجوز للزوج أن يختلي بخالة زوجته، ولا بعمة زوجته؛ لأنها ليست بمحرم له. والله تعالى أعلم. اعتبار أم الزوجة من الرضاع محرماً للزوج السؤال هل أم زوجتي من جهة الرضاع أُعتبر محرماً لها أثابكم الله؟ الجواب هذا مبني على قوله عليه الصلاة والسلام: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) وقد أشار إلى هذه المسألة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه: جامع العلوم والحكم، وحكى الإجماع على أنه يُنَزَّل الرضاع منزلة النسب، فكما أن النسب في المصاهرة يوجب التحريم، كذلك أيضاً المحرمة بالرضاع تُنَزَّل منزلة النسب، وهذا مبني على أن المعنى واحد، فإننا إذا نظرنا إلى أن الرضاع مُنَزَّلٌ منزلة النسب، فالأب لو تزوج امرأة فإنه حينئذٍ تكون هذه المرأة محرماً لك، كذلك أيضاً الأب من الرضاع؛ لأنك ارتضعتَ لبنه نُزِّل منزلة الأب من النسب، وحينئذٍ تحرم زوجته كما تحرم زوجة النسب. كان بعض العلماء يقول: قياس النص يقتضي حِلها؛ ولكن لا قائل به، والسبب في هذا أن الله عزَّ وجلَّ ذكر التحريم بالنسب، ثم أتبعه بالتحريم بالرضاعة، ثم أتبعه بالتحريم بالمصاهرة ثم قال: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء:24] قالوا: هذا يقتضي أن ما كان من الرضاع من جهة المصاهرة حلال؛ وذلك لأنه وإن كان التحريم بالرضاع كالتحريم من النسب إنما هو في النسب، ولا يرى المصاهرةَ آخذةً حكم النسب، فيرى أن قياس النص يقتضي حلها. ولكن نقول: لا قائل بهذا، والمعنى واحد فيها. والله تعالى أعلم. عدم حرمة الربيبة على ابن زوج أمها السؤال الربيبة لا تحل للرجل وتعتبر محرماً له، فهل نفهم من ذلك أن أبناء الزوج محارم أيضاً للربيبة وكأنها أختهم أثابكم الله؟ الجواب ليست الربيبة بمحرم لأبناء زوج أمها، فهي تحرم على زوج أمها ولا تحرم على أبنائه، فلو أراد الابن أن يتزوج الربيبة، وهي بنت زوجة أبيه حل له ذلك، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فالربيبة حلال لأبناء زوج أمها وإذا كانت حلالاً فإنها ليست بمحرم، ولا يجوز لابن زوج أمها أن يجلس معها ويخلو بها، وليس بمحرم لها في السفر، ولا يجوز له أن يصافحها، فحكمه حكم الأجنبي سواءً بسواءٍ. والله تعالى أعلم. اقتصار التحريم في الرضاعة على الرضيع دون إخوته السؤال هل يجوز لأخي أن يتزوج من أخت أختي من الرضاعة أثابكم الله؟ الجواب بالنسبة لأخيك يجوز له أن يتزوج أخت أختك من الرضاعة، بل يجوز أن يتزوج أختك من الرضاعة نفسها إذا لم يكن قد ارتضع معك، ولم تكن هذه الأخت قد رضعت من أمك، بمعنى أن الرضاعة منفصلة عن أمك، فإذا كانت أختك من الرضاعة فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إن كانت أختاً لك من الرضاعة، رضعت من أمك وأصبحت أختاً من جهة رضاعها للبن أمك فهي حرام على إخوانك كلهم، سواءً كانوا أشقاء لك أو كانوا لأم؛ لكن إذا كانت هذه الأخت لها أخت، فإنه يجوز لأخيك أن يتزوج هذه الأخت؛ لأن المحرمية اتصلت بهذه الأجنبية التي دخلت على لبن الأم، أما أختها فيجوز لأخيك أن يتزوجها، فأخت أختك من الرضاعة حل لأخيك من الرضاعة سواءً دخلت أو لم تدخل. - الحالة الثانية: أن تكون أختاً لك من الرضاعة برضاعك من أمها، فحينئذٍ ننظر في الأخ الذي يريد أن يتزوجها، إن رضع معك فهي أخته كما أنها أختك، وأما إذا لم يرضع فالتحريم يختص بك، ويجوز لأخيك أن ينكحها ويتزوجها؛ لأنه أجنبي عنها والتحريم مختص بك. - وهناك حالة ثالثة: وهي أن تكون أختاً لأختك من الرضاعة بمعنى: أنها أخت لها في الرضاعة من جهة منفصلة عن التي رضعتها كأن تكون هذه الأخت رضعت من امرأة ثم رضعت من امرأة ثانية، فحينئذٍ هي أخت لأختك من الرضاعة وليست بأخت لك، أختك من الرضاعة اسمها: خديجة، وخديجة رضعت من زينب، وأنت رضعت من زينب، فهي أختك من الرضاعة، وكلٌّ منكما قد ارتضع هذا اللبن، خديجة هذه التي هي أختك من الرضاعة لها أختٌ اسمها عائشة، خديجة رضعت مع عائشة من امرأةٍ ثانية عائشة لا تشترك معك في محرمية وليس بينك وبينها محرمية، وإنما دخلت أختاً على أختك برضاع منفصل، فيجوز لك أن تتزوج هذه الأخت لأختك من الرضاعة؛ وذلك لعدم وجود الاتصال في التحريم. فالتحريم إنما يتصل بمن يرتضع، فأنت لا تحرم إلا من رضع؛ لأن الأصل الحل حتى يدل الدليل على التحريم، فإذا شاركتك امرأة في الرضاع فهي محرم لك، وتعتبر حراماً عليك من جهة الزواج، وكل من شاركك في الأخوة من الأخوات إن اتصل بالغير بسبب منفصل عنك فإنه أجنبي، ووجود هذه الصلة وعدمها على حد سواء، فلما كانت الأخت من الرضاعة قد ارتضعت من امرأة أجنبية غير التي رضعتها، فقد أدخلت على نفسها أخوَّة غير الأخوَّة التي بينك وبينها، وحينئذٍ يجوز أن تتزوج من أختها من هذه الرضاعة الأجنبية ولا حرج عليك. والله تعالى أعلم. جواز الجمع بين المرأة وبنت خالتها أو بنت عمتها السؤال ما حكم الزواج من بنت خالة الزوجة أثابكم الله؟ الجواب الجمع بين المرأة وبنت خالتها، والمرأة وبنت عمتها فيه خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم. والأقوى والأصح أنه لا حرج في الجمع بين المرأة وبنت عمتها والمرأة وبنت خالتها؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى حرم الجمع بين الأختين، وحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وبقي ما عدا هؤلاء داخلاً في عموم قوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء:24]. ولذلك: فالأصلُ حِلُّه حتى يدل الدليل على التحريم. وعليه فإنه يجوز الجمع بين المرأة وبنت عمها، وبنت خالها، وبنت خالتها، وبنت عمتها، ولا حرج عليه في ذلك. والله تعالى أعلم. تزوج الأم أثناء رضاعها لولدها لا يجعله محرماً لنساء الزوج الثاني السؤال تزوج خالي من امرأة لها ولد وعمره سنة، فدخل بها فأتم هذا الولد مدة الرضاع وهو تحت خالي، هل يعتبر ولداً لخالي من الرضاعة فيجوز لأمي أن تقابله وتصير عمة له أثابكم الله؟ الجواب بالنسبة لهذا الولد الذي أتم مدة الرضاع بعد أن تزوجت أمه، فهو يرتضع من لبن أبيه؛ لأنه فضلة ما أبقى والده سواء كان ميتاً أو حياً طلق أمَّه، فهذا اللبن الذي ارتضعه الولد في السنة الأولى من الزوج الأول واضحٌ أنه أبوه؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك لبن إلا من أبيه؛ فإذا كان هذا اللبن الذي ارتضعه خلال السنة من اللبن الأول الباقي من أبيه فلم يدخل خالك عليه بماء جديد؛ لأنه إنما يكون ولداً لخالك لو حملت من خالك ثم وضعت ثم ارتضع اللبن بعد وضعها من خالك. أما هذا اللبن الموجود فيعتبر للزوج الأول الذي هو والده، وكون خالك عقد على هذه المرأة وهي تُرْضِع هذا الولد، فهذا لا يغير في اللبن شيئاً؛ لأن اللبن للفحل الأول، ولا يؤثر إلا إذا حملت بحمل جديد وولدت منه وثاب اللبن، فإن ثاب لبن من وطء خالك ثم ارتضع اللبن بعد الإنجاب فحينئذٍ هو محرم، وأما إذا لم يرتضع فلم يتغير في الحال شيء، وعقد خالك لا يغير من الحقيقة شيئاً؛ لأن الشرط في الرضاع أن يكون قد ثاب اللبن من مائه، أما إذا ثاب من ماء غيره فهو للأصل وهو والده، والولد أجنبي عن نساء الزوج الثاني، إلا من أمه. والله تعالى أعلم. حرمة حلائل الأبناء من الرضاع كحرمة حلائل الأبناء من النسب السؤال يقول الله تعالى: { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } [النساء:23] هل هذا القيد يُخْرِج حلائلَ الأبناء من الرضاع أم أثابكم الله؟ الجواب قوله تعالى: { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } [النساء:23] المراد به إخراج ما كانت العرب في الجاهلية تفعله من ولد التبني، كان الرجل يتبنى ولداً لغيره ويقول: هذا ابني، فينسب إليه، ويقال: فلان بن فلان، وهذا هو الذي ألغاه الإسلام وحرمه الله عزَّ وجلَّ بقوله: { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [الأحزاب:5]، وأمر المسلمين أن يردوهم إلى الأصل، ومن الظلم للأب الأول أن ينسب ولده إلى غيره. فالآية أخرجت هذا، وأما بالنسبة لمسألة الرضاع، فقد جاءت السنة تدل بعمومها على أن التحريم من الرضاع يُنَزَّل منزلة التحريم من النسب، فكما يسري التحريم من النسب مصاهرةً يسري كذلك رضاعاً. ثم هو من جهة النظر واضح: فإن الابن من الرضاعة بينك وبينه الاغتذاء بلبنك كالابن من النسب، وحينئذٍ تكون موطوءته كموطوءة النسب ولا فرق، ولذلك تجد قوة الرضاعة كقوة النسب، وصريح السنة يقوي ما ذكرناه. والله تعالى أعلم. زوج الخالة أجنبي وإن رضعت ابنته من خالتها السؤال تقول السائلة: ابنة خالتي رضعت من والدتي رضاعةً كاملة دون أن تقوم والدتها بإرضاعي، هل والدها وإخوانها وأبناؤها محارم لي أثابكم الله؟ الجواب بالنسبة لبنت خالك إذا ارتضعت من أمك فإن والدها أجنبي عنك. زوج الخالة أجنبي؛ والسبب في هذا أن رضاعة بنته من أمك لا تقتضي سريان الحكم لكِ إليه، بل يبقى أجنبي، إنما يسري الحكم أنْ لو ارتضعت من الخالة فتكوني بنتاً له من الرضاعة، أما لو جاءت إحدى بناته، أو جاء واحد من أبنائه وارتضع من أمك، فالتحريم يتعلق بهذا الذي ارتضع من أمك، ويبقى زوج الخالة على أجنبيته، ولا يعتبر محرماً بدخول ابنه على الأجانب، فهن أجانب بالنسبة له؛ ولكنهن محارم لابنه. وقد تكون المرأة محرماً للأب ولكنها أجنبية للابن مثل: الربيبة هي محرم للأب لكنها ليست بمحرم لولده. المقصود: أن كون هذه البنت وهي بنت خالتكِ قد ارتضعت من أمكِ، فإنها بنت لأمكِ ولا يسري ذلك إليكِ، فلستِ ببنت للخالة، وإنما أنت بنت للأم، وهذه التي دخلت وهي بنت خالتكِ تعتبر محرماً لإخوانكِ من جهة أبيكِ الذي ارتضَعَتْ من لبنه، ويسري التحريم عليها، أما أبوها فإنه ليس بمحرم لكِ ولا بمحرم لأخواتكِ وإنما هو أجنبي؛ لأن زوج الخالة وزوج العمة يعتبر أجنبياً. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (214) صـــــ(1) إلى صــ(30) شرح زاد المستقنع - باب المواقيت باب المواقيت من الأبواب الهامة التي لابد للحاج والمعتمر من الإلمام بها، فللحج ميقات مكاني وميقات زماني، وأما العمرة فليس لها إلا ميقات مكاني، وأما الزمان فإنها تؤدى في سائر أيام السنة، ويتناول هذا المبحث الكثير من الأحكام والمسائل المتعلقة بالمواقيت، ومنها: صور الإهلال، وكيفية إحرام من مر على الميقات بالطائرة، وحكم من أحرم بعد الميقات وغير ذلك. معنى المواقيت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: يقول رحمه الله: [باب المواقيت]: المواقيت: جَمْع ميقات، وأصله: مِوْقات، ثم أبدلت الواوُ ياءً، فصار ميقاتاً. الميقات مأخوذ من قولهم: أقَّت الشيء يؤقته تأقيتاً إذا حدده، سواء كان الشيء المحدد بالزمان أو بالمكان، فإذا حُدَّ بالزمان فهو مؤقتٌ زماناً، وإذا حُدَّ بالمكان فهو مؤقتٌ مكاناً. مواقيت الحج والعمرة نوعان زمانية ومكانية عبادة الحج لها ميقات زماني وميقات مكاني، وعبادة العمرة لها ميقات مكاني، وأما الزمان فإن العمرة تؤدَّى في سائر أيام السنة ولا كراهة أن تؤدى في أيام التشريق، ولا حرج في ذلك خلافاً لمن قال من السلف إنها تكره. فالعمرة ليس لها حد معين بالنسبة للميقات الزماني ولكن لها ميقات مكاني، وأما بالنسبة للحج فله ميقات زماني وميقات مكاني. والأصل في المواقيت: الكتاب والسنة. فأما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال في الحج: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة:197]. وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى جعل الحج الشرعي في أشهر معلومات، فدل على أنه لا حج في غير هذه الأشهر المعلومات التي أقَّتها الله عزَّ وجلَّ وحددها. وبناءً عليه فإنه يقال: إن الحج يصح في زمان ولا يصح في زمان آخر، وينعقد إحرامه في زمان ولا ينعقد في زمان، وأما بالنسبة للعمرة فإنه ليس لها ميقات زماني، ويدل على ذلك القرآن، فإن الله عزَّ وجلَّ قال: (الْحَجُّ)، ولم يقل: الحج والعمرة، ولذلك أجمعت الأمة على أن العمرة ليس لها ميقات زماني، بمعنى أنه يجوز أداؤها في سائر أيام السنة. وقد كانت العرب في الجاهلية تمنع من العمرة في أشهر الحج، ويعدُّون ذلك من أفجر الفجور، وكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر) وهذه يسمونها: مختلقات العرب في الجاهلية، أو مسائل العرب في الجاهلية التي أحدثوها على الحنيفية وبدلوا بها دين الله عزَّ وجلَّ، فاختلقوا أنه لا يُعْتَمَر في أشهر الحج، وكانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبطل ذلك وبيَّن أن العمرة صالحة في أشهر الحج كما هي صالحة في غير أشهر الحج. وأما بالنسبة للميقات المكاني فهي أمكنة حددها الشرع لا يجوز لمن مَرَّ عليها مريداً الحج أو مريداً العمرة أو مريدهما معاً أن يجاوز هذه الأمكنة إلا وقد أحرم، فهو مؤقت بمكان واحد معين لا يجوز له أن يجاوزه، وهذه المواقيت جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثين في الصحيحين: الأول: حديث عبد الله بن عمر ، والثاني: حديث عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع. يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ). وهو في الصحيح. حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيح: ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن المنازل، وأهل اليمن من يلملم ). فهذان الحديثان أصلٌ في تأقيت وتحديد الحج والعمرة بالمكان؛ حيث لا يجوز لمن مر بهذه المواقيت وعنده نية الحج والعمرة أن يجاوزها إلا وقد أحرم منها. المواقيت المكانية ميقات أهل المدينة ذو الحليفة يقول المصنف عليه رحمة الله: [وميقات أهل المدينة ذو الحليفة] قد تقدم أن للحج والعمرة ميقاتين، الميقات الأول يُسمى بالميقات الزماني، والميقات الثاني يُسمى بالميقات المكاني. وابتدأ المصنف رحمه الله ببيان الميقات المكاني، وهي أماكن حدَّها الشرع لا يجوز لمن أراد الحج أو العمرة أو هما معاً قاصداً إلى مكة أن يُجَاوِز هذه الأمكنة حتى يُحرِم منها، وقد بيَّنت السنة هذه المواقيت، وذلك في حديثين هما أشهر ما وَرَد في المواقيت، حديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، بيَّن فيهما النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت المكانية مفصَّلة. فابتدأ المصنف رحمه الله بميقات أهل المدينة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة )، وهذا حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وحديث عبد الله بن عباس : ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدنية ذا الحليفة ). والحلَيْفَة: واحدة الحَلفَى، وهو نوع من الشجر، والسبب في ذلك أن هذا الوادي -وهو ذو الحليفة- كانت فيه شجرة، أي في وسطه، وقيل إنه كان يكثر فيه هذا النوع من الشجر، وهو الوادي الذي يسمى في المدينة بوادي العقيق، ويسمى في عرف العامة اليوم وادي عُروة؛ لأن عروة بن الزبير رحمه الله كانت له مزارع في هذا الوادي، وهذا الوادي ثبت في الصحيح من حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذا الوادي بكونه مباركاً، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة )، فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فاجتمعت السنة القولية والسنة الفعلية على اعتبار ميقات المدينة وهو ذو الحليفة، وهذا الميقات هو أبعد المواقيت عن مكة، ولذلك يبعد عنها فوق عشر مراحل، وبينه وبين مكة ما لا يقل عن عشرة أيام بسير الإبل في الأزمنة الماضية. ويقع هذا الوادي أو المِهَل الذي أَهَلّ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحذاء جبل عَيْر، فيَحُدُّ هذا الوادي من الجهة الشرقية إلى الجهة الجنوبية جبل عَيْر وهو آخر حدود المدينة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ما بين عير إلى ثور )، فهذا الجبل المعترض وهو جبل عير، يكون طرفه مشرفاً على وادي العقيق وعلى المِهَل مِهَل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يسميه الناس اليوم بأبيار علي. وهذا الميقات أجمع العلماء رحمهم الله على أنه ميقات أهل المدينة، ومن مر من غير أهل المدينة بالمدينة وفي نيته أن يحج أو في نيته أن يعتمر أو في نيته أن يجمع بين الحج والعمرة فيقرنهما معاً؛ أنه يجب عليه أن يهل من المدينة إلا الشامي فلهم فيه تفصيل. ميقات أهل الشام إذا نزلوا المدينة فأهل الشام خلاصة ما يقال فيهم إذا مروا بالمدينة ونزلوا بها كما هو موجود اليوم في الحملات التي تأتي من جهة الشام: أنهم يدخلون المدينة ويصلون بمسجدها، فحينئذٍ يتعين عليهم أن يُحرِموا من المدينة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )، فنصَّ على أن من أتى على هذه المواقيت من غير أهلها أنه يلزمه الإحرام منها. فأهل الشام إذا نزلوا المدينة ومرَّوا بها ولو ساعة فإنه يلزمهم أن يُحرِموا من ميقاتها، وهل إذا مروا بحذاء المدينة ولكنهم لم ينزلوا بها وأخذوا طريق الساحل الذي يُعرف الآن بطريق جدة القديم ولكنهم لم ينزلوا بالمدينة، مثل أن يأخذوا من أطراف المدينة أو من الشوارع التي بأطراف المدينة لكن لا يدخلون المدينة؛ فحينئذٍ ميقاتهم رابغ، والسبب في ذلك أنهم لم يأتوا على الميقات حقيقة فهم مارون بالمدينة وليسوا بنازلين بها حتى يأخذوا حكم أهلها، ولأنهم سيمرُّون بميقات ثانٍ على الطريق هو ميقات لهذا الطريق وهو الذي يسمى بطريق الساحل، فطريق الساحل إذا سُلِك من أهل الشام أو من أهل مصر أو من أهل المغرب فإنهم حينئذٍ يُحرِمون من رابغ، لكنهم إذا نزلوا بالمدينة ولو ساعة أو دخلوا المدينة، فقد وجب عليهم أن يُهلوا من ميقات المدينة ولو كانوا مارين بطريق الساحل. صور الإهلال وبيان أفضلها قال عليه الصلاة والسلام: ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة )، هذا الإهلال يأتي على صورتين، الصورة الأولى وهي الأكمل والأفضل؛ لما اشتملت عليه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، وهي أن تَنْزِل في الوادي وتصنع ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاغتسال، ثم بعد ذلك تصلِّي الفريضة وتهل بعد الفريضة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات، اغتسل وأصبح ينضخ طِيباً بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ثم أَهَلّ بَعْدَ الفريضة، وعلى هذا فالأكمل أن الإنسان يغتسل في الوادي، ثم بعد ذلك يُصلِّي الفريضة وينشئ عمرته أو ينشئ حجه. كذلك أيضاً إذا لم يتيسر له الفرض واغتسل وصلَّى ركعتي الوضوء يُهِل بعدها، وليس للإحرام صلاة مقصودة تُسمى سنة الإحرام، إنما هو يقع بعد الفريضة أو النافلة حتى ولو كانت نافلة مطلقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر في الصحيح: ( أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة )، وفي رواية: ( صلِّ في هذا الوادي المبارك ...)، فاستحبوا أن يقع الإحرام عقب الصلاة، ولا تُشترط صلاة مقصودة. هذا الأكمل والأفضل، ويكون الإهلال والنية والإنسان جالس في مصلاه، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما. أما الصورة الثانية وهي صورة الإجزاء، فهي أن تمر بالوادي مروراً وتقول: لبيك حجاً، لبيك عمرة، ولا يُشترط النزول وليس بلازم ولا واجب، بحيث نقول لا بد وأن تنزل إلى الوادي ثم تحرِم، فلو مررت بمحاذاة الميقات وقلت: لبيك عمرة، لبيك حجاً؛ فقد انعَقَد إحرامك وصح، لكن فاتك الأفضل والأكمل الذي هو التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا إن تيسر لك النزول نزلت وإذا لم يتيسر لك النزول فحينئذٍ تعتبر المحاذاة. كيفية إحرام من مر على الميقات بالطائرة بقيت مسألة وهي مسألة الطائرة، إذا كان الشخص مسافراً بالطائرة من المدينة إلى جدة وهو محرِم بالحج أو العمرة أو بهما معاً، أو سافر من أي صقع من الأصقاع وهو يريد أن يصل إلى جدة، وهي ليست بميقات، وعلى هذا فإنه من أَحرم منها لا يُحرِم منها إلا إذا كانت نيته مبتدَأَة في جدة، أما إذا كان قد قدم على جدة وهو في نيته أن يحج ويعتمر فيعتبر المواقيت التي ذكرناها. فمن مر بالطائرة على الميقات فإنه لا يستطيع النزول فحينئذٍ بمجرد محاذاته للميقات يُلبِّي وينوي ويصح منه ذلك ويجزيه، فإذا لم يمكنه أن يطلع ولا يعرف الأماكن، فيحسِب بالزمان، فيكون له التقدير الزماني، ففي المدينة يكون إقلاعها على حالتين، في حالة يكون الإقلاع والطائرة متجهة إلى جدة فتكون المسافة قصيرة جداً، بمجرد إقلاعها لا تأخذ إلا في حدود دقيقة أو أقل من دقيقة أو دقيقة ونصف حتى يحاذي الإنسان أبيار علي، لكن إذا كان -مثلاً- إقلاعها على الجهة التي هي خلاف جهة مكة أو جهة القبلة؛ فإنها تأخذ وقتاً حتى تعتدل وتأخذ مسارها، وحينئذٍ قد تصل -كما يقول بعض المختصين- إلى ثلاث دقائق، فهذا لا بد من ضبطه و معرفته على حسب المواقيت ولا يختص بالمدينة. فإذاً عندنا صورتان، الصورة الأولى: أن يتمكن الإنسان من النزول في الوادي وإصابة سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيغتسل ويتنظف ويتطيب تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلي الركعتين ثم بعد ذلك يحرم، وإن كانت فريضة فإنه يحرم عقب الفريضة. ولا حاجة بعد الفريضة أن يصلي ركعتين لكي يَحرِم بعدها، بل إنه إذا فعل ذلك خالف السنة؛ لأن السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بعد الفريضة، وبعض العوام يفعل هذا الجهل، فإنهم يصلون الفريضة ثم بعد الفريضة تجدهم يقومون لركعتين لينشئوا الإحرام، وهذا مُصادِم للسنة تماماً، فإن الأفضل والأكمل أن يقع إحرامه في هذه الحالة بعد الفريضة مباشرة. وأما الإجزاء فإنه بمجرد مروره على الوادي يُحرِم . حكم من خالف في الإحرام من الميقات المسألة الثانية: عرفنا الآن أن الشخص يحرم من الميقات كمالاً وإجزاءً بقيت مسألة فرضية وهي: هل يُحرِم قبل الميقات أو من الميقات؟ أما إحرامه قبل الميقات فإنه خلاف الأفضل، فالأفضل والأكمل أن يُحرِم من الميقات، فلو اغتسل وتطيب في المدينة ولبس الإحرام ولبَّى، فللعلماء وجهان: بعضهم يقول إنه أفضل؛ لأنه سيكون تعبه أكثر، والقاعدة في الشرع أن ما كان تعبه أكثر فأجره أعظم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: ( ثوابكِ على قدر نصبكِ )، فهذا سيتعب أكثر؛ لأنه سيكون مانعاً نفسه من محظورات الإحرام من أكثر من سبعة أو ثمانية كيلو تقريباً قبل الميقات، هذه المسافة تقرَّب فيها إلى الله بطاعة زائدة فقالوا: هذا أفضل، وكما لو أَحرَم من مكانٍ أبعد من المواقيت الأُخَر، كأن يحرم -مثلاً- من الرياض، فإنه إذا أحرم من الرياض قبل ميقاته وهو قرن المنازل لاشك أنه ستمضي عليه مئات الكيلو مترات وهو متلبِّس بالطاعة والنسك، قالوا: فهذا أفضل. والصحيح ما ذهب إليه طائفة من السلف أن الأفضل والأكمل أن يؤخر إلى الميقات، وأن من أحرم قبل الميقات فإنه لا يُعتبر مصيباً للسنة، فالسنة والأكمل والأفضل أن يكون من الميقات. ولذلك سئل الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمة الله عليه، قال له رجل: يا أبا عبد الله إني أريد أن أحرم من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له الإمام مالك رحمة الله عليه: لا تفعل، فقال: إني أريد أن أفعل، قال: لا تفعل، قال: ولم رحمك الله؟ قال: إني أخاف عليك الفتنة، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات، وإنك إن أحرمت من المسجد خالفتَ أو ظننتَ أنك أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } [النور:63]. فلا شك أن كون النبي صلى الله عليه وسلم يُؤخِّر إحرامه إلى الميقات يدل دلالة واضحة على أن الأفضل والأكمل أن يحرم من الميقات. إذا قلنا: أن الأفضل والأكمل أن يُحرِم من الميقات، فلو لبَّى قبل الميقات وعَقَدَ إحرامه؛ فإنه قد دخل في النسك، ويُعتبر حينئذٍ متلبساً بالنسك وعليه ما على مَن أحرم ويمتنع من المحذورات، فإن مر بالميقات جدد النية. حكم من أحرم بعد الميقات ما هو حكم الإحرام بعد الميقات؟ الإحرام بعد الميقات -سواء ميقات المدينة أو غيره من المواقيت- يُعتبر خلاف الشرع، فيَأثم من قصده. فلو أن إنساناً تعمَّد وهو من المدينة وقال: لا أريد أن أحرم من ميقات المدينة وأخَّر إلى جدة، فإنه يأثم؛ لأنه خالَف الشرع وعصى، ثم يلزمه دم جبران لهذا النقص، وهذا الدم سيأتي إن شاء الله بيانه ودليله، وفتوى جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة رحمة الله عليهم به، ووجه استنباط حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه له من كتاب الله عز وجل وعمل الأئمة في فتاويهم به. هذا الدم جبران للنقص، وحينئذٍ من جاوز الميقات لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تعقد النية وتصمم وتمضي فتحرِم من بعد الميقات ولو بكيلو واحد أو بنصف كيلو، فحينئذٍ يلزمك الدم الذي ذكرناه ويُعتبر إخلالاً بالنسك كما ذكرناه. الحالة الثانية: أن يتذكر الإنسان كأن يكون ناسياً، أو يتعمد مجاوزة الميقات فلا يلبِّي ولا ينوي، فيلزمه أن يرجع، فإن رجع إلى الميقات ونوى من الميقات سقط عنه الدم، وحينئذٍ يُعتبر متلافياً للإخلال ولا شيء عليه. إذاً هناك حالتان لمن جاوز الميقات: إما أن يستمر وينوي بعد الميقات ولو بيسير، فعليه الدم ويُعتبر آثماً بتعمده، وإما أن يتدارك ويرجع، فإن رجع وتدارك سقط عنه الدم. ميقات من كان دون المواقيت بقي السؤال في ميقات المدينة الموجود الآن، فخط الهجرة يَمُر بالمدينة ثم يمر بقرى دون ميقات المدينة كاليُتَمَة، ووادي الفرع، والمهْد ونحو هذه القرى؛ فهل يُحرِمون بمحاذاة رابغ، ويُعتَبرون بالميقات الأدنى أو يعتبرون دون المدينة لأنهم في سمت المدينة؟ الجواب أنهم يُعتبرون دون المدينة، فمن كان من أهل اليُتَمة وأراد الإحرام فإحرامه من اليُتَمَة نفسها ولا يُحرِم من دون اليتمة بمحاذاة رابغ، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ )، والإشارة راجعة إلى المواقيت، فالذي يكون في المهْد أو يكون في اليُتَمَة أو يكون في وادي الفرع فليُحرِم من مكانِه، ولو أنه في وادي ريم والذي يبعد عن المدينة قرابة ستين كيلو فإنه يُحرِم من وادي ريم، وقد دل على ذلك فعل السلف الصالح فإن ابن عمر رضي الله عنهما وهو راوي حديث المواقيت كانت له مزرعة بوادي الفرع، فلما أراد الحج أنشأ النية منها، فأَحرم من وادي الفرع ولم يؤخر إلى محاذاة رابغ، فالتأخير إلى محاذاة رابغ خطأ بالنسبة لهؤلاء. لكن الذين هم على الساحل مثل أهل بدر ومثل القرى التي يكون مرورها بطريق الساحل، فإنهم دون ميقات المدينة لكن طريقهم على طريق الساحل، فهؤلاء ميقاتهم ما يُقدِمون عليه -رابغ- وإن أحرموا من موضعهم كأهل بدر يحرمون من بدر، وأهل الروحاء يحرمون من الروحاء فهذا حسن وأفضل، لكن لو أن البدري أو من بالروحاء يريد أن يمر عن طريق خط الهجرة الموجود الآن؛ فإنه يدخل بمحاذاة سمت المدينة فيحرم من موضعه، مثل أن يُحرِم من بدر، لأنه سيكون دون ميقات المدينة من بلده. هذا حاصل ما يقال بالنسبة لميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة، قال بعض العلماء: إنه أفضل المواقيت وفضله من جهة كونه أبعد، ولا شك أن الأبعد أكثر عناءً وأكثر نصباً وأكثر تعباً، والقاعدة أن الأكثر تعباً يُعتبر أعظم أجراً، وهذا لقوله عليه الصلاة والسلام: ( ثوابكِ على قدر نصبكِ )، فعلى هذا قالوا إنه أفضل، ولأن الله عز وجل اختاره لنبيه فهو أبعد المواقيت عن مكة، وقد أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ميقات أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة قال رحمه الله: [وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة]. وميقات أهل الشام وأهل مصر والمغرب الجحفة. والجُحْفَة مأخوذة من قولهم: اجْتَحَفَ السيلُ القريةَ إذا أخذها بما فيها من بناءٍ ومن ماشيةٍ ومن زرع ونحو ذلك. سُمِّيَت بذلك لأنها كان بها قوم عصاة فأرسل الله عليهم السيل فاجتَحَفَهُم عن بكرة أبيهم -والعياذ بالله- إلى البحر فأغرقهم الله عز وجل فسميت الجحفة، وهذا الموضع كان معروفاً إلى ما قبل الإسلام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة كانت المدينة فيها الحمَّى وهي التي تُسمى اليوم في عصرنا بالملاريا، كانت وبيئة والسبب في ذلك السيول التي تحيط بها والمستنقعات بها كثيرة، قالت أم المؤمنين عائشة : ( قدمنا المدينة وبطحان نجلا ) يعني كالمستنقعات، فلكثرة المياه فيها كانت وخيمة ووبيئة، فلمَّا قدم الصحابة على المدينة أصابتهم الحمى واستضر بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر و بلال وقصتهم في الصحيحين مشهورة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وهم يَحِنُّون إلى مكة فقال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد )، أي: وأشد؛ لأن أو بمعنى الواو، كقوله تعالى: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [النجم:9]، أي: وأدنى، { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات:147]، أي: ويزيدون، فقال: ( حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد )، فاستُجِيبت دعوته عليه الصلاة والسلام وإلا لقد كانت المدينة لا تُطَاق لا ينزل بها أحد إلا أصابته حُمَّى. ولذلك العرب في الجاهلية كانوا يسافرون بالعير إلى الشام فإذا قدموا من الشام ينهق كما ينهق الحمار وذلك خوفاً من حمى يثرب، كما أشار إلى ذلك بعض الفضلاء بقوله: واختلقوا التعشير أن يُعشَّر من النهيق بحذاء خيبراً واختلقوا يعني أهل الجاهلية وهي من المسائل التي أحدثوها. فكانوا يخافون من حُمَّى المدينة فيظنون ويعتقدون أن هذا النهيق يَعصِم صاحبه من حُمَّى المدينة، وهي من أمور الجاهلية التي كانوا يحدثونها، فكانت معروفة بالوباء، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الوباء إلى الجحفة، فالشاهد أنه لما نقل الوباء إلى الجحفة امتنع الناس منها -ولا تزال خربة- خشية أن يُصيب الإنسان الحمى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أن يُنقل الوباء إليها، وأصبح الناس يُحرِمُون من رابغ بحذاء الجحفة، ولذلك إذا سمعت الجحفة أو رابغ فالمعنى واحد والخطب يسير، إنما هو ميقات معدول به خوف الوباء، فالجحفة هو ميقات أهل الشام وميقات أهل مصر والمغرب. سبب تفريق العلماء بين من سلك طريق الساحل ومن لم يسلكه والسبب في ذلك أنه قبل شق قناة السويس كان حجاج أفريقيا وبلاد المغرب وبلاد الأندلس يأتون على مصر، ومن مصر يأتون من جهة العقبة على شمال المملكة، ثم يأخذون طريقاً يُسمى بطريق الساحل كان مَسْلكاً للتجارة والعير فيمرُّون برابغ ومنها يفيضون إلى قُدَيْد، ثم إلى عسفان، ثم إلى مكة، فهذا طريق في القديم فجُعِل ميقاتهم الجحفة، وهذا الذي جعل العلماء يفرقون بين من سلك طريق الساحل ومن سلك طريق غير الساحل، فأصبح من يسلك طريق الساحل كأنه يخرج عن حدود ميقات المدينة ويصبح كأنه صار في حكم الشامي والمصري الذي يَقدُم من الشام أو مصر، وحينئذٍ يكون ميقاتهم الجحفة، وهذا الميقات هو الذي يلي ميقات المدينة في البُعد عن مكة، وهو يبعد فوق مائتي كيلو عن مكة، وهذا الميقات ميقات من ذكرنا، وأشار إليه المصنف لحديث عبد الله بن عباس قال: ( ولأهل الشام الجحفة )، وقال في حديث ابن عمر : ( وأهل الشام من الجحفة )، أي: ويهل أهل الشام من الجحفة. ميقات أهل اليمن وميقات نجد قال رحمه الله: [وأهل اليمن يلملم]. أهل اليمن ميقاتهم يَلََمْلَم، وهي التي تسمى اليوم بالسعدية، وتبعد عن مكة مرحلتين، وهذا الميقات نصّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولأهل اليمن يلملم )، وهو ميقات في حكم ميقات قرن المنازل. من المواقيت الباقية قرن المنازل التي تسمى بالسَّيل الكبير، وذات عِرق، ويلملم، هذه الثلاثة المواقيت متقاربة في البعد؛ ولذلك تكون في حكم الميقات المتقارب، لكنها اختلفت في الجهات. خطأ بعض المعاصرين في جعل جدة ميقاتاً وبسبب قرب هذه المواقيت أخطأ بعض المعاصرين فجعل جدة ميقاتاً؛ لأنه سَامَت بها يلملم وسَامَت بها السيل الكبير فقال: إن المسافة واحدة فمن نزل بجدة فإنه يحرم منها؛ وهذا خطأ فاحش، فليست جدة بميقات لأن جدة كانت معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما سئِل ابن عباس عن قصر الصلاة إلى الجموم قال: (لا. ولكن إلى جدة وعسفان والطائف)، فجدة ليست بميقات ولذلك لم يسمِّها النبي صلى الله عليه وسلم ميقاتاً. والسبب الذي جعل بعض المتأخرين يقول إن جدة ميقات كما هو موجود عند بعض متأخري الحنفية هو وَهَمٌ وَقَع في بعض كتب المتقدمين من الحنفية، فإنهم ذكروا أن من قدم من البحر فميقاته من طرف جدة، وذلك إذا سامَت البحر قدر ما يَبْعُد عن مكة مثل بُعد الجحفة، وهم يريدون بذلك أن يُحرِم وهو في داخل البحر، مقدِّراً مسافة تساوي في بعدها الجحفة. فإذا كان قادماً من إفريقيا عن طريق البحر الأحمر، فحينئذٍ يُقدِّر المسافة التي هي في مثل بُعْد الجحفة من مكة، فيزيد عن بُعد جدة ما فَضَل من الفرق، فلو كان -مثلاً- بُعْد جدة يصل إلى خمسة وسبعين كيلو، وكانت الجحفة تَبْعُد مائتي كيلو؛ فتَحسِب مائة وخمسة وعشرين كيلو في البحر حتى تُسَامِت الجحفة، وهذا هو الذي عُنِي، وهو من باب الرأي والاجتهاد. فهذا معنى قولهم: غربي جدة -في بعض كتب الحنفية- أي: من داخل البحر في الغرب، بحيث يقدِّر مسافة قبل وصول الباخرة والسفينة إلى الميقات بقدر بُعْدَ المراحل الموجودة في الجحفة، وهذا يسمونه ميقات السَّمْت. أما القول بأن جدة ميقات فهو قول يخالف النصوص، فليست جدة بذاتها ميقاتاً. وعلى ذلك الفتوى قديماً وحديثاً، ولا زال علماؤنا ومشايخنا نسأل الله أن يحفظهم ويرعاهم يفتون أن جدة ليست بميقات، وهو الذي أدركنا عليه أهل العلم. وعلى هذا يمكن أن تكون ميقاتاً بالمحاذاة، وذلك إذا كان في عَرْض البحر، وقَدَّر مسافةً تُسَامِت الجحفة؛ لأنه في بعض الأحيان لا يتيسر لمن كان في البحر أن يُسامِت الجُحفة، كأن يأتي ولا يمكنه أن يُسَامِت الجحفة بالعرض، فإذا استطاع أن يسامت جدة مباشرة، مثل أن يأتي من شاطئ مِصر فيُقَدَّر المسافة الموجودة وهو في عَرْض البحر حتى يسامِت البُعْد الموجود في الجحفة عن مكة، فإذا كان بنفس السمت الموجودة فيه الجحفة فحينئذٍ يُحرِم. على هذا يتخرج أنه لو كانت الطائرة لا تمر بالجحفة، فعليه أن يُقَدِّر المسافة الزمنية التي تقطع بها المسافة المكانية التي يكون بها في حدود المواقيت، أعني ميقات الجحفة، فحينئذٍ له أن يُحرِم. قال المصنف: [وأهل نجد قرن، وأهل المشرق ذات عرق] ولأهل نجد قرن المنازل، وهذا الميقات نَصَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يُعرَف الآن بالسيل الكبير، فهذا الميقات ميقات أهل نجد، ومن جاء من المشرق كأهل خراسان وبخارى وسمرقند ونحوهم، كل هؤلاء كانوا في القديم يقدُمُون من جهة الشرق ويكون ميقاتهم هذا الميقات، ويكون في حكمها ذات عِرْق. قرن المنازل وذات عرق سمتها واحد وبعدها متقارب وذات عرقٍ ميقات يسامت ميقات قرن المنازل، فقرن المنازل وذات عرق هي الضريبة سمتها واحد وبُعْدُها متقارب، وثَبَت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه وَقَّتَها، واختلف العلماء هل عمر هو الذي وَقَّتها أو النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّتها. وسُئِل عمر عن ميقات يُسامِت السيل الكبير الذي هو قرن المنازل، فوقَّت لهم ذات عرق، فوافق اجتهاده سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كان رضي الله عنه وأرضاه محدَّثاً مُلْهَماً، فالصحيح أن ذات عرق تُعتبر ميقاتاً مؤقتاً من النبي صلى الله عليه وسلم وليس باجتهاد من عمر ؛ لأن الحديث صحيح في توقيته عليه الصلاة والسلام لأهل المشرق ذات عرق. الانتقال من الميقات الأقرب إلى الأبعد والعكس قال: [وهي لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم]. لو أن رجلاً من أهل المدينة سافر إلى الرياض وهو يريد الحج فلا يخلو من حالتين: إن مضى من الرياض إلى مكة فميقاته قرن المنازل، فيحرم من قرن المنازل، ويُعتبر آخذاً حكم أهلها. وأما إذا كان يريد أن يرجع إلى المدينة فميقاته ميقات المدينة. ولو أن رجلاً من أهل الرياض أراد أن يسافر إلى الحج ولكن قال: أريد أن أذهب إلى المدينة ثم أحج؛ فحينئذٍ سفرته الأولى تمحَّضت إلى غير النسك فلا يلزمه أن يُحرِم من قرن المنازل وإنما يؤخِّر إلى أن يذهب إلى المدينة فيُحرِم من المدينة. لو كان ماراً على قرن المنازل وهو يريد المدينة: كأن ينزل من الرياض إلى الطائف ومن الطائف إلى المدينة؛ فحينئذٍ يكون ميقاته ميقات أهل المدينة. فله سفران: السفر الأول: تمحض إلى المدينة قَصْداً وليس بسفر النُّسك، وقَصَد به موضعاً آفاقياً خارجاً عن المواقيت؛ فأصبحت سفرة ليست للنسك بذاتها، أي ليست هذه السفرة آخذة حكم من مَرَّ بقرن المنازل حتى يُلزَم بالإحرام من قرن المنازل، فلا يلزمه إذا مر بالسيل الكبير أن يُحرِم، وإنما يتأخر إلى أن يأتي المدينة ثم يُحرِم، هذا يسمونه الانتقال من الأقرب للأبعد ولا إشكال فيه؛ لأنه لو انتقل إلى المدينة فسيُحصِّل المسافة التي في ميقاته وزيادة. لكن الإشكال لو أن طالباً يدرس في المدينة وأراد أن يسافر إلى أهله في الطائف، وعنده نية أن يحج هذه السنة، فحينئذٍ أراد أن يقصد إلى الطائف، ومن الطائف يريد أن ينزل إلى مكة، أو كان يريد مثلاً تَرَبَة أو يريد موضعاً بعد الطائف؛ فحينئذٍ نقول له: لك أن تسافر إلى أهلك ولا يلزمك ميقات المدينة؛ لأنه سيسافر إلى أُفُق وليست سفرته الأولى متمحضة للنسك، وإنما هي لخارج المواقيت. ومن سافر السفرة الأولى لخارج المواقيت فلا يلزمه أن يحرم من الميقات الذي يمر عليه، فيؤخِّر إلى أن يأتي الطائف لأنه في حِل وليس في حدود المواقيت، فإذا جاء إلى الطائف أَحرَم من ميقات أهل الطائف، وحينئذٍ يكون منتقلاً من الأبعد إلى ما هو أدنى. وهكذا لو كان في رابغ وأراد أن يسافر إلى المدينة ثم يحج فنقول له: أخِّر إِحرامك بالنسك إلى وصولك للمدينة حتى تأخذ حكم أهلها. والعكس لو أن طالباً يدرس في المدينة وعنده نية أن يحج، ولكن قال: أُرِيد أن أمر على أهلي بينبع أو أريد أن أمر على حاجة لي في ينبع، فحينئذٍ تمحض سفره إلى مكان هو من الأفق وخارج عن حدود المواقيت، وسفرته هذه ليست بسفرة النسك أصلاً، فحينئذٍ يكون ميقاته ميقات أهل الساحل ويُحرِم من رابغ؛ لأنه خرج عن حدود المواقيت فلم يأخذ حكم أهلها . ميقات من كان دون الميقات أو آفاقياً أو في حرم مكة قال رحمه الله: [ومن حج من أهل مكة فمنها وعمرته من الحل]. عندنا ثلاثة أنواع، النوع الأول: يسمى الآفاقي ومن كان في حكم الآفاقي، وهذا هو الذي يكون من حدود المواقيت فما فوق في الأصل، وفي حكمه من هو دون المواقيت لكن نعتبره نوعاً مستقلاً. والنوع الثالث: من كان من أهل مكة، فهؤلاء ثلاثة أنواع: - أن يكون فوق المواقيت. - أن يكون دون المواقيت وقبل مكة ولو بيسير كأهل النّوَارِية مثلاً. - الثالث أن يكون داخل حدود الحرم ومكة ويكون من أهلها. فأما بالنسبة للنوع الأول، وهم الذين يكونون في حدود المواقيت فما فوق فيلتزمون بالمواقيت والحكم على حسب الميقات الذي يمرون به. النوع الثاني من كان دون المواقيت، خارج حدود الحرم فيُحرِم من موضِعه، فيحرم أهل النوارية من النوارية، وأهل عُسفان من عُسفان، وأهل خُليص من خُليص، وأهل قديد من قديد، وقِس على هذا؛ فإنهم يَعتبرون المكان الذي هم فيه ميقاتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الثلاثة الأنواع. قال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس : ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أَتَى عليهن من غير أهلهن ). (فمن كان دون ذلك)، هذا النوع الثاني، (فمن حيث أنشأ)، ومن كان دون ذلك فينقسمون إلى قسمين: من كان ساكناً دون المواقيت كأهل قديد وعُسفان وخُليص والنُّوارية، فيُحرِمون من موضعهم. والنوع الثاني من هؤلاء: مَن كان مُنشِئاً النية -طرَأَت عليه النية- وهو دون المواقيت كرجلٍ خرج من المدينة لغرضٍ له في جدة، وهو لا يريد الحج ولا يريد العمرة، فخرج إلى جدة وهو يريد -مثلاً- معاملة له في جدة، أو رحماً يصله، أو والدين يبرهما، فلما وصل إلى جدة وجد الوقت متسعاً فقال: لو أني اعتمرت، أو قويت نفسه وعزيمته على الحج فقال: لو أني حججت، فطرأت له النية فيكون في حكم من كان دون المواقيت. فإذاً الذي دون المواقيت ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون ساكناً دون المواقيت ويحرم من موضعه فلا إشكال، وإما أن يكون شخصاً طرأت عليه النية وهو دون المواقيت؛ فحينئذٍ نقول له: حيث طرأت عليك النية يَلزَمك الإحرام. بناءً عليه أهل جدة يكون إحرامهم إذا أحرموا من المكان الذي أنْشَئُوا فيه، ولا يؤخِّرون إلى طرف جدة كما يفعله بعض العامة اليوم، حيث يؤخرون إلى المحطات التي تكون خارج جدة، ومن فعل فإنه يلزمه الدم. قال بعض العلماء : لو أنشأها في بيته لا يخرج من بيته إلا وهو مُحرِم، ولو أنشأها من مسجد فإنه لا يخرج من ذلك المسجد حتى يحرم، فيغتسل ويتهيَّأ وينوي من ذلك الموضع، ولا يؤخِّر إلا إذا كان سيذهب إلى بيته وهو أبعد، كأن يكون المسجد مثلاً في طرف جدة من جهة مكة وبيته في داخل جدة، حينئذٍ يذهب إلى بيته ويغتسل؛ لأنه ينتقل إلى أبعد ولا حرج. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (215) صـــــ(1) إلى صــ(30) لكن لو أنه أنشأ النية وهو في مسجد -مثلاً- في طرف جدة من جهة المدينة، وبيته في طرف جدة من جهة مكة؛ فأراد أن يقترب وهو يأخذ بعض الأحيان عشرة كيلو وهو ناوٍ للنسك غيرَ مُحرِم به؛ فلا يصح له أن يعقد النية من الطرف الأدنى وقد انعقدت نيته من الطرف الأبعد، لأن السنة نصَّت وقالت: (إحرامه من حيث أنشأ)، وهذا يدل على التأقيت بالموضِع، وأنه لا يجوز له أن يجاوز ذلك الموضع إلى موضع أدنى منه، وأَنَّ من خرج إلى المحطات التي هي خارج جدة؛ يُعتبر مجاوزاً لميقاته ويَلزَمه ما يَلزَم المجاوز لميقاته ولو كان بفرق كيلو واحد بل ولو بنصف كيلو؛ لأنه حينئذٍ خالف النص الذي قيده بالموضِع: (فإحرامه من حيث أنشأ). بقي النوع الثالث: وهم أهل مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( حتى أهل مكة من مكة )، أي: حتى أهل مكة تكون نيتهم وإحرامهم من مكة، هذا في الحج، وجاء ما يُبَيِّن الحكم في العمرة وذلك بأمره عليه الصلاة والسلام لـ عائشة أن تخرج إلى الحل، ولذلك تقول عائشة في الرواية عنها: (والله ما ذكر التنعيم ولا غيره)، ولكنها طلَبَت التنعيم لأنه أرفق بها، والأصل أنه يخرج إلى أدنى الحل حتى يجمع بين الحِل والحَرَم. وبناءً على حديث عائشة أنت بين أمرين: إما أن تقول عائشة من أهل المدينة وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تخرج إلى الحل، فيكون دليلاً على أن أهل المدينة يجوز لهم أن يتركوا ذا الحليفة وأن يحرموا من طرف مكة وأن يدخلوا مكة مُحرِمين، وهذا لا قائل به وهو خلاف السنة، فإما أن تقول إن عائشة آفاقية، وإما أن تقول إنها مَكِّية، وليس هناك فرضٌ ثالث، فأصبَحت إما مَكِّية وإما آفاقية. فلما أَمَرها أن تخرُج إلى الحِل فهِمْنا من هذا أن العمرة يُجمع فيها بين الحل والحرم، بخلاف الحج فإنه لو أحرم من الحرم سيخرُج إلى عرَفات، وهي خارج حدود الحرم فيجمع بين الحل والحرم في نُسُكه. فالحج يكون إحرامه من حيث أنشأه، واستُثْنِيَت العمرة لورود النص عنه عليه الصلاة والسلام في عائشة تنبيهاً من الشَّرع. ولذلك يقول بعض العلماء: لولا حديث عائشة لأشكل الأمر في عمرة المكي -هذا على القول بأن المكِّي لا يعتمر-؛ لأنه لو كان يُحرِم من مكانه وموضعه كان الأفضل له أن يطوف بالبيت، وهذا الذي جعل بعض علماء السلف كـ عطاء وغيره لا يرى لأهل مكة أن يعتمروا؛ لأنهم يرون أن عمرتهم أن يطوفوا بالبيت؛ لأنه إذا كان يُحرِم من نفس مكة فالأفضل بدل أن يذهب إلى بيته وأن ينوي من بيته ويرجع هذه الخطوات، الأفضل أن يقضيها وهو يطوف بالبيت. ولذلك قال: لا أدري هؤلاء الذين يذهبون إلى التنعيم -يعني يتكلَّفون الذهاب إلى التنعيم والخُطَى إلى التنعيم- هلا جعلوا هذه الخطى في الطواف بالبيت! فهذا أفضل وأكمل؛ لأن المقصود من العمرة أن يزور البيت وأن يطوف بالبيت. فهذا هو وجه تشديد بعض السلف في عمرة المكي، وهو يَقْوَى على مَذْهَب من يقول إن المكي يُحرِم من نفس موضعه من مكة، وهو قولٌ ضعيف، لكن لما أَلحَّت عائشة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم -وكان لا يرد سائلاً سأله بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أَذِن لها، وهذا الإلحاح من عائشة كان فيه خير للمسلمين، فقد بَتّ في هذه المسألة، وبيَّن أن المكِّي إن نوى العمرة فإنه ينويها من الحِل، ولو قلنا: إن المكِّي لا يعتمر فإنه قد يعتمر ويُشرع له أن يعتمر، كأن يريد أن يعتمر عن أبيه؛ لأنه حينئذٍ يخرج إلى الحل. فحتى عند من يقول إن المكي لا يعتمر فقد تكون عمرة عن الغير، فيُحتَاج إلى أن يُعرَف ما ميقاته، فهو يقول: لولا حديث عائشة لأشكل الأمر. يعني: كيف أن المكي يُحرِم من موضعه، فيستوي حينئذٍ هو والطائف، فيمكن أي شخص وهو يطوف بالبيت أن ينويها عمرة وهو مكي. ولكن لما جاء حديث عائشة وأمرها أن تنزِل إلى حدود الحِل؛ دلّ على أن المكِّي في عمرته لا بد أن يجمع بين الحِل والحرم، كما أنه في نسك الحج قد جمع بين الحل والحرم. فهذا بالنسبة للثلاثة الأنواع، من كان آفاقياً، ومن كان دون المواقيت وليس من أهل مكة، ومن كان داخلاً في حدود حرم مكة. يستوي في المكي أن يكون من أهل المساكن -هذا في القديم- أو ضواحي مكة التي لا تخرج عن حدود الحرم، لأنه في القديم كان هناك المساكن، وهي مكة القديمة التي هي بمساكنها، وكان الإنسان إذا وصل إلى قبور المعلاه لم يجد مساكن، ويبدأ في مُنْقَطَع الطريق، ولذلك يقولون: أهل مكة ومن في حكمهم ممن هم داخل الحرم. أما يومنا هذا تكاد تكون مكة ممتلئة، ولهذا يقول العلماء أهل مكة وذي طِوى، وهو الوادي المعروف الذي يسمى الآن بالزاهر، فهذا الوادي كان قديماً فيه زروع ومساكن فكانوا يقولون: أهل مكة ومن في حكمهم ممن هم داخل حدود الحرم . ميقات الحج الزماني وأحكامه قال رحمه الله: [وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة]. بعد أن فرغ رحمه الله من بيان ميقات الحج المكاني، شَرَع في بيان ميقات الحج الزماني، وميقات الحج الزماني دلّ عليه الكتاب في قوله سبحانه: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [البقرة:197]، وحَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداءً، فقال عليه الصلاة والسلام : ( من صلَّى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا )، وهذا في يوم عيد الأضحى صبيحة يوم النحر، فقوله: ( من صلى صلاتنا هذه )، يعني بمزدلفة ( ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه )، فكأنه جعل ميقات الزمان ينتهي بطلوع الفجر من صبيحة اليوم العاشر، وفي الحقيقة عشرٌ من ذي الحجة ليست بكاملها داخلة في الميقات؛ لأنه لو أحرم بعد طلوع الفجر الصادق في يوم العيد لم يصح إحرامه بالحج. وهكذا لو أَحْرَم ولكن لم يدرك الوقوف بعرفة لحظةً قبل طلوع الفجر من صبيحة يوم النحر، فحينئذٍ يتحلَّل بعمرة ويقضي حجه من العام القادم، وعليه دم كما هو قضاء عمر في هبّار بن الأسود لما فاته الحج. الشاهد أن هذا الميقات ميقات زماني، وتعبير الفقهاء بذكر عشر من ذي الحجة ليس المراد أنه يمكن أن ينوي الحج في اليوم العاشر؛ لأنه لا يتأتى منه ذلك، لكن هذا من دِقَّة العلماء رحمة الله عليهم. فإنه ينتهي اليوم التاسع -يوم عرفة- بمغيب الشمس، فالأصل أن تسع من ذي الحجة تنتهي بمغيب الشمس، لكن لما مَدَّ الشَّرع الموقِف إلى طلوع الفجر دخل اليوم العاشر؛ لكن لم يدخل بكماله، وإنما دخل بصورة مؤقتة محددة معروفة معهودة. فكذلك يقولون: وعشرٌ من ذي الحجة، على سبيل التنبيه على ليلة النحر أنها داخلة في الإحرام فيجوز لك أن تُحرِم وأن تقف بعرفة وتكون مدركاً للحج، لا أن العَشر بتمامها وكمالها تُعتبر محلاً للنُّسُك، فهذا لا يقول به أحد. لو جاء صبيحة يوم العيد بعد طلوع الفجر وقال: لبيك حجاً لم ينعقد حجه، وهل تنقلب عمرة أو يَفْسُد إحرامه؟ وجهان مشهوران عند العلماء رحمة الله عليهم إذا لم يكن الزمان زمان حج. لكن قالوا: عشرٌ من ذي الحجة، لأن كل يوم عشيته في الليلة التي تسبقه. فاليوم تسبقه ليلته ثم بعد ذلك النهار، ولكن في يوم عرفة يكون العكس، حيث يكون النهار ثم بعد ذلك عشية عرفة، وهذا الذي دعا بعض العلماء أن يقول: رمي الجمار يستمر في أيام التشريق إلى طلوع الفجر، فسَحَب الليالي فجعل ليلة الحادي عشر لما بعد، لأن ليلة النحر تكون في ليلة التاسع حكماً، ولذلك صَحّ فيها الإحرام، ثم في يوم العيد ترمى جمرة العقبة إلى طلوع الفجر من صبيحة الحادي عشر وحينئذٍ كأنك سحبت ليلة الحادي عشر إلى العاشر، ثم تسحب ليلة الثاني عشر للحادي عشر، وتسحب ليلة الثالث عشر للثاني عشر، هذا بالنسبة لمن يقول بأن الرمي يستمر إلى طلوع الفجر، فكأنهم رأوا أن استمرار الوقوف إلى طلوع الفجر صبيحة يوم النحر يقوي هذا، وهذا هو السر في قول العلماء وعشرٌ من ذي الحجة فهذا بالنسبة لابتداء الحج. وانتهاء الحج له ميقات آخر: شوال وذو القعدة وذو الحجة بمعنى أنه إذا طاف طواف الإفاضة قبل مغيب شمس آخر يوم من ذي الحجة فإنه لا فدية عليه؛ لأن الركن وقع في الميقات الزماني، وأما إذا أوقعه بعد مغيب شمس آخر يوم من ذي الحجة؛ فحينئذٍ يكون أشبه بالقضاء ويَلزَمه دم جبران لهذا النقص. فحينئذٍ إذا قالوا أشهر الحج: شوال وذي القعدة وعشر من ذي الحجة؛ فقَصْدُهم الابتداء أي: الدخول بنية النسك، وإن أرادوا التمام والكمال أي: إتمام المنسك يقولون: شوال وذو القعدة وذو الحجة. فيقع بعض الأحيان لبس، حتى إن بعض طلاب العلم قد يستغرب يقول: كيف يقولون إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة كاملة؟ وكيف يُقال إنها شوال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجة؟ فوجهها أنه تارةً يُؤقَّت الحج ابتداء، وتارةً يؤقَّت الحج انتهاءً. وفائدة الخلاف فيمن أَخَّر طواف الإفاضة؛ لأن بعض العلماء يرى أنك إذا قلت: عشر من ذي الحجة تأقِيتاً، أنه يلزم أنه لو طاف طواف الإفاضة في اليوم الأول من أيام التشريق لزمه دم؛ لأنهم يرون أنه لا بد من إيقاعه في يوم النحر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَوقَعه في يوم النحر، وحينئذٍ يرونه تأقِيتاً وإلزاماً بيوم النحر . الأسئلة حكم من أحرم بعد الميقات ثم عاد إلى الميقات وأحرم السؤال من أحرم دون الميقات ثم عاد إلى الميقات فماذا يفعل؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصبحه ومن والاه. أما بعد: من أحرم دون الميقات ثم رجع إلى الميقات وأحرم وجدَّد النية للعلماء فيه قولان: القول الأول: أنه لا يسقط عنه الدم وأن إحرامه انعقد من دون الميقات، وحينئذٍ لا يفيده الرجوع شيئاً، ولا يُسقِط عنه الدم سواءً كان ناسياً أو متعمداً. فلو نَسي وبعد أن جاوز الميقات تذكَّر فأَحرَم ثم رَجَع، أو قَصَد أن يجاوز الميقات فأَحرَم مُجَاوزاً للميقات، ففي كلتا الحالتين يلزمه الدم رجع أو لم يرجع، وهذا هو الصحيح؛ لأنه نوى وقد لزمه الإحرام بالنية؛ لأنه إذا لبَّى ونوى فقد دخل في النسك إجماعاً، فحينئذٍ يكون رجوعه بعد انعقاد الإحرام، وانعقاد الإحرام كان بعد الميقات، وبناءً على ذلك يلزمه الدم، ولا يفيده الرجوع شيئاً؛ لأنه لا يرفع الثابت، بدليل أنهم حكموا بكونه محرماً، والإحرام منعقد بالموضع الذي أحرم منه من دون الميقات. فبالإجماع أنه لو مضى لوجهه صح إحرامه، إذاً معنى ذلك أن الإحرام قد انعقد وأن الرجوع لا يغني شيئاً، وإذا كان الإحرام منعقداً فالإخلال موجود، فيكون رجوعه لما بعد ذلك لا يرفع الثابت والباقي، فلزِمه الدم من هذا الوجه. وقال بعض العلماء: إذا رجع ملبياً سَقَط عنه الدم، وهذا القول لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وهو قول مرجوح، والصحيح أن الدم لا يَسقط بأي حال ما دام أنه قد أحرم ونوى، سواءً رجع أو لم يرجع، وهو أصح أقوال العلماء. والله تعالى أعلم. سبب إعمال المسامتة في المواقيت المكانية السؤال أشكل عليَّ أن المواقيت أماكن خصَّصها الشرع ولكننا نُعمِل المسامته، فهل المسامته من باب القياس؟ الجواب القياس حجة، والشرع اعتَبَر القياس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سأَلته المرأة أن تحج عن أمها قال: ( أرأيتِ لو كان على أُمِّكِ دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى ). فجاء رجل فقال: ( يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حُمُر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقاً، قال: فأنى كان ذلك؟ قال: لعله نزعها عرق، قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق ) فقاس دفع الشبهة لإسقاط القذف على الحيوان، وهذا قياس صحيح. كذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: ( أرأيت لو وَضعها في الحرام أكان عليه ورز )، فهذا يدل على القياس. فالشاهد أن الشَّرع يعتبر القياس حجة، والرجل هنا في منطقة لا يستطيع أن يمر فيها بذي الحليفة، ولكنه يُسامِت ذا الحليفة تماماً، فحينئذٍ نقول: حكمه حكم من مرّ بذي الحليفة يَعتَبِر المسافة التي تسامت. ألسنا نقول: إنه إذا ركب الطائرة وركب السيارة أنه بمجرد المحاذاة يلبِّي؟ فالمحاذاة كالمسامته لا يوجد فرق ما دام أنه في نفس الجهة، فكأن الشرع قصد أن لا يمر من هذه الجهة إلا وقد أَحرَم، فيكون العبرة بالسمت والجهة، وحينئذٍ نقول بالسمت لأن الشرع يشهد له. وهذا نظر صحيح وقياس صحيح، فتصوَّر الآن لو أن الشَّرع أَراد أَن يُحدد المواقيت فهو -بالقسمة العقلية والفرض العقلي كتشريع- بين أمرين. مثلاً: بالنسبة للمدينة ميقاتها ذو الحليفة، وهي تبعد عن مكة عشر مراحل لعشرة أيام، فبالنسبة للأربعمائة كيلو التي بين مكة وذي الحليفة، فهو فيها بين أمرين: إما أن يحدد جهة المدينة ثم يذكر ما يسامت جهة المدينة من القرى والمنازل، فيأتي النص من النبي صلى الله عليه وسلم يُعدِّد هذه القرى والمنازل ويقول: المواقيت ذو الحليفة وكذا وكذا وكذا وكذا، حتى يذكر جميع القرى التي تسامتها. الطريق الثانية أن يقول: يلزم هؤلاء الذين يأتون من الجهات البعيدة أن يذهبوا ويتحولوا إلى المدينة، وحينئذٍ كأنه يقول: لا يصح إحرام لأهل المدينة ومن كان بجوارهم أو من سامتهم إلا من ذي الحليفة، والنص لم يأت بهذه الصفة، بل وَقَّتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، وسَكَتَ عن غيرهم حتى يَجتَهِد العلماء فيثابوا على اجتهادهم، فنزَّلوا غير المنصوص عليه على المنصوص عليه، وأَلَحَقوا المسكُوت عنه بالمنطوق به، ورأَوا أن الشَّرع نبَّه بهذا على هذا، وحينئذٍ يكون الحُكم واحداً، وتطمئن النفس إلى أنهم يأخذون حكم أهل المدينة. وبناءً عليه فإننا نقول: مَن سَامَت المدينة يَعْتَبِر سَمْتَ ذي الحليفة إذا كان في الطريق على السَّمْت. لكن لو كان في جهة غير جهة المدينة، مثلاً: المدينة واقعة شمال مكة، فهو في شمالٍ منحرف إلى الشرق -شمال شرق- ولكنه لا يمر بميقات المشرق؛ فحينئذٍ نقول له: أنت بين أمرين، إما أن يكون تدخل على محاذاة سمت المدينة فتُحِرم عند دخول الطريق، مثل الذين هم في شرق الخط السريع (خط المدينة) كالمَهْد فنقول: لا يلزمك الإحرام ما لم تدخل في الخط حتى تكون بسمت أهل المدينة فيلزمك حينئذٍ أن تُحرِم بدخولك، لقوله عليه الصلاة والسلام: ( فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ). أما إذا كان على نفس السمت كاليتمة ووادي الفُرْع ونحوها، فقد بيَّنا حكمه وأنه يحرم من موضعه، والله تعالى أعلم. ميقات أهل الطائف السؤال هل ميقات وادي مَحْرَم مسامت لقرن المنازل؟ وأهل الطائف بالخيار بأن يحرموا من قرن المنازل أو وادي مَحْرَم؟ الجواب نعم هم يقولون أنه بالمحاذاة، خاصة بالمراحل على التقدير القديم أن المرحلة مسيرة يوم وليلة، وفي حكم بُعْد قرن المنازل وذات عرق عن مكة، وهؤلاء يعتبرون بالسمت والمحاذاة، فإن شاءُوا أحرموا من وادِي مَحْرَم وإن شاءوا أحرموا من السيل، ولكنهم إن أحرموا من وادي مَحْرَم فإنه ينعقد إحرامهم ويصح. والله تعالى أعلم. حكم تجديد الإحرام عند الميقات لمن أحرم قبل الميقات السؤال ذكرتم أن من أَحرم قبل الميقات فإنه يجدد إذا مر بالميقات، فهل التجديد واجب؟ الجواب التجديد لازم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت، وهذا التأقيت على سبيل التحديد، وفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( خذوا عني مناسككم )، فأقته وحدده، ولا يصح أن يمر بالميقات دون أن يجدد نيته بالإحرام بالعمرة والحج أو بهما معاً، والله تعالى أعلم. ميقات من خرج إلى الطائف بعد أن نوى الحج في مكة السؤال رجل نَوَى الحج من مكة ثم خرج إلى الطائف لزيارة أهله ثم أحرم من ميقات أهل الطائف ماذا عن هذا الإحرام؟ الجواب أن المكي إذا نوى الحج ثم انطلق إلى الطائف فيجب عليه أن يحرم من ميقات أهل الطائف، والسبب في ذلك أنه يتمحَّض سفره الثاني للنسك وقد مر بالطائف فأخذ حكم أهلها، فيلزمه حينئذٍ أن يحرم من ميقات أهلها، وهكذا لو خرج إلى المدينة أو إلى جدة، فإنه يلزمه أن يُحرِم من ميقات المدينة أو أن يحرم من جدة؛ لأنه لا يصح منه أن يدخل إلى مكة بعد هذه النية إلا وقد أَحْرَم بالنسك الذي أراده. والله تعالى أعلم. حكم من أحرم من الميقات ثم رجع إلى دون الميقات لعذر السؤال هذا سائل يعرض مسألةً وقعت له: وهو أنه قَدِم من القصيم بالطائرة وأحرم فيها لما حاذى الميقات، لكن الطائرة لم تستطع الهبوط في جدة نظراً للأحوال الجوية وهبطت في المدينة، فماذا يفعل؟ الجواب من أحرم ثم رجع إلى دون المواقيت فلا يزال مُحْرِماً وحينئذٍ يبقى بإحرامه، وإذا رجع إلى مكة يرجع بالإحرام الأول ولا يلزمه إحرام ثانٍ، ولذلك قلنا: إن من أحرم دون المواقيت ورجع ثانية لم يسقط عنه الدم، وهكذا الحال بالنسبة لمن أحرم فطرأ عليه العذر فرجع، فإنه لا يزال متلبساً بالإحرام الأول. أما الدليل على كونه لا يزال متلبساً فظاهر قوله سبحانه: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أنه لما مر بالميقات في السفر الأول ونوى انعقدت نيته وصحت وثبتت، فتوجه عليه خطاب الشرع أن يُتِم هذا الحج ويتم هذه العمرة لله، فحينئذٍ لا تدخل عمرة ثانية ولا تدخل حجة ثانية، أي: لا تدخل نية عمرة وحجة ثانية فوق النية الأولى، بل يبقى بإحرامه الأول، ورجوعه إلى دون المواقيت لا يضرُّه بشيء. والله تعالى أعلم. ميقات من نوى أن يحج عن غيره نافلة السؤال هل يلزم من حج عن غيره نافلة أن يرجع من حيث فُرِض عليه الحج، أم يختص ذلك بالحج في الفريضة؟ الجواب يختص ذلك بحج الفريضة أما بالنسبة للنافلة فإنه من حيث أنشأ، والسبب في ذلك أنه إذا نوى أن يحج عنه نافلة فمن حيث أنشأ نيتَه، فأصبحت النية بالنسك ناشئة بخلاف النية المستقرة في الذمة، فإنه إذا مات وقد قصَّر في حجه من المدينة فقد توجه عليه خطاب الشرع أن يحج من المدينة، وحينئذٍ يلزم من حج عنه أن يحج من ميقات المدينة ولا ينتقل إلى ما دون ذلك. والله تعالى أعلم. المعتبر في محرم المرأة في السفر السؤال ما مقدار السن المعتبر في المحرم حتى يصح للمرأة أن تسافر معه؟ الجواب العبرة في المحرم في السفر أن يكون قوياً على الدفع، أما إذا كان عاجزاً ومن الحُطَمة الذين لا يدفعون فهذا يُفَوِّت مقصود الشرع، فمثلاً لو كان مشلولاً فمثل هذا بعض العلماء يعتبره محرماً للسفر لكنه يُفَوِّت مقصود الشرع، قالوا: فلو سافرت بصبي صغير لا يَدْفَع فإنه لا يُعتَبر محرماً موجباً لحل السفر، والسبب في ذلك أن مقصود الشرع من وجود المحرم أن يدفع عنها، فإذا كان صغير السِّن وهو الذي دون البلوغ فإن وجوده وعدمه على حد سواء. ولا بد أن يكون المحرم من الرجال، ويكون قادراً على الدفع، بحيث لو طرأ على المرأة من يؤذيها أو يتعرض لها، أو تعبت المرأة واحتاجت إلى معونته أو أن يحفظها؛ فإنه يكون جلداً قوياً على ذلك أما إذا كان مشلولاً أو كان صغيراً فهذا وجوده وعدمه على حد سواء، ولا بد من وجود المحرم الذي يدفع، وعليه فالصغير لا يجزئ بالحج والنسك إذا لم تجد غيره ولا بد أن يكون المحرم بالغاً قادراً على الدفع عنها؛ لأن مقصود الشرع هو حصول دفع الضرر عن المرأة. والله تعالى أعلم. حكم كون المرأة محرماً للمرأة في السفر للحج السؤال ما حكم سفر العمة مع ابن أخيها وأن تصطحب معها بناتها، فهل تعتبر الأم بمثابة المحرم لبناتها وذلك في رفع الحرج ومشروعية السفر، ومثل ذلك سفر الزوجة مع زوجها بصحبة أختها ونحو ذلك؟ الجواب نعم الأم تكون محرماً لبناتها إذا انقلبت ذكراً ورجلاً! كيف ندخل هذا في هذا؟! فالمحرم لا يكون إلا رجلاً فهذا من غرائب ما يكون عند بعض العامة، يقولون: يسافر مع عمته ومعها بناتها، فالأم محرم لبناتها وهو محرم للعمة، وهذا لا شك أنه من غرائب ما يكون من الفقه، ولم يقل أحد بهذا؛ لأن المرأة لا تكون محرماً للمرأة، المراد وجود الرجل: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم )، ما قال (ذات)، فإذا انقلبت الأم ذكراً فنعم. أما ما ذكره السائل فلا يقول به أحد، ولا يعتد به أحد، وقد انتشر عند بعض الناس اليوم أن المرأة للمرأة محرم، تسافر الزوجة ومعها أختها أو بنت أختها، فالزوجة محرم أختها أو بنت أختها، والزوج محرم للزوجة، على هذا يصح أن تسافر مائة امرأة وكل امرأة معها امرأة محرم، يعني يجوز لها أن تنكشف عليها وتصافحها وتكون معها، ثم يسافرون بذكر واحد محرم لواحدة، وتكون بقية النساء كل واحدة محرم لمن معها، هذا ما يقول به أحد. وعلى العموم فلا بد من وجود الذكر، الرجل مَحْرَم لعمته وأما بنات العمة فأجانب، ولا يصح سفرهن مع أمهن إلا بوجود أخ أو بوجود محرم منهن. والله تعالى أعلم. حكم من اعتمرت ونسيت التقصير وهي متزوجة السؤال امرأة اعتمرت ونسيت أن تُقَصِّر ولم تذكر إلا بعد أسبوعين وهي متزوجة، فماذا تفعل؟ الجواب من أحرم بالعمرة أو الحج ولم يتحلل ونسي أن يُقَصِّر ففي العمرة لا يزال متلبساً بمحظورات الإحرام حتى يتحلل كما سَنَّ الله عز وجل وشرع، فإذا تركت المرأة التحلل ناسية ثم أصابت المحظورات تفرع الحكم على الوقوع في المحظورات نسياناً، فما كان منها لا ينجبر كقص الأظافر وقص الشعر ونحو ذلك فهذا تلزم فيه فدية، وما كان منها منجبراً كالطيب يُغسل ويُزال فحينئذٍ يسقط بالنسيان على القول بأن النسيان يُنَزَّل منزلة الجهل لحديث الجعرانة. فعلى هذا لو جامعها زوجها فسَدَت عمرتها، وتُقَصِّر حتى تخرج من العمرة الأولى وتتحلل؛ لأن العمرة الفاسدة تُتَم؛ لأنه إذا وقع الجماع قبل التقصير فإنه يُفْسِد العمرة، ويدخل في ذلك أن تكون ناسية له أو متعمدة له، لأنها لا تتحلل من نُسُكها الذي دخلت فيه إلا بتقصير، وحينئذٍ كونها طافت وسعت لا يُخرِجها من الحرمة التي هي فيها، فإن وقعت إصابة زوجها لها قبل أن تُقَصِّر فإنها حكمها حكم من جامع أهله قبل أن يتحلل من العمرة، فتُتِم العمرة الأولى بالتحلل منها، وقد أجمع العلماء على أن فاسِد الحج والعمرة يُتَم، لظاهر قوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]، فُتتم هذه العمرة الفاسدة إن جامعها زوجها، ثم تأتي بعمرة بدلاً عن هذه العمرة، ويلزمها الدم جبراناً لوطئ زوجها لها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (216) صـــــ(1) إلى صــ(23) شرح زاد المستقنع - باب الإحرام شرع الله سبحانه وتعالى الإحرام وجعله نية لنسك الحج أو العمرة، وجعل له أحكاماً وسنناً بينتها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمها: حكم الغسل والطيب قبل الإحرام، والمخيط المنهي عن لبسه للمحرم، واللباس الخاص بالمحرم. ومن رحمته تعالى بعباده أن نوّع لهم مناسك الحج لتكون ملائمة لأحوال العباد وقدراتهم، وبيَّن السبيل والطريق للمرأة الحائض إذا خشيت فوات الحج. صفة الإحرام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الإحرام] بعد أن بين لنا المصنف الأحكام المتعلقة بمواقيت الحج والعمرة، ناسب أن يبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتفرع عليه من المسائل والأحكام المتعلقة بالإحرام؛ لأن الإنسان إذا خرج من بيته يريد الحج أو العمرة أو هما معاً، فإنه أول ما يكون من أمره أن يصل إلى الميقات، فبيَّن المؤلف أحكام المواقيت، ثم بعد أن بيَّن ما هي المواقيت شرع في بيان صفة الإحرام، وكيف يدخل الإنسان في نسك الحج ونسك العمرة، فقال رحمه الله: (باب الإحرام). والإحرام: مأخوذ من قولهم: أحرم الرجل يحرم إحراماً فهو محرم، إذا دخل في الحرمة، وأحرم الرجل إذا دخل في الحرمات، سواء كانت زمانية كالأشهر الحرم، أو كانت مكانية كحدود حرم مكة والمدينة، فتقول للرجل إذا دخل حدود حرم مكة: أحرم، بمعنى: أنه دخل داخل الحرم، وتقول: هو حرمي، أي: هو ساكنٌ داخل حدود حرم مكة. والعرب تقول: أحرم إذا دخل في الحرمات كأنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا دخل تهامة. ومراد العلماء بقولهم (الإحرام): نية أحد النسكين أو هما معاً، إما الحج وإما العمرة، فإن كانت نيته أن يدخل في الحج فهو حاج، وإن كانت نيته أن يدخل في العمرة فهو معتمر، وإن نواهما معاً فهو حاج قارن لحجه. يقول رحمه الله: (باب الإحرام) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بكيفية الإحرام والدخول في نسك الحج ونسك العمرة، وذلك أن الدخول في نسك الحج والعمرة يفتقر إلى نية مخصوصة، وينبغي لمن دخل في هذه العبادة -أعني الحج أو العمرة- أن يراعي أموراً فرضها الله عز وجل عليه، وأن يتقي أموراً حرمها الله عليه، وهي التي تسمى بمحظورات الإحرام، فالإحرام كأنه حد للدخول في هذه العبادة. أهمية الإحرام والتلبس بنية النسك قوله رحمه الله: [الإحرام نية النسك]. الإحرام -في عرفنا معاشر الفقهاء-: نية النسك. أي: نية الدخول في الحج أو الدخول في العمرة أو هما معاً، وليس مجرد كون الإنسان يخرج من بيته للحج والعمرة كافٍ، فقد تخرج من بيتك وأنت تريد الحج والعمرة، ولكن لا يحصل بهذه النيةِ النيةُ المعتبرة، ولا يقال: إنك محرم. مثال ذلك: لو كنت في المدينة أو في الرياض فخرجت من المدينة إلى ذي الحليفة، فإنه منذ خروجك من بيتك قبل الميقات وأنت ناوٍ للحج أو العمرة أو هما معاً فليست هذه نية، ولكن الدخول لا يكون إلا في الميقات، وحينئذٍ يصدق عليك أنك قد تلبست بالنسك. حكم الغسل للإحرام قوله: [سن لمريده غسل أو تيمم] أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل، فأول ما يبدأ به الإنسان إذا أراد الحج أو العمرة أن يغتسل لحجه أو عمرته؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه اغتسل في الوادي المبارك، وهو وادي العقيق، وهو الذي يسميه الناس اليوم بوادي عروة، وموضعه أبيار علي، فاغتسل في ذي الحليفة، وقد طاف على نسائه صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك تطيب واغتسل وتنظف صلوات الله وسلامه عليه. والسبب في الاغتسال: أن الإنسان إذا دخل في الحج والعمرة قد تمضي عليه أيام وهو متلبس بهذه العبادة ولا يتطيب، ولا يقلم أظافره ولا يقص شعره، فهو مظنة الشعث، ولذلك جاء في الأثر: ( انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً )، خاصة في الأزمنة القديمة، حيث كان بين ميقات المدينة وبين مكة ما يقرب من عشر مراحل يسيرونها عشرة أيام بالإبل، وحينئذٍ يتضرر ويتضرر من معه، ويتضرر الناس من حوله، وإذا شهد الجماعات أو الصلاة مع الناس آذاهم برائحته وببخره، ولذلك سن له أن يغتسل. وهذا الاغتسال في حق الحائض والنفساء آكد، حتى ذهب جمع من العلماء رحمة الله عليهم إلى أنه يجب عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، والسبب في ذلك وجود القذر كما سيأتي -إن شاء الله- ذكره. فيسن للمحرم أن يغتسل فيزيل ما يعلق ببدنه من الروائح الكريهة والأوساخ، فيكون طيباً في بدنه، ويدخل لهذه العبادة على أتم الصفات وأكملها. قال بعض العلماء: كأن الإنسان إذا أراد الحج أو العمرة ونزل في ميقاته، وأراد أن يغتسل وتجرد من مخيطه؛ يتذكر حينما يجرد من الدنيا ويخرج منها صفر اليدين إلا من رحمة الله عز وجل، فحينما يغتسل لإحرامه ويتجرد وهو بقوته واختياره كأن هذه بداية العظة له، إذ يتذكر حينما ينزع من الدنيا وينزع من بين أهله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. قوله: [أو تيمم لعدم] إذا لم يستطع الاغتسال لمرض أو لعدم وجود الماء، أو كان الزمان بارداً شديد البرد، ولا يستطيع أن يدفئ الماء، أو يستطيع أن يدفئ الماء ولكنه يخشى إذا اغتسل ولبس ثياب الإحرام أن لا يحسن الاستدفاء، فحينئذٍ يعدل إلى التيمم، وهو أحد قولي العلماء. وقال بعضهم: لا يتيمم؛ لأن المقصود من الغسل النظافة، والتيمم لا ينظف، حساً، بخلاف ما إذا اغتسل فإنه ينقي بدنه، ولكلا القولين وجه، فمن تيمم فلا حرج عليه، ومن ترك التيمم فلا حرج عليه. كيفية التنظف للإحرام قوله: [وتنظف] التنظف يكون بتقليم الأظفار، وقص الشعر من رأسه إذا كان يخشى طوله، وهكذا بالنسبة للشعر الذي يكون في بدنه، فينتف إبطه ويحلق عانته، ونحو ذلك من الأمور التي يتهيأ بها البدن على أحسن وأفضل الهيئات وأكملها؛ تشريفاً لهذه العبادة وتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم. حكم التطيب للإحرام قوله: [وتطيب]: أي: يسن له أن يتطيب، والطيب: ما طاب ريحه، وسمي الطيب طيباً لطيب رائحته، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أطيب الطيبين بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، طيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها في حله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت، فدل على أن السنة لمن أراد أن يحج أو يعتمر أن يتطيب. مسألة: هل يضع الطيب في بدنه قبل الغسل أو بعد الغسل؟ أجمع العلماء على أنه يجوز للإنسان أن يتطيب في بدنه قبل الغسل، ثم إذا غسل بدنه فإن بقي شيء من الطيب؛ فإنه مغتفر بإجماع العلماء، ولكن الخلاف فيما لو اغتسل ثم تطيب قبل أن ينوي، أي: قبل أن يدخل في النسك. فمذهب الشافعية والحنابلة وأهل الحديث أن من السنة أن يغتسل ثم يضع الطيب في بدنه، ولا بأس أن يكون الطيب في شعره أو صدره أو مغابنه. وذهب المالكية والحنفية إلى أنه يتطيب أولاً ثم يغتسل، فإن بقي بعد غسله شيء فهو مغتفر، وعلى هذا فإن أصحاب القول الثاني لا يجيزون أن يتطيب بعد الغسل، وكأنهم يرون أنه مغتفر بعد غسله. والصحيح أنه يجوز أن يتطيب قبل الغسل وبعده؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها كما في صحيح مسلم قالت: ( طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه ) وهذا يشمل ما بعد الغسل وقبل النية. ثم إذا وضع الطيب في بدنه فإن كان في أعالي البدن كالرأس، أو في المواضع التي لا يحتك بها الثوب فلا إشكال، ولا حرج عليه أن يبقى أثر الطيب في بدنه، كأن تبقى صفرة الطيب في شعره، أو على صدره أو نحو ذلك؛ وذلك لأن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: ( كنت أرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله عليه وسلم وهو محرم ) -أي: لمعان الطيب- لأنه كان يفرق شعره نصفين، وقيل: مفرقه في أصل الشعر، فدل على أنه يجوز أن يبقى الطيب بعد الغسل وبعد النية، ولكن إذا سقط شيء من هذا الطيب وعاد إلى البدن بعد سقوطه، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تلزمه الفدية. أما لو تطيب في صدره وعلق الطيب بثوب الإحرام -الذي هو الرداء- أو تطيب على أسفل بدنه ومغابنه فتعلق بالرداء، فحينئذٍ إن كان الرداء باقياً عليه ولم ينزعه فلا إشكال، ولكن إذا نزع الرداء عنه فإنه لا يعيده مرة ثانية؛ لأنه يغتفر استصحاباً ما لا يغتفر استئنافاً، لكن لو خلع الرداء المطيب عنه ثم أراد لبسه فكأنه يلبس بعد إحرامه ثياباً مسها الزعفران والورس، هذا عند من يقول: يغتفر إصابة الطيب للثوب، لأنه لما رئي على رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على جواز أن يكون في ثوب الإحرام. ولكن الأحوط والأكمل أن يتحفظ من إصابة الطيب لثوبه؛ لأنها رخصة جاءت في البدن، فلا يقاس غير البدن عليه، وعلى هذا: فإنه إذا أصاب ثياب الإحرام الطيب فإن الأحوط له أن يغسله، وأن يخرج من العهدة بيقين ويستبرئ لدينه، فهذا أكمل. لكن من قال من العلماء إنه يغتفر ورأى فيه المسامحة قياساً على ما في البدن، فحينئذٍ يفرقون بين أن يكون الرداء على الإنسان، وبين أن ينزعه ثم يلبسه، فإنه إذا لبسه فكأنه يلبس ثوباً مسه الطيب. والدليل على أنه لا يجوز له أن يلبسه بعد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للرجل لما لبس الجبة وعليها الطيب: ( انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ) وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما-: ( ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس ) فدل على أنه يتقي في ثيابه أن تصيب الطيب، والرخصة في البدن، وأما الثياب فإنه لم يرد التصريح بالرخصة فيها. حكم لبس المخيط للمحرم قوله: (وتجرد من المخيط) المخيط هو الذي يحيط بالبدن، فالقميص يعتبر مخيطاً؛ لأنه يحيط بصدر الإنسان ويحيط بيده، ولذلك قالوا: قد يكون المخيط مخيطاً ولا خيط فيه، فلو أخذ رداء الإحرام وعقده بشوك فأحاط بالبدن حتى صار كيد الثوب فهو مخيط؛ لأنه محيط بالبدن، فالعبرة بالإحاطة بالبدن، لا بعدم وجود خيط، ولذلك كانت العمامة في حكم المخيط؛ لأنها تحيط بأعلى الرأس، مع أنها ليست مخيطة، مما يدل على أن المراد: الإحاطة بالعضو. أما بالنسبة للدليل على أن المحرم لا يلبس المخيط -أي: المحيط بالبدن جزءاً أوكلاً-: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله الرجل فقال: ( يا رسول الله! ما يلبس المحرم؟ قال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف ) وهذا الحديث إذا تأملته وجدت كمال بلاغته عليه الصلاة والسلام، وما أوتي من جوامع الكلم! فإنك إذا تأملت هذا الحديث وجدت أنه نهى عن العمامة: والعمامة تكون غطاء لأعلى الرأس، ثم (القميص): وهو يكون للصدر وأعلى البدن، ثم (السراويل): وهي لأسفل البدن، ثم (البرانس): وهي التي فيها غطاء الرأس وغطاء جميع البدن، فكأنه بهذا يمنع المخيط الذي يحيط بالبدن أجزاءً أو كلاً، فجمع قوله: ( لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ) بين تغطية أعلى البدن وأوسطه وأسفله، ثم جاء بما يجمع الكل فقال: (ولا البرانس)، وهو جمع برنس، ولذلك قالوا: يحظر عليه أن يلبس ما يحيط بالبدن ولو لم يكن له خياطة، وهو مخيط إذا أحاط بالبدن. والإحاطة بالبدن جزءاً كأن يحيط بيده أو برجله كما في السراويلات ونحوها، فعلى المحرم أن يتجرد من السراويل، والفنايل التي تسمى بهذا في زماننا، وهي سترة الصدر، وكذلك يتجرد من القمص وما في حكمها مما يسمى اليوم بالكوت أو نحوه؛ لأنه يستر أعالي البدن، فجميع ذلك يلزمه أن يتجرد منه، ويتجرد مما يغطي الرأس من العمائم والغتر والأشمغة، وهكذا بالنسبة للطواقي ونحوها فإنها غطاء للرأس، فيتجرد من جميع ذلك. مسألة: لو كان الإنسان في طائرة، وعنَّ له وهو قادم من الرياض -مثلاً- أن يحرم بالعمرة، ولكن ليس عنده إزار يستر أسفل بدنه، وليس باستطاعته أن يتجرد، فحينئذٍ يجوز له أن يلبس السروال، ويكون السروال عوضاً عن الإزار؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في يوم عرفة وقال: ( السراويل لمن لم يجد الإزار ) فحينئذٍ يتجرد من المخيط إلا إذا لم يجد ما يستره؛ فيجوز له أن يستتر بالمخيط حتى يجد غير المخيط، وهذا من كمال الشريعة ومن رحمة الله عز وجل بعباده، وهو من اليسر الذي بعث به نبيه صلوات الله وسلامه عليه. لباس المحرم قال رحمه الله: [ويحرم في إزار ورداء أبيضين] كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: ( خير ثيابكم البيض ) وقال: ( كفنوا فيها موتاكم ) ، وثبت في الصحيح عنه أنه كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، وقد قالوا: إن إحرام الإنسان كالكفن، فمن هنا استحب جماهير العلماء رحمة الله عليهم البياض في إحرام الإنسان. لكن لو لم يجد إزاراً ورداء أبيضين، ووجد إزاراً ورداءً بلون آخر، فلا حرج أن يلبسه ولا عتب عليه، فالبياض من باب الأكمل والأفضل، ولكن إذا وجد الأبيض وغيره فإنه يستحب له أن يتحرى الأبيض؛ لما فيه من تحري السنة ولأنه خير ما لبس من الثياب. حكم صلاة ركعتين قبل الإحرام قال المصنف رحمه الله: [وإحرام عقب ركعتين] أي: والسنة أن يحرم عقب الركعتين، وهذا من ترتيب الأفكار، وهو يقول لنا: أولاً يتجرد من المخيط في ثيابه، ثم بعد ذلك يغتسل ويتطيب، وهذا بعد أن ينظف بدنه مما علق به، وينتف إبطيه ويحلق عانته، فإذا ما تم هذا كله؛ قال: وإحرام عقب ركعتين. فالسنة أن يقع الإحرام عقب صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بعد الفريضة، ولكن إذا كان الوقت ليس بوقت فريضة فحينئذٍ يغتسل، ثم ينوي ركعتي الوضوء، ويحرم عقب ركعتي الوضوء، وليس للإحرام سنة مقصودة، وإنما يغتسل أو يتوضأ ثم يصلي ركعتي الوضوء لما فيها من الفضل، ثم يحرم بعد ذلك؛ لأن فيه شبهاً بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بعد الصلاة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم. وقد جاء في حديث عمر المشهور في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: أهِلَّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة )، والمعنى: أنه رأى رؤيا وقال بعض العلماء: بل أتاه حقيقة، أي: يقظة وليس بمنام وفي رواية: ( صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة ) ولذلك ثبت في رواية الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يمر بهذا الوادي -وادي العقيق- وهو مسافر إلا صلى فيه رضي الله عنه وأرضاه؛ تأسياً بهذه السنة. فأحرم عليه الصلاة والسلام عقب الفريضة، وهذا هو هديه، فإذا صلى الإنسان الفريضة وأراد أن يدخل بنية النسك فإنه يدخل عقب الفريضة، ولا يتكلف ركعتين؛ لأن هذا خلاف السنة، بل قال بعض العلماء: لو صلى الفرض ثم قام يصلي ركعتين خاصة لإحرامه فهو إلى البدعة أقرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف الركعتين بعد الفريضة، فلما تكلفهما وخالف هديه بالإحرام عقب الفريضة مباشرة كان هذا خلاف السنة، وكأنه يعتقد فيها مزية فضل، فكان أقرب إلى البدعة من هذا الوجه. حكم النية والاشتراط في الإحرام قال المصنف رحمه الله: [ونيته شرط]. أي: أن نية النسك شرط في صحة الإحرام، وقيل: إنها ركن. ولا يصح الإحرام ولا ينعقد إلا بنية، فلو أن إنساناً مر بالميقات ولم يوجب الإحرام ولم ينو؛ فإنه لا يصح منه ذلك ولا يجزيه، ولا يزال حلالاً حتى يعود ويحرم من الميقات، فإن أحرم من دونه فعلى التفصيل الذي ذكرناه في مسألة من أحرم دون المواقيت. وقوله: [ويستحب قوله: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي، وإن حبسني حابس؛ فمحلي حيث حبستني] هذا اللفظ جاء في حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: ( يا رسول الله! إني أريد الحج، وأنا شاكية -يعني: مريضة- فقال عليه الصلاة والسلام: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني ). وللعلماء في هذا الحديث وجوه: الوجه الأول: أن هذا الحديث يعتبر أصلاً عاماً، وأن كل من يريد أن يهل فله أن يقول هذه الكلمة، ويجوز له أن يشترط؛ بل ويستحب له تلافياً لما يطرأ عليه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله. الوجه الثاني: أن هذا الحديث خاص بـ ضباعة . فهو عكس الوجه الأول، فالوجه الأول يرى أنه عام في الحال وفي الأفراد، سواء وجد عذر أو لم يوجد عذر، والوجه الثاني يقول: هذه قضية عين، والقاعدة في الأصول: (أن قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم)، ولا يوصف الحديث بكونه قضية عين إلا إذا كان الأصل خلافه، وتوضيح ذلك: أن الأصل في المريض أنه يفتدي إن أصابه المرض، وأنه إذا أحصر ومنع من البيت؛ فإنه حينئذٍ يتحلل كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله تعالى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196]، لكنه بالاشتراط يخرج من هذا كله: من الفدية ومن إراقة الدم في الإحصار، فصارت قضية عين من هذا الوجه. وتوسط بعض العلماء وهو المذهب الراجح، وبه يقول جمع من الشافعية والحنابلة: أن هذا الحديث مخصوص بالشخص الذي يكون مريضاً قبل الحج أو العمرة، فيكلف نفسه الحج أو العمرة، وكأن الشرع أعطاه بتكلفه مع المرض سعة، أما الصحيح القادر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم على الميقات لم يقل للصحابة: أهلوا واشترطوا، ولا شك أن الاشتراط يخفف عنهم التبعة. فكونه يقال: إن كل من أراد أن يحرم يستحب له أن يقول هذا غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به الصحابة، ولو كان سنة ماضية للجميع لأُمِر به الصحابة، والفقه أننا نعتبر كل نص بمورده وطريقته، ونحمل النصوص على مواردها، فلما كان الأصل في الإنسان الصحيح القادر أنه يحرم ويمضي لوجهه، فإن طرأ له عذر يمنعه من البيت صار محصراً، وأحكام المحصر معروفة، وإن كان مريضاً فأحكام المريض معروفة: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة:196] فهذا هو الأصل. وأما إذا كان على صفة ضباعة ، أراد الحج وتكلفه وهو مريض، فحينئذٍ يصح أن يشترط، وحينئذٍ نكون قد أعملنا النصوص على وجهها، فأبقينا الأصول كما هي، واستثنينا ما ورد به حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس: أن الاشتراط لا يكون إلا للمريض على صورة حديث ضباعة ، وهو أعدل الأقوال في هذه المسألة، وأولاها بظاهر الحديث الوارد بالرخصة في ذلك. قوله: [ويستحب قول: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي] والمسلم لا شك أنه يدعو ربه في أي عبادة أن ييسر له الخير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيث ما توجهت ) فهذا من نعم الله على العبد أن ييسر له الخير، ولكن في مواطن العبادات لا يستحب شيء إلا بنص، فلا يستحب ذكر مخصوص ولا لفظ مخصوص في موضع مخصوص إلا بدليل يخص هذا اللفظ وهذا الموضع بهذا الذكر، ولذلك الأصل أن يقتصر على النية، فيقول: (لبيك حجاً، لبيك عمرة، لبيك حجاً وعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة وعمرة ). فهذا نص يدل على أنه لا يزاد على هذه النية، ولذلك قال أنس رضي الله عنه: ( ما تعدوننا إلا صبياناً، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها ) أي: كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه، لأنه كان ربيباً عند أبي طلحة زوج أم سُليم ، و أم سُليم هي أم أنس ، وكانت ناقة أبي طلحة مع ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يكادان يتساويان مع بعضهما، فكان أنس من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول: ( لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجة ) فهذا يدل على أنه يقتصر على ذكر النسك، وأن في ذلك الكفاية. أنواع النسك في الحج ومشروعيتها قال المصنف رحمه الله: [وأفضل الأنساك التمتع، وصفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه]. هناك أنساك ثلاثة لمن أراد الحج: فإما أن يفرد فينوي الحج وحده. وإما أن يذهب بعمرة في أشهر الحج يتمتع بها، ثم إذا قضى العمرة وانتهى منها تحلل وتمتع، ثم يحرم بعد ذلك بالحج. وإما أن يكون قارناً -وهو النسك الثالث- وهو أن ينوي الحج مع العمرة، فيجمع بين نية الحج والعمرة، يقول: لبيك عمرة وحجة. وقد أجمع العلماء على مشروعية الأنساك الثلاثة: الإفراد، والقران، والتمتع. ودليل هذا الإجماع ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى الميقات قال: ( من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل ) فخيرهم بين الأنساك الثلاثة. وخالف ابن عباس جماهير الصحابة رضوان الله عليهم، ومنهم الخلفاء الراشدون المأمور باتباع سنتهم، فقال رضي الله عنه وأرضاه: (إن من طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وكان لم يسق الهدي؛ فيجب عليه أن يتحلل بعمرة)، وهذا كأنه نسخ للإفراد؛ لأنه إما تمتع بالقران وإما تمتع بالتمتع المعروف، فكأنه نسخ للإفراد، وهي من المسائل التي انفرد بها ابن عباس رضي الله عنهما، وخولف في ذلك من جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم. ومن مفرداته التمتع بالنساء، وقوله بجواز ربا الفضل، ونحوها من المسائل التي انفرد بها رضي الله عنه وأرضاه. فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي أن يتحلل وأن يجعلها عمرة، فهم رضي الله عنه وأرضاه أن التخيير الذي وقع عند الميقات منسوخ بأمره عليه الصلاة والسلام بفسخ الحج بعمرة. وخالفه في هذا الفهم جماهير الصحابة؛ لأن السنة الصحيحة دلت على صحة الإفراد، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عروة بن مضرس وهو في صبيحة يوم النحر قال: ( يا رسول الله! أقبلت من جبل طيء، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، وما تركت جبلاً ولا شعباً إلا وقفت عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: من صلى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار؛ فقد تم حجه ) وهذا يدل على صحة حج الإفراد؛ لأن عروة كان مفرداً بالإجماع؛ ولم يدرك إلا الوقوف بالليل، فلم يكن هناك عمرة، ولم يستطع أن يتمتع، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ العام، ولم يقل: من كان مثله متأخراً عن الحج يجوز له، ومن لم يكن مثله فإنه يجب عليه الفسخ. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (217) صـــــ(1) إلى صــ(23) وقد فهم الصحابة أن إيجاب فسخ الحج بالعمرة خاص، ولذلك قال أبو ذر كما في الرواية الصحيحة عنه: (متعتان لا تصلح إلا لنا أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم: متعة النساء ومتعة الحج)، أي: أن إيجاب فسخ الحج بعمرة كان في ذلك العام للتشريع، وتأكيداً على جواز العمرة في أشهر الحج؛ لأنهم كانوا حديثي العهد بالجاهلية، وكان الناس قد قدموا من كل صوب وحدب، وأقبلوا طائعين للإسلام، فكانوا على ما ألفوه أن العمرة في أشهر الحج فجور، وقالوا: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟! وقالوا: ( يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله ) فلذلك كان الأمر بالعزيمة، وأمروا بفسخ الحج والعمرة، وبقي الأمر بعد ذلك على السعة. وقد حج أبو بكر جميع سنوات خلافته وهي سنتان من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها مفرداً، وهذا بإجماع العلماء، كما أن عمر رضي الله عنه وأرضاه في جميع سنوات خلافته -قرابة العشر السنوات- ما حج إلا مفرداً، وكذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه ما حج إلا مفرداً، وهذا على ما كانوا يختارونه، حتى كان عمر رضي الله عنه يرى أن إتمام الحج والعمرة بأن يحرم بهما من دويرة أهله. فالمقصود أن هذا وقع في الخلافة الراشدة، وكان أبو بكر رضي الله عنه هو الذي يقيم للناس حجهم، فلو كان الإفراد منسوخاً لما صح حج الناس؛ لأن الخلفاء وهم: أبو بكر و عمر و عثمان رضي الله عنهم كلهم حجوا بالناس مفردين، ولذلك قال العلماء: إن هذا من مفردات ابن عباس رضي الله عنه، وهو مأجور على اجتهاده وما أدى إليه قوله، ولكن قول جماهير الصحابة الموافقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أولى وأحرى، والقول بوجوب فسخ الحج بالعمرة إنما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وأما من عداهم فقد بقي الأمر على التخيير. ذكر الخلاف في أفضل الأنساك وأدلته قال المصنف رحمه الله: [وأفضل الأنساك التمتع] مسألة: هل الأفضل أن يفرد أو يقرن أو يتمتع؟ قال الشافعية والمالكية: الأفضل أن يفرد. وقال الحنفية: الأفضل أن يقرن. وقال الحنابلة: الأفضل أن يتمتع. ولهم جميعاً حججهم رحمة الله عليهم، فمن قال: الإفراد. احتج بأن الأفراد ليس فيه دم الجبران؛ لأنهم يرون أن الدم الذي في التمتع والذي في القران دم جبران؛ قالوا: فكان المفروض على من تمتع بالحج والعمرة أن يرجع بعد العمرة إلى الميقات ويحرم من الميقات، ولذلك لو تمتع المكي سقط عنه الدم؛ لأنه أحرم من ميقاته، وهذا يدل على أن الدم لمكان النقص الذي وقع بين الحج والعمرة بالتمتع أو لكونه لم يرجع إلى الميقات؛ بدليل سقوط الدم عن حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم أحرموا من ميقاتهم. فقالوا: الإفراد ليس فيه نقص، والتمتع فيه نقص. والتمتع بنوعيه: القران والتمتع المعروف، وقالوا: إن أبا بكر رضي الله عنه و عمر و عثمان ، والخلافة الراشدة ظلت أكثر من عشرين عاماً والحج بالإفراد، وما هذا إلا لفضيلة الإفراد. وقال الحنفية: إن الأفضل القران؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة، وقد قرن عليه الصلاة والسلام منذ ابتداء نسكه إلى نهايته، ولذلك قال: ( إني لبَّدتُّ شعري وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر )، وقد ثبت عنه الصلاة والسلام عن طريق أكثر من خمسة وعشرين صحابياً أنه قرن الحج بالعمرة. قالوا: ولو كان غير القران أفضل لما اختار الله لنبيه المفضول، فكونه عليه الصلاة والسلام لم يحج إلا حجة واحدة، ومع ذلك يختار الله له إحراماً من فوق سبع سماوات أن يقرن الحج بالعمرة يدل على أنه أفضل، وأكدوا هذا بما يلي: أولاً: لو كان الإفراد أفضل -وذلك أنكم تقولون: إن المفرد يأتي بسفر مستقل لعمرته وسفر لحجه- فإننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر أكثر من عمرة، ومع ذلك لم يقع اختيار الله له للإفراد، وإنما اختار الله له القران، فلو كان الإفراد أفضل لما اختار الله لنبيه المفضول. وقالوا: إن القران كان أوحي به من فوق سبع سماوات ولم يكن باختيار النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي، وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة ) فقرانه عليه الصلاة والسلام إنما كان بوحي وباختيار من الله، وهي حجة واحدة ولا يختار له إلا الأفضل. ثالثاً: إنه قد اعتمر أكثر من عمرة، ومع ذلك أمر أن يقرن عمرته مع حجه، فدل على فضيلة قرن الحج بالعمرة. رابعاً: أن القارن يفضل المتمتع؛ لأن المتمتع يشارك القارن في جميع ما ذكروه من هذه العلل، فقالوا: فينفرد القارن عن المتمتع بأن القارن بعد العمرة يبقى بإحرامه، ولكن المتمتع يتحلل فيتمتع بالنساء ويصيب الطيب، والقارن يبقى على إحرامه، والقاعدة: (أن الأكثر تعباً أعظم أجراً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دل على هذه القاعدة كما في الصحيح: ( ثوابكِ على قدر نصَبكِ )، قالوا: فإذا كان القارن لحجه بعمرته يوافق المتمتع في كون كلاً منهما يصيب النسكين، إلا أن هذا يتعب أكثر من المتمتع؛ لأنه يبقى على إحرامه بعد العمرة، وحينئذٍ يكون أفضل. رد أهل التمتع بأن هذا التمتع الذي يقع بين العمرة والحج إنما هو بإذن شرعي. وأما قولكم: إن الأكثر تعباً أعظم أجراً؛ فقد يكون الشيء أقل تعباً ويصيب به الإنسان ما هو أكثر فضيلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( لقد قلت من بعدكِ كلمات لو وزنت بما قلتِ لرجحتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ) ، قالوا: فهذا يدل على أنه قد يكون الشيء أقل عملاً ولكنه أكثر أجراً. ثم أكدوا فضيلة التمتع بأن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى التمتع، وقال: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة ) قالوا: ولا يتمنى إلا الأفضل، وقولكم: إنه أحرم واختار الله له إحرام القران ينسخه ما بعده من التمني. رد الأولون بأن هذا التمني لم يقع ابتداءً وإنما وقع لسبب، وهو أن الصحابة لما أمرهم أن يتحللوا امتنعوا، فطيب خواطرهم بهذه الكلمة. وفي الحقيقة إن أعدل ما ذكر في هذه المسألة وهو اختيار بعض المحققين ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو أن في المسألة بالتفصيل: فإن كان الرجل يستطيع أن يأتي إلى البيت ويفرد حجه عن عمرته فالإفراد أفضل، وإن كان يستطيع أن يسوق الهدي معه فالقران أفضل، وإن كان لا يستطيع أن يسوق الهدي، أو يصعب عليه -كحال أكثر الناس اليوم حينما يقدمون من خارج المملكة- فالتمتع له أفضل؛ لأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسفر مستقل لعمرتهم، وبناء على ذلك يجمعون بين التمتع بالتحلل ثم يحرمون بعد ذلك بحجهم لصعوبة سوقهم للهدي، وعلى هذا يكون الجمع بين النصوص من جميع الأوجه، ففضل التمتع من وجه، وفضل القران من وجه، وفضل الإفراد من وجه، ويكون هذا جمعاً بين هذه النصوص والأوجه المختلفة. خلاف العلماء فيمن يجوز له التمتع مسألة: من الذي يتمتع؟ ينقسم الناس في التمتع إلى قسمين: مكي، وغير مكي. حاضر المسجد الحرام وغير حاضر المسجد الحرام، أما الذين هم من حاضري المسجد الحرام فللعلماء فيهم أوجه، وأقوى ما قيل في حاضري المسجد الحرام أن المراد بهم: أهل مساكن مكة أو من كان دون حدود الحرم، أو من كان دون مسافة القصر، فالمكي ومن كان داخل حدود حرم مكة فهو من حاضري المسجد الحرام. وللعلماء قولان فيمن يجوز له أن يتمتع: قال جمهور العلماء: المكي وحاضر المسجد الحرام يتمتعون، وإن تمتعوا فلا دم عليهم، وعلى هذا فأهل مكة يجوز لهم أن يأتوا بالعمرة في شوال وما بعد شوال، ثم يحجون من عامهم فهم متمتعون، ويصيبون فضيلة التمتع ولا يلزمهم الدم. وقال الحنفية رحمة الله عليهم: المكي ومن كان من حاضري المسجد الحرام لا يتمتع، وإن تمتع فعليه دم. فلا يرون لأهل مكة أن يتمتعوا، وإن تمتعوا فعليهم الدم. وسبب الخلاف الآية الكريمة في قوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196]. فلما قال الله: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة:196] اختلف في مرجع الإشارة: (ذلك)، فالجمهور يقولون: (ذلك) عائد إلى إيجاب الدم: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196] فأعادوه إلى أقرب مذكور؛ لأن الإشارة تعود إلى أقرب مذكور، فيكون قوله: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) أول الآية منفصل عن آخرها، ويكون قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة:196] المراد به: إيجاب الدم، فيقولون: يصح التمتع لعموم قوله: { فَمَنْ تَمَتَّعَ } [البقرة:196] ولا يجب الدم لقوله: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة:196]. والحنفية يقولون: (ذلك) عائد إلى أول الآية، بدليل أنه اسم الإشارة (ذلك) للبعيد، فقالوا: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة:196] عائد إلى صدر الآية: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } [البقرة:196] فالتمتع لمن لم يكن من حاضري المسجد الحرام. قالوا: والدليل الثاني عندنا على هذا أنه قال: { ذَلِكَ لِمَنْ } [البقرة:196] فلو كان الدم -كما يقول الجمهور- لقال (ذلك على من لم يكن). فدل على أن المراد مشروعية التمتع وليس وجوب الدم. رد الجمهور بأن (ذلك) جاء اسم إشارة لصيغة البعيد لوجود الفصل: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة:196] فنظراً للفصل بالبدل عن الواجب جاء باسم ( ذلك )، حتى لا يفهم منه أن هذا الإيجاب مختص بمن يكون على خلاف هذه الحال. وأجابوا عن قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ } [البقرة:196] أن (اللام) تأتي بمعنى (على) كما قال تعالى: { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء:7] أي: فعليها، فيكون قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ } [البقرة:196] أي: ذلك الدم على من لم يكن من حاضري المسجد الحرام. ومذهب الجمهور أقوى، وعليه: فإن أهل مكة يتمتعون، وإن تمتعوا فلا دم عليهم. فالمتمتع إما أن يكون من حاضري المسجد الحرام، وإما أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام، فيشمل الذين كانوا خارج حدود الحرم أو خارج مسافة القصر، فالآفاقيون الذين هم غير حاضري المسجد الحرام يشرع لهم التمتع بإجماع العلماء. شروط التمتع بالعمرة إلى الحج قال المصنف رحمه الله: [وصفته أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه]. شروط التمتع: أن تكون هناك عمرة في أشهر الحج، فمن اعتمروا في أشهر الحج صح له أن يتمتع بهذه العمرة إلى الحج، بشرط البقاء بعد فعل هذه العمرة بمكة، وعدم الرجوع إلى الميقات أو ما يحاذيه أو إلى مسافة القصر، وأن يحج من ذلك العام، فهذه شروط لا بد من توفرها للحكم بصحة التمتع. أما الشرط الأول -أن يأتوا بعمرة في أشهر الحج- ففيه تفصيل: أشهر الحج تبدأ من ليلة العيد، فمن أوقع العمرة في ليلة عيد الفطر فما بعدها من شوال أو ذي القعدة فحينئذٍ يصدق على هذه العمرة أنها عمرة تمتع إن بقي بعدها وحج، لكن إن وقعت عمرته قبل ليلة العيد، ثم بقي بمكة وحج من عامه؛ فليس بمتمتع بالإجماع؛ لأن عمرته ليست في أشهر الحج، وعمرة التمتع يشترط فيها أن تكون في أشهر الحج. لكن لو أحرم قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان، وغابت عليه شمس آخر يوم من رمضان قبل أن يتم، فأوقع بعض أفعال العمرة في رمضان وبعض أفعالها في شوال، فهل نقول: العبرة بالابتداء، أم العبرة بالانتهاء، أم يفصل؟ خلاف بين السلف، قال بعض العلماء: العبرة بالنية، فإذا دخل في النسك ونواه قبل غروب الشمس ولو بلحظة؛ فإنه لا يعتبر متمتعاً، فهم يعتبرون أول لحظة من العمرة، وهي نية الدخول في النسك، فإن غابت عليه الشمس ثم نوى ولو بلحظة بعد مغيبها فإنه متمتع، وهذا مذهب الظاهرية. القول الثاني: العبرة بدخوله إلى مكة، فإن وقع دخوله مكة قبل غروب الشمس؛ فعمرته ليست تمتعاً، فهو مفرد إن حج من عامه، وإن وقع دخوله لمكة وحدود الحرم بعد مغيب الشمس، وبقي بعد هذه العمرة وحج فهو متمتع، فالعبرة عندهم بدخول حدود الحرم، وهذا مذهب طائفة من السلف ومنهم عطاء . القول الثالث: العبرة بابتداء الطواف، فننظر متى ابتدأ الطواف، فإذا ابتدأ طوافه قبل غروب الشمس ولو بلحظة، فهو مفرد إن حج من عامه، وإن ابتدأ طوافه بعد غروب الشمس ولو بلحظة؛ فهو متمتع إن حج من عامه، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. القول الرابع: العبرة بأكثر الطواف، وهذا مذهب الحنفية، فيقولون: إن طاف أربعة أشواط قبل غروب الشمس؛ فمفرد إن حج من عامه، وإن طاف الثلاثة الأشواط قبل غروب الشمس والأربعة بعد الغروب؛ فإنه متمتع إن حج من عامه. فتجد أن مذاهب الأئمة اعتبرت بالطواف؛ لأن الطواف أول أركان العمرة. وهناك قول خامس: وهو أن العبرة بالتحلل، وهو مذهب المالكية، قالوا: ننظر متى يقص شعره أو يحلق رأسه، فإن وقعت حلاقته أو قصه لشعر رأسه قبل غروب الشمس فإنه مفرد إن حج من عامه، وإن وقع القص والتحلل بعد غروب الشمس ولو بلحظة فإنه متمتع إن حج من عامه. وأصح هذه الأقوال والعلم عند الله: أن العبرة بابتداء الطواف لما ذكرنا؛ وذلك لأنه يكون حينئذٍ قد دخل في ركن عمرته فإذا كان قد ابتدأ طوافه قبل غروب الشمس فإنه حينئذٍ يكون قد أوقع الركن -الذي هو ركن العمرة- قبل غروب الشمس، وحينئذٍ لا يصدق عليه أنه تمتع بعمرته إلى الحج. الشرط الثاني من شروط التمتع: بقاؤه بمكة وهذا هو نص القرآن: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } [البقرة:196] فإنه يشترط في كونه متمتعاً أن يبقى بعد العمرة إلى أن يحج من نفس العام، فلو رجع بعد عمرته إلى بلده أو إلى ميقات بلده؛ فإنه لم يتمتع بسفره الأول -وهو عمرته الأولى- لحجه، وحينئذٍ كأنه أنشأ سفراً ثانياً، وعليه فيكون مفرداً ولا يكون متمتعاً على ظاهر القرآن. وشذ طاووس فقال: هو متمتع وإن رجع إلى بلده. والعلماء يقولون: شذ طاووس كما عبر به غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم في هذه المسألة، وإذا قال العلماء: شذ. فليس المراد تحقير العالم، ولكن الخلاف عندهم في المسائل على مراتب، فتارة يكون المخالف مصادماً للنصوص أو مصادماً لجماهير العلماء، فيقولون عنه: شذ؛ تنبيهاً إلى أن العمل عند الأئمة والسلف والعلماء وأكثر الأمة على عدم قبول هذا القول؛ لمخالفته للنصوص القوية، فيعبرون عن ذلك بالشذوذ مثلما يقولون: شذ ابن عباس فقال بالمتعة. وليس المراد منه تحقير ابن عباس رضي الله عنه، وإنما المراد أن قوله هذا خالف الأصول وخالف الجماهير، ولذلك فإن خلاف الشذوذ يكون في المسائل التي تخالف النصوص، كالقول بجواز ربا الفضل وبجواز المتعة، ونحوها من المسائل المفردة. فعند طاووس من سافر إلى بلده بعد عمرته وحج من عامه فإنه يعتبر متمتعاً، وهذا قول شاذ كما ذكرنا لمخالفته لظاهر الآية الكريمة، وجماهير السلف والخلف على خلاف ذلك، وأن من رجع إلى بلده أو أنشأ السفر بعد عمرته فإنه لم يتمتع على ظاهر الصفة التي نص عليها كتاب الله عز وجل. والشرط الثالث من شروط التمتع: أن يحج من عامه، ويحكى عن عبد الله بن الزبير : أنه لو أتى بالعمرة في هذه السنة، ثم أتى بالحج من العام القادم أنه متمتع، ولكن جماهير السلف رحمة الله عليهم على خلافه، والإجماع على أنه لا يكون متمتعاً إلا إذا حج من ذلك العام. حكم من تمتع بالعمرة إلى الحج وليس من حاضري المسجد الحرام قال المصنف رحمه الله: [وعلى الأفقي دم] أي: وعلى الأفقي دم إن تمتع، وفهم من ذلك أن غير الأفقي لا يلزمه دم. أما بالنسبة لإيجاب الدم على الأفقي فلقوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196] فأمر الله سبحانه وتعالى من تمتع بالعمرة إلى الحج أن يريق الدم، وهذا الدم ستأتي مباحثه ومسائله في الفدية، ونبين إن شاء الله ما هو المعتبر في هذا الدم، وأين محله، وما هو الواجب، والسن الواجب في هذه الدماء، سواء كانت في قران أو تمتع. حكم المرأة الحائض إذا خشيت فوات الحج قال رحمه الله: [وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج أحرمت به وصارت قارنة]. هذا إذا كانت المرأة متمتعة، والمرأة الحائض في الإحرام قبل الحج على صور: الصورة الأولى: أن يأتيها الحيض قبل نية النسك، فحينئذٍ إذا كان هناك وقت قبل الحج ويمكنها أن تتمتع بالعمرة؛ فالأفضل أن تصيب فضيلة التمتع، فتحرم بالعمرة، ثم تتحلل من العمرة، ثم بعد ذلك تتم مناسك الحج، مثال ذلك: لو أن امرأة أقبلت على الميقات في شهر ذي القعدة، وجاءها الحيض، وحيضها ثمانية أيام، فقد بقي من الوقت ما يسعها أن تطهر ثم تؤدي العمرة قبل أن تتلبس بالحج أي: قبل أيام الحج، فحينئذٍ تحرم بالعمرة، ويجوز لها وهي حائض أن تنوي العمرة، ولكن تمتنع من الطواف بالبيت، لقوله عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين عائشة حيث كانت معه في حجه وأصابها الحيض فقال: ( ما لكِ أنفستِ؟ قالت: نعم. قال: ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ) فهذا يدل على أنه لا يجوز لها أن تطوف بالبيت، ولا يجزئها أن تطوف وهي حائض على ظاهر النص، فتمكث حتى تخرج من عادتها وتطهر، فتغتسل ثم تؤدي عمرتها وتتحلل منها، هذه الصورة الأولى. الصورة الثانية: أن يطرأ الحيض بعد نيتها للنسك، فإذا طرأ الحيض بعد نيتها للنسك فلا يخلو من حالتين: إما أن يمكنها أن تؤدي العمرة قبل أيام الحج، وإما أن يضيق الوقت ولا يمكنها أن تؤدي عمرتها قبل أيام الحج، كأن تكون عادتها ثمانية أيام، وبقي على الحج ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فإذا طرأ عليها الدم وكانت قد دخلت في النسك فلا تخلو نيتها. إما أن تكون مفردة فحينئذٍ تمضي إلى عرفات، وتتم مناسك الحج، حتى إذا طهرت طافت طواف الإفاضة ولا إشكال. وأما إذا كانت متمتعة -أي: كانت معتمرة- فإنه لا يمكنها أن تؤدي عمرتها قبل حجها؛ لأنه وقت ضيق، فتنقلب قارنة لمكان الضرورة، لقول عليه الصلاة والسلام: ( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )، فدل على أنها كانت متمتعة بمنعه إياها من الطواف بالبيت، وقد ثبت أنها كانت متمتعة، فحينئذٍ انقلبت إلى القران لقوله عليه الصلاة والسلام لها في آخر الحج: ( طوافكِ بالبيت وسعيكِ بين الصفا والمروة كافيكِ لحجكِ وعمرتكِ ) فدل هذا على أن الذي وقع منها إنما هو القران؛ لأنه لم يمكنها أن تتحلل، فلما منعها من الطواف دل على أنه يجوز لها أن تنقلب قارنة، وحينئذٍ تؤخر طوافها بالبيت إلى طهرها، وهذا هو قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها. وهكذا الحال إذا كان طرأ العذر، فإذا أحرمت بالتمتع فطرأ الحيض فإنها تحرم وينقلب نسكها القران، على ظاهر هذه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. التلبية قال المصنف رحمه الله: [وإذا استوى على راحلته قال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. يصوت بها الرجل وتخفيها المرأة]. تحقيق الخلاف في وقت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم في حجته قوله رحمه الله: (وإذا استوى على راحلته). السنة أن يلبي وهو في مصلاه، فقد أوجب عليه الصلاة والسلام وهو في مصلاه، وأوجب وهو على الراحلة، وأوجب وهو على البيداء، وهذا كله ثابت عنه، ولذلك فضل ابن عمر و ابن عباس رضي الله عنهما ذلك فيما ثبت وصح عنهما، وكان ابن عمر يقول: ( بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أهل إلا من عند الشجرة )، وقد بين ابن عباس السبب في ذلك، وهو أن الناس كانوا كثيرين. وقال أنس رضي الله عنه: ( كنت أنظر أمامي فأرى الناس مد البصر، وأنظر عن يميني فأرى الناس مد البصر، وأنظر عن شمالي فأرى الناس مد البصر، كلهم يقولون: كيف يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما نزل إلى الميقات وصلى عليه الصلاة والسلام أدرك أناس تلبيته وهو في مصلاه )، وأدرك أناس تلبيته وهو عند الشجرة، وأدرك أناس تلبيته وهو قد استوى على راحلته، وأدرك أناس تلبيته وهو على البيداء؛ لأن الميقات -وهو الذي يسمى بأبيار علي- واد، ومنخفض الوادي في بطنه المسجد والمصلى، هذا المنخفض يكتنفه شقي الوادي الأيمن والأيسر، أيسر الوادي من جهة جبل عير الذي هو حد المدينة، وأيمن الوادي الذي هو صفحته اليمنى بعد أن تخرج من المسجد وتصعد هذه الربوة التي هي أعلى الشط الأيمن للوادي وهي تسمى بالبيداء، وهي ما ارتفع من الأرض من مائتي متر إلى ثلاثمائة متر، وبعد البيداء وأنت في طريقك إلى مكة متجهاً إلى جهة جنوب غرب تقريباً تأتي منطقة تسمى ذات الجيش، وهي التي انقطع فيها عقد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكان لـ أسماء ، في قصة التيمم، فالبيداء هذه كانت هي الربوة العالية التي بعد الوادي، بمعنى أنك إذا خرجت من الوادي وصعدت فأول ما يواجهك البيداء، فكان الناس يعتقدون أن التلبية تبدأ من البيداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رقى البيداء لبى؛ لأنه كان من سنته إذا علا النشز أن يلبي، فأدرك أناس تلبيته بالبيداء، فظنوا أن السنة هناك، وأدرك أناس تلبيته عند الشجرة فظن أن السنة هناك، وأدرك أناس تلبيته أول ما أوجب. فالسنة أنه يلبي وهو في مصلاه، ثم إذا ركب على راحلته -وفي حكمها السيارة الآن- يلبي، وإذا علا البيداء أو صعد من شط الوادي لبى؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواء صعد على الخط القديم -الذي هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم في القديم- أو صعد على الخط الجديد -الذي يسمى بالهجرة-؛ لأن الجهتين اللتين تكتنفان الوادي بمثابة واحدة من حيث العلو والنشز، فالسنة فيهما واحدة، فكان ابن عمر يقول: ( بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) تكذبون: الكذب يطلق بمعنى الكذب المذموم، وبمعنى مخالفة الحقيقة، وليس المراد به ذم صاحبه، فقال: ( تكذبون ) يعني: أنكم تقولون بها أمراً غير الذي وقع منه عليه الصلاة والسلام، ولا يقصد أصل الكذب الذي ورد في الوعيد، فمراده: أن الأصل أن التلبية كانت في بطن الوادي، فالسنة أن تكون التلبية على هذه الصورة. معنى التلبية أما قوله: ( لبيك اللهم لبيك )، (لبى): اختلف العلماء في أصلها، قيل: (لبى) بمعنى أجاب، تقول: لبيت النداء، أي: أجبته، وهذا مبني على قوله تعالى: { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا } [الحج:27] حيث أوحى الله بذلك لإبراهيم فقال: (ربي وما يبلغ صوتي. قال: أذن وعلينا البلاغ، وهو حديث رواه الحاكم في مستدركه، وصححه غير واحد، فأذن وقال: ( أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا ) فمن كتب الله عليه الحج والعمرة فإنه يلبي هذا النداء بقوله: لبيك. أي: إجابة لداعي الله عز وجل، هذا على القول بأنها مشتقة من إجابة النداء. وقيل: (لبى) بمعنى: لب الشيء وخالصه، والمراد بذلك: إن إخلاصي لك يا ألله. فمعنى (لبيك): أي إخلاصي؛ لأنها كلمة التوحيد، ولذلك قال جابر : (أهل بالتوحيد). فقالوا: إن المراد بها إخلاص العبادة لله عز وجل، وهو الأصل الذي من أجله أمر الله عز وجل بالحج إلى بيته، فتكون أول كلمة من الإنسان بالتلبية شعارها التوحيد والإخلاص لله سبحانه وتعالى بالعبادة، وإفرادها له جل شأنه، فقالوا: إنها مأخوذة من لب الشيء، وهو خالصه. وقيل: مأخوذة من (ألب بالمكان)، إذا أقام به، أي: أنا مقيم على طاعتك طاعة بعد طاعة، أي: أنه ثابت على طاعة الله مستديم عليها. وقيل: إنها من (ألب) بمعنى: واجه، وتجاه الشيء وجهته تقول: (داري تلب بدارك) أي: تواجهها، كأنه يقصد بقوله: (لبيك اللهم) أي: اتجاهي لك يا ألله في كل صغير وكبير، فلا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا به، ولا يستجار إلا به، فكأنه يقول: (وجهت وجهي لك كلاً) كما قال تعالى: { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:79] فهذه أوجه ذكرها العلماء في معنى: ( لبيك اللهم) أي: لبيك يا ألله. صفة التلبية للتلبية صفتان: الصفة الواردة المشروعة، والصفة الزائدة من المكلف ثناءً على الله عز وجل. أما بالنسبة للصفة المشروعة: فالتي ذكرها المصنف: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) هذه الصفة الواردة، وهناك حديثان في السنن، أولهما: ( لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً ) وهو حديث أنس ، والثاني: ( لبيك إله الحق ) وهو حديث أبي هريرة ، والصحيح الأول، وأما الصيغتان الأخريان ففيها كلام وفي سندهما مقال، وبعض العلماء يحسن إسناد: ( لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً ). أما بالنسبة للصفة الزائدة عن الوارد، كأن يقول: لبيك يا رحمن، لبيك يا عظيم، لبيك يا كريم . ونحو ذلك، فللعلماء قولان: قيل: لا يجوز أن يحدث غير الصفة الواردة، وقيل: يجوز، وهذا هو الصحيح؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الصحابة يقولون: لبيك ذا المعارج ) فلم يأمرهم بالتزام اللفظ الوارد، ولذلك قال جمهور العلماء بجواز الزيادة وهو فعل السلف، ولذلك كان ابن عمر يقول: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) والأفضل: أن يقتصر على الوارد؛ لأنه إذا اقتصر على الوارد أجر بأجرين: الأول: أجر التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: أجر اللفظ الوارد. حكم التلبية الصحيح وجوبها، وهو أصح قولي العلماء، ولذلك من نوى ولم يلبِ حتى فرغ من نسك العمرة أو الحج، يلزمه دم جبراناً لهذا الواجب وهي التلبية، قال صلى الله عليه وسلم: ( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ). والدليل على وجوب التلبية: قوله عليه الصلاة والسلام: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة ) قالوا: إن هذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لبيك عمرة وحجة ). كما في حديث أنس في الصحيح، قالوا: فقوله: ( أهل في هذا الوادي المبارك، وقل ) الإهلال: هو النية، وقل: المراد به التلبية، فيكون أمراً وهو دال على الوجوب. حكم رفع الصوت بالتلبية السنة رفع الصوت بالتلبية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية )، وهذا ثابت في الصحيح، فدل على أن السنة في التلبية أن يرفع بها الصوت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( الحج: العج والثج ) أما (العج): فهو رفع الصوت بالتلبية، وأما (الثج): فهو نحر الهدي ونحوها مما يتقرب به إلى الله عز وجل في الأنساك في الحج. وقت قطع التلبية للحاج والمعتمر أما المعتمر، فقال طائفة من العلماء: يقطع التلبية عند الحرار التي تبدو قبل مكة، وهي الحرار التي قبل التنعيم، وهو المأثور عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال به جمع من فقهاء المدينة. والقول الثاني: أنه يقطع التلبية عند دخوله لحدود الحرم؛ لأنه يلبي إلى الحرم، فإذا بلغ الحرم فإنه يقطع التلبية. والقول الثالث: أنه يقطع التلبية عند ابتداء الطواف. وهو أصح الأقوال في العمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ( أنه لم يزل يلبي حتى استلم الحجر )، فدل على أن التلبية تنقطع عند استلام الحجر، يعني: عند ابتداء الطواف. وأما الحاج فقال جمع من العلماء: يقطع التلبية إذا مضى إلى الوقوف بعرفة، وذلك بعد الزوال؛ لأنه يبتدئ الوقوف بعد الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل خارج عرفة وذلك بنمرة، وهو المنبسط الذي قبل الوادي الذي بين حدود الحرم وبين الوادي الذي هو وادي عرنة، هناك منبسط يقرب من خمسمائة متر يسمى بنمرة، نزل فيه عليه الصلاة والسلام، فابتدأ وقوفه ومضيه إلى عرفات بعد الزوال، وبعد أن زالت الشمس ركب صلوات الله وسلامه عليه وخطب الناس، قالوا: فيقطع التلبية بعد الزوال من يوم عرفة، وكان يفعله علي رضي الله عنه و عائشة رضي الله عنها، وأكدوا هذا بأن التلبية للحج، والحج عرفة، ويكون وقوف عرفة بعد الزوال فيقطع عند الزوال. القول الثاني: أنه يقطع عند ابتداء رمي جمرة العقبة، وهو مذهب الجمهور. والقول الثالث: أنه يقطع عند آخر حصاة يرمي بها جمرة العقبة، وهو رواية عن أحمد وقول إسحاق بن راهويه وجمع من أهل الحديث، وهو الصحيح؛ لحديث الفضل أنه قال: ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يلبي حتى رمى آخر حصاة من جمرة العقبة ). وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (218) صـــــ(1) إلى صــ(19) شرح زاد المستقنع - باب محظورات الإحرام [1] الحج شعيرة عظيمة، يخرج فيها العبد عن أهله ووطنه، ويخرج كذلك عن إلفه ورفاهيته، ولذلك حظر على المحرم عدة أمور ما تحصل بها الرفاهية؛ ليكون أبلغ في التعبد لله، منها: الأخذ من الشعر والأظافر، وتغطية الرأس، ولبس المخيط للذكر، واستخدام الطيب. محظورات الإحرام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: معنى محظورات الإحرام وعددها فيقول المصنف رحمه الله: [باب: محظورات الإحرام]: المحظورات: جمع محظور، يقال: حُظر الشيء إذا مُنع، والمراد بهذا الباب أن يبين رحمه الله جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بما ينبغي على المحرم أن يجتنبه. والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى حرم على المحرم إذا أحرم بالنسك من حج أو عمرة أو هما معاً أن يفعل أشياء في بدنه أو متعلقة بالغير، وهذه الأشياء جاءت بها نصوص الكتاب ونصوص السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على أكثرها، ولا يجوز للمسلم إذا أحرم بالنسك أن يتلبس بها، وتوصف بكونها محظورات؛ لأن الله حظرها على المحرم؛ تعظيماً لهذه الشعيرة، وإشغالاً لعبده بما هو أهم، ولذلك يكون له الأجر والمثوبة بالامتناع والانكفاف عن هذه الأمور التي حرمها الله عليه. أما مناسبة هذا الباب لما قبله: فبعد أن بيّن رحمه الله الإحرام شرع في بيان ما ينبغي على المحرم أن يجتنبه، وهذا ترتيب صحيح؛ لأن أول ما يفعله الحاج والمعتمر أن يحرم، فإذا أحرم تقول له: لا تفعل أو افعل، فإذا قلت له: لا تفعل، فهذه هي المحظورات، فيكون الكلام عن المحظورات بعد وقوع الإحرام وبيان أحكامه. قوله: [وهي تسع]. أي: المحظورات تسع، وهذا أسلوب إجمال قبل البيان والتفصيل، يهيئ السامع ويشوقه إلى معرفة هذه التفاصيل، بخلاف ما إذا بدأ بها سرداً. وهذه المحظورات التسع منها ما يتعلق ببدن الإنسان، ومنها ما يتعلق بغيره، ومنها ما يعين على تفرغ القلب لذكر الله عز وجل، ومنها ما شرع الله عز وجل للمحرم أن ينكف عنه ابتلاء واختباراً. المحظور الأول: حلق الشعر قال رحمه الله: [حلق الشعر]: وهو المحظور الأول، والمراد بذلك جزّه، وجزّ الشعر يكون بالموس ويكون بالسكين وما في حكمهما من الآلات. أي: يحرم على المحرم أن يحلق شعره، والأصل في ذلك التحريم قوله سبحانه وتعالى: { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة:196] ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر ) ، فلا يجوز لمن أحرم بالنسك أن يحلق شعره. وعمم رحمه الله في الشعر، فشمل شعر أعالي البدن كشعر الرأس وشعر اللحيين والشارب، وكذلك شعر الصدر وشعر اليدين، وأسافل البدن، فيشمل ما يكون حول الفرجين، وعلى الساقين، فكل ذلك حظر على المحرم أن يزيله. وتقع الإزالة بالحلق كما تقع بالنتف، وكذلك بالتقصير، فهذه ثلاثة أوجه للاعتداء على الشعر: إما بالحلق، وإما بالتقصير، وإما بالنتف، فالحلق والنتف كلاهما في حكم واحد، والتقصير دلت السنة على أنه في حكم الحلق، أي: من ناحية التأثير وإن كان دونه من ناحية الفضل، ولذلك يصح أن تتحلل من العمرة والحج بالتقصير كما تتحلل بالحلق، فأنت منهي عن قص الشعر كما أنك منهي عن حلق الشعر، وهما في مرتبة واحدة من حيث الحكم، وإن كان الحلق أفضل من التقصير. وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم أن يحلق كما لا يجوز له أن يقصر؛ لأن الله عز وجل نص على هذا التحريم في كتابه، وكذلك نتف الشعر، كنتف شعر الإبطين ونحو ذلك، فهذا بالإجماع يعتبر محرماً، خلافاً لمن شذ في مسألة النتف، فإن النتف فيه إزالة أبلغ من إزالة الحلق، وعلى هذا فلا يجوز له أن يحلق، ولا أن يقصر، ولا أن ينتف، سواء كان التقصير لأغلب الشعر أو كان لأقله، فلو أخذ قدراً يسيراً من الشعر وقصه فإنه كأخذ الشعرة نفسها، فالتقصير في حكم الحلق سواء بسواء. فحلق الشعر محظور من محظورات الإحرام، والعلماء رحمهم الله أجمعوا عليه، لكن بينهم خلاف في بعض التفاصيل، أما من حيث كونه محظوراً فهذا ليس فيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله. قال بعض العلماء: إن الله عز وجل ابتلى الحاج بأن يكون على شعث وعلى حالة وهيئة تخالف حال المترفّه، ولذلك يترك الشعر حتى يكون أبلغ في تقربه لله سبحانه وتعالى، وأبعد عن الترفّه الذي يشغله عن العبادة. المحظور الثاني: تقليم الأظافر قال رحمه الله: [وتقليم الأظافر]: أي: المحظور الثاني: تقليم الأظافر، والمراد بذلك قصها، وقص الأظافر من خصال الفطرة، كما ثبت بذلك الحديث في الصحيحين، ولكن الله عز وجل حرم على المحرم أن يقلم أظفاره؛ لأنه من التفث، وقد نهي المحرم عن تقليم الأظفار لما فيه من الترفه، والدليل على ذلك قوله سبحانه: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } [الحج:29] ، قال بعض السلف: إن التفث المراد به إزالة الأظفار بقص وتقليم ونحو ذلك، وعلى هذا جماهير أهل العلم. [فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم]. إذا كان المسلم مأموراً باجتناب حلق الشعر وتقليم الأظفار، فمتى يكون الإخلال كاملاً في قصه للشعر أو حلقه له أو نتفه له، وكذلك في تقليمه للأظفار؟ قال جمع من العلماء: إن الله سبحانه وتعالى قال: { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } [البقرة:196] ، قالوا: ولا يمكن أن يكون مخلاً إلا إذا أزال ثلاث شعرات فأكثر، وهي أقل ما يصدق عليه الجمع، فمن أزال شعرة واحدة فليس عليه فدية ولكن عليه أن يتصدق بحفنة من طعام، ومن أزال الشعرتين فإنه يتصدق بحفنتين من طعام حتى يبلغ قدر الإخلال بثلاث شعرات، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم كما درج عليه المصنف رحمه الله؛ والسبب في ذلك: صيغة الجمع في آية البقرة. المحظور الثالث: تغطية الرأس قال رحمه الله: [ومن غطى رأسه بملاصق فدى]. أي: هذا هو المحظور الثالث: وهو تغطية الرأس حال الإحرام بالحج أو العمرة، فلا يجوز للمسلم أن يغطي رأسه بملاصق؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل كما في حديث ابن عمر في الصحيحين قال: ( يا رسول الله! ما يلبس المحرم؟ قال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ) ، قالوا: فقال قال عليه الصلاة والسلام: (ولا العمائم) والعمائم جمع عمامة، سميت بذلك لأنها تعم الرأس بالتغطية، قالوا: فكأن مقصود الشرع أن لا يغطي المحرم رأسه، ومن هنا قالوا: من محظورات الإحرام أن يغطي المحرم رأسه بملاصق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه فقال: (ولا العمائم) وهي التي تلاصق، وكذلك نص عليه في قوله: (ولا البرانس) لأن البرنس يكون غطاء ملتصقاً بنفس الثوب، قالوا: فهذا النص الصحيح يدل دلالة واضحة على أن المحرم لا يجوز له أن يغطي رأسه، بل يضحى حتى يكون أبلغ في تذلله لله سبحانه وتعالى، ويكون رأسه مكشوفاً. فلا يجوز للمحرم الذكر أن يغطي رأسه بالإجماع، وإذا غطى رأسه بغير الملاصق كأن يأتي تحت جدار، أو يأتي مثلاً تحت غطاء السيارة الذي من أعلى يستظل من الشمس، أو جاء تحت شجرة، فلا حرج في ذلك؛ لأنه ليس بملاصق، وهو وإن غطى الرأس من جهة كونه يحول بين الرأس وبين السماء لكنه ليس بملاصق مؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نص على تحريم الملاصق، ومن هنا تجد العلماء رحمهم الله يقولون: بملاصق، أي: أن يغطي رأسه بملاصق، فخرج غير الملاصق، ولو حمل على رأسه شيئاً فللعلماء وجهان: قال بعض أهل العلم: لا يجعل ذلك الشيء يلتصق برأسه، فلو حمل متاعاً قالوا: عليه أن يبينه عن الرأس، ولا يجعله ملتصقاً بالرأس. ومن أهل العلم من فصل فقال: إن وضعه على الرأس بقصد حمله فإنه يجوز؛ لأن التغطية جاءت تبعاً، ويجوز في الشيء تبعاً ما لا يجوز قصداً كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكما لو أراد الطبيب أن يقطع من جلدة يده وعليها شعر، فإنه إذا زالت الجلدة والشعر عليها فليس عليه فدية؛ لأنه لم يحلق ولم ينتف ولم يقص، وجاءت إزالة الشعر تبعاً ولم تأت أصلاً وقصداً، ففرقوا بين ما كان أصلاً وبين ما كان تبعاً، فقالوا: يجوز له أن يضع المتاع على رأسه، ولا فدية عليه. ولكن المذهب الذي ينظر إلى صورة الظاهر أبلغ وأقوى؛ وذلك لأنه يوافق معنى النص في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. المحظور الرابع: لبس المخيط للذكر قوله رحمه الله: [وإن لبس ذكر مخيطاً فدى]. هذا هو رابع المحظورات: والمخيط: هو الذي يحيط بالعضو، سواء كان لأعلى البدن كالقميص، أو كان لأسفل البدن كالسراويل وأمثالها، أو كان جامعاً بين أعلى البدن وأسفله كالثياب الموجودة اليوم، فهذا كله من محظورات الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس )، فدل على عدم جواز ستر أعلى البدن أو أسفله أو كله بالمخيط، وعلى هذا قالوا: إنه يعتبر محظوراً، وهذا محل إجماع بين أهل العلم رحمهم الله. والمراد بالمخيط كما ذكرنا سابقاً أن يكون محيطاً بالعضو. فلو ستر بغير المخيط، كأن أخذ الرداء فوضعه على كتفيه أو على عاتقيه فإن هذا هو شأن المحرم، وكذلك أيضاً لو التحف ببطانية أو نحوها على كتفيه فلا بأس، ولا نقول: إنه ستر بدنه بمخيط؛ لأن البطانية ليست مفصلة على الجسد، بخلاف ما إذا لبس عباءة أو بشتاً أو نحو ذلك، فإنه إذا وضعه يعتبر في حكم اللابس، وللعلماء وجهان في البشت: قال بعضهم: لو وضعه على كتفيه ولم يدخل يديه فيه لم يكن لابساً ولا تلزمه الفدية، وإنما تلزمه الفدية إذا حصلت الإحاطة، وذلك بإدخاله اليدين في الأكمام، أما لو وضعه على عاتقيه لشدة برد فلا يلزمه شيء؛ لأنه ليس بلابس حقيقة، وإنما هو مستتر به من شدة البرد فأشبه البطانية أو اللحاف، وهذا قوي وله وجهه، ولكن الورع والأفضل أن لا يفعل الإنسان ذلك، وإن كان لا يصدق عليه من جهة النظر أنه لابس حقيقة إلا بالإدخال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا) ففرق بين الأمرين، ولذلك لو أخذ العباءة ووضعها دون تفصيلها على كتفيه فإنه لا تلزمه الفدية. فالمخيط ضابطه: أن يكون مفصلاً للعضو، فلا يصدق عليه أنه لابس إلا إذا أدخل يده في الأكمام، لأن الرداء لا يوجب الفدية بالإجماع، ولا يعتبر محظوراً من محظورات الإحرام لعدم اشتماله على الإحاطة بالعضو. حكم استخدام الدهان للمحرم قال رحمه الله: [أو ادهن بمطيب]. كأن يوجد معجون -كالموجود في زماننا- فيه طيب فادهن به، وفي حكم الادهان أن يغتسل بالطيب، كالصابون الذي يكون مطيباً، فإن الادهان والاغتسال كله إصابة لظاهر البدن، فالجميع لا يجوز، فلو كان هناك دهان شعر أو دهان بدن يحتاجه حتى ولو كان لمرض، وهذا الدهان الذي للمرض فيه رائحة طيب فلا يجوز، ويستوي في الادهان أن يكون الطيب قصداً، كأن تأخذ الورد وتدهن به، أو يكون مركباً مع شيء آخر، فإنه ككونه منفرداً، ويستوي الحكم في ذلك ما دام أن الرائحة موجودة والطيب موجود، وهو آخذ حكم التطيب كما ذكرنا. ويستوي أن يكون الطيب منفرداً كأن يأخذ الورد أو العود ويدهن به، أو يكون مخلوطاً بغيره كالصابون المطيب برائحة ذكية يقصد منها أن يكون له أثر، فهذا لا يجوز أن يغتسل به، ولو وجد في الدواء -كالأدهنة التي يتعالج بها- ما فيه رائحة طيبة فإنه يرجع للأطباء ويسألون، فيقال لهم: هذه الرائحة الطيبة هل هي نكهة مضافة للدواء؟ لأن الأعشاب أو المستخلصات الطبية تكون رائحتها نتنة، فيحتاج لإزالة هذه الرائحة بوضع طيب، فحينئذٍ تجب الفدية، فيجوز له لمكان المرض أن يستخدم هذا الدهان، وتكون الفدية لازمة له، فوجود الأذى ووجود الضرر لا يمنع من الفدية، ولذلك قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة:196] ، وكما لو حلق رأسه لضرر القمل كما في حديث كعب رضي الله عنه، وبسببه نزلت آية الفدية. الشاهد: أنه إذا كان الدهان دهان علاج وطب وسألنا الأطباء فقالوا: هذا الطيب موضوع في الدهان لتطييب رائحته، لزمت الفدية بلا إشكال؛ لأن الطيب موجود وأثره موجود، لكن لو كانت هذه الرائحة الذكية في نفس الدواء والدهن، فجاءت من خلط الأعشاب ببعضها وليست الأعشاب بذاتها، ولكن طبيعة خلطها أخرج هذه الرائحة، فليس هذا من جنس الطيب، ولا يأخذ حكم الطيب؛ لأنها لم تأت قصداً وليست بطيب حقيقة وإنما حصلت اتفاقاً، وعلى هذا فإنه لا يلزم في هذا النوع من الدهن الفدية، ويجوز له أن يضعه لعلاج أو نحو ذلك ولا فدية عليه. كذلك أيضاً: إذا كان الصابون الذي يغتسل به فيه طيب ورائحة فإنه حينئذٍ يتقيه ولا يغتسل به؛ لأن الله عز وجل حرم على المحرم أن يصيب الطيب، واستوى في ذلك أن يكون على سبيل الاغتسال أو يكون على سبيل الوضع مباشرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( ولا تمسوه بطيب ) وأجمع العلماء رحمهم الله على عدم جواز أن يصيب المحرم الطيب ويدهن به. وفي حكم الادهان وضع اليد على موضع فيه طيب، كما لو وضع على الحجر الطيب، أو وضع على الركن اليماني الطيب ورأيته فإنك لا تلمسه؛ لأن اللمس سنة وإصابة لفضيلة، واجتناب الطيب وعدم مس البدن له واجب على المكلف أن يفعله بتعاطي الأسباب، فقدم ما يلزم المكلف على ما هو فضيلة ومستحب، وعلى هذا قالوا: لو رأى على الحجر أثر الطيب فإنه لا يلمسه ولا يقبله، وإنما يترك غيره من الحل يلمسه، فإذا لمسه وبقي أثر الطيب الذي هو الرائحة فذلك لا يضر، وإنما الذي يضر جلب الطيب ومادته. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (219) صـــــ(1) إلى صــ(19) المحظور السادس: قتل الصيد للمحرم قال رحمه الله: [وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً]. أي: هذا هو المحظور السادس وهو قتل الصيد، وهذا المحظور أجمع العلماء رحمهم الله عليه؛ لأن الله نص عليه في كتابه، وكذلك بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، قال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [المائدة:95] ، وقال سبحانه وتعالى: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } [المائدة:96] فنص سبحانه على أن المحرم لا يصيد. والصيد ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون صيد بر، وإما أن يكون صيد بحر، وأصل الصيد الحيوان المتوحش، ولذلك كان الحيوان في الأصل ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مستأنساً، وإما أن يكون متوحشاً، فالحيوان المستأنس كالإبل والبقر والغنم، ومن الطيور كالدجاج والحمام إذا كان في منزل الإنسان، فهذه توصف بكونها مستأنسة؛ لأنها تأنس بالإنسان، وتألفه ويألفها، ولا تفر منه إذا جاءها، فهذا النوع من الحيوان يأمرك الشرع إذا جئت لتأكله أن تذكيه الذكاة الشرعية، إما بالذبح وإما بالنحر، أما الذبح فكالشاة والغنم، وأما النحر فكالإبل تطعنها في وهدتها وتنحرها، وما يكون جامعاً للأمرين فكالبقر يصلح فيه الذبح ويصلح فيه النحر، على خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فهذا يسمى بالمستأنس، وذكاته ذكاة المستأنس. هناك نوع ثانٍ: وهو المتوحش، ولا يمكن لك أن تصيبه إلا باحتيال أو مغافصة ومغالبة وقهر، كأن تغلبه حتى تمسك به، أو تجري وراءه فتمسكه، أو تطلق عليه السلاح فتعقره أو تقتله، فهذا يسمى بالصيد، وهو الحيوان الذي لا يأنس للإنسان ويفر عنه. ويشمل الصيد الظباء والوعول والغزلان وبقر الوحش وحمار الوحش وتيس الجبل ونحوها مما خلق الله من الدواب التي يصيدها الإنسان ويحل له أكلها، وهذه من قسم المتوحش، وهو الصيد الذي أحله الله. وكما ذكرنا في المستأنس أن فيه من الطير كالحمام والدجاج ونحوها من الطيور، ويكون أيضاً من الدواب كالإبل والبقر والغنم، فكذلك المتوحش في الصيد يكون من الدواب على وجه الأرض، كالظباء والوعول والغزلان والريم ونحوها، ويكون من الطيور فيشمل الحباري ويشمل الطيور التي ليست بيد الإنسان فهذه كلها توصف بكونها متوحشة وصيداً، لكن بشرط أن لا تكون من الطيور من الجوارح ذوات المخلب، فلا يجوز أكل الصقر ولا الباز ولا الشاهين ولا الباشق ولا النسر ولا العقاب ونحوها، فانقسمت الحيوانات إلى هذين القسمين: الصيد ويكون للمتوحش، وغير الصيد الذي يكون من المستأنسات. وهناك نوع ثالث ليس من هذا ولا هذا، وهو الذي حرم الله من السباع العادية ذات الناب، كالأسد والنمر ونحوه، وذي المخلب من الطير كما ذكرنا في البواشق والنسور والصقور، فهذه كلها لا يجوز أكلها كما سيأتينا إن شاء الله في باب الذبائح. فانقسمت الحيوانات إلى هذين القسمين، والله عز وجل حرم على المكلف إذا كان مُحْرِماً أن يصيد المتوحش منها، فلا يجوز له أن يصيده سواء كان برياً أو كان من الطيور؛ لأنه لا يجوز له إذا كان محرماً أن يصيده ولا أن يصاد له، ومحل التحريم إذا كان برياً، والعلماء يصفون ما كان برياً مما ذكرنا من الريم والغزلان والظباء والوعول، ويصفون الطيور أيضاً بأنها برية وأنها صيد بر؛ لأنها تأوي في الليل إلى أكنانها، ولا تستطيع أن تنفك عن الإيواء إلى أكنانها، فتأخذ حكم صيد البر. هناك نوع ثانٍ: وهو صيد البحر، والمراد بذلك السمك والحوت، وهناك خلاف في غير السمك والحوت هل يدخل في صيد البحر، فيحل لنا جميع ما في البحر إلا ما كان ساماً أو عرف أنه يضر بالإنسان، أم أن الحكم خاص فقط بالسمك والحوت؟ أصح المذاهب في هذه المسألة مذهب الجمهور: أن الله أحل لنا ما في البحر، فيشمل جميع ما في البحر، إلا إذا كان ضاراً أو مستخبثاً، فهذا النوع من الصيد وهو صيد البحر حلال بإجماع العلماء لقوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } [المائدة:96] ثم قال بعد ذلك: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ } [المائدة:96] عطفاً على صيد البحر، فدل على أن صيد البحر في الأصل حلال، سواء كنت محرماً أو غير محرم، فالمحرم يجوز له أن يصيد صيد البحر، ولكن لا يجوز له أن يصيد صيد البر. إذا عرفنا هذه المقدمة، وأن الحيوان منه ما هو بري ومنه ما هو بحري، فيبقى السؤال عما جمع بين البر والبحر، وهو الذي يسمى بالبرمائي، هل يحرم على المحرم أن يصيده، أو لا يحرم؟ والبرمائي ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يمكن له العيش والتكاثر والتوالد غالباً إلا في الماء كالضفادع ونحوها، فهذا يأخذ حكم ما في الماء، ويكون صيده صيد بحر، ومنها ما يكون تكاثره وغالب وجدانه في البر كالسلحفاة ونحوها فتأخذ حكم ما في البر، ويكون الحكم في حلها وحرمتها راجعاً إلى هذا التفصيل. إذا تبين هذا فصيد البحر جائز بالإجماع؛ لنص الآية، أما صيد البر فلا يجوز لك إذا أحرمت أن تصيده، ولا أن تعين على صيده كأن تقول لرجل: انظر إلى هذه الحمامة أو هذا الطائر، أو أدرك الحمامة، أو صد الحمامة، ولا يجوز أن تشير إلى مكان الصيد، كأرنب ونحو ذلك، فتقول له: هو في هذا الموضع، بل يجب عليك أن تسكت حتى ولو رأيته أمامك. ولا يجوز أن يصاد من أجلك؛ فلو صاد إنسان صيد بر وقصدك به وأنت محرم فلا يحل لك، ولا يحل أيضاً هذا الصيد الذي صيد للمحرم، وتكون تذكيته لاغية فيعتبر كالميتة، لا يجوز أكله ولا بيعه، فإذا صاد المحرم أو أعان على الصيد أو صيد من أجله فإن هذا الصيد يعتبر في حكم الميتة، لا يجوز أكله لا للمحرم ولا للحلال، فلو قلنا: إن المحرم لا يجوز له، كذلك أيضاً غيره؛ لأنه في هذه الحالة ينتقل إلى حكم الميتة على تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله سيأتينا بيانه إن شاء الله في باب الأطعمة. كذلك أيضاً: لا يصاد للمحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أهدى له الصعب بن جثامة رضي الله عنه وأرضاه حمار وحش فرده عليه -لم يقبل الهدية، وقد كان بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه لا يرد الهدية- فلما ردها على الصعب تغيّر وجه الصعب رضي الله عنه وأرضاه، فقال عليه الصلاة والسلام يطيب خاطره: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ) أي: لكوننا حرماً وأنت صدته من أجلنا فإن هذا اقتضى عدم حله لنا، فإذا قيل: ما الدليل على التفصيل بين كونه يصاد له، أو لا يصاد له؟ الجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية الصيد مرة وهو محرم، ولم يقبله مرة وهو محرم، فقبله في قضية أبي قتادة وهي ثابتة في الصحيحين، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد عمرة الحديبية خرج من المدينة، فبلغه أنه ربما جاءت بعض الأرسال والبعوث من المشركين تريد أن تؤذيه وهو محرم بالعمرة، فأرسل سرية لـ أبي قتادة وقال: ( خذوا ساحل البحر )، فأرسلها من الجهة الغربية للمدينة على جهة الساحل، فأحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم، وهذا يدل على أن من جاء من المدينة وقصد جهة رابغ أو جهة ينبع، أنه لا يلزمه الإحرام من ذي الحليفة؛ لأن أبا قتادة أخر إحرامه. فأخذوا ساحل البحر، وقال: كونوا على ساحل البحر حتى نلتقي، وإذا حدث من العدو شيء يكون النبي صلى الله عليه وسلم على علم به، فلما أخذوا ساحل البحر كانوا كلهم محرمين إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم، فسنح لهم حمار الوحش فجلس أصحابه ينظر بعضهم إلى بعض، ولم يخبره أحد بأن هناك صيداً، فالتفت أبو قتادة فإذا هو بحمار الوحش، فركب فرسه فسقط سهمه، فسألهم أن يناولوه فلم يعنه أحد ولم يناوله، فنزل عن فرسه وأخذه ثم عقر منها وصاد رضي الله عنه وأرضاه، فلما صاد هذا الصيد أكلوا، فلما أكلوا قالوا: أنأكل ونحن محرمون؟ فاشتبهوا، فتوقفوا عن الأكل حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ( هل أحد منكم أشار إليه؟ قالوا: لا، قال: هل أحد منكم أعانه؟ قالوا: لا، قال: هل بقي عندكم منه شيء؟ فأعطي عليه الصلاة والسلام من فضلته وقال: كلوا )، وأذن لهم أن يأكلوا. فدل على أنه لا يعان الحلال من المحرم على الصيد، لا بإشارة، ولا بسلاح ونحوه، وأن المحرم يبقى ساكتاً مهما رأى، ولا يشير إليه بإشارة فعلية ولا ينبهه بالقول، فإذا نبهه بالقول حرم عليه الصيد، وإذا صاد المحرم فيحرم عليه أن يأكل الصيد أو ينتفع بما في الصيد، فلا يجوز له أن يأكل بيض الصيد؛ لأن هذا الصيد حرام عليه، والفرع تابع لأصله، ولا يجوز له أن ينتفع بفرعه إذا كان قد صاده هو، وإنما يرسل هذا الصيد حتى يأخذه على وجه شرعي معتبر، وحينئذٍ يحل الانتفاع به. قوله: (برياً أصلاً) أي: يكون الصيد برياً أصلاً، فخرج البرمائي، فإن البرمائي ليس ببري أصلاً، ولو كان أكثر عيشه في البر فإنه لا يوصف بكونه برياً أصلاً. وعلى هذا: خرج صيد البحر؛ لأنه ليس ببري أصلاً، وخرج ما جمع بين وصف البري والبحري معاً. حكم قتل الحيوان المتولد من مأذون وغير مأذون قال رحمه الله: [ولو تولد منه ومن غيره]: هذه مسألة ما إذا تولد الحيوان من مأذون وغير مأذون، فهل نغلب جانب التحريم فنمنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلب جانب التحريم وقال: ( إذا نهيتكم فانتهوا ) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) ، والأصل أن هذا الحيوان يعتبر حراماً من جهة تذكيته وإعمال الذكاة به، حتى تتحقق أنه من جنس ما أحل الله أكله، هذا قول. القول الثاني: إذا تولد من الحرام والحلال حل أكله؛ لأن الأصل أن الله سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، فلما لم نتحقق من الخروج عن هذا الأصل فيحل لنا أكله. القول الثالث: ننظر إلى أم الحيوان، إن كانت أمه من الحلال فحلال، وإن كانت أمه من الحرام فحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) ، فالشاهد أنه لا بد وأن يكون برياً أصلاً؛ لأن هذا أصل عند الحنابلة سنتكلم عليه إن شاء الله في باب الأطعمة. قال: [أو تلف في يده فعليه جزاؤه]. سنتكلم إن شاء الله على جزاء الصيد، إذا قتله المحرم، وما هي الفدية وجزاء الصيد الذي أوجب الله على من قتل الصيد سواء كان متعمداً، أو كان مخطئاً، أو كان ناسياً؟ وهل هذه الفدية تخييرية، أو ترتيبية؟ كل هذا سنتكلم عليه في باب الجزاء إن شاء الله. حكم صيد البحر ومحرم الأكل قال رحمه الله: [ولا صيد البحر]. أي: ويحل له صيد البحر، فإنه ليس بحرام بنص الآية: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ } [المائدة:96] فدل على أن التحريم يختص بالبر دون البحر، وهذا بالإجماع. قال: [ولا قتل محرم الأكل]: ولا يحرم على المحرم أن يقتل محرم الأكل، كالسباع العادية، فلو قتل أسداً أو نمراً فإنه لا يضر؛ لأن هذا ليس بصيد ولم يسمه الشرع صيداً؛ لأن الأسد والنمر ليس من جنس الحيوانات التي أباح الشرع أكلها، فلو أن إنساناً سألك وقال: كنت محرماً فلقيت أسداً وقتلته، هل يلزمني شيء؟ تقول: هذا ليس بصيد، ولا يلزمك جزاء الصيد، سواء عدا عليه الأسد أو لم يعدُ، وكذلك بالنسبة كذلك للفواسق، لو قتل حيةً أو عقرباً أو غراباً أو فأرة فهذا كله ليست فيه فدية، وليس فيه جزاء الصيد، وليس عليه شيء لقتله. حكم قتل الصائل للمحرم قوله: [ولا الصائل]. لو قتل صائلاً صال عليه، وهو الذي يهجم على الإنسان يريد أن يؤذيه في نفسه. وهذا الصائل له حكم خاص في الشرع، قال: ( يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار ) ، فالصائل الذي يصول على النفس أو يصول على العرض أو يصول على المال، فيأتي مشهراً سلاحه، سواء في بر أو غيره، هذا الصائل في الأصل فيه تفصيل: فإن أمكنك أن تفر عنه وتبتعد عنه، فلا يجوز لك قتله؛ لأن نفس المسلم محرمة، والأصل أنه محرم الدم، فلا يجوز لك أن تستبيحه إلا عند الحاجة، فإذا كان يمكن تلافي ضرره بالفرار فيجوز لك أن تفر ، بل يجب عليك أن تفر، ولا يجوز لك قتله، فإن قتلته مع القدرة على الفرار كان الحكم كحكم قتل العمد في قول طائفة من العلماء؛ لأنه لا يرخص لك بقتله، وقال بعض العلماء: يسقط القصاص ويكون حكمه حكم شبه العمد وتغلظ الدية، على تفصيل يأتي -إن شاء الله- في باب القصاص. الحالة الثانية: أن يأتي وهو يريد العرض، فيمكنك الفرار أو يمكنك دفعه، يأتي -مثلاً- شاهراً سلاحه، فيمكنك أن تضربه في يده فتسقط السلاح من يده، أو تعقره بضربة لا يستطيع أن يقتلك بها، فحينئذٍ لا يجوز لك أن تعدل إلى قتله مع القدرة على عقره. فالحالة الأولى: أن يمكنك الفرار عنه، أو تضع شيئاً بينك وبينه لتأمن ضرره، فحينئذٍ لا يجوز لك قتله، أو تستطيع أن تصارعه أو تدافعه فتأمن ضرره، فتصارعه وتدافعه ولا تقتله؛ لكن إذا تعين ولم تستطع أن تدفع ضرره إلا بالقتل فحينئذٍ يحلّ لك قتله ودمه هدر؛ وذلك لأنه اعتدى، وباعتدائه على المسلم سقطت حرمة نفسه فإذا لم يمكنك دفع ضرره إلا بالقتل فإنه يقتل ويكون مهدر الدم، هذا إذا اعتدى على النفس. وكذلك إذا اعتدى على العرض، كأن يكون اعترض الإنسان في طريقه، فإن أمكنه أن يدفع ضرره فبها ونعمت، ولا يجوز له أن يقتله في هذه الحالة، لكن إذا كان معه من السلاح أو الضرر ما لا تستطيع معه دفعه ولا تستطيع معه الفرار، وغلب على ظنك أنه سيصل إلى الحرام، وأنه لا سبيل إلى كف ضره إلا بقتله حلّ لك قتله في هذه الحالة، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم. الأسئلة حكم أخذ الظفر إذا كان مؤذياً للمحرم السؤال من انكسر ظفره وتأذى من ذلك، فهل له أن يقلمه؟ الجواب فرق جمع من أهل العلم رحمهم الله في الشعر والظفر بين أن يكون الأذى في نفس الشعر وفي نفس الظفر، فرخصوا في القلع والقص والحلق والإزالة، وبين أن يكون الضرر في شيء في الشعر كالقمل ونحوه، فتلزم الفدية إذا أزال الشعر، وتوضيح ذلك: أنه إذا كان ظفره منكسراً وكان يجرح، وكلما مشى آذاه وأضره، فالأذى والضرر في نفس الظفر، فيرخص له لمكان الضرورة، ولا فدية عليه إذا قصه، وهكذا لو تدلى شعره على عينه فأصبح يؤذيه في بصره أو يؤذيه في نظره أو نحو ذلك، جاز له أن يقص منه على قدر الحاجة ولا فدية عليه؛ لأن الضرر تعلق بنفس الشعر وبنفس الظفر. وأما إذا تعلق بشيء في الشعر كالقمل في داخل الشعر، فإن إزالة الشعر جاءت تبعاً ولم تأت أصلاً، وعلى هذا قالوا: تلزم الفدية إذا كان الشعر تابعاً لضرر وليس الضرر في نفس الشعر، وأما إذا كان الضرر من نفس الشعر والأذى من نفس الشعر فإنه يرخص له أن يزيله ولا فدية عليه. والله تعالى أعلم. حكم تذكية ما صيد قبل الإحرام بعد الإحرام السؤال لو أن إنساناً صاد صيداً قبل أن يحرم، ثم أحرم والصيد معه، هل يجوز له أن يذكيه ويأكل منه؟ الجواب إذا صاد الصيد وأمسكه وبقي عنده، ثم أحرم ولو بعد إمساكه بلحظة، فإن هذا الصيد مستأنس وآخذ حكم المستأنس، يحل له أكله والانتفاع به، ولا حرج عليه؛ لأنه لم يصده بعد الإحرام، وإنما صاده في حال الحلّ، فيجوز له أكله والانتفاع بما يكون منه. والله تعالى أعلم. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (220) صـــــ(1) إلى صــ(20) شرح زاد المستقنع - باب محظورات الإحرام [2] تحقيقاً لمقصود الحج من ترك الدنيا وما يتعلق بها فإنه يحرم على المحرم عقد النكاح له أو لغيره، وكذلك الجماع، أو مباشرة زوجته، والمرأة كالرجل في كل المحظورات إلا في اللباس، فإنها تلبس ما تريد إلا أنه يحرم عليها أن تلبس شيئاً يغطي وجهها ويديها. تابع محظورات الإحرام المحظور السابع: عقد النكاح للمحرم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ ويحرم عقد نكاح ولا يصح ولا فدية ]. ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا محظورات الإحرام، فقال رحمه الله: (ويحرم عقد نكاح)، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح، سواء كان في حج أو كان في عمرة، ولذلك يعتبر عقد النكاح المحظور السابع من محظورات الإحرام التي ذكرها المصنف رحمه الله. والعقد في اللغة: التوثيق، يقال: عقد الحبل إذا شد وثاقه، وكذلك يقال: عقد إذا أبرم الشيء، وأما في الاصطلاح: فإن المراد به الإيجاب والقبول، فالإيجاب هو قول الرجل: زوجتك، والقبول قول الزوج: قبلت، فإذا قال الولي: زوجتك، وقال الزوج: قبلت، فقد عُقد النكاح، وإذا قال الموجب: بعتك، وقال المشتري: اشتريت، فقد عُقد البيع، وإذا قال: أجرتك داري بمائة ألف لمدة سنة، فقال: قبلت، فهو عقد إجارة، وقس على ذلك. فإذا وجدت الصيغة المشتملة على الإيجاب والقبول فإنه يوصف ذلك بالعقد، وهذا في الاصطلاح عند العلماء رحمة الله عليهم، فإذا وجدت كتب الفقهاء ينصون فيها على كلمة العقد فمرادهم بها الإيجاب والقبول، وعلى هذا يقول المصنف: (يحرم عقد النكاح) أي: يحرم على الإنسان إذا أحرم بالحج أو العمرة أن يتزوج أو يزوج غيره، كأن يكون ولياً لبنت أو أخت أو امرأة من أقربائه، أو تكون المرأة المحرمة بحج أو عمرة منكوحة، بمعنى: أنه يراد تزويجها، فلا يجوز أن يعقد النكاح، سواء كان زوجاً أو كانت زوجة، خاصة على القول بأن للمرأة أن تلي عقد النكاح كما هو مذهب الحنفية، وكذلك أيضاً أن تكون ولياً. دليل التحريم ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب )، وهذا الحديث اتفق الشيخان على صحته وثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (لا ينكح المحرم) لم يفرق بين محرم لحج أو عمرة (ولا يُنكح) أي: إذا كان امرأة، وهذا يدل على أنه لا يجوز له أن يكون في عقد النكاح لا زوجاً -وهو الأصيل- ولا وكيلاً، فلا يجوز للمحرم أن يكون وكيلاً في عقد النكاح بأن يقبل النكاح من غيره، أو يوجبه للغير. وهذه المسألة للعلماء فيها قولان: القول الأول يقول: لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن ينكح ولا أن يخطب، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المحرم عقد النكاح سواء كان زوجاً أو زوجة أو ولياً أو وكيلاً، وذلك هو نص الحديث الثابت عنه والذي ذكرناه. القول الثاني: ذهب فقهاء الحنفية رحمهم الله إلى القول بجواز أن ينكح المحرم وأن يُنكح، وأن يخطب، لكن بعضهم ينص على جوازه مع الكراهة، أي: أنه يكره له ذلك، ولكن يجوز، والعقد صحيح، واحتج هؤلاء العلماء بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم ) ، فأثبت أن الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ميمونة وقع وهو محرم، قالوا: فدل دلالة واضحة على أنه يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج الغير وأن يخطب، وأما ما ورد من النهي عن النبي صلى عليه وسلم فإن فعله صلوات الله وسلامه عليه يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، وهذا مسلك يعمل به جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم: وهو أنه إذا ورد النهي وجاء ما يدل على الجواز صرف ظاهر النهي من التحريم إلى الكراهة. والذي يترجح بنظري والعلم عند الله: هو القول بالتحريم، وهو مذهب جمهور السلف كما ذكرنا؛ وذلك لما يلي: أولاً: لصحة دلالة السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم. ثانياً: أنه يجاب عن حديث ابن عباس من وجوه: الوجه الأول: أن القاعدة: إذا تعارضت رواية أكابر الصحابة مع رواية أصاغر الصحابة قدمت رواية أكابر الصحابة على الأصاغر؛ والسبب في هذا واضح، وهو أن أصاغر الصحابة في الغالب يروون بواسطة، وأكابر الصحابة في الغالب يروون مباشرة، فتقدم رواية الأكابر؛ لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم بحاله أكثر من أصاغر الصحابة. الوجه الثاني: أن حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ) عارضته ميمونة صاحبة القصة، وعارضه أبو رافع السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم و ميمونة ، ومن المعلوم أن ميمونة رضي الله عنها -وهي خالة ابن عباس - أعلم بحال النبي صلى الله عليه سلم حينما تزوجها، فلما أثبتت أنه تزوجها وهو حلال، دل هذا على ضعف ما ذكره ابن عباس ، ومن هنا قال الإمام أحمد : إن هذا الحديث خطأ، وهذا الخطأ قد يكون من الرواة أو يكون من سماع ابن عباس عن غيره من الصحابة رضوان الله عليهم. وهناك وجه ثالث في الترجيح: أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما له معارض، وحديث التحريم صريح في التحريم لم ترد له صيغة معارضة، وإذا تعارض النصان أحدهما له وجه معارض، والآخر لا معارض له قدم الذي لا معارض له؛ لأن له مزية، وأنت إذا تأملت أحاديث النهي لم تجد ما يعارضها في الروايات نفسها، ولكن إذا تأملت حديث ابن عباس الذي يدل على الإباحة تجد أنه قد عارضه أبو رافع وعارضته ميمونة فلم يتمحض حديث ابن عباس في القوة في الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حلالاً. الوجه الرابع في الترجيح: أن القاعدة أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح أنه يقدم النص الحاظر على النص المبيح؛ لما فيه من زيادة العلم، ولما فيه من زيادة الاحتياط، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم نهيه على أمره، فكيف بتقديم نهيه على ما يكون من حاله محتملاً الخصوصية، فهذا من باب أولى وأحرى، ولذلك قال: ( إذا نهيتكم فانتهوا )، وقال في الأمر: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ، فهذا يدل على قوة أدلة التحريم ورجحانها على أدلة الجواز. الوجه الخامس: أن حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ) يحتمل أن يكون خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصيات حتى في النكاح، ولذلك قال سبحانه: { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [الأحزاب:50]، فالله خصه بخصائص كما نص على ذلك كتاب الله عز وجل: { وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } [الرعد:41] . فلما خاطب عليه الصلاة والسلام عموم الأمة بقوله: ( لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب ) دل على أننا مطالبون بامتثال هذا النهي، ولما فعل هو عليه الصلاة والسلام -على القول بأنه تزوجها وهو محرم- فإننا نقول: هذا خاص به؛ لأن القاعدة: إذا تعارضت دلالة القول مع دلالة الفعل احتملت دلالة الفعل الخصوصية، فتقدم دلالة القول؛ لأنها تشريع للأمة. الوجه السادس: أن قول ابن عباس : (تزوج ميمونة وهو محرم) كما أنه ضعيف من جهة السند فلا يقوى على معارضة النص الصحيح الصريح فإننا نقول: هو في لفظه محتمل؛ وذلك أن قول ابن عباس : (تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون مراده: (وهو محرم) أنه عقد عليها داخل حدود الحرم، وهذا له مغزىً دقيق، وهو من فقه ابن عباس ، كأنه يريد أن ينبه على مسألة فقهية من مسائل الهجرة، وذلك أن من هاجر من بلد فإنه لا يرجع إليه إذا تركه لله ورسوله، ولذلك ثبت في النص الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لكن البائس سعد بن خولة ) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. ولذلك قال العلماء: من خرج من بلد كفر مهاجراً عنها فإنه لا يرجع إليها، ولذلك لم يرجع المهاجرون إلى مكة إلا بقدر الحاجة، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم في الإقامة فيها ثلاثة أيام فقط، فدل على أنه لا يجوز لمن هاجر من بلد أن يقيم فيها بعد هجرته؛ لأنه تركها لله عز وجل، ولو عادت بلد إسلام بعد ذلك، وإذا ثبت هذا ورد سؤال هو: هل يجوز له أن يتزوج من أهل هذا البلد؟ وهل زواجه من أهل هذا البلد وعقده فيه يعتبر بمثابة الإقامة؟ فرد ابن عباس رضي الله عنهما هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، أي: داخل حدود الحرم، والعرب تسمي من كان داخل الحدود محرماً، ومنه قول حسان بن ثابت يرثي عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ومن المعلوم أن عثمان إنما قتل في حرم المدينة ولم يقتل وهو محرم بالحج أو بالعمرة، فدل على أن من كان داخل حدود حرم مكة أو حرم المدينة فإنه يوصف بكونه محرماً. فالعرب تسمي من دخل في الزمان الحرام -كالأشهر الحرم- أو دخل في المكان الذي له حرمة، تسميته محرماً، وعلى هذا يكون حديث ابن عباس له مغزىً خارج عن مسألتنا، أي: أنه لا يدل على أنه تزوجها حال إحرامه صلوات الله وسلامه عليه. وبناء عليه يترجح مذهب الجمهور الذين يقولون بأنه لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، وهذا الحكم يستوي فيه أن يكون المحرم أصيلاً عن نفسه، كأن يتزوج لنفسه، أو وكيلاً عن غيره، كأن يقول له رجل: اذهب واخطب لي فلانة، وأنت وكيلٌ عني، فإن الوكيل ينزل منزلة الأصيل، وعلى هذا فإنه يستوي أن يكون وكيلاً عن محلّ أو وكيلاً عن محرم، ويستوي في ذلك أن يكون الوكيل ذاته وكيلاً عن إنسان محرم، أو يكون في حال إحرامه كما ذك حكم عقد النكاح إذا قام به المحرم قال رحمه الله: [ويحرم عقد نكاح، ولا يصح، ولا فدية]. أي أنه لو وقع الإيجاب والقبول من المحرم زوجاً أو ولياً فإنه لا يصح، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ويركبونه من أن النهي هنا استغرق زماناً لا يصح فيه الإيجاب والقبول، كأن الشرع جعل هذا مدة، إحرام الإنسان إلى أن يتحلل غير صالحة للإيجاب والقبول، فإذا وقع الإيجاب والقبول لم يقع معتداً به شرعاً، وحينئذٍ يكون من اللغو، فوجوده وعدمه على حد سواء، لكن لو عقد وهو محرم وتزوج المرأة ودخل بها وجاء له منها أولاد، فإن هذا يعتبر نكاح شبهة إذا كان يظن أن هذا جائز، ولكن لا يوجب حرمة نسله؛ لأن نكاح الشبهة كما هو معلوم تسري عليه أحكام النكاح الصحيح، ولكن يفسخ ثم يطالب بتجديده بعد ذلك. قوله: [ولا فدية]. أي: أن هذا المحظور ليست فيه فدية، فلو أن رجلاً سألك وقال: عقدت نكاحاً وأنا محرم بحج أو عمرة، فما الحكم؟ تقول له: إن النكاح لا يصح ولا فدية عليك، وإنما عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل. حكم مراجعة المطلقة حال الإحرام قال: [وتصح الرجعة]: أي: إذا كان النكاح لا يصح، والخطبة لا تجوز، حيث لا يجوز للمحرم أن ينكح، ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، ف السؤال لو أن رجلاً طلق امرأته طلاقاً رجعياً، ثم ارتجعها في عدتها، فهل الرجعة تأخذ حكم الابتداء؟ أولاً -حتى تكون الصورة واضحة-: إذا طلق الرجل امرأته فإن طلاقه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون طلاقاً رجعياً. والحالة الثانية: أن يكون طلاقاً بائناً. فأما الطلاق الرجعي فهو: أن يطلقها الطلقة الأولى، فالشرط فيها: أن تكون الطلقة بعد الدخول، وأن تكون في غير خلع. فإذا طلقها طلقة واحدة بعد دخوله بها في غير خلع وفي غير طلاق من القاضي أو من الحكمين -على القول بأن طلاق القاضي والحكمين يوجب البينونة- فحينئذٍ تبقى المرأة في عدتها من الطلقة الأولى، ما لم تضع حملها، أو تستتم الثلاثة الأشهر إن كانت من ذوات الأشهر، أو تمضي عليها ثلاثة قروء إذا كانت من ذوات الأقراء، وخلال هذه المدة يجوز له أن يرتجعها ولو بغير رضاها. فلو أن رجلاً طلق امرأته بعد الدخول طلقة واحدة ثم أراد أن يراجعها في أي وقت، فما دام أنها لم تخرج من عدتها، فإنه تصح رجعته وتلزم المرأة بالرجوع بغير رضاها، حتى ولو كان يريد أن يرجعها بدون رضاها؛ لأن الله تعالى يقول: { وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا } [البقرة:228] . فمن حقه أن يرتجع زوجته ما دامت في عدتها، وإذا ثبت أن من حقه أن يرتجعها ما دامت في عدتها فهذا يسمى بالطلاق الرجعي، ويقع بعد الطلقة الأولى ويقع بعد الطلقة الثانية، أما لو طلقها الطلقة الثالثة فإنها تبين منه، وتكون البينونة هنا بينونة كبرى؛ لأن الطلاق البائن ينقسم إلى قسمين: طلاق بائن بينونة كبرى. وطلاق بائن بينونة صغرى. فالمطلقة طلاقاً بائناً بينونة كبرى هي التي لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا بينه الله تعالى بقوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } [البقرة:230] يعني: الطلقة الثالثة { فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [البقرة:230] فنص سبحانه على حرمة ارتجاعه لها، وأنه لا يجوز له أن ينكحها إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، كما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والبينونة الصغرى تقع على صور: منها: أن يطلقها قبل الدخول، كأن يعقد على امرأة ثم يحصل بينه وبينها ما يحصل فيقول لها: أنت طالق، فإذا طلقها قبل الدخول فإنها تبين منه بينونة صغرى. والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن البينونة الصغرى يستحق فيها أن يرتجع المرأة لكن بعقد جديد، ولكن لا يلزمها أن ترجع إليه إلا برضاها، بمعنى أنها لو امتنعت أو امتنع وليها فمن حقها ذلك ولا يستطيع ارتجاعها، على خلاف الرجعية فلا خيار لها. ففارقت البينونة الصغرى الرجعية بأن الرجعية يردها على رغم أنفها حتى ولو أبت، وأما في البينونة الصغرى فإنه لا يمتلك ارتجاعها إلا بعقد جديد فهي كالأجنبية، ولكن يجوز له أن يرتجعها. والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن في الكبرى لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وفي البينونة الصغرى تحل له بعقد جديد ولا يشترط أن تنكح زوجاً غيره. وعلى هذا يرد السؤال في هذا النوع من الطلاق وهو الطلاق الرجعي: لو أن زيداً من الناس قال لامرأته: أنت طالق، ثم أحرم بحج وعمرة، فأراد أن يرتجعها، فهل يجوز له أن يرتجعها أثناء تلبسه بالإحرام بحج أو عمرة، هذه هي صورة المسألة. و الجواب أنه يجوز له أن يرتجعها؛ لأن الاستدامة لا تأخذ حكم الابتداء، فاستدامة المحظور ليست كابتدائه، ومثل هذا أنه يجوز أن يستصحب الطيب في بدنه إذا تطيب قبل إحرامه، كذلك يجوز له أن يستديم النكاح؛ لأنه ثابت قبل إحرامه؛ لأن المرأة الرجعية في حكم المرأة التي في عصمة الإنسان، فإنه حينئذٍ يجوز له أن يرتجعها ولو كان في حج أو عمرة. فلو سألك سائل وقال: إن الله عز وجل حرم على المحرم أن ينكح أو يُنكح أو يخطب كما ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طلقت زوجتي طلقة واحدة أو الطلقة الثانية، وأريد أن أرتجعها أنا محرم، فهل يجوز لي ذلك؟ تقول: نعم، يجوز لك ذلك؛ لأن الارتجاع ليس كالعقد، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم النكاح ولم يحرم الارتجاع، فدل على أنه باقٍ على الأصل الذي يدل على جوازه ومشروعيته، فيجوز له أن يرتجع امرأته. المحظور الثامن: الجماع قال المصنف رحمه الله: [وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما]. هذا المحظور الثامن من محظورات الإحرام: وهو الجماع، وقد حرم الله عز وجل على المحرم ثلاثة أمور في النساء: الأول: أن يعقد. والثاني: أن يباشر بما دون الفرج. والثالث: أن يجامع. فهذه ثلاثة محظورات ذكرها المصنف مرتبة، فابتدأ بالعقد ثم أتبعه بالجماع ثم أتبعه بالمباشرة، وأعلاها وأقواها الجماع. فالجماع محرم بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك قال تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة:197] ، فحرم الله عز وجل الرفث الذي هو مقدمات الجماع، بل قالوا: إنه أقل ما يقال من الكلمات التي تثير النساء، فإذا حرم الله عز وجل الكلمة اليسيرة التي تثير الشهوة كما نص على ذلك جمهور السلف رحمهم الله فالجماع أولى. فسر ابن عباس و عطاء وغيره من تلامذته رحمة الله عليهم جميعاً الرفث، فقالوا: إن المراد بالرفث الكلمات التي تستثار بها غرائز النساء، فلا تحل ولا تجوز للمحرم، فهي من المحظورات؛ فإذا حرم هذا فمن باب أولى الجماع، ولذلك انعقد الإجماع على أنه لا يجوز الجماع في الحج ولا في العمرة، فلو وقع الجماع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قبل الوقوف بعرفة. والحالة الثانية: أن يكون بعد الوقوف بعرفة. فإن وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة، أي: قبل أن يستتم وقوفه بعرفة وينصرف منها، فإن حجه باطل بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فمن جامع أهله في يوم التروية وهو محرم بالحج أو جامعهم صبيحة يوم عرفة أو عشية عرفة قبل أن يدفع، فإنه حينئذٍ يفسد حجه. وبعض العلماء يقول: ما لم يقف بعرفة، وعلى هذا فإن الجماع إذا وقع قبل استتمام الوقوف والاعتدال به فإنه يعتبر موجباً لفساد الحج. وإذا فسد الحج فإنه يلزمه أن يمضي في هذا الحج الفاسد، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]، والحج والعمرة عبادتان لو أفسدهما المكلف ألزم بإتمامهما مع الفساد بإجماع العلماء؛ لأن الله أمر بإتمام هذين النسكين ولم يفرق بين فاسد أو صحيح. ولذلك قالوا: من جاء بعمرة ولبى وأحرم ثم بعد الإحرام ولو بلحظة قال: لا أريد العمرة، وأراد أن يفسخ عمرته فإنه يبقى محرماً إلى الأبد حتى يؤدي عمرته؛ لأن الله قال: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]، فهذا يدل على أن النسك لا بد من إتمامه على وجهه المعتد به شرعاً، قالوا: فإذا وقع جماعه قبل وقوفه بعرفة فإنه حينئذٍ يحكم بفساد الحج على الأصل، وهذا محل إجماع، ثم يطالب بإتمام وقوفه، والمضي في بقية مناسكه، ثم عليه الحج من قابل وعليه بدنة، وهذا قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجامع. قضى به عمر و علي و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس وبه قال أبو هريرة رضي الله عن الجميع، فهؤلاء الصحابة الأجلاء قالوا بهذا، وحكموا به، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أنه لو وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة أنه يوجب فساد الحج، وعلى من جامع والمرأة التي جومعت المضي في حجهم الفاسد، ثم عليهم الحج من قابل، يستوي أن يكون جماعه لامرأة تحل له، أو بشبهة كخطأ في الوطء، أو بحرام كزناً، أو نحو ذلك من المحرمات فإنه يعتبر حجه فاسداً وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم. وأما إذا وقع الجماع بعد الوقوف بعرفة فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قبل التحلل الأول. والحالة الثانية: أن يكون بعد تحلله الأول. فإذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فقد أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: [وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما]. بأن وقف بعرفة، ثم مضى إلى مزدلفة، فوقع جماعه ليلة المزدلفة، فهذا يعتبر قبل التحلل الأول، فاختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول يقول: إذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فسد حجه، وبه قال الجمهور، كما يفسد قبل الوقوف بعرفة. والقول الثاني يقول: إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فحجه صحيح، وهو مذهب الحنفية. والقول: بأن حجه فاسد أقوى، وقد قال الحنفية، حجه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج عرفة )، قالوا: فإذا وقف بعرفة ووقع جماعه بعد وقوفه فإننا لا نحكم بفساد حجه، وقد قال عليه الصلاة والسلام لـ عروة بن مضرس : ( من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه ) . والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنه إذا كان قبل التحلل الأول فإنه في حكم ما إذا كان قبل الوقوف بعرفة؛ وذلك لبقاء الركن وهو طواف الإفاضة. وقد صحح بعض العلماء مذهب الجمهور: أنه إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فإن حجه يعتبر فاسداً؛ وذلك لأن الشرع قد جعل هذا التحلل لمعنى، ولذلك يستوي فيه أن يكون الإخلال قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة؛ لأنه ما وصف بكونه تحللاً إلا وهو مؤثر في حل النكاح، وموجباً لجوازه، فكأن النكاح يتأقّت والجماع يتأقّت بهذا التحلل، فاستوى أن يقع الإخلال قبله مباشرة أو قبل الوقوف بعرفة. فمسلك الجمهور من جهة النظر قوي، ولذلك قال الله تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج:29] حتى يحصل التحلل الكامل، فقالوا: إن التحلل ينقسم إلى قسمين: تحلل أول، وتحلل عام، وهو الذي يقع بعد طوافه للإفاضة. فقالوا: إذا كان الشخص قد وقع منه الإخلال قبل التحلل الأول، فإنه في حكم من جامع قبل الوقوف بعرفة، وهذه المسألة توقفت فيها كثيراً، وكنت لا أفتي فيها لتعارض النظر فيها، ولذلك أحكي فيها مذاهب العلماء على ما ذكره أهل العلم رحمهم الله. قال: [ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام]. هذا قضاء الصحابة: عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر و أبو هريرة رضي الله عنهم أجمعين. المحظور التاسع: مباشرة المرأة قال رحمه الله: [وتحرم المباشرة]. هذا هو المحظور الأخير، أشار إليه رحمة الله عليه بقوله: (وتحرم المباشرة) أي: لا يجوز للمحرم أن يباشر زوجته بتقبيل أو غمز أو نحو ذلك مما يستمتع به من المرأة فيما دون الجماع، لقوله سبحانه: { فَلا رَفَثَ } [البقرة:197] وهو يشمل الرفث بالقول والرفث بالفعل، لأن النفي المسلط على النكرة يفيد العموم. أي: لا رفث عموماً، سواء كان بقول أو كان بفعل، فلا يجوز للرجل أن يستمتع بامرأته بما دون الفرج على أي وجه كان. وقوله: [فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه وعليه بدنة ]. أي: فإن فعل المباشرة، فلا يخلو من حالتين: إما أن يفعل المباشرة ولا يقع منه شيء، وإما أن يفعل المباشرة ويقع منه شيء. فإن فعل المباشرة ولم ينزل ولم يمذِ فلا إشكال في صحة حجه، وعدم تأثير المباشرة في تلك الصحة، ولكنه آثم، ويعتبر نقصاناً في أجره، وإذا تاب تاب الله عليه. ولكن لو باشر فأنزل، فإن الإنزال لذة وهي تقارب اللذة الكبرى بالجماع، ولكن لا يفسد حجه؛ لأن الأصل صحة الحج حتى يدل الدليل على الفساد، وإنما وقع إجماع الصحابة وفتوى الصحابة على الفساد بالجماع، وبقي ما عدا الجماع على الأصل من كون الحج صحيحاً حتى يدل الدليل على الفساد؛ لأن الأركان والشرائط موجودة، فقالوا حينئذٍ: يحكم بصحة حجه؛ لأنه لم يصل إلى الجماع الذي يفسد الحج كما عليه فتوى الصحابة، وعليه العمل، فحينئذٍ يلزمه أن يجبر هذا النقص. وقضوا فيه بالبدنة، والأصل أنهم نظروا إلى أن فعل الصحابة رضوان الله عليهم حينما أفسدوا الحج أفسدوه بالجماع، وقضوا بالبدنة حينما نظروا إلى وجود الإنزال غالباً في الجماع، فقالوا: إذا حصل الإنزال فإنه حينئذٍ يلزمه أن ينحر بدنة؛ جبراً لهذا النقص، وهو مبني على النظر، وله أصل من فتوى الصحابة من جهة العلة كما ذكرنا، وبناء عليه قالوا: لا بد من وجود الإنزال، ويستوي أن يكون الإنزال بالمباشرة، وحقيقة المباشرة أن تفضي البشرة إلى البشرة، أو يكون الإنزال بالاحتكاك سواء كان بحلال أو بحرام، فإنه لو تحكك واستثيرت غريزته على الوجه المحظور فإنه حينئذٍ يلزمه ما ذكرنا من جبر النقص؛ لقول من قلنا من أهل العلم، ويختاره المصنف وفقهاء الحنابلة رحمهم الله. لو حصل منه إمذاء، والمذي دون الإنزال، وهي القطرات التي تخرج عند بداية الشهوة، فلو باشر امرأته فحصل منه الإمذاء فإنه لا يفسد حجه بالإجماع، ولا يلزمه بدنة، وإنما عليه الندم والتوبة والاستغفار. فهذه أحوال: الحالة الأولى: أن يباشر ويقع الجماع، وذلك إما أن يكون قبل الوقوف بعرفة أو يكون بعد الوقوف بعرفة، على التفصيل الذي بيناه. الحالة الثانية: أن تكون المباشرة بإنزال ولا يقع فيها جماع، فحينئذٍ يبقى الحج صحيحاً ويلزم ببدنة. وقال بعض أهل العلم: إذا وقع هذا قبل التحلل الأول فإنه ينزل إلى الحل ويأتي بعمرة حتى يقع طوافه للإفاضة على صورة معتبرة دون وجود نقص أو إخلال. الحالة الثالثة: إذا وقعت المباشرة ولم يحصل بها إنزال ولا جماع، وإنما وقع بها الإمذاء، فإنما عليه التوبة والندم والاستغفار. قال: [لكن يحرم من الحل لطواف الفرض]. فيمضي إلى التنعيم أو يمضي إلى عرفات أو غيرها مما هو خارج عن حدود الحرم ويأتي بعمرة، حتى يقع طوافه في نسك لا إخلال فيه. الفرق بين إحرام الرجل وإحرام المرأة قال رحمه الله: [وإحرام المرأة كالرجل إلا في اللباس]. أي: إذا علمت هذه المحظورات فإن المرأة يحظر عليها أن تقص شعرها أو تحلقه، وكذلك حلقها للعانة، وكذلك نتفها للإبطين ونحو ذلك، فلا يجوز لها أن تزيل الشعر، ولا يجوز لها أن تقلم الأظفار، وكذلك أيضاً لا يجوز لها أن تتطيب لا في بدنها ولا في ثيابها، وكذلك أيضاً لا يجوز لها الصيد، ولا الإعانة على الصيد، ولا الأكل مما صيد لها إذا كانت محرمة، ولا يجوز لها أن يعقد عليها النكاح، ولا يجوز لها مباشرة الزوج، فكل ما يقال في الرجل يقال في المرأة، إلا أنها في اللباس لا تنتقب ولا تلبس القفازين، فمحظورها في اللباس ينحصر في تغطية وجهها ولبسها للقفازين في يديها. والأصل في هذين المحظورين حديث عبد الله بن عمر في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين ) رواه البخاري في صحيحه. قالوا: نص عليه الصلاة والسلام على أن المرأة لا تنتقب، وإذا كان النقاب تكشف فيه المرأة عن إحدى عينيها لتنظر الطريق أو نحو ذلك محظوراً، فمن باب أولى البرقع فإنه أبلغ من النقاب، فإن النقاب أن تكون ساترة لوجهها ولكنها تكشف عن عينها حتى تنظر في طريق أو نحو ذلك، فقالوا: إن هذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، والشرع ينبه بالأدنى على الأعلى، وينبه بما هو أعلى على ما دونه من باب أولى. وعلى هذا فلا يجوز للمرأة أن تلبس البرقع والنقاب، فكأن الشرع قصد أن لا تستر وجهها بالنقاب ولا ببرقع ونحوه، ولكن إذا مر بها الركب تسدل خمارها؛ لحديث أسماء رضي الله عنها: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر بنا الركب سدلت إحدانا خمارها فإذا جاوزنا كشفنا ) وهذا هو الأصل، والسدل أن يكون هناك حائل بين الناظر وبين وجهها؛ لأنه حقيقة السدل كما تقول: سدلت الستار ونحو ذلك. وكذلك بالنسبة للبسها القفازين لا تلبس قفازين في حال الإحرام، وهذا يدل على مشروعية لبسه في غير الإحرام؛ لما فيه من كمال الستر، ولما فيه من كمال التحفظ من رؤية الأجانب، وهو يدل على أن إحرام المرأة كما يقول الجماهير في وجهها وكفيها. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (221) صـــــ(1) إلى صــ(20) ما يحرم على المرأة حال الإحرام قال رحمه الله: [وإحرام المرأة كالرجل إلا في اللباس، وتجتنب البرقع والقفازين وتغطية وجهها، ويباح لها التحلي]. ويباح للمرأة أن تلبس الحلي؛ لأن الأصل جوازه حتى يدل الدليل على تحريمه، ولم يوجد دليل في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تحريم لبس الحلي للمرأة في حال إحرامها، بل ولا في حال حلها، قال الله تعالى: { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [الزخرف:18] ، فجماهير أهل العلم والسلف في تفسير هذه الآية على أن المراد بها المرأة، ولذلك تغلبها العاطفة فلا تبين خصامها، وقالوا: إن الله تعالى قال: { أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } [الزخرف:18] ، وقال سبحانه وتعالى: { وَتَسْتَخْرِجُو نَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [فاطر:12] فامتن سبحانه وتعالى باستخراج الحلي للبس، ولم ينه سبحانه وتعالى عن ذلك ولم يحرمه، ولم يفرق بين محلق ولا غيره. وكذلك ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة في حديث أم زرع المشهور: قالت أم زرع : ( أناس من حلي أذني. قالت عائشة : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع )، وثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه لما ندب النساء إلى التصدق يوم العيد، قالت رضي الله عنها: ( فجعل النساء يلقين من حليهن وأقراطهن )، فدل على أن هناك ذهباً غير الذهب المتعلق بالقرط وهو قولها: (من حليهن) حيث عممت، وهذا هو الأقوى. وقال بعض السلف رحمة الله عليهم كـ ربيعة الرأي : إنه يحرم لبس الذهب المحلق في حال الإحرام وفي حال الحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه الوعيد في لبسه كما في الحديث المختلف في إسناده أنه قال: ( من أحب أن يسور حبيبه بسوارين من نار فليسوره ) قال: فهذا يدل على عدم جواز لبس الذهب المحلق. وقد أجاب العلماء: أن أحاديث التحريم أضعف سنداً من أحاديث الحل، وعلى فرض صحتها وثبوتها فإنها لا تقوى على معارضة ما هو أصح منها. ثانياً: أنها تعارض الأحاديث التي شهد الكتاب بصحتها واعتبارها، وهي أحاديث الحلي، مع أن ظاهرها أنها كانت في آخر عهده صلوات الله وسلامه عليه؛ لتأخر رواية الصحابة الذين رووها، وقالوا: إنها أقوى وأولى بالاعتبار، حتى قال بعض العلماء: إن هذا يدل على أن التحريم للذهب المحلق كان في أول الأمر، وهذا مسلك يقوله غير واحد من أهل العلم: أنه كان في أول الأمر يحرم لبس الحلي المحلق على النساء، ثم نسخ ذلك وجاءت الرخصة والتوسعة من الله عز وجل. والشاهد معنا: أن المرأة لا يحظر عليها لبس الحلي حال الإحرام أو غير الإحرام، وأن هذا لا يعتبر من محظورات الإحرام. الأسئلة حكم شراء المحرم للإماء السؤال علمنا أن عقد النكاح لا يجوز للمحرم، ولكن هل يجوز عقد شراء الإماء والسراري للمحرم؟ الجواب يجوز للمحرم أن يشتري الأمة، ولو قصد من ذلك أن يطأها بعد انتهائه من حجه وعمرته؛ والسبب في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ينكح المحرم ولا ينُكح ولا يخطب ) وشراء الأمة ليس بنكاح، ولذلك فالأمة لا تعتبر منكوحة؛ لأن ملك اليمين ليس كالنكاح، والإماء إنما هن من السراري ولسن من الأزواج، والحكم إنما هو وارد في الزواج وليس في شراء الإماء، وعلى هذا فإنه يجوز له أن يشتري الأمة، -وهذا ليس موجوداً الآن- وإذا وجد فإنه يجوز له أن يشتري الإماء، وليس هناك نص يدل على حرمته. والله تعالى أعلم. حكم الرجوع إلى الميقات عند قضاء العمرة الفاسدة السؤال إذا أبطل المحرم عمرته بالجماع فإنه يتمها ويأتي بأخرى، فهل يلزمه في الثانية أن يرجع إلى ميقاته أم يحرم لها من مكانه؟ الجواب البدل يأخذ حكم مبدله، فإذا أفسد عمرته وجبت عليه القضاء من الميقات الذي أحرم منه بالعمرة الفاسدة، وعلى هذا قالوا: كأنه لما أحرم بهذه العمرة وجب عليه إتمامها بالشرط، فلما وجب عليه الإتمام فإننا ننظر إلى كمال العمرة، فإن أفسدها وجب عليه أن يقضي عمرة مثلها، لأن البدل يأخذ حكم مبدله فيحرم من ميقاتها. لكن أجازوا أن يكون إحرامه من الميقات الأبعد إذا كان إحرامه للفاسد من الميقات الأقرب، كأن يكون قدم من ميقات السيل، فأحرم بالعمرة الفاسدة أو بالحج الفاسد من ميقات السيل، فحينئذٍ لو أنه أراد أن يحرم بالبدل من ميقات المدينة وميقات رابغ جاز له ذلك، بل قال بعض العلماء: يجوز له أن يحرم من الميقات المساوي، كأن يكون أفسد عمرة من ميقات يلملم فيجوز له أن ينشئ العمرة التي هي محلها من ميقات السيل. والله تعالى أعلم. الترجيح بتقديم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم على أفعاله السؤال هل يعد من الوجوه المرجحة حديث (لا ينكح المحرم ) على حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحديث الأول قول وحديث ابن عباس حكاية فعل، فنقول: القول مقدم على الفعل؟ الجواب نعم هذا من المرجحات، توضيح ذلك: أنه قد يشكل على بعض طلاب العلم كيف نقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على فعله، وهذا أمر يرجع إلى مسألة مهمة عند العلماء، إذا جاء النص بقول أو جاء النص بفعل فالأصل أننا مطالبون بالائتساء والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين قوله وفعله؛ لأن الله قال: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب:21] ، والأسوة: أن نأتسي ونقتدي به صلوات الله وسلامه عليه في أقواله وأفعاله، فحينئذٍ لا فرق بين القول والفعل من جهة أن الله أمرنا وكلفنا أن نأتسي به عليه الصلاة والسلام، لكن الإشكال حينما يأتيك قول يبيح، وفعل يحرم، أو يأتيك القول يحرم والفعل يبيح، فإنه لا بد وأن تنظر؛ لأن القول والفعل صدرا من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال وهو الذي فعل. فحينئذٍ إذا جئت تنظر إلى أقواله حينما يخاطب الأمة ويقول: أيها الناس، ويقول: ( لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب ) يخاطب الأمة، فلا تشك في أن هذا عام لجميع الأمة. فأنت ترى حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إشكال فيه -هذا من جهة أحاديث الأقوال؛ لأنها خطاب وتشريع للأمة، لكن إذا جئت إلى أفعاله عليه الصلاة والسلام وجدت أن الله عز وجل قد خصه بأفعال، حتى في باب النكاح الذي اختلف فيه فقد أجاز الله له أن ينكح تسعاً من النسوة، ولم يجز لأمته أن ينكح الواحد فوق الأربع، فتبين أن هناك خصوصيات في أفعاله عليه الصلاة والسلام. فأنت تنظر إذا جاءك النصان، وهذا الذي يسميه العلماء: باب التعارض، يأتيك نصان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من أقواله التي لا تشك أنها تشريع للأمة، والثاني من أفعاله التي يدخلها احتمال التخصيص، فحينئذٍ تترجح كفة القول، وليس المراد أن نسقط أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كما يظن البعض، إنما المراد أنك أمام نصين لو جئت تتعبد الله بهما معاً لما أمكن، وإذا أردت أن تتركهما لما أمكن أيضاً، فأنت بين هذه الخيارات الثلاثة: إما أن تقول: أعمل النصين، وهذا لا يمكن. وإما أن تقول: أترك النصين، وهذا -والعياذ بالله- لا يجوز؛ لأننا مأمورون باتباعه عليه الصلاة والسلام، ولم يرد ما يستثني هذين النصين. وإما أن تقول: أعمل بأحدهما وأترك الآخر، وإذا تعارض النصان فلا شك ولا شبهة أن الحكم في واحد منهما، لكن ابتلاء واختباراً من الله لعباده، وحتى ترتفع درجة العلماء فيختلفون ويتناقشون ويناظرون وتخرج الفوائد من هذه النقاشات والمناظرات، فيجتهد العالم الفقيه ويظهر فضل الله على العلماء ومزية ما خصهم به من العلم، فحينئذٍ يظهر الترجيح. فتقول: حديث القول خاطب به الأمة، وحديث الفعل احتمل الخصوصية به عليه الصلاة والسلام، فكأنني أرى أن النصين ليسا بدرجة واحدة، مع أن حديث الفعل جاء ما يعارضه، أي: أن الحديث الذي دل على الجواز عارضه الحديث الذي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرماً وإنما كان حلالاً، فإذاً كأنك لا ترى أن الأحاديث استوت كفتها حتى تقول: هي متعارضة، فتقدم أحاديث الأقوال على أحاديث الأفعال لهذه القاعدة. ومن أمثلة ذلك أيضاً: حديث النهي عن استقبال القبلة واستدبارها، انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ) ، فهذا نص قولي واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب به الأمة: ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستقبال ولا بين الاستدبار، ولم يفرق أيضاً بين البنيان وغير البنيان، قال: ( لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ) . وجاء في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول على لبنتين مستقبل الشام مستدبر الكعبة ) . فحينئذٍ تقول: عندي قول يخاطبني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنني لا أستقبل ولا أستدبر، ولا يفرق هذا القول بين صحراء ولا بنيان، فأنا أبقى على هذا القول الذي خاطبني فيه، وأما فعله عليه الصلاة والسلام فيحتمل أن الله خصه بهذا، ويقوي هذا أنه لو كان تشريعاً للأمة لما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الخفاء، ويطلع عليه ابن عمر فجأة بدون أن يعلم النبي عليه الصلاة والسلام وبدون أن يشعر، فهل يعقل أن الشرع يفصل في التفريق بين البنيان والصحراء ولا يُعْلم هذا حتى يأتي ابن عمر وهو حدث صغير يرقى على البنيان؟! فحينئذٍ تقوى عندك دلالة القول، فتقول: أنا أبقى على دلالة القول، وما ورد من فعله احتمل خصوصيته به عليه الصلاة والسلام، مع احتمال أن يكون سابقاً للنهي، فلا يخرجني عن دلالة القول، فحينئذٍ أبقى على دلالة القول؛ لأنها أقوى وأرجح. فهذا هو مسلك علماء الأصول حينما يقولون: إذا تعارض القول والفعل فإننا نقدم القول على الفعل؛ لأن القول خاطب به الأمة، والفعل يحتمل أن يكون من خصوصياته صلوات الله وسلامه عليه. والله تعالى أعلم. حكم المحرم المضطر إذا اجتمع له ميتة وصيد السؤال إذا اجتمع للمحرم صيد وميتة وكان على مخمصة فأيهما يقدم؟ الجواب إذا اجتمع للمحرم الصيد والميتة، فحينئذٍ يكون من باب تعارض المحظورين، فإذا جئت تنظر إلى الميتة فإن الله عز وجل حرمها بإطلاق إلا في حال الضرورة، وإذا جئت إلى الصيد وجدت أن الله حرمه في حال الإحرام، والتحريم المؤقت أخف من التحريم غير المؤقت؛ لأن تحريم الميتة بالنسبة لحال الاختيار عام للأزمنة والأمكنة، ولم يستثن الله منه إلا حالة الضرورة والمخمصة، وهو يدل على شدة أمر الميتة. وأما المحرم فالصيد في حقه أخف تحريماً من الميتة، وعليه يرجح أكل الصيد على أكل الميتة، وذلك من جهة كون تحريم الصيد مؤقتاً وتحريم الميتة مؤبداً، وهذا وجه للترجيح، فتقدم الميتة على الصيد. وهناك وجه آخر يقدم فيه الميتة على الصيد، وتوضيح ذلك: أن الصيد اتصل بحالته، أي: أن تحريمه اتصل بحالته، ولكن تحريم الميتة عمَّ، وجاء حال الخصوصية في الاضطرار، فكأنها أخف من جهة الحال، أي: أن المحرم حرم عليه الصيد بدون تفريق بين كونه مضطراً وغير مضطر، ولكن الميتة حلّت عند الضرورة، فإذا جئت إلى حالته كمحرم تقول: إن الله حرم عليه الصيد، ولم يستثن حال الضرورة، ولكن حرم عليَّ الميتة واستثنى لي حالة الضرورة، فأقبل النص الذي دخله الاستثناء، ولا أفعل ما لم يدخله الاستثناء، فيقوى أن يأكل من الميتة، وكلاهما له وجه، وهذا يسمونه: التعارض. وهذا يشكل في بعض الأحيان، ومنه: إذا خرج من بيته وغلب على ظنه أنه لو مشى بقدميه فسيفوته الصف الأول وتفوته تكبيرة الإحرام، فهل الأفضل أن يمشي على قدميه ويفوته الصف الأول وتكبيرة الإحرام، أم أن الأفضل أن يركب سيارته وتفوته فضيلة المشي وتكفير الخطايا والذنوب؟ قالوا: الأفضل أن يركب ويدرك الفضيلة المتصلة بالصلاة، أعني: كونه في الصف الأول، وكونه يدرك تكبيرة الإحرام، لأن فضيلة الصف الأول وتكبيرة الإحرام متصلة بالعبادة، وفضيلة المشي منفصلة عن العبادة، والتفاضل يدخل في الفضائل وفي المحرمات والمسلك واحد، فإذا جئت تنظر إلى أن تحريم الصيد عليه كمحرم تقول: هذا أقوى؛ لأن الله حرم على المحرم أكل الصيد دون أن يستثني حالة الاضطرار، وأما الميتة فإن الله حرمها عليه واستثنى حالة الاضطرار، فمن جهة حاله تقول: الأفضل أن يأكل من الميتة ولا يأكل من الصيد. والله تعالى أعلم. حكم التحلل بأخذ ثلاث شعرات من الرأس السؤال هل يجزئ أخذ ثلاث شعرات من الرأس لمن أراد التحلل بناء على اعتبارها جمعاً؟ الجواب مسألة الجمع في الإخلال، وهو أقل ما يصدق عليه الإخلال، لا تستلزم أن التحلل لا يكون إلا بثلاث شعرات، فهناك فرق بين المسألتين، فإن التحلل قال الله فيه: { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } [البقرة:196] وهذا شامل لجميع الرأس من حيث التحلل، وقال صلى الله عليه وسلم: ( إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر )، فهذا يدل على تعلقه بالرأس كله، أما مسألة أن أقل الجمع ثلاثة، فهذه تتعلق بأقل ما يقع به الإخلال، وقد قالوا: إذا جز شعرة واحدة فإنه لم يحلق رأسه، لكن إذا وصل إلى أقل الجمع، وهي الثلاث من الرأس، فيصدق عليها أنها شعر للرأس، فكأنه حلق الرأس كله؛ لأن ابتداء الحلق يحصل بأقل ما يصدق عليه الجمع وهو الثلاث، فكأنه إذا حلق الثلاث أو قص الثلاث أو نتف الثلاث؛ كأنه شرع في الإزالة، وفرق بين كوننا نقول: كأنه شرع، وبين أن نقول: قد أزال فعلاً، فهناك فرق بين الابتداء وبين الكمال، وعلى هذا قالوا بأقل الجمع في الإخلالات؛ لأن الشرع قصد أن لا يمس شعره وأن لا يترفه بحلقه أو نتفه أو تقصيره، بخلاف مسألة التحلل فإنه لا بد فيها من تعميم الرأس قصاً وحلقاً. والله تعالى أعلم. التوفيق بين سنة الجهر بالتلبية وسنة إخفاء الدعاء السؤال كيف نوفق بين قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أمره جبريل عليه السلام بأن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم في التلبية، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: ( أيها الناس أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً )؟ الجواب الأصل في الدعاء وذكر الله عز وجل أن يكون بين العبد وربه، فهو أقرب للإخلاص، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ) ، فهذا يدل على أن السنة أن يخفض صوته وأن لا يرفعه، هذا أصل عام، وقد ورد التخصيص، والقاعدة: أنه لا تعارض بين عام وخاص، فاستثني منه ذكر الحج بالتلبية؛ لشرف هذه العبادة وفضلها وعظيم ما فيها من التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وكون هذا العبد وافداً على الله وضيفاً على الله، يرجو رحمته ويخشى عذابه، مجيباً لداعيه، فإنه شرف بأن يكون حاله وأن يكون مقاله واضحاً بيّناً للناس، ولذلك حتى الهدي إذا أهدي للبيت فإنه يشعر ويقلد وتكون عبادة واضحة أمام الناس؛ تشريفاً لهذه العبادات وتكريماً، وإظهاراً لحرمات الله وشعائره، ولذلك قال تعالى: { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا } [المائدة:2] . فشرف الله عز وجل هذه العبادة، حيث إن الإنسان يقدم على بيت الله عز وجل تائباً منيباً يرجو رحمته ويخشى عذابه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في شرف هذه العبادة وفضلها: ( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) ، وهذا يدل على فضل هذه الشعيرة وعلو منزلتها، فكونه يرفع صوته بها فإن هذا لا يقدح في الأصل؛ لأنه لا تعارض بين عام وخاص، كما أن الإمام يجهر بقراءته في صلاته، ونحو ذلك من الأذكار التي شرع رفع الصوت فيها، سواء كان في عبادة مخصوصة أو كان مطلقاً. والله تعالى أعلم. حكم التمتع لمن اعتمر في أشهر الحج السؤال من اعتمر في أشهر الحج، فهل يكون التمتع واجباً عليه حتى ولو لم يكن ناوياً لذلك؟ الجواب من اعتمر في أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع شاء أو أبى ما لم يرجع إلى بلده، أما لو اعتمر ثم رجع إلى بلده أو إلى ميقات بلده أو ما يحاذي ميقاته ثم أحرم بالحج من ذلك المكان، فإن إنشاءه السفر الثاني يسقط عنه دم التمتع، بدليل المكي، فإن المكي لما أحرم بالحج والعمرة من مكة سقط عنه دم التمتع وصح تمتعه. فدل على أن التمتع إنما هو بوجود الترفه والتمتع بسقوط السفر الثاني، كأن الإنسان إذا جاء بعمرة في أشهر الحج ثم بقي في مكة ثم أحرم بالحج من ذلك العام كأنه أحرم من دون ميقاته؛ لأنه أنشأ الحج من مكة نفسها، فاستوى أن يكون ناوياً أو غير ناو؛ لأن هذا الدم يجبر النقصان بالرجوع إلى الميقات، لأن الواجب عليه أن يرجع ويحرم بالحج من ميقاته. والله تعالى أعلم. حكم الأخذ من الأظافر عند الإحرام لمن أراد أن يضحي السؤال علمنا أن من مسنونات الإحرام تقليم الأظافر وأخذ الشعر، ولكن هل هذا عام حتى لمن أراد الأضحية؟ الجواب إذا أراد الإنسان أن يضحي وأراد أن يحج، وكان إيقاعه للإحرام بعد دخول شهر ذي الحجة فإن السنة أن لا يأخذ من شعره ولا ظفره، فلا يقدم السنة المستحبة على النهي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى من دخلت عليه العشر وأراد أن يضحي أن يمس ظفره وشعره، فدل على أنه يترك الشعر والظفر، فكونه يأتي إلى الميقات ويريد أن يصيب السنة بحسن الشرف والهيئة لا يسوغ ذلك، فلا تقدم السنة المستحبة على نهيه عليه الصلاة والسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( وإذا نهيتكم فانتهوا )، فقد نهانا بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فيلزمنا الامتثال، فلا يقص شعره ولا يقلم أظفاره، وحينئذٍ يكون له أجر السنة بالنية. والله تعالى أعلم. حكم السعي بين الصفا والمروة في غير حج ولا عمرة السؤال هل يشرع التطوع بالسعي بين الصفا والمروة في غير حج ولا عمرة قياساً على الطواف؟ الجواب نص جمع من العلماء رحمة الله عليهم على مشروعية السعي بين الصفا والمروة ولو لم يكن الإنسان في حج أو عمرة؛ لأن الله قال في كتابه بعد ذكره لشعيرة السعي بين الصفا والمروة: { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [البقرة:158] فأخبر أنه يشكر عمله، ولا شك أنه عام، وقد جاء بعد ذكره سبحانه وتعالى لشعيرة السعي بين الصفا والمروة: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [البقرة:158] ، فكونه سبحانه يذكر التطوع بعد الحج والعمرة، أي: طف بين الصفا والمروة لحجك وعمرتك، وإن تطوعت خيراً فإن الله شاكر عليم، قالوا: فهذا يدل على أنه يجوز أن يسعى بين الصفا والمروة، ولو لم يكن ذلك في الحج والعمرة. والله تعالى أعلم. توضيح قاعدة: (إذا خرج النص مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه) السؤال ما معنى القاعدة التي تقول: إن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه؟ الجواب للنص منطوق ومفهوم، المنطوق: هو دلالة اللفظ نفسه من حيث عمومه وخصوصه، فتنص السنة أو ينص الكتاب على حكم، كقوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1]، تقول: دلت الآية على وحدانية الله بمنطوقها: فوصف الله سبحانه وتعالى نفسه بكونه واحداً، وهذا نص من المنطوق. أما بالنسبة للمفهوم -وهو قسيم اللفظ المنطوق- فإنك إذا نظرت إلى لفظ الآية ولفظ الحديث تجد أن اللفظ يدل على معنى يسمى: المنطوق، وتجد خلافه، أي: عكس اللفظ هو: المفهوم. ومن أمثلة ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( في السائمة الزكاة ) ، فيصدق على البهيمة من الإبل والبقر والغنم إذا كانت ترعى وتسوم، هذا المنطوق، لكن المفهوم هو أنها (إذا لم تكن سائمة فلا زكاة فيها). كذلك أيضاً قال تعالى: { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النساء:6] هذا منطوق الآية، وهو أنه إذا بلغ اليتيم، وهو الشرط الأول، وكان رشيداً، وهو الشرط الثاني، { فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النساء:6] ، إذا بلغ وكان رشيداً يجب دفع المال إليه بمنطوق الآية ونصها، لكن مفهوم قوله: { آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا } [النساء:6] أنه إن لم تؤانسوا منهم الرشد فلا تدفعوا إليهم أموالهم، فهذا يسمى المفهوم. وأقسامه: مفهوم صفة، وشرط، وعلة، ولقب، واستثناء، وعدد، وحصر، وظرف زمان، وظرف مكان، وغاية، هذه عشرة أنواع للمفاهيم: وقد جمعها بعض العلماء بقوله: صف واشترط علل ولقب ثنيا وعد ظرفين وحصر إنحيا هذه المفاهيم العشرة تعتبر عند العلماء على اختلاف فيما هو حجة منها وما ليس بحجة، فالمفهوم في بعض الأحيان يكون معتبراً وأحياناً يكون غير معتبر، فأنت إذا نظرت إلى قوله: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ) ، إذا كنت تعتبر أن مفهوم العدد حجة تقول: إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، وإذا كنت تعتبر أن مفهوم العدد ليس بحجة فتقول قوله: ( إذا بلغ الماء قلتين ) لا مفهوم له، أي: لا أعتبر له مفهوماً، هذا بالنسبة لمفهوم العدد. لكن قوله: إذا خرج النص مخرج الغالب فلا مفهوم له، مثال ذلك: لما قال الله عز وجل: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } [النساء:23] ، المرأة إذا تزوجتها وكانت لها بنت، فهذه البنت تسمى: ربيبة، والغالب في البنت إذا كانت مع أمها أن تتربى في حجر زوج أمها، فهو الذي يرعاها ويقوم عليها؛ لأن والدها قد طلق أمها، أو مات عن أمها مثلاً، ففي هذه الحالة تتربى في الغالب في حجر زوج أمها، وإذا ثبت أن الربيبة في الغالب تتربى في حجر زوج أمها فيكون قوله تعالى: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } [النساء:23]، كأنه خرج مخرج الغالب، فتقول: لا أعتبر مفهومه؛ لأن مفهومه أنها إذا لم تترب في حجره -كأن يتزوج أمها وهي كبيرة- حينئذٍ يجوز له نكاحها كما يقول الظاهرية، لكن الجمهور يقولون: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } [النساء:23] لا مفهوم له؛ لأنه خرج مخرج الغالب. ومن أمثله -ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) فقال: (باتت) والبيتوتة لا تكون إلا بالليل، فتقول: الأمر بغسل اليدين قبل إدخالها الإناء عام، سواء كان مستيقظاً من نوم الليل أو نوم النهار، فيرد عليك الظاهري ومن يقول بالتخصيص فيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (باتت)، فالحكم خاص بنوم الليل دون نوم النهار، فتقول له: (باتت) خرج مخرج الغالب؛ والقاعدة: أن الغالب في النوم أن يكون في الليل، ولذلك يقولون: إنه خرج مخرج الغالب فلا يعتبر مفهومه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (222) صـــــ(1) إلى صــ(19) شرح زاد المستقنع - باب الفدية من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام فيجب عليه الفدية، وهي واجبة على التخيير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاةٍ، ومن قتل صيداً محرمٌ وجب عليه مثله من النعم؛ إن كان له مثل، وإن لم يكن له مثل فهناك تفاصيل ذكرها العلماء في هذه المسألة. المحظورات التي تلزم فيها الفدية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [باب الفدية]. (الفدية): ما يدفع أو يبذل لقاء الشيء، ومنه فداء الأسير، وكأن الإخلال بالمحظورات يوجب الضمان على المكلف فيما ورد الضمان فيه، كحلقه لشعره ونحو ذلك من المحظورات، فكأنه إذا أدى ما أوجب الشرع عليه لقاء هذا الإخلال قد فدى. وقوله رحمه الله: (باب الفدية) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالفدية، أي: ما يجب على المحرم بالحج والعمرة إذا أخل بالمحظورات. والأصل في هذه التسمية قوله تعالى: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة:196]، فسمى الله عز وجل ما يكون من الحاج والمعتمر لقاء إخلاله بحلقه لشعره فدية، فقال العلماء: باب الفدية. وقوله: [يخير بفدية حلق وتقليم وتغطية رأس وطيب ولبس مخيط بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر، أو شعير، أو ذبح شاة]. فقوله رحمه الله: (يخير بفدية حلق) أي: أن الله عز وجل خير المكلف فيما يدفعه لقاء إخلاله بمحظور الحلق، فإذا حلق رأسه، أو نتف شعر إبطيه، أو حلق عانته، أو قص الشعر فإننا نقول: عليك الفدية. وهذه الفدية فدية تخييرية، والفدية منها ما يكون المكلف فيه مخيراً كفدية الأذى وفدية جزاء الصيد، وكذلك منها ما يكون على سبيل الترتيب كما أوجب الله عز وجل على من لم يجد الهدي أن يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. فقوله: (يخير بفدية حلق) الأصل في هذا التخيير قوله سبحانه وتعالى: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة:196] فجاءت (أو) للدلالة على التخيير، أي: إن شاء افتدى بالصيام، وإن شاء افتدى بالإطعام، وإن شاء افتدى بذبح النسيكة، وأكدت السنة هذا فيما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من قوله: ( انسك نسيكة، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صم ثلاثة أيام ) فخير رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة ، وجاء نص السنة موافقاً لما في الكتاب، ولذلك قال العلماء: (الفدية في الأذى تخييرية) فلو قال: أريد الإطعام. لا نلزمه بالصيام، ولو قال: أريد الصيام. لا نلزمه بالإطعام، فلو اختار أي واحد من هذه الثلاث فلا حرج عليه؛ لأن الله خيره. التخيير في الفدية وقوله: [يخير بفدية حلق وتقليم]. يخير بفدية الحلق إذا حلق شعر رأسه أو قصه أو نتفه، أو حلق شعر سائر البدن أو قصه أو نتفه من أي موضع من البدن، هذا الحلق. (وتقليم) أي: تقليم الأظفار؛ لأن الله عز وجل جعل تقليم الأظفار من التفث، فقال سبحانه وتعالى في المتحلل: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج:29] فلما قال: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } [الحج:29] نبه على أنهم أثناء إحرامهم بالحج كان عليهم ذلك، بمعنى: أنهم تاركون لأظفارهم وأبشارهم وهيئتهم، ولذلك قال العلماء: يحظر تقليم الأظفار، كما تقدم معنا في المحظورات، فلما حرم الله على المحرم بالنسك أن يحلق شعر رأسه جعل الفدية لقاء الإخلال بحلق الشعر، ويعتبر هذا الدليل أصلاً في التنبيه على وجود الفدية فيه، فكأن الله عز وجل أورد الفدية لحلق الشعر لكي ينبه على المثل، وهي مسألة القياس، فكما أن المكلف أثناء إحرامه بالحج والعمرة إذا أحرم بالحج والعمرة وتلبس بالنسك، وحرم عليه أن يحلق شعره أو يأخذ شيئاً من شعر بدنه، وحظر عليه أن يقلم أظفاره، فإذا اعتدى بمخالفة الشرع هنا كان معتدياً في الآخر مثله سواء بسواء، فإذا خاطب الشرع بالضمان في قص الشعر وحلقه من سائر البدن فكأنه يقول: ألحقوا بهذا ما كان في حكمه. إذ لا يعقل أن تقول: محظور عليه أن يقلم أظفاره، ومحظور عليه أن يتطيب، ومحظور عليه أن يلبس المخيط، فإذا حلق شعر رأسه تقول: عليه الفدية، وإذا غطى رأسه أو لبس المخيط تقول: لا فدية عليه! فيكون هذا من التفريق بين المتماثلين، وقد عهدنا من الشرع أنه يسكت عن المثل حتى يؤجر المجتهد بالاجتهاد والقياس، ولذلك قد وردت النصوص في السنة بحجية القياس؛ لكي يكون هناك أجر للمجتهد بإلحاق النظير بنظيره، كما قال عمر رضي الله عنه لـ أبي موسى : (اعرف الأشباه، ثم قس الأمور بنظائرها)، وذلك في كتابه المشهور الذي بعث به إليه، وقد ذكره الإمام ابن القيم في (أعلام الموقعين)، وبين في أكثر من صفحة حجية القياس، وأورد أدلة السنة، وأن الشرع يسكت عن المثل حتى ينبه بعلة المثل على أنه آخذ حكم أصله. وعلى هذا فإنه لا يستقيم أن تقول: إذا حلق شعر رأسه عليه الفدية، وإذا تطيب ولبس المخيط وغطى رأسه وقلم أظفاره تقول: لا شيء عليه؛ لأن الكل محظور، والكل نهى عنه الله عز وجل وحرمه على المحرم كما ثبتت بذلك السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونبه الكتاب عليه كما في تقليم الأظفار، فإذا قلت: وجبت عليه الفدية هنا بنص الكتاب، فإن نص الكتاب يعتبر تنبيهاً على أن ما ماثل ذلك أخذ حكمه، كما نص على ذلك جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم، فقالوا: في حلق الشعر وتقليم الأظفار والطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس الفدية؛ لأن الكل جاء بمرتبة واحدة في الشرع، حيث حرم الله عز وجل على المحرم أن يفعل هذه الأشياء، فإذا فعلها متعمداً فتلزمه الفدية. ثم لو نظرت إلى حديث كعب بن عجرة الثابت في الصحيحين أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من على رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: ( ما كنت أرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى، ثم قال له: أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة ) فهذا مريض ومعذور، ومع ذلك احتاج إلى حلق شعره وخاطبه الله بالفدية: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ } [البقرة:196] فهو مع كونه معذوراً يخاطبه الشرع بالفدية، فما ظنك بمن اعتدى وتطيب عامداً متعمداً أليس هو أحرى بالفدية؟ ولذلك قالوا: إن قياس الأولى يقتضي إلحاق من أخل بهذه المحظورات بمن حلق شعر رأسه بدون إشكال أو ريب. وقوله: [وتغطية رأسه]. كأن يلبس عمامة أو طاقية أو يضع حائلاً على الرأس من سائر الغطاء فإنه يعتبر منتهكاً للحرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تلبسوا العمائم ) والعمامة سميت بذلك لأنها تعم الرأس بالتغطية، فلما نهى صلوات الله وسلامه عليه عن لبس العمامة، قالوا: من غطى رأسه فإنه قد وقع في المحظور الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيلزم بالفدية، فكما أنه إذا حلق رأسه مع وجود العذر لزمته الفدية، فلأن تجب عليه الفدية إذا غطاه من باب أولى وأحرى، خاصة إذا لم يكن له عذر. وقوله: [وطيب]. وهكذا الطيب سواء وضعه في بدنه أو في رأسه أو في مغابنه، فإنه تلزمه الفدية التي نص الله عز وجل عليها وهي فدية الأذى. وقوله: [ولبس مخيط]. وكذلك لبس المخيط، فجميع هذه الأشياء حظرت على المحرم، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس )، فحرم تغطية الرأس ولبس المخيط والطيب في البدن والثياب، فدل على أن هذه الأمور كلها تعتبر محظورة وهي في حكم واحد، فمن أخل بواحد منها كان كمن أخل بغيره سواء بسواء. الفدية بصيام ثلاثة أيام وقوله: [بين صيام ثلاثة أيام]. يخير بين صيام ثلاثة أيام، نقول له: اختر، إما أن تصوم ثلاثة أيام حيث شئت فالصيام لا يتقيد بمكة، ولا يتقيد بحال إحرام، ولا يتقيد بزمان ولا مكان، لكن ينبغي عليه أن يبادر إبراء للذمة وخشية الاشتغال. ولا يجب أيضاً في هذا الصيام أن يكون متتابعاً، فلو صام في الوقت الحاضر يوماً، وفي الأسبوع القادم اليوم الثاني، وفي الأسبوع الذي بعده اليوم الثالث فلا حرج، سواء وقعت الأيام الثلاثة متتابعة أو متفرقة؛ لأن الله تعالى قال: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ } [البقرة:196] وأطلق، وقال صلى الله عليه وسلم: ( صم ثلاثة أيام )، والقاعدة: (أن المطلق يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده) ففي القرآن إطلاق في الصيام، وفي السنة إطلاق في الصيام، فإطلاق القرآن في قوله سبحانه: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ } [البقرة:196] هذا إطلاق قيدته السنة بقوله عليه الصلاة والسلام: ( صم ثلاثة أيام )، فقيدته في العدد ولم تقيده في الوصف، فلم يقل: صم ثلاثة أيام متتابعة، ولم يقيده بالمكان، فلم يقل: صم ثلاثة أيام في حجك، أو صم ثلاثة أيام في عمرتك، ولم يقيده بمكان كأن يقول: صم ثلاثة أيام بمكة، أو صم ثلاثة أيام في مكان إخلالك، فأصبح هذا الصيام له جملة من الأحكام: أولاً: أنه لا يتقيد بمكان معين فله أن يصوم حيث شاء. وثانياً: أن الواجب أنه مقيد بثلاثة أيام، وهذه الأيام الثلاثة لا يشترط فيها التتابع، فإن صامها متفرقة أو متتابعة فلا حرج عليه في ذلك. وهذا الصيام جعله الله عز وجل على الخيار، فإن اختاره فله أن يصوم لأكثر من فدية، فلو كانت عليه ثلاث فديات فأحب أن يصوم تسعة أيام فلا حرج. الفدية بإطعام ستة مساكين وقوله: [أو إطعام ستة مساكين]. هذا الخيار الثاني، نقول له: صم ثلاثة أيام حيث شئت، أو أطعم ستة مساكين، ولكل مسكين نصف صاع، وإطعام ستة مساكين الأصل فيها: قوله تعالى: { أَوْ صَدَقَةٍ } [البقرة:196] فإن (صدقة) نكرة؛ والقاعدة: (النكرة تفيد العموم) فهذا يشمل أي صدقة، ولذلك يقولون: إن القرآن لما ورد بالصدقة ورد بها على سبيل العموم أياً كانت قليلة أو كثيرة، فجاءت السنة وخصصت، والسنة تقيد مطلق القرآن وتخصص عمومه وتبين إجماله، { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل:44] فهذا من بيان السنة للقرآن، فيكون بتقييد المطلقات وتخصيص العمومات وبيان المجملات، فلما قال سبحانه: { أَوْ صَدَقَةٍ } [البقرة:196] شملت الصدقة سواء أكانت قليلة أو كثيرة، فلو سكت القرآن على هذا وسكتت السنة عليه لكان أي صدقة تجزئ، لكن لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( أطعم ستة مساكين ) لكل مسكين قال: ( أطعم فرقاً بين ستة مساكين ) والفرق: ثلاثة آصع، فإذا كان الفرق ثلاثة آصع ويفرق بين ستة مساكين فمعناه أن لكل مسكين نصف صاع، وعليه قالوا: فدية الأذى يعطي نصف صاع من تمر، أو شعير أو بر أو غيره. فلذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: ( أطعم فرقاً بين ستة مساكين ) دل على أنه يعطي لكل مسكين نصف صاع، لكنه لم يحدد صلوات الله وسلامه عليه الإطعام بمكان، فليس بواجب على من لزمته هذه الفدية أن يطعم ستة مساكين من مساكين الحرم، بل إنه إذا أطعم ستة مساكين في أي مكان أجزأه، ففدية الأذى بالإطعام والصدقة لا تختص بالحرم، ولذلك لو أطعم المساكين في الحرم وغيره فإنه يُبرئ ذمته بذلك الإطعام. وكذلك لو كانوا فقراء فإنه يجزيه إذا أطعم ستة فقراء، ولذلك قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أطعم ستة مساكين ) لأن المسكين يعتبر أحسن حالاً من الفقير، فإذا جاز إطعامه للمسكين فمن باب أولى أن يطعم الفقراء، والسبب في ذلك: أن المسكين يصل به الضيق إلى أنه لا يجد قدر كفايته الكاملة، إنما يجد بعض الكفاية، ولكن الفقير قد لا يجد كفايته، ولذلك جعل الله المسكين أفضل حالاً من الفقير فقال سبحانه: { وأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } [الكهف:79] فأثبت لهم وصف المسكنة مع كونهم يملكون السفينة، ولذلك يقولون: إن المسكين أحسن حالاً من الفقير. وهذا على أصح قولي العلماء، فالمسكين لا يجد كفايته، ولكن الفقير لا يجد لا قوته ولا أقل القوت في بعض الأحيان، بل قد لا يجد شيئاً، ويوصف بكونه فقيراً، ولكن المسكين يجد دون الكفاية فلا يجد قدر الكفاية، فيكون مسكيناً، وكان نص النبي صلى الله عليه وسلم على المسكين من باب التنبيه على من هو أدنى وأحرى، فكأنه على من هو أدنى يقول: أطعم ستة مساكين، وإن شئت أطعمت ستة فقراء. وقوله: [لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير]. يلاحظ أن المصنف رحمه الله فرق بين البر وبين غيره، فقال: (مد بر، أو نصف صاع من شعير أو غيره) والصحيح: أن نصف الصاع من أي طعام شاء، فيشمل التمر والبر والشعير، وأنه لا فرق بينها، والدليل: السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: ( أطعم فرقاً بين ستة مساكين ) فإنه لما نص عليه الصلاة والسلام على الفرق دل على أن ما دونه لا يجزئ، إذا لو قلت: إن مد بر يجزئ لكل مسكين لكان الإطعام صاعاً ونصف من بر وثلاثة آصع من غير البر، والصحيح: أنه لا يجزئ أقل من ثلاثة آصع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ( أطعم فرقاً بين ستة مساكين ) دل على أن ما دون الفرق لا يجزئ، فلو قلنا: إنه يجزئ مد البر فإن هذا يؤدي إلى أن دون الفرق يجزئ، وهو خلاف ظاهر السنة، وقد قال به بعض الصحابة اجتهاداً كما هو فعل معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وخالفه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنكروا ذلك، ولا شك أن العمل يكون بما قال به جمهور الصحابة، بالإضافة إلى أنه هو الموافق لظاهر السنة؛ ولذلك لا وجه للتفريق بين البر وبين غيره. الفدية بذبح شاة وقوله: [أو ذبح شاة]. الخيار الثالث أن نقول له: اذبح شاة، وفي الشاة مسائل: أولاً: أن هذه الشاة يشترط فيها أن تكون قد بلغت السن المعتبر، فلا يجزئ أقل من المسنة من الماعز، والجذع من الضأن، إذا أراد أن يذبح من الماعز فإنه لا يجزئ ما كان منها دون السنة، وإذا أراد أن يذبح من البقر فلا يجزئ ما دون السنتين -أي لابد أن يكون بلغ السنتين ودخل في الثالثة- وأما بالنسبة لجذع الإبل فلا يجزئ أقل مما أتم الرابعة وطعن في الخامسة، هذا بالنسبة للجذع من الماعز والبقر والإبل. أما بالنسبة للضأن فإنه يجزئ فيه الجذع، وهو ما تم له ستة أشهر فأكثر، فإذا أراد أن يذبح الشاة فإنه يخير بين أن يذبح مسنة من الماعز وبين أن يذبح جذعة من الضأن، فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن ) وعلى هذا: فليست كل شاة تجزي، فلو ذبح جفرة من المعز لا تجزي، ولو ذبح العناق لا تجزي؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث البراء في الصحيح لما سأله أبو بردة رضي الله عنه أنه ذبح العناق فقال له: ( تجزيك ولا تجزي غيرك ) فدل على أنه لا يجزئ بالنسبة للماعز ما كان دون السنة التامة وهو المسن. وأما بالنسبة للبقر فيجزئ سبعها، وكذلك الإبل يجزي سبعها، فلو وجبت عليه الفدية وكانت عليه ثلاث إخلالات، فاشترى ثلاثة أسباع بعير أو ثلاثة أسباع بقرة فإنه يجزيه ذلك إذا بلغ البعير أو البقرة السن المعتبر. إذاً: تجزيه الشاة والسبع من البدنة والبقر لقاء هذه الفدية، ولو كان عليه أكثر من محظور وبلغت محظوراته السبع، فتكررت له في حج وعمرة وبلغت سبعاً، وأراد أن يذبح ناقة أجزأته عن جميع هذه المحظورات، وهكذا لو أراد أن يذبح عنها بقرة كما في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه: (أن الصحابة كانوا يشتركون السبعة في البعير) فدل على أن سبع البدنة يجزئ عن شاة، وكذلك ضحى رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر، والبقر منزل منزلة البعير، وهذا عليه قضاء جماهير السلف والخلف رحمة الله على الجميع. فيجزيه في فدية الأذى أن يذبح شاة -وهو الخيار الثالث- أو يذبح سبع البدنة أو يذبح سبع البقرة، والذبح يجزيه في أي موضع، ومن هنا تختلف الفدية عن هدي التمتع والقران ودم الجبران، فهدي التمتع وهدي القران ودم الجبران لا يجزئ ذبحه إلا بمكة وداخل حدود الحرم، فلو ذبح هدي التمتع خارج حدود الحرم، كأن يذبحه في عرفات أو في التنعيم خارج حدود الحرم، فإنه لا يجزيه، ويكون صدقة من الصدقات، ويلزمه أن يكون ذبحه داخل مكة، ولذلك قال الله تعالى: { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [المائدة:95]. ومثل ذلك: جزاء الصيد؛ لأن الله نص فيه ببلوغه للكعبة، والمراد بقوله سبحانه: { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [المائدة:95] أي: بالغاً حدود الحرم، من باب إطلاق الجزء على الكل، كما قال سبحانه: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } [المسد:1] والمراد: أطلق الجزء وأراد الكل، وكقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا سبق إلا في خف أو حافر ) فأطلق الجزء وأراد الكل، وقوله تعالى: { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [المائدة:95] أي: بالغاً حدود الحرم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( نحرت هاهنا، وفجاج مكة وشعابها كلها منحر ) فدل على أنه يجزئ أن يذبح الشاة الواجبة عليه في الهدي، وهدي التمتع والقران وجزاء الصيد -كما ذكرنا- بمكة، وأما ما عداها من فدية الأذى ونحوها فيجزيه في أي مكان. أما الدليل الصريح الذي يدل على أنه يجزيه أن يذبح فديته في الأذى خارج مكة: ما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة ، أنه في عام الحديبية لما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابه ما أصابه، وهو دون الحرم لم يبلغ الحرم بعد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( انسك نسيكة ) النسك: هو الذبح، ومنه قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } [الأنعام:162] أي: ذبحي، كما قال تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر:2] فالنسك المراد به: الذبح، فقوله: ( انسك نسيكة ) أي: اذبح ذبيحة، ولم يقل له: بمكة، ولم يقل له: بالحرم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلما أطلق صلوات الله وسلامه عليه قال العلماء: يجزيه أن يذبح الشاة في فدية الأذى والحلق والتقصير ونحوه في أي موضع شاء، ولا يلزمه أن يكون ذبحه بمكة، فإذا ذبحها فإنه قد أدى ما عليه. حكم من قتل صيداً وهو محرم وقوله: [و بجزاء صيد بين مثل إن كان، أو تقويمه بدراهم يشترى بها طعاماً فيطعم كل مسكين مداً أو يصوم عن كل مد يوماً]. الحكم عند قتل المحرم لصيد له مثل فقوله: [و بجزاء صيد بين مثل إن كان ]. نحن قدمنا أنه لا يجوز للمحرم بالحج والعمرة أن يقتل الصيد، وهذا ترتيب من المصنف رحمه الله، فبدأ بالمحظورات التي في جسد الإنسان وفي نفسه من الحلق والتقليم والتطيب وتغطية الرأس ولبس المخيط، ثم انتقل إلى ما يحتاجه لبدنه وهو جزاء الصيد فقال: (إذا أخل بجزاء الصيد)، ففي جزاء الصيد تكون الفدية تخييرية، والمراد بذلك: أن يقتل المحرم صيداً. ويشترط أن يكون الحيوان من الصيد، ولذلك بعض الناس اليوم يسأل: إذا كان في سيارة وهو محرم بالحج والعمرة، ثم يشاء الله أن يقتل شاة في الطريق، فالشاة ليست من الصيد، ونحن نتكلم على الصيد، فلو قتل حيواناً أصله من المتوحش الذي هي الصيود، وأما ما عدا الصيد من الحيوانات المستأنسة التي تكون مع الآدميين كالإبل والبقر والغنم فهذه لها حكم الضمان الشخصي، فلو صدمها بسيارته لا يجب ضمان الصيد في هذا؛ لأنها ليست بصيد، وإنما حرم عليه قتل الصيد، ولذلك يجوز لك وأنت محرم أن تذبح الشاة لضيوفك أو تذبح الشاة في سفر، أو تنحر البعير لك أو لضيوفك أو لرفقتك، فلا حرج عليك في هذا، فمحل الإخلال قتل الصيد. لكن مثلاً: لو كان في سيارته فارتطمت به حمامة أو عصافير فقتلها، أو دهس أرنباً أو نحو ذلك من الحيوانات سواء من الطيور أو غيرها من العوادي كتيس الجبل والوعول والظباء، فصدم مثل هذا وقتله، أو أطلق النار عليه فقتله، فحينئذٍ يقع السؤال قد أخل بما نهاه الله عز وجل عنه من قتل الصيد، فما الذي يلزمه؟ إذا قتل المحرم الصيد فينظر إلى الموضع الذي قتل فيه الصيد، ويبحث عن شخصين عدلين من الرجال دون النساء؛ لأن مثل هذه الأمور يطلع عليها الرجال أكثر من النساء، وحكمهم خاص بهم: { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } [المائدة:106] فيأخذ اثنين من العدول الذين لهم معرفة في الموضع الذي قتل فيه الصيد، واختلف العلماء إذا لم يتيسر له ذلك، فقال بعضهم: يجزيه من أي موضع، بل حتى ولو تيسر له في موضع الصيد وذهب إلى غيره -كما أثر عن عمر رضي الله عنه في قضائه- فلا حرج. وقال بعض العلماء: الاثنان يمكن أن يكون هو واحد منهما مع آخر إذا كان عدلاً، فيحكم على نفسه، واستشهدوا بذلك في قضية عمر رضي الله عنه في الموطأ وغيره. فالمقصود: أن يأخذ هذين العدلين لينظرا في هذا الشيء الذي قتله من الصيد، وهذا الشيء الذي قتله من الصيد إما أن يكون له مثل من بهيمة الأنعام أو لا يكون له مثل من بهيمة الأنعام، فبهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم، فينظر الحكمان في هذا الشيء الذي قتله ما هو الذي يماثله من بهيمة الأنعام، فإن كان -مثلاً- تيس جبل فينظرون في حجمه، فيجدون أن الذي يماثله تيس من الماعز مثلاً، فيقولون حينئذٍ: مثله شاة من ماعز أو ضأن (طلي) مثلاً. ثم ينظرون أيضاً إلى مثله من البقر إن كان بقر وحش أو غزالاً أو ريماً، فإن قتل غزالاً أو ريماً أو وعلاً فينظرون فيه إلى ما يعادله، فقالوا: عدل حمار الوحش وبقر الوحش البقرة، فحينئذٍ يوجب عليك بقرة، أو ينظرون إلى أنه قتل نعامة، فيقولون: عدل النعامة البعير، فكل شيء من هذه الصيود التي لها عدل ومثل يحكم عليه بذلك المثلي. فالمرحلة الأولى: أن يبحث عن العدلين. الثانية: بعد وجود العدلين يقوم العدلان بالنظر فيما قتل وما الذي يماثل المقتول، فإن كان له مثلي من بهيمة الأنعام من إبل أو بقر أو غنم حكما عليه بذلك المثلي، فإذا أصدر الحكم أن عليه شاة فيقولان له: عليك شاة. ويحددان له هذه الشاة المطلوبة، فإذا حددت فيقولان له: أنت بالخيار: إما أن تذبح هذه الشاة بمكة وتتصدق بها على فقراء الحرم -هذا الخيار الأول- أو تقوم الشاة بالنقد، فقيمتها -مثلاً- مائة ريال، فالمبلغ الذي تبلغه يقدر به الطعام، فيُشترى به آصع من التمر، فرضنا أن الصاع بعشرة ريالات، فحينئذٍ إذا كانت قيمة الشاة مائة ريال فيكون عليه عشرة آصع، فيعطونه الخيار الثاني، يقولون له: إما أن تذبح الشاة بمكة، أو تطعم عشرة آصع لكل مسكين ربع صاع، وقيل: نصف صاع، على خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فإذا قلنا بربع الصاع فنقول: إذا كان عليه عشرة آصع ولكل مسكين ربع صاع، فيكون عليه إطعام أربعين مسكيناً. فيقال له: إما أن تذبح الشاة بمكة، أو تطعم أربعين مسكيناً بمكة -على خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم- أو تصوم عدل كل مسكين يوماً، فإن قلت: نصف صاع يكون حينئذٍ عليه عشرون يوماً، وإن قلت: ربع صاع يكون عليه أربعون يوماً، فيقال له: إما أن تذبح الشاة بمكة أو تطعم المساكين الذي هو عدل قيمة الشاة، أو تصوم من الأيام عدل النصف أو الربع على قولي العلماء رحمة الله عليهم، ورجح أكثر من واحد الربع، أي: أن عليه ربع صاع لكل مسكين. وعلى هذا: يكون جزاء الصيد ليس بالترتيب وإنما هو بالتخيير، فيقال له: إن شئت أخرجت العدل والمثل، ولا نلزمك به عيناً، وإن شئت أطعمت وإن شئت صمت عدل المساكين الذين وجب عليك إطعامهم. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (223) صـــــ(1) إلى صــ(19) وجوب الهدي في المتعة والقران وقوله: [وأما دم متعة وقران فيجب الهدي]. هذا مما لزم بالترتيب، والأول لزم بالتخيير، ففي التمتع والقران يجب عليه أن يذبح شاة بالصفة التي ذكرناها، يشترط فيها: أن تكون بلغت السن المعتبرة، وأن تكون سالمة من العيوب، وأن يكون هدي القران والتمتع ذبحه ونحره بمكة، فهذه أمور لابد من توافرها للحكم ببراءة ذمته من هذا الواجب، فإذا لم يجد الشاة فإنه ينتقل إلى البدن، فليست بلازمة على التخيير وإنما هي لازمة على الترتيب؛ لأن الله رتبها في كتابه في آية البقرة في التمتع: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة:196]. كيفية الصيام إن عدم الهدي في المتعة والقران وقوله: [فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام]. فإن عدم الهدي ولم يجده، كأن يكون ذهب وليس عنده مال يشتري به الهدي بالنسبة له وهو في الحج، والعبرة به وهو في الحج، فلو كان عنده مال ببلده لم يؤثر كما في المتيمم، فإن المتيمم إذا سافر وفقد الماء في السفر فإنه سوف يجده في بيته وفي الحضر، فوجدانه في بيته لا عبرة به إنما العبرة بحاله حينما خوطب وأُلزم، والعبرة في قدرته على الإتيان بالهدي، وللعلماء في هذه المسألة أقوال، أصحها: أن العبرة بصبيحة يوم النحر، فإذا أصبح يوم النحر وليس عنده قدرة على شراء الهدي وأصبح فقيراً فإنه لا يلزمه الهدي، وقيل: بمجرد إحرامه -العبرة بالإحرام- وفائدة الخلاف: أنه لو كان غنياً قبل يوم النحر ثم افتقر يوم النحر بسرقة ماله، أو وجود غرامة عليه فذهب ماله في تلك الغرامة، أو احتاج رفيقه إلى مال فأخذه واستنفده في سفره ونحو ذلك فحينئذٍ إذا قلنا: العبرة بإهلاله وجب عليه الهدي عيناً، وأما إذا قلنا: إن العبرة بصبيحة يوم النحر فحينئذٍ ينظر إلى حاله صبيحة يوم النحر؛ لأنه حينئذٍ يلزمه التحلل من نسكه بالهدي. وعلى هذا فإذا كان في صبيحة يوم النحر فقيراً أو معسراً فلا يلزمه الدم، وكذلك أيضاً لو لم يجد الدم، عنده المال ولكنه لم يجد الشاة ولم يجد سبع البدنة ولا سبع البقرة، فذهب إلى السوق فلم يجد شيئاً، فحينئذٍ يلزمه أن ينتقل إلى البدل ويسقط عنه الدم إذا مضت أيام التشريق ولم يجده. وقوله: [والأفضل صوم آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله]. يصوم ثلاثة أيام إذا لم يجد في الحج، واختُلف هل العبرة بإهلاله للعمرة لأنها سبب في التمتع وسبب في لزوم الدم، أم أنها تكون من بداية إهلاله بالحج، فظاهر القرآن: { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } [البقرة:196] أنه يصوم بعد إهلاله بالحج، وقال به طائفة من السلف، وهو مذهب المالكية والحنفية، على أن الله عز وجل قيد هذا الصيام بالحج، فلا يجزيه أن يبدأ به وهو في العمرة، وتوضيح ذلك: أنه لما قيد بظرفية الحج: { ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } [البقرة:196] دل على أنها لا تجزي في غير الحج، فقالوا حينئذٍ: يلزمه الصيام إذا شرع في الحج، وأما قبل الحج فلا يصح منه، وقال بعض العلماء -وهو رواية الإمام أحمد ، اختارها جمع من أصحابه-: إذا أحرم بالعمرة أجزأه أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دخلت العمرة في الحج، وشبك بين أصابعه )، ولكن رد على هذا الدليل بأن الله تعالى فصل بين العمرة والحج في الآية التي أوجب فيها البدل، فقال: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196] ففصل بين العمرة وبين الحج، وهذا القول -الذي يقول: إنها تكون بعد الإحرام بالحج- هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لأن ظاهر القرآن فيه قوي، ودخول العمرة في الحج قصد منه النبي صلى الله عليه وسلم جواز العمرة في أشهر الحج، وهي مسألة خارجة عن موضوعنا. ولذلك يقوى أن يقال: إنه لا يصومها إلا بعد إحرامه بالحج، فإذا أحرم بالحج فيصوم الثلاثة الأيام، ويستحب أن يكون صيامه قبل يوم عرفة، وهذا هو قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و عبد الله بن عمر ، وكانت أم المؤمنين عائشة و عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يريان الصيام عن دم التمتع قبل الحج -كما ذكرنا في مذهب من سمينا من العلماء- وكانا يريان ظاهر القرآن في قوله: (في الحج) فيصومها فيما بين إحرامه بالحج وقبل يوم عرفة، واختارا أن يكون إهلاله -مثلاً- بالحج من اليوم السادس ليصوم السادس والسابع والثامن، فإذا جاء يوم عرفة فتكون ذمته قد برئت، ولا يُدخل يوم عرفة في الصيام، وقال بعض السلف -كما هو قول طاوس و مجاهد و الشعبي و النخعي وجمع من السلف- : (إنه يجوز أن يصوم ويجعل يوم عرفة آخرها) وهذا القول قول مرجوح، ولكن إذا احتاج الإنسان إليه بمعنى: أنه لم يستطع أن يصوم فيما قبل يوم عرفة فإنه يصوم يوم عرفة؛ لأنه صيام واجب عليه. واختلف العلماء: هل الأفضل أن يفطر يوم عرفة ويصومها من أيام التشريق، أو الأفضل أن يصوم يوم عرفة ولا يصوم أيام التشريق؟ والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيام منى أيام أكلٍ وشربٍ وبعال )، قالوا: فهذا يدل على أنه لا ينبغي للحاج أن يصومها، ولذلك قالوا: لا تصام أيام التشريق للحاج، فمن يقول بأفضلية تأخيرها عن يوم عرفة يقول: يجوز أن يؤخر هذا اليوم، والأفضل: ألا يصوم يوم عرفة ويؤخرها إلى أيام التشريق، فيجعل هذا اليوم الثالث من الأيام الواجبة عليه من أيام التشريق؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ثبت عنهم أنهم كانوا يصومون أيام التشريق في دم التمتع، ولذلك قالوا: نفضل له أن يفطر يوم عرفة؛ لأنه الركن الأعظم، وقد قصد من هذا الركن أن يتفرغ للدعاء فيكون أبلغ وأقوى وأجلد له على الدعاء، ثم بعد ذلك يصوم هذا اليوم من أيام التشريق. وقال بعض العلماء بل يصوم يوم عرفة؛ وذلك لأن يوم عرفة له أصل من فعل الصحابة، فكانت أم المؤمنين عائشة تصومه كما جاء في الموطأ، حتى إذا ابيضت الأرض بينها وبين الحاج دعت بفطورها فأفطرت، قالوا: حينئذٍ يصوم يوم عرفة، وكان طاوس بن كيسان -وهو من تلامذة ابن عباس - و سعيد بن جبير وكذلك الحسن البصري و الشعبي و إبراهيم النخعي -وهو قول طائفة من السلف- يرون أنه يصوم هذا اليوم -أعني: يوم عرفة- ويجعله ضمن الأيام. والذي يظهر -والله أعلم-: أنه يصوم السادس والسابع والثامن، ولا يصوم يوم عرفة، وإذا بقي عليه شيء من الثلاثة الأيام يؤخره إلى أيام التشريق؛ فإنه أفضل من صيام يوم عرفة لما ذكره أصحاب هذا القول، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصومون أيام التشريق، وحينئذٍ لما جاءنا عن الصحابة أنهم صاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أيام التشريق يقوى أن يقال: بأنه ينصرف إلى أيام التشريق ويقدمها على يوم عرفة. وقوله: [والأفضل كون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله]. وهذا لما ذكرناه من قول بعض السلف كـ طاوس وغيره، ولكن قلنا: إن هذا مرجوح، والصحيح: مذهب من سمينا أنه لا يصوم يوم عرفة؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و عبد الله بن عمر كانا يقولان: (يصومها فيما بين إحرامه بالحج وقبل يوم عرفة) وعلى هذا إذا شاء فإنه يحرم بالحج ليلة الخامس، فيصوم الخامس والسادس والسابع، وإن شاء يحرم بالحج ليلة السادس فيصوم السادس والسابع والثامن، فهذا أفضل له وأبلغ في إبراء ذمته وانصرافه إلى حجه متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم بفطر يوم عرفة وبفطر أيام التشريق. وقوله: [وسبعة إذا رجع إلى أهله]. ويلزمه صيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، قال بعض العلماء: (العبرة في الرجوع بالشروع) فلو مثلاً: انتهى من الحج، وركب في السفر وهو راجع إلى أهله يجوز أن يصوم؛ لأنه راجع إلى أهله، وقيل: (إذا رجع) أي: إذا وصل إلى أهله، فإذا وصل إلى أهله صام السبعة. حكم المحصر إذا لم يجد هدياً وقوله: [والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة ثم حل]. والمحصر: الممنوع، الحصر: أصله المنع، والمحصر: هو الذي يمنع من البيت كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، أهل بالعمرة فمنع من الوصول إلى البيت، فإذا أحصر بعدو فإنه ينحر هديه ثم يتحلل ولا شيء عليه، أي: ليس عليه قضاء عمرته أو حجة، وهذا على أصح قولي العلماء، فإذا منع بعدو من الوصول إلى البيت لا يقال بأنه ينحر مباشرة وإنما ينظر فيه، يقال: هل لك طريق غير هذا الطريق يمكن أن تصل به إلى البيت؟ قال: نعم. نقول: أنت لست بمحصر، ويلزمك أن تذهب إلى الطريق البديل، ولا يحكم بإحصاره إلا إذا منع بالكلية فليس له إلا طريق واحد أو طريقان، وهذان الطريقان لا يمكن أن يصل معهما إلى البيت. كذلك أيضاً يتفرع عليه أن المحصر الأصل في أنه يتحلل قوله تعالى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196] فجعل للمحصر مخرجاً من إتمام حجه، وهذا يعتبر بمثابة الرخصة جعلها الله عز وجل للعزيمة في قوله سبحانه: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]. فالأصل عندنا في الشرع أن من نوى الحج أو من نوى العمرة وتلبس بالنسك فإنه يجب عليه أن يتم هذا النسك، فإذا منع من الوصول إلى البيت وحيل بينه وبين البيت بأي حائل يمنع من وصوله إلى البيت فإنه حينئذٍ يعدل إلى هديه، وإذا نحر الهدي تحلل ولا شيء عليه، فلا نطالبه بقضاء عمرته ولا نطالبه بقضاء حجه على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم. وقوله: [والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة ثم حل]. قياساً على دم المتعة، وذهب المالكية والحنفية إلى أنه إذا لم يجد الهدي لا شيء عليه، وهذا هو الصحيح؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى جعل الصيام بدلاً في هدي التمتع، ولم يجعله في هدي الإحصار فقال: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196] ولم يذكر البدل، لكن أصحاب القول الأول -كما يختاره المصنف- لهم حجة، قالوا: إن الله عز وجل ذكر حكم الإحصار، فقال: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196]، ثم قال بعدها: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة:196] قالوا: (( فما استيسر من الهدي )) فنص على الهدي مع أن السياق واحد، فذكر الإحصار ثم أتبعه بالتمتع فكأن الحكم واحد، فكأنه ذكره في المتأخر حتى لا يحصل التكرار بعد ذكره في المتقدم، ولذلك قال بعدها: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة:196] ولذلك لا يقع إحصار لمن كان من حاضري المسجد الحرام، ولكن الصحيح أن المقصود بقوله: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة:196] المراد به: من كان متمتعاً دون من كان محصراً؛ لأن قوله: { ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة:196] يدل على أنه قد حج، وأن الآية المراد بها المتمتع، والمحصر لم يحج بعد، فلا يستقيم أن تجعل هذه الآية بدلاً عما تقدم، ولذلك يقوى أن آية وجوب الهدي تختص بالمحصر ولا بدل عن الهدي، فإذا لم يجد الهدي فلا شيء عليه، كأن يكون ليس عنده مال فيذبح الهدي أو لم يجد الهدي حتى يذبحه؛ فإنه حينئذٍ يتحلل ولا شيء عليه على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم. وجوب الفدية على من وطئ في فرج وقوله: [ويجب بوطء في فرج في الحج بدنة]. تقدمت هذه المسألة: أنه إذا جامع في الحج فعليه بدنة، وبينا هذا، وذكرنا قضاء الصحابة رضوان الله عليهم. (بوطء في فرج) في قبل أو دبر من حلال أو حرام، وهذا قضاء من ذكرنا من الصحابة عن عمر و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر و أبي هريرة و عائشة رضي الله عن الجميع. وقوله: [وفي العمرة شاة]. قالوا: لأن الأصل في الإخلال بالوطء أن يجبر بالشاة، ولذلك جعل الله الشاة في دم المتعة؛ لأنها تقع بين الحج والعمرة، فجعل الشاة ضماناً للتمتع الواقع بين الحج والعمرة، فلما جعلت الشاة ضماناً لهذا الإخلال قالوا: إنه إذا وطِئ في عمرته فإنه يجب عليه دم وهو الشاة. وقوله: [وإن طاوعته زوجته لزمها]. يفصل في الزوجة: فإن أكرهت وغلبت فلا شيء عليها، كما هو الحال في كفارة الجماع في نهار رمضان، وأما إذا طاوعته ورضيت وأغرته فإنه يلزمها ما يلزمه. حكم من كرر محظورات من أجناس مختلفة وقوله: [ومن فعل محظوراً من أجناس فدى لكل مرة رفض إحرامه أو لا]. هذا مبني -كما ذكرنا- إذا وقع المحظور بالطيب وغطاء رأسه ولبس المخيط، فنقول: لجنس المخيط فدية، وللمحظور بتغطية الرأس فدية، وللطيب فدية، فالطيب جنس، وتغطية الرأس جنس، ولبس المخيط جنس، فيلزمه ثلاث فديات، ولا تتداخل فدية إذا اختلفت أجناسها، وأما إذا تكررت من جنس واحد كطيب أو لبس مخيط، فتكرر الطيب أكثر من مرة، وتكرر لبس المخيط أكثر من مرة، ففدية واحدة لمكان التداخل. وقوله: [فدى لكل مرة رفض إحرامه أو لا]. إذا نوى الشخص أن يخرج من عمرته أو نوى أن يخرج من حجه فلا تؤثر فيه هذه النية، فبعض العوام مثلاً: إذا جاء في رمضان وهو محرم بالعمرة فرأى الزحام لبس ثيابه ورجع إلى بلده، فلا يزال محرماً، ويكون طيلة هذه الأيام -وهو رافض لإحرامه لابس لثوبه- محرم عليه ما على المحرم سواء بسواء، فمعنى الرفض: أن يقول: لا أريد أن أكمل عمرتي. ويلبس ثيابه، فتقول: هو محرم حتى وإن كرر المحظور مائة مرة، فإن فعل جميع المحظورات فيلزمه أن يفدي عن كل محظور بفديته، فالرفض لا يؤثر، والدليل على أن رفضه لا يؤثر، قوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]، فإذا شرع بعمرة أو بحج فإن الله يخاطبه بالإتمام، فإذا قال: خرجت من عمرتي فخروجه وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأنه لا يخرج من عمرته ولا بحجه إلا بإتمام نسكه أو إذا كان محصراً فبهديه على الصفة الشرعية، وعلى هذا تقول: لو أنه لبس ثيابه فجامع امرأته فسد حجه وفسدت عمرته، فيمضي في فاسد الحج والعمرة، ثم يرجع إلى الإحرام مرة ثانية، ويمضي في فاسد الحج والعمرة، وتطالبه بضمان ما كان منه من إخلال. لو أنه -مثلاً- في يوم من رمضان أحرم بالعمرة فجاء فوجد الزحام فلبس ثوبه وتطيب وغطى رأسه وقتل الصيد، تقول: هو لازال محرماً، ويلزمه جزاء الصيد، ويلزمه فدية لتغطية رأسه ولطيبه وللبس مخيطه. فمعنى رفضه للإحرام: أن يلبس ثيابه ويقول: لا أريد العمرة، أو يلبس ثيابه ويقول: لا أريد أن أتم الحج. فهو محرم بالحج والعمرة حتى يتمهما على الوجه الذي أمر الله عز وجل. حكم ارتكاب أحد محظورات الإحرام نسياناً وقوله: [ويسقط بنسيان فدية لبس وطيب وتغطية رأس]. لأنه يمكن فيه التدارك، فلو أن إنساناً غطى رأسه وهو محرم ناسياً ثم تذكر وأزال الغطاء فلا شيء عليه، ولو تطيب ثم تذكر فغسل مباشرة فلا شيء عليه، ولو لبس ثوباً ثم تذكر فأزاله فلا شيء عليه؛ لأن محظور لبس المخيط وتغطية الرأس والطيب يمكن تدارك الخطأ فيه، ولكن لو قلم أظفاره وقص شعره وجامع امرأته ناسياً فإن الناسي والمتعمد سواء؛ لأن هذا القص للأظفار لا يمكن أن يعيد ظفره، وإذا قص شعره أو حلقه فلا يمكن أن يتدارك الإخلال، فالفرق بين ما يسقط بنسيان وما لا يسقط: أنه إذا كان مما يمكن التدارك فيه سقطت الفدية إذا تدارك، وأما إذا كان مما لا يمكن التدارك فيه لزمته الفدية متعمداً كان أو ناسياً. وقوله: [ويسقط بنسيان الفدية لبس وطيب وتغطية رأس دون وطء]. ذكرنا أن الوطء لا يمكن تداركه، وهكذا لو قلم أظفاره أو قص شعره أو حلقه، فما لا يمكن التدارك فيه يستوي فيه العمد والنسيان ويلزم فيه بالضمان. وقوله: [دون وطء وصيد وتقليم وحلق]. فالصيد إذا قتل لا يمكن أن تعاد الحياة له، وأما إذا غطى رأسه ولبس المخيط وتطيب فإنه يمكنه أن يزيل هذا الترفه، وحينئذٍ فرق بين الناسي في هذه الأشياء التي هي المحظورات التي يمكن التدارك فيها، وبين ما وقع فيه الإخلال فاستوى فيه عمده وخطؤه؛ لأن الله حينما أمر بضمان قتل الصيد قال: { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } [المائدة:95] فخرج مخرج الغالب؛ لأن الصيد في الغالب إنما يقصد؛ لأنه يحتاج إلى تنبه واحتياط، فالغالب أن الإنسان يقتله قاصداً، وإذا خرج النص مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، فيستوي حينئذٍ أن يكون متعمداً أو يكون مخطئاً؛ لأن هذا الصيد حرم الله قتله كما حرم قتل الآدمي، ولذلك إذا قتل الآدمي بالخطأ لزمه أن يعتق الرقبة بدلاً عن هذا الذي قتله، فكما أن الآدمي إذا قتله لزمه أن يضمن حق الله -مع أن الحق لله عز وجل- فلزمه أن يعتق الرقبة، فإذا لم يجد صام شهرين متتابعين مع أنه مخطئ، قال العلماء: هذا أصل من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي. وهناك فرق بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية، فالحكم الوضعي: هو الذي يلتفت فيه إلى الأسباب، فالشرع أوجب على المكلف أن يضمن هذا الصيد الذي قتله في حال إحرامه بغض النظر عن كونه قاصداً أو غير قاصد، كما أنه يضمن خطأه بقتل الآدمي بالخطأ مع أنه غير قاصد، فالقاتل للآدمي بالخطأ غير قاصد لقتله، ومع ذلك ترتب عليه حقان: حق لله عز وجل وحق للآدمي، فحق الآدمي بالدية، وحق الله عز وجل بعتق الرقبة، ثم إذا لم يجد صام شهرين متتابعين، قالوا: كما أنه ضمن هنا حق الله عز وجل من باب الأسباب، كأن الشرع أقامه سبباً وعلامة على الضمان بغض النظر عن القصد، فحينئذٍ يستوي أن يكون متعمداً لقتل الصيد أو غير متعمد له. هذا وجه من قال من العلماء -رحمة الله عليهم- وهو مذهب الجمهور: أن قتل الصيد يستوي فيه المتعمد والناسي من باب الأحكام الوضعية، وباب الأحكام الوضعية لا يرد عليه أن يقال: إن الناسي غير مؤاخذ؛ لأن الله تعالى يقول: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا } [البقرة:286] فنحن نقول في قتل الصيد خطأ لا إثم عليه؛ لأن الله لا يؤاخذ الناسي، لكنه يضمن هذا الحق؟ كما لو نسي ففوت حق الله عز وجل بقصه لأظفاره وحلقه لشعره، فإنه حينئذٍ يلزمه أن يفتدي؛ لأنه مما لا يمكن التدارك فيه. يقول بعض العلماء مما يقوي هذا المسلك، وهو ضمان حق الله عز وجل مع وجود العذر: أنك إذا تأملت حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه فإن كعب بن عجرة كان مريضاً ومحتاجاً إلى حلق شعر رأسه، ومع ذلك أُلزم بالفدية أداء الحق لله عز وجل، فأصبح كأن مسلك الشرع أن الإخلالات التي يفوت بها من قص الأظفار أو حلق الشعر أو قصه أو نتفه كأنه في هذه الحالة مطالب بضمان حق الله، بغض النظر عن كونه معذوراً أو غير معذور، فلما نص على وجوب الفدية للمعذور المريض مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ كعب : ( ما كنت أظن أن يبلغ بك الجهد ما أرى ) فلو سقط حق الله في هذا لسقط في المريض؛ لأن المريض يفعل هذا المحظور بدون اختياره، وكأنه مكره عليه، ومع ذلك ألزمه الشرع بالضمان، قالوا: في هذا دليل على أن الحق يضمن لله عز وجل التفاتاً إلى الأسباب، والأسباب لا يلتفت فيها إلى القصد من باب الحكم الوضعي. الآن الرجل لو قال لامرأته وهو يمزح معها: أنت طالق. فإنها تطلق عليه: ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق ) مع أنه لم يقصد الطلاق، قالوا: من باب الحكم الوضعي، كأن الشرع جعل التلفظ بالطلاق موجباً للطلاق بغض النظر عن كونه قاصداً أو غير قاصد. وهذا المسلك يختاره الإمام الشاطبي -رحمه الله- ويقرره في كتابه النفيس "الموافقات" في باب المقاصد، تكلم على هذه المسألة، وهو: أن الشرع قد يلزم المكلف بإلزامات من باب الأحكام الوضعية. ولذلك لما ورد الاعتراض في كتاب المقاصد على قاعدة (الأمور بمقاصدها) قيل لهم: إن الهازل إذا طلق غير قاصد، وأنتم تقولون: الأمور بمقاصدها. فيقال له: هذا من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، فقوله تعالى: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة:286] هذا في التكليفات من جهة كونه يأثم أو لا يأثم، نقول: إذا أخطأ لا يأثم؛ لأن الله عز وجل أسقط عن المخطئ الإثم: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } [الأحزاب:5] هذا الحكم التكليفي، لكن الحكم الوضعي: أنه إذا أخل بشيء من حق الله عز وجل لزمه ضمانه. فالمجنون مرفوع عنه القلم تكليفاً، لكن لو أتلف مال الغير ألزمناه في ماله بالضمان، ونلزم وليه بالضمان من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي، فهذا باب الضمانات، فلما كانت الفدية في باب الضمانات قالوا: لا يلتفت فيها إلى قاصد ولا غيره، فلو أنه قصر شعره أو حلقه أو نتفه فإنه قد أخل، والشرع ألزمه أن يبقي حالته وهيئته على ما هي عليه، فإذا أخل بهذا الشرعي فإننا نسقط عنه الإثم بالنسيان، ولكننا نطالبه في حق الله بالضمان، ولذلك نقول: حقوق الله تضمن، وكونها لله لا يقتضي إلغاؤها أو التساهل فيها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( فدين الله أحق أن يقضى ) فجعل دين الله أحق من دين الآدمي، إلا أن حقوق الله في أبواب دلت النصوص على أنها أخف والمسامحة فيها أوسع، وهذا شأن الفقيه أن ينظر إلى ما وسع الشرع فيه فيوسع، وإلى ما ضيق الشرع فيه فيضيق فيه. تخصيص مساكين الحرم بالهدي والإطعام والفدية ونحوها [وكل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم]. يلزمه في هدي التمتع، وإذا كان الهدي على الإنسان لازماً أن يكون لمساكين الحرم؛ لأن الله سبحانه وتعالى شرف أهل مكة وسكان الحرم بأن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، وجعله حرماً تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من الله عز وجل، فخص به أهل الحرم؛ ولذلك قال: { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [المائدة:95] وجعل في شرع الله عز وجل مما يتقرب إليه، وهذه سنة أضاعها الناس إلا من رحم الله، وهي: سنة الإهداء للبيت، أن يهدي الإنسان إلى البيت الإبل أو البقر أو الغنم، فكان الناس إلى عهد قريب يهدون إلى البيت، فالإهداء إلى البيت أن تنحر بمكة وتكون طعمة للمساكين، وهذه هي التي عظم الله أمرها: { لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ } [المائدة:2] فجعلها مما لها حرمة، وهذا كله تشريف من الله عز وجل لأهل الحرم، فالمساكين -مساكين الحرم وفقراء الحرم- أحق بهذا الهدي، ولا يصرف إلى غيرهم إلا بعد سد حاجتهم، حتى على القول بجواز أن يطعم بها في الآفاق فإنه لا يجوز إخراجها من الحرم إلا بعد أن تُسد حاجة فقراء الحرم؛ وذلك لأن الله عز وجل أطعمهم بهذه الطعمة من فوق سبع سماوات فهم أحق وأولى، وإلا ما فائدة أن يبعث بالهدي إلى مكة، وقد كانوا في القديم يذبحونه بمكة ويكون فيه سد لعوز الفقراء والضعفاء والمساكين بالحرم، ولا يعقل أن يترك الفقراء والضعفاء بالحرم ويصرف لغيرهم، ولذلك ينبغي أن يكون طعمة للمساكين والفقراء وهم أولى بها؛ لأن الله عز وجل خصهم بهذا. فيكون في حدود الحرم، وقال بعض العلماء: يجوز أن يخرج عن حدود الحرم كأن يأخذ -مثلاً- كتف الشاة ويشرقها ناوياً أن يعطيها لمسكين من جيرانه، قالوا: لا حرج أن يشرقها ويعطيها لمسكين من جيرانه، أو أناس ضعفاء يعرفهم خارج حدود الحرم، قالوا: لا حرج عليه في ذلك. وقوله: [وكل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم وفدية الأذى واللبس ونحوهما]. قد ذكرنا هذه المسألة: الإطعام الذي يكون في مكة كإطعام الفدية يكون بمكة وغيرها، وأما بالنسبة لجزاء الصيد فإن عِدله -وهو الإطعام- للعلماء فيه وجهان: منهم من خصه بالحرم وهو أوجَه؛ لأنه بدل عن المثلي الذي يكون هدياً بالغ الكعبة، فيكون البدل آخذاً حكم مبدله، فلابد وأن يكون لفقراء الحرم كما ذكرنا. دم الإحصار حيث وجد سببه وقوله: [ودم الإحصار حيث وجد سببه]. إن أحصر قبل مكة بأيام فيذبح في الموضع الذي أحصر فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحديبية، وتحلل صلوات الله وسلامه عليه وتحلل أصحابه، ولم يبعث به إلى الحرم، وهذا خلاف ما قاله بعض العلماء من أنه يلزمه أن يبعث به إلى الحرم. وقوله: [ويجزئ الصوم بكل مكان]. ويجزئه أن يصوم في أي مكان ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أطلق، وما أطلقه الشرع يبقى على إطلاقه، فيقال في الصوم: إنه يجوز أن يكون في مكة وفي غيرها؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعله مختصاً بمكة دون غيرها . مقدار الدم الذي يجب في الفدية وقوله: [والدم: شاة أو سبع بدنة، وتجزئ عنها بقرة]. (والدم) أي: ما وجب على المكلف فهو شاة، وهذه الشاة يشترط فيها أن تكون قد بلغت السن المعتبر للأضحية، فلا يجزي أقل من الثني، ويجزئ الجذع من الضأن وهو ما له أكثر الحول كستة أشهر فما فوق، وأما بالنسبة للإبل فإن سبع البدنة يجزئ عما تجزئ عنه الشاة، سواء كان الدم واجباً في تمتع، أو كان بسبب إحلال لواجب، وهو الذي يسميه العلماء رحمهم الله: بدم الجبران، كشخص أحرم دون الميقات فإذا قال العلماء رحمهم الله عليه: (دم) فالدم شاة. فقول المصنف رحمه الله: (والدم شاة) أي: اعلم رحمك الله أنك لو سمعت العلماء يقولون: عليه دم، أو الواجب دم، فمرادهم بذلك الشاة التي بلغت السن المعتبر وسلمت من العيوب. وقوله: (سبع بدنة) فالبدنة تجزئ عن سبع شياه، وقد ذكرنا حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حجة الوداع، وأن البدنة كانت تجزئ عن سبعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جماهير أهل العلم رحمهم الله: أن السبعة لو اشتركوا في بدنة فإنها تجزي عن الدماء الواجبة عليهم، فلو كان على كل واحد منهم إخلال؛ كأن يكون الجميع قد تركوا الإحرام من الميقات وأحرموا من دون الميقات ووجب عليهم الدم فاشتركوا في بدنة واحدة أجزأت عنهم جميعاً، فكل سبع يجزئ عن واحد، وهكذا الحال لو اشتركوا في أضحية فجمعوا أموالهم واشتروا بها بدنة فإنها تجزئ عن السبعة، وهكذا البقرة فإنها تجزئ عما تجزئ عنه البدنة. وعلى ذلك وردت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ضحى عن نسائه بالبقر، وجمهور العلماء رحمهم الله: على أن البقرة تنزل منزلة البدنة، وعليه: فإنه يجوز الاشتراك في البقر كما يجوز الاشتراك في الإبل، وأما الشاة فإنها لا تجزئ إلا عن واحد، إلا في الأضحية فإن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته كما في الخبر الصحيح: (إن كانت الشاة لتجزئ عن الرجل وأهل بيته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (224) صـــــ(1) إلى صــ(18) شرح زاد المستقنع - باب جزاء الصيد من قتل صيداً وهو محرمٌ وجب عليه مثله من النعم، يحكم به اثنان ذوا عدلٍ، وهناك أقضية في جزاء الصيد قضى بها الصحابة رضوان الله عليهم، واختلف العلماء في كون بعضها ماضية إلى قيام الساعة أم أنها خاصة بذلك الزمان. قضاء الصحابة في جزاء الصيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب جزاء الصيد]. أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالتحكيم في قتل الصيد، وقد ذكرنا أن الصيد حرام على المحرم، وأنه يجب عليه الجزاء إذا قتل الصيد، وبينا طريقة هذا الجزاء، وذكرنا ما بينه العلماء رحمهم الله من المسائل المتعلقة بجزاء الصيد من حيث الجملة، وهنا سيذكر المصنف رحمه الله جملة من المسائل التي تتعلق بالأحكام المنصوص عليها إما مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو موقوفة على الصحابة، وتوضيح ذلك: أن جزاء الصيد يفتقر إلى حكم عدلين كما ذكرنا، فلو أن المحرم قتل غزالاً أو قتل ظبياً أو قتل حمار وحش أو قتل بقرة وحش فيجب عليه أن يحتكم إلى عدلين ينظران في الشيء الذي قتله المحرم وعدله من بهيمة الأنعام، فمثلاً: إن كان الذي قتله نعامة فعدلها بدنة، وإن كان الذي قتله حمار وحش فعدله بقرة، وإن كان الذي قتله تيس جبل فعدله الشاة، لكن هذا العدل يفتقر إلى حكمين عدلين ينظران في الشيء الذي قتله والشيء الذي يماثله ويشابهه، فلما كان الحكم الشرعي المجمع عليه في الأصل ينص على هذا فإنه من المعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم وقعت لهم حوادث في قتل الصيد من المحرم فاحتكموا إلى غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك أقضية عن عمر و عثمان و علي و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر و عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و عبد الرحمن بن عوف وهذه الأقضية وردت عن الصحابة، وقول الصحابي حجة عند طائفة من العلماء، فكأنهم رأوا أن ما قضى فيه الصحابة وما ورد فيه الخبر والأثر عنهم أنهم حكموا فيه فإن ذلك الحكم باق إلى قيام الساعة فلا يتغير، وهذه مسألة لها نظائر، فالمسائل: التي ورد فيها الحكم من الصحابة أو من النبي صلى الله عليه وسلم في الأقضية التي في أصلها تقبل الاجتهاد هل يبقى حكمها إلى قيام الساعة أم يتجدد؟ فمذهب طائفة من العلماء: أن ما قضى فيه الصحابة لا يتجدد، ولا يحتاج إلى عدلين، فمن قتل حمامة فإن الصحابة قضوا فيها شاة، فنقول له: عليك شاة، ولا نبحث عن مسألة الحكمين العدلين، كأنهم رأوا أن حكم الصحابة بعدل الشاة يعتبر حكماً باقياً إلى قيام الساعة، وهذا بالنسبة لقضاء الصحابة رضوان الله عليهم. أما بالنسبة للذي لم يقض فيه الصحابة، أي: الذي لم يرد عن الصحابة رضوان الله عليهم فيه حكم، فهذا يرجع إلى العدلين إعمالاً للأصل. وهناك أمثلة كما ذكرنا منها: الحِمى، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه حمى ما يسمى اليوم بالعطن في المدينة وهو بجوار مسجد السبق، هذا الموضع حماه، وحمى وادي الفرع، وحمى كذلك صلوات الله وسلامه عليه بالربذة، فهل هذا الحِمى يبقى إلى قيام الساعة حمىً، أم أنه حماه لأنه كان محتاجاً إليه في ذلك الزمان؟ فمن أهل العلم من يقول: تبقى مسبّلة إلى قيام الساعة حِمىً. ومنهم من يقول: إنها تتغير بتغير الأزمنة والعصور. فإذا كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها فإنه يتغير الحكم بالنسبة لما جدّ وطرأ من العصور بعدها. هذا بالنسبة لمسألة قضاء الصحابة في صيد المحرم: هل يبقى إلى قيام الساعة، أم أنه قضاء اجتهادي يمكن أن يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص؟ والذي عليه جمهور العلماء: أنهم كانوا يعتدون بقضاء الصحابة، ويرون أن الصحابة رضوان الله عليهم حجة في هذا القضاء؛ والسبب في هذا واضح فإن الصحابي حينما نظر إلى بقر الوحش ونزله منزلة البقرة وقضى فيه بالبقرة، فلا شك أنه أعلم وأعرف بالنص الوارد وبدلالته، فكونه يأتي إلى هذا الشيء وينزله منزلة نظيره من بهيمة الأنعام فإن حكمه واضح في إصابة الحق وقربه من الصواب، ولذلك يقوى القول بأن ما قضت به الصحابة يرجح أن يترك إلى قيام الساعة حكماً باقياً. وعلى هذا: فإن المصنف رحمه الله قرر لك الأصل في جزاء الصيد أنك تحتكم إلى عدلين، وأنهما يحكمان بالمثل إن وجد المثل ثم ينتقل إلى قيمته وعدله من الطعام بتلك القيمة ثم ينتقل إلى عدله من الصيام كما تقدم معنا شرحه في المجلس الماضي، بعد أن بيّن لك هذه القاعدة شرع الآن في بيان ما ورد فيه الأثر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قضائهم به. قضاؤهم في النعامة وحمار الوحش وبقرته وقوله: [في النعامة بدنة]. يقول رحمه الله: (في النعامة بدنة) أي: يجب على المحرم إذا قتل صيد النعامة بدنة؛ وذلك لأنه قضاء عمر و عثمان و علي و زيد بن ثابت و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر قضوا: بأن النعامة إذا قتلها المحرم أنه يجب عليه أن ينظر إلى عدلها وهو البدنة، وعلى هذا يبقى القضاء إلى قيام الساعة كما ذكرنا. وقوله: [وحمار الوحش وبقرته]. (وحمار الوحش) وهو المعروف الذي له خطوط، بخلاف الحمار الأهلي سواء كان أبيض أو أسود فإنه لا يعتبر حلالاً ولا يعتبر صيداً، فلو أنه دهس حماراً من الحمر الأهلية فلا يعتبر صيداً، وهذا إن كان ملكاًَ لأحد وجبت قيمته، وإذا لم يكن ملكاً لأحد فإن دمه هدر لا يجب ضمانه؛ لكن لو أنه صار حمار وحش -وهو الحمار الذي يكون فيه الخطوط في الغالب- فعدله بقرة، وهذا قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وبهذا القضاء قال مجاهد بن جبر تلميذ عبد الله بن عباس ، وقال به عروة بن الزبير من التابعين رحمهم الله، وقال به من الفقهاء الشافعية، وهو مذهب الحنابلة والشافعية: أن حمار الوحش إذا قتله المحرم يجب عليه ضمانه بالبقرة، فعدل حمار الوحش إذا نظرت من حيث الهيئة والجلد تعادله البقرة، فهو لا يرتقي إلى البدنة؛ لضعف حجمه عن ذلك، وكذلك أيضاً لا ينزل إلى الشاة، وإنما هو وسط بينهما، فكان عدله الوسط من بهيمة الأنعام، فتجب عليه بقرة مثلية لهذا الصيد إن قتله. وقوله: [وحمار الوحش وبقرته]. بقرة الوحش كذلك أيضاً يكون جزاؤها البقرة، فيجب فيها بقرة، وهو قضاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وبهذا القضاء قال عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه ورحم الله عطاء ؛ وهو فقيه مكة المشهور الذي كان يقال: لا يفتي الناس في الحج إلا عطاء . وحسبك به علماً وفضلاً رحمه الله برحمته الواسعة، وقال بهذا القضاء عروة بن الزبير قال: إن بقر الوحش فيه بقرة فيكون عدلها أو مثلها البقرة. وكذلك عمل به فقهاء الشافعية، فمذهب الحنفية والشافعية على أن بقرة الوحش عدلها البقرة من بهيمة الأنعام. قضاؤهم في الأيّل والثيتل والوعل وقوله: [والأيّل]. (والأيّل) وهو نوع من الوعل. وقوله: [والأيّل والثيتل والوعل بقرة]. قيل: بالنسبة للوعل هو تيس الجبل، فيقال: يسمى بالأيّل، وقيل: إن الأيّل نوع من بقر الوحش، والوعل هو مما أحل الله من صيد البر، وله قرنان معكوفان، والوعول معروفة، فهذا الوعل عدله بقرة، وبهذا قضى الصحابة: عبد الله بن عباس وقضى به أيضاً عبد الله بن عمر ، ولذلك جعل في أنثى الوعول البقرة. وأما قوله: (الثيتل) فهو الوعل المسنّ، نوع خاص من الوعول، والسبب في ذكره للثيتل بعد ذكره للأيّل ومع ذكره للوعل أن الثيتل يكبر حجمه، وقد يكون مسناً من الحطمة، ولذلك قالوا: فيه بقرة، وكأنه يقول: الوعول ما كان منها شديداً قوياً فإن فيه البقرة، وما كان منها في آخر سنه وقد طعن في السن ففيه البقرة، وما كان من إناثه فإن فيه البقرة كما هو قضاء عبد الله بن عمر . قضاؤهم في الضبع وقوله: [والضبع كبش]. من العلماء من يقول: الضبح نوع واحد، وهو أشبه ما يكون بالذئب، وإن كان يختلف في الوجه، فوجه الذئب أقرب إلى أن يكون مثلثاً من وجهه المستطيل، وهو يعدو على القبور وينبشها، وكذلك أيضاً يأكل الجيف والنتن، حتى ربما عدى على الحمار ونحوه، فهو من السباع العادية، وبعض العلماء يقول: هو نوعان: نوع منه عاد، ونوع منه أكثر ما يكون اغتذاؤه بالنباتات، وهو الموجود بالحجاز، ويقولون: هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( الضبع صيد وفيه كبش )، وهذا الحديث رواه أبو داود و ابن ماجة بسند صحيح. واختلف العلماء رحمة الله عليهم في قوله: ( الضبع صيد ): فقال بعض العلماء: لا يحل أكله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له حكم الصيد، يعني: في الأصل ليس بصيد ولكن نُزّل منزلة الصيد. ومنهم من قال: يحل أكل لحمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الضبع صيد )، وهذا أقوى من جهة لفظ الحديث لما قال: ( الضبع صيد ) وأوجب فيه جزاء الصيد فدلّ على أنه يجوز أكل لحمه. ومن ناحية القياس كما يقول العلماء: من جهة النظر لا يقوى حلّه، ولذلك هو من السباع العادية، وإذا خلى بالإنسان فتك به وأهلكه، والأشبه من ناحية الأصول عدم حلّ أكل لحمه، وكأن الذين يقولون بتحريم أكل لحمه يقولون: إنه من السباع العادية، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام عندهم: ( الضبع صيد ) يخرجونه على أنه مع كونه من السباع العادية أخذ حكم الصيد باستثناء من السنة، لا أنه صيد يؤكل، أي: أنه صيد يجب ضمانه، وقالوا: كونه ينص على الضبع ويوجب الفدية فيه على هذا الوجه يدل على أنه ليس بمأكول في الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على جزاء الصيد في غير الضبع، وإنما نص في جزاء الصيد في الضبع، وكأنه في هذه الحالة ينبه على أنه وإن كان الأصل عدم حل أكله لكن يجب الضمان فيه إن قتل. ولكن من المذهب الأول قلنا: إن له وجهاً من السنة. وعلى هذا لو قتله ففيه كبش، والكبش يكون من الضأن، فإن كان الضبع كبيراً ففيه كبش كبير، وإن كان وسطاً فوسط، وإن كان صغيراً فصغير، على حسب حالة الضبع، وهذا وجه التمثيل: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ )[المائدة:95] ، فينظر الحكمان في الشيء المقتول من الضباع، أو من الضبع المقتول من ناحية جِرمِه وحجمه ويوجبون فيه مثلياً في الحجم، مع كونه كبشاً لكن ينظرون إلى مثليته في الحجم، فإن كان الضبع كبير الحجم أوجبوا فيه كبشاً كبير الحجم والعكس بالعكس. قضاؤهم في الغزال والضب والوبر واليربوع وقوله: [والغزال عنز]. وفي الغزال عنز؛ قالوا: لأنه أجرد لا شعر له وهو أشبه بالماعز، ولذلك هو مقطوع الذنب بخلاف الضبع ولذلك قالوا: ينزل الغزال منزلة الماعز فيجب فيه ما ذكر، وقضى به بعض الصحابة رضوان الله عليهم. وقوله: [والوبر والضب جدي]. والوبر وهو ضرب من بنات عرس، وكذلك أيضاً الضب فيه جدي، والجدي له ستة أشهر قالوا: يقضى فيه بالجدي، والضب معروف ولكنهم شبهوه ونزلوه منزله الجدي قضاء لبعض الصحابة رضوان الله عليهم وقالوا: إنه يأخذ حكمه فيجب فيه الجدي، وإلا فالأصل من ناحية الحجم والجلد لا يستطيع أن يصل إلى درجة الجدي إلا إذا كان كبيراً، ولذلك بعض العلماء يقولون: ينظر في الضب نفسه، فلا يكون الجدي فيه محدداً مؤقتاً، فإن كان ضباً كبيراً فإنه حينئذٍ يصل للجدي وإن كان دون ذلك فإنه لا يقوى أن يأخذ حكم الجدي. قضاؤهم في الأرنب اليربوع والحمامة وقوله: [واليربوع جفرة]. (واليربوع) ويقال له: الجربوع، وهي الجرابيع المعروفة، فيبدلون الياء جيماً وهي لغة معروفة في العرب، يقولون للرجل: ريل بإبدال الجيم ياءً، ومنه قوله الشاعر: إذا لم يكن منكن ظل ولا جني فأبعدكن الله من شيراتي أي: أبعدكن الله من شجراتي، فالعرب تبدل الجيم ياء، ويقولون: (ريّال) يعني: (رجال) ونحو ذلك، ويبدلون الياء جيماً، ومنه قوله: إن كنت قد قبلت حجتج لا زال بابل يأتيك بج وأصلها: إن كنت قد قبلت حجتي لا زال بابل يأتيك بي تقول: بج يعني: بي، هذا من إبدال الجيم ياء وإبدال الياء جيماً. يقال: يربوع وجربوع، هذا معروف عند العامة أنهم يقولون: جربوع، لكن يقال له: اليربوع. وفي اليربوع جفرة ويكون لها أربعة أشهر وهي من صغار الماعز. وقوله: [والأرنب عناق]. قيل: إنها تقارب الستة الأشهر، وقيل: يسمى بها صغار الماعز منذ أن يولد إلى أن يبلغ الستة الأشهر، وهذا هو مراد المصنف، أنه ما كان دون الأربعة الأشهر، أي: دون ثلث السنة، هذا بالنسبة للعناق، وهي التي ورد فيها حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم في قصته مع أبي بردة رضي الله عنه وأرضاه: ( حينما ذبح شاة قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد النحر فقال: ليس عندي إلا عناق، قال: تجزيك ولا تجزي غيرك ) . وقوله: [والحمامة شاة]. وفي الحمامة شاة، قضى به جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وشبهوا الحمامة بالشاة، وهذا القضاء كما قلنا يعتبرونه قضاء باقياً إلى قيام الساعة، فإذا قتل حمامة فإنه يجب عليه أن يضمنها بالشاة لوجه الشبهية. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (225) صـــــ(1) إلى صــ(18) الأسئلة حكم الاستغناء بقضاء الصحابة دون البحث عن عدلين السؤال بعد أن تقرر معنا العمل بأقضية الصحابة رضوان الله عليهم في جزاء الصيد، فهل من قتل نعامة -مثلاً- يخرج بدنة مباشرة، أم يأتي بعدلين ثم يخرجها؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: في الحقيقة هذا سؤال جيد! وفق السائل فيه، وأما الجواب: فأقول: نعم، يحتاج إلى وجود العدلين من ناحية تقدير جرم النعامة، فإن النعامة قد يكون جرمها عظيماً، فيطالبون ببدنة عظيمة الجرم، وقد يكون جرمها وسطاً فيطالبون ببدنة من أوساط البدن، وقد تكون دون ذلك فيطالبون بأصغر؛ لأنه لابد من المماثلة، وهذا لا شك أنه سؤال دقيق جداً؛ لأن ظاهر كلام العلماء أن قضاء الصحابة معمول به ويقتضي ألا يبحث عن العدلين، والواقع أنه يبحث عن العدلين من ناحية نوعية المثلية: هل هي من الخيار، أم من الأدنى، أم من الوسط؟ فأنت إذا قلت: عليك بدنة، هل تكون من خيار البدن، أو تكون من أوسطه، أو تكون من أدناه؟ فهذا يفتقر إلى وجود العدلين، ولذلك لابد من وجود العدلين لتحديد البدنة المطلوبة، ويعتبر قضاء الصحابة سارياً من وجه، وحكم الآية نافذاً من الوجه الآخر. والله تعالى أعلم. حكم الفدية بالزيادة على الواجب السؤال هل يجوز أن يفدي في الصيد بأعلى من مثله كأن يفدي عن الغزالة بدنة، أو عن الضب كبشاً؟ الجواب أما هذه المسألة فقد ختلف العلماء رحمة الله عليهم في الزيادة على القدر الواجب، وإذا قلنا بمشروعيتها: هل يوصف الكل بالوجوب، أو قدر الواجب؟ وقد أشار إلى هذه القاعدة الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه النفيس: القواعد الفقهية، ذكر لهذه المسألة فروعاً، فإذا أدى فوق الواجب هل يوصف الكل بالوجوب، أو قدر الواجب؟ لهذه المسألة أمثلة، قال: لو أخرج بدنة عن شاة، فهل كل البدنة يوصف بالوجوب، أو فقط سبع البدنة؟ وإذا أخرج عن زكاة الفطر مثلاً ثلاثة آصع، فهل الثلاثة كلها توصف بالوجوب، أو الصاع فقط؟ وهكذا، هنا فائدة الخلاف: أنك إذا قلت: الكل يوصف بالوجوب، فحينئذٍ إذا أخرج بدل الشاة بدنة فيصبح تقدير الصيام بقيمة البدنة كلها، أي: الآن إذا جاء يخرج البدنة عن شاة واجبة عليه، فقيمة البدنة فرضنا ألف ريال، لكن قيمة الشاة فرضنا ثلاثمائة ريال، فهو أخرج بدنة بألف ريال، فإذا قلت: يوصف الكل بالوجوب، حينئذٍ يكون العدل من الطعام بقيمة البدنة كاملة، ويكون عليه في الصيام إذا أراد أن يخرج العدل، قال: أنا أرضى أن تحكموا عليَّ ببدنة عدلاً، فحينئذٍ يكون تقدير الحكمين برضاه أن يخرج عدلها مما هو فوقها، فيكون التقدير بما هو معتبر للواجب كله، يعني: البدنة بكاملها، وصحح جمع من العلماء: أن الواجب فقط قدر الإجزاء. ولها أمثلة أيضاً، منها: لو قلنا: إن المفترض لا يأتم بالمتنفل، كما هو قول بعض العلماء، فلو جاء في الركوع وسبّح الإمام فوق ثلاث فإن الواجب الثلاث وما فوق الثلاث نافلة، فإن قلت: الكل يوصف بالوجوب، حينئذٍ اقتدى مفترض بمفترض، وإن قلت: يوصف قدر الإجزاء فيكون اقتدى مفترض بمتنفل، وحينئذٍ يقولون: يسري عليه ما يسري على اقتداء المفترض بالمتنفل. الشاهد: أن هذه المسألة للعلماء فيها وجهان مشهوران، لكن بعض العلماء يقول: إذا حدد الشرع قدراً واجباً يجوز إخراج الزيادة، لكن ليس من باب اعتقاد الفضل أو التعبد، وإنما يكون منه تنفلاً، أما لو اعتقد وقال: لا، أنا ما تبرأ ذمتي إلا بالبدنة بدل الشاة، فحينئذٍ لا يجوز له ذلك، ويعتبر من البدعة والحدث؛ لأنه اعتقد وجوب ما لم يوجبه الشرع، واعتقد لزوم ما لم يلزم به الشرع، وحينئذٍ يكون بدعة وحدثاً. أما لو أنه أخرج الزائد على الواجب لجاز له ذلك، فكما كما لو تنفل بمطلق النافلة. والله تعالى أعلم. الحكم في قتل الصيد خطأ السؤال وردت أسئلة كثيرة عن الحكم فيما لو ارتطمت بعض الحيوانات أو الطيور بالسيارة، سواء كان السائق محرماً أو كان بمكة؟ الجواب هذه المسألة ترجع إلى قضية قتل الخطأ؛ لأنه لو كان في سفر وهو محرم بالعمرة أو محرم بالحج فارتطمت الطيور أو ارتطم الحمام أو نحوها بالسيارة فقتلت فعند ذلك يجب فيها جزاء الصيد، على القول بأن الخطأ والعمد سواء، وقد بيّنا هذا وذكرنا دليله في المجلس الماضي، وحينئذٍ يكون فيه ما يكون في جزاء الصيد العمد على أصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور. والله تعالى أعلم. مفهوم القياس عند السلف الصالح السؤال هل مفهوم القياس عند السلف رحمهم الله هو مفهوم الموافقة وعدم الفارق، أو هو بالعلة المستنبطة؟ الجواب القياس يعتبر بالعلة المستنبطة، أما مفهوم الموافقة والمخالفة فهذا له حكمه المستقل، ويسمى مفهوم الموافقة: دلالة اللفظ على ما وافقه، ويدعونها دلالة المطابقة، وهذه لها حكم خاص، أما القياس فلا يكون إلا بالعلة، وللعلة مسلك يفتقر إلى السبر والتقسيم، فتسبر الأوصاف التي يمكن أن تكون صالحة لتعليل الحكم، ثم بعد ذلك تبقي الصالح منها وتلغي غير الصالح. وقد تكلم العلماء في ذلك ومن أنفس مباحث علم الأصول وأدقها والذي يعين على فهم النصوص وفهم خلافات العلماء في الأدلة وردوده ومناقشاته مبحث التعليل، وهو من أدق المباحث وأصعبها وأعقدها، وقد ألف فيه بعض العلماء تأليفاً مستقلاً، حتى كتب فيه الغزالي كتابه المشهور: شفاء الغليل، بيّن فيه أوجه ومسالك التعليل من النصوص الواردة في التنزيل، كيف تستنبط العلة، وكيف تستخرجها، وما هي الأوصاف المعتبرة للتعليل، فهذا مبحث مهم جداً من مباحث القياس، ولا يمكن للإنسان أن يقيس حتى يعرف كيفية استنباط العلة، والعلة المعتبرة والعلة غير المعتبرة، هذا أمر لابد منه، فمسألة القياس شيء ومسألة المفاهيم شيء آخر. والمفهوم إما أن يكون مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة، على ما هو معروف في المفاهيم، وأما بالنسبة للقياس فإنه يفتقر للتعليل، فلابد من العلة، وتكون العلة منصوصاً عليها وتكون مستنبطة، فأقوى العلل ما كان منصوصاً عليها. قال عليه الصلاة والسلام: ( أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذاً ) ، فلما قال: ( أينقص الرطب إذا يبس؟ ) دل على أن سبب التحريم هو عدم وجود المماثلة التي هي معتبرة لبيع الرطب بالتمر، فما دام الرطب والتمر من أصل الأصناف الربوية فلابد فيه من التماثل والتقارب اللذان هما الشرطان المعتبران، فلما قال: ( أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذاً ) ، أي: لا يجوز بيع الرطب بالتمر التي هي المزابنة، ورخص في العرايا صلوات الله وسلامه عليه، لكن الأصل عدم جوازها، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أينقص) ثم قال: (فلا) نبه وأشار إلى العلة. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : ( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) إن قوله: ( فإن أحدكم ) بمثابة التعليل، ولذلك من يرى أن العلة هي خوف النجاسة، قال: لو أنه حفظ يده ونام لم يجب عليه غسلها؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، وهذه علة مستنبطة من النص. كذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: ( اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه بثوبين، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ) فلما قال: ( فإنه يبعث ملبياً )، كأنه يقول: أمرتكم بهذا الأمر لعلة وهي كونه يبعث يوم القيامة ملبياً، ففهم منه: أن المحرم لا يمس بطيب، وأن المحرم يجوز له أن يغتسل إلى غير ذلك من الأحكام التي استنبطت بناء على هذا التعليل. والمقصود: أن طالب العلم إذا أراد أن يرى مسألة القياس أو طريقة القياس فلا بد له من أن يضبط العلة. وللعلة ضوابط، ثم أيضاً العلة هذه لها مناقشات، فليست كل علة مسلمة، وهناك للعلماء رحمة الله عليهم ضوابط وأقيسة وهي الأركان المعروفة، ثم إن لهذه الأركان شروطاً، فهناك شروط للأصل، وشروط للفرع، وشروط للعلة. فلابد أن يعلم طالب العلم هذه الشروط حتى يكون قياسه صحيحاً، وأي قياس يقع فإنه يرد عليه أربعة عشر استفساراً، يسميها العلماء: قوادح القياس، وهذه الأربعة عشر استفساراً كل استفسار يوجه على جزئية معينة في القياس، فإذا صحت وثبتت وسلّم بها المناظر بطل قياسه، وهذه يسمونها قوادح القياس، فليس كل إنسان يقيس تأتي وتعترض عليه وتقول: هذا قياس غير صحيح، لا. هناك قياس من مسلك معين؛ لأنه دليل شرعي ومنضبط بضوابط، فلا يظن البعض أننا لما نقول: قياس. أن هذا فقط مجرد رأي وهوى، لا. بل هو أمر منضبط ومحدود بضوابط معينة؛ لأن هؤلاء العلماء وضعوا هذه الضوابط وهي ثمرة جهود قرون عديدة وأئمة على أزمنة مديدة وهم يدرسون هذا الأمر ويتفقهون في الشرع ويفهمون متى يصح هذا النوع من الأدلة ومتى لا يصح. والله تعالى أعلم. نوع الإطعام في كفارة اليمين السؤال هل الإطعام الوارد في كفارة اليمين هو محدد بأنواع معينة من الطعام، خصوصاً وأن الآية قد عممت ذلك في قوله تعالى: { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [المائدة:89]؟ الجواب لقد نص العلماء رحمة الله عليهم على أن هذا الإطعام يصرف إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأطعمة الواجبة، فلو أطعم تمراً أو شعيراً، وكان التمر أوسط ما يطعم به أهله، أو أطعم الشعير وكان الشعير أوسط ما يطعم به، أو أطعم البر وكان البر أوسط ما يطعم أهله أجزأه، وحينئذٍ ينظر إلى حال الإنسان الذي يكفِّر، وهذا على أصح قولي العلماء. وقال بعض العلماء: بل أوسط البيئة التي يعيش فيها، فيعتد فيها بالأوسط. والصحيح: أن العبرة بالمكفِّر، أنه ينظر إلى أوسط ما يكون من طعامه. والله تعالى أعلم. حكم التتابع في صيام من عدم الهدي السؤال هل يجب التتابع في صيام الثلاثة أيام إذا صامها في الحج وكذلك السبعة إذا رجع إلى أهله؟ الجواب لا يجب التتابع في صيام الحج، ولكن الغالب لضيق الوقت أن يحصل التتابع، ويضطر الإنسان له، ولكن من حيث الوجوب فلا يجب، فلو فرقها فإنه يجزيه. والله تعالى أعلم. حكم شراء فدية مذبوحة السؤال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنسك نسيكة ) ، هل يجب على المفدي أن يتولى ذبحها بنفسه، أم لا حرج لو اشترى شاة مذبوحة؟ الجواب لابد لهذه الشاة من أن تذبح، ويكون ذبحها فدية لهذا الشيء الذي كان منه في حجه أو عمرته، لكن لو اشترى مذبوحة لم تجزئ؛ لأنه عند ذبحها لم تقصد لجبر هذا المحظور الذي أخلّ به، ولذلك يذبحها على نية أنها فدية عما أتاه والنية وهي المعتبرة في ذلك، وعليه فإنه لا يجزئ أن يشتري شاة مذبوحة، وإنما يجب عليه أن يذبح، وتكون النية في الذبح عن هذا الدم الواجب، سواء كان في تمتع أو قران أو جبران لنقص أو كان فدية أذى. والله تعالى أعلم. حكم القارن والمتمتع إذا لم يملكا الهدي السؤال على القول: بأن العبرة في عدم الهدي في دم المتعة والقران بصبيحة يوم النحر، وذلك إذا لم يملك الثمن، فكيف يصوم الثلاثة الأيام في الحج على هذا القول؟ الجواب على هذا القول يقول العلماء: إنه إذا غلب على ظنه، مثلاً: كالشخص الذي عنده مال ويعلم أن ماله لا يكفيه لشراء الشاة وهو من بداية إهلاله للحج يعلم أن عنده مائة وخمسين ريالاً -مثلاً- وهذه لا تفي لشراء الشاة، فمثل هذا من بداية إهلاله للحج يعلم أن القيمة ليست عنده، فحينئذٍ يجوز له أن يصوم؛ لأن الغالب كالمحقق، وينزّل منزلة المحقق، وقالوا أيضاً: يجوز له أن يؤخر إذا أخر إحرامه ووقع إحرامه قبل يوم عرفة فأحرم يوم التروية ولم يتيسر له صيام يوم التروية ويوم عرفة صام أيام النحر؛ لما ذكرناه: من أنه يرخص فيها لمن لم يجد الهدي؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم صاموها. والله تعالى أعلم. حكم جمع المساكين وإطعامهم من الآصع مجتمعة السؤال هل يجوز في الإطعام جمع المساكين وإطعامهم من الآصع وهي مجتمعة، أم لابد من نصف الصاع والتوزيع؟ الجواب لابد لكل مسكين أن تعطيه حقه، ولا تبرأ ذمتك حتى تعطيه حقه في يده، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص: ( أطعم فرقاً بين ستة مساكين )، وهذا يقتضي أنك تعطي المسكين حقه طعمة من الله عز وجل أطعمه إياها من فوق سبع سماوات، لا تتصرف في كيفيتها ولا طريقتها، وإنما تعطيه الطعام إن شاء أن يأكل اليوم أكل، وإن شاء أن يأكل الغد أكل، وإن شاء أن يعطيه لغيره فيؤثر به على نفسه فعل، أما أن تلزمه بأن يأكل عندك وتجعل طعامه عندك وتحاسبه على ما يطعم، وتكلفه مشقة الحضور إليك، والتعني بانتظار طعامك؛ فهذا ليس له أصل، وحينئذٍ عليك أن تعطيه الطعام بيدك؛ لأن الله ملك المسكين حقه فقال سبحانه: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [الذاريات:19] ، فنصه سبحانه على أن المال الواجب ملك للفقير: واللام هنا للتمليك، { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [الذاريات:19] أي: ملك للسائل وملك للمحروم، فدل على أن الأموال التي هي زكاة أو أموال واجبة أنها ملك للفقراء والضعفاء. وقد توسع البعض باجتهاداته في هذه الأزمنة حتى بلغ ببعضهم أنه يشتري للفقير من الزكاة أكسية وأغذية ويذهب بها إلى المسكين، وهو قول ضعيف. والصحيح: أن المال يعطى للمسكين بيده؛ حتى يشعر بطعمة الله التي أعطاه إياها، إن شاء أن يبذله في طعامه بذل، وإن شاء أن يبذله في كسائه بذل، وإن شاء أن يعطيه لغيره من أقاربه فهذا أمره إليه، أما أن يتدخل الإنسان ويصرف المال، ويتصرف فيه، أو يصرف الطعام ويتصرف فيه، أو يجعله على صفة أو على هيئة فيلزمه بوقت أو زمان أو هيئة من طعام، فهذا خلاف الأصل الشرعي، ولذلك عليك أن تعطي للمسكين ما أوجب الله عليك. والله تعالى أعلم. حكم إلحاق الحمار الأهلي بالوحشي السؤال إذا استوحش الحمار الأهلي فهل يأخذ حكم الحمار الوحشي؟ الجواب لا يحلّ أكل الحمار الأهلي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنها رجس ) ، فهي رجس إلى يوم القيامة، استوحشت أو لم تستوحش وهذا السؤال يتركب على مسألة خلافية أخرى، تعرفون أن الإبل والبقر والغنم في الأصل تكون مستأنسة؛ لكن ربما شردت الشاة منك، وربما شرد البعير منك، وربما شردت البقرة، فحينئذٍ يقول العلماء: خرج المستأنس إلى المتوحش، فيجوز لك أن ترميه بالسلاح في أي موضع، فلو شردت الشاة فأخذت -مثلاً- السلاح ورميتها به في أي موضع -وأنت لا تستطيع إدراكها- فقتلتها، فيجوز لك أكلها، مع أن الأصل أنه لا يجوز؛ لأن الواجب أن تذكى ذكاة المستأنس؛ لكنها لما خرجت من صورة الاستئناس إلى الاستيحاش عوملت معاملة المستوحش؛ والدليل حديث رافع رضي الله عنه عندما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير -يعني: فر- فأهوى رجل بسهم فعقره، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( إن لهذه الحيوانات -يعني: المستأنسة من الإبل والبقر والغنم والبهائم- أوابد كأوابد الوحش، فما ندّ منها فاصنعوا به هكذا ) ، فدل على أنه يجوز عقره. ومن أمثلة ذلك: لو سقطت الشاة في البئر، فأنت لا تستطيع أن تمسكها، فحينئذٍ ترمي بالسلاح الذي يجرحها في أي موضع من جسدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلْ ) ، فترميها بالسلاح في أي موضع، فإذا رميتها في أي موضع وماتت قبل أن تصل الماء أو قبل أن تصل إلى قعر البئر إذا كان أرضاً فحينئذٍ يحل لك أكلها؛ لأنها ذكيت ذكاة الصيد. فقياساً على هذه المسألة ظن أن الحمار -أكرمكم الله- إذا استوحش يجوز أن يعامل معاملة الصيد، وأنه يجوز رميه في أي مكان ويؤكل، ولكن نقول: إن المستأنس حلال اللحم في الأصل، ولكن الحمار -أكرمكم الله- في الأصل محرم لحمه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( إنها رجس ) يعني: في لحوم الحمر الأهلية، وعلى هذا لو استوحش ما يؤثر، فالاستيحاش صفة عارضة لا توجب زوال الأصل بالحرمة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (226) صـــــ(1) إلى صــ(6) شرح زاد المستقنع - باب صيد الحرم لقد حرم الله ورسوله مكة والمدينة فلا يقتل الصيد فيهما، ولا يقطع شجر مكة ولا حشيشها إلا الإذخر، فمن قتل صيداً في مكة فعليه دم مثل ما قتله، ومن قتل صيداً في المدينة لزمه الإثم، وفي كلٍ تعرض لسخط الله وعقابه لمن أصر على هذا الفعل. حرمة مكة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ باب صيد الحرم ]. لما فرغ من بيان حكم الصيد بالنسبة للمحرم شرع في بيان نوع خاص من الصيد، وهو الذي يشمل المحرم والحلال، وهو صيد مكة وكذلك صيد المدينة، وهذان الموضعان هما اللذان حرم الله ورسوله كما ثبتت بذلك النصوص في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (باب صيد الحرم) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام المتعلقة بحكم من قتل الصيد داخل مكة أو قتل الصيد داخل المدينة، فإذا كان مراده العموم يصبح حينئذٍ قوله: (الحرم) أي: باب حكم صيد حرم المدينة ومكة، وهذا هو الذي ذكره في الباب أنه اعتنى ببيان حكم صيد مكة والمدينة، أو يكون قوله: (الحرم) حرم مكة، فيكون ذكره لأحكام حرم المدينة من باب التبعية؛ وذلك لأن تحريم المدينة إنما وقع بعد تحريم مكة شرفها الله. حرمة صيد الحرم وقوله: [يحرم صيده على المحرم والحلال]. يحرم صيد الحرم على المحرم والحلال بإجماع المسلمين؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: ( إن هذا البلد حرم آمن ) ، وقال في المدينة: ( إنها حرم آمن ) . وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: ( إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس ). قال بعض العلماء: قوله: ( إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس ) أي: أن حرمة مكة إنما كانت من الله تشريعاً ولم تكن شيئاً جبلياً في الناس، كأن يكون شيئاً كان الناس يألفونه ثم نشأ في الناشئة من بعد ذلك وهم على هذا التحريم، إنما هو تحريم من الله. وقيل: ( إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس ) أي: أن الله حرمها؛ ولكن الناس استهانوا بهذه الحرمة العظيمة، كأن النبي صلى الله عليه وسلم ينبه على عظيم ما للبيت والحرم من حرمة عند الله عز وجل، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ) ، فهذا نص صريح يدل على أن مكة حرم، وأنه لا يجوز أن يعتدى فيها، وأن تصاب فيها حدود الله عز وجل، ومن ذلك ما نهى الله عز وجل عنه من الصيد. ففسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحرمة وبين وجهها فقال: ( لا ينفّر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا يقطع شوكها، ولا تلتقط لقطتها، إلا من معرّف وفي رواية: إلا لمنشد )، فلما قال: ( لا ينفّر صيدها ) فانظر إلى تعبيره عليه الصلاة والسلام الذي يفيد أن تنفير الصيد واستثارته حرام، فكيف بقتله؟! وهذا كما يسميه علماء الأصول من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، فإذا كان تنفير الصيد وهو تحريشه وتحريكه -كأن يرى حمامة فيهش عليها- حرام عليه، فكيف إذا قتلها؟! فإنه من باب أولى وأحرى يقع في حرمة أعظم. فالمقصود: أن تحريم مكة وتحريم الصيد فيها خاصة وتحريمها من كل وجه من جهة العموم، حتى نص العلماء رحمة الله عليهم بتفصيلهم لهذه الحرمة حتى بلغ ببعضهم أن قال: إنه لو قتل ولجأ إلى الحرم لا يقتل، وإن كان الصحيح: أن من قتل عمداً ولجأ إلى الحرم أنه يقتل؛ لكن الشاهد: أن العلماء رحمة الله عليهم عظموا هذه الحرمة ونصوا عليها؛ وذلك لثبوت الأخبار المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم حرمات الحرم. وقوله: [وحكم صيده كصيد المحرم]. وحكم صيد الحرم بالنسبة لك كحكم صيد المحرم، أي: أن الصيد داخل حدود مكة حرام على المكلف سواء كان محرماً أو حلالاً، فكما أن المحرم لا يجوز له قتل الصيد، كذلك من دخل حدود مكة لا يجوز له قتل الصيد، وحدودها من جهة المدينة ثلاثة أميال وهي جهة التنعيم، وأما من جهة الطائف وجهة المشرق فهي سبعة أميال، ومثلها جهة اليمن، ومن جهة الجعرانة تسعة أميال، وأما من جهة جدة فعشرة أميال، هذا بالنسبة لحدود الحرم، وله أصل في حديث الحاكم في ذكر أثر ابن عباس رضي الله عنهما في نزول الحجر وانكسار شعبه -وقيل: إضاءته- فبلغت حدود الحرم، وأقيمت الأعلام عليها، وهي منصوبة معروفة ويعتبرها العلماء رحمة الله عليهم من نقل الكافة عن الكافة، فهذه المعالم والرسوم والأمارات التي بقيت وتوارثتها الأمة جيلاً بعد جيل ورعيلاً بعد رعيل تعتبر باقية ويعتبر وجودها ونقل الكافة عن الكافة دليلاً على ثبوتها، ولذلك نجزم بأن هذا هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا هو جبل أحد من باب نقل الكافة عن الكافة، وهذا ما يسمونه نقل التواتر الذي لا يقبل التكذيب، وعليه فهذه المعالم هي حدود الحرم، فإذا دخل الإنسان إلى هذا الحد من أي جهة كان فإنه يجب عليه أن يرعى هذه الحرمة، ويطالب بحفظ حدود الله عز وجل واتقاء محارمه، ومما حرم الله: قتل الصيد. كذلك أيضاً: لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، فحشيشها لا يحش ولا يؤخذ منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا يحتش حشيشها ) ، وفي رواية: ( ولا يختلى خلاها ) كل ذلك يدل على أنه حرم ينبغي اتقاؤه، وعدم التعرض لما فيه من الصيد والزرع. حرمة قطع شجر مكة وحشيشها إلا الإذخر وقوله: [ويحرم قطع شجره]. ويحرم قطع الشجر، أي: بمكة وداخل حدودها، والشجر له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون نابتاً من الله عز وجل بدون أن يكون هناك فعل للآدمي، فهذا لا يجوز لأحد أن يقطعه، ولكن استثنى بعض العلماء وجود الضرورة، فإذا كانت ضرورة متعلقة بالكافة كمرور الناس في الطريق وهذه شجرة شوك ستسقط عليهم وتؤذيهم، قالوا: يجوز قطعها كما قطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدوحة بالمطاف. وقال بعض العلماء: إذا قطعت مع وجود الحاجة والضرورة لزم الجزاء فيها، وهو قضاء ابن عباس رضي الله عنهما، كما سيأتي إن شاء الله بيانه. وعلى هذا فإن الشجر الذي نبت وأنبته الله عز وجل وليس للآدمي فيه دخل فإنه لا يجوز قطعه، وأما إذا انكسر من نفسه وسقط فهذا شيء آخر، فإذا انكسر الغصن أو سقط، أو أن الشجرة يبست وسقطت من نفسها، أو اقتلعتها الريح ويبست، فحينئذٍ قالوا: يجوز أن يحتطب منها، ويجوز أن ينتفع منها، ولا حرج في ذلك، كالحشيش اليابس؛ لأن هذا ليس بعضد، فهو لم يعضدها، وحينئذٍ يجوز له أن ينتفع ويرتفق بها. أما إذا كان الشجر قد أنبته الإنسان كأن يزرع في بيته زرعاً ثم يريد جزّه وقصه أو عضده فلا حرج عليه أن يفعل ذلك إذا كان مما أنبته أو يكون اشتراه من رجل زرعه فصار في ملكه، فإن يجوز له حينئذٍ أن يحش، ويجوز له أن يقص، ولا حرج عليه في ذلك. وقوله: [وحشيشه الأخضرين]. والحشيش ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: إما أن يكون أخضر، كالمراعي النابتة، وذلك حين ينزل مطر أو تصيب السماء فينبت الرعي في مكة فهذا لا يحشّ، لكن لو كان عندك إبل أو بقر أو غنم ورعت فيه فلا حرج، فهناك فرق بين أن ترعاه البهيمة وبين أن تحش بنفسك، ولذلك كان للصحابة رضوان الله عليهم إبلهم ودوابهم حينما قدم عليه الصلاة والسلام مكة ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكمموا أفواهها، ولم يحرم عليهم أن ترعى هذه الإبل داخل مكة، وإنما جعل التحريم من فعل المكلف، فدل على أنه يجوز أن يرسل إبله أو بقره أو غنمه للرعي، ولا حرج عليه في ذلك، وهذا إذا كان الحشيش أخضر. أما إذا كان الحشيش يابساً فيجوز لك أن تجزّه، وأن تأخذ الهشيم ونحوه، فإنه ليس بحشيش وإنما هو هشيم تذروه الرياح إن لم تأخذه أنت، وحينئذٍ يجوز للإنسان أن يأخذه. وقوله: [إلا الإذخر]. لما خطب الناس كما في حديث أبي شريح رضي الله عنه وأرضاه في حديثه الذي سمعته أذناه، وأبصرت عيناه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تكلم به، ووعاه قلبه حينما قام عليه الصلاة والسلام خطيباً في يوم الفتح فذكر حرمة مكة، وفيه قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن هذا البلد قد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ) ، وفي الرواية الأخرى: ( إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم رجعت حرمتها، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يقطع شوكها، ولا ينّفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف، قال العباس رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله! إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر ) فدل هذا على أن الإذخر يستثنى، ويجوز أن يجزّ، ولا حرج في ذلك. حرمة المدينة والصيد فيها وقوله: [ويحرم صيد المدينة]. لما فرغ رحمه الله من أحكام الصيد بمكة، حيث أثبت أنه لا يجوز أن يصاد الصيد بمكة، وعلى هذا إذا صاد الصيد بمكة كما ذكر لك حكمه حكم صيد المحرم، فلو قتل بمكة تيس جبل أو مثلاً صاد غزالاً أو صاد حمامة ففيه القضاء الذي ذكرناه كصيد المحرم سواء بسواء ولم يفصل؛ لأنه تقدم التفصيل، لكن هنا بالنسبة لصيد المدينة فإنه لا يجوز، فالمدينة أولاً: محرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم إن عبدك وخليلك قد حرم مكة ودعا لها، وإني أحرم المدينة وأدعو لها: اللهم بارك في صاعها ومدها ) وفي رواية: ( اللهم اجعل مع البركة بركتين! اللهم اجعل مع البركة بركتين )، فبالإجماع فإن البركة في المدينة ضعف البركة في مكة، وهذا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فالأرزاق مباركة في مكة، ويجد الإنسان أثر هذه البركة في طعامه ورزقه وقوته، ولكنها في المدينة على الضعف فما في مكة يعتبر في المدينة بالضعف، وهذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هنا قال بعض السلف بتفضيل المدينة على مكة؛ لأنه دعاء بالبركة عموماً، وقال: إن الله اختارها لنبيه صلى الله عليه وسلم، كما هو قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس . وذهب جمهور العلماء: إلى أن مكة أفضل. واحتج الإمام بتفضيل الموت بالمدينة؛ لأن الله عز وجل اختارها لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، وجعلوا لها من الفضائل، حتى كانت البركة فيها ضعف ما بمكة. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور، أن مكة أفضل من المدينة، وهذا أمر واضح جلي، فإن النصوص ظاهرة في تفضيل الله عز وجل لهذا الحرم، وثبت في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والله إنك لخير أرض الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ) ، فالشاهد في قوله: ( والله إنك لخير أرض الله ) يدل على أنها أفضل؛ لأن قوله: (خير أرض الله) كما تقول العرب: فلان خير، أي: أخير، وشر: أشر، فقوله: (خير أرض الله) يدل دلالة واضحة على أنها أفضل، ولذلك جعلت الصلاة بالمسجد الحرام بمائة ألف، وبمسجد المدينة بألف وهذا يدل على أن مكة أفضل. وعليه فإن حرمة المدينة تشابه حرمة مكة، فلا يجوز قتل الصيد داخل حدود حرم المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح عن المدينة: ( إنها حرم آمن ) ، وفي الصحيح من حديث علي رضي الله عنه: أنه لما سأله أبو جحيفة : ( هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه، وما في هذه الصحيفة، فأخرجها فإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة ) هذا ثابت في الصحيح، وقوله: (لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) قيل: لا يقبل الله منه فريضة ولا نافلة، وقيل: إن قوله: (صرفاً ولا عدلاً) أي: إشارة إلى أنه لا يقبل منه شيء، نسأل الله السلامة والعافية، وإذا لم يقبل العمل من العامل فهذا أمر عظيم؛ لأنه دليل على هلاكه، فهو مهما عمل فإن عمله لا يعود عليه بخير؛ لأن العبرة بالقبول. فالمقصود: أنه لعظيم حرمة الحرم صرف العبد عن القبول بالإحداث في مدينة حرم النبي صلى الله عليه وسلم، فحرمة المدينة تقتضي عدم جواز قتل الصيد، وعدم جواز تنفيره، ولذلك لما رأى سعد رضي الله عنه الغلام من بني مخزوم يصيد في المدينة أخذ سلاحه الذي يصيد به، فجاء مواليه وقالوا: رد للغلام آلته، قال: لا والله، لا أرد سلباً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم في صحيحه، فهذا من باب العقوبة، ولذلك من وجد يصيد في حدود الحرم فإنه يجوز أخذ آلته التي يصيد بها وتملك، وهذا من باب العقوبة التعزيرية، أي: التعزير بالمال . فالمقصود: أن حرم المدينة يقتضي عدم جواز الصيد فيه، وعدم جواز الحدث والبدعة داخل المدينة، وكذلك حرم مكة؛ لأن الله تعالى يقول: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْم } [الحج:25] ، بل إن حرم مكة أشد؛ لأنه جعله لمجرد الإرادة وتوجه العزيمة للشيء. حدود حرم المدينة حرم المدينة من عير إلى ثور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: ( المدينة حرم من عير إلى ثور ) ، وعير: هو الجبل الذي بحذاء الميقات، على يسار الذاهب إلى مكة مع طريق الهجرة الموجودة الآن، فطريق الهجرة الموجودة الآن إذا جئت إلى الميقات الذي يسمى بأبيار علي فإنك إذا كنت داخلاً المدينة يكون عير عن يمينك؛ وهو جبل طويل أزرق، وأما عن يسارك فيكون الميقات، فهذا الجبل الذي عن يمينك إذا كنت داخلاً المدينة أو عن يسارك وأنت خارج يسمى بعير، وهو حد المدينة من الجهة الغربية إلى الجنوب، وأما ثور فحدها من الجهة الشمالية إلى الشرق، وثور اختلف فيه على أقوال: فهناك قولان هما أشهر وأقوى وأصح الأقوال الواردة: إما أن يكون هو الجبل الصغير الأحمر المدور الذي خلف جبل أحد، وهو جبل معروف عند أهل المدينة، وأشار إليه الحافظ ابن حجر ، وأشار إلى هذا السمهودي في كتابه النفيس: وفاء الوفاء. وهناك قول ثان: أنه الجبل الذي يسمى بجبل الخزّان؛ وهو على طريق المطار القديم، إذا انتهى جبل أحد، فيكون جبل أحد عن يسارك وأنت خارج من المدينة إلى المطار ويكون هذا الجبل عن يمينك، وقد أخذ الطريق طرف هذا الجبل ويسمى بجبل خزان، وهذا الجبل هو الذي تنطبق عليه صفات جبل ثور. هذا بالنسبة لحدّها من الجهتين اللتين ذكرنا. أما من جهة الحرة الشرقية المحضة والغربية المحضة، فإن الحرتين تعتبران حداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إني أحرم ما بين لابتيها ) ولابتا المدينة هما: الحرة الشرقية والحرة الغربية. أما الحرة الشرقية فهي في الجهة الشرقية لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى هذه الحرة في القديم بحرة واقم، وهي التي وقعت فيها موقعة الحرة المشهورة التي كانت أيام يزيد بن معاوية ، وفيها يقول قيس الرقيات : فإن تقتلونا يوم حرة واقم فإنا على الإسلام أول من قتل فهذه تسمى بحرة واقم. أما الحرة الثانية وهي الحرة الغربية، فهي في غربي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى حرة الوبرة، وتسمى الآن بالحرة الغربية. هاتان الحرتان ما بينهما حرام، وهل الحرتان داخلتان في الحرم، أو ليستا بداخلتين؟ قولان، والصحيح: أنهما داخلتان. واختلف في وادي العقيق، ووادي العقيق من الجهة الغربية بعد الحرة، فبمجرد أن تقطع الحرة تنزل إلى وادي العقيق، والصحيح أن وادي العقيق من الحمى وليس من الحرم، فهناك أمران ينبغي التفريق بينهما وهما: الحرم، والحمى، أما الحمى فإنه يخرج خارج الحرم، والحمى لا يجوز فيه الصيد، وكان حمى -أيضاً- لإبل الصدقة لا يرعى فيه أحد، وحمى المدينة بريد في بريد، يعني: ثلاثة أميال في ثلاثة أميال، هذا بالنسبة لحمى المدينة من الجهات كلها، حماه النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ترعى فيه إبل الصدقة؛ والتي كانت تتبع بيت مال المسلمين، فلما كانت تحتاج إلى رعي تركت لها هذه المساحة من الأرض، وهذا يسمى حمى المدينة. فهذا الحمى لا يجوز فيه الصيد، وأما بالنسبة لحدود الحرم فلا، فإن الحرم ينتهي عند الحرة، وهل الحرة داخلة، أو لا؟ على الوجهين اللذين ذكرنا. وقوله: [ويحرم صيد المدينة ولا جزاء فيه]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة، وفهم الصحابة ذلك كما ذكرنا في حديث مسلم في عقوبة من صاد في المدينة، فدل على أنه لا يجوز الصيد داخل المدينة، ولكن يختلف صيد مكة عن صيد المدينة أن صيد مكة فيه جزاء وصيد المدينة لا جزاء فيه، والجزاء في الصيد داخل حدود حرم مكة فيه خلاف، ولكنه فتوى ابن عباس رضي الله عنهما. وقوله: [ويباح الحشيش للعلف]. الدواب إذا جاءت ورعت فلا حرج في ذلك. وقوله: [وآلة الحرث ونحوه]. وكذلك آلة الحرث ونحوه في المدينة، وفيه حديث أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله : أن الصحابة رضي الله عنهم اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم المشقة في تحريم المدينة في عدم جواز قطع شجرها. ولذلك انظر حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصنع المنبر الذي كان يخطب عليه لما كثر الناس بعد عام الوفود احتاج للمنبر؛ لأنه كان يخطب على الجذع، فاحتاج إلى المنبر حتى يعلو فيستطيع أن يبلغ صوته إلى آخر المسجد، فقال -كما في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في الصحيحين- لامرأة من الأنصار: ( انظري غلامك النجار فليصنع لي أعواداً أكلم عليها الناس ) ، يقول سهل رضي الله عنه: ( فصنعت من طرفاء الغابة ) ، والغابة هي التي تسمى اليوم بالخُليل، وهي خارج حدود المدينة، وقد تجاوز الحمى، فلما احتيج لخشب المنبر لم يستطع أن يأخذ من شجر المدينة، وإنما خرج إلى خارج حدود الحرم، فبالرغم من أن النبي محتاج إلى المنبر، وأحب الأشياء إلى الله هو الدعوة إليه سبحانه وتعالى ومع ذلك صنع هذا المنبر من طرفاء الغابة، كما في الرواية في الصحيح، ولذلك يقولون: لا يعضد شجرها، ولا يؤخذ منها، على التفصيل الذي ذكرناه، فاستثنوا الآلة كأن تؤخذ خشبة للفأس ونحوه، حتى يقدّ به أو المعول حتى يحفر به ونحو ذلك، قالوا: رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وخشبة البئر كما جاء في حديث أحمد في مسنده؛ لأنهم اشتكوا له المشقة. فالشخص إذا احتاج إلى هذه الخشبة لكي يصلح فأسه يخرج خارج المدينة ويجاوز الثلاثة الأميال ثم يقص الشجرة ويأخذ منها فهذا فيه مشقة، فلما شكوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذا رخص لهم في ذلك، فهذا الذي جعل المصنف رحمه الله يقول: الآلات. وقوله: [وحرمها ما بين عير إلى ثور]. وحرم المدينة ما بين عير إلى ثور؛ لقوله: ( المدينة حرم من عير إلى ثور ) ، وحد بعض المعاصرين ثور بالجبل الذي هو خلف جبل أحد بجوار الوادي الذي يسمى بوادي النقمي، وتسميه العامة وادي النكمى، المعروف في القديم باسم النقماء، وهو الذي جاء عنه في غزوة الأحزاب: (أتيت بغطفان فأنزلتهم بمجمع الأسيال من ذنب نقماء)، هذا الوادي يأتي من الجهة الشرقية من جهة المطار ويسمى الآن بوادي الأوينه، هذا الوادي إذا التقى مع مجمع الأسيال فهناك جبل يقولون: إنه جبل ثور، وهذا خطأ، فإن هذا الجبل ليس بجبل ثور، ولو جئت تقف وتجعل عيراً وراء ظهرك وتسامت هذا الجبل ناظراً إليه لوجدت المدينة في أقصى اليمين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بين عير إلى ثور ) ، وهذا يدل على خطأ هذا التحديد، ولذلك الصحيح: أن التحديد إما الجبل المدور الذي ذكرناه خلف أحد، وإما الجبل الذي يسمى بجمل الخزان، وهو الذي ذكره السمهودي في وفاء الوفاء، يقول: هو جبل صغير على يسار الذاهب إلى العراق. فكان على يسار هذا الطريق؛ لأنه كان طريق المشرق وينفذ منه إلى المشرق، وهذا هو أرجح الأقوال، إما هذا الجبل أو هذا الجبل، فكان الوالد رحمه الله يختار الجبل الذي يسمى بجبل الخزان، ويذكر شواهد من الشعر تدل عليه، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس وهو أنه جبل ثور. وتحديد جبل ثور مشكلة من المشكلات، حتى إن أبا عبيد القاسم بن سلام العالم الجليل والمحدث والمفسر رحمة الله عليه الفقيه المشهور كان يقول: أخطأ المحدثون. فكان يخطئ رواة الحديث في هذا الحديث الثابت في الصحيحين ويقول: ليس في المدينة ثور، وإنما هو بمكة. والصحيح: أن ثور بالمدينة، ولكن كان خافياً عن البعض، وخفاؤه لا يقتضي أنه ليس بموجود، بل موجود؛ لأن الرواية في الصحيحين، وقد رواه الثقاة العدول، وعلى التفصيل الذي ذكرناه. وعليه: فإنه يعتبر حد المدينة ما بين عير إلى ثور من الجهة الشرقية إلى الشمال والغربية إلى الجنوب، وأما بالنسبة للحرتين فقد ذكرنا أنهما حد للحرم لظاهر الحديث في الصحيح: ( فإني أحرم ما بين لابتيها ). |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (227) صـــــ(1) إلى صــ(27) شرح زاد المستقنع - باب دخول مكة [1] لقد شرف الله تعالى بعض الأمكنة وفضلها بما وهبها من خصائص تميزت بها عن غيرها، ومن هذه الأماكن: المسجد الحرام ومكة المكرمة، ومن تشريف الله تعالى لها أن جعل لدخولها آداباً وسنناً ينبغي لمن دخلها أن يلتزم بها، والأولى والأفضل لمن دخلها أن يدخلها محرماً، فإن كان في الحج فبحج، وإن كان في غير موسم الحج فيحرم بعمرة. كيفية دخول مكة السنة في جهة الدخول إلى مكة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [باب دخول مكة]. هذا الباب قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة دخوله في حجه وعمرته لمكة، وما هو الهدي الذي ينبغي على الحاج أن يحافظ عليه، وكذلك على المعتمر إذا دخل مكة -زادها الله شرفاً وكرامةً-، ونظراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه هذه السنة، فقد اعتنى العلماء رحمهم الله بتخصيص الدخول إلى مكة ببيان جملةٍ من أحكامه ومسائله، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. قوله: (باب دخول مكة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفة الدخول إلى مكة، والدخول إلى البيت من أجل الطواف. قال رحمه الله تعالى: [يسن من أعلاها] . أي: يسنّ الدخول إلى مكة من أعلاها، والمراد بأعلاها من جهة ثنية كداء، وهي الثنية التي عند قبور المعلاة، ومنها ينصب الداخل على البطحاء، ثم يستقبل باب البيت، وهذا المدخل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتت عنه الأحاديث الصحيحة أنه دخل مكة منه. وللعلماء رحمهم الله في هذا الدخول وجوه: الوجه الأول: منهم من قال: هذا الدخول كما لا يخفى بالنسبة لأهل المدينة فيه رفقٌ بهم، فيأتي الحاج والمعتمر من جهة التنعيم، ثم إلى الحجون، ثم ينحرف ذات اليسار مع الحجون حتى ينصب إلى الثنية، ويدخل من جهة القبور، ولا يزال الطريق موجوداً إلى الآن، وهو الطريق الذي يفصل قبور المعلاة وينصب من بينها، فهذا هو مدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ثنية كداء. قال هؤلاء العلماء: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من هذا الموضع، وهو أعلى مكة؛ لأنه خرج من مكة متخفياً بالليل، فدخلها من أعلاها إعزازاً للإسلام وإعلاءً لشأنه، فالتمس أرفع المواضع، وأعلى المواطن حتى تظهر شوكة الإسلام وعزته، وهذا يدل على أن الله تعالى تكفل بنصرة دينه، وإعلاء كلمته، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ليلاً، فأدخله الله إليها في وضح النهار، في يومٍ أعز الله فيه دينه، ونصر فيه عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. فأدخله الله عز وجل في وضح النهار معززاً مكرماً، بين أصحابه الذين يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، خرج منها كالوحيد ليس معه إلا أبو بكر والدليل، وأدخله الله مع ثمانية آلاف يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذا كله يدل على ما كان لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الدين عند الله عز وجل من شأنٍ. الوجه الثاني: ومنهم من قال: إنه دخل من هذا الموضع لأن حسان رضي الله عنه قال: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء في قصيدته المشهورة: عفت ذات الأصابع فالدلاء إلى عذراء موضعها خلاء ديارٌ من بني حسحاس قصرٌ تعفيها الروامس والدلاء فلما ذكر هذا الموضع -أي: كداء- أصدق النبي صلى الله عليه وسلم وعده، وحافظ على الدخول من جهة ثنية المعلاء. الوجه الثالث: التشريف، وهذا أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله بالشرح، وأشار إليه غيره، أن هذا الموضع إذا دخل منه الحاج والمعتمر يدخل على القبور، ومن جهة القبور على البطحاء، ثم على جهة الصفا والمروة، فيستقبل باب البيت، فكأنهم يرون وجه مكة من هذه الجهة، وحينئذٍ قالوا: إنه يستقبل باب البيت، ففي هذا تشريفٌ للبيت وتكريم، وكذلك أيضاً يستقبل وجه مكة، ولذلك لما خرج عليه الصلاة والسلام خرج من ثنية كداء، وهي بأسفل مكة، فكان مدخله من الأعلى ومخرجه من الأسفل، فلهذا يقولون: إنه تشريف للبيت، والملوك تُأتى من أبوابها، وهذا من باب التشريف لبيت الله عز وجل، فيؤتى من جهة بابه، ولذلك يُقصد الدخول من باب بني شيبة، كما ثبتت في ذلك الأحاديث الصحيحة في صفة دخوله عليه الصلاة والسلام. وهناك وجهٌ رابع أنه دخل هكذا اتفاقاً، أي: أنه تيسر له أن يدخل من جهة المدينة، فكان دخوله من هذا الموضع، ولكن هذا القول يشكل عليه دخوله عليه الصلاة والسلام في عمرة الجعرانة، وسلوكه عليه الصلاة والسلام في مدخله في جميع دخوله إلى مكة هذا الموضع، فدل على أنه مقصود وليس بأمرٍ اتفاقي. وفائدة الخلاف بين كونه مقصوداً أو اتفاقاً: أننا لو قلنا: إنه مقصود، فيشرع للحاج والمعتمر أن ينحرف إذا جاء من غير هذه الجهة، كأهل جدة -مثلاً- إذا أرادوا إصابة السُنَّة فإنهم ينحرفون إلى طريق المدينة، ويدخلون من جهة الحجون؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا غيرهم إذا قلنا: إنها سنةٌ مقصودة. أما إذا قلنا: إنها سنةٌ اتفاقية، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن هذا أرفق وأيسر له، فالأمر يسير ولا إشكال فيه. وقال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من موضعٍ وخرج من موضع؛ تكثيراً للخطى في طاعة الله عز وجل، ولكي تشهد الأرض للعبد بما يكون له من الخير، ولذلك ذهب إلى العيد من طريق ورجع من طريقٍ آخر، ومضى إلى عرفاتٍ من طريق ضب -وهو الطريق الأيمن- ودفع إلى مزدلفة من طريق المأزمين بين الجبال، فقالوا: هذا كله لتكثير الخطا، ولكي تشهد الأرض له بالخير. فاستحبوا -على هذا الوجه الثاني- لمن دخل مكة من موضع أن يخرج منها من موضعٍ آخر، فتكون السنة إجمالياً من حيث تكثير الخطا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في نص الكتاب والسنة أن الأرض تشهد بما يُعمل عليها من خيرٍ وشر، كما قال تعالى: { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } [الزلزلة:4-5]. قال العلماء: تتحدث بأخبارها، أي: بما عمل عليها من خيرٍ وشر، وقال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } [يس:12]. وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( يا بني سلمة! ديارَكم تُكتبْ آثارُكم )، وهذا يدل على أن الأفضل أن الإنسان يمضي في الطاعة من سبيل ويرجع من سبيلٍ آخر. فالسنة أن يدخل مكة من أعلاها -كما نص عليه المصنف- ويكاد يتفق العلماء رحمة الله عليهم أن مدخل الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أعلى مكة، وهذا الدخول يستوي أن يكون بالليل ويكون بالنهار، فيدخل الحاج في الليل ويدخل في النهار، وأكثر دخوله -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه إلى مكة كان بالنهار، ودخلها ليلاً في عمرة الجِعرَّانة أو الجِعرَانة، لما فتح الطائف وقسم الغنائم -غنائم حنين-، ثم نزل واعتمر عمرته المشهورة، قالوا: وقعت ليلاً منه صلوات الله وسلامه عليه، ورجع إلى الجعرانة وبات بها، كما يقول أهل السير، فهذا هو مدخله بالليل. وأما بقية عمره عليه الصلاة والسلام، وكذلك فتحه لمكة، وكذلك حجة الوداع فكل ذلك وقع منه صلوات الله وسلامه عليه بالنهار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه إذا كان الإنسان يقتدى به كالعالم ونحوه، فالأفضل أن يدخل في النهار، وهكذا طالب العلم؛ لأنه ربما وافق الجاهل الذي لا يعرف السنن فيعلمه، أو يراه يفعل السنة فيتأسى به، فاستحبوا له الدخول بالنهار؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشارت أم المؤمنين إلى هذا، قالوا: فنظراً إلى حاجة الناس إلى معرفة هديه عليه الصلاة والسلام وقع دخوله نهاراً، ولم يقع ليلاً إلا في العمرة التي ذكرنا، فاستحبوا لطالب العلم وللعالم أن يكون دخوله بالنهار، وأن يكون إيقاعه لطواف عمرته، وكذلك طواف القدوم في حجه، أو طواف التمتع -إذا كان متمتعاً في حجه- أن يكون بالنهار؛ لكي يُتأسى به. وقت الدخول وحالة الداخل ولا حرج أن يقع الدخول ليلاً، ولكن السنة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بات بذي طوى، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قدم إلى مكة يبيت في ذي طوى كما ثبت عنه في صحيح البخاري، وموطأ مالك: أنه كان إذا دخل مكة قطع تلبيته عند الحرار، ثم بات بذي طوى، ثم أصبح واغتسل بذي طوى، ثم مضى إلى البيت، وكان يفعل ذلك وينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العلماء: قد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عُمَرِه صلوات الله وسلامه عليه. والسنة إذا دخل مكة -آفاقياً أو غيره- أن يستشعر حرمة هذا البلد الذي حرمه الله عز وجل، وشرفه وكرمه، وجعل فيه بيته، وجعل فيه المسجد الحرام الذي جعل الصلاة فيه مفضلةً على سائر بقاع الأرض، ولا شك أن تخصيص الله تعالى لهذا البلد بهذه الفضائل يوجب على المسلم إذا دخله أن يستشعر هذه الحرمة، ولذلك لما دخل صلوات الله وسلامه عليه يوم الفتح وقد أعزه الله عز وجل، وأجله وأكرمه ونصره، طأطأ رأسه تواضعاً لله سبحانه وتعالى. وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كانت لحيته تكاد تمس قربوس سرجه، وهو يوم فتح ويوم عزة وتمكين، كل ذلك إكراماً لهذا البلد الآمن، وتشريفاً له، واستشعاراً لحرمته، ولذلك لما خطب الناس في اليوم الثاني أكد هذه الحرمة فقال: (ومن ترخص لكم بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أحلها لنبيه، إنها لا تحل لأحدٍ من بعدي، وإنما أحلت لي ساعةً من نهار)، وهذا يدل على عظيم حرمة هذا البلد، وأنه ينبغي لمن دخله زائراً أو كان من أهله أن يستشعر حرمته، وأن يرعى هذه الحرمة بفعل طاعة الله والبعد عن حرمات الله عز وجل، فيدخلها دخول المستشعر لحرمتها؛ حتى يكون ذلك أدعى لحفظ حدود الله، وأدعى أيضاً لمحافظته على طاعة الله عز وجل. فإن من دخل مكة وفي قلبه تعظيمها وإجلالها وهيبتها وفقه الله عز وجل للطاعة والخير والبر، ومن دخلها مستهيناً بحُرمتها أهانه الله عز وجل، وقد يبتلى -والعياذ بالله- بتعدي حدود الله والوقوع في محارم الله في حرم الله، نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بوجهه العظيم من الخذلان. قال رحمه الله تعالى: [يسن من أعلاها ودخول المسجد من باب بني شيبة]. أي: ويسن الدخول للمسجد من باب بني شيبة. فالسنة لمن دخل مكة وأراد دخول الحرم أن يدخل من باب بني شيبة، وهذا -كما ذكرنا- أن من العلماء من يقول: إنه شيءٌ اتفاقي، ومنهم من يقول: إنه شيءٌ مقصود، ولو فعله الإنسان متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل من حيث دخل، وقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على خير، ومأجور على ذلك؛ لأنه ما فعل ذلك إلا تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم. وباب بني شيبة هو الباب الذي بحذاء الصفا -جهة الصفا- وهذا الدخول ليس بواجب، أي: أن دخوله من هذا الباب ليس بلازم، والسنة له إذا دخل أن يقول ما ورد في الدخول إلى المساجد عموماً، وورد في بعض الأحاديث -ولكنهم تكلموا في سنده- أنه يكبر عند رؤية البيت، كما سيذكر المصنف رحمه الله، وسيأتي الكلام على هذا. دخول البيت الحرام رؤية البيت ودخوله وما ورد في ذلك [فإذا رأى البيت رفع يديه وقال ما ورد]. إذا دخل فالسنة أن يقدم رجله اليمنى ويؤخر اليسرى، كالدخول في سائر المساجد، ويسمي الله تعالى، ويسأل الله تعالى أن يفتح له أبواب رحمته، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وذلك بعد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإذا قال الدعاء الوارد في الدخول فليبتدئ بالطواف. والدعاء الوارد الذي يشير إليه المصنف جملتان: الأولى: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، حيَّنا ربنا بالسلام)، وقد أُثر هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مرفوع وفيه كلام. الجملة الثانية: ( اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيما ومهابةً وبراً، وزد من شَرَّفه وكَرَّمه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابةً وبراً )، وهذا الحديث رواه الطبراني ، وكذلك الشافعي في مسنده، ولكن فيه كلام، وهو من رواية عاصم القوزي وهو كذاب، ولذلك فالعمل عند بعض العلماء أن يقول الدعاء المحفوظ في الدخول إلى المساجد عموماً، وما دام أن الحديث لم يثبت ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يتعبد بما هو من اختلاق الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يقول ما ورد في الدخول إلى المساجد عموماً. وأما التكبير عند رؤية البيت فقد تسامح فيه بعض العلماء، ونقله شيخ الإسلام رحمه الله عن الإمام أحمد ، وعن بعض السلف، ولكن ليس فيه شيءٌ صحيح، وكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يضعفه، ويقول: لا أستحبه ولا أكرهه، فقوله: لا أستحبه؛ لأنه لم يثبت فيه شيءٌ صحيح، وقوله: لا أكرهه، كأنه خفف فيه؛ لأن فيه رواية مرسلة، ورواية عن سعيد بن المسيب ، ويروى أيضاً عن عمر رضي الله عنه وأرضاه. وإذا دخل البيت فإنه يمضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عند دخوله، وبعض الناس يقف للدعاء، ويرفع يديه مستقبلاً البيت، وهذا لم يثبت فيه شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت، وحفظت سنته، وحفظ هديه صلوات الله وسلامه عليه، فتكلف الوقوف ورفع اليدين بالدعاء لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام، والعلماء رحمة الله عليهم -خاصة السلف- يشددون في هذا فيرون أنه لا يشرع فعلُ أفعالٍ مخصوصة في المواضع المخصوصة، خاصةً في المناسك والمشاعر التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن الصحابي كان يحفظ لنا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اختلف عن عادته. كقول جابر رضي الله عنه لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب بين عرفات ومزدلفة: ( فتوضأ وضوءاً خفيفاً ) فانظر إلى دقة الصحابة وحفظهم لكل شيء في هديه صلى الله عليه وسلم، حتى لو رفع إصبعه، أو رفع بصره ذكروا رفعه لبصره وإصبعه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لحفظهم ودقتهم، فثبتت الأحاديث الصحيحة كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله في عمرته وحجه، ولم يذكر عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما دخل البيت وقف وقوفاً طويلاً، أو تكلف الدعاء، أو تكلف رفع اليد، أو تكلف فعلاً معيناً، وإنما دخل كما يدخل في سائر المساجد، وهذا يدل على أن السنة والهدي أن يُتأسى به عليه الصلاة والسلام في هذا، وألا يتعبد الإنسان ربه إلا بشيءٍ له أصل يعتمد عليه من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الطواف وأحكامه السنة في الطواف بعد الدخول وأحكام ما يزاحمه من الفرائض والواجبات فإذا دخل البيت فالسنة أن يبتدئ بالطواف؛ لأن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالةً واضحة على أنه لما دخل مكة لم يشتغل بأي شيء، وإنما انصرف إلى البيت وطاف صلوات الله وسلامه عليه، وقد ثبت عنه ذلك في عُمَرِه، وثبت عنه في حجة الوداع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( خذوا عني مناسككم )، وقد ذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة لم يشتغل بشيء غير الطواف بالبيت )، ولذلك قال العلماء: لا يسن للإنسان أن ينصرف إلى أي شيء غير الطواف، حتى كان بعض العلماء يكره للإنسان إذا دخل مكة أن يبحث عن السكن، أو عن المنزل قبل أن يطوف بالبيت؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ابتدأ فحيا مكة وحيا البيت بالطواف، فقالوا: السنة في الحج والعمرة أنه إذا دخل أول ما يبدأ يبدأ بالطواف، وما أقدمه من البلاد البعيدة، وقد نأت داره، وابتعد عن أحبابه وأولاده وفارقهم إلا من أجل طاعة الله تعالى ومرضاة الله تعالى، ومن أجل هذه القربة التي من أعظمها وأجلها أن يطوف ببيت الله عز وجل. فكان من هديه أن ابتدأ صلوات الله وسلامه عليه بالطواف بالبيت، فالسنة -كما نص العلماء- أن لا يشتغل بشيء بعد دخوله مكة غير الطواف بالبيت، فقد توضأ صلوات الله وسلامه عليه ثم دخل من باب بني شيبة، وابتدأ طوافه عليه الصلاة والسلام، هذه هي السنة. إلا أنهم قالوا: إنه قد يرخص للإنسان في أحوال خاصة، كأن يكون معه الضعفة والحطمة، أو يكون معه كبار السن، أو معه الأطفال، أو معه النساء، فهؤلاء إذا احتاج الإنسان أن يرفق بهم في دخولهم فينزلهم أو يتفقد مواضع نزلهم، فهذا لا بأس به من باب الرفق، ولا حرج فيه، ولكن السنة إذا كان الإنسان قوياً جلداً ومعه الرفقة أن يبتدئ -كما ذكرنا- بتحية البيت. فإذا ابتدأ يبتدئ بالطواف. ولو أقيمت الصلاة المفروضة، أو تذكر فائتةً مفروضةً عليه، ولو طاف فات وقتها، فهل يبتدئ بالطواف أو بالصلاة المفروضة؟ ذهب جماهير العلماء إلى أنه يبتدئ بالصلاة المفروضة؛ لأن الصلاة المفروضة قد ضاق وقتها، وقد قال الله عز وجل: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } [طه:14] وفي قراءة: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِلذِكْرَى) وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك )، فلو كان ناسياً لصلاةٍ مفروضة وتذكرها عند دخوله للبيت، أو دخل في آخر وقت الظهر، أو دخل في آخر وقت أي صلاة مفروضةٍ وجبت عليه فإنه يبتدئ بالصلاة المفروضة، وأما النوافل فلا يبتدئ بشيءٍ منها. ولكن اختلف العلماء: لو أنه دخل وعليه فريضة ولم تقم، بمعنى أنك صليت الفريضة في المسجد الحرام، ودخلت بعد صلاة العصر مثلاً، فهل الأفضل أن تبتدئ بصلاة العصر أو تبتدئ بالطواف؟ قالوا: يبتدئُ بالطواف؛ لأن وقت العصر موسع، فيصيب سنة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الابتداء بالطواف، ولأنه إذا طاف وركع ركعتي الطواف خرج من الخلاف، ثم بعد ذلك يصلي العصر، فيكون إيقاعه لركعتي الطواف قبل صلاة العصر، وإن كانت ركعتي الطواف قد استثنيت في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: ( يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أي ساعةٍ شاء من ليل أو نهار ). فيبتدئ بالطواف بالبيت -كما ذكرنا- ويقدمه على سائر الطاعات، إلا إذا أقيمت المفروضة، أو كانت هناك خطبة جمعة، فإذا كانت هناك خطبة جمعة فقد قال بعض العلماء: إنه يتعين عليه أن يجلس لاستماع الخطبة، ولا يبتدئُ بالطواف، وقال بعض العلماء: إن له أن يطوف بالبيت، وينتظر إقامة الصلاة، وذلك لأن الطواف بالبيت ركن عمرته، فلذلك يبتدئُ بالركن، ويقدمه على واجب الاستماع إلى الخطبة. قالوا: ثم بعد فراغه من طوافه يصلي، ثم يجلس وينصت لما بقي من الخطبة، ولا شك أن القول بأنه يجلس من أول الخطبة، فيصلي تحية المسجد، ثم يجلس يستمع الخطبة هو أولى وأحرى، ولكن لو طاف لمكان الركن، وانتظر إقامة الصلاة، فأتم طوافه وأشواطه ثم صلى الفرض فإنه لا حرج عليه؛ لأن الجمعة لم تجب عليه في الأصل، فإذا كان مسافراً فإنها لا تجب عليه، ولذلك لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم جمعة في سفره. الاضطباع كيفيته ومحله [ثم يطوف مضطبعاً]. فإذا دخل البيت فإنه مباشرة يبتدئ بالطواف ويضطبع، والاضطباع: أن يجعل الرداء تحت إبطه الأيمن، ويلقي بطرفيه على عاتقه الأيسر. والاضطباع مأخوذٌ من الضبع وهو العضد، وذلك لأنه ينكشف بحسر الرداء عن العاتق، فقالوا: إنه اضطباع. والأصل في هذا الاضطباع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم في عمرة القضاء، أو القضية، قال كفار قريش: يقدم عليكم محمد وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب، فنزل جبريل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بما قالوه من الشماتة به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه رضوان الله عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ( رحم الله امرءاً أراهم من نفسه اليوم جلداً ) فلما استفتح طوافه صلوات الله وسلامه عليه اضطبع، وذلك لمكان الرمل، ثم خَبَّ وَرَمل الأشواط الثلاثة الأول، فقالوا كما جاء في رواية السير: إنهم ينقزون نقز الظباء، أي: بقوتهم وجلدهم، والسبب في ذلك: أن المدينة كانت فيها الحمى، وكانت مشهورةً بذلك، حتى كان الكفار في الجاهلية إذا انتهوا من التجارة بالشام وأرادوا المرور بالمدينة يعشِّر الرجل منهم تعشير الحمار بخيبر، وذلك من عقائد الجاهلية التي كانوا عليها، كما أشار إلى ذلك الناظم بقوله: واختلقوا التعشير أن يعشر من النهيق بحذاء خيبر فكانوا يعشرون بخيبر خوفاً من حمى المدينة، ويظنون أن ذلك يحفظهم، وكانت المدينة معروفةً بالحمى، فلما قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة أصابت الحمى أصحابه، فدخل على أبي بكر وهو محموم، وعلى بلال رضي الله عنه وهو محموم، وكان أبو بكر يحن إلى مكة وكذلك بلال ، فقال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد -أي: وأشد؛ لأن (أو) بمعنى (الواو)- وصححها، وانقل حماها إلى الجحفة )، فصححها الله عز وجل، ونُقلت الحمى منها بقدرة الله عز وجل إلى الجحفة، فاستجيبت دعوته صلى الله عليه وسلم، فلما أرادوا دخول مكة أراد الكفار الشماتة بهم فقالوا: (وهنتهم حمى يثرب). أي أنهم سيقدمون ضعافاً هزيلين، ويريدون بذلك الشماتة بدين الله عز وجل، وإن كانت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فلما استفتح النبي صلى الله عليه وسلم الطواف كشف عن ضبعه أو عن عضده ثم رمل الأشواط الثلاثة الأول فأراهم الجلد، وكانوا جلوساً جهة الحُجْر، فإذا توارى صلوات الله وسلامه عن البيت بين الركنين مشى هو وأصحابه، فإذا طلع عليهم من جهة الحُجر رملَ صلوات الله وسلامه عليه، وكان يمشي بين الركنين، فهذا الأصل في الرمل، ثم نسخ ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه، أنه أصبح الرمل لجميع الثلاثة الأشواط من أولها إلى آخرها. وهذا الاضطباع إنما يكون في طواف العمرة إذا كان الإنسان معتمراً، ويكون في طواف العمرة في الحج أيضاً، وهذا الطواف ركنٌ بالنسبة لعمرة الحج إذا كان متمتعاً. وكذلك أيضاً طوافه إذا كان قارناً، أو كان مفرداً فإنه يبتدئُ طوافه بالرمل مع الاضطباع في الثلاثة الأشواط الأولى، وذلك في الطواف الأول، أما بقية الأطوفة كطواف الإفاضة ففيه تفصيل، فالذي جاء مفرداً إلى عرفاتٍ مباشرة، ولم يطف قبل فإن من العلماء من نص على أنه يشرع له الرمل في طوافه بالبيت يوم النحر؛ لأنه يكون متحللاً وليس عليه إحرامٌ، ولكنه يرمل في طواف الركن وهو طواف الإفاضة. وأما بالنسبة للمتمتع والقارن، وكذلك المفرد الذي طاف طواف القدوم فلا يشرع لهم أن يرملوا في طواف الإفاضة والركن. أما بالنسبة لهذا الاضطباع فمحله للرجال دون النساء، فهو مشروعٌ للرجل ولا يشرع للمرأة اضطباع، ولا يشرع للنساء رمل، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: (ليس على النساء رمل)؛ لأن المرأة إذا رملت تكشفت، ولذلك لا يجوز لها أن ترمل لا في الطواف ولا في السعي بين الصفا والمروة. النية في الطواف وكيفية ابتداء أشواطه قال رحمه الله تعالى: [يبتدئ المعتمر بطواف العمرة، والقارن والمفرد للقدوم]. أي: يبتدئ فينوي طواف العمرة، إذا كان معتمراً، وهو طواف الركن، وكذلك بالنسبة للحاج ينوي طواف القدوم. قال رحمه الله تعالى: [فيحاذي الحجر الأسود بكله ويستلمه ويقبله]. (فيحاذي الحجر الأسود بكله)، يفيد أنه لا يصح الطواف إلا بالمحاذاة للحجر بجميعه، وإذا تقدم ولو خطوةً واحدة، فحاذى ببعض بدنه، وبقي بعض بدنه في المكان الذي هو ابتداء الطواف لم يصح الشوط الأول، وعليه أن يعيد ذلك الشوط؛ لأنه لابد في الشوط أن يستتم الطواف بالبيت بأجزائه الكاملة، فلابد أن يسامت الحجر بجميع بدنه، فلو سامته ببعض بدنه ككتفه، أو شقه الأيسر، وبقي شقه الأيمن في الجهة التي هي دون الحجر فإنه لا يصح شوطه -كما ذكرنا- ويلزمه أن يعيد ذلك الشوط. فعليه أن يبتدئ ويحاذي الحجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ أول ما ابتدأ فاستلم الحجر وقبله صلوات الله وسلامه عليه، وهذه هي السنة، فالأفضل والأكمل أن يبتدئ باستلام الحجر وتقبيله، والاستلام: أن يضع يده على الحجر كالمسّلم والمصافح. أما بالنسبة للتقبيل فهو معروف، وهو أن يقبل الحجر إذا أمكنه وتيسر له، أما إذا لم يمكنه، وحاذى الحجر فإنه يجزيه. من عجز عن استلام الحجر وتقبيله، وما ينبغي أن يراعيه من يقبل الحجر قال رحمه الله تعالى: [فإن شق قبل يده]. فإن شق عليه أن يستلم الحجر -كما ذكرنا- ويقبله استلمه بيده وقبل يده، والاستلام ثبتت به السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استلمه بيده، وثبت بالأحاديث الصحيحة أنه كان إذا عجز عن التقبيل استلمه بيده وقبل يده، فالسنة أنه إذا عجز الإنسان عن التقبيل بفمه وضع يده وقبل موضعه، وكذلك أيضاً لو كان معه محجنٌ أو عصا، فاستلم به قَبَّل المحجن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلم بالمحجن وقبله صلوات الله وسلامه عليه. وأما لو أشار بيده فإنه لا يشرع له أن يقبلها كما يفعل العامة، وإنما يشرع تقبيل اليد إذا لمس واستلم، أما إذا لم يستلم فإنه لا يقبل، فالتقبيل لا يكون إلا للحجر أو لما استلم به الحجر؛ كيده، أو محجنٍ متصلٍ به، ونحو ذلك، فيقبله. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (228) صـــــ(1) إلى صــ(27) وهل يسجد على الحجر؟ السجود على الحجر أن يدخل رأسه بحيث تكون جبهته على الحجر، نقلها شيخ الإسلام رحمه الله، وثبت وصح عن جمعٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسجدون على الحجر، بمعنى: أنهم يضعون الجبهة على الحجر، وصح هذا عن أبي هريرة و أبي سعيد الخدري وعن عبد الله بن عمر ، و جابر بن عبد الله رضي الله عن الجميع، صحت عنهم بذلك الأخبار، ولذلك نص العلماء على أنه لا حرج على الإنسان أن يفعل ذلك، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستلام والتقبيل، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحجر: (لولا أني رأيت رسول الله صلى عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) وهذا يدل على أن السنة والأفضل أن الإنسان يحرص على تقبيل الحجر، ويتعاطى الأسباب التي لا ضرر فيها على الناس، وهذا إنما يكون للرجال في الغالب، وأما النساء فالغالب فيهن أنهن إذا قبلن الحجر زاحمنَ الرجال وفتنّ العباد، فالأفضل لهنّ أن لا يقتربن من جهة الحجر، خاصةً وأنهنّ قد ينحرفنَ في طوافهن، فإنهنّ إذا انحرفنَ عن الطواف، وأصبح البيت عن يمين المرأة بطل ذلك، ولزمها أن تعيد من أول ذلك الشوط؛ لأنها إذا انحرفت بيدها وجاء البيت عن يمينها -كما سيأتي إن شاء الله- لم يصح ذلك منها، ولزمها أن تعود إلى أول شوطها؛ لأنه لابد وأن يكون البيت عن اليسار، وقد طاف عليه الصلاة والسلام وجعل البيت عن يساره. ثم إذا أراد الإنسان أن يقبل، فلا يزاحم الناس ولا يؤذهم، أما لو زاحمه الغير، وصبر على أذيته فإنه أفضل؛ لما فيه من الصبر على طاعة الله، فلو كان هناك زحام فصبرت ولم تؤذ أحداً حتى تبلغ الحجر، فهذا لا شك أنه أفضل؛ لأن التعب والنصب في طاعة الله يعظم به الأجر للإنسان، وكون الإنسان يرى الزحام عليه ويتركه لغيره فلا إيثار في القُرب، فحرص الإنسان عليه لا شك أنه أفضل وأكمل، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يترك تقبيل الحجر منذُ أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله، ما ترك استلام الركن ولا تقبيل الحجر منذُ أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم ويقبل، ولذلك لما جاءه السائل وقال له: يا أبا عبد الرحمن ! أرأيت إن كان عليه زحام؟ قال: (دع أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله). وهذا يدل على حرصه رضي الله عنه وأرضاه وحبه لهذه السنة، ولكن الإنسان لا يؤذ الغير، فإذا استطاع أن يصل إلى الحجر من دون أذية، ومن دون إضرار فلا شك أنه أفضل وأكمل، وكان ابن عمر يقرأ في الشوط الواحد ما يقرب من خمسمائة آية، وذلك لأنه يصبر على الحجر وينتظر، وقد يكون في شدة الشمس والحر، وأثر عنه رضي الله عنه أنه كان الناس يزاحمونه حتى يدمون أنفه، فيصيبه الرعاف رضي الله عنه وأرضاه، وهو صابرٌ لا يفارق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بواجب، ولكن حبه للسنة، وحبه للتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل من الصعب عنده أن يجاوز الحجر وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل شيئاً فيه فيجاوزه دون أن يفعله، فهذا من باب الأفضل، ولكن إذا كان الأمر فيه مشقة، أو فيه إضرارٌ بالغير فلا؛ فإنه لا تلتمس السنن بما فيه محظورٌ شرعي، وخاصةً إذا كان على الإنسان فيه فتنة. فالمقصود: أنه يحرص الإنسان على تقبيل الحجر، وإذا قبله فإنه يراعي الثبات في الموضع، يثبت في موضعه فيقبل، ثم بعد ذلك ينصرف حتى يستتم الطواف بالبيت في شوطه؛ لأنه في بعض الأحيان إذا قبل فإنه ربما ينحرف فيصرف بجذعه إلى ما بعد موضع الاعتداد ببداية الطواف، فحينئذٍ يلزمه أن يجعل البيت عن يساره، حتى يقع طوافه كاملاً. ومن الأخطاء التي قد يقع فيها بعض الناس: أنه إذا جاء لتقبيل الحجر وهو في حج، أو طواف ركن عليه في عمرة، ونحو ذلك، فإنه يصعد على الحجر الذي على البيت، وهذا الحجر من البيت، فيبطل شوطه؛ لأن الحجر الذي هو الشاذروان -وهي الزيادة الموجودة في أسفل البيت من البيت- وهو مأمورٌ بالطواف بكل البيت، فصعوده على هذا الجزء من أجل التقبيل -خاصة إذا كان عليه طواف ركن- يفوّت هذا الموضع، وقد نص جماهير العلماء رحمة الله عليهم على أنه لو ترك خطوةً واحدة من الطواف لم يصح؛ لأنه عبادة كالصلاة ينبغي أن تؤدى بصفتها مثل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا الجزء من البيت؛ فلابد وأن يجعله في طوافه، بحيث يطوف به كاملاً، أما لو رقى عليه، ومشى فإنه في هذه الحالة كأنه لم يطف بالبيت كاملاً لهذا النقصان. الإشارة باليد إلى الحجر وما يقوله، وأين يكون البيت منه؟ قال رحمه الله تعالى: [فإن شق اللمس أشار إليه ويقول ما ورد]. أي: إن شق عليه اللمس أشار إليه، فيشير إليه بكفه، ويقول ما ورد، والذي ورد هو ما في مستدرك الحاكم: ( اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم )، فهذا الذي ورد في الحاكم ، وسامح فيه العلماء رحمة الله عليهم أن يقوله في بداية طوافه. ثم بعد ذلك يدعو بما تيسر له من خيري الدنيا والآخرة، فيسأل الله عز وجل صلاح دينه ودنياه وآخرته، ويدعو لمن له حقٌ عليه كوالديه وذرياته وأهله وزوجه، يدعو لهم بالصلاح والخير، فيسعى بالدعاء، وسؤال الله عز وجل خيري الدنيا والآخرة. قال رحمه الله تعالى: [ويجعل البيت عن يساره]. أجمع العلماء على أنه لا يصح الطواف إذا جعل البيت عن يمينه، مع أن اليمين أشرف من اليسار، واعتبر بعض العلماء بأن اليسار فيه القلب، وأشرف ما في الإنسان قلبه؛ لما فيه من توحيد الله عز وجل، فهو أشرف ما في الإنسان، قالوا: لذلك يكون إلى جهة اليسار لمكان القلب، فهذا اعتبار لبعض العلماء، ولكن هذه أمور تعبدية، ولا يتكلف في بحث مثل هذه الأمور أو السؤال عنها، إنما يطوف على اليسار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف عن اليسار، والشرع أمره أن يطوف بهذه الصفة المخصوصة، فيتأسى بما ورد فيجعل البيت عن يساره. مسائل في الطواف ينبغي مراعاتها وفي الطواف مسائل، أهمها: أن الطواف يختلف بحسب الأحوال، فتارةً يكون طواف ركن، وتارةً يكون طوافاً واجباً، وتارةً يكون طواف نافلة. فطواف الركن: كأن يكون طواف عمرة، وكذلك طواف الركن في الحج، كطواف الإفاضة. ويكون الطواف واجباً كطواف الوداع في الحج. ويكون الطواف نافلةً كسائر الأطوفة التي يقصد بها التقرب إلى الله عز وجل في غير النذر. المسألة الثانية: إذا طاف فإنه ينبغي أن يدور بالبيت كاملاً، أي: أن يدور بجسمه كاملاً بالبيت، ويشترط أن يكون هناك استقبالٌُ للبيت، قالوا: الطائف بالبيت قبلته أن يجعل البيت عن اليسار، وعلى هذا فلو انحرف أثناء طوافه فأصبح البيت عن يمينه، أو انحرف لتقبيله فأصبح البيت عن يمينه، فلابد وأن يرجع من الموضع الذي انحرف فيه، حتى يستتم طوافه بالبيت عن اليسار. المسألة الثالثة: أن الطواف بالبيت لا يصح إلا داخل الحرم، فإذا طاف خارج الحرم -كأن يطوف خارج حدود الحرم- فإنه يبطل طوافه؛ لأن الله تعالى قال: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [الحج:26] فهذا يدل على أن الطواف إنما يكون في المسجد، وعلى هذا إجماع العلماء رحمة الله عليهم: أن الطواف لا يصح إلا في المسجد، فلو طاف بسيارةٍ، أو طاف مثلاً بقدميه خارج بناء المسجد فإنه لا يصح طوافه بإجماع العلماء. ولو طاف في الدور الثاني فإنه يجزيه؛ لأنه طائفٌ بالبيت، فالطواف في الدور الثاني كالطواف في الدور الأسفل؛ لأن أعلى المسجد آخذٌ حكم أسفله، ولذلك لو اعتكف إنسانٌ فصعد إلى سطح المسجد فإنه بالإجماع لم يبطل اعتكافه، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( من اغتصب قيد شبرٍ من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين )، فجعل المحاذي من أسفل له حكم الأعلى، وكأنه اغتصب الأرض بما سفُل، قالوا: كذلك أيضاً له حكم الأعلى، وعليه قالوا: إن الإنسان إذا طاف في سطح المسجد في الدور الثالث، أو طاف في الدور الثاني فإن طوافه صحيح؛ لأنه قد طاف بالبيت داخل البيت، وهو آخذٌ حكم من هو بداخل المسجد. عدد أشواط الطواف، وحكم النقص منها، أو الإضافة عليها قال رحمه الله تعالى: [ويطوف سبعاً]. قوله: (ويطوف سبعاً). أي: ويطوف سبعة أشواط كاملة، فلو انتقص منها خطوةً واحدة فإنه لم يصح طوافه حتى يتم هذه الخطوة، إذا كان في الداخل أمكنه التدارك، وإلا بطل طوافه، ولزمته الإعادة إذا خرج من المسجد. فإذا انتقص من هذه السبعة شوطاً، أو نصف الشوط أو قدراً من شوط فإنه يقضيه ما دام في المسجد، ما لم يطل الفاصل المؤثر، وقال بعض العلماء: يجوز له القضاء ما دام في المسجد، وهذا قوي، ثم إذا لم يقضه وخرج من المسجد بطل طوافه، ولزمه أن يرجع ويعيد الطواف ويستأنف، وحينئذٍ يقولون: يتدارك ما دام في المسجد، فإذا خرج من المسجدٍ قطع التدارك ولزمه الاستئناف. فيطوف سبعة أشواط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعة أشواط، وهذا في جميع الأطوفة، السنة فيها أن تكون سبعة أشواط. أما في طواف الركن فلا إشكال، وكذلك الواجب، لكن لو أن إنساناً أراد أن يجمع السبع إلى سبعٍ أخرى في نافلة، كأن يطوف سبعاً؛ ومن بعدها سبعاً، ومن بعدها سبعاً، ثم يجمع ركعات الطواف سرداً وراء بعضهن، كأن يطوف السبع الأولى، ثم يتبعها بنية السبع الثانية، ثم يتبعها بالسبع الثالثة، ثم يصلي ست ركعات، فقد أُثر عن بعض السلف رحمهم الله أنه كان يرخص في ذلك، ويفتي بأنه لا حرج أن يجمع الأطوفة وراء بعضها، خاصةً حين يكون هناك عذر، كأن يكون بعد صلاة العصر أو عند طلوع الشمس أو عند غروبها في ساعة النهي المجمع عليها، ويكون طوافه نافلة، فلا يحب أن يصلي في هذا الوقت، فيطوف سبعاً ثم يطوف من بعدها سبعاً، حتى يستتم الغروب ويدخل وقت الإذن فيجمع الصلوات. وكذلك أيضاً قالوا: قد يؤخر ركعتي المقام، كأن يطوف بعد الفجر، ويغلب على ظنه أنه إذا ارتفع النهار يفرغ الموضع الذي خلف المقام، فيريد -مثلاً- فضيلة الصلاة في هذا الموضع، فحينئذٍ قالوا: لا حرج أن يجمع السبع إلى السبع، ويضم السبع إلى السبع، ولو تكررت شفعاً أو وتراً. الرمل في الطواف، صفته ومحله قال رحمه الله تعالى: [يرمل الآفاقي في هذا الطواف ثلاثاً ثم يمشي أربعاً]. أي: يرمل الآفاقي في هذا الطواف ثلاثاً، لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خبَّ الأشواط الثلاثة الأول، ومشى باقي الطواف )، وهذه -كما قلنا- سنة الرَّمَل، والرمل للعلماء فيه قولان: القول الأول: قال بعض العلماء: هو تقارب الخطى مع هز المناكب. والقول الثاني: أن يباعد في الخطى ولا يصل إلى درجة السعي، ولا يهز منكبه. وظاهر قولهم: (إنهم ينقزون نقز الظباء) -كما جاء في السير- أن هز المنكب فيه أوجَه، وهو أقوى وأدل على القوة والجلد، وكان المقصود من الرمل إظهار القوة والجلد، والسنة -كما ذكرنا- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمل الثلاثة الأشواط الأولى في عمرة القضاء أو القضية والتي كانت بعد عام من الحديبية، فلما فتح الله عليه مكة، وجاء بعد فتحها في عمرة الجعرانة منصرفه من غنائم الطائف، اعتمر من الجعرانه صلوات الله وسلامه عليه، فخبَّ الأشواط الثلاثة كاملة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأرضاهما، فقال العلماء: إنه لما شُرع الرمل في أول الأمر كان يمشي بين الركنين -بين الركن اليماني والحجر-، ولكن بعد أن زال السبب رمل الأشواط الثلاثة كاملة، ولذلك قال: ( من الحجر إلى الحجر )، أي: أن رمله كان كاملاً صلوات الله وسلامه عليه. فيرمل الثلاثة الأشواط الأولى متتابعة، ولا يمشي بين الركنين، وهذا هو أصح القولين، أن المشي بين الركنين منسوخ، وأن السنة إذا رمل أن يستتم الرمل للثلاثة الأشواط كاملة، فإذا فعل ذلك فهي السنة، وهذه الثلاثة الأشواط يصحبها الاضطباع كما ذكرناه. قوله: [ثم يمشي أربعاً]. وهي الأربعة الأشواط المتبقية. ازدحام الفضائل في الطواف وما يقدم منها إذا كان قربك من البيت يمنعك من الرمل للزحام، وبعدك عن البيت تتمكن معه من الرمل، فهل الأفضل القرب من البيت مع فوات الرمل؟ أو البعد عن البيت مع تحصيل الرمل؟ إن هذه المسألة تعرف عند العلماء بازدحام الفضائل، وقد تزدحم الفضائل وتزدحم السنن المؤكدة، وقد تزدحم الفرائض، فقال بعض العلماء -كما اختاره ابن عقيل -: الأفضل أن يبتعد عن البيت لكي يرمل؛ لأن فضيلة الرمل مؤكدة في الطواف، حتى أوجبها بعض العلماء، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم رمل وقال: ( خذوا عني مناسككم )، فقالوا: إنها متصلة بالعبادة، وفضيلة القرب من البيت متصلة بالمكان لمكان العبادة، والمتصل بذات العبادة يقدم على المتصل بزمانها ومكانها، وتوضيح ذلك أنه إذا رمل فإن الرمل متصل بذات الطواف، ومن نفس أفعال الطواف، ولكن القرب من البيت متصلٌ بالمكان -بمكان العبادة- فاختار بعض العلماء أنه يبتعد من البيت للرمل، وهذا ما يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وأشكل على هذا القول أنهم قالوا: لو قلنا بهذا -أي: تفضيل ما اتصل بالعبادة على ما اتصل بمكانها- لساغ للرجل -كما يقول ابن عقيل رحمه الله تعالى- أن يتأخر عن الصف الأول لفضيلة التورك! فإن الإنسان في الصف الأول في الرباعية لا يستطيع أن يتورك، فالتورك فضيلةٌ متصلةٌ بالعبادة ذاتها، والصف الأول فضيلةٌ متصلةٌ بالمكان، فقالوا: لو قلنا بهذا فإنه يلزم -بناءً عليه- أن يتأخر إلى الصف الثاني، ولم يقل أحد: إنه يشرع التأخر إلى الصف الثاني من أجل التورك. وقد أجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن هذا بأجوبة نفيسة. أولها: أن الصف الأول من اللازم على المكلف أن يتمه بخلاف القرب من البيت، ولم يرد النص بالقرب من البيت وتأكُّدِ القرب أو الدعوة إليه، وإنما هو فُضِّل بصورة العبادة، وفرقٌ بين ما ورد النص به، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( يتمون الصف الأول فالأول )، ونص العلماء على أنه لو رأى في الصف الذي أمامه فرجة قبل إحرام الصلاة ولم يسدها أنه آثم؛ لأنه ترك المأمور، ولذلك قالوا: إنه يأثم بتأخره عن هذه الفرجة، بخلاف القرب من البيت. الأمر الثاني: أن الصلاة متصلةٌ بالجماعة في المسجد، فلابد من إكمال الصفوف، فاتصل الناس بعضهم ببعض، ولكن الطواف ليست له صفةٌ معينة تعين على الناس أن يتصل بعضهم ببعض، فقال: إن هذه الفضيلة -أعني: فضيلة البعد عن البيت مع الرمل- آكد من فضيلة التورك في الصف الأول، فقالوا: يترك التورك في الصف الأول ولو أنه متصل، ويكتب له أجره بالنية. استلام الركن، وماذا يفعل من عجز عنه؟ قوله: [يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة]. يستلم الحجر والركن اليماني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني، وهل إذا عجز عن استلام الركن اليماني يشير إليه أو لا؟ جمهور العلماء على أنه لا يشير إذا عجز عن استلامه، وأنه يكفيه أن يقول الدعاء بين الركنين: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة:201]، وأنه لا يشير بيده وإنما تختص الإشارة بالحجر. وقال بعض السلف -وهو أيضاً عن الإمام مالك إمام دار الهجرة- إنه لا بأس أن يشير بيده إذا عجز؛ لأن كلا الركنين من البيت، ولما عجز عليه الصلاة والسلام عن استلام الحجر أشار بيده صلوات الله وسلامه عليه، ولكن لم يثبت عنه أنه عجز عن استلام الركن اليماني، فقالوا: إنه يغتفر في هذا لو أشار بيده. والأمر ما دام أن له وجهاً، وقال به بعض السلف فهو خفيف، فلو أنه أشار بيده لا ينكر عليه، ولكن قالوا: الأفضل والأكمل أنه لا يشير بيده، فإن أشار بيده فلا بأس، فيستلم الركن بيده، فإن لم يستطع لزحامٍ، ونحوه تركه كما ذكرنا. مما يبطل به الطواف فعلاً أو تركاً قال رحمه الله تعالى: [ومن ترك شيئاً من الطواف، أو لم ينوه، أو نسكه، أو طاف على الشاذروان، أو جدار الحجر، أو عريان أو نجس لم يصح]. قوله: [ومن ترك شيئاً من الطواف]. في هذه الجمل يشير المصنف إلى أمورٍ لابد من توفرها للحكم بصحة الطواف. أولها: أن الطواف لابد وأن يكون كاملاً، فإذا ترك شيئاً من الطواف -وشيئاً نكرةٌ- لم يصلح طوافه، فلو ترك -كما قالوا- خطوةً واحدة فإنه حينئذٍ لا يصح ذلك الشوط حتى يتم هذه الخطوة، فإذا لم يتمها بطل طوافه كله إن خرج من البيت، ولزمته الإعادة كما ذكرنا. والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف السبعة الأشواط كاملةً، وعليه فإنه إذا انتقص شيئاً منها لم يطف كما أمره الله تعالى، ويلزمه حينئذٍ قضاء هذا الشوط، أو التدارك إذا أمكنه التدارك. ويحصل التدارك لو كان الشخص -مثلاً- في آخر شوط، وبدل أن ينتهي مقابلاً للحجر انصرف قبل أن يستتم الطواف، فبقيت له خطوتان، أو ثلاث، أو أربع، فحينئذٍ يرجع من الموضع الذي انصرف منه ثم يتمه، فإذا فعل ذلك صح طوافه، وأما إذا لم يرجع، ولو كان القدر خطوة واحدة -كما ذكرنا- فإنه حينئذٍ يبطل الطواف إن خرج من البيت. قوله: [أو لم ينوه]. من شروط صحة الطواف: النية، قال تعالى: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } [الزمر:2]، والطواف بالبيت من العبادة والقربة، ولا يمكن له أن يتحقق إلا بالنية، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إنما الأعمال بالنيات )، أي: إنما اعتبار الأعمال وصحتها بالنية، فإذا لم ينو الطواف لم يصح طوافه، أي: لم يصح على الوجه الذي يريده، فلو دخل لطواف عمرة، أو دخل لطواف ركن في الحج ناسياً، فحينئذٍ لا يجزيه ذلك، وتلزمه الإعادة. قوله: [أو نسكه]. كشخصٍ أحرم إحراماً مبهماً، ولم يعين إحرامه قبل الطواف بالبيت؛ لأنه يصح -على أحد أقوال العلماء كما اختاره المصنف وغيره- أن يحرم بالعمرة والحج إحراماً مبهماً، ثم يعين قبل أن يبتدئ الطواف، فإذا ابتدأ الطواف ولم يعين فحينئذٍ لا يقع طوافه عن الفرض ، ويبطل فرضاً، ويلزمه أن يعيده بعد تعيينه. قوله: [أو طاف على الشاذروان]. هي قمة قدرها ثلاثة أذرع ارتفاعاً من الأرض من البيت، وهي من البيت، ولابد لهذا القدر أن يطوف الإنسان عليه بجسمه، بحيث لو رقى عليه فإنه لم يستتم الطواف على الوجه الشرعي، فلا يصح طوافه من هذا الوجه. قوله: [أو جدار الحِجْر]. طبعاً الحجر ليس كله من البيت، وإنما قيل: قدر ثلاثة أذرع، فلابد أن يكون طوافه من وراء الحجر، فلو دخل بين الحِجْر وبين الكعبة لم يصح طوافه. وقال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه: يصح طوافه، والصحيح أنه لا يصح، كما هو مذهب الجمهور، والدليل على أنه لابد وأن يطوف من ورائه: قوله سبحانه وتعالى: { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج:29]، فقال: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، أي: القديم، إشارةً إلى أن العبرة ببناء إبراهيم عليه السلام، فلما تركت قريش من البيت قدر هذا، وهو من البيت، فإن جاء الطائف وطاف فيما بين هذا القدر بين الحجر وبين البيت، فإنه لم يطف بالبيت العتيق الذي هو بناء إبراهيم عليه السلام، الذي وضع بناءه عليه، وإنما تقاصرت النفقة بقريش، فكان بناؤها ناقصاً. فإذا طاف فإنما طاف بالبيت بالبناء، ولم يطف بالبيت العتيق، وعلى هذا قالوا: إن الله عز وجل نص على (العتيق)؛ تنبيهاً على استتمام الطواف بالبيت على ما كان عليه من بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام. قوله: [أو عريانٌ]. أي: إن طاف بالبيت عريان، فإنه لا يصح طوافه، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه بعث مناديه ينادي -في سنة تسع-: ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عُريان. فلا يصح الطواف بالبيت والإنسان عارٍ، بل لابد من أن يكون مستتراً، فإذا طاف عارياً لم يصح طوافه. وعلى هذا فلو انكشفت عورته أثناء الطواف ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: إن انكشفت وتدارك؛ لغلبة الناس والحطمة والزحام، كأن تكون حطمةٌ من الناس وغلب على أمره، أو كان ضعيفاً، أو مريضاً فغلب على أمره، فانكشفت عورته أثناء الطواف، وتدارك فستر مباشرةً بعد الانكشاف، صح طوافه ولم يؤثر. وأما إذا ترك وتساهل، فإنه لا يصح طوافه كما ذكرنا، فلا يصح طوافه بالبيت إلا إذا استتر، فلابد وأن يكون ساتراً لعورته. قوله: [أو نجس لم يصح]. هو في الحقيقة (متنجساً)؛ لأن المؤمن لا ينجس، أي: إن طاف بالبيت متنجساً؛ لأن المؤمن لا ينجس، ولكنهم يقولون: والحال أنه نجس، أو وهو نجس، لكن على العموم فلفظ (متنجس) أنسب؛ لأن المؤمن لا ينجس، وإنما يقال: متنجس. والمتنجس: هو الذي عليه نجاسة في ثوبه، أو بدنه، فإذا كان في ثوبه نجاسة كرعافٍ، أي: إن رعفَ الدَمَ فنزل على ثوبه الذي هو إحرامه، أو نزل الدم على بدنه نفسه، فحينئذٍ لا يصح طوافه، إلا إذا كان معذوراً، كالشخص الذي معه الدم مسترسل، أو كان قدر الدم في حال العذر وهو ما دون الدرهم، أي: قدر الهللة القديمة فما دونها فهو معفوٌ عنه، فإذا كان الدم متفرقاً أو مجتمعاً بقدر الدرهم البغلي -وهو الدرهم الذي كان موجوداً في القديم، يقال له: البغلي، وهو يعادل الهللة القديمة الصفراء، وأقل من القرش الموجود في زماننا بقليل- فهو معفو عنه، فلو طاف وعليه هذا القدر فإنه بالإجماع يصح طوافه؛ لأن اليسير من الدم مستثنى إجماعاً. أحكام ركعتي الطواف قال رحمه الله تعالى: [ثم يصلي ركعتين خلف المقام]. أي: إذا انتهى من طوافه صلى ركعتين خلف المقام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه، جاء إلى المقام، وصلى عليه الصلاة والسلام ركعتين، قال تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة:125] فقوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) قيل: هو المقام، والسنة لكل من طاف بالبيت أن يصلي خلفه، ويجعله بينه وبين البيت، فقد كان المقام في القديم متصلاً ملتصقاً بالبيت، ثم نظراً لوجود الأذية بالطائفين في الزحام أُخِّر عن البيت، فإذا صلى وجعل المقام بينه وبين البيت، فهذه هي السنة، فلو كان هناك زحام حول المقام فإنه يتأخر، حتى ولو في أروقة المسجد، فيجعل المقام بينه وبين البيت. وقال بعض العلماء: إذا تأخر بحيث لا يستطيع أن يصلي في جهة المقام إلا في الأروقة فالأفضل أن يصلي في صحن المسجد، ولا يتأخر إلى الأروقة، والسبب في ذلك أن قديم المسجد أفضل مما هو بعد؛ لقوله تعالى: { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ } [التوبة:108]، خاصةً وأن هناك قولاً يقول: إن المقام هو مكة كلها، فإذا كان مصلياً، أو صلى في أي موضع من مكة أجزأه، لذلك يقولون: إنه يصلي في أي مكان من صحن المسجد، والأفضل والسنة أن يجعل المقام بينه وبين البيت على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فيصلي هاتين الركعتين، يقرأُ في الأولى: (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية: (قل هو الله أحد)، وهما سورتا الإخلاص؛ لاشتمالهما على أعظم الأشياء وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، التي من أجلها أنزل كتبه، وأرسل رسله، وهو توحيد الله عز وجل، ولذلك قرأها عليه الصلاة والسلام في صلاته كما ثبت في الحديث الصحيح عنه، يقرأ في الركعة الأولى (قل يا أيها الكافرون)، وهي براءة من عبادة غير الله عز وجل، ومن كل دينٍ سوى دين الله، ويقرأ في الثانية بـ(قل هو الله أحد) التي جمعت مقاصد التوحيد، ففيها النفي والإثبات، فقوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ } [الإخلاص:1-2] هذا إثبات، وقوله تعالى: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص:3-4] هو النفي، وهذا هو أصل شهادة التوحيد (لا إله إلا الله)؛ لأنها تشتمل على النفي، وعلى الإثبات، وهما أساس التوحيد. ولا شك أن الحج والعمرة إنما شرعهما الله تعالى من أجل توحيده، فهذه المشاعر والمناسك ما أوجدها الله تعالى إلا من أجل الدلالة على التوحيد، ولذلك يقرأ الإنسان بهاتين السورتين، ويحرص على قراءتهما مستشعراً لمعانيهما العظيمة؛ لأن المقصود من حجه وعمرته أن يرجع بزاد التوحيد والإخلاص لله عز وجل، وينظر كيف أن هذه البنية أمر الله بالطواف بها، ولو طاف بغيرها فإنه لا يجوز، ومحرمٌ عليه، وقد يصل إلى الشرك والعياذ بالله، وهذا يدل على أنه عبدٌ مأمور تحت أمر الله عز وجل، وتحت حكمه، لا يقدم ولا يؤخر إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، فيقرأ بهاتين السورتين العظيمتين مستشعراً لما فيهما من معاني التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (229) صـــــ(1) إلى صــ(27) الأسئلة إدراج نية ركعتي الطواف مع نية السنة الراتبة السؤال هل تندرج ركعتي الطواف تحت السنن الرواتب؟ الجواب لقد اختلف في ركعتي الطواف، فقال بعض العلماء: إنها واجبة إذا كانت في طوافٍ واجب، كأطوفة الركن، والأطوفة الواجبة في النذر، وطواف الوداع، ونحوها، وحينئذٍ لا تندرج؛ لأن الواجب لا يندرج تحت السنة كما لا يخفى. وعلى القول بأنها ليست بواجبة، فحينئذٍ يسوغ أن يقال باندراجها من جهة كون المقصود أن يقع تنفله بين أذان الظهر وإقامته بالأربع، فإذا صلاها ناوياً الركعتين القبلية في الظهر من الأربع، أو الركعتين البعدية في الظهر من الأربع ساغ ذلك وأجزأه، والأولى ألا يفعل ذلك والله تعالى أعلم. حكم الإشارة باليد إلى الحجر عند الفراغ من الشوط السابع السؤال إذا انتهى الطائف من طوافه في الشوط السابع، فهل يسن له أن يرفع يده مشيراً إلى الحجر؟ أم يمضي ولا يشير؟ الجواب هذه المسألة مبنية على مسألة المحاذاة للحجر: فهل الإشارة عند المحاذاة للحجر من أجل المحاذاة أو من أجل استفتاح الطواف؟ فقال بعض العلماء: المحاذاةُ عند ابتداء الحجر من أجل استفتاح الطواف، كرفع اليدين للتكبير استفتاحاً للصلاة، فكلما استفتح طوافاً يرفع يديه، وعلى هذا الوجه فإنه إذا أتم الطواف لا يرفع يديه. وعلى هذا الوجه أيضاً أنه إذا رفع يديه عند مواجهة الحجر إنما ينوي بها أن يكون استفتاحاً لطوافه. وأما الوجه الثاني فقالوا: إن رفع اليدين شرع من أجل أن يكون بدلاً عن استلام الحجر، فإذا كان الإنسان يستطيع استلام الحجر، أو تقبيله، فحينئذٍ لا يشير، وأما إذا لم يستطع تقبيله، ولا استلامه فإنه يشير بالمحاذاة، وعلى هذا الوجه ففي آخر الشوط السابع إن استلم فإنه لا يشير، وأما إذا لم يستلم فإنه يشير لمكان المحاذاة، وهذا يشهد له قوله: ( كان يستلم الحجر، فإذا لم يستطع استلمه بمحجنٍ فقبله، فإذا لم يستطع أشار بيده )، فجعله مركباً على المحاذاة عند عدم الاستطاعة للتقبيل والله تعالى أعلم. حكم الطهارة في الطواف السؤال ما حكم الطهارة في الطواف؟ الجواب تجب الطهارة للطواف على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين كما في الصحيحين، لما نفست وحاضت، وقال: ( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ). وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما والذي اختلف في رفعه ووقفه وصح موقوفاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الطواف بالبيت الصلاة )، فقوله: (الطواف بالبيت الصلاة) يدل على أنه آخذ حكم الصلاة، ولذلك لا يطوف وهو متلبسٌ بنجاسة، وكذلك أيضاً يطوف وهو مستقبلٌ للبيت بالصفة التي ذكرناها، فقالوا: إنه يشترط له الطهارة، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قالوا فيه: قد صح موقوفاً، وإذا صح موقوفاً، فإن ابن عباس رضي الله عنهما -وناهيك به علماً وفقهاً في الدين- دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )، وهو قول صحابي جليل له مكانته في الفقه، مع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة في حديث عائشة وذلك يقوي القول القائل بوجوب الوضوء للطواف بالبيت. ومما يؤكد هذا: أن الطواف بالبيت تتبعه أو يكون بعده صلاة الركعتين، ولا يمكن أن إنساناً يطوف بالبيت وهو محدث، ثم يذهب ويتوضأ من أجل أن يصلي الركعتين، فيفصل بين طوافه وسعيه بهذا الفعل الغريب، ولذلك قالوا: إنه إذا لم تدل الأدلة الصريحة فإن القرائن تقوي القول القائل بأنه لابد من الطهارة للطواف بالبيت والله تعالى أعلم. طواف حامل النجاسة السؤال من طاف بالبيت وهو يحمل النجاسة، كمن يحمل طفلاً صغيراً قد أحدث، فما حكم طوافه؟ الجواب أما بالنسبة لحمل الطفل، فحمل النجاسة يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن تتصل بالندى، كأن يكون حاملاً لطفلٍ فبال الطفل فندى على لباس الإنسان، فحينئذٍ يتنجس مَنْ حَمَله، وعلى هذا يحمل حديث فاطمة رضي الله عنها لما أتت بابنٍ لها صغير وأجلسته في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فبال على الرسول صلى الله عليه وسلم فرشه بماء، فهذا يدل على أن النجاسة تسري بالندى والرطوبة. وإذا كانت على هذا الوجه تكون النجاسة مؤثرة، ولا يصح له الطواف إذا حمله وبال وسرى البول إليه، ولابد له أن يتطهر، فينحرف عن الطواف، ويغسل ما به من علاقة النجاسة ويبني على ما مضى من طوافه، ولا حرج عليه في ذلك كما لو رعف في صلاته. وأما الصورة الثانية فهي: أن تكون النجاسة منفصلة، كأن يحمل طفلاً وفيه نجاسةٌ كبولٍ، ولكنه في حفاظةٍ، أو نحو ذلك، فلا تسري من المحمول إلى من يحمله، فهذه فيها خلافٌ معروف: هل حمل النجاسة يؤثر أو لا؟ فقال بعض العلماء: من حمل النجاسة فإن صلاته صحيحةٌ، إذا لم يكن ندىً ولا رطوبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة ، والغالب في الصبية ألا تسلم، فقالوا: نظراً للغالب أنها لا تسلم وقد حملها عليه الصلاة والسلام. وقال بعض العلماء: حمل النجاسة يؤثر، فإذا لم تكن لها رطوبة، وحملها الإنسان واتصلت به وكانت على عاتقه، أو على رأسه، أو حملها بين يديه وصدره، فإنها تؤثر، والاحتياط ألا يفعل ذلك، إلا في حالة الاضطرار والحاجة، فلو حمل صبياً لا يستطيع أن يتركه، ويخاف عليه أن يؤذى، أو يخاف عليه أن يؤخذ، فحينئذٍ يصح له أن يطوف وهو حاملٌ له، مع وجود نجاسته لمكان الضرورة، كالمستحاضة إذا غلبها الدم، ولم تستطع أن تنفك عنه والله تعالى أعلم. مكان استئناف الشوط بعد قطعه لنحو أداء الصلاة السؤال إذا أوقف الطواف لأداء الصلاة، فهل يعيد الشوط من جديد؟ أم يبدأ من مكانه؟ الجواب إذا قطع الطواف من أجل الصلاة فحينئذٍ يصلي ثم يعود، وللعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: يرجع إلى بداية الشوط، ويعيد هذا الشوط الذي قطعه ولو بقيت منه خطوة؛ لأنه ألغي بالفصل. ومنهم من يقول: يرجع للموضع الذي قطع منه، وهذا هو الأصح والأقوى، والسبب في ذلك أن قول أصحاب القول الأول -الذين يقولون بإلغاء الشوط- ضعيف؛ لأنهم لو قالوا بهذا المعنى للزمه أن يعيد الطواف كله، فكونهم يقولون: يعود من أول الشوط، في حين يبقون بقية الأشواط، ويرون الفاصل غير مؤثر، يلزمهم ألا يلغوا ما مضى من الشوط، فكما أنهم لم يلغوا ما مضى من الأشواط يلزم منه ألا يُلغى ما مضى من الشوط نفسه؛ لأن الأجزاء تأخذ حكم ما تقدمها من الأشواط، فإذا قلت: إنه فاصلٌ مؤثر، أثر على الاثنين، أما أن تقول: فاصلٌ مؤثرٌ في الشوط، وغير مؤثر على بقية الأشواط، فهذا تفصيلٌ بدون دليل، وعلى هذا فإنه إذا قطع أثناء الشوط فإنه يعيد من الموضع الذي قطع منه، لكن الأفضل والأكمل أن يعيد من أول الشوط والله تعالى أعلم. الفصل بين الطواف والسعي السؤال ما حكم الفصل بين الطواف والسعي؛ لقضاء حاجةٍ من حوائجه؟ الجواب هذه المسألة في الحقيقة كنت أتورع عنها ولا زلت، فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما فصل بين طوافه وسعيه، صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان الإنسان يريد السنة إذا اعتمر، أو أدى عمرته، فإنه لا يفصل، هذا إذا كان الفاصل بالخروج من المسجد، أما إذا كان الفاصل في داخل المسجد كأمر احتاج إليه، واضطر إليه ولم يتباعد، فالأمر يسير، كشخصٍ -مثلاً- بعد الطواف تعب والده، أو تعبت والدته، أو تعب أولاده، وجلس معهم يرفق بهم، وييسر لهم، أو احتاجوا في داخل المسجد أن يسقيهم، أو نحو ذلك، فالأمر يسير، لكن أن إنساناً يطوف، ثم يذهب ليستريح في نزله، فيطوف في أول النهار، ويأتي في آخر النهار يسعى، أو يطوف في أول النهار، ويأتي من اليوم الثاني يسعى، فتقصده هذه المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوقف فيه، وكان بعض العلماء يرى أن الطواف يلغى، ولابد من صلة الطواف بالسعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى بعد طوافه، ولم يفصل بين طوافه وسعيه إلا بأمرين: أحدهما شربه لزمزم كما جاء في مسند الإمام أحمد. والثاني: صلاته صلوات الله وسلامه عليه للركعتين مع تقبيله للحجر بعدها، هذا هو السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفاصل، ولكنه فاصل من جنس العبادات، وحتى شربه لزمزم إنما هو من العبادة؛ لأنه قصد به العبادة، وعلى هذا فإن الذي يظهر -والعلم عند الله- أنه يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يفصل والله تعالى أعلم. الدعاء على الصفا والمروة السؤال ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو وهو على الصفا والمروة دعاءً طويلاً، ولكن هل يحصل تحقيق السنة بذلك القدر الطويل؟ أم يحصل بمجرد الدعاء، ولو لفترةٍ وجيزة، لاسيما عند الزحام؟ الجواب في الحقيقة السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قرب من الصفا تلا الآية، ثم صعد وكبر، ثم هلل قائلاً: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا، ثم رجع ثانيةً وكبر ثلاثاً، وهلل ودعا، ثم رجع ثالثةً وكبر ثلاثاً، وهلل ودعا، فأصبح تكبيره تسعاً، وتهليله ستاً، ودعاؤه عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، هذه هي السنة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل على المروة مثل ما فعل على الصفا، وهذا الموضع كان بعض أهل العلم يقول: إنه من المواضع الفاضلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تحرى فيه الدعاء، وأكثر فيه الدعاء، وجعل فيه أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، بالثناء على الله عز وجل بتوحيده وتهليله سبحانه وتعالى. وقد فرج الله عز وجل عن هاجر في هذا الموضع -الذي هو بين الصفا والمروة-، وهي تسعى وتسعى، فقال: يجتهد في هذا الموضع قدر استطاعته، ويطيل. وكان بعض العلماء من مشايخنا -رحمة الله عليهم- ربما يجلس فوق نصف الساعة إلى قرابة الساعة على الصفا، وعلى المروة مثله، حتى نجلس الساعات الطويلة وهو في سعيه، { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت:35]. فمن يعرف فضل وشرف الوقوف بين يدي الله، ويجد لذة مناجاته، وحلاوة سؤاله سبحانه وتعالى، والتذلل له جل وعلا، لا شك أنه لا يسأم ولا يمل، حتى يحس أن ألذ الساعات، وأشرفها عنده حين يقف بين يدي الله عز وجل. فإذا استشعر الإنسان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرص على تطبيقه، وجد قيمة لذة عمرته، ووجد لها الأثر، ووجد أنه يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسير على نهجه، ويقتفي أثره؛ فتصيبه الرحمة، وكفى بذلك فضلاً وشرفاً، ولذلك من اتبع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبادته فإنه يُهدى، كما قال تعالى: { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [الأعراف:158]. فمن حرص على اتباع السنة، والتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، كملت هدايته على قدر كمال متابعته للنبي صلى الله عليه وسلم. ولكن الناس -إلا من رحم الله- أصبحوا ينظرون إلى هذه العبادة نظرة شكلية، فتجد الإنسان يحمل هم منزله ويحمل هم طعامه وشرابه، وساعة خروجه، وساعة دخوله، وتؤقت الأشياء توقيتاً، كأن الإنسان يريد أن يخرج من هذا، وكأنه في سجن أو نحوه، من الضيق والهم، وكأنه يريد أن ينتهي من عمرته، وهذا لا يليق، بل الذي ينبغي للإنسان إذا جاء أن يستشعر أنه ما تغرب عن أهله، ولا ولده، إلا من أجل ذكر الله عز وجل، وأن الله تعالى بلغه، والله أعلم كم من قلوبٍ احترقت بالشوق والحنين لرؤية البيت، فضلاً عن الطواف به، والسعي بين الصفا والمروة، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون، فالتقمتهم بحار، وذهبوا في الفيافي والقفار، وأدركتهم المنايا فيها قبل أن يصلوا إلى هذه الأمنية العزيزة، والله بلغك، ويسر لك وسهل، وأعطاك المال، وأعطاك الصحة والعافية والأمن والأمان، وأنت في نعم الله ترفل صباح مساء، فإذا جئت لذكره أحسست وكأنه ثقيل، وكأن فيه عناءً عليك، ولا شك أن هذا من الحرمان، نسأل الله السلامة والعافية. فينبغي على الإنسان أن يجتهد قدر استطاعته وقوته في ذكر الله عز وجل على الصفا، وسؤال الله عز وجل. وما يدريك؟! فلعلك أن تصيب باباً في السماء مفتوحاً فتستجاب دعوتك، وتفرج كربتك، وتكفى همك، وترجع وقد جبر الله كسرك، ورفع درجتك، وغفر ذنبك، فهذا لا شك أن الإنسان إذا استشعره هان عليه أن يطيل الوقوف، وأن يتلذذ بمناجاة الله عز وجل. ويروى عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان له مطمعٌ أن يخطب إلى عبد الله بن عمر ابنته رمانة ، فجاءه وهو يطوف بالبيت، فانتظر حتى دخل في شوطه فدخل معه، وحدثه بما يريد، فلم يجبه ابن عمر رضي الله عنهما بشيء، ولم يكلمه، وكأنه لم يسمع ما يقول، فلما انتهى عروة رضي الله عنه من كلامه، ورأى ما رأى من ابن عمر رضي الله عنهما، ظن أن ابن عمر لا يريد أن يزوجه، فمضى وهو منكسر الخاطر، حتى إذا رجع إلى المدينة مرض ابن عمر ، فجاء عروة يزور ابن عمر ، فقال له ابن عمر : إنك قد سألتني أن تنكح رمانة ، أكما أنت -أي: أنيتك على ما هي-؟ قال: نعم. فدعا بابني عمٍ له، وعقد له عليها، وقال: (إنك قد سألتنيها في مقامٍ يتراءى للعبد ربُه). ومراده بذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )، يعني: في هذا المقام وأنا مقبلٌ على الله في الطواف ليس المقام مقام زواج، ولا بحديث زواجٍ، ولا غيره، فكانوا إذا أقبلوا على الطواف، وعلى الذكر، وعلى العبادة يقبلون بقلوبٍ كاملة، وقوالب كاملة، تستشعر لذة مناجاة الله سبحانه وتعالى، وحلاوة ذكره، فإذا وجد الإنسان هذا الاستشعار أطال الدعاء، ولم يسأم ولم يمل. وأيوب عليه السلام لما نزل إليه رجل جراد من ذهب، وهو يجمع، فقال الله تعالى: ألم أغنك من رحمتي؟ قال: (ربي! لا غنى لي عن بركاتك). فأنت في موضع مبارك، في موضع تستجاب فيه الدعوة، وما يدريك أنك واقف في الموضع الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما يدريك أنها ساعة تستجاب فيها الدعوة، أو تفتح لها أبواب السماء؟ فعندها إذا استشعر الإنسان مثل هذا انشرح صدره، واطمأن قلبه، وكمال اللذة والسرور، والبهجة والطمأنينة، وسعادة الدنيا، لحظة مناجاة الله عز وجل؛ لأن الله جل وعلا جعل العبد في كبد، وفي هم وغم، فلا يزول همه، ولا يذهب غمه إلا إذا أقبل على الله عز وجل، فإذا أقبل على الله أحس أن الهموم تتبدد عنه، وأن الغموم تزول عنه، وأنه في سعادة، وفي أنس، وفي بهجة. نسأل الله بعزته وجلاله أن يذيقنا حلاوة مناجاته، ولذة مناجاته، والأنس به سبحانه وتعالى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على نبينا محمد. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (230) صـــــ(1) إلى صــ(29) شرح زاد المستقنع - باب دخول مكة [2] إن الله تعالى شرع لنا أن نؤدي العبادة بكيفية معلومة لا يقبل العمل بغيرها، وذلك لحكمة أرادها الله تعالى، ولهذا يجب على المسلم أن يعرف هيئات العبادات وكيفياتها، ومن جملة ذلك معرفة كيفية القيام بالسعي بين الصفا والمروة مشياً وسعياً وذكراً ومسافة وابتداءً وانتهاءً، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالسعي. استلام الحجر بعد الركعتين، والسعي بين الصفا والمروة الشرب من زمزم، ثم استلام الحجر إذا تيسر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: ثم يستلم الحجر ويخرج إلى الصفا من بابه فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً، ويقول ما ورد]. ما زال المصنف رحمه الله يبين جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بنسك الحج والعمرة، فبين أن الهدي فيمن أتم طوافه بالبيت، وصلى الركعتين أن يستلم الحجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته ثبت عنه أنه شرب من زمزم، ثم استلم الحجر ومضى إلى الصفا، فبين رحمه الله أنه بعد انتهائه من الصلاة، وفراغه من طوافه، واستتمامه للركعتين يستلم الحجر، فإن تيسر له فالحمد لله وقد أصاب السنة، والأجر أعظم، وإن لم يتيسر له فليس ذلك بشيء واجب، فيمضي إلى الصفا. متى يكون السعي؟ والسنة أن يقع سعيه بين الصفا والمروة عقب طوافه بالبيت، ولا يكون هناك فاصل مؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع، وفي عُمَره أنه كان بعد فراغه من ركعتي الطواف يمضي إلى الصفا، ولم يثبت عنه أنه فصل بين طوافه صلوات الله وسلامه عليه وصلاته بعد الطواف وبين السعي بين الصفا والمروة، ولذلك نص العلماء على أنه ينبغي أن يصل سعيه بين الصفا والمروة بطوافه بالبيت. الخروج إلى الصفا والأفضلية في باب دخوله قوله: [ويخرج إلى الصفا من بابه فيرقاه حتى يرى البيت]. أي: يخرج إلى الصفا، وهو الجبل الأيمن إذا استدبر الإنسان الكعبة، فالجبلان أيمنهما إذا استدبرت الكعبة هو الصفا، والأيسر هو المروة، والصفا: هو الحجر الأملس، فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج إلى الصفا، وقول المصنف: (من بابه)، فهذا ليس بواجب، وإنما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقاً لا قصداً، وعليه فإنه لو خرج من أي الأبواب أجزأه، والآن أصبح مكان السعي بين الصفا والمروة ليس بينه وبين البيت جدار، وإنما هناك الفتحات المعروفة، فمن أيها دخل فإنه لا حرج عليه، ولكن السنة: أن يكون من آخرها حتى يستقبل البيت؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم. الرقي على الصفا، حكمه والأذكار الواردة فيه قوله: [فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً]. أي: يرقى على الصفا؛ لأنه لا يستتم السعي بين الصفا والمروة إلا إذا رقى على الصفا، ورقى على المروة، حتى يصدق عليه أنه قد سعى بينهما وتطوف بهما، وأما لو كان سعيه بين الصفا والمروة دون الجبل فإنه لا يجزيه إذا لم يرق طرف الجبل. وقوله: (يرقاه)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رقى الصفا، يقال: (رقى الجبل) إذا صعد عليه، والسنة للرجال الصعود، وأما بالنسبة للنساء فيجتزئن بأقل الموضع، ولا يصعدن إلى الأعلى؛ لما فيه من التكشف والظهور أمام الناس، وكلما كُنَّ بين الناس كان أستر لهن، ولذلك نص العلماء على أن هذا الموضع من المواضع التي يختلف فيها الحكم بالنسبة للرجال والنساء، فالمرأة تجتزئ بأطراف الصفا وبأطراف المروة، والرجل يصعد إلى الصفا، ويصعد إلى المروة، وكذلك الرجل يرمل في طوافه وسعيه بين الصفا والمروة، والمرأة لا ترمل وإنما تمشي؛ لأنها إذا رملت تكشفت، وعلى هذا فإن الصعود سنة للرجال وليس بسنة للنساء، والهدي أن المرأة تختصر بأقل أطراف الجبل، ثم تمضي لوجهها. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أنه قبل أن يصعد الصفا خرج من باب بني شيبة، ثم بعد ذلك قرأ الآية: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [البقرة:158]، ( وقال: أبدأ بما بدأ الله به )، ولذلك قال العلماء: فيه دليل على أن البداءة بالسعي لا تكون إلا بالصفا، فلو ابتدأ بالمروة لم يجزئه ذلك، ولم يحتسب شوطه الذي بين المروة والصفا، فلابد في البداية أن تكون من الصفا، فيقرأ الآية قبل صعود الصفا؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يبتدئ بما بدأ الله به وهو الصفا. فقوله: [فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً ويقول ما ورد]. أي: يرقى على الصفا، وكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه: أنه إذا صعد النشز من الأرض، كالجبال والهضاب والأماكن العالية كبر الله، وإذا نزل إلى الوديان والوهاد سبح الله، وهذه هي السنة؛ لأن الله يذكر على كل شرف وعالٍ، فإذا علا ناسب أن يقول: (الله أكبر)، فهو سبحانه أكبر من كل شيء، وناسب أن يعظم الله، وأن يذكر الله عز وجل بالتعظيم والإجلال، وهذا من الذكر المناسب للحال. استقبال البيت على الصفا، وما يقوله من أذكار فالنبي صلى الله عليه وسلم كبر على الصفا ثلاثاً. والسنة أنه يستقبل البيت، قال العلماء: ثبتت الأحاديث الصحيحة كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في منسك النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه رقى الصفا واستقبل البيت ) ، ولذلك أجمع العلماء على أن السنة أن يستقبل البيت حتى يراه، ويجعله قبل وجهه، وهذا كما ذكر بعض العلماء -تنبيه على التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل، قالوا: وكما أنه إذا صلى جعل البيت قبلته، وإذا طاف بالبيت جعل البيت قبلته من جهة كونه يجعل البيت عن يساره، كذلك إذا سعى بين الصفا والمروة فرقى جبل الصفا، أو رقى جبل المروة، فإنه يستقبل البيت بالدعاء والمسألة والتضرع والابتهال لله سبحانه وتعالى. وقالوا: إنه تأكيد للتوحيد، فإنه يتوجه إلى البيت، ويوحد الله عز وجل، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه ابتدأ دعاءه بالتكبير ثلاث مرات: ( الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر )، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير )، وهذه رواية الصحيح، وفي رواية للنسائي : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير ) ، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ). يقول بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على الصفا، فدعا الناس إلى توحيد الله لما أمره الله عز وجل أن يبلغ رسالة الله، وأن يؤدي أمانته، فأُمر بالجهر بالدعوة، فنادى في قريش فعمم وخصص، ثم دعاهم إلى التوحيد فقال: ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) فقال له أبو لهب : تباً لك! ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد:1] الآيات. قال العلماء: كُذِّب عليه الصلاة والسلام على الصفا والمروة، وعلى رءوس الأشهاد؛ لأنه وقف أمام قريش عامها وخاصها، وإذا به في حجة الوداع أمام مائة ألف من أمته وأصحابه، كلهم يقول: كيف يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما كان منه إلا أن أثنى على الله تعالى بما هو أهله، فقال: ( لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ) ، فأنجز الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ما وعده، ونصره وأعزه وأكرمه صلوات الله وسلامه عليه، ورفع ذِكْره، وأبقى له رفعة الذكر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بل رفع له ذكره، حتى في يوم يجمع فيه الأشهاد، فيكون عليه الصلاة والسلام فيه الشافع المشفع، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، فقال: ( لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ) . ثم استفتح بالدعاء عليه الصلاة والسلام، فسأل الله عز وجل المسألة، ثم رجع وقال: ( الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا، ثم رجع عليه الصلاة والسلام فكبر ) . عدد مرات التكبير والتهليل والدعاء عند العلماء والسنة في حمد الله تعالى وللعلماء في الدعاء والاستفتاح وجهان: الوجه الأول: قال بعض العلماء : يستفتح بالتكبير مع التهليل ثم يدعو، ثم يرجع مرة ثانية يكبر ويهلل ويدعو، ثم يختم مرة ثالثة بالتكبير والتهليل ولا يدعو، فعلى هذا الوجه الأول: يكون التكبير تسع مرات، ثلاثاً في الأولى، والثانية ثلاثاً، والثالثة ثلاثاً، ثم التهليل ستاً؛ لأنه يكون في المرة الأولى التي استفتح فيها المسألة مرتين، وهما: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده . إلخ)، فيكون التهليل ستاً، ويكون الدعاء مرتين، هذا هو أقوى الأوجه، وهو الذي يدل عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وأرضاهما، وهي السنة في الحج والعمرة، أن الإنسان إذا صعد على الصفا كبر الله ثلاثاً، ثم هلل بالمرتين اللتين ذكرناهما، ثم يدعوه، ثم يرجع فيكبر ويهلل، ثم يدعو، ثم يختم دعاءه بالتكبير والتهليل، فيكون دعاؤه مرتين، ويكون تكبيره تسعاً، وتهليله ست مرات، هذا هو أصح الأوجه عند العلماء. الوجه الثاني: أن يبتدئ بالتكبير ثلاثاً مع التهليل مرتين ويدعو، ثم يكبر ويهلل ويدعو، ثم يكبر ويهلل ويدعو، فيكون التكبير تسعاً، والتهليل ستاً، والدعاء ثلاثاً، فالفرق بين هذه الصفة الثانية والصفة الأولى زيادة الدعاء، فكأنهم يرون أن هذا التكبير والتهليل والثناء على الله استفتاح للدعاء، وأصحاب القول الأول يرونه استفتاحاً وختماً للدعاء، وعلى هذا فإن الوجه الثاني يختاره جمع من العلماء -كما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- ومنهم القاضي أبو يعلى ، وأصح الأوجه ما ذكرنا. وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الصحيح ذكر الحمد إجمالاً، ففيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى على الصفا، فحمد الله بما هو أهله ) وهذا -كما يقول العلماء- للعلماء فيه وجهان: فمنهم من يقول: هذا الحمد الذي اشتمل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه هو الذي اشتمل عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وبناء عليه فإنه يسن أن يقتصر الإنسان على هذه الصفة الواردة في حديث جابر رضي الله عنه، وهذا يختاره بعض العلماء المحققين، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيرى أن الحمد الوارد في حديث أبي هريرة محمول على التفصيل الوارد في حديث جابر . وهناك وجه ثانٍ يقول: إنه يزيد الحمد لله إذا استفتح الدعاء؛ لأن السنة أن الداعي إذا استفتح دعاءه يستفتح بحمد الله. ولكن الوجه الأول أقوى؛ لأن القاعدة في الأصول أن المجمل يحمل على المبين، فـ أبو هريرة رضي الله عنه أجمل، وأما جابر رضي الله عنه فإنه بين وفصل، فيحمل ما أجمله أبو هريرة على ما فصله جابر بن عبد الله رضي الله عن الجميع. والسنة في هذا الدعاء -كما ذكرنا- أولاً: أن يستقبل البيت، وأن يكون واقفاً؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا كان كبير السن، أو عاجزاً، أو نحو ذلك ولا يستطيع الرقي، فلو أنه ركب ما يحمل فيه، فاستقبل البيت، أو اتجه إلى جهة البيت إذا لم يستطع رؤية البيت، فإنه حينئذٍ يمكنه أن يدعو وهو جالس، ولكن إذا أمكنه أن يقف فإنَّه يقف عند الدعاء تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم. الدعاء على الصفا والمروة والاستكثار منه ثم يرفع يديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وهي السنة، وأجمع العلماء على سنية رفع اليدين في الدعاء على الصفا والمروة؛ لأن الأحاديث صحيحة، ولذلك قال العلماء: من المواضع التي يشرع فيها رفع اليدين في النسك في الحج والعمرة على الصفا والمروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه، وسأل الله عز وجل من فضله، والسنة أن يجتهد في الدعاء، وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -وهو الذي عرف بالتأسي، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم- يطيل الدعاء ويطيل المسألة، حتى جاءت الرواية الصحيحة عنه أنه كان أصحابهَ يَملُّون من طول قيامه رضي الله عنه وأرضاه، ولكن قال تعالى: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت:35]، فمن عرف الله، وأَجَلَّه بأسمائه وصفاته، وعظم شعائره، وأخلص في مواطن الدعاء، ومواطن الثناء على الله، وصبر واصطبر، فإنه يحس بلذة مناجاة الله سبحانه وتعالى، وحلاوة ذكره، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، فكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يثني على الله بما هو أهله، ويدعو، ويسأل الله عز وجل، ويلح في دعائه ومسألته. قال بعض العلماء: من المواطن التي ترجى فيها الإجابة الدعاء على الصفا والمروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تحرى الدعاء هناك، قالوا: فيشرع له أن يستكثر من سؤال الله تعالى من خيري الدنيا والآخرة، ويجعل مسألة الآخرة هي الأصل؛ لأن أمور الدنيا يسيرة، والإنسان يأخذ من دنياه ما يبلغ به آخرته، فيجعل المسألة لآخرته في صلاح دينه، واستقامته على طاعة ربه، ويسأل الله عز وجل حسن الطاعة، وكمال الاستقامة، والثبات على ذلك إلى لقاء الله عز وجل، فالسنة أن يجتهد في الدعاء. فإذا فرغ من الدعاء نزل عن الصفا؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنصب قدماه في الوادي. كيفية النزول من الصفا والهرولة بين العلمين الأخضرين قال رحمه الله تعالى: [ثم ينزل ماشياً إلى العلم الأول]. أي: ثم ينزل ماشياً؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، إلى العلم الأول، فإن كان كبير السن، أو امرأة اجتزأت بأطراف الصفا، أو أطراف المروة، فإنها حينئذٍ تمضي لوجهها، ويمضي الرجل لوجهه. قال رحمه الله تعالى: [ثم يسعى شديداً إلى الآخر]. العلمان موجودان إلى الآن، والعلمان هما علامة على الوادي، أي: على طرفي الوادي؛ لأن جبل الصفا وجبل المروة كانت تمتد أجزاؤهما إلى أطراف الوادي، وكان الذي بينهما مجرى الوادي الذي ينصب على جهة البيت كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: { إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } [إبراهيم:37]، فتفيض الجبال على الأبطح، ومن الأبطح تنصب على جهة الصفا، ومن جهة الصفا تنصب إلى البيت، فمكة أشبه بالمنكفئة، كالمدينة فيها أعلى وأسفل، فالمدينة عاليتها قباء والعوالي، وسافلتها جهة أحد، كذلك مكة، قالوا: عاليها جهة المقابر، جهة المعلاة، وأسفلها من جهة الجنوب، فمجرى الوادي بين الصفا والمروة، وكان في القديم واضح المعالم، لكنه لما وسع، وأُخذ من الصفا، وأخذ من أجزاء المروة أصبح هناك علمان ولا زالا موجودين إلى اليوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي حتى يأتي العلمين، فإذا جاء إلى العلم هرول وسعى صلوات الله وسلامه عليه. وهذا السعي فيه مسائل منها: المسألة الأولى: أنه كان لـ هاجر حينما ابتليت بعطش ابنها إسماعيل، فإن الله سبحانه وتعالى ألهمها أن تسعى بين الصفا والمروة، فالسعي بين الصفا والمروة كان أصله منها، ويقول بعض العلماء: إن الله سبحانه وتعالى أبقاه من معالم الحنيفية، حتى يتذكر كل مكروب ومنكوب أن الله سبحانه وتعالى لكل كربة ونكبة، فإن هذه المرأة ضعيفة ومع طفلها الصغير، وكانت كما قال الله تعالى: { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } [إبراهيم:37]، لا أنيس ولا جليس، ولكن تركهم إبراهيم عليه السلام لله عز وجل، فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟! قال: لله. قالت: (إذاً لا يضيعنا الله)، واستقبل الوادي، ودعا بدعواته، فبقيت هي وصبيها، وما شأنك بامرأة ضعيفة مع صبيها، وهو يصرخ ويستنجد يسأل الماء من شدة الظمأ؟ فسعت بين الصفا والمروة، فمن سعى بين الصفا والمروة تذكر مثل هذا الموقف، وتذكر أن الله فرج عن هذه المرأة الضعيفة، فأزال همها، وبدد غمها، وكشف كربتها، وجعل تفريج كربتها من تحت قدم ولدها، ولم يأتِ أحد يسقيها فيمتن عليها بالسقية، ولم يجعل تفريج كربتها لمخلوق يأتي فيسعفها، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل تفريج كربتها من تحت قدم ابنها الذي تريد أن تسقيه، وهذا لا شك أنه من أعظم الآيات، ومن أعظم الدلائل على توحيد الله عز وجل وعظمته سبحانه، وأن من الخذلان أن يرفع العبد كفه لمخلوق كما قال تعالى: { يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } [الحج:13]. فإن من أعظم الحرمان، ومن أعظم الخسارة: أن ينصرف المخلوق عن الخالق إلى مخلوق مثله، أو إلى من لا يملك له ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، كما قال سبحانه وتعالى: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج:31] فلا شك أنه من أعظم الحرمان وأعظم الخسارة. فالله تعالى جعل مثل هذه المواقف تحيي في القلوب، وتذكي في النفوس الالتجاء إلى الله تعالى والتوكل على الله تعالى والاستعانة بالله تعالى، التي هي مقاصد التوحيد، ومن أسس التوحيد الذي لا يمكن أن ينظر الله عز وجل إلى عمل العامل، وقول القائل إلا بعد تحقيقه، وما جعلت الصفا ولا جعلت المروة إلا من أجله. المسألة الثانية: فإذا انصبت القدمان في الوادي سعى؛ لأن هاجر عليها السلام سعت، واختار جمع من العلماء أن يكون السعي شديداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه السنة أنه سعى سعياً شديداً، وجعل الإزار يدور على ركبتيه -صلوات الله وسلامه عليه- من شدة سعيه، وقال: ( أيها الناس! إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا )، وهذا -كما يقولون- سمي سعياً؛ لأنه في هذا الموضع يسعى ولا يمشي، أما المرأة فإنها تمشي؛ لأنها إذا سعت تكشفت، ولا يجوز رمل النساء لا في الطواف بالبيت، ولا في السعي بين الصفا والمروة، وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا اشتد سعيه قال: (رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم) كما رواه عنه الإمام أحمد بن حنبل في المسند. وإذا انتهى إلى طرف العلم فحينئذٍ يمشي كما مشى حال انصبابه من الصفا إلى الوادي. أفعال المروة صعوداً أو نزولاً قال رحمه الله تعالى: [ثم يمشي ويرقى المروة ويقول ما قال على الصفا]. بعد انتهائه من الوادي، وبلوغه إلى طرف العلم يمشي فيرقى المروة، وإذا رقى المروة استقبل البيت، فإذا كان لا يستطيع أن يراه -كما هو الحال الآن- فمن أهل العلم من قال: يجتهد في تحري جهة البيت، وهذا يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه لما كانت الصفا لها جدار، وكانوا لا يستطيعون الرؤية قالوا: نص على أنه يحرص على استقبال جهة البيت كيفما كان، أي: يحاول قدر استطاعته أن يكون مستقبلاً لجهة البيت، فيرفع يديه، ثم يكبر ويهلل، ويدعو على الصفة التي ذكرناها على الصفا. قال رحمه الله تعالى: [ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا]. أي: ثم ينزل ويمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، ويعتَبِرُ في رجوعه ما اعتبره في نزوله، فالحكم لا يختلف في الشوط الذي يئوب به من المروة، أو الذي يذهب به من الصفا، فالحكم واحد، ويجتهد في الدعاء والمسألة، فيسأل الله عز وجل من فضله في سعيه، ولو قرأ القرآن فلا حرج، ولو دعا أو أثنى على الله بما هو أهله، فسبح وكبر وحمد ونحو ذلك فلا حرج عليه. مسافة السعية، وحكم الابتداء بالمروة [يفعل ذلك سبعاً، ذهابه سعيةٌ ورجوعه سعيةٌ]. أي: ذهابه من الصفا إلى المروة سعيةٌ، وإيابه من المروة إلى الصفا سعية، فيبتدئ بالصفا وينتهي بالمروة، ويقف على كلٍّ أربعاً على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، وهناك قول أنه إذا فرغ من الشوط الأخير لا يقف على المروة، والذي اختاره جمع من العلماء أنه يقف ويدعو؛ لأن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صنع على المروة مثل ما صنع على الصفا، حتى انتهى من سعيه، فاختار جمع من العلماء أن يكون وقوفه عليها أربعاً. ويكون ذهابه شوطاً ورجوعه شوطاً، وكان بعض العلماء -وهو قول ضعيف- يرى: أن الذهاب والرجوع شوط واحد، فحينئذٍ يكون أربعة عشر مرة. والقائل بهذا توفي ولم يحج ولم يعتمر، حتى كان بعض أهل العلم يقول: لو حج أو اعتمر ما قال بقوله هذا؛ لأنه لو حج واعتمر، ووجد المشقة التي تكون في أربعة عشر شوطاً لما قال بهذا القول. قال رحمه الله تعالى: [فإن بدأ بالمروة سقط الشوط الأول]. السنة أن يبدأ بالصفا، فإن قال قائل: لو بدأ بالمروة قبل الصفا، فهل يحتسب تلك السعية أو لا يحتسبها؟ فالجواب أنه لا يحتسبها، ولا يجزيه أن يبتدئ بالمروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ بالصفا، وقال: ( أبدأ بما بدأ الله به )، وفي رواية للنسائي في السنن الكبرى: ( ابدءوا بما بدأ الله به ) بصيغة الأمر، وهذا هو الذي عليه المُعَوَّل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( خذوا عني مناسككم )، فهذا هو منسكه، وهذا الذي فعله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، أنه ابتدأ بالصفا، فاجتمعت دلالة الكتاب، ودلالة السنة على أن البداءة تكون بالصفا، ولو ابتدأ بالمروة فإنه يلغي ذلك الشوط ولا يعتد به. أفعال مسنونة حال السعي قال رحمه الله تعالى: [وتسن فيه الطهارة والستارة والموالاة]. قوله: (وتسن فيه الطهارة) يعني: في السعي بين الصفا والمروة، فيجوز للإنسان أن يسعى بين الصفا والمروة وهو محدث حتى ولو كان جنباً، ولو كانت المرأة حائضاً فإنه يصح سعيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها لما حاضت : ( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )، فلو كانت الطهارة شرطاً في صحة السعي لقال لها: اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت، ولا تسعي بين الصفا والمروة، ولكنه عليه الصلاة والسلام اقتصر على ذكر الطواف، فدل على أنه يصح أن يسعى الإنسان وعليه الحدث الأصغر أو الأكبر. والسنة والأفضل الطهارة، كما قال المصنف: (وتسن له الطهارة) يعني: أن الأفضل والأكمل أن يكون الإنسان على وضوء، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً، وصلى ركعتي الطواف، ثم مضى لوجهه ولم يُذكر له حدثٌ، فطاف بين الصفا والمروة، وسعى بينهما وهو على طهارة، فقالوا: تسن الطهارة، فهي الأفضل والأكمل، ومما يؤكد هذا أنه بين الصفا والمروة سيذكر الله، والأفضل في ذكر الله أن يكون الإنسان على طهارة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله )، فدل على أن الأفضل في حق ذاكر الله عز وجل أن يكون على طهارة، وأن هذا أكمل وأعظم لأجر الإنسان. ثانياً: ستر العورة: قوله: [وتسن فيه الطهارة والستارة]. المراد بالستارة: ستر العورة، أي: يسعى بين الصفا والمروة وقد ستر عورته. فلو أنه سعى بين الصفا والمروة فانحل إزاره في زحام، أو نحو ذلك، فانكشفت عورته في شوط، أو نحو ذلك، فإنه تجزيه تلك السعية، ولا يعتبر ستر العورة شرطاً لصحة السعي بين الصفا والمروة. ثالثاً: الموالاة: قوله: [والموالاة]. الموالاة تقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون سعيه عقب الطواف فيوالي بينهما، وهذه هي السنة كما ذكرنا. والصورة الثانية للموالاة، أو الموضع الثاني للموالاة: أن يكون سعيه متوالياً، فلا يفصل بين السعية والسعية، فإذا فصل بينهما فللعلماء قولان: منهم من قال: لا يصح سعيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والى، وقال: ( خذوا عني مناسككم ). وقال بعض العلماء: العبرة أن يَطَّوَّف بهما كيفما كان، فإن تَطَوَّف ثلاثة أشواط في ساعة، ثم تَطَوَّف أربعة أشواط في ساعة ثانية أجزأه، واختلفوا في الفاصل، والأقوى أنه لا يفصل بين السعي، وأنه يوقعه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته. ماذا يفعل بعد السعي قال رحمه الله تعالى: [ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره وتحلل]. أي: إن كان متمتعاً لا هدي معه فإنه يقصر من شعره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( ندب أصحابه، وأمرهم أن يفسخوا حجهم بعمرة فتحللوا، أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وأن يجعلها عمرة، فقالوا: يا رسول الله! أيُّ الحل؟ قال: الحل كله، قالوا: يا رسول الله! أنذهب إلى منىً ومذاكرنا تقطر منياً -فأثبت عليه الصلاة والسلام هذا الحكم- قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة )، فرغب عليه الصلاة والسلام، وأكد في فسخ الحج بالعمرة، وجعله لازماً لأصحابه، وطيب خواطرهم بالقول فقال: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة )، وقال عليه الصلاة والسلام في اللفظ الثاني في الصحيح: ( إني قلدت هديي ولبدت شعري، فلا أحل حتى أنحر ) ، فأمر أصحابه أن يتحللوا بعمرة. فإذا كان الإنسان لم يسق الهدي، وأراد أن يتمتع، فإنه حينئذٍ يتحلل بعد انتهائه من السعي كما تحلل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويُقَصِّر شعره حتى يجعل فضيلة الحلق لحجه، هذا إذا كان الفاصل قصيراًَ، ولكن استحب جمع من العلماء أنه يحلق؛ لأنه بإمكانه أن ينبت له الشعر فيما بين عمرته وبين حجه، فيُصيب الدعاء بالرحمة في الموضعين، وهذا لا شك له وجه، وأما إذا قَصُر الوقت فإن التقصير أفضل، وكونه يجعل الدعاء بالرحمة للحج قالوا: إنه أفضل، فيقصر من شعره، ويترك الحلاقة لتحلله من حجه. قال رحمه الله تعالى: [ثم إذا كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره وتحلل، وإلا حل إذا حج]. قوله: (وإلا حل إذا حج) يعني: أنه يتحلل بعد حجه. وقت قطع التلبية [والمتمتع إذا شرع في الطواف قطع التلبية]. التلبية: فيها مسائل تقدمت معنا، وبينا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وأحكامها، ومن مسائلها: متى يقطع المحرم تلبيته؟ وجواب هذا السؤال أنه لا يخلو المحرم إما أن يكون بحج، وإما أن يكون بعمرة، فهناك موضعان: الموضع الأول: بالنسبة للحج، متى يقطع الحاج تلبيته؟ والموضع الثاني: بالنسبة للمعتمر متى يقطع تلبيته؟ قال بعض العلماء: المعتمر يقطع تلبيته عند دخوله للحرم، وقد جاء عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -والسند صحيح- أنه كان إذا قدم من جهة المدينة، واستقبل من جهة التنعيم قطع التلبية. والقول الثاني: أنه يقطع تلبيته عند استلامه للحجر، أي: عند ابتدائه للطواف. والقول الأول للمالكية، والقول الثاني اختاره الشافعية والحنابلة، أن المعتمر يقطع تلبيته عند استلام الحجر، وهذا القول احتجوا له بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في عمرة الجعرانة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر من الجعرانة بعد انصرافه من غزوة الطائف: ( لم يزل يلبي حتى استلم الحجر )، قالوا: فيه دليل على أن التلبية تقطع عند استلام الحجر، ولأن أول الأركان يلي إحرامه ونيته إنما هو الطواف بالبيت، فشرع له أن يلبي حتى يبتدئ الطواف، وحينئذٍ يقطع التلبية، وهذا هو أصح أقوال العلماء؛ لأن السنة واضحة في دلالتها على صحته، أن المعتمر يقطع التلبية عند استلام الحجر. وحينئذٍ نقول: من اعتمر يقطع التلبية عند ابتداء الطواف إن استلم الحجر، فيؤخر حتى يستلم الحجر، وأما إذا لم يستلم الحجر في طوافه فعند استفتاحه الطواف يقطع التلبية. وعلى هذا لو حج، وكان قد نوى التمتع بعمرته، فحينئذٍ عند ابتدائه للطواف أو عند استلامه للحجر يقطع تلبيته لهذا الأصل. الأسئلة مكان استئناف السعي بعد قطعه للصلاة السؤال هل يأخذ السعي حكم الطواف، فيما إذا أقيمت الصلاة وهو يسعى، من حيث الاستئناف أو الرجوع إلى نفس المكان؟ الجواب إذا أقيمت الصلاة وهو في السعي فإنه يقطع سعيه، ثم يمضي للصلاة ويصلي، ولا يقطع السعي إلا عند الفراغ من الإقامة إذا كان موضع صلاته قريباً؛ لأن ما شرع لحاجة يقدر بقدرها، فلا يقطع مباشرة، وإنما ينتظر حتى يفرغ من الإقامة، ثم بعد ذلك إذا كان الموضع قريباً قطع سعيه ودخل في الصفوف. وعلى هذا فلو قطع السعي فهل يعيد الشوط، أي: يعيد السعية من أولها؟ أو يبتدئ من الموضع الذي قطع منه؟ أصح الأقوال أنه يبتدئ من الموضع الذي قطع منه، والأفضل والأكمل أنه يعيد السعية من أولها، والله تعالى أعلم. وقت رفع اليدين حال الدعاء على الصفا والمروة السؤال علمنا أنه يرفع يديه في الدعاء على الصفا والمروة، ولكن هل يكون الرفع مع بداية التكبير والتهليل؟ أم يرفع إذا أراد الدعاء؟ الجواب هذه المسألة تنبني على قولنا: هل كان تكبيره عليه الصلاة والسلام وتهليله من أجل المسألة والدعاء؟ وهذا يرجحه غير واحد من العلماء، فقالوا: إنه استفتح التكبير والتهليل من أجل الدعاء والمسألة، ولذلك جعله أثناء الدعاء. فقال بعض العلماء: على هذا الوجه يجعل رفعه لليدين من بداية التكبير. والوجه الثاني يقول: إن التكبير من أجل الرقي على المكان النشز والعالي، فكبر صلوات الله وسلامه عليه وهلل، ثم بعد ذلك دعا، فيكون الرفع عند الدعاء، والأول أقوى، والله تعالى أعلم. محل قراءة قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) السؤال هل يقرأ قوله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [البقرة:158] إذا دنى من الصفا فقط؟ أم كذلك إذا دنى من المروة؟ الجواب المحفوظ أنه إذا دنا من الصفا، ولا يكرر ذلك في بقية الأشواط ولا يكرره عند المروة؛ لأن هذا الذكر قصد منه النبي صلى الله عليه وسلم الاستشهاد لقوله: ( أبدأ بما بدأ الله به )، فلما جعله للبداءة اقتصر على محله، فقالوا: إنه ذكر مقصود من النبي صلى الله عليه وسلم، من باب التنبيه على مراعاة ترتيب الكتاب، والاهتداء بهدي القرآن في تقديم ما قدمه الله عز وجل وتأخير ما أخره، والله تعالى أعلم. حكم العجز عن استلام الحجر بعد ركعتي الطواف السؤال إذا لم يستطع المكلف أن يستلم الحجر الأسود بعد الركعتين التي بعد الطواف هل يشرع له أن يشير إليه، أم ينصرف إلى الصفا؟ الجواب السنة أن يستلم، فإن عجز عن الاستلام انصرف، وأما الإشارة فلا يحفظ فيها دليل يدل عليها، وإنما ثبتت الإشارة عن النبي صلى الله عليه وسلم داخل الطواف، وأما خارج الطواف فتحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل يدل عليها، والله تعالى أعلم. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (231) صـــــ(1) إلى صــ(29) حكم اضطباع الآفاقي والمقيم بمكة السؤال هل هناك فرق بين أهل مكة وغيرهم في الاضطباع والرمل والسعي بين العلمين؟ الجواب اختار جمع من العلماء أن الحكم يختص بالآفاقي، وأن المكي لا يكون عليه رمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعله هو وأصحابه وهم قادمون من المدينة، فخصوا الحكم بصورة السبب، وقالوا: إنه ليس على المكي أن يرمل، ومن هنا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين طوافه الأول وطوافه الثاني، فلم يرمل صلوات الله وسلامه عليه في طواف الإفاضة، وهذا يدل على أن من أقام بمكة ونزل بمكة أنه لا يأخذ حكم من كان خارجاً عنها، وعلى هذا قالوا: إن سنة الرمل إنما هي لمن قَدِم، وهكذا المكي إذا كان إحرامه من خارج مكة، كأن يكون أتى المدينة فاعتمر منها، فإنه يأخذ حكم أهل المدينة، وحينئذٍ يرمل في طوافه عند قدومه، والله تعالى أعلم. الحالة التي يشرع فيها التكبير عند الصعود، والتسبيح عند النزول السؤال هل التكبير عند صعود الجبال، أو التسبيح عند هبوط الوهاد خاص بالسفر أم هو مطلق في كل مكان؟ الجواب السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم التكبير على النشز، والتسبيح إذا هبط وادياً، والمحفوظ عن أهل العلم رحمة الله عليهم أن الحكم عام، وأن هذا من دعاء المناسبات، كما أن قول دعاء الركوب: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) يستوي فيه أن أكون مسافراً أو مقيماً؛ لأن الله تعالى يقول: { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا } [الزخرف:13]، فجعله ذكراً مطلقاً، وقالوا: إنما أمروا بتسبيح الله عز وجل، وتوحيده عند الركوب على الدواب اعترافاً لله عز وجل بوحدانيته وفضله، وعظيم منته وإحسانه بعباده، وهذا أمر عام يستوي أن يكون في السفر وغير السفر، ولذلك يقولون: لا يختص بالسفر وإنما يكون دعاء مطلقاً. وفي حكم هذا جميع ما يكون من وسائل النعم التي يسرها الله سبحانه وتعالى من السيارات، والطائرات، والقطارات ونحوها، إذا ركبها الإنسان قال: سبحان الذي سخر لنا هذا . إلخ، فإذا كان الله عز وجل قد شرع لنا أن نذكر هذا الذكر عند الركوب على الدواب والبهائم من ذوات الأرواح، فإنه خليق بهذا الدعاء أن يكون في الجماد من بابٍ أولى وأحرى، فسبحان من حَرَّكه وصرفه ودبره، وجعله يجري بقدرته سبحانه وتعالى. فيثني العبد على الله، وينزه الله سبحانه وتعالى، وهذا قليل قليل من كثير يستوجبه سبحانه علينا؛ لعظيم نعمته، وجليل فضله ومنته، تبارك الله وهو أحسن الخالقين، والله تعالى أعلم. كيفية تحلل محلوق الشعر والأصلع السؤال من كان بلا شعر، أو كان محلوق الشعر، فكيف يصنع عند التحلل؟ الجواب من كان بلا شعر فقد قال بعض العلماء: لا تحلل له، فلا يلزمه حلق ولا تقصير؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وقد فات المحل، يعني: ليس بمحل حلق، ولا بمحل تقصير. واختار جمع من العلماء -ومنهم جمع من الأئمة المتقدمين- أنه إذا كان أصلع لا شعر له أنه يُمر الموس على رأسه، وهذا من باب إبقاء الفعل مع فوات الصورة، وذلك أن الشرع طلب من المكلف التحلل، فيكون التحلل بالحلق أو التقصير، فإذا فات الحلق والتقصير بقيت صورة الفعل، كما قالوا: إن الإنسان إذا طلب منه الفعل وصورته، فإذا فات الفعل بقيت صورة الفعل التأسي والاقتداء، فالأفضل والأكمل أن يمر الموس، قالوا: لاحتمال أن يكون هناك شيء من الشعر موجوداً، خاصة إذا كان حديث عهد بحلاقة. أما إذا كان محلوق الشعر فإنه يمر الموس؛ لأنه سينبت شيء من الشعر، وسيكون فيه فضلة الشعر، فيمر الموس، ويمضيه حتى يحصل به التحلل، والله تعالى أعلم. رفع المرأة صوتها بالتلبية السؤال ما حكم رفع المرأة صوتها بالتلبية؟ الجواب المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية، وإنما تكون تلبيتها سراً، فالنساء لا أذان لهن ولا إقامة، ولا يشرع لهن الجهر؛ لما في أصواتهن من الفتنة، ولذلك قال تعالى: { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا } [الأحزاب:32] قال العلماء: القول المعروف على حالتين في المرأة: الحالة الأولى: ألا ترفع صوتها إلا من ضرورة وحاجة. والحالة الثانية: ألا تتنغم وتتكسر في كلامها، وإنما يكون كلامها على الوجه المعروف الذي لا يطمع معه الذي في قلبه مرض، وعلى هذا فإن النساء لا يرفعن أصواتهن، ولم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ألزم نساءه برفع أصواتهن، بل كان أمهات المؤمنين يلزمن الستر في أمور حجهن وعمرتهن، حتى كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها -وهي أم المؤمنين الصالحة القانتة- تتستر حتى في طوافها، وكانت إذا أرادت أن تطوف بالبيت لا تطوف إلا بالليل، وإذا أرادت أن تطوف أوصت القائمين على البيت أن يطفئوا السُّرُجَ، ومضت في داخل طوافها حتى لا تُرى رضي الله عنها وأرضاها، وكل هذا من تحريها لمقصود الشرع، كما قالت فاطمة رضي الله عنها: (خير للمرأة ألا ترى الرجال ولا يراها الرجال) فسماع صوت المرأة ورؤية شخصها فتنة. والذي يقول: إنه ليس بفتنة يكابر بالمحسوس، فالمرأة والرجل جبلهما الله عز وجل فطرة وغريزة بميل كلٍّ منهما إلى الآخر، سواءً تكلمت أم خرجت وابتدئ، فالفتنة كل الفتنة في النساء، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) ، فمما نص عليه العلماء أنها لا ترفع صوتها إلا لحاجة وضرورة، ولذلك تجد العلماء يقولون: في الحديث دليل على مخاطبة الأجنبية للأجنبي عند الحاجة، ويقيدون ذلك بالحاجة، وهذا هو المحفوظ والمذكور في كتب العلماء رحمة الله عليهم. والدليل القوي على أن المرأة لا تتكلم أنها في الصلاة لو أخطأ الإمام لا تفتح عليه مع وجود الحاجة، وإنما تصفق، فقال عليه الصلاة والسلام: ( إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ) فانظر -رحمك الله- لو كان صوت المرأة مأذوناً فيه لفتحت، مع أنه قد يُحتاج إلى أن تفتح للإمام بالكلام، فقالوا: أبداً، تقتصر على التصفيق حتى يعجز، وحينئذٍ يجوز لهن الفتح، وهذا كله يؤكد أن مقصود الشرع أن تحفظ المرأة لسانها، وأن تمتنع من مخاطبة الرجال، ولو قيل بجواز مخاطبة المرأة للأجنبي لاسترسل النساء في ذلك، ولرأيتها تجلس مع الرجل تسأله عن حاله، كما يسأل الرجل الرجل، وتقول لك: لا دليل على التحريم! بل تقول لك: إن العلماء أفتوا بأنه يجوز كلام الأجنبية للأجنبي. ففي هذا فتح باب شر لا يخفى، فالمرأة لا تخاطب الرجال، ولا يسمع الرجال كلامها، ولا بيانها إلا عند الضرورة والحاجة؛ لأنه إذا كان في الصلاة التي هي من أعظم شعائر الإسلام، ويحتاج إلى كلامها، يقول عليه الصلاة والسلام: ( إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ) ، فعدل إليه عن ذكر الله الذي فيه القربة وفيه الطاعة، فأين التصفيق من ذكر الله؟! فالرجل يسبح، وذكر الله أفضل وأكمل، ومع ذلك هي تعدل إلى التصفيق. وعلى هذا فإنها لا ترفع صوتها بالتلبية، والدليل على أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية أن الأوامر التي جاءت برفع الصوت بالتلبية، كما في الصحيح من حديث جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية )، وهذا خاص بالرجال لقوله: (أصحابي)، والأصحاب: جمع صاحب، والمراد به الرجل دون الأنثى، فلا يشرع للمرأة أن ترفع صوتها بالتلبية، وإنما تكون تلبيتها سراً، والله تعالى أعلم. التمتع والقران وخلاف العلماء في أفضلية أحدهما على الآخر السؤال أشكل عليَّ الجمع بين حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: ( أتاني جبريل، وقال: يا محمد! أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة )، فدل على أن الله أمره بالقران، وبين قوله صلى الله عليه وسلم: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة )؟ الجواب هذا الحديث يحتج به جمع من العلماء على أن القران أفضل؛ لأن الله تعالى اختاره لنبيه من فوق سبع سماوات، ولم يحج إلا حجةً واحدة، قالوا: فاختار الله له من فوق سبع سماوات أن يقرن. واختلف العلماء: هل القران من أول حجه، أو طرأ عليه؟ وذلك على ثلاثة أقوال: منهم من قال: إنه كان مفرداً ثم قرن. ومنهم من قال: كان مهلاً بعمرة ثم قرن. ومنهم من قال: إنه كان قارناً ابتداء وانتهاءً. وهذا هو أصح الأقوال؛ لأنه قد ثبت عن خمسةٍ وعشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قرانه عليه الصلاة والسلام، قال أنس رضي الله عنه، كما في الرواية الصحيحة: ( ما تعدوننا إلا صبيانا، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرةً وحجاً )، والسبب في ذلك أن أبا طلحة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من دابته، وكانت دابته تسامت دابة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أنس رضي الله عنه -وهو ربيب أبي طلحة - من أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح أنه كان قارناً ابتداءً وانتهاءً. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت )، فللعلماء فيه وجهان: منهم من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن لو كان متمتعاً، فدل على أن التمتع أفضل؛ لأنه كان على آخر الأمرين، فدل على أن التمتع يعتبر أفضل من القران. ومنهم من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بفسخ الحج بعمرة، أشكل على الصحابة هذا؛ لأن الصحابة ألفوا أن العمرة لا تقع في الحج، وكانوا يرونها من أفجر الفجور، وكان من عادة أمهات المؤمنين أنه إذا شق الأمر على الصحابة دعونه صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ بنفسه، ولذلك لما دعاهم إلى الفطر تأخروا، فشرب عليه الصلاة والسلام من اللبن فشرب الصحابة وأفطروا، وفي يوم الحديبية لما دعاهم أن يتحللوا تلكئوا، ودخل مغضباً على أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها، قال: ( ما لي آمر فلا أطاع، فقالت له: ادعُ الحلاق، فلما دعا الحلاق وحلق رأسه صلى الله عليه وسلم، قام بعضهم يحلق لبعض يكاد بعضهم يقتل بعضاً ). فأصبح الآن تطييب خواطرهم بالفعل مستحيلاً؛ لأنه قال: ( إني قلدت هديي، ولبدت شعري فلا أحل حتى أنحر ) ، فقال تطييباً لخواطرهم بالقول: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) ، ولذلك قال الإمام أحمد رحمة الله عليه، وجمع من السلف: هذا يدل على اختياره صلوات الله وسلامه عليه وحبه للتمتع، وأنه لو استقبل من أمره ما استدبر لكان متمتعاً، فقالوا: هذا يدل على تفضيل التمتع، وأن أفضليته جاءت متأخرة، فحينئذٍ يدل على أفضلية التمتع. وأما الأولون فقالوا: إن هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم لسبب، ولا يعقل أن الله تعالى يختار لنبيه إلا الأفضل والأكمل، والمسألة مشهورة والخلاف فيها مشهور، ومن رجح القران فله وجه من السنة، ومن رجح التمتع فله وجه من السنة، لا يُثَرَّبُ على هذا، ولا يُثَرَّب على هذا، ولكل وجه، ولكل سلفه من الأئمة والعلماء الأجلاء، ولكن الممنوع أن يعتقد الإنسان خطأ غيره، فتجد طالب العلم إذا رجح القران يحتقر من يرجح التمتع، وتجده يستهجنه، وربما يتقصده بالمناقشة، حتى إنه ربما يصبح الحج جدلاً، وأخذاً وعطاءً فيما هو الأفضل، وهذا لا ينبغي. فالإنسان إذا ترجح له دليل، وعرف أن السنة فيه، واعتقد ذلك وله سلف، وله وجه من هذا الدليل من كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو على خير وعلى هدى. وكذلك أيضاً إذا ترجح عند غيره غير قوله فلا يُثَرِّب عليه، ولا يعتقد ضلاله، ما دام أنه يقول بقول له وجهه من كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام رحمه الله، في معرض الكلام عن خلاف الصحابة: إنهم كانوا يختلفون، وتتباين أقوالهم في المسائل، فيصلي بعضهم وراء بعض، ويترضى بعضهم على بعض، ويترحم بعضهم على بعض، فلم يكن خلافهم مفضياً إلى حصول الفتنة بينهم، وإنما ينبغي على المسلم أن يلتزم هدي الكتاب والسنة، وألا يتعصب إذا تبين له الدليل، وتبينت له الحجة، ويرجع إلى كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن استبانت له السنة بترجيح شيء عمل به واعتقده، وأقنع الغير إن أمكن إقناعه، وإلا بقي على ما يرى أنه حق وصواب، وتعبد الله به، والله تعالى أعلم. تطيب المرأة قبل الإحرام السؤال التطيب الذي يسبق الإحرام، هل هو خاص بالرجال دون النساء، وذلك لمكان المشقة في التحرز من انتشار رائحة الطيب؟ الجواب أما بالنسبة للمرأة فطيبها ما ظهر لونه وخفي ريحه، والرجال طيبهم ما ظهر ريحه وخفي لونه، ولذلك نهي الرجال عن الزعفران، وقالوا: إنه أكمل في خشونة الرجل، وأكمل في أنوثة المرأة. وهذا هو المنصوص عليه عند أهل العلم رحمة الله عليهم، فإذا تطيبت المرأة بالأطياب التي لها رائحة خفية، أو كانت محافظة وخشيت من طول نسكها أنها تتغير عليها الرائحة، فوضعت بعض الطيب مع المحافظة، وعدم فتنة غيرها، فإنه لا بأس بذلك، ونص العلماء على أنه لا حرج في هذا. لكن إذا كانت -مثل ما يقع الآن- تحرم في ساعة، وبعد ساعة، أو ساعتين، أو ثلاث، تدخل بين الرجال، وتخالط الرجال فلا شك أنهم سيشمون طيبها، ويكون حينئذٍ عدولها عن التطيب أبلغ وأكمل، والله تعالى أعلم. شعث المحرم والمقصود منه السؤال هل يفهم من الحديث: ( إن عبادي أتوني شعثاً غبراً )، أنه لا يستحب للمحرم أن يغتسل عند شعثه؟ وماذا عن تبديل ملابسه؟ الجواب الحديث القدسي ( انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ) لا يستلزم عدم الغسل، فإن الشعث والغبرة تقع حتى ولو اغتسل الإنسان، والسبب في هذا: أن الشعث يكون من السفر، ويكون نسبياً، فإذا كان الإنسان اغتسل في حجه فإنه لا يؤثر هذا في وصفه بالشَّعِثِ، ولا يمنع أن يوصف بالغبرة؛ لأنه إذا انتفت الغبرة عن شعره وعن بدنه، لا شك أنه إذا خالط الناس ومشى في عرفات سيصيبه نوع من الشعث، ونوع من الغبرة، والدليل على ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم أُثِر عنهم أنهم كانوا يغتسلون قبل زوال يوم عرفة، ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل في نمرة، ثم يغتسل عند الزوال، ويمضي لصلاته، وقال بعض العلماء: إن الحديث ( انظروا لعبادي أتوني شعثاً غبراً من كل فج ) المراد به: الوصف الأعم، يعني: أنهم الغالب في حالهم أنهم يأتون شعثاً غبراً، ألا ترى أنه لو بلغ مكة، أو وصل إليها، يأتي وقد أنهكه السفر وتغيرت معالمه؟ فلا يشترط في يوم عرفة بخصوصه؛ لأن المراد به: مطلق الإتيان، وقوله: ( أتوني شعثاً غبراً ) لا يستلزم يوم عرفة بعينه، وإنما المراد به مطلق الإتيان، والشعث والغبرة مصاحبان للحاج حتى ولو اغتسل، ألا ترى أنه تصيبه الجنابة، وفي الحجاج من يجنب فيغتسل، فهذا كله لا ينفي وصفهم بالشعث والغبرة. وعلى هذا فإن العلماء رحمهم الله استحب بعضهم أن الإنسان إذا أصابه الشَّعَثُ ألا يزيله، وكذلك إذا أصاب الشعث إحرامه أو إزاره أو رداءه أنه لا يغسله، حتى يكون أبلغ في الذلة لله عز وجل، وأبلغ في إظهار الفاقة لله سبحانه وتعالى والتواضع، وقالوا: إنه كلما كان على هذه الحالة كلما كان أرجى للإجابة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ( ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟ ). يقول الإمام ابن رجب عليه رحمة الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أن يبين أبلغ حالات التضرع التي يُظن فيها الإجابة، فقال: (أشعث أغبر)، فقالوا: إن الإنسان كلما كان بعيداً عن الترفه والتكبر على الناس في ملبسه وزيه؛ كان أرجى للقبول عند الله عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ) . وأما الأمر الثاني: إطالة السفر، وقد جاء أن المسافر له دعوة مستجابة كالمريض. كذلك أيضاً قوله: (يمد يديه إلى السماء)، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( إن الله حييٌ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً )، فقالوا: إن الأفضل لموقفه في عرفة أن يكون على الشعث والغبرة، لكن ليس معناه: أن الإنسان يتكلف، ويبالغ في هذا، أو أن الإنسان يترك نعم الله عليه بلبس الثياب الطيبة، والارتفاق بنعم الله وطيباته التي أخرجها للعباد، إنما المراد أن العلماء قالوا: إن حصل هذا اتفاقاً للإنسان فإنه يترك شعثه وغبره، حتى يكون أبلغ في الذلة لله، وليس معنى ذلك -كما يفعله بعض الناس- أنك تجده على رائحة نتنة، وعلى حالة تؤذي الناس وتضر بهم، إذا صلى معهم شوش عليهم، وإذا جلس معهم آذاهم برائحته، فهذا ليس من الإسلام في شيء، إنما السنة أن يعتني الإنسان بنفسه، وللبدن على الإنسان حق، وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يتطيب، وقال: ( إن الله جميل يحب الجمال ) وقال: ( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ). فليس المراد بهذا التقصد، بأن يذهب الإنسان ويغبر نفسه ويؤذي نفسه حتى يأتي أشعث أغبر لا، إنما المراد أن الوصف الأعم للناس، أو الغالب للناس أنهم يأتون على هذه الصفة، حتى لو اغتسلت يوم عرفة، ومضيت إلى عرفة فإنك لا تأمن من الشعث بازدحام الناس، وبما يكون من خروج الإنسان للدعاء والمسألة بين يدي الله عز وجل، والله تعالى أعلم. رفع الصوت بالدعاء في السعي والطواف السؤال هل يرفع الحاج والمعتمر الصوتَ بالدعاء في السعي والطواف أم يسر به؟ وما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ الجواب السنة في الدعاء أن يكون بين العبد وربه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً )، والله أقرب إلى العبد من حبل الوريد، فلا حاجة إلى رفع الصوت بالدعاء، وإشغال الناس والتشويش عليهم، خاصة في الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والأدهى من ذلك والأمرُّ أن يكون هناك شخص يدعو جهرةً، ثم الذين من ورائه يرفعون أصواتهم، فهذا يؤذي الناس ويشوش عليهم، حتى إن الإنسان لربما لو دخل من أطراف الحرم لسمع صياح هؤلاء وهذا كله ليس من السنة، فإذا كان ولابد فيدعو الرجل أمام الناس والبقية يدعون في سرهم، ولا حاجة أن يرفعوا أصواتهم، فإذا احتيج إلى رفع صوت الداعي بقي من بعده يدعو فيما بينه وبين الله إذا احتيج إلى هذا، أما أن يصيح ووراءه الثلاثون، والأربعون يصيحون يشوشون على المصلي والراكع والساجد، فهذا كله لا شك أن فيه أذيةً للناس، وأذيةُ الناس في هذا الموضع لا شك أنها لا تخلو من إثم، وعلى هذا فإنه لا يسن، ولا يشرع أن يرفع الإنسان صوته على هذه الصفة التي تشوش على الناس وتؤذيهم، إنما يدعو الإنسان فيما بينه وبين الله تعالى، والله عز وجل سميع قريب مجيب، ولا حاجة إلى رفع الصوت بالدعاء. وقد كان عليه الصلاة والسلام يدعو ربه ويسأله، ولم يحفظ عنه أنه رفع صوته بالمسألة، وهذا -كما يقال- إلا في بعض المواضع المخصوصة، ولذلك لو جئت تتأمل هديه عليه الصلاة والسلام لوجدته على هذا. وتخصيص بعض الأطواف بأدعية مخصوصة، ويكون دعاؤها جهراً، كل ذلك مما لا أصل له، وقد كان عهده عليه الصلاة والسلام أنه دعا، وأطلق في الدعاء والمسألة، ولم يخص دعاءً معيناً لكل شوط، ولكل سعية بين الصفا والمروة، فكل ذلك مما لا أصل له، ونص الأئمة والعلماء على أنه لا يشرع تخصيص الأطواف والأشواط بأدعية مخصوصة، في الشوط الأول، والشوط الثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسادس، والسابع، كل ذلك مما لا أصل له، وإنما يُقْتَصَر على الدعاء فيما بين العبد وبين ربه. والسنة: أن يدعو الإنسان، ولا يحتاج إلى أحد من الناس ليدعو له، فإنه من أعظم المصائب أن لا يعرف الإنسان كيف يدعو ربه وكيف يسأله، فالإنسان يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، ولا حاجة أن يدعو أمامه الإنسان، أو يلقنه الدعاء إنسان، فأنت أعلم بحاجتك، وأعلم بشدة فقرك إلى ربك، فاسأله من خير دينك ودنياك وآخرتك، واسأله صلاح دينك، وصلاحاً لأهلك وذريتك، ورحمة لوالديك، ونحو ذلك من الأدعية التي هي من جوامع الدعاء، التي فيها خيري الدنيا والآخرة للعبد. وأما كونه يدعو وراء إنسان لا يفقه ما يقول، ولا يعلم ماذا يدعو به فلا ينبغي ذلك، حتى إن بعض الناس يسمع الأدعية ويرددها، وهو لا يدري ماذا يقال، والذي ينبغي: أن الإنسان يدعو فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يشرع الدعاء جهرةً، ولا يشوش على الطائفين، ولا على المصلين، خاصة في صلاتهم عند المقام بعد فراغهم من الطواف، ولو رأيت ذلك لوجدته، فإنك إذا فرغت من الطواف، ومر عليك الجمع وهم يدعون ويسألون لا تستطيع أن تخشع، ولا تستطيع أن تعرف كيف تسأل الله عز وجل، وهذا لا شك أن فيه أذيةً للطائفين، ولا ينبغي للمسلم أن يكون سبباً في أذية إخوانه، والله تعالى أعلم. وصايا ونصائح لطلبة العلم عند الامتحانات السؤال كما تعلمون، فإن الامتحانات قد قرب موعدها، فهلا تفضلتم بوصية في ذلك؟ الجواب نسأل الله أن يعيننا على كل حال في الدنيا والآخرة. أما الوصية الأولى: فأوصي نفسي وإخواني بتقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله تعالى جعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وأصلح له أمور دينه ودنياه، وانتهت أموره إلى خير، وما خرج الإنسان بشيء أحب إلى الله تعالى، ولا أكرم عليه من تقواه سبحانه؛ لأنها قائمة على أساس الدين وهو إخلاص العمل لله عز وجل، قال تعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة:197]. أما الوصية الثانية: فأوصي إخواني طلاب العلم أن ينتبهوا للحقوق والواجبات، ومن أعظم هذه الحقوق أن يكون همهم إرادة وجه الله عز وجل فيما يطلبون من العلم، فإن العلم لا يراد للدنيا، وإنما يراد لوجه الله تعالى، فيخلص الإنسان لوجه الله تعالى، وما يناله من فضل الدنيا يجعله تبعاً لا أساساً. ومن الحقوق الواجبة: حقوق النفس، فبعض طلاب العلم يسهرون، ويحملون النفس ما لا تطيق، فتجده يسهر إلى ساعات متأخرة من الليل، لربما يفوِّت معها صلاة الفجر، وكذلك أيضاً ربما يصاب بالمرض، أو يضني جِسْمَه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إن المْنبَتَّ لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع )، فكم من أناس حَمَّلوا أنفسهم ما لا تطيق فخرجت أجسامهم بالأسقام والآلام، ولم يظفروا بما يطلبون، فالذي ينبغي على الإنسان أن يتقي الله تعالى في نفسه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن لنفسك عليك حقاً ) فطالب العلم الموفق يجعل وقتاً لنومه، ووقتاً لراحته، ووقتاً لاستجمامه، ووقتاً لمذاكرته ومراجعته، فإذا أعطى النفس حقوقها فإنها بإذن الله تستجيب له، وتعينه على الخير الذي يطلبه. الأمر الثالث الذي أوصي به: حقوق إخوانك من طلاب العلم، فينبغي ألا تجعل الاختبار وسيلة للتنافس غير المحمود، بل ينبغي عليك أن تكون سمح النفس، منشرح الصدر، تحب لإخوانك مثلما تحب لنفسك، بل تحب لهم أكثر مما تحب لنفسك، فالاختبارات هذه كما أنها امتحان للدنيا هي امتحان للآخرة، فإياك إياك أن تدخل في قلبك كراهية خير لإخوانك، فإن جاءك أخوك يحتاج إلى إعانة، أو يحتاج إلى شرح، أو يحتاج إلى مساعدة، أو سألك عن مسألة، أو تعلم أن هذا شيء مهم يحتاج إلى التنبيه نبهته عليه، كل ذلك حتى تتعود الإيثار، وتتعود مكارم الأخلاق، وتحمل نفسك على محاسنها، وتبتعد عن الأمور التي تغضب الله عز وجل والتي منها الحسد، ومنها كراهية الخير للمسلمين، وكلما كان الإنسان مستجمعاً في نفسه حب الخير للعباد، كلما كان أقرب للفضل في الدنيا والآخرة. ويدل على ذلك كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن رجلاً مر على غصن شوك بالطريق فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فزحزحه فغفر الله له ذنوبه ). إن غصن الشوك إذا جئت تقارنه ببعض الحسنات، قد يكون يسيراً أمامها، لكن الرجل قال: (لأنحينه عن طريق المسلمين لا يؤذيهم)، فكانت حسنته ليست على رجل، ولا على رجلين، ولكن على أمة، فلما كان هدفه وباعثه أنه أشفق على المسلمين؛ لأنه لا يحب الأذية لهم، ولا يحب الإضرار بهم، كان هذا هو سبب المغفرة، إذ رحم المسلمين فرحمه الله، فلما كان في النفس هذا المعنى، وكان في النفس وفي القلب هذا الشعور، كان له من الله عز وجل من رحمته ما لم يخطر له على بال، في رواية : ( فزحزحه عن الطريق؛ فزحزحه الله به عن نار جهنم ) . فالإنسان كلما كان نقي السريرة، سليم الصدر نال الخير، وأظهر الله عز وجل سلامة صدره في فلتات لسانه، وتصرفاته، وأفعاله، وكلما تعود كراهية الخير للناس، وكراهية الفضل لهم، كلما حرمه الله من الفضل، ولذلك حُرِم الناس -نسأل الله السلامة- كثيراً من الخير بسبب ما في القلوب، كما قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الرعد:11]. فإذا وجدت الإنسان حريصاً على حب الخير للناس، حريصاً على نفعهم، سخي النفس، سمح النفس، يبذل ويعطي ويعين، تجده غداً أحرى بإمامة الناس، ودلالتهم على الخير، ونشر الخير بينهم؛ لأنه عود نفسه على ما فيه خير دينه ودنياه وآخرته، فيحرص طالب العلم على أنه يبذل الخير لإخوانه، وأنه يعينهم، وتكون هناك المعاني الإسلامية الكريمة من الإيثار والحب والتصافي والتواد. وكذلك أيضاً مما يوصى به طلاب العلم في أيام الاختبارات: أن يحافظوا على ذكر الله عز وجل، فإن الله عز وجل جعل تفريج الهم والغم مقروناً بذكره، فقال سبحانه وتعالى: { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد:28] فوالله لا تزال القلوب في قلق وهم ونكد ونصب وتعب إلا إذا ذكرت ربها، والتجأت إلى الله خالقها، فأثنت عليه بما هو أهله فمجدته وعظمته وذكرته، ومن ذكر الله ذكره، ومن ذكره فلا تخشى عليه الضيعة، ولا تخشى عليه الفوات، وأمره إلى حسن العاقبة، وحسن المآل قال تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس:62] * { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس:63]، فأولياء الله الذين هم على طاعته وعلى استقامة على دينه يذكرونه، خاصة في مواطن الشدة، فإن الله يثبت قلوبهم، ويجعل أمورهم إلى خير. فبعض من طلاب العلم إذا جاءت أيام الاختبارات يقصر في الصلاة، فيتأخر عن الصلاة مع الجماعة، ولا يأتيها إلا عن دبر، وربما إذا فرغ من الصلاة قام على عجالة، فلا يذكر الله تعالى، ولا يحافظ على السنة، وأشد ما تكون الحاجة إلى ذكر الله في مواطن الكرب، فعود نفسك كلما ضاقت عليك أمور الدنيا، وكلما عظمت عليك همومها وغمومها أن تتعود على ذكر الله تعالى، وتجعل صلاتك وذكرك وإنابتك لله عز وجل أكثر وأعظم في حال الشدة والبلاء قال تعالى: { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } [الأنعام:43]، أي: فهلا إذا جاء البأس، وجاء الخطب كانت الضراعة، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } [الأنفال:45]. فالإنسان يحرص على أن يستديم ذكر الله عز وجل، وأيام الاختبارات ينبغي أن تكون أحرى بالمحافظة على الصلوات، وشهودها مع الجماعة، والمحافظة على ذكر الله عز وجل، والثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله، ولا تكون سبباً لما هو خلاف ذلك. فإذا تعود طالب العلم أنه إذا ضاق عليه الأمر حافظ على صلواته، وحافظ على ذكر ربه؛ لاستقامت له أمور دينه ودنياه وآخرته، والعكس بالعكس: فمن كان قليل الذكر لله تعالى، قليل الالتجاء إلى الله تعالى، يضيع الصلوات، ويتهاون بها في مثل هذه المواقف، فإنه -والعياذ بالله- إذا أصابته نكبات الدنيا تشتت أمره، وضاع حاله -نسأل الله تعالى السلامة والعافية-؛ لأنه حُرِم أساس فلاحه وصلاحه في الدنيا والآخرة وهو ذكر الله تعالى، فينبغي على طلاب العلم أن يحرصوا على هذا. وأذكر قصةً لأحد الفضلاء من الدعاة إلى الله تعالى، أنه دخل على رجل غني ثري في أمر ما من الأمور، وكانت عنده مصيبة في ماله، وهذا الرجل أوتي من المال شيئاً كثيراً، فقال: دخلت عليه، فلما حضرت الصلاة وهو يراجع معه القضية، وأذن المؤذن لصلاة المغرب قال: قلت له: نريد أن نصلي. قال: أي صلاة؟ نسأل الله السلامة والعافية، قال: نريد أن نصلي. وكان رجلاً موفقاً ديِّناً صالحاً -أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله تعالى- وهو من الدعاة، فقال للرجل: لا يمكن أن أقول لك كلمة واحدة حتى نصلي، فإذا صلينا يكون خيرٌ، فقال: أي صلاة؟ نريد أولاً أن تحل لنا هذا الأمر، ثم نرجع إلى الصلاة. فقال له: أبداً، لن يكون شيءٌ حتى تصلي. قال: والله قام معي وهو لا يعرف كيف يتوضأ -نسأل الله السلامة والعافية- مشغول في دنياه، مشغول في ماله، رجل منغمس في المال من أخمص قدميه إلى شعر رأسه. قال: فنزل، فإذا به يتعلم كيف يتوضأ، وعمره فوق الخمسين سنة -نسأل الله السلامة والعافية- قال: فعلمته الوضوء، فذكر الله عز وجل، ونزل معي إلى المسجد فصلى، قال: فلما صلينا فإذا بالوجه غير الوجه، وإذا بالنفس غير النفس، قال: والله خرجت خارج المسجد أنتظره يخرج، وإذا بالرجل جالسٌ يذكر الله عز وجل، فعجبت من أمره، قال: انتظرت وانتظرت أن يخرج، حتى إنني استعجلت في أذكاري أنتظره أن يخرج فما خرج، وإذا بالرجل يجلس، حتى مللت. يقول: فدخلت عليه فقلت: يا فلان! قال: لقد وجدت راحة ما وجدتها في عمري، لا يمكن أن أخرج من المسجد حتى أصلي العشاء. قال: فيجلس وأجلس معه نذكر الله عز وجل، ونتذاكر ما فيه الخير، ومن كلمة إلى كلمة حتى أذن المؤذن لصلاة العشاء، وأقيمت صلاة العشاء فصلى معي العشاء، ورجع إلى بيته منشرحاً، وقال: غداً تأتيني إن شاء الله بعد العصر. قال: فلما اتصلت عليه من الغد إذا بزوجته تقول: ماذا فعلتم بفلان؟! قضى الليل كله وهو يصلي، ويذكر الله عز وجل، ويقول: شعرت بسعادة، ويقول: ما عدت أريد حلاً لمشكلتي، فذكر الله عز وجل هو ما كنت أبحث عنه، يقول: شعرت بسعادة ما وجدتها في مالي، ما وجدتها في ثرائي، ما وجدتها فيما أنا فيه. يقول هذا الداعية: سبحان الله العظيم، مضيت إليه بعد العصر، وإذا بفترة قليلة جلسنا فيها فحلت المشكلة، وانتهى الأمر الذي كان عائقاً له، وهو يحسب له الحسابات التي لا تنتهي، ولكن بذكر الله تعالى حلت مشكلته، ومن كان مع الله تعالى كان الله تعالى معه، ولو جلسنا نتذاكر في مثل هذا فإنه كثير من قليل مما يقع، فإن الله سبحانه وتعالى مع عبده، وإذا ذكر العبد ربه كان الله تعالى معه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووجهه الكريم أن يذيقنا حلاوة ذكره، ولذة مناجاته والإنابة إلى وجهه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (232) صـــــ(1) إلى صــ(23) شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [1] ما من عبادة إلا ولها صفة وكيفية، قد تكفل الله سبحانه ببيانها، أو بينها رسوله صلى الله عليه وسلم، والركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج له صفتان: صفة كمال، وصفة إجزاء. ويشرع للحاج بعد وصوله إلى مكة المبيت بمنى يوم الثامن، وذلك استعداداً للوقوف بعرفة يوم التاسع، فالوقوف بعرفة هو أعظم ركن من أركان الحج، إذ تتوقف عليه صحة الحج من عدمه. بيان أقسام صفة الحج والعمرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صفة الحج والعمرة] صفة الشيء حليته، وما يتميز به عن غيره، وتكون الأوصاف بالشيء حسية وتكون معنوية، وقد تقدم بيان ذلك في تعريف الطهارة. قوله: (صفة الحج والعمرة) أي: بيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته، ومن عادة الفقهاء والعلماء رحمهم الله أنهم يبتدئون ببيان صفة العبادة على سبيل العموم، فيذكرون ما يلزم وما لا يلزم، ثم بعد ذلك يبينون ما هو لازم وواجب على المكلف، ولذلك تنقسم الصفات في العبادة إلى قسمين: القسم الأول: يصطلح العلماء على تسميته بصفة الإجزاء. والقسم الثاني: يسمونه: صفة الكمال. فإذا بيّن العلماء صفة الحج فإنهم يذكرون صفة الكمال ثم يتبعونها بصفة الإجزاء. أما المراد بصفة الكمال فهي أن يذكر الهدي الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادة، وحينئذٍ يكون في هذه الصفة ما هو ركن وما هو واجب وما هو سنة، ثم بعد ذلك يذكرون صفة الإجزاء التي يقتصر فيها على بيان الواجب واللازم. لماذا يقسمون الصفات إلى هذين القسمين؟ السبب في هذا: أنك إذا قرأت كتاباً في الفقه، أو أردت أن تتعلم الفقه؛ لكي تعمل به وتعلم غيرك، فإنك تحتاج إلى معرفة صفة العبادة من حيث هي، ثم بعد ذلك تعرف ما الذي يعد تركه إثماً وما الذي لا يعد تركه إثماً، فتعرف ما هو لازم وما هو غير لازم، فاللازم يعبرون عنه بالأركان والواجبات، وغير اللازم يعبرون عنه بالصفة العامة، فهو الآن يقول لك: باب صفة الحج، وسيأتيك بعدها: باب أركان الحج وواجباته. و السؤال أليس الأولى أن نبدأ بصفة الإجزاء التي فيها الأركان والواجبات، أم أن الأولى أن نبدأ بصفة الكمال؟ الجواب أن الأفضل أن تبدأ بصفة الكمال فتذكر صفة العبادة كاملة، ثم بعد ذلك تقول: هذا يجب وهذا لا يجب، أما لو ذكرت صفة الإجزاء أولاً، ثم جئت تذكر صفة الكمال فإنك تحتاج إلى تكرار، ولذلك منهج الفقهاء والعلماء أنهم يذكرون صفة الكمال أولاً ثم صفة الإجزاء بعدها، انظر إلى كتاب الوضوء فهم ذكروا: صفة الوضوء كاملة، ثم بعد أن انتهوا قالوا: والواجب كذا وكذا وكذا. كذلك في باب الغسل ذكروا: صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم كاملة كما في حديث ميمونة و عائشة رضي الله عنهما، ثم قالوا: والواجب من ذلك النية، وتعميم بدنه بالماء، والمضمضة والاستنشاق. كذلك أيضاً هنا في الحج يذكرون الصفة الكاملة للحج، فيذكرون ما يفعله الحاج وما يفعله المعتمر، وبعد أن ينتهوا من ذلك كله يقولون: والواجب كذا وكذا وكذا، ويبينون ما هو ركن وما هو واجب ما هو ركن بحيث لو تُرك بطلت العبادة وما هو واجب بحيث لو تُرك لا تبطل العبادة، ولكنه يجبر إذا كان من جنس العبادات التي تجبر فيها الواجبات، أو يحكم ببطلان العبادة في بعض العبادات، كالصلاة إذا تعمد الترك للواجب. وعلى هذا سيذكر المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ويبين في هذه الصفة الأفعال والأقوال التي يفعلها الحاج والمعتمر، ونحن بحاجة إلى هذه الصفة الكاملة؛ لأن من أوقع حجه وعمرته على أكمل الصفات وأتمها، مؤتسياً ومقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم كان أحرى أن يتقبل الله حجه، وأن يتقبل عمرته، وأن يشكر سعيه وما كان من عمله. صفة ومكان إحرام المتمتع وأهل مكة ووقت ابتدائه [يسن للمحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية قبل الزوال منها ويجزئ من بقية الحرم]. أي: (يسن للمحلين الإحرام بالحج من مكة) من عادة العلماء رحمة الله عليهم أنهم إذا ابتدءوا صفة الحج أنهم يذكرون ابتداء النسك، أعني: نسك الحج بالنسبة للمتمتع؛ لأن القارن والمفرد كل منهما باق على إحرامه، ولكن الذي فصل عمرته عن حجه بالتمتع يحتاج إلى بيان ما الذي يلزمه، أما الذي هو حاج وباقٍ على إحرامه مفرداً أو قارناً فلا يزال في نسكه، ولا يزال في إحرامه، ولذلك يبتدئ صفة الحج بذكر متى ومن أين يحرم من كان متمتعاً؟ لأن الحاج على ثلاثة أنواع: إما أن يكون مفرداً، وإما أن يكون قارناً، وإما أن يكون متمتعاً، فأما المفرد والقارن فإنه إذا قدم إلى مكة وطاف وبقي بها إلى يوم عرفة فلا إشكال، أو إلى يوم التروية فلا إشكال، فإنه يمضي إلى منى مباشرة، وهكذا بالنسبة للقارن؛ لأنه لازال كل منهما متلبساً بالنسك، ولكن الإشكال في هذا المتمتع الذي أدى عمرته وبقي بمكة، فإنه محل فكيف يدخل في نسكه؟ فقال: إن السنة أن يحرم من مكة، جاء عن أصاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أحرموا من مكة حينما تحللوا وأرادوا أن يدخلوا في نسك حجهم، فلما كان اليوم الثامن أحرموا بالحج، وللعلماء في هذه المسألة وجهان: قال بعض أهل العلم رحمة الله عليهم: إنه يحرم من أي مكان من مكة. وقال بعضهم: إنه يحرم من الحرم، أي: من داخل المسجد الحرام. والصحيح: مذهب جمهور العلماء: أنه يحرم من منزله، أو من أي موضع من داخل مكة قبل أن يصل إلى منى. ورخص بعض العلماء أن يؤخر إحرامه إلى منى، وفي النفس منه شيء، والذين رخصوا في تأخير الإحرام إلى منى، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه أن يحرموا قبل الخروج إلى منى. وهذا لا يخلو من نظر، فإن الأصل يقتضي أن من أراد المضي والذهاب إلى نسك حجه يقتضي أن يكون من موضعه، وبناء على ذلك فإنه إذا ذهب إلى منى فإنه ذاهب وقاصد لحجه، وبين مكة ومنى مسافة، خاصة في القديم فإنه كان هناك مسافة تفصل مكة عن منى، ولذلك أشبه بالرجل الذي يريد الإحرام من موضع من البلد، فإن الأولى والأحرى له أن يحرم من مسكنه الذي نوى منه. وقال بعض العلماء: البلد كله بمثابة الموضع الواحد. فعلى هذا القول الثاني في أن البلد كله بمثابة الموضع الواحد، فإنهم يرون أن له أن يؤخر إلى منى. ولكن الذي تطمئن إليه النفس أن يحرم من نفس مكة لإحرام الصحابة من الأبطح، وهذا هو الأولى والأحرى؛ لما فيه من زيادة العبادة، ولما فيه من الاحتياط لها، وكل منهما مندوب إليه ومطلوب شرعاً. وقوله: (المحلين) يشمل من كان متمتعاً ويشمل أهل مكة، فأهل مكة إذا أرادوا الحج فإنهم يكونون محلين في داخل مكة، ولذلك يمضون من مكة، فالأفضل لهم أن يحرموا من بيوتهم إعمالاً للأصل كما ذكرنا. قوله: (يوم التروية قبل الزوال منها) أي: أن السنة والأفضل والأكمل أن يقع إحرامهم قبل الزوال؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فرض الظهر والعصر من اليوم الثامن الذي هو يوم التروية بمنى، وصلى المغرب والعشاء والفجر وهما محسوبان من التاسع، أعني: يوم عرفة، وإن كان بعض العلماء يرى أن عشية عرفة لما بعد. على العموم فالسنة أن يصلي الخمسة الفروض بمنى، وإذا كانت السنة أن يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر بمنى فالعبرة بوقت هذه العبادة، فلابد وأن يكون فعله للظهر بمنى. يحرم للنسك قبل الزوال، حتى إذا زالت الشمس ودخل وقت الظهر وهو بمنى، أمكنه أن يصيب السنة فيصلي مع الإمام، وهذا هو الأفضل والأكمل؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمي يوم التروية بهذا الاسم ؛ لأنهم كانوا يحملون فيه الماء إلى عرفة من أجل ريِّ الحجاج؛ لأن الناس كانوا في القديم كثيرين، وكان الماء قليلاً، فيحتاجون إلى أن يحتاطوا للحجاج بتهيئة الماء قبل يوم عرفة، فاليوم الثامن يهيئون فيه الماء، ويسمى: يوم التروية من أجل هذا، فإذا أحرم يكون إحرامه منها، والضمير في (منها) عائد إلى مكة، فدل على أن السنن منها: زمانية، ومنها: مكانية. أولاً: يكون الإحرام قبل الزوال على وجه يدرك به صلاة الظهر بمنى. ثانياً: يكون الإحرام من مكة كما ذكرنا، فيخرج إلى منى وهو حاج؛ حتى يكون أدعى لإصابة السنة، ولما فيه من الاحتياط كما ذكرنا. قوله: (ويجزئ من بقية الحرم) أي: يجزئ إحرامه من أي موضع من الحرم، وهذا فيه رد على من قال: إنه لا يحرم إلا من المسجد، أي: من مسجد مكة، والصحيح أنه يحرم من أي موضع من الحرم، ولكن يتحرى من بيته؛ لأن نيته أن لا يخرج من بيته إلا وهو محرم؛ لما فيه من الاحتياط. مشروعية المبيت بمنى في يوم التروية قال المصنف رحمه الله: [ويبيت بمنى] قوله: (ويبيت بمنى) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم باتوا بمنى، فصلوا الفروض الخمسة التي ذكرنا، وهذه سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها. قال بعض العلماء: صلاة الظهر يوم التروية للحاج بمنى أفضل من صلاته في المسجد الحرام. وهذا على القول بأن مضاعفة الصلاة تختص بالمسجد نفسه، فالجمهور خلافاً للشافعية يقولون: إن صلاة الظهر يوم التروية للحاج بمنى أفضل من صلاتها في المسجد الحرام، لماذا؟ قالوا: لأنه اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا صلى الظهر بمنى تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به عليه الصلاة والسلام أعظم الأجر والثواب. السير إلى عرفات بعد طلوع الشمس والدخول إليها بعد الزوال [فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة] قوله: (فإذا طلعت الشمس) أي: في صبيحة يوم عرفة يذهب إلى عرفة، ولذلك قال أنس رضي الله عنه: ( غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا المهل ومنا المكبر ومنا الملبي، فلم يعب أحد منا على الآخر )، فالسنة: أن يغدو بعد صلاة الفجر من منى إلى عرفات، والسنة: أن يسلك طريق ضب الذي يكون من أسفل الجمرات من عند جمرة العقبة، ثم إذا مضى منه إلى عرفات يأتي طريق المأزمين الذي هو طريق الجبال عن يساره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من منى بعد أن صلى الفجر بمسجد الخيف، ثم لما صلى الفجر مضى عليه الصلاة والسلام وغدا إلى عرفات، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يمضي إلى عرفات راكباً، فلما سلك هذا الطريق وهو طريق ضب نزل بنمرة، ونمرة: هو الموضع الذي بين حدود الحرم وبين وادي عُرَنَةَ، فأنت إذا قدمت من جهة منى تريد دخول عرفات، فإنه تقابلك أعلام الحرم التي هي نهاية حدود الحرم، بعد أعلام الحرم يقابلك منبسط من الأرض فسيح يقرب من نصف كيلو، ويتقاصر ويضيق على حسب الوادي، ثم بعد ذلك يقابلك وادي عُرَنَةَ، ثم أرض عرفة. فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أن جاء فضربت له قبة بنمرة، وكانوا لا يشكُّون أنه سيبقى في حدود الحرم؛ لأن قريشاً في الجاهلية كانوا يقولون: نحن أهل الحرم ولا نخرج من الحرم، فكانوا يبقون في داخل حدود مكة، ويتميزون عن الناس، وهذا هو الذي وردت فيه الآية: { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [البقرة:199] فكانوا يقولون: إنهم الحمس وأهل الحرم، وهذا من مختلقات الجاهلية، وهي من مسائل الجاهلية التي خالفوا فيها دين الحنيفية، التي كانت عليها ملة إبراهيم عليه السلام، فنزل عليه الصلاة والسلام بنمرة، ولذلك قال العلماء: السنة أن لا يدخل إلى عرفات إلا بعد الزوال، لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمض إلى عرفات مباشرة، وإنما نزل في هذا المنبسط من الأرض وبقي فيه إلى قرب زوال الشمس، فلما زالت الشمس ركب ناقته القصواء صلوات ربي وسلامه عليه، وهذا يستفاد منه: أن الأفضل والأكمل أن ينزل الحاج قبل عرفة إن أمكنه ذلك وتيسر له، خاصة إذا كان من طلاب العلم وأهل العلم، فالأفضل له أن يتحرى هذه السنة، في أن يكون دخوله لعرفات بعد الزوال، فيبقى في هذا الموضع، ولا زال بعض طلاب العلم وبعض المشايخ يتحرون هذه السنة إلى يومنا هذا والحمد لله، فتراهم ينزلون في نمرة حتى إذا زالت الشمس مضوا إلى عرفات، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يفعله، وإذا زالت الشمس مضى إلى المسجد وصلى على الصفة التي سيذكرها المصنف رحمه الله، الشاهد: أنه يمضي بعد صلاة الفجر، ويكون نزوله دون عرفة، ويكون دخوله إلى عرفة بعد الزوال. حكم الوقوف بعرفة وحدودها [وكلها موقف إلا بطن عرنة]. قوله: (وكلها موقف) أي: كل عرفة موقف (إلا بطن عرنة) وهو الوادي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ارتفعوا عن بطن عرنة ) فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لما زالت الشمس مضى على ناقته القصواء، وخطب الناس من بطن الوادي، فخطب الناس بشعائر الإسلام خطبته المشهورة التي أحل فيها الحلال وحرم فيها الحرام، وبيّن فيها شرائع الإسلام، وأوضح الحقوق صلوات الله وسلامه عليه، ودعا إلى أدائها، وحرم المحارم وحذر منها صلوات الله وسلامه عليه، فكان من هديه أنه وقف ببطن عرنة للخطبة، ولذلك قال بعض العلماء: إن بطن عرنة من عرفة، ولكنه ليس بموضع للموقف، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الموقف يبتدئ من بعد الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب من بطن الوادي ثم نزل فصلى عليه الصلاة والسلام، ثم مضى إلى الموقف، ولذلك استفادوا من هذا أن السنة على النحو الآتي: أن ينزل دون عرفة -في نمرة- قبل الزوال، فإذا زالت الشمس مضى إلى المسجد وصلى مع الإمام، ثم بعد ذلك يبتدئ موقفه بعد انتهاء الصلاة، وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، فمن كان في بطن الوادي أو كان بنمرة ما بين الوادي وما بين حدود الحرم، فإنه لا يصح حجه إذا لم يدخل إلى حدود عرفة. مشروعية الجمع يوم عرفة بين الظهر والعصر وحكمته [ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر] قوله: (ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر)، وهذا الجمع جمع تقديم؛ والجمع ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: جمع التقديم وضابطه: أن يصلي الثانية في وقت الأولى، سواء كان الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، فيصلي العصر في وقت الظهر، فيبدأ بالظهر أولاً ثم العصر ثانياً. وكذلك المغرب والعشاء، فيصلي العشاء في وقت المغرب، فيبدأ بصلاة المغرب ثم يقيم ويصلي العشاء، فهذا يسمى: جمع تقديم. القسم الثاني: جمع التأخير وضابطه: أن يصلي الأولى في وقت الثانية، فيؤخر الظهر إلى وقت العصر، ويؤخر المغرب إلى وقت العشاء، ولا يتأتى ذلك منه إلا بالنية، فيكون في خلال وقت الأولى وهي الظهر ووقت الأولى وهي المغرب بالنسبة للعشاءين ناوياً الجمع، فلو كان على سفر ونسي وسها عن صلاة المغرب، ولم ينو الجمع حتى مضى وقت صلاة المغرب، ثم دخل وقت العشاء فتذكر، فحينئذٍ يصلي المغرب أولاً لكن بنية القضاء لا بنية الجمع؛ لأنه قد فاته وقت المغرب وهو لم ينو الجمع. ولذلك الجمع يكون جمع تقديم وجمع تأخير، وهنا الجمع في يوم عرفة جمع تقديم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم العصر إلى وقت الظهر، وهذا الجمع حكمته كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم: التفرغ لما هو أهم وأعظم وهو ذكر الله عز وجل والثناء عليه بتوحيده ومسألته من واسع فضله؛ وذلك لأن هذا الموقف وهو موقف عرفة موقف عظيم، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحج عرفة وقال: ( الحج عرفة ) ؛ تعظيماً لهذا الموقف، فنظراً لهذا هيئت الأسباب ليفرغ وقته للذكر ويفرغه للعبادة، إلى درجة أن الصلاة التي هي من أعظم الأمور بعد الشهادتين وأجلها قدمت عن وقتها؛ حتى يتفرغ في وقت الثانية لذكر الله عز وجل وسؤاله من فضله. سنية الوقوف عند جبل الرحمة مستقبل الصخرات راكباً [ويقف راكباً عند الصخرات وجبل الرحمة]. الشيخ: (ويقف راكباً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على ناقته القصواء، يقف راكباً وإن وقف بدون دابة فهذا يسمى: وقوفاً اعتبارياً: قال بعض العلماء: إن من السنة أن يكون على دابته، وفي حكم الدابة السيارة الآن، ولا يشكل على هذا أنه في السيارة كالراكب والجالس؛ لأنه على الدابة كالراكب والجالس، ولذلك السنة أن يكون على دابته إذا تيسر له ذلك، وإذا لم يتيسر وأراد أن يقف في خيمته أو في منزله أو داخل المسجد في حدود عرفة، ويحتاط أن لا يقف بمقدمة المسجد فإنه يجزيه، وهذا من باب الكمال لا من باب اللزوم والوجوب، أي: أنه ليس بلازم وليس بواجب، المهم أنه يمضي عليه الوقت ولو لحظة وهو داخل حدود عرفة في وقت الموقف. فإذا وقف قام عند جبل الرحمة مستقبل الصخرات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مضى إلى الموقف استقبل الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، وتضرع صلوات الله وسلامه عليه من بعد صلاته إلى غروب الشمس، وهذا الموقف ليس بلازم وإنما هو من باب الكمال إن تيسر للإنسان، وأما إذا لم يتيسر ففي أي موضع من عرفة يجزيه أن يقف فيه، وأن يسأل الله عز وجل من فضله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وعرفة كلها موقف ) ، فأجاز للأمة الوقوف في أي موضع من عرفة، ولكن هنا أمر يفعله بعض الناس وهو صعود الجبل، وصعود الجبل ليس له دليل يدل عليه، حتى قال بعض العلماء: إن تكلف الصعود . يعتبر بدعة وحدثاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف ذلك، ولم يتكلفه الصحابة، والغالب أن العامي يفعل ذلك لاعتقاد الفضل ومزية الأجر، ولذلك كان أشبه بالمحدث، والخير كل الخير في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقتداء به والتأسي به صلوات الله وسلامه عليه، فلا يشرع الصعود إلى الجبل، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم. ويجتهد في الدعاء وسؤال الله عز وجل من فضله، ويقول بعض العلماء: إن المسلم إذا نظر إلى حكم الشرع بتقديم العبادة عن وقتها من أجل التفرغ للدعاء والمسألة؛ دعاه ذلك إلى أن يحفظ هذا الوقت، وأن يحفظ هذه الساعات فيجتهد في سؤال الله عز وجل من فضله العظيم، ولذلك كره بعض العلماء أن ينام؛ لأن النوم يدل على الاستخفاف بعظمة هذا الموقف، خاصة إذا كانت نفسه قوية وعنده القدرة على أن يصبر إلى الغروب، ولا شك أنه قد فاته خير كثير، فالذي ينام مع قدرته على المواصلة إلى المغرب لا شك أن فيه غفلة، وهذا من ضعف الإيمان -نسأل الله السلامة والعافية- أن يأتي إلى هذا الموضع الذي تقطعت قلوب المسلمين حرقة أن يبلغوه، وهلكت الأنفس من أجل بلوغه والتمتع به، وإذا به يضع رأسه لكي يستريح وينام، ولا شك أن كل ذلك يدل على غفلته وموت قلبه نسأل الله السلامة والعافية! بل قال بعض العلماء: الأدهى من ذلك والأمر أن يضيع وقته في فضول الأحاديث، أو فيما حرم الله من الغيبة والنميمة. فينبغي على طالب العلم وعلى من كان قدوة كالعلماء ونحوهم، أنهم إذا فرغوا من الصلاة أن يروا الناس الاجتهاد في الدعاء، والإلحاح في المسألة والضراعة مع البكاء والخشوع، وسؤال الله عز وجل والثناء عليه سبحانه بما هو أهله، فهذا من شكر نعمة الله عز وجل على العبد، فالذي بلغ الإنسان لهذا المبلغ لا شك أنه يريد به الخير، ولو لم يرد الله بك خيراً لم يبلغك إلى هذا المكان، ولم يبلغك إلى هذا الموضع، فلذلك كان من الحري بالمسلم أن يشكر نعمة الله عليه؛ فيجتهد في سؤال الله والتضرع لله سبحانه وتعالى، وأفضل ما دعي به سبحانه وأثني عليه هو توحيده والإكثار من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله ) . فالمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بهذا الحديث على أن الأفضل أن يثني على الله بتوحيده، الذي من أجله شرع الله عز وجل هذا الركن العظيم، فأفضل ما يثنى به على الله أن يوحد ويهلل ويكبر سبحانه، فيشتغل المسلم بالدعاء إلى غروب الشمس، ويجتهد في المسألة وسؤال الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة. استغلال يوم عرفة بكثرة الدعاء وتخير جوامع الدعاء [ويكثر من الدعاء بما ورد] قوله: (ويكثر من الدعاء بما ورد) المراد هنا (بما ورد) يحتمل أمرين: إما بما ورد من دعائه يوم عرفة في حديث الطبراني وغيره، ولا تخلو هذه الأحاديث من كلام ومن ضعف. وإما أن يدعو بما ورد، يعني: يتخير في دعائه جوامع أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، والتي منها: ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: ( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمت أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر ) ونحو ذلك من الأدعية، وكذلك يدعو بما ورد من توحيد الله عز وجل، أعني: التهليل كما ذكرنا، فالأفضل أن الداعي إذا دعا يدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا دعا بالدعاء الوارد كان له أجر الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر بعض العلماء: أن من آداب الدعاء تخيّر جوامعه، وإذا تخيّر جوامع الدعاء متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك أقرب لأن تجاب دعوته، وتجاب مسألته، فهو أحرى بالقبول من الله عز وجل؛ لأن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم والاتباع لسنته فيه خير وبركة، وجعل الله اتباع رسوله صلوات الله وسلامه عليه سبيل هدى وطريق رحمة، فقال سبحانه: { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [الأعراف:158] ، قال بعض العلماء: ما تحرى أحد سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان هادياً مهدياً، أي: جعله الله مهتدياً في نفسه هادياً لغيره، ولذلك تجد طلاب العلم وأهل العلم الذين يتمسكون بالسنة ويحرصون عليها، تجدهم هداة مهتدين، وتجد ما يضع الله لهم من البركة والنفع عند المسلمين خيراً كثيراً، فلذلك يحرص الإنسان على أن يدعو بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من رجاء القبول، ولما فيه من الاهتداء والرحمة والخير الذي جعله الله عز وجل لمن تأسى واقتدى به صلوات الله وسلامه عليه. مدة الوقوف بعرفات وابتداؤه وانتهاؤه [ومن وقف ولو لحظة من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر]. قوله: (ومن وقف ولو لحظة من فجر يوم عرفة)، هنا مسألتان: المسألة الأولى: ما هو أقل الواجب في الوقوف؟ والمسألة الثانية: ابتداء الوقوف، متى يبتدئ الوقوف ومتى ينتهي؟ هاتان المسألتان متعلقتان بركن الوقوف بعرفة. المسألة الأولى: ذكر المصنف رحمه الله المضي من منى إلى عرفات، وبعد أن بيّن لك هدي النبي صلى الله عليه وسلم والصفة الكاملة في الوقوف، ف السؤال ما هو المعتبر للوقوف بعرفة؟ فقال رحمه الله: (ومن وقف ولو لحظة)، أي: فمن دخل إلى حدود عرفة ولو ماراً بها ولو مر بجزءٍ منها مروراً، وهذا هو المعبر عنه بلحظة، فإنه يعتبر واقفاً إذا كان في الوقت المعتبر والمحدد شرعاً، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار ) فقوله: (أي ساعة) أي: لحظة؛ لأن العرب تطلق الساعة على اللحظة كقوله تعالى: { كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ } [يونس:45] فالمراد به اللحظة اليسيرة، ومن هذا الحديث أخذ العلماء دليلاً على أن الوقوف بعرفة يجزئ ولو لحظة، إذا وقع في الوقت المعتبر، لكن لهذا الحكم ضوابط سيأتي إن شاء الله بيانها. المسألة الثانية: متى يبتدئ الوقوف بعرفة؟ وهذه مسألة فيها إشكال، فأنت إذا جئت تنظر إلى يوم عرفة ممكن أن تقول: من طلوع فجر يوم عرفة على أن النهار يبدأ من طلوع الفجر إلى طلوع فجر يوم النحر هذا ابتداء وانتهاء. من ناحية الانتهاء لا إشكال في أنه ينتهي بطلوع فجر يوم النحر، لكن الابتداء قال بعضهم: من طلوع الفجر، وقال بعضهم: من طلوع الشمس، وقال بعضهم: من زوال الشمس، وهذا القول الأخير من القوة بمكان، وفائدة الخلاف: أنه إذا وقف قبل الزوال ومضى إلى مزدلفة، أو وقف قبل الزوال ثم أغمي عليه، أو أصابه عذر وخرج من عرفة حتى فات زمان التدارك، فإنه على القول بأنه يبتدئ الوقوف من الزوال لم يصح حجه ويتحلل بعمرة؛ لأن الوقت المعتبر والحد المعتبر شرعاً يبتدئ من زوال الشمس، فإذا وقف قبل الزوال أشبه كما لو وقف قبل يوم عرفة، فلا يجزيه أن يقف قبل زوال الشمس، وهذا القول إذا نظرنا إلى ظاهر السنة في فعله عليه الصلاة والسلام، أنه لم يدخل عرفة إلا بعد الزوال فإنه يقوى، لكن من قال: بأنه يبتدئ من طلوع الشمس يقويه قوله عليه الصلاة والسلام من حديث عروة بن مضرس : ( وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار ) فإن ساعات النهار تبتدئ من طلوع الشمس، فحينئذٍ تستطيع القول: بأن السنة من الزوال، وما قبل الزوال دخل بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (من نهار) فإن نهاراً نكرة، والنهار يبتدئ من طلوع الشمس، فإن قيل: بأن النهار يبتدئ من طلوع الفجر، وهذا قول اختاره بعض العلماء. تقول: لو وقف من بعد طلوع الفجر من يوم عرفة ولو لحظة أجزأه وصح حجه. قوله: (من وقف) المراد أن يكون في الموضع المعتبر للوقوف، حتى ولو كان محمولاً، فلو حمل أو كان في سيارة فإنه يصدق عليه أنه واقف بعرفة، فليس المراد من الوقوف وقوف الصفة، يعني: أن يستتم قائماً، فإنه بالإجماع لو كان محمولاً كالمشلول ونحو ذلك فإنه يجزيه. قوله: (من فجر يوم عرفة) هذا مبني على ما قلناه: إن الليل ينتهي بطلوع الفجر، قالوا: فالنهار يبتدئ من طلوع الفجر. هناك قول ثانٍ: إنه يبتدئ من طلوع الشمس كما ذكرنا على أن النهار أصلاً تكون بدايته من طلوع الشمس، وهذا في الحقيقة أقوى. وهناك فوائد تترتب على هذا، منها: مسألة تقسيم الليل، متى تحدد نصف الليل وثلث الليل في قيام الليل، ففي قيام الليل تحسب إلى طلوع الفجر حتى تحسب الثلث الأخير، أما نصف الليل ووقت انتهاء نصف الليل يكون الحساب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق. وهناك قول آخر: وهو أن يحسب من غروب الشمس إلى طلوع الشمس، وهذا قول مرجوح، ونبه شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع إلى رجحان الأول. قوله: (إلى فجر يوم النحر)، أي: إذا طلع فجر يوم النحر فإنه بالإجماع لا يصح وقوفه، إذا طلع الفجر الصادق، وعرفنا الآن أنه يبتدئ الوقوف إما بطلوع الفجر الصادق، وإما بطلوع الشمس، وإما بالزوال، فمن ناحية الجواز مثل ما ذكرنا في هذه الحدود الثلاثة والأقوال الثلاثة، من حيث السنة: يبتدئ الوقوف من الزوال، أي: من بعد صلاة الظهر والعصر، وأن يحضر وينصت للخطبة فإنه يبتدئ وقوفه بعد ذلك، وهو السنة والأفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إلى عرفات بعد صلاته وخطبته، فمن ناحية السنة الموقف يكون من بعد الزوال ومن بعد الصلاة، لكن عندما يقف بعد الزوال فمتى يدفع؟ هل يدفع بغروب الشمس، أو يدفع قبل الغروب؟ الجواب أنه لا يدفع إلا بعد غروب الشمس، وهذا بإجماع العلماء، على أن الواجب عليه أن يبقى إلى غروب الشمس، وعليه فإن وقوف النهار يتقيد بغروب الشمس بخلاف وقوف الليل، فمن وقف نهاراً فإنه لا يستتم موقفه على الوجه المعتبر إلا إذا غربت عليه الشمس وهو بعرفة، فإذا كان الوقوف نهاراً فلابد وأن يمسك جزءاً من الليل، وسنبين السبب في ذلك ودليله من حديث جابر رضي الله عنه. أما لو وقف ليلاً فيجزيه أي لحظة، فقوله هنا: ولو لحظة ليس على إطلاقه، إنما المراد به هنا بيان الركن، فالوقوف الذي يتحقق به ركن الحج يبتدئ من هذا الزمان وينتهي بهذا الزمان، هذا قصد الركنية، أما من جهة الوقوف الواجب واللازم الذي ينبغي عليه أن يتقيد به، وإذا ضيعه لزمه الدم وجبره فسيبينه رحمه الله. شروط أهلية صحة الوقوف بعرفات [وهو أهل له صح حجه وإلا فلا]. قوله:(وهو أهل له) يشترط في وقوف الركن هذا أن يكون أهلاً، وللأهلية شروط: الأول: أن يكون مسلماً فلا يكون كافراً، ولو أن كافراً مثلاً كان بأرض عرفة قبل الزوال وأسلم بعد الزوال أو أسلم بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر ولو بلحظة واحدة، وكان قد نوى حجاً فإنه يجزيه ويصح منه، إذاً لابد أن تكون الأهلية متوفرة وموجودة، فلو كان كافراً لم يصح وقوفه، فلو أسلم قبل طلوع الفجر كان واقفاً، كأن يكون رقيقاً يخدم سيده وهو كافر فحج مع سيده. أما لو مضى إلى عرفات -هو لا يدخل مكة على القول بأن الكافر لا يدخل مكة- مع سيده فبقي بعرفة يخدمه ويقوم على حاله، ثم طلع الفجر فأسلم، فبطلوع الفجر لا يجزيه وقوفه ولا يعتد بوقوفه؛ لأنه وقف وهو ليس بأهل. الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً، فلو كان مجنوناً فإنه لا يصح وقوفه، أو كان سكراناً وهو خلاف شرط العقل؛ لأن العقل يزول إما بالجنون أو بالسكر أو بالإغماء؛ لأنه في حكم زائل العقل، ففي هذه الأحوال الثلاثة لو كان مجنوناً ودخل إلى حدود عرفة فإنه لا يجزيه، وهكذا لو كان مغمىً عليه فحمل إلى حدود عرفة في وقت الإجزاء ثم إنه لم يفق إلا بعد انتهاء الوقت لم يجزه ذلك الوقوف، وهكذا لو كان سكراناً -والعياذ بالله- فإنه لا يجزيه الوقوف إلا إذا كان مسلماً عاقلاً، وهو أهل للوقوف. الشرط الثالث: أن يكون داخلاً في النسك وهو الإحرام، فلو وقف وهو حلال، ثم نوى الإحرام بالحج بعد انتهاء وقت الوقوف لم يجزه، كما لو حج بعد الوقت. حكم من وقف نهاراً بعرفة ثم خرج منها قبل الغروب ولم يعد [ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله فعليه دم] هذه صفة قدر الواجب، فبعد أن بيّن الصفة المعتبرة لتحقق ركن الوقوف شرع الآن فيما يجب: فقال رحمه الله: (ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب). هذا شرط الوقوف النهاري الذي يجب على المكلف إذا وقف نهاراً أن يمسك جزءاً من الليل، فيقف إلى غروب الشمس، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر : ( أنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في الدعاء وسأل الله من فضله حتى غابت الشمس وذهبت الصفرة ) ، فهناك أمران: الأمر الأول: الغروب، والأمر الثاني: ذهاب الصفرة، وذهاب الصفرة يأخذ ما لا يقل عن ثلاث دقائق وهي صفرة الشمس بعد مغيبها، يعني: يبقى بعد الغروب بهذا القدر، حتى قال بعض العلماء: إنه يعتبر داخلاً في الحد الواجب؛ لأن جابراً رضي الله عنه قال: ( وذهبت الصفرة ) أي: ذهبت صفرة الشمس بعد غروبها، بل كان بعض العلماء يرى أن صلاة المغرب لا تصح إلا بعد ذهاب هذه الصفرة، وإن كان الصحيح أنه لا يشترط؛ لأن حديث جابر رضي الله عنه في الصحيحين: ( والمغرب إذا وجبت ) وقد بيّنا هذا في مواقيت الصلاة. فذهاب الصفرة هو السنة في الدفع من عرفات، والهدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف حتى غابت الشمس وذهبت الصفرة. لو سألك سائل وقال: كيف أوجبت عليَّ أن أقف إلى غروب الشمس مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار )، هذا قد وقف بعرفات ساعة من نهار وصدق عليه الحديث، تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن قوله: ( أي ساعة من ليل أو نهار ) بفعله حيث وقف حتى دخل عليه الليل، فصار حداً لازماً واجباً على الحاج إذا وقف بعرفة نهاراً أن يظل بعرفة حتى تغيب الشمس وتذهب الصفرة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( خذوا عني مناسككم )، قالوا: فدل فعله عليه الصلاة والسلام على وجوب إمساك جزء من الليل، فإذا أمسك الجزء من الليل حينئذٍ صح وقوف النهار، فلو وقف بعرفات نهاراً ثم دفع قبل غروب الشمس فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يمضي ولا يعود فعليه دم؛ لفوات الواجب عليه من إمساك جزء من الليل، وظاهر حديث جابر رضي الله عنه ووقوفه عليه الصلاة والسلام يدل على وجوب الدم عليه؛ لأن هذا الموقف كما ذكرنا على هذه الصفة وقع بياناً لواجب، وبيان الواجب واجب. الحالة الثانية: أن يرجع قبل الفجر ولو بلحظة، مثلاً: ثم أتى عرفات الساعة الثانية ظهراً ووقف ثم دفع قبل أن تغرب الشمس فَنُبِّهَ فرجع، فإن كان قد رجع فلا يخلو رجوعه من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يرجع قبل أن تغرب الشمس، فإن رجع قبل غروب الشمس وبقي إلى أن غابت الشمس فلا إشكال، وسقط عنه الدم وهو قول جماهير العلماء. الحالة الثانية: أن يرجع بعد غروب الشمس، فإذا رجع بعد غروب الشمس فبعض العلماء يقول: يسقط عنه الدم الواجب؛ لأن رجوعه إلغاء للموقف الأول في النهار، وقال بعض العلماء: قد وقع إخلاله ولم يمكنه التدارك بمغيب الشمس. وهذا القول من جهة الأصول توضيحه: أنه لما وقف نهاراً تعيّن عليه إمساك جزءٍ من الليل، فإن رجع في النهار فقد ألغى موقفه الأول بالرجوع قبل غروب الشمس، وصارت العبرة بالموقف الثاني لا بالأول، فصح وأجزأه أن يقف إلى غروب الشمس، أما لو رجع بعد غروب الشمس، فإنه لم يتدارك ما يجب عليه في الأول، وإنما تدارك الوقوف؛ لأن الوقوف يقع في الليل ويقع في النهار فقالوا: حينئذٍ يلزمه دم، فهذه الحالة الثانية أشبه بالصحة وأقوى؛ وذلك لأن الإخلال قد وقع بمجرد المغيب، أما لو رجع قبل غروب الشمس فقد صار رجوعه ملغياً للموقف الأول واعتد بالموقف الثاني لا بالأول؛ لأن الزمان الذي فيه الوجوب قد وقع على الصفة المعتبرة. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (233) صـــــ(1) إلى صــ(23) عدم لزوم الدم لمن وقف ليلاً بعرفة ولو للحظة [ومن وقف ليلاً فقط فلا] قوله: (ومن وقف ليلاً فلا) أي: لا يلزمه دم؛ لأنه يجزيه حتى ولو وقف لحظة؛ لأن وقوف الليل لا يتقيد. ما يفعله الحاج بعد غروب شمس يوم عرفة [ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة ويسرع في الفجوة ويجمع بها بين العشاءين] قوله: (ثم يدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة)، قيل: سميت مزدلفة: من الازدلاف وهو التقرب، ومنه قوله تعالى: { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الشعراء:90]، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها موضع قربة وطاعة لله سبحانه وتعالى، وقيل: سميت بذلك؛ لأن الناس يأتونها زلفاً من الليل، وتسمى: المشعر الحرام، فبعد انتهاء موقفه بعرفة السنة أن يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة بسكينة ووقار. العمل الأول: الدفع من عرفة إلى مزدلفة وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا غابت عليه الشمس يوم عرفة دفع إلى مزدلفة وأخر صلاة المغرب إلى مزدلفة، وكان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، أي: كان يسير سيراً خفيفاً فإذا وجد فرجة أرسل لناقته وأسرعت على قدر ما يجد من سعة، وكان يقول: ( أيها الناس! السكينة السكينة ) دفع صلوات الله وسلامه عليه حتى بلغ الشعب -وهو الشعب الذي دون المشعر- فدخل فيه وبال عليه الصلاة والسلام، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، والسنة: أن يكون مسيره من طريق المأزمين، وطريق المأزمين: هو الطريق الذي بين الجبلين حينما تخرج من عرفات، ويكون المسجد وراء ظهرك وتذهب إلى جهة مزدلفة. وهناك طريقان: الطريق الذي ينصب من بين الجبال، والطريق الآخر -الأيسر- هو طريق ضب الذي يقبل به من منى، وهو مقدمه عليه الصلاة والسلام. فطريق المأزمين هو الذي بين الجبلين، وهو مشهور وباقٍ إلى الآن، وهو طريق المشاة الآن، وفيه طريق للسيارات، لكن السيارات تتيامن فيه، وطريق المشاة الذي ينصب إلى داخل مزدلفة يسمى طريق المأزمين، وكلها من السنة، فحتى لو مضى من طريق السيارات الأيمن فإنه يصيب السنة؛ لأنه جزء من طريق المأزمين. العمل الثاني: الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة فلما دفع عليه الصلاة والسلام إلى مزدلفة ولما قال له أسامة : ( الصلاة يا رسول الله! قال: الصلاة أمامك ) أخذ بعض العلماء من هذا دليلاً: أن السنة أن يؤخر صلاة المغرب ولا يصليها إلا بمزدلفة، حتى قال بعض العلماء: حتى ولو وصل إلى مزدلفة قرب الفجر، يعني: في أوقات الضرورة فإنه يؤخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة أمامك)، وهذا مذهب الحنفية، وكان بعض العلماء يشير به إلى تمسك الإمام أبي حنيفة بالسنة، ولذلك قالوا: إن الإمام أبا حنيفة رحمة الله عليه كان يجتهد كثيراً لقلة الأحاديث عنده، وكان يخاف الوضع على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان في المشرق، والأحاديث هناك قليلة، ولذلك قال الإمام الشافعي لصاحب أبي حنيفة محمد بن الحسن : أناشدك الله أصاحبنا أعلم بالسنة، أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. فكانت السنة قليلة عنده رحمة الله عليه فكان يجتهد كثيراً. ولذلك لما جاء هذا الحديث وقال فيه أسامة : ( الصلاة يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة أمامك ) قال الإمام أبو حنيفة : لا تصلى إلا بالمزدلفة، وهذا يدل على أن الأئمة رحمة الله عليهم الظن بهم أنهم لا يتركون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تزكية لهذا الإمام الجليل رحمة الله عليه، وأن ما كان منه من اجتهادات إنما كان سببها عدم بلوغه النص، فالواجب على من تبعه ورأى اجتهاده يعارض النص أن يعدل إلى النص؛ لأن هذا من متابعته رحمة الله عليه. فقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) قال العلماء: إنه يؤخر المغرب حتى ولو وصل في وقت العشاء، ولكن لو وصل إليها مبكراً -كما هو الحال الآن- في وقت المغرب، فإنه يجمع جمع تقديم، والمسافة بين المزدلفة وبين عرفات طويلة وتأخذ وقتاً، والغالب أنه لا يصل إلى بعد دخول وقت العشاء، ولذلك قالوا: إن السنة أن يجمع سواء كان جمعه جمع تقديم أو جمع تأخير. قوله: (بسكينة) أي: بهدوء، وهي مأخوذة من سكن الشيء إذا استقر. قوله: (ويجمع بها بين العشاءين) هذا من باب التغليب كالقمرين والعمرين من باب التغليب، وكما ذكرنا إما أن يجمع جمع تقديم أو جمع تأخير. العمل الثالث: المبيت بمزدلفة [ويبيت بها]. قوله: (ويبيت بها) أي: فيها، فالباء للظرفية؛ لأن الباء لها أكثر من عشرة معان، منها: الظرفية. تعدّ لصوقاً واستعن بتسببٍ وبدل صحاباً قابلوك بالاستعلا وزد بعضهم يميناً تحز معانيها كلها فمن معانيها الظرفية: (يبيت بها) أي: داخل حدود مزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، والسنة أنه يبادر بالمبيت ولا يشتغل بشيء آخر؛ حتى يستطيع الاستيقاظ للفجر في أول وقته، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، ووقع فعله بياناً للمجمل، ولذلك فإن مذهب جماهير العلماء أن المبيت بمزدلفة يعتبر من واجبات الحج، حتى قال بعض العلماء: إنه ركن من أركان الحج، وإن كان الصحيح أنه واجب من الواجبات. وقوله: (ويبيت بها) كما قلنا، أي: في حدود مزدلفة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات فيها، سواء كان بجوار المشعر أو بعيداً عن المشعر، ما دام أنه داخل حدود مزدلفة. والبيتوتة هنا مطلقة، يعني: لو أن إنساناً بقي بمزدلفة ولم ينم فإنه يعتبر قد بات بمزدلفة؛ لأن البيتوتة تتحقق حتى ولو لم ينم، قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } [الفرقان:64] فأخبر سبحانه وتعالى أنهم يبيتون مع أنهم قائمون الليل، فالمقصود: أن البيتوتة تتحقق حتى لو جلس في مزدلفة ولم ينم، ولكن السنة والأفضل أن ينام، قال العلماء: إنه إذا نام استيقظ مبكراً وهو قوي النفس مستجم الروح، فيكون أحضر لقلبه إذا دعا بالمشعر الحرام، وأخشع عند سؤاله لله عز وجل، وذلك من أسباب الإجابة. الأسئلة حكم التلبية يوم عرفة السؤال إذا تفرغ وانشغل يوم عرفة بما ورد من الدعاء، هل معنى ذلك أن يكف عن التلبية أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالسنة المحفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء، فيدعو الله عز وجل ويسأله من فضله، وليس هناك ما يدل على ذكر التلبية أو نفيها، إن قيل: يلبي أثناء دعائه فله وجه من جهة الاستصحاب، هذا يسمى: استصحاب الأصل. وقول جماهير العلماء: على أن عرفة موضع للتلبية، خلافاً للمالكية وطائفة من فقهاء المدينة، حيث قالوا: إن التلبية تنقطع بالمضي إلى الصلاة في يوم عرفة؛ لأن الحج عرفة، فإذا كان يلبي من أجل الحج فإنه ينتهي بمضيه إلى عرفة، وهذا قول مرجوح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه لبى بعد عرفة، وعلى هذا فلو قال قائل: بأنه يلبي أثناء دعائه، فهذا من باب استصحاب الأصل، ولو قال قائل: يشتغل بالدعاء، فهذا هو الأصل في الأدعية أنه يشتغل فيها بدعاء الله عز وجل وسؤاله من فضله. والله تعالى أعلم. معنى قوله عليه الصلاة والسلام (خذوا عني مناسككم) السؤال كيف نفرق بين المسنونات والواجبات في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، علماً بأن الكل مندرج تحت قوله عليه السلام: ( خذوا عني مناسككم )، وضحوا ذلك أثابكم الله؟ الجواب المنسك يكون بالأفعال التي فعلها عليه الصلاة والسلام، هذا في الأصل، ولذلك سميت: المناسك يقال: عرفة ومنى والصفا والمروة، هذه من مناسك الحج، تطلق المناسك على الأماكن، قال تعالى: { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ } [الحج:67]، وتطلق على الأفعال ومنها: الذبح، كقوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } [الأنعام:162] . وقوله عليه الصلاة والسلام: ( خذوا عني مناسككم ) وقع هذا على سبيل العموم، فهو يشمل الأقوال والأفعال من حيث الأصل، لكن المعتبر عند الجمهور رحمة الله عليهم، فيما ذكروه من الأركان والواجبات، إنما هو في الأفعال وهي الغالبة، فقد وقع منه عليه الصلاة والسلام بيان لما أجمل القرآن في قوله: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [آل عمران:97] من جهة الأفعال، وأما بالنسبة للأقوال: فتأتي أدلة تخصص أو تدل على أن هذا القول سنة وليس بواجب ولا لازم، أما كيفية التفريق فهذا يرجع إلى ضوابط قررها العلماء في علم الأصول، سنذكرها إن شاء الله في باب أركان الحج وواجباته، ما هو الركن؟ وما هو الواجب؟ وما هو السنة؟ ونبين لماذا صرفنا هذا الفعل من كونه لازماً إلى كونه مسنوناً، ودليل الصرف؟ وهذا إن شاء الله سيأتي بيانه في موضعه. والله تعالى أعلم. وأظن السائل فيما يظهر لي والله أعلم أن مراده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خذوا عني مناسككم )، هذا أمر يدل على أن جميع ما فعله في الأصل واجب ولازم، فلماذا نقول: إن فِعْلُه هذا في الحج سنة، مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني مناسككم)؟! والواقع أن العلماء رحمة الله عليهم بينوا هذا، وأظن أن هذا هو الإشكال عنده فيما يظهر، وهو إشكال وارد من هذا الوجه، يعني: حينما تنظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم) هذا أمر يدل على أن جميع ما فعله وما وقع منه عليه الصلاة والسلام يعتبر واجباً، لكن العلماء رحمة الله عليهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بالمنسك: أداء الشعيرة؛ والسبب في ذلك: أن الحنيفية بدلها المشركون من أهل مكة وغيرهم في الجاهلية، فزادوا ونقصوا وحرفوا وأحدثوا وابتدعوا، فجاء فعله عليه الصلاة والسلام لبيان أصول الدين في العبادة ذاتها، وبيان ما أمر الله عز وجل ببيانه من توحيده سبحانه، وحدود وضوابط العبادة التي هي الحج، فقوله عليه الصلاة والسلام: ( خذوا عني مناسككم ) المراد به بيان الهدي، بغضِّ النظر عن كونه في الأصل واجباً أو غير واجب، لكن العلماء يستأنسون بقوله: ( خذوا عني مناسككم ) على الوجوب؛ لأن الحديث يقول: (خذوا عني) ولم يقل: افعلوا فعلي، وفرق بين: (خذوا عني)، وبين قوله: افعلوا ما فعلت؛ لأن خذوا عني المراد به التعلم، والتعلم يشمل ما هو واجب وما ليس بواجب، فوقع بياناً للحنيفية وليس المراد به تعين الفعل منه عليه الصلاة والسلام، وأظن الأمر واضحاً؛ لأن اللفظ: (خذوا عني مناسككم) يدل على التعلم والتلقي، ولذلك قال: ( فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) ، فكأن المراد به جهة التعلم للشعائر، وهذا أعم من أن يكون دليلاً على الأركان، أو دليلاً على الواجب، أو دليلاً على اللزوم، يشكل على هذا لو قلنا: إن المراد به التعليم، كيف يحتج العلماء به على سنته وهديه في الحج؟ نقول: نعم؛ لأنه لما ذكر هذا الشيء بقوله: ( خذوا عني مناسككم ) تنبيهاً على مشروعية هذا الفعل وإقراره للحنيفية وما فيه من الهدي، وليس المراد به مسألة الإلزام وكونه ركناً أو كونه واجباً، بل هو أعم من ذلك، وعلى هذا الذي يظهر أنه لا إشكال في الحديث. وخلاصة الجواب أن يقال: إن لفظ الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: ( خذوا عني مناسككم ) لا يساعد على تعيّن أو وجوب أو لزوم كل ما كان في حجة الوداع، بل إن الإجماع منعقد على أنه ليس كل ما وقع في حجة الوادع واجباً، إذاً لو قلت بذلك للزم كل من حج أن تكون أفعاله وأقواله كاملة مثلما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لو وقف على الصفا ولم يدع بطل وقوفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الصفا، وحتى لو وقف ودعا ولم يدع مثل دعائه الوارد المتقيد لم يصح أيضاً؛ لأنك ترى أنه لازم كالركن وكالواجب، ولا يقول أحد بهذا، وحينئذٍ يكون قد حمل الحديث في المعنى ما لا يحتمل وفوق ما يدل عليه، ولا شك أن المراد به الأخذ بمعنى التلقي عنه عليه الصلاة والسلام، وقد علل هذا بقوله: ( فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) أي: تعلموا هديي وسنتي، التي هي أعم من كون هذا الشي واجباً أو ليس بواجب، وليس المراد به الإلزام والدلالة على الركنية والوجوب كما لا يخفى. جواز الإحرام بالحج قبل يوم التروية السؤال هل يجوز الإحرام بالحج قبل يوم التروية مثل اليوم السادس أو السابع، أثابكم الله؟ الجواب لا بأس ولا حرج في ذلك، ولكن السنة والأكمل أن يحرم يوم التروية إذا كان متمتعاً. أما بالنسبة لأهل مكة فالجمهور: على أنه يجوز لهم أن يؤخروا الإحرام إلى يوم التروية، ويجوز لهم إلى يوم عرفة، قال عمر رضي الله عنه بإلزام أهل مكة بأن يحرموا لهلال عشر من ذي الحجة، وهذا من فقه الفاروق رضي الله عنه وأرضاه؛ والسبب في هذا: أنه قال -كما روى مالك في الموطأ-: مالي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين. يعني: أن الناس الآفاقيين يأتون إلى عرفة وهم متغيّرة ألوانهم ومصفرة، وهم في شعث وغبرة؛ بسبب طول العهد بالإحرام، وأهل مكة يكون إحرامهم يوم التروية، فيأتون مدهنين ومختلفين عن الناس، فيقول: مالي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال عشر من ذي الحجة. فأمرهم بإهلال عشر من ذي الحجة، لكن هذا عند جماهير العلماء ليس بلازم، وإنما قصد به رضي الله عنه وأرضاه الكمال؛ لما لهم فيه من زيادة الأجر والمثوبة، قالوا: في هذا دليل على أنه يجوز أن يحرم قبل يوم التروية ولا بأس، كما لو وجب عليه دم التمتع فأحرم لليوم الثالث؛ حتى يصوم الرابع والخامس والسادس، أو أحرم في اليوم الرابع؛ ليصوم الخامس والسادس والسابع، أو أحرم لليوم الخامس؛ ليصوم السادس والسابع والثامن في حجه، وهذا لا بأس به، وظاهر القرآن يدل عليه في هدي التمتع كما لا يخفى. والله تعالى أعلم. الفرق بين النائم والمغمى عليه من حيث فقدان الوعي السؤال هل يقاس النائم على المغمى عليه، وذلك بجامع كون كلٍ منهما فاقداً للوعي، وذلك في الوقوف بعرفة، أثابكم الله؟ الجواب هناك فرق بين النائم وبين المغمى عليه والمجنون، ولذلك النائم من حيث الأصل إذا نبهته ينتبه وإذا أيقظته يستيقظ، ولكن المغمى عليه لو نبهته لا ينتبه ولو أيقظته لا يستيقظ، فالإغماء خارج عن الإرادة، والنوم يمكن أن يرجع الإنسان فيه إلى حالته، أما الإغماء فلا يمكن أن يرجع الإنسان إلى حالته، ولذلك فُرِّقَ بين النائم والمغمى عليه من هذا الوجه، ولا يأخذ النائم حكم المغمى عليه. والله تعالى أعلم. وصايا عامة لمن أدرك رمضان السؤال هلاَّ تفضلتم بكلمة عن قدوم شهر رمضان، وما ينبغي على المسلم في هذا الشهر المبارك، أثابكم الله؟ الجواب نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في شعبان وأن يبلغنا رمضان، وأن يكتب لنا فيه الرحمة والعفو والصفح والغفران، وأن يوفقنا فيه للهدى والبر والإحسان. الوصية الأولى: لا شك أن من نعم الله عز وجل على العبد أن يطول عمره ويحسن عمله، قال صلى الله عليه وسلم: ( خيركم من طال عمره وحسن عمله ) ، فالمؤمن لا يرجو من بقائه في الحياة إلا زيادة الخير، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: ( واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ) ، وندب أمته في كل صلاة أن يستعيذوا بالله من فتنة المحيا والممات، فإذا وفق الله العبد ويسر له بلوغ رمضان، فليكن أول ما يكون منه أن يحمد الله عز وجل على نعمته وجميل فضله وجليل منته، ويسأله سبحانه أن يبارك له في هذه النعمة؛ لأنك إذا شكرت نعمة الله بارك الله لك فيها، ولما غفل الناس عن شكر الله سلب الله بركة النعم، فاحمد الله، إذا بلغت رمضان وانظر إلى مقدار نعمة الله عليك؛ حتى تحس بفضل هذا الشهر، ويمكنك بعد ذلك أن تقوم بحقه. تذكر الشخص الذي كان يتمنى بلوغ رمضان فمات قبل بلوغه والله أعطاك الحياة وأمد لك في العمر، وتذكر المريض الذي يتأوه من الأسقام والآلام، والله أمدك بالصحة والعافية، فتحمد الله من كل قلبك وبملء لسانك، وتقول: الحمد لله الذي يسر لي وسهل لي، اللهم بارك لي في هذا الشهر، وأعني فيه على طاعتك، ونحو ذلك من سؤال الله الخير. الوصية الثانية: أن تبدأ هذا الشهر بنية صادقة خالصة، وعزيمة قوية على الخير، فكم من عبد نوى الخير فبلغه الله أجره ولم يعمل به، وحيل بينه وبين العمل بالعذر، فقد يكون الإنسان في نيته أن يصوم ويقوم، فتأتي الحوائل أو تأتي آجال أو تأتي أقدار تحول بينه وبين ما يشتهي، فيكون في قلبه وقرارته فعل الخير، وأن يكون رمضان هذا صفحات بر وإقبال على الله وإنابة إليه، فإذا نويت ذلك وحال بينك وبين ذلك شيء من الأقدار أو الآجال، كتب الله لك الأجر والثواب، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قالك ( حبسهم العذر ) . الوصية الثالثة: فيا حبذا ويا طوبى لمن استقبل هذا الشهر بالتوبة إلى الله والإنابة إلى الله، فإن الله يحب التوابين، والله يفرح بتوبة عبده، فيبدأ شهر رمضان منكسر القلب منيباً إلى الله جل وعلا، يحس بعظيم الإساءة وعظيم التقصير والتفريط في جنب الله، ويقول بلسان حاله ومقاله: { يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } [الزمر:56] ، فإذا استقبلت رمضان وأنت منكسر القلب غيّرت ما بك فغيّر الله حالك: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الرعد:11] . وعلى المسلم أن يستقبل رمضان بالتوبة والإنابة إلى الله؛ حتى ينال الرحمة من الله سبحانه؛ لأنه قد يحال بين العبد وبينها بسبب ذنب، فمن شؤم الذنوب والمعاصي أنها تحول بين العبد وبين رحمة الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة ) أي: أن الله يفتح أبواب رحمته، فيرحم من يشاء بفضله ومنّه وكرمه، فإذا أريت الله من نفسك التوبة والإقلاع، وأنبت إلى الله سبحانه، فأنت أحرى برحمة الله، وأحرى بأن يلطف الله عز وجل بك، وأن يبلغك فوق ما ترجو وتأمل من إحسانه وبره. الوصية الرابعة: حتى تكون محققاً لهذه التوبة لابد وأن تتحلل من المظالم فيما بينك وبين الله، وفيما بينك وبين عباد الله، ويا طوبى لمن دخل عليه هذا الشهر وليست بينه وبين الناس مظلمة، وليس على ظهره حقوق ولا آثام لإخوانه المسلمين، فنستهل شهر رمضان بالمحبة والإخاء والمودة والصفاء، والنفوس منشرحة والقلوب مطمئنة، ونستهله كما أمر الله إخوة في الإيمان أحبة في الطاعة والإسلام، فإنه إذا وقعت الشحناء حجبت العبد من المغفرة، قال صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: ( أنظرا هذين حتى يصطلحا ) أي: لا تغفرا لهما حتى يصطلحا، فتذكر ما بينك وبين أقاربك، خاصة إخوانك وقرابتك: الإخوان والأخوات والأعمام والعمات وكل الآل والقرابات، تتذكر ما لهم من حقوق وما لهم عندك من مظلمة، فتتحلل منها، وتسألهم الصفح والعفو، وتستقبل شهرك وأنت منيب إلى الله سبحانه وتعالى، ليس بينك وبين الناس مظالم تحول بينك وبين الخير، ومن أعظم ذلك كما ذكرنا القطيعة، والمحروم من حرم، فإن خير الناس من ابتدأ بالسلام بعد وجود القطيعة والخصام، قال صلى الله عليه وسلم : ( وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )، فيفكر الإنسان حينما يقدم على رمضان كيف يصلح ما بينه وبين الله، وما بينه وبين الناس، قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } [الأنفال:1] . كذلك أيضاً: يستقبل الإنسان رمضان ويهيئ من نفسه بواعث الخير، والدوافع التي تحمله على الطاعة والبر، ومن أعظم ذلك أن يحس من قلبه كأن هذا الرمضان هو آخر رمضان يعيش فيه، وما يدريه فلعل مرضاً يحول بينه وبين الصيام، فيكون ذلك اليوم أو ذلك الشهر هو آخر ما يصوم، أو لعل المنية تخترمه، فكم من إخوان وأحباب وخلان وأصحاب وجيران كانوا معنا في العام الماضي؟! وقد مضوا إلى الله فأصبحوا رهناء الأجداث والبلى، غرباء مسافرين لا ينتظرون، فالسعيد من وعظ بغيره، فإذا استقبلت رمضان وأنت تستشعر كأن هذا الشهر هو آخر شهر تصومه، أو آخر شهر تقومه؛ قويت نفسك على الخير وهانت عليك الدنيا وزهدت فيها، وأقبلت على الآخرة وعظمتها. ومن أعظم الأسباب التي تنكسر بها قسوة القلوب: الزهد في الدنيا والإعظام للآخرة، ولا زهد في الدنيا إلا بقصر الأمل، فحينما تحس أن رمضان هذا قد يكون آخر رمضان لك وآخر شهر تعيشه؛ دعاك ذلك إلى إحسان العمل وإتقانه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأن يصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وأن يبلغنا رمضان مع صفح وعفو وبر وغفران. ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى! أن يجعلنا أوفر عباده نصيباً في كل رحمة ينشرها وكل نعمة ينزلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (234) صـــــ(1) إلى صــ(27) شرح زاد المستقنع - باب صفة الحج والعمرة [2] من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحج المبيت بمزدلفة، وعدم الدفع منها إلا بعد الفجر، ويجوز للضعفة والعجزة الدفع من مزدلفة بعد مغيب القمر ليلة العيد، ويكون الدفع لغير المعذورين بعد الإسفار وقبل طلوع الشمس، وفي ذلك مخالفة لأهل الجاهلية حيث كانوا لا يدفعون إلا بعد طلوع الشمس. وبعد الدفع من مزدلفة إلى منى أول عمل يقوم به الحاج هو رمي جمرة العقبة، فرميها بمثابة التحية لمنى. وهناك أعمال يقوم بها الحاج عند وصوله إلى منى، فعليه أن يتحرى عند قيامه بها هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك أرجى لقبول الله عز وجل لحجه ونسكه. حكم الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله الدفع بعد نصف الليل]. قوله: (وله) أي: يجوز أن يدفع بعد نصف الليل، وهذه مسألة خلافية: فبعض العلماء يرى أنه يجب عليه المبيت إلى الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات إلى الفجر ولم يأذن إلا للضعفة، وأصحاب الأعذار، وقالوا أيضاً: إن المقصود من مزدلفة الوقوف بالمشعر الحرام، فإذا كان يريد أن يمضي قبل ذلك فلم يتحقق المقصود، وفي الحقيقة هذا القول هو أقوى الأقوال، وهو أن يبقى بمزدلفة إلى الفجر ويصلي الفجر ثم يدعو بالمشعر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص للضعفة. والقاعدة في الأصول: أن الرخص لا يقاس عليها. فلا يعتبر ترخيصه للضعفة موجباً للإذن لكل الناس أن يمضوا من مزدلفة، لكن العلماء الذين أجازوا المضي بعد نصف الليل اجتهدوا وقالوا: إنه إذا بات بعد نصف الليل أو أكثر الليل فقد تحقق المبيت، ولكن من نظر إلى مقصود الشرع، وإلى العلة التي من أجلها شرع المبيت بمزدلفة وهو الوقوف بالمشعر والدعاء وسؤال الله من فضله، تبيّن له بجلاء أنه لا يرخص إلا لمن كان معذوراً، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد وقف عليه الصلاة والسلام وجاءه عروة بن مضرس وذكر له أنه وقف بعرفات، فقال رضي الله عنه: ( أقبلت من جبل طي أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه ) فانظر إلى قوله: (صلى صلاتنا ووقف موقفنا) فكأن المقصود من المبيت بمزدلفة أن يصلي الفجر وأن يدعو، ولذلك أمر الله عز وجل بذكره عند المشعر الحرام. وفي الحقيقة القول بالبقاء وعدم الإذن إلا للضعفة ومن يرخص لهم من القوة بمكان. حكم الدفع من مزدلفة قبل نصف الليل [وقبله فيه دم كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله]. قوله: (وقبله) أي: قبل نصف الليل، (فيه دم) يعني: أن الحاج لو جاء إلى مزدلفة ودفع منها قبل نصف الليل لزمه دم، وهذا بناء على أن العبرة عندهم بأكثر الليل، ولم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفة إلا بعد نصف الليل، ففي الصحيحين من حديث أسماء رضي الله عنها أنها دفعت بعد مغيب القمر، وقالت لابنها عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: ( هل غاب القمر؟ فقال: لا بعد، ثم قامت تصلي، ثم قالت: أي بنيّ أغاب القمر؟ قال: لا بعد، ثم قال لها في المرة الثالثة أو الرابعة: غاب القمر، فدفعت رضي الله عنها، ثم وصلت إلى مكانها بمنى بغلس، فقال لها رضي الله عنه: أي هنتاه ما أرانا إلا غلسنا، فقالت رضي الله عنها: يا بني! إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للظعن ) أي: أذن للضعفة وأهل الأعذار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( كنت فيمن قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله ) فدل هذا على أنه إذا وجد العذر شرع التخفيف وأذن بالرخصة، وأن من عداهم من القادرين المستطيعين يلزمهم البقاء بمزدلفة. أحكام الدفع من مزدلفة قوله: (كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله). أي: من دفع من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم؛ كوصوله إلى مزدلفة بعد الفجر لا قبله، هذه المسألة فيها ثلاثة أحكام: أن من تعجل ودفع من مزدلفة قبل نصف الليل عليه دم؛ لأنه لم يبت، وأن من وصل إليها بعد الفجر عليه دم؛ لأنه لم يبت، وأنه من وصل إليها بعد نصف الليل وقبل الفجر لا شيء عليه. ما يفعله الحاج بعد صلاة الصبح بمزدلفة [فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فيرقاه أو يقف عنده ويحمد الله ويكبره ويقرأ: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ) ويدعو حتى يسفر]. قوله: (فإذا صلى الصبح برغيبته أتى المشعر الحرام)، كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه لما كانت صبيحة يوم النحر أُذّنَ للصلاة بغلس، ثم أقيم لها وصلى عليه الصلاة والسلام بالناس، ثم وقف بالمشعر ودعا الله عز وجل وسأله من فضله حتى أسفر، وقبل أن تطلع الشمس دفع عليه الصلاة والسلام من المزدلفة، وكانت قريش في الجاهلية ومن معها من المشركين يقفون بالمزدلفة، ولا يمكن أن ينصرفوا منها حتى تطلع الشمس، ولذلك كان يقول قائلهم: (أشرق ثبير كيما نغير) وثبير: هو الجبل الذي بحذاء منى؛ لأن منى بين ثبير والصانع يكتنفانها، وهما جبلان: أحدهما يسمى: ثبيراً، والثاني يسمى: الصانع. فقولهم: (أشرق ثبير كيما نغير) يريدون بذلك أنهم لا يدفعون من مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس، فخالفهم صلوات الله وسلامه عليه، ودفع قبل أن تطلع الشمس. قوله: (الحرام فيرقاه أو يقف عنده). السنة أن يقف عند المشعر، ولو وقف في أي موضع من مزدلفة أجزأه. قوله: (ويحمد الله ويكبره ويقرأ: ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ )) لقوله تعالى: { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } [البقرة:198] قال العلماء: قوله: (عند المشعر الحرام)، قيل: إن المراد به مزدلفة كلها، وقال بعض العلماء: إنه الجبل الذي بحذاء المصلى الذي وقف عنده عليه الصلاة والسلام، وأما تلاوة الآية فلم يثبت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص، ولا حاجة إلى التقيد بذكر آية أو دعاء مخصوص أو استحباب لذلك أو تعيينه إلا بدليل؛ لأن الشرع لم يرد فيه ما يدل على تلاوة ذكر معين، وإنما قال تعالى: { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } [البقرة:198]، والقاعدة: أن المطلق يبقى على إطلاقه. فيقال للناس: اذكروا الله عز وجل، كما أطلق الله عز وجل، من حمد وتسبيح وتكبير وتهليل بل وتلبية، كل ذلك جائز ومشروع؛ لأن الله أطلق، وكل ما صدق عليه أنه ذكر يذكر به سبحانه، لكن أن يقال: تُتْلَى آية معينة، أو يُذْكَرُ دعاء مخصوص، فإن ذلك يعتبر بدعة وحدث، وتوضيح ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه المأثور: ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً )، فلو قال رجل لرجل: إذا صليت في المسجد فقل: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة:201] . نقول: إن هذا الدعاء مسنون، لكن كونك تلزمه به، أو تدعوه أن يقوله في هذا الموضع والمكان المخصوص هذا لا أصل له، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) فقد يقول لك قائل: إن تلاوة قوله تعالى: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } [البقرة:201] من الدين والشرع، تقول له: نعم، من الدين والشرع، ولكن الذي ليس من الدين والشرع أن يأمر بها في الموضع المخصوص، كأن يقول: قلها في هذا الوقت، أو قلها في هذا المكان، أو قلها في هذه الساعة، فكل ذلك يعتبر بدعة، ولا يلزم الناس بتلاوة آية معينة أو بدعاء مخصوص إلا إذا عين الشرع وخصص ذلك. لكن أن يقال للإنسان: اذكر الله عند المشعر الحرام، واحرص على أدعية النبي صلى الله عليه وسلم المأثورة، وجوامع كلمه التي ثبتت عنه، فذلك هو الهدي، وذلك هو الأفضل والأكمل، فيقال هنا: يقف بمزدلفة عند المشعر بعد صلاة الصبح ويضرع إلى الله، ويسأل الله من عظيم فضله، ويأخذ بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه؛ من استفتاحه بحمد لله والثناء عليه، وسؤال الله من خيري الدنيا والآخرة، مع اعتقاد عظيم الفقر إلى الله، والاستغناء بالله سبحانه وتعالى، وأنه هو الغني الذي لا تنفد خزائنه، وأن يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة. وكان العلماء رحمهم الله يعظمون الدعاء بالمشعر الحرام، حتى أثر عن بعض السلف أنه قال: وقفت هاهنا أكثر من ثلاثين حجة أسأل الله العظيم أن لا يجعله آخر العهد ويردني إليه، وإني لأستحي من الله أن أسأله، فرجع ومات من سنته. فالمقصود: أن هذا الموقف وهذا الموطن يعتبر ثاني المواطن تشريفاً وتكريماً بعد موقف عرفة، وكان العلماء يعظمونه؛ لأن الله عز وجل خصه وقال: { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } [البقرة:198] ، فإذا وقف الحاج بهذا الموقف هيأ من نفسه أسباب الدعاء الخاشع الخاضع، الذي يكون سبباً لاستجابة دعائه، فيحس أن الله عز وجل أكرمه وتفضل عليه ببلوغ هذا المكان، وأنه ما كان ليبلغه لولا حول الله وقوته وتوفيقه له، ولذلك إذا استشعر ذلك خضع لله وخشع له ودعا من قلبه. قوله: (ويدعو حتى يسفر) أسفر الصبح إذا بان، والمراد بذلك أنه يقارب طلوع الشمس، ويسفر جداً؛ لأن الرواية: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بمزدلفة حتى أسفر جداً ) . ثم يدفع بعد الإسفار، فلما قال: إن الموقف إلى أن يسفر، فمعنى ذلك: أنه يدفع بعد الإسفار، والسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من دعائه ركب ناقته القصواء وأردف معه الفضل بن عباس ، وهو ثاني من أردف في الحج؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أردف معه أسامة من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى أردف معه الفضل بن العباس ابن عمه رضي الله عنه وعن أبيه، قال الفضل : ( فلما مر في الطريق قال: القط لي سبع حصيات )، فالسنة أن يلتقط الحاج سبع حصيات من مزدلفة قبل أن يبلغ محسراً، وأثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين )، فدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتحرى السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يزيد في العبادات، وأن لا يتنطع ولا يبالغ فيها؛ لأنه لا خير إلا في اتباعه عليه الصلاة والسلام، والشر كل الشر في الزيادة على هديه ومجاوزته والغلو في الدين. الإسراع لمن مر من محسر لكونه موطن عذاب [فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر]. قوله: (فإذا بلغ محسراً) أي: وادي محسر، وهو الوادي الذي حسر الله فيه الفيل، فأنزل فيه نقمته وعذابه على من حادّه وأراد هدم بيته، وذلك في القصة التي ذكرها الله في كتابه حيث قال: (( وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [الفيل:3-5]، فهذا الوادي إذا بلغه يعتبر موطن عذاب، والسنة: أن مواطن العذاب والسخط -والعياذ بالله- إذا مر بها الإنسان فعليه أن يسرع في مروره منها؛ وذلك لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، أنه لما مر بمدائن صالح -وهي المدائن التي أهلك الله فيها ثمود- أرخى على رأسه الثوب ثم ضرب دابته وأسرع، يقول بعض العلماء: كأنه يقول: إني مصدق ولو لم أر. فلما مر عليه الصلاة والسلام بموطن العذاب ضرب دابته وقال: ( لا تدخلوها إلا وأنتم باكون أو متباكون )، أي: لا تدخلوا هذه المواطن إلا وأنتم معتذرون مدكرون، يصحبكم الخوف من الله؛ حتى لا يصيبكم ما أصابهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث الصحيح: ( لا يصيبكم ما أصابهم )، ويعرف إلى الآن في بعض المواطن السخط والعذاب، وأن من دخلها قد يتغير عقله، وقد يصاب بمس، وقد يصاب بشيء من العذاب والعياذ بالله! خاصة إذا نزل فيها ضاحكاً لاهياً غافلاً عمّا أوجد الله فيها من العبرة والعظة، ولذلك قال: ( لا يصيبكم ما أصابهم ) ، ولا زال يعرف إلى الآن مما يسمى عند العامة: لعنة الفراعنة، وقد تكون من عذاب الله، وليس للفراعنة لعنة، وإنما هي نقمة الله عز وجل التي يصيب بها من غفل عن آياته وعظاته، ولذلك فالمرور بهذه المواطن لا يجوز كما ذكر العلماء إلا وهو مصحوب بالخوف قال تعالى: { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } [إبراهيم:45]، فورد هذا مورد الذم، فكل من دخل أماكن العذاب أو مر بها، فينبغي عليه أن يستصحب الخوف من الله عز وجل، والاستشعار لعظيم نقمة الله عز وجل، وأنه الجبار المنتقم، فأخذه أخذ عزيز مقتدر، فعلى العموم هذا الموطن موطن عذاب لا يجوز النزول فيه ولا يجوز المبيت فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب دابته وأسرع لما مر به، وهو قدر رمية حجر، أي: أنه ليس بعريض. حكم أخذ حصى الرمي من مزدلفة وحجمها [وأخذ الحصى وعدده سبعون بين الحمص والبندق] كان الأولى والأفضل أن يذكر أخذ الحصى قبل ذكر محسر؛ لأن السنة أن يؤخذ الحصى من مزدلفة، وهذا هو الوارد عنه عليه الصلاة والسلام حيث أمر الفضل أن يلتقط له سبع حصيات من مزدلفة، أما ما ذكره المصنف من سبعين حصاة فهذا لا أصل له، والسنة أن يلتقط سبعاً فقط، وهذا هو المحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه السبع هي لجمرة العقبة، وأما بقية الجمرات فالسنة أخذ حصاها من منى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الحصى من منى، ولذلك ما يفعله العامة من أخذ جميع حصيات الرمي أيام التشريق ويوم العيد من مزدلفة لا أصل له، كما نُبِّه على ذلك. قوله: (بين الحمص والبندق)، أي: أنها ليست بكبيرة، فالحمص والبندق معروفان، ولا يبالغ فيها، فأخذ الحصى الكبير ليس من السنة، بل قال بعض العلماء: إنها إذا كانت كبيرة جداً ورمى بها لم يجزه؛ لأنها ليست من أصول الرمي المعتبر شرعاً، وعلى هذا قالوا: إنه يتقيد فيها بالوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أخذ الحصى الكبير فإنه لا يأمن أن تنحرف يده فيصيب مسلماً، ويريق بذلك الدم الحرام في المكان الحرام في الشهر الحرام، ولذلك ينبغي أن يتقيد بالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يزيد على ذلك ولا ينقص منه، فلا يكون الحصى كبيراً جداً ولا يكون صغيراً، بل لا يكون أكبر من الحصى الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: وحدُّه الذي تحمله باليد في الغالب ويمكن الرمي به، يعني: الخذف، بحيث يضعه بين أصبعيه ويخذف به، ولذلك قال: ( بمثل حصى الخذف فارموا وإياكم والغلو ) فهذا هو القدر الذي ينبغي أن يتقيد به، وينبغي أن يكون حجراً، أما إذا كانت من غير مادة الحجر كالطين الصلب أو كانت من الخشب أو كانت من الإسمنت أو الجص، فإنه لا يجزئ الرمي بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بالحصيات ولم يرم بغيرها. الأعمال التي يقوم بها الحاج عند وصوله إلى منى [فإذا وصل إلى منى وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة رماها بسبع حصيات متعاقبات] رمي جمرة العقبة قوله: (فإذا وصل إلى منى) أي: بلغها، فالسنة أن يبتدئ برمي جمرة العقبة، ولذلك قال العلماء: رمي جمرة العقبة تحية منى، أي: أنه إذا دخل منى فالسنة أن لا يشتغل بأي شيء غير رمي جمرة العقبة، فإذا ابتدأ برمي جمرة العقبة بعد ذلك تفرغ لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنن، ثم نزل إذا أراد النزول، أو مضى إلى مكة وطاف طواف الإفاضة، أما أن يبدأ بشيء قبل الرمي فذلك خلاف السنة، فلا يذهب إلى منزله ولا يشتغل بأغراضه، بل عليه أن يتجه مباشرة إلى رمي جمرة العقبة، فإن رميها يعتبر تحية منى، قالوا: كما أنه إذا دخل المسجد صلى ركعتين تحية المسجد، كذلك أيضاً تحية منى يكون برمي جمرة العقبة. وقوله: (وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة) أي: أن حد منى بداية ونهاية من وادي محسر إلى جمرة العقبة، ولذلك أثر عن عمر بن الخطاب : أنه أمر أن من وجدوه وراء جمرة العقبة أن يردوه إلى داخل منى؛حتى لا يكون قد بات خارج منى، وكذلك بالنسبة لوادي محسر فهو الفاصل بين منى ومزدلفة، وأما بالنسبة للجانبين فيكتنف منى جبلان: أحدهما: ثبير، والثاني: الصانع، فما أقبل من الجبلين فإنه من منى، وما أدبر من الجبلين وهما الظهر يعتبر خارجاً عن منى، فمن بات في سفح الجبل من جهة منى فإنه يعتبر بائتاً داخل منى، ومن بات بالظهر فإنه لا يعتبر بائتاً بمنى. وسميت منى؛ لكثرة ما يمنى فيها من الدماء، أي: ما يراق فيها من الدم؛ لأنها موضع يتقرب فيه إلى الله عز وجل بنحر الهدي والأضاحي في يوم النحر. قوله: (رماها بسبع حصيات متعاقبات) فلا يفصل. انقطاع التلبية عند آخر حصاة يرمى بها جمرة العقبة كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يكبر ويلبي مع كل حصاة، واختلف العلماء على وجهين: فقال جمهورهم: انقطعت تلبيته في حجه صلوات الله وسلامه عليه عندما أراد أن يرمي الجمرة، فعند بداية الرمي انقطعت التلبية. وقال بعض أهل الحديث -وهو رواية عن الإمام أحمد ، وقول إسحاق بن راهويه -: يرمي ويلبي أثناء الرمي، فيقول: الله أكبر ويرمي الحصاة، ثم يقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، ثم يرمي. فالمقصود أنه يواصل الرمي والتكبير والتلبية حتى ينتهي من آخر حصاة، وهذا هو الذي دل عليه حديث الفضل لما كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فلم يزل يلبي حتى رمى آخر حصاة من جمرة العقبة ) فقوله: (آخر حصاة من جمرة العقبة) يدل على أن انقطاع التلبية كان عند آخر حصاة رمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة. وعندها تنقطع التلبية، وبالإجماع على أنه لا تشرع التلبية بعد الانتهاء من رمي جمرة العقبة. موضع رمي جمرة العقبة كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، وهذه هي السنة، فليس لجمرة العقبة موضع ترمى منه إلا بطن الوادي، ولذلك من رماها من الجهة المعاكسة التي تقابل الوادي بحيث تكون منى وراء ظهره، فإنه لا يجزيه ذلك؛ لأنه في القديم كانت هذه الجمرة في حضن الجبل، فلم يكن فيها إلا نصف الحوض الموجود، هذا النصف من الحوض هو موضع الرمي، فلما أزيل كأن هذا الزائد من الحوض في غير الموضع المعتبر، ولذلك لو رمى فإنه لا يعتد برميه إلا من بطن الوادي، بحيث يكون في النصف أو الحوض القديم المعهود، وما زاد عن ذلك فإنه في الأصل جبل وليس بموضع للرمي، ومن هنا يقيد العلماء رمي هذه الجمرة بهذا التقييد الذي وردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. صفة الرمي المجزئ [يرفع يده حتى يرى بياض إبطه]. لم يحفظ في صفة الرمي رفعه عليه الصلاة والسلام ليده، لكن قد يكون المصنف أراد من هذا أن الرفع لليد عند الرمي أبعد من مزاحمة الناس؛ لأنه إذا زاحمه الناس ربما سقطت الحصى من يده، أو ارتدت يده، فهذا هو السبب الذي يجعل بعض العلماء يوصي بأن تكون يده مرفوعة؛ حتى يتيسر له أن يلتقط باليمنى من اليسرى دون أن يسقط الحصى من يده، وحيثما كان فالأمر في هذا واسع، سواءً رفع أولم يرفع، وبعض العلماء يعلل رفع اليد حتى يرى بياض إبطه؛ حتى يستطيع أن يتمكن من الرمي بقوة، ولكن ليس ذلك بشيء؛ لأنه لو كان قريباً من الحوض ورمى بخفة أجزأه. والعبرة في الرمي أن تقع الحصاة في بطن الحوض، ولو لم تصب الشاخص، فالعبرة بوصولها إلى داخل الحوض، فلو ضربت الحصاة الشاخص وانحرفت فلم تسقط في الحوض لم يجزئ ولم يعتد بتلك الحصاة؛ لأن المراد بالرمي أن تقع في الحوض وهو محل الرمي وموضع الاعتداد. إن الرمي لا يكون إلا بالحذف، فلو جاء ووضع الحصاة في الحوض لم يجزه؛ لأنه لم يرم حقيقة. إذاً لابد من الأمرين: الأول: أن يحصل الرمي بالحذف فلا يجزئ الوضع. الثاني: أن تنتهي الحصاة وتستقر في الحوض، فلو رمى وخرجت عن الحوض فإنه لا يجزيه. والعبرة في وقوعها في الحوض بغالب الظن، فإن تيقن ورأى حصاته في الحوض فلا إشكال، وإن غلب على ظنه أجزأه؛ لأن الغالب كالمحقق كما هو معروف في القاعدة الشرعية. [ويكبر مع كل حصاة] وهو كما ذكرنا. عدم إجزاء الرمي بغير الحصى أو بحصى قد رمى بها [ولا يجزئ الرمي بغيرها ولا بها ثانياً]. قوله: (ولا يجزئ الرمي بغيرها) يعني: بغير الحصى، (ولا بها ثانياً) أي: لا يرمي بالحصى التي رمى بها أولاً مرة ثانية؛ لأنه قد تحقق بها المأمور. [ولا يقف]. أي: ولا يقف عند جمرة العقبة، وإنما يقف بعد الجمرة الصغرى والوسطى، وأما الكبرى (العقبة) فلا يقف عندها، ولذلك يقول العلماء: لا يشرع الدعاء بعد الرمي إلا إذا كان بعده رمي، توضيح ذلك: أن الجمرة الصغرى إذا رميتها فإن وراءها الوسطى ترمى فتدعو، ولذلك يدعو بعد الجمرة الصغرى، ويدعو بعد الجمرة الوسطى؛ لأن وراءها الكبرى (العقبة)، لكن الكبرى (جمرة العقبة) إذا رماها ليس بعدها شيء، فلا يشرع الدعاء بعد جمرة لا رمي بعدها، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقولون: يدعو في كل جمرة بعدها رمي، وبعضهم يختصر ويقول: لا يدعُ عند جمرة العقبة، فيفهم من ذلك أنه يدعو عند غيرها. [ويقطع التلبية قبلها] قوله: (ويقطع التلبية قبلها) يعني: قبل رمي جمرة العقبة، والصحيح: ما ذكرناه أنه يستمر في التلبية حتى يرمي آخر حصاة من جمرة العقبة. بيان وقت الكمال ووقت الإجزاء للرمي قال المصنف رحمه الله: [ويرمي بعد طلوع الشمس، ويجزئ بعد نصف الليل]. قوله: (ويرمي بعد طلوع الشمس)؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأكمل والأفضل، خرج عليه الصلاة والسلام من مزدلفة إلى منى، فما وصل جمرة العقبة إلا وقد طلعت الشمس، فرماها عليه الصلاة والسلام وحيا برميه منى. قوله: (ويجزئ بعد نصف الليل) وهي مسألة خلافية بين العلماء رحمة الله عليهم: فمن أهل العلم من يرى أنه يجوز الرمي بعد نصف الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة بعد نصف الليل، فدل على أن وقت الرمي يبتدئ من بعد منتصف الليل. وقال بعض العلماء: إنه لا يجزئ الرمي بعد طلوع الفجر. ومنهم من يقول: لا يجزئ الرمي إلا بعد طلوع الشمس، وإنما يرخص للحطمة والضعفة أن يرموا مبكرين، واحتجوا بما جاء في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لحق أصحابه وقال: ( لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ) وفي رواية: ( حتى يطلع الفجر ) وهذا القول، أعني: أن يتأخر فلا يرمي قبل طلوع الفجر هو أقوى الأقوال، وهو أحوطها؛ لأن مجرد الإذن بعد منتصف الليل لا يستلزم أن يكون هناك رمي في هذا الوقت؛ لأنه سيأخذ مسافة، خاصة الحطمة والضعفة، إذا قدر مضيهم من مزدلفة إلى منى مع الثقل وكبر السن، ويكون الضعفة وصغار الأطفال معهم، فالغالب أنهم لا يصلون إلى وقت الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن بعد مغيب القمر، وما بين مغيب القمر وطلوع الفجر في ليلة العيد وقت يتسع إلى أن يكون وصولهم قرب طلوع الفجر كما لا يخفى، خاصة إذا كانوا من الحطمة وضعفة السن فإنهم يتأخرون في مضيهم. جواز التوكيل في نحر الهدي [ثم ينحر هديه إن كان معه]. النحر يكون للإبل والبقر، والذبح يكون للغنم، وفي البقر موضعين للذبح والنحر. قوله: (ينحر هديه) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، ثم نحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة صلوات الله وسلامه عليه، والأفضل والأكمل أن يلي الإنسان بنفسه ذبح هديه ونحره؛ لما في ذلك من بالغ القربة لله عز وجل، وذلك أفضل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، ولا بأس أن يوكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل فيما بقي، وهي تتمة المائة بدنة التي أهداها عليه الصلاة والسلام، وإنما نحر ثلاثاً وستين بدنة، حتى قال بعض العلماء: عجبت من نحره لثلاث وستين وعمره ثلاث وستون سنة، لكن لا يعني هذا أن كل بدنة مقابل سنة، فهذا مما لا ينبغي البحث فيه ولا التكلف ولا الخوض فيه؛ لأنه أمر يحتمل أن يكون اتفاقاً، ويحتمل أن يكون قصداً، والله أعلم، فلا يبحث الإنسان في مثل هذه المسائل، ولذلك قال تعالى: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ص:86] ، فلا يتكلف الإنسان البحث في مثل هذه الأعداد. يتبع |
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب المناسك) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (235) صـــــ(1) إلى صــ(27) وجوب تعميم الحلق أو التقصير للتحلل من الإحرام [ويحلق أو يقصر من جميع شعره] قوله: (ويحلق أو يقصر من جميع شعره) التحلل بالحلق أو التقصير لابد أن يعم جميع الرأس. وقال بعض العلماء: يجزيه ثلاث شعرات. وقيل: يجزيه ربع الرأس. وقيل: يجزيه ثلث الرأس. والصحيح: أنه لابد من تعميم الرأس كله؛ لقوله تعالى: { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } [البقرة:196] فشمل جميع الرأس، ولا يقتصر على بعض الرأس دون بعض؛ لأنه إذا اقتصر على بعض الرأس دون بعض فقد ظلم، ولذلك ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع ) ، والقزع: أن يحلق بعض الرأس ويترك بعضه، قال بعض العلماء: القزع أن يحلق نصف الرأس ويترك نصفه، فيكون النهي من أجل الظلم، كأنه إذا حلق نصف الرأس وترك النصف الثاني ظلم النصف الذي لم يحلق في الصيف، وظلم النصف الذي حلق في الشتاء؛ لأنه يعتبر نصف المكشوف في الشتاء مستضراً أكثر من الذي غطاه الشعر. وقال بعض العلماء: إن القزع ليس حلق نصف الرأس، وإنما الحلق من أطرافه وهي القصة الموجودة الآن، وقد سرت -نسأل الله السلامة والعافية- إلى بعض أبناء المسلمين، وينبغي التنبيه عليها، ويُذكَّر الحلاق وهؤلاء بالله ويخوفون، وهي قضية حلق أطراف الشعر من الجانب الأيمن والأيسر ويبقى الشعر وفراً في منتصف الرأس، فهذه الحلقة أصلها حلقة اليهود، قالوا: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع ) وهي هذه الحلقة؛ أن يحلق أطراف الشعر ويترك الوسط، وهي طريقة اليهود، ومن فعلها فإنه متشبه بهم نسأل الله السلامة والعافية! فينبه على من يفعلها ويذكر بالله ويوعظ؛ لأنه لا يجوز التشبه بالكفار، فالمقصود: أنه إذا حلق يعم جميع الرأس، وإذا قصر يعم جميع الرأس، ولا يقتصر على بعض الرأس دون بعض. قدر أخذ المرأة من شعرها للتحلل [وتقصر المرأة من شعرها قدر أنملة] قوله: (وتقصر المرأة من شعرها قدر أنملة) فتجمع جميع شعرها في الأخير ثم تقص منه؛ لكن لا تقص لنفسها ولا يحلق الرجل لنفسه، وهذه من الأخطاء التي يقع فيها جميع النساء، حيث تقوم المرأة بجمع شعرها وتأخذ المقص وتقص لنفسها، فإن المتحلل لا يحلل لنفسه؛ لأنه محظور عليه أن يقص أو يتطيب حتى يخرج من نسكه، ولا يخرج إلا بحلق غيره، ولذلك كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يعطي الحلاق شقه الأيمن ثم الأيسر، فيحلق رأسه عليه الصلاة والسلام، والسنة أنه إذا أراد الإنسان أن يتحلل في الحج والعمرة أن يعطي الحلاق شقه الأيمن فيبدأ به، ثم ينتقل إلى شقه الأيسر، ولا يبتدئ بآخر الرأس أو بأعلى الرأس قبل الشق الأيمن؛ لأن السنة أن يبدأ بالشق الأيمن، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: ( أنه أعطى الحلاق شقه الأيمن ). واختلف العلماء: هل العبرة في التيمن بالحالق، أو المحلوق؟ وهذه المسألة تقع على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون الحلاق وراء ظهرك فلا إشكال؛ لأن يمينه يمين لك. الصورة الثاني: أن يكون الحلاق أمام وجهك، يعني: يستقبلك ويحلق أمامك، ففي الحالة يمينه يسار لك ويسارك يمين له، فحينئذٍ هل العبرة إذا وقف أمام وجهك وصار يحلق وهو مقابل لك بيمينك أو بيمينه؟ قال بعض العلماء: العبرة بيمين المحلوق. وقال بعضهم: العبرة بيمين الحلاق؛ لأن الفعل من الحلاق فيأخذ بيمينه لا بيمين المحلوق؛ لأن العبرة بفعله. والصحيح: أن العبرة بيمين المحلوق لا بيمين الحلاق؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية: ( أعطى الحلاق شقه الأيمن ) فدل على أن العبرة بيمين المحلوق لا بيمين الحالق. ما يباح للحاج بعد التحلل الأول [ثم قد حل له كل شيء إلا النساء] قوله: (ثم قد حل له كل شيء إلا النساء) فله أن يتطيب، ويلبس المخيط، ويحلق شعره، ويزيل التفث، قال تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج:29] ، فإذا فعل ذلك فقد تحلل التحلل الأول، وهذا التحلل يباح فيه كل شيء كما ذكرنا إلا النساء، ولا يباح له جماع النساء إلا بعد أن يطوف طواف الركن وهو طواف الزيارة، أما الدليل على أنه قد تحلل التحلل الأول، فلما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: ( طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل إحرامه، ولإحرامه قبل أن يطوف بالبيت ) فقولها: (لإحرامه قبل أن يطوف بالبيت) يدل على جواز الطيب قبل أن يطوف طواف الإفاضة، فلذلك قال العلماء: إن هذا التحلل هو التحلل الأصغر أو التحلل الأول. حكم ترك الحلق والتقصير وتأخيره أو تقديمه على الرمي والنحر [والحلق والتقصير نسك ولا يلزم بتأخيره دم ولا بتقديمه على الرمي والنحر] قوله: (والحلق والتقصير نسك) أي: إذا تركه فعليه دم. قوله: (ولا يلزم بتأخيره دم) أي: أنه لو أخره عن يوم العيد لا دم عليه. وقال بعض العلماء: إن أخره عن أيام التشريق لزمه دم؛ وذلك لفوات المحل، وعلى هذا فإنه ينبغي التأسي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، فمن أفضل ما يكون للإنسان في حجه وعمرته أن يفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرمي جمرة العقبة، ثم ينحر هديه، ثم يحلق رأسه، ثم بعد ذلك ينزل ويطوف بالبيت طواف الإفاضة متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن ذلك أرجى لقبول الله عز وجل لحجه. قوله: (ولا بتقديمه على الرمي والنحر). أما تقديم الحلق على الرمي والنحر ففيه وجهان للعلماء: فمن أهل العلم من قال: أما التقديم والتأخير فإنه قد جاء حديث النسائي في الرواية الصحيحة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: ( ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم أو أخر مما يَنسى -وفي رواية: مما يُنسى- إلا قال: افعل ولا حرج ) فقوله: (مما يُنسى) فهو يدل على أنه فعل لا شعوري، ولذلك جاء في الرواية الصحيحة الأخرى وهي ثابتة وصحيحة قال: ( لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر، فقال: انحر ولا حرج؟ فقال: يا رسول الله! لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج ) فالمقصود: أنه قال: (لم أشعر) واصطحبت بعلة مناسبة للحكم. ولذلك قرر بعض المحققين -وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله عليه، ويقول بها جمع من العلماء-: أنه ينبغي الترتيب كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن حصل للإنسان عذر أو نسيان فإنه يعذر؛ لأن الأصل إيقاعها على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وأن يفعل هذه الأفعال كما وردت؛ حتى يكون ذلك أبلغ في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، أما لو قدم وأخر وهو معذور فإنه لا يلزمه بذلك التقديم والتأخير دم، ولا يلزمه شيء، وإنما هو معذور بوجود النسيان والخطأ. الأسئلة حكم من رمى الجمرة قبل الفجر بلا عذر ثم رمى بعده السؤال من رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر بلا عذر، فهل يمكنه أن يستدرك بأن يرمي بعد طلوع الشمس مرة ثانية، أم أن الإخلال وقع بالرمي الأول ولا عبرة بالرمي الثاني، أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فمذهب جمهور العلماء: أن الرمي يمكن فيه التدارك ما دام الوقت باقياً، فإذا رمى قبل الفجر فعلى القول بأنه لابد وأن يقع رميه بعد الفجر، فإنهم ينصون على أنه لو رمى قبل مغيب شمس يوم النحر، أو قبل طلوع الفجر من اليوم الحادي عشر، على الوجهين المعروفين في تأقيت الرمي أنه يجزيه ولا شيء عليه، وقد يقول قائل: ما الفرق بين مسألتنا ومسألة الإحرام دون الميقات أننا قلنا: إنه يلزمه دم حتى ولو رجع؟ والجواب: أنه هنا إذا رمى قبل الفجر فإن رميه الأول لاغٍ ولا يعتد ولا ينعقد؛ لأنه عند أصحاب هذا القول وقع قبل الوقت المعتد به، كما لو صلى الظهر قبل الزوال، فلا يعتد ولا ينعقد، وإنما يلزم لو أنه انعقد في وقت لا يختص إلا بمعذور وهو غير معذور، فيستقيم أن يلزمه الدم أو الضمان، ولكن نظراً لكونه رمى قبل الوقت فإن رميه وجوده وعدمه على حد سواء، ويلزمه حينئذٍ أن يعيد الرمي على القول بالتأقيت بالفجر أو بطلوع الشمس، ثم إذا رمى ما بين وقت طلوع الشمس، أو طلوع الفجر وغروب الشمس أو طلوع الفجر من اليوم الثاني فإنه يجزيه ولا شيء عليه؛ لأن الإخلال لم يتحقق، إنما يتحقق إخلاله لو أنه اكتفى بالرمي الأول ولم يعده حتى مضى وقت الرمي المعتد به شرعاً، فحينئذٍ يلزمه الضمان؛ لعدم وقوع الرمي المأمور به. والله تعالى أعلم. عدم جواز رمي الجمرة قبل الفجر لمن كان مع الضعفة لحاجتهم السؤال من كان مع ضعفة وعجزة وتعجل بهم من مزدلفة بعد مغيب القمر، فهل له أن يرمي الجمرة معهم بعد منتصف الليل، وكذلك بالنسبة لطواف الإفاضة، أثابكم الله؟ الجواب إذا رخص لغير المعذور أن يكون مع المعذورين فيرخص له بقدر الحاجة، فالقاعدة في الشرع: أن ما جاز للحاجة يقدر بقدرها. فيجوز له أن يدفع ويصحبهم ويكون معهم إذا كانوا محتاجين له؛ لأن القاعدة: أن الإذن بالشيء إذن بلازمه. فلما كان هؤلاء الضعفة مأذوناً لهم بالدفع، وتوقف حصول الرخصة لهم بوجود من يعينهم ومن يساعدهم، ومن يرفق بهم وييسر لهم هذه الرخصة، كان مأذوناً لهم من هذا الوجه، فإذا وجد غيرهم من المعذورين ممن يستطيع أن يقوم بذلك ولا يحتاج لهذا القادر فيبقى على الأصل من كونه لا يدفع، فإذا دفع مع هؤلاء المعذورين فلا يترخص بالرمي، إنما يبقى على القول بتأقيت الرمي بطلوع الفجر أو بطلوع الشمس؛ حتى يتبين وقت البداية فيرمي. والله تعالى أعلم. حرمة النكاح ولوازمه بعد التحلل الأول السؤال هل يحرم كذلك عقد النكاح بعد التحلل الأول، أثابكم الله؟ الجواب يحرم النكاح ولوازمه، فمحظور النكاح عقداً وخطبة ووطئاً كله مستصحب، ولذلك يعتبرون الجنس واحداً يحظر عليه أن يخطب وأن يعقد وأن يطأ، على التفصيل الذي ذكرناه في المحظورات، والله تعالى أعلم. التحاق واجبات العمرة بواجبات الحج في الحكم السؤال هل يقاس من ترك واجباً من واجبات العمرة على من ترك واجباً من واجبات الحج في إيجاب الدم عليه، أثابكم الله؟ الجواب من ترك واجباً من واجبات العمرة يلتحق بواجبات الحج، ولذلك العمرة هي الحج الأصغر، والدليل على أنها حج أصغر قول الله عز وجل: { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } [التوبة:3] فقال: { يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } [التوبة:3] فوصف الحج بكونه أكبر، لذلك قال شيخ الإسلام : الحج حجان: حج أكبر، وحج أصغر؛ لدلالة هذه الآية الكريمة، فإذا وقع الإخلال في الحج الأصغر والأكبر فالحكم واحد، فالواجب الذي يجبر في الحج يجبر بما يجبر به في العمرة والعكس، والواجب الذي في العمرة يجبر بما يجبر به الواجب في الحج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( دخلت العمرة في الحج، وشبك بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه ) وهذا يدل على أن حكمهما واحد، وعلى هذا فإنه يلزمه ما يلزم من أخل بواجب الحج، وانظر إلى الواجبات في العمرة ستجدها موافقة في كثير من المسائل لواجبات الحج؛ فإنك ترى الرجل إذا أحرم بالعمرة يلزمه أن يتقي المحظورات كما لو أحرم بالحج، سواء بسواء، وكذلك أيضاً بالنسبة لطوافه بالبيت وما يلزمه في الطواف الحكم فيهما واحد، وعلى هذا إذا أخلّ بواجب في العمرة يجبره بما يجبر به الواجب في الحج. والله تعالى أعلم. دعاء الصائم عند تهيئه للفطر لا بعده السؤال أشكل عليَّ مسألة الدعاء عند الفطر لقوله عليه السلام: ( للصائم عند فطره ) ، فهل يكون وقت الدعاء بعد الأذان أم قبله، أثابكم الله؟ الجواب الدعاء عند الفطر، أي: عند تهيئه للفطر، بمعنى: أن يكون قبل أن يفطر، وهذا ذكر العلماء له نظائر: أن العبد إذا قام بحق الله عز وجل وأداه، كان من كرم الله عز وجل أن يجعل له الخير العاجل باستجابة دعوته، فتجده في الصلاة إذا صلى وانتهى من التشهد، وقضى أذكار الصلاة ولم يبق إلا أن يسلم، شرع له أن يدعو؛ لقوله عليه الصلاة والسلام عندما سئل: ( أي الدعاء أسمع؟ قال: أدبار الصلوات المكتوبات )؛ وذلك لأنه قام بفريضة الله، وأدى حق الله، فيرجى أن يستجيب الله دعاءه، ولما وفى لله يوفي الله له. وفي الزكاة إذا جاء ودفع ندب للإمام أن يدعو له؛ وذلك لقوله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } [التوبة:103] فكان عليه الصلاة والسلام إذا تصدق المتصدق دعا له. وكذلك أيضاً في الصوم إذا فرغ من صومه وكاد أن يفطر، دعا وسأل الله في ختام يومه من خيري الدنيا والآخرة. وكذلك في الحج، فإن الإنسان في حجه يدعو في عرفات وقالوا: ويدعو أيضاً في مزدلفة لقربه من التحلل، فهو يدعو في صبيحة مزدلفة؛ لأنه ليس بينه وبين التحلل إلا اليسير. وهذا كله نبه عليه بعض العلماء، فإذا تأملت أركان الإسلام الأربعة هذه، وجدت أنه بمجرد ما يفرغ العبد من حق الله فإنه يرجى له إجابة الدعوة. من هنا قال العلماء: لا يدعو بعد أن يفطر، وإنما يدعو عند تهيئه للفطر، فيسأل الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة. حكم الفطر لكبير السن ومن به مرض لا يرجى برؤه السؤال رجل كبير السن وهو مصاب بمرض ولا يستطيع أن يصوم، فماذا يفعل، خصوصاً وأن عليه صياماً من رمضان السابق، أثابكم الله؟ الجواب أما بالنسبة لكبر السن والمرض فكل واحد منهم إذا انفرد، وكان المرض مما لا يرجى برؤه فإن له الفطر، وكذلك لو كان كبيراً وصحته وعافيته طيبة لكنه لا يستطيع أن يصوم، ويجحفه الصوم ويرهقه، فإن من حقه أن يفطر، قال تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } [البقرة:184] قال بعض السلف: (يطيقونه) يعني: يجدون المشقة، ولذلك في قراءة: (يَطْيَّقُونَهُ) وفي قراءة: (يَطَوَّقُونَهُ) أي: يجدون المشقة والعناء من صومهم، فهذا يفطر وعليه الإطعام، وهكذا إذا كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه، كمن به فشل في الكلى، أو أمراض في القلب مزمنة بحيث لا يستطيع أن يصبر، أو عنده أدوية لابد من أخذها في ساعات منتظمة، كمن كان حديث عهد بعملية جراحية أو نحو ذلك، واستدام المرض معه بحيث لا يمكنه القضاء، فهذا يفطر ويتحول إلى الإطعام مباشرة، أما لو كان مرض هذا الكبير مما يرجى برؤه، كأن تكون نزلة عارضة كزكام أو أمراض خفيفة عارضة، وهذه الأمراض ترهقه عن الصوم، ولكن بعدها قد يشفى ويمكنه القضاء، فإنه يفطر ثم يقضي متى ما تيسر له القضاء ولا إطعام عليه. والله تعالى أعلم. حكم من أوتر مع الإمام وأراد أن يصلي من الليل السؤال من أوتر مع الإمام في القيام وأراد أن يصلي من الليل فكيف يوتر؟ وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا وتران في ليلة ) ، أثابكم الله؟ الجواب قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا وتران في ليلة ) حديث الترمذي حسنه غير واحد من العلماء، ومعناه: أن الوتر ينقض الوتر؛ لأنه إذا أوتر في الليلة وترين أصبحت الصلاة شفعيه وأصبح العدد شفعاً، فهذا هو وجه النهي عن الوترين، والمقصود شرعاً أن يبقى عدد صلاتك بالليل وتراً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ) ، فإذا صلى وتراً ثم أوتر بعده وتراً ثانياً فإن الوتر الثاني ينقض الوتر الأول، وعلى هذا فمن صلى مع الإمام وأوتر، أو صلى لوحده أول الليل وأوتر، ثم استيقظ آخر الليل وأحب أن يصلي فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يريد أن يصلي ركعتين كأن تكون ركعتي وضوء أو شيئاً خفيفاً فيصلي شفعاً ولا يوتر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعدما أوتر، وهذا ثابت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة . الحالة الثانية: أن يريد أن يطول ويقوم، كما هو الحال لو أوتر في صلاة التراويح وأراد أن يتهجد، أو أوتر أول الليل وقام في آخر الليل وأراد أن يتهجد، ففي هذه الحالة يصلي ركعة ينقض بها الوتر الأول؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا وتران في ليلة ) فنقض الوتر الثاني الوتر الأول، ثم يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر؛ السبب: أنه ينقض الوتر الأول؛ لكي يجعل آخر صلاته بالليل وتراً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ) ، فشرع له أن ينقض الوتر الأول، حتى يكون وتره في آخر الليل، وهذا هو فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، واختاره جمع من الأئمة والسلف. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمنّ علينا بالقبول، وأن يتجاوز عنا الزلل والخلل إنه المرجو والأمل. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله وصحبه أجمعين. |
الساعة الآن : 04:51 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour