رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
ليس الايمان بالتمني ....
|
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (161) دعوة غيَّرت وجه الأرض (8) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة الثامنة: قوله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ): قال القرطبي -ونقل مثله البغوي عن ابن عباس ومقاتل-: "تعلم جميع ما أخفيه وما أعلنه، من الوجد بإسماعيل وأمه حيث أُسْكِنَا بوادٍ غير زرع"؛ نجد في هذا الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- المشاعر الفياضة من الحنان والرحمة من الأب بولده وأم ولده، والإشفاق البالغ عليهم، مع اليقين بوعد الله وحفظ الله، وعلم الله المحيط بما نخفي وما نعلن، فهو يعلن الدعاء ويعلن الامتثال، ويبطن الإخلاص في ذلك، مع اليقين بأن الله لا يضيعهم، مع كمال التوكل على الله -عز وجل-. وأيضًا مع هذه المشاعر الإنسانية الرقيقة من الحنان والوجد عليهم، لكن لا يغير ذلك كمال الامتثال، وبهذا كله -وغيره- وصل إبراهيم إلى منزلة الخلة "فهو خليل الرحمن"؛ فقد أَخْلَص لله وأُخْلِص لله، وأسلم لله، وأحب الله فوق كل حب، وضحَّى بنفسه وولده لله -عز وجل-، ومع ذلك لم يكن عنده القسوة ولا الغلظة على خلق الله؛ خاصة أحبهم إليه من ولده وأهله، مع شدة ضعف الولد، وشدة عجز أمه كذلك في هذه البيئة الجغرافية الصعبة من الجبال والصحراء وحولها، وانعدام الزرع، وانعدام الماء ساعتها، وانعدام الأنيس والبشر بالكلية، والمعين. كل ذلك كان يجول في نفس إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، ولا يقول إلا ما يرضي ربه ويتوكل عليه، ويكل ولده وأمه إلى الله الذي أيقن أعظم اليقين أنه لن يضيعهم، وأنه لن يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا شك أنه أمر بهذا الأمر من إسكان أهله وذريته بوادٍ غير ذي زرع عند بيته المحرم؛ يعلم أن من وراء ذلك من المصالح والحِكَم والخيرات ما أُثِيب عليه إبراهيم، وما أثيبت عليه هاجر، وما أثيب عليه إسماعيل حين هوت قلوب المؤمنين عبر الزمان إلى هذه البقعة المشرَّفة طالبين الأجر والثواب والرضوان من ربِّ العباد الذي شرع أن تعمَّر مكة المكرمة. وبغير هذا لم تكن مكة لتعمر، بل ولا لتنشئ أصلًا، لكنه فضل الله ورحمته بالبشرية كلها وبإبراهيم وإسماعيل وهاجر -عليهم السلام-، وعلينا من بعدهم لتعمير مكة موضع النسك والشعائر، ومضاعفة الأجور، والولادة الجديدة للقلوب بالحج والعمرة، اللهم لك الحمد، ولك أسلمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، أنت ربنا وإليك المصير. الفائدة التاسعة: وفي قوله -تعالى-: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)، تقرير كمال صفة العلم له -سبحانه وتعالى-، بالكليات والجزئيات؛ خلافًا للفلاسفة الكفرة الذين زعموا أن الله لا يعلم الجزئيات؛ ولأنهم ينفون الذات والأسماء والصفات، فواجب الوجود أو الوجود المطلق ليس له ذات ولا اسم ولا صفة، ولا علم ولا إرادة! هذه العقيدة الخربة التي تدل نصوص القرآن على إبطالها بالكلية، فكلها تثبت علم الله بالكليات والجزئيات؛ منها هذه الآية: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)، ومنها قوله -تعالى-: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: 59)، وقال -سبحانه وتعالى-: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد: 4)، وقال -عز وجل-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة: 7)، وقال -تعالى-: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس: 61). وما جنت الفلسفة على البشرية إلا الجهل والضلال، والظلمات والحيرة، والشك والشرك -نعوذ بالله من ذلك-، وهذا يرشدنا: أن علم الكلام الذي استعمل أساليب الفلاسفة وطرق المنطق في الاستدلال لا خير فيه، وقد أدَّى بأهله إلى أنواع البدع والانحرافات والضلالات، فقالت المعتزلة عن الله -تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا-: عليم بلا علم، وقالت الجهمية بأنه ليس بعليم ولا له صفة العلم، فـ(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) (الكهف: 1)، وأغنانا به عن الخوض بالباطل في مجاهل الفلسفة، وعلم الكلام. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (162) دعوة غيَّرت وجه الأرض (9) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة العاشرة: قوله -تعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ): فيه شكر الله على نعمة الولد الصالح؛ خاصة على الكبر بعد طول انتظار، وفي هذا الجزء من القصة: عدم استعجال الإجابة، فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- طلب الولد عند خروجه عن قومه، كما قال -تعالى-: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 99، 100)، وقد كان فتى حين ألقي في النار، قال -تعالى-: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء: 60)، ولم يمكث كثيرًا بعد إلقائه في النار ونجاته منها، بل اعتزلهم وما يعبدون من دون الله بعد أن ردوا دعوته رغم رؤيتهم الآيات، ومنها ومن أعظمها: النار التي ألقوه فيها، فلم تحرقه، بل كانت عليه بردًا وسلامًا. ومع أن أباه قال له: نعم الرب ربك يا إبراهيم؛ إلا أنه لم يستجب لدعوته، ولم يقبل دعوة التوحيد، فدعا بهذه الدعوة العظيمة حين خرج عنهم وذهب إلى ربِّه: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، وتأخرت الإجابة إلى أن بلغ الكبر والمؤمن ينبغي عليه الدعاء وعدم استعجال الإجابة؛ لأن الاستعجال من أسباب عدم الإجابة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: (يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ) (متفق عليه). فالاستجابة قد تتأخر لحِكَم بالغة، منها: أن يتحقق العبد بكمال التفويض لله -عز وجل-، وحسن الظن به، وشدة التعلق به -سبحانه-، والرضا بما قسم، والإلحاح في الدعاء، وهو يحبه الله؛ لأنه عبادة، فيُثَاب على كل دعوة دعا بها، والإجابة لها صور، فالإجابة بنفس الدعاء صورة، أو أن يُصرَف عنه من السوء مثلها، أو يدخر له يوم القيامة ثوابها، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عنهُ من السُّوءِ مثلَها) قَالُوا: إِذنْ نُكثرُ، قَالَ: (الله أَكثر) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني). وفي رواية ذكرها في الترغيب والترهيب: "حتى يقول العبد يوم القيامة يا ليته لم يستجب شيئًا"؛ لما يرى من الثواب العظيم الذي أعدَّه الله له بدلاً من دعواته التي دعا بها ولم يرَ لها إجابة. وتأخر الإجابة لا يلزم منه بُعد العبد عن ربه، بل إبراهيم خليل الله وأُخِّرت إجابة دعائه بالولد إلى الكبر، وخاصة من سارة التي لم يكن معه غيرها حين الخروج من أرض كنعان إلى الشام، وصحبته عمره حتى في رحلته إلى مصر التي أعقبها أن وهب لها الملك الجبار هاجر ووهبتها هي لإبراهيم حبًّا لزوجها وتحصيلًا لوجود الولد الصالح منه، وهذا فيه أعظم التضحية من هذه المرأة الصالحة التي اختارها الله -عز وجل- زوجة لخليلة -عليه الصلاة والسلام-، ورضي عنها. فلا تيأس أيها المسلم ولا تبتأس إذا تأخرت الإجابة، وأيقِن كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني). الفائدة الحادية عشرة: وقوله: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ): فيه استحضار هذا الاسم من أسماء الله الحسنى سميع الدعاء، والثناء على الله -عز وجل- به، وحمده -سبحانه وتعالى- على نعمته للاستجابة للدعاء، كما وعد -سبحانه- فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، وقال صالح -عليه السلام-: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود: 61)، وقال شعيب -عليه الصلاة والسلام-: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود: 90). ومعنى السمع في هذا الموطن -(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)-: الإجابة، كما في قول المصلي: "سمع الله لمن حمده" أي: استجاب الله له وقَبِل منه دعاءه وصلاته. وتقديم الحمد في الدعاء، وختمه بأسماء الله الحسنى -خاصة سميع الدعاء- مِن أسباب إجابة الدعاء، فلا ينبغي للعبد أن يهمل ذلك في دعائه، فإنه عظيم الأثر في حصول مطلوبه، والله أعلى وأعلم. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (163) دعوة غيَّرت وجه الأرض (10) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة الثانية عشرة: قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في دعائه: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ): في هذه الآية بيان الإيمان بالقدر، وهذه الدرجة المذكورة في هذه الآية هي درجة الخلق والجعل، وهي التي ينكرها القدرية، ومنهم: الخوارج والمعتزلة -ومن سار على طريقتهم-، مع أن إثبات العلم والكتابة مع إثبات خلق الله للذوات يلزم منه أنه هو الذي خلق أفعال العباد وصفاتهم؛ لأنه طالما كان يعلم أنهم سوف يفعلون؛ فلو أراد ألا يُعصَى لما خلقهم. فتناقض هؤلاء المعتزلة؛ فأثبتوا خلق الله للذوات، وأنكروا خلق الله لأفعال العباد؛ بزعمهم أن العدل يقتضي ذلك! وأوجبوا على الله بعقولهم من حيث لا يعلمون ما أوجبوه على أنفسهم، والله -سبحانه- قد خلق للعباد قدرة ومشيئة بها تقع أفعالهم؛ فهذا هو العدل الذي وصف الله نفسه به، ولم يظلم الناس شيئًا، ولا يظلم مثقال ذرة، ولكنه -سبحانه وتعالى- هو الخالق لكل شيء، كما قال -عز وجل-: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (الزمر: 62)، وقال: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (الأنعام: 101)، وقال -عز وجل-: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات: 96). وهذه المرتبة قد بيَّنها الله -عز وجل- في مواضع كثيرة في كتابه يشق حصرها، منها: قوله -تعالى- عن إبراهيم وإسماعيل -صلى الله عليهما وسلم-: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ? إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 128). فالإسلام أصلاً من خلق الله في قلوب المؤمنين، ومن جعله لهم كذلك، فقال -سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة: 143)، فوسطية الأمة بعملها وعقيدتها هي من جعل الله وخلقه لهم كذلك، وقال -سبحانه وتعالى- عن اليهود: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 13). فقسوة قلوبهم، وتحريفهم الكلم عن مواضعه، عقوبة جعلها الله وخلقها فيهم على نقضهم الميثاق؛ فهذه القسوة خَلْق خلقه الله، وجعله صفة لقلوبهم. وقال -سبحانه وتعالى-: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) (الأنعام: 25)، وهذه الآية من أوضح ما يدل على أن الله يضل من يشاء بأن يجعل على قلوبهم أغطية؛ حتى لا تفقه الحق ولا تراه، رغم وضوحه وبيانه كالشمس! وقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ . وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (الأنعام: 112-113)، فقضى الله -عز وجل- بحكمته وجعل -سبحانه وتعالى- لكل نبي عدوًّا من شياطين الإنس والجن، وهو الذي خلقهم كذلك، وجعلهم كذلك، وهو الذي قدَّر أن يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف الذي يُغَر به من شاء الله -عز وجل- من أهل الضلال، ولتميل إلى هذا القول المزخرف قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوا ذلك الباطل وليقترفوا ما هم مقترفون من المعاصي والذنوب، وكل ذلك بجعله بعلمه وحكمته؛ وضع الأشياء في مواضعها، ولا يجعل الشياطين كالنبيين، ولا المسلمين كالمجرمين، ولا الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ولا المتقين كالفجار. وقال -سبحانه-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 122)، فالله الذي جعل النور في قلوب المؤمنين وهو الذي أحيا هذه القلوب بعد موتها، وعلَّمها بعد جهلها، وجعلهم يمشون بهذا النور في الناس يعلمونه وينشرونه، وهو -سبحانه وتعالى- الذي زَيَّن لكل أمة عملهم، فخلق هذا التزيين للباطل في قلوب الكفار، حتى ارتضوا الكفر -والعياذ بالله-. وقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام: 123)، فهو -سبحانه- الذي جعل في القرى المجرمين وأكابرهم ليمكروا بأهل الحق، ويحاولوا ردَّه، وهو -سبحانه وتعالى- الذي قدَّر ذلك كله بعلمه وحكمته. وقال -سبحانه وتعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 27)، فالله الذي جعل الشياطين أولياء لمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر حتى زيَّنوا لهم التعري وكشف العورات، مع أن الله فطر العباد على سترها، وأن يسوء الإنسان ظهورها؛ فهذه خطة الشيطان التي يضل بها الناس والتي يجذبهم بها إلى ولايته، والله الذي يجعل ذلك عدلاً منه وحكمة. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (164) دعوة غيَّرت وجه الأرض (11) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة الثالثة عشرة: من أدلة خلق الله لأفعال العباد التي دَلَّ عليه قوله -تعالى- في هذه الآيات: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)، قوله -تعالى- عن إسحاق ويعقوب -عليهما الصلاة والسلام-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 73)، فالله الذي وفَّقهم للعلم والعمل والدعوة، فجعلهم أئمة في هداية الناس، وهم في أنفسهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، عابدين لله -سبحانه-، فهم يعبدون الله ويهدون بأمره الشرعي، ويعلمون الناس ما يلزمهم، ولا يكون العبد إمام هدى إلا بأن يعلم الحق ثم يعمل به ثم يدعو الناس إليه ويصبر على ذلك، وكل ذلك بجعل الله له حتى يوفقه فيفعل ذلك. وقال -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) (الأنبياء: 72) -ونافلة أي: ابن الابن-، فالصلاح فعل العبد والله -عز وجل- جعله صالحًا. وقال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) (الفرقان: 20)؛ فالذي قدَّر وجود الفتنة والامتحان، وجعل للرسل وأتباعهم المؤمنين أعداءً لهم يتسلطون على أذيتهم، ويحاولون صرفهم عن دينهم وفتنتهم، وجعل لأهل السنة أعداء من أهل البدع والضلال والزندقة؛ يمكرون بالليل والنهار لصرف الناس إلى باطلهم، ويحاولون نشر بدعهم وزندقتهم، وينفقون الأموال ليصدوا عن سبيل الله، ويضلوا الناس، وربما جعل لهم قوةً في الدنيا وسلطانًا على الناس؛ يمتحن بذلك عباده المؤمنين في الصبر والثبات على الحق ليضاعف لهم الأجر والثواب: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10)، فما جعل الله فترة الإحراق إلا ليضاعف للصابرين فيها أضعاف أضعاف الأجر في فترة الإشراق. وقال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه السلام-: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس: 88). فلا تبتئسوا أيها المؤمنون بما يفعله أعداء الدين من غطرسة وطغيان، وسفك للدماء وانتهاك للحرمات، ونشر للضلالات، ومنها ما يسمونه: "الدين الإبراهيمي الجديد"، والذي ما أنزل الله به من سلطان. ومن ذلك: القول بمساواة الأديان. ومن ذلك: الطعن في الكتاب؛ بادِّعاء أنه حمَّال أوجه فلا يصح أن يُحتج به؛ لأنه يفهم على أمزجتهم! ولا السنة؛ لأنها عندهم أخبار آحاد فلا تقوم بها حجة! ولا الإجماع؛ لأنه عندهم آراء رجال كانوا قد عاشوا في وقت يختلف عن زماننا، أو بالطعن فيهم كما طعنوا في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كل ذلك لهدم الدين! فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي قدَّر ذلك، هو العزيز العليم؛ قدَّر ذلك لينظر: كيف نصبر، كيف نقاوم، كيف ننصر دينه بالحجة والبيان، والقوة والسنان حتى يأتي أمر الله، وهو -سبحانه- ناصر دينه، وجاعل أنصاره فوق الذين كفروا يوم القيامة. وقال تعالى عن فرعون وملئه: (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (القصص: 42)، فهو -سبحانه- كما جعل الأنبياء والمؤمنين أئمة يهدون بأمره، فهو كذلك جعل فرعون وملئه أئمة ضلال يدعون إلى النار بطريقتهم وسلوكهم، كما أضلوا في الدنيا مَن كتب الله عليهم الضلالة من أقوامهم حتى أغرقهم الله وراءهم في اليم، فهم من بعد موتهم أيضًا يدعون إلى النار؛ بدعوتهم بسلوكهم وعملهم إلى الكفر، فقد جعلهم الله أسوة لأهل الطغيان والجبروت، يفعلون ما فعلوا، ويظلمون كما ظلموا، وأتبعهم -عز وجل- في هذه الدنيا لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين. وليس كما يقول الزنادقة الكفار: إن فرعون مات طاهرًا مطهَّرًا! كما لم يستحي ابن عربي أن يكتبه في فصوصه، ويوافقه زنادقة زماننا، فيقولون: إن هذا رأي لبعض العلماء! وما هو إلا بقول الزنادقة؛ يزعمون أن فرعون قد تاب قبل موته وقبل الغرغرة، ومن أين لهم ذلك؟ وقد قال -عز وجل- في ردِّ ما يزعم من إيمانه: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر: 85)، وقال -سبحانه وتعالى-: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس: 91)، ففرعون إمام يدعو إلى الضلالة؛ فكيف يكون طاهرًا مطهَّرًا؟! وقال -سبحانه وتعالى-: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ . وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (هود: 98، 99)، وقال -تعالى-: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ . النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر: 45، 46)؛ فكيف يكون مات طاهرًا مطهرًا؟! اللهم إنا نبرأ إليك من الكفر والضلال. وكل ذلك بحكمة الله -عز وجل- وتقديره؛ ينظر كيف يقاوم أهلُ الحق أهلَ الزندقة والبدع والضلال، أهل النفاق والكفر، نعوذ بالله من شرِّهم. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (165) دعوة غيَّرت وجه الأرض (12) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة الثالثة عشرة: مسألة الجعل لأفعال العباد متواترة في القرآن، تواترًا يجزم كل مؤمن بالقرآن بثبوتها، فيلزمه أن يقر ويؤمن بهذه المنزلة من منازل الإيمان بالقَدَر، وهي خلق الله لأفعال العباد، فالله جعلهم يفعلون أفعالهم بإرادتهم وقدرتهم التي خلقها الله لهم، وعلى هذه الإرادة والقدرة منهم، ثم فعلهم لأفعالهم بها يحاسبهم الله عليها خيرها وشرها، فسبق مشيئة الله وقدرته على أفعالهم وخلقه لها لا يعني سلب إرادتهم وإلغاءها، ولا إلغاء قدرتهم؛ فهي موجودة ومؤثرة في الأفعال وإن لم تكن مطلقة، ولا أنها مستقلة بالتأثير، وليست خالقة موجودة، وليس تأثير إرادتهم وقدرتهم على سبيل الشركة مع إرادة الله وقدرته، ولا بدلًا منها، بل لا موجب إلا إرادة الله، ولكن لإرادتهم أثر لجعل الله لها مؤثرة، فمسألة أثر بين مؤثرين التي قال المتكلمون عنها: إنها مستحيلة إلا على سبيل الشركة والبدل، فكلامهم باطل. والذي عليه أهل الإيمان: أنه يوجد أثر بين مؤثرين أحدهما أثر للآخر؛ فإرادة الله مؤثرة، والله جعل إرادة العباد لها أثر في أفعالهم، فالله الذي جعل هذا المؤثر مؤثرًا فيما أثَّر فيه، فهذه المسألة من أخطر المسائل التي تؤدي إلى الانحراف في قضية القضاء والقدر. ومن هذه الأدلة المتواترة في القرآن على جعل العباد فاعلين، وخلقه لأفعالهم: قوله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30)، فهذه الآية دليل صريح على أن هذا الجعل المتعلق بفساد مَن يفسد، وسفك الدماء ممن يسفكها، هو بقَدَر الله -سبحانه- وجعله، وهو -سبحانه- يعلم من الحِكَم والمصالح في وجود هذا الفساد وسفك الدماء ما لا يعلمه الملائكة، وذلك وجود النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، والعلماء العاملين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والدُّعَاة إلى الخير، والمجاهدين في سبيل الله، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، والزُّهَّاد والعُبَّاد، وغيرهم ممَّن أحب الله وجودهم، ولا يمكن أن توجد هذه الصفات إلا بوجود أضدادها من الشرك والكفر والمعاصي. ومن هذه الأدلة قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة:125)، فما يجده العباد المؤمنون في قلوبهم من الشوق إلى بيت الله الحرام، والرغبة في الرجوع إليه كلما بعدوا عنه، هو مِن جعل الله لذلك في قلوبهم برحمته لهم؛ حتى يقدموا على بيته حجاجًا ومعتمرين، ويكونون فيه طائفين قائمين، راكعين ساجدين، عاكفين. ومن ذلك قوله -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 125)، فشرحه -سبحانه وتعالى- صدر المؤمن بفضله ورحمته، نص في قدرته على خلق الهداية والانشراح للإسلام في صدر المؤمن، فالعبد انشرح صدره للإسلام والله شرحه، وأما الكافر فضاق صدره للإسلام حتى كان كالشجرة الحرجة التي بين الأشجار لا يوصل لها، فهو قد ضاق صدره وحرج أن يدخل قلبه الإسلام، والله هو الذي جعله ضيقًا كذلك، كأنه يكلَّف الصعود في السماء ولا يقدر. ومن ذلك قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال: 29)، فالفرقان هو الذي يفرِّقون به بين الحق والباطل، والسنة والبدعة، والإيمان والكفر، والهداية والضلال، والخير والشر؛ فهذا الفرقان قد جَعَله الله في قلوبهم، وهم قد فرَّقوه، وهو -عز وجل- هداهم لما اختلف الناس فيه من الحق بإذنه، وقد جعل الله خلقه لهذا الفرقان في قلوبهم جزاءً لهم على تقواهم، وهي علم وعمل؛ فمَن اتقى الله جعل الله له فرقانًا، ومن اهتدى زاده الله هدى، ومن عمل بطاعة الله وفَّقه الله للمزيد من الطاعة. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (166) دعوة غيَّرت وجه الأرض (13) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة الرابعة عشرة: من أدلة جعل الله وخلقه لأفعال العباد: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ . لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال: 36-37). فبيَّن الله في هذه الآية الكريمة: أن كل ما نراه من إنفاق الكفار الأموال والجهود للصد عن سبيل الله، وهذا يشمل أنواع السلاح التي يعدونها، والمركبات والطائرات والدبابات، والإعلام المضلل الذي يفتن الناس حتى يروا الحق باطلًا والباطل حقًّا، وحتى يؤثروا شهوات الدنيا المحرمة الفانية على القرب من الله ونعيم الجنة؛ أن كل هذا من الصد، وعاقبته إلى الخسران والبوار، ومحق المكر السيئ الذي عنده يتحسرون على ما أنفقوا وما بذلوا من جهود، والذي ينتهي ويضمحل، ويُغلَب الكفار؛ كل هذا بجعل الله وخلقه؛ (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) مشاهدًا للناس مرئيًّا بعد أن كان في عِلْم الله أذلًا، وليميز الخبيث من الطيب واقعًا بعد أن صار الخبيث في علمه خبيثًا في الواقع قد فعله الناس، وصار الطيب في علمه طيبًا في الواقع قد فعله الناس، ثم يجعل الله هذا الابتلاء بقوة الكفار وإنفاقهم سببًا لجعل الخبيث يجتمع مع الخبيث حتى يكثر ويتراكم، وكلما ازدادت الفتنة زاد اجتماع الخبيث بعضه على بعض، حتى إذا جاء وقت بطلانه ومحقة بقدر الله؛ جعل الله هذا الركام الخبيث المجتمع كله في جهنم. وهنا يظهر مَن الذي كسب ومن الذي خسر، ومن الذي انتصر ومن الذي انهزم، وهذا من أعظم ما يعين الله به المؤمنين على الثبات والصبر على البلايا العظيمة التي تفوق تحمُّل غيرهم من البشر، فما نراه في غزة يفوق طاقة البشر في حياتهم العادية، ولكن صبر المؤمنين والمؤمنات تراه في وجوههم، ونبرات ألسنتهم، وصفة حياتهم وتصرفاتهم؛ لأن هذا الإيمان بأن الله جعل ذلك الأمر، ثم ينتهي الباطل ويظهر الحق (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء: 81). ومن هذه الأدلة على جعل الله -عز وجل- وخلقه لأفعال العباد: قوله -تعالى-: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40). وهذه الآية من أعظم المبشِّرات للمؤمنين؛ لأن (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى) التي تتضمن الكفر والفسوق والعصيان تعلو فيما يبدو للناس في أزمنة كثيرة، وأمكنة كثيرة، وتنتشر في العالم وينتشر تشويه الإسلام بها ويضلون عن سبيل الله، لكنه -عز وجل- بعزته وحكمته كما نصر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في الغار ومعه صاحبه رغم كل الأسباب التي تؤدي أن يمسك الكفار بهما ويفعلون بهما ما يريدون لإيقاف دعوة الحق، فإنه -عز وجل- ينصر الإسلام وأهله في كل زمان ومكان رغم وجود المحاولات الكثيرة المستمرة التي لا تتوقف بين الترغيب والترهيب، الترغيب في الباطل والترهيب من الحق، والتشوية والتلبيس، واستعمال البطش والتنكيل والقتل لإزهاق الحق وأهله. ومع ذلك فالله يجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، فمن يتصور أن الكفار مسيطرون على العالم بأسلحتهم الفتاكة وجنودهم، ومَن والاهم، وبأجهزة مخابراتهم التي يحصون بها على الناس كلماتهم، هو مخطئ في تصوره، بل خاطئ؛ فالأمر يدبره الله؛ لأن كلمتهم لا بد أن تصير إلى السفل والمحق، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ لأن من صفات الله العزة والحكمة، والله عزيز حكيم، فيستحيل أن يسلط ويزيل الباطل إزالة كاملة على الحق، يزول معها الحق بالكلية، بل هو -سبحانه- يمتحن عباده المؤمنين، ويجعل ما يفعله الكفار سببًا ليقظة أمة الإسلام مما يؤول في النهاية إلى علو كلمة الله الشرعية، كما أن كلماته الكونية يستحيل أن تُعَارض، ولا أن تُمَانع: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام: 115). وهذا كله من أعظم ما يثبت الله به قلوب المؤمنين على الحق؛ لأنهم يعلمون أن هذا الذي يرونه في العالم من علو الباطل هو أمر في الظاهر، وهو مؤقت يوشك أن يزول، وأن تعلو كلمة الله -سبحانه وتعالى-، وأن تضمحل هذه الأباطيل، وهذا الكفر وهذا الصد عن سبيل الله، وهذا الظلم والعدوان؛ كل ذلك إلى اضمحلال -بإذن الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (167) دعوة غيَّرت وجه الأرض (14) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة الخامسة عشرة: قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) فيه خوف المؤمن ألا يتقبل الله دعاءه وعمله، فهو يدعو الله -عز وجل- أن يتقبَّل منه، وقد كَثُر ذلك في الأنبياء والصالحين؛ قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 127). قال بعض السلف: "يبنيان بيتًا لله -عز وجل- ويخافان ألا يتقبل الله منهما"، ومثله قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون: 57-61)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها-: (هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَيُصَلِّي، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ) (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه واللفظ له، وحسنه الألباني). فالخوف من عدم القبول صفة الصالحين، فهم يجمعون بين الإحسان والإصلاح وبين خوف عدم القبول، مع أن رجاءهم في قبول بضاعتهم المزجاة وأعمالهم الناقصة التي يستغفرون الله -عز وجل- بعدها، فهم بين الخوف والإشفاق وبين الإحسان والرجاء، وهذا أمثل الأحوال، وأما الفاجر فهو يجمع إساءة وأمنًا ومنًّا على الله -عز وجل- بعمله، كما قال -سبحانه وتعالى-: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: 14-17). فمع أن إيمان الأعراب مجهول وإٍسلامهم ناقص، ومع ذلك فهم يمنون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أسلموا، وقالوا: قاتلتك قبائل كذا وكذا... ولم نقاتلك! ولم يشعروا بمنة الله -عز وجل- عليهم بالهداية للإسلام؛ فلا شك أنهم جمعوا إساءة ونقصًا، وليس هذا حال المؤمنين الكُمَّل، وكلما عَظَّم الإنسان عملَه نقص، وكلما تنقصه ورأى ما فيه من عيوب تستحق الرد، فبادر إلى الاستغفار كان أقرب إلى القبول، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سلَّم من صلاته استغفر الله ثلاثًا! وكيف كانت صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخشوع، وحضور القلب وتأثره بتلاوة القرآن؟! ومع ذلك يستغفر الله عقب هذه العبادة؛ فكيف بما نفعله نحن؟! وقال الله -عز وجل-: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ . ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة: 198-200). فهم بعد أشرف المواقف، بعد الوقوف بعرفة؛ الموقف الذي يباهي الله -عز وجل- بهم ملائكته ويدنوا -سبحانه وتعالى- عشية عرفة، ولم يرد دليل فيما نعلم على نزول الرب -عز وجل-، ودنوه من أهل الأرض نهارًا إلا في يوم عرفة، وإنما ثَبَت النزول الإلهي في أحاديث متواترة ومستفيضة في ثلث الليل الآخر، وفي بعضها في نصفه، يقول: (يَنْزِلُ رَبُّنَا -تبارك وتعالى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ) (متفق عليه)، حتى يطلع الفجر، أو كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-. فالحُجَّاج بعد أن وقفوا بأشرف المواقف، وهو الوقوف بعرفة، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لحَجُّ عَرَفَةُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، أُمِروا بالاستغفار، وهذا يدلنا على حال المؤمن على الدوام في عمله يرى أنه فيه نقص، ولو فتَّش لوجد النقص قطعًا؛ فلذلك يستغفر الله -سبحانه وتعالى-: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 199)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في دعائه: (كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي، وَهَزْلِي، وَخَطَئِي، وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (متفق عليه). فهذا دأب المؤمن، وأي كمال بشري بعد كمال الخليلين: محمد -صلى الله عليه وسلم- وإبراهيم -عليه السلام- وهما يدعوان الله بالقبول؟! فنحن أولى بأن نستغفر، وندعو الله أن يقبل أعمالنا الضعيفة التي لو حوسبنا عليها لاستحقت الرد، ولكن رجاؤنا في رحمته وفضله وعفوه، ورجاؤنا -سبحانه وتعالى- ألا يردنا خائبين، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يمن علينا بالقبول. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (168) دعوة غيَّرت وجه الأرض (15) كتبه/ ياسر برهامي قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41). الفائدة السادسة عشرة: قوله -تعالى-: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) فيه استغفار الإنسان لنفسه ولوالديه وللمؤمنين، وهذا قيامًا بحقِّ الوالدين، وهذا من أعظم البر، وقد علَّمنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أن ندعو لوالدينا وللمؤمنين؛ رغم أن أبا إبراهيم لم يكن مسلمًا، ولكن الظاهر أن إبراهيم دعا له قبل أن يموت على الكفر؛ للموعدة التي وعدها إياه، كما قال الله -عز وجل-: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم: 47)، وقال -سبحانه وتعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113، 114). وإبراهيم يتبرأ أيضًا من أبيه في القيامة، ويمسخ ضبعًا متلطخًا بعذرته فيلقى في النار؛ لأنه مات كافرًا -والعياذ بالله-، وأما أم إبراهيم فلم يرد لها ذكر في نصوص الكتاب والسنة؛ فلا ندري: هل كانت على ملة زوجها أو ماتت قبل ذلك، أو وافقت إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وإن لم تهاجر؟ فنحن لا ندري، والوقف واجب في ذلك، والله أعلى وأعلم؛ لأن ما لم يَرِد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع وجب فيه الوقف، والله أعلم. وأما الدعاء للمؤمنين فهو بوجود هذه الرابطة العظيمة؛ رابطة الحب في الله، والنصح للمؤمنين، والشفقة عليهم، والرأفة بهم، وثواب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات عظيم جدًّا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ كَتَبَ الله لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ حَسَنَةً) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وفهم السلف -رضوان الله عليهم- لهذه الأدعية العظيمة أنها تشمل الأحياء منهم والأموات، ومن سيأتون بعد ذلك، فعن عَاصِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا، أَوْ قَالَ: ثَرِيدًا، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (محمد: 19)" (رواه مسلم). مع أن الرجل لم يدرك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن نوى حين يستغفر للمؤمنين والمؤمنات مَن مضى منهم، ومَن هم أحياء اليوم، ومَن يأتي مِن ذريات الموجودين أو من غيرهم، كان بذلك شفيقًا رحيمًا ناصحًا لعباد الله المؤمنين، وهذا يحبه الله -سبحانه وتعالى-، وهو يؤتي الحنان من شاء كما قال -سبحانه- عن يحيى -عليه وعلى نبينا السلام-: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا . وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) (مريم: 12، 13)، فالشفقة على المؤمنين ثمرة الحب في الله التي هي أوثق عرى الإيمان، ورحمتهم والسعي في نجاتهم في الدنيا والآخرة مِن أعظم أسباب توثيق وزيادة هذه العروة من عرى الإيمان. وأما القسوة على المؤمنين فليست صفة أهل الإيمان، بل صفة هي صفة الكفرة وإن وجدت في بعض المسلمين، وإن لم يكفروا بذلك، لكنها صفة قبيحة؛ قد قال الله عن الكفار: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) (التوبة: 10)، فأما من يجعل همه الطعن في أهل الإيمان بأدنى ذلة أو حتى بمخالفة في مسألة اجتهادية، بل أحيانًا يكون المهاجم الجارح الغالي في التجريح، هو المخطئ بلا شك، بل هو المبتدع، ومع ذلك تجده يطعن ويضلل، ويفسق ويبدع، وأحيانًا يكفر بلا علم، كما تجد بعض هؤلاء في زماننا؛ همه في الحياة أن يضلل أبا حنيفة -رضي الله عنه- أو يكفِّره! ولا يعرف له فضله ومنزلته، وأن الناس تعلموا منه الفقه، ومن تلامذته؛ حتى الأئمة الكبار كالشافعي -رحمه الله-. ويجعل أحدهم همه تكفير النووي، وابن حجر العسقلاني، وأمثالهما، ممَّن أخطأ في مسألة كان يظن فيها أن لأهل السنة قولان؛ لانتشار القول المخالف للحق في زمنه على أنه قول مقبول، ولم يشفع عنده الحسنات العظيمة في نصرة الدين ونصرة السنة، وشرح أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الزهد والعبادة؛ لم يشفع ذلك عندهم حتى تغمر الحسنات هذه السيئة، والله -عز وجل- أعلم: هل كان مجتهدًا فيها مخطئًا أم لم يكن؟ ولكن على أي حال لا نثبت العصمة، ولكننا في نفس الوقت نرحم الخلق، ونعلم قدر مَن سبقت له حسنات عظيمة، ولا نجعله كمن ترأسوا في البدع وأظهروها، وعاشوا عمرهم من أجلها، فمن عاش من أجل نصرة الدين ثم وقعت منه مخالفة كان ذلك عندنا لا نقبل هذه المخالفة، ولكن ما سبق له من الخير كان ذلك غامرًا لهذه السيئة، وحسابه على الله. وفي دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بالمغفرة يوم يقوم الحساب، تأكيد على كمال الشفقة، وعلى الإيمان باليوم الآخر، ونسأل الله -عز وجل- أن يلحقنا بإبراهيم -عليه السلام-، وأن يجعلنا في الرفيق الأعلى. انتهت مقالات دعوة غيَّرت وجه الأرض. نسأل الله التمام والقبول. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (169) قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم بإسحاق من سورة الحجر (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 51-??). إن من وجوه إعجاز القرآن تكرر القصص في مواطن مختلفة، ومع وحدة الموضوع تجد أنواعًا من الفوائد الغالية، تختلف عن الفوائد التي في المواضع الأخرى، وبجمعها يكتمل المشهد الذي ينتفع به المؤمن، كل في موضعه ثم بشهود مجموع الآيات التي تتناول الموضوع الواحد، ومن هذا الأمر قصة أضياف إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من الملائكة الكرام الذين مروا عليه في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم، وبشارتهم له ولسارة -زوجته الحبيبة- التي وقفت معه من أول دعوته حين لم يسلم من قومها إلا هي وابن أخيه لوط -عليه الصلاة والسلام-، وصبرت الصبر العظيم، وضحَّت مع إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في سفره وإقامته. فكانت المكافأة لها بعد العمر الطويل، واستبعاد الأسباب بوجود الولد منها؛ بسبب كبر سنها وعقمها، وهذا الولد المبارك الذي يكون من نسله أكثر الأنبياء. تأتي البشارة لإبراهيم بما يسره أعظم السرور؛ لأن الولد نعمة، ولكنه نعمة أعظم إذا كان من الزوجة التي يحبها؛ التي وفَّت وضحَّت، وأحسنت عشرته، وتأتي رحمة من الله لهما على كبرهما، ونعمة يظل بها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- شاكرًا داعيًا، شاهدًا لفضل الله ورحمته، بعيدًا عن سبيل الضالين الذين لا يفهمون سنة الله في خلقه، وحكمته في إكرامه لأنبيائه وأوليائه بعد طول البلاء، فله الحمد كما يقول، وخيرًا مما يقول عباده، لا نحصي ولا يحصي أحدٌ ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه. قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآيات: "يقول -تعالى-: وخبرهم يا محمد عن قصة ضيف إبراهيم، والضيف يطلق على الواحد والجمع: كالزور والسفر، وكيف دخلوا عليه (فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)، أي: خائفون. وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قرَّبه لهم الضيافة، وهو: العجل السمين الحنيذ. (قَالُوا لَا تَوْجَلْ) أي: لا تخف، وبشروه بغلامٍ عليمٍ أي: إسحاق -عليه السلام، كما تقدَّم في سورة هود-. ثم قال متعجبًا من كبره وكبر زوجته ومتحققًا للوعد: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون) فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقًا وبشارةً بعد بشارةٍ: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ)، وقرأ بعضهم: "القنطين"، فأجابهم بأنه ليس بقنط، ولكن يرجو من الله الولد، وإن كان قد كبر وأسنت امرأته، فإنه يعلم مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ. (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) يقول تعالى إخبارًا عن إبراهيم -عليه السلام- لما ذهب عنه الرَّوْعُ وجاءته البشرى، إنه شرع يسألهم عما جاؤوا له، فقالوا له: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)، يعنون قوم لوط، وأخبروه أنهم سَيُنَجُّونَ آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من المهلكين؛ ولهذا قالوا: (إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) أي: الباقين المهلكين" (تفسير ابن كثير). في الآيات فوائد: الفائدة الأولى: بعد أن أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الآيات السابقة، أن ينبئ العباد أن الله هو الغفور الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم، وعطف عليه بأمره أن ينبئهم عن ضيف إبراهيم، وقصة ضيف إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أولها رحمة الله بإبراهيم، وبشارته له بالغلام العليم، وخاتمتها بذكر عذاب الله لقوم لوط عذابًا أليمًا؛ فهذا التناسب الجميل كأنه بيان في واقع الحياة لمغفرة الله ورحمته بعباده الصالحين، وشدة عقابه للكفار والعصاة المجرمين؛ فليعتبر أولو الألباب بذلك، وليشهدوا آثار أسماء الله وصفاته في الكون، وذلك من أعظم ما يزيد إيمانهم، ويحققه لهم كلما شاهدوا آثار الأسماء والصفات بالكون، بل هذا هو الفرق بين أهل الإيمان والذِّكْر وبين أهل الغفلة والبُعد، فإن المؤمنين يشاهدون في كل حدث يقع أمامهم من آثار أسماء الله وصفاته ما يزدادون به يقينًا وإيمانًا وعلمًا في كمال الله -عز وجل- في أسمائه وصفاته وأفعاله. الفائدة الثانية: في هذه الآيات التصريح بأن إبراهيم قال لأضيافه: (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)، وفي المواضع الأخرى ذكر أنه أوجس منهم خيفة دون أن يقول لهم: (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ)، وفي بعضها قال: (سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (الذاريات: 25)، وأما في هذا الموضع؛ فهو الموضع الذي ذكر فيه إبراهيم له وجلهم، وهذا دليل لوقوع الخوف الجبلي الطبيعي من الأنبياء، والأولياء من باب أولى، وجواز التصريح بوجود هذا الخوف والوجل. والوجل: خوفٌ فيه اضطراب القلب لما يتوقع أو يُعلَم ضرره، وقد نَهَى الملائكة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عن استمرار هذا الخوف، بعد أن أعلموه أن الضرر لا يُتوقع به، بل هم قد أتوا لبشارته بالغلام العليم إسحاق -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-. الفائدة الثالثة: في الآية فضيلة عظيمة لإسحاق -عليه السلام- لوصفه بالعلم، وفيه فضيلة العلم بالله وأسمائه وصفاته، وآياته، وأمره ونهيه؛ إذ ما يُمدح به الأنبياء يكون فضله عظيمًا لكلِّ مَن اتصف به، ولو لم يكن من الأنبياء. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (170) قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم بإسحاق من سورة الحجر (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 51-??). الفائدة الرابعة: في قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون) دليل على جواز التحقق من قول الصادق بتأكيد السؤال عليه، فقد كرَّر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- السؤال: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) تعجبًا، ثم سأل مكررًا: (فَبِمَ تُبَشِّرُون). ومن هذا الباب: قول الله -عز وجل- عن زكريا -عليه الصلاة والسلام-: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران: 40). وفي مثل هذا التثبت والتحقق نوع من الشعور بالامتنان لله -عز وجل-، واستحضار أن الأمر عظيم، وأن النعمة جسيمة، فيجد الإنسان لذة العطاء من الكريم المنان، فهو يريد تكرار البشارة واستمرارها؛ لما يجد فيها من الفرح والسرور والروح، بإجابة الدعاء وحصول الاجتباء والفضل والعطاء، وهذا من أعظم أسباب سعادة المؤمن. الفائدة الخامسة: في قول الملائكة -عليهم السلام-: (بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ) فيه تقرير البشارة وتكريرها، ووصفها بأنها الحق؛ فهي متحققة الوقوع؛ لأنها من عند الله، وعلى لسان ملائكته الكرام -عليهم الصلاة والسلام-، وفي الآية النهي عن القنوت من إجابة الدعاء ولو تأخرت الإجابة؛ فلا يصح للعبد أن يقول: دعوتُ فلم يستجب لي! فقد تتأخر الإجابة إلى زمن يطول عليك في الدنيا، وقد تتأخر إلى يوم القيامة، وقد يكون قد صُرِف عن العبد من السوء مثلها. فلا يقنط المؤمن أبدًا من إجابة دعائه، ولم يكن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- قانطًا من رحمة الله أبدًا، ولكن ربما ظن أن دعوته بهبة الصالحين التي دعاها حين فارق قومه وهاجر من بين أظهرهم، كما قال -تعالى-: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 99، 100)، قد تحققت وأجيبت بولادة إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-، ولكن كانت هناك إجابة أكمل ونعمة أتم ورحمة أعظم، بولدٍ آخر من امرأته السابقة إلى الخيرات سارة، فـلله الحمد والمنة، والقنوط من رحمة الله في أصلها وكمالها من الضلال؛ لا يجوز لمؤمن أن يقنط من رحمة ربِّه في أصلها، ولا يجوز أن يقنط من الكمال أيضًا، بل لو وصل الأمر إلى زوال الرجاء بالكلية فلم يبقَ في القلب منه ذرة، زال الإيمان بالكلية؛ لأن الرجاء من أركان الإيمان القلبية، واليأس يناقضه، والإيمان ينقص بنقصانه، ويكمل بكماله الواجب والمستحب؛ ولذا قال إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ)؛ قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (الزمر: 53، 54). وفي الحديث عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْكَبَائِرُ: الشِّرْكُ بِالله، وَالإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ الله، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (رواه البزار، وحسنه الألباني)، وروى الطبراني وغيره عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله". والظاهر في الفرق بين اليأس والقنوط: أن اليأس من روح الله وهو ترويحه، وإزالة الكرب والبلاء، يكون عند حلول الشدائد والمصائب، والقنوط من رحمة الله أعم منه؛ لكونه يكون عند حلول الشدائد والمصائب، وقد يقع استبعاد حصول الخير ولو لم يوجد بلاءٌ. وكان المناسب في قصة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- هنا أن ينهوه عن القنوط؛ لأنه لم يكن في بلاء، ونفى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وجوده، ووصف مَن فعله بأنه ضالٌ؛ إذ لم يكن هو في شر، بل في نِعَم عظيمة، ولكن لم يكن يتوقع حصول مزيدِ الخير بوجود ولدٍ آخر بعد إسماعيل -صلى الله عليه وسلم- مع وصفه بالعلم، ويكون من سارة، وقد قال الطحاوي -رحمه الله- في عقيدته: "والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام"، وهو صحيح إذ هو محمول على زوال الخوف بالكلية من القلب، وزوال الرجاء بالكلية، وكلاهما من أركان الإيمان، فإذا زال الخوف بالكلية حصل الأمن من مكر الله، وإذا زال الرجاء بالكلية حصل القنوط من رحمة الله، وقد قال الله -تعالى- في بيان ركنية الخوف في الإيمان: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175)، وقال -تعالى- في ركنية الرجاء: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 218). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (171) قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم بإسحاق من سورة الحجر (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 51-??). الفائدة السادسة: قوله -تعالى-: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ)، الترتيب في سورة الحِجْر بين البشارة بالولد أولًا ثم الإخبار بالإرسال إلى قوم لوط لإهلاكهم، وفي سورة هود ذكر الإشارة بإهلاك لوط أولًا، ولما ضحكت سارة بعد أن عرفت حقيقة الرسل، واطمأنت وأَمِنَت من أن يكون منهم شر بُشِّرت بالولد: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود: 71). والجمع بين الآيات ممكن واضح؛ إذ إن الترتيب في سورة الحجر ترتيبُ ذِكرٍ، وليس بترتيب زمن، والآيات فيها الجمع بالواو في بعض الأحداث، وفي بعضها ذكر الخبر دون أداة ترتيب، أما في سورة هود ففيها أداة الترتيب الفاء، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود: 70، 71). وكذلك ما وقع من الملائكة ولوط، ففي سورة هود بيَّن -عز وجل- أن لوطًا لم يعرف الرسل إلا في آخر الأمر بعد قدوم قومه مريدين للفاحشة من ضيوفه حتى قال لهم: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ . قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) (هود: 80، 81). وأما في سورة الحجر، فذكر أنهم قالوا له: (بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) (الحجر: 63)، مع ذكر مجيئهم له أولًا، وهي في الحقيقة في آخر القصة بعد مجيء قومه كما ذكرت في سورة هود، والجمع كما ذكرنا أن الترتيب في سورة الحجر هو في ذكر مجموع الأحداث لا بترتيبها الزمني. والله أعلم. مثل قوله في سورة الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 153، 154). فقد قال أهل العلم: إنه عطف جملة على جملة من باب ذِكْر الأحداث مجتمعة، وليس بترتيبها الزمني، نحو قول الشاعر: قُل لِمَن سادَ ثُمَّ سادَ أَبوهُ قَبلَهُ ثُمَّ قَبلَ ذَلِكَ جَدُّه الفائدة السابعة: في هذه الآية إثبات الإرسال الكوني، وهو بخلاف الإرسال الشرعي الذي أرسل الله به الرسل بالرسالة الشرعية، وأرسل الرسول الملكي إلى الرسول البشري وأرسل الرسول البشري بأوامر الله -عز وجل- ونواهيه إلى الناس الذين أرسل إليهم، وبما يجب من أخبارٍ يلزم تصديقها، وهذا الشرع الذي شرعه لهم؛ أما الإرسال الكوني فهو هنا للإهلاك، ومِن هذا الإرسال الكوني: قوله -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (الأعراف: 57)، وقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (مريم: 83)، أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا. وهذا الإرسال الكوني لا يتضمن أمرًا شرعيًّا إلى المكلفين، وإن كانت الملائكة في قصة إبراهيم يمتثلون أمر الله بإهلاك قوم لوط، لكنهم لم يحملوا رسالة إليهم؛ إلا ما كان من أمر لوط وأهله بأن يسري بأهله بقطع من الليل، قال الله -تعالى- عنهم: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (الحجر: 65)، لكن خبرهم لإبراهيم بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وقول إبراهيم لهم: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) المقصود به الإرسال لإهلاكهم؛ فهو الإرسال الكوني بلا شك. الفائدة الثامنة: قول الملائكة: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) دليل على أن الشذوذ الجنسي فعل قوم لوط، وكذا السحاق جريمة مستوجب للعقوبة الإلهية العظيمة في الدنيا، وكذلك في الآخرة، وليس كما يقول زنادقة الغرب ومَن وافقهم الذين لا يلتزمون بشريعة -لا يهودية ولا نصرانية ولا إسلام-: إنها حرية شخصية! وأن هذه الممارسات من حقوق الإنسان؛ سواء كانت لواطًا أو سحاقًا، أو غير ذلك من الأنواع العديدة التي يسمونها: النوع المجتمعي، وكذا الرغبة في التحول من الجنس إلى الجنس الآخر دون مقتضى طبي؛ هذا القول تكذيب للقرآن والتوراة والإنجيل، وإباء واستكبار عن شريعة الله. وكل مَن نفى الجريمة عن فاعل الشذوذ فهو كافر، وإن كان مسلمًا قبل ذلك فهو مرتد، وإن كان كتابيًّا زال عنه وصف الكتابي، وصار وثنيًّا لا تحل ذبيحته، ولا يجوز الزواج من نسائهم، ولو وُجِدت امرأة في أوروبا أو أمريكا أو غيرها، ترى جواز فعل اللواط أو السحاق، وأنه حرية شخصية؛ فهي وثنية لا يجوز الزواج منها؛ لأنها فقدت وصف الكتابية بالإباء والرد للشريعة المتواترة في كلِّ شرائع الأنبياء، بوصف فعل قوم لوط بالإجرام، واستحقاقهم للهلاك. والمحاولات المستميتة لنشر حرية الشذوذ في العالم، وتصحيح زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، بعد تصحيح المعاشرة؛ هذا كفر زائد لأنهم يسمونه: زواجًا، وتسميته زواجًا استحلال، وهو في الحقيقة إباء ورد. وكذلك تجويز تكوين أسرة بين رجلين، أو امرأتين؛ أحد الرجلين يقوم بدور الزوج ثم الأب بعد ذلك، والآخر يقوم بدور المرأة الموطوءة ويقوم بدور الأم بعد ذلك، وهذا ينشرونه في العالم ويحاولون بكل طريق قبول العالم له، كما نصوا على ذلك في اتفاقية "سيداو" وما لحقها من اتفاقيات، ويسمون هذا: بالنوع المجتمعي، ويسعون لنشره في العالم ضمن ما سموه بأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة حتى عام 2030؛ فهذا كله الكفر والردة عن الإسلام، والنفاق الأكبر إن كان صاحبه يتسمى بالإسلام، كما في إعلان ما سُمِّي بوثيقة الإسلام في فرنسا الذين تعهدوا بقبول الشذوذ وعدم احتقار أصحابه أو ذمهم؛ فكل ذلك يخالف كل شرائع الأنبياء؛ لا يجوز قبوله، ولا المعاونة عليه بحالٍ من الأحوال؛ وإلا فقد خرج المقرُّ والمعاوِن والراضي، عن دين الإسلام بتكذيب القرآن. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (172) قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم بإسحاق من سورة الحجر (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 51-??). الفائدة التاسعة: قوله -تعالى-: (إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) دليل على إنجاء الله -سبحانه- لعبادة المؤمنين الذين قاموا بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العذاب العام الذي ينزل بالقوم الكافرين، وكذا الفاسقين المخالفين للرسل، كما قال -تعالى- في قصة أصحاب السبت: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (الأعراف: 163-166). فبيَّن مصير الفاسقين، وبيَّن مصير الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وسَكَت عن الساكتين؛ ولذا اختلف فيهم: هل نجوا أم هلكوا؟ وقال الله -عز وجل-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود: 116)؛ فالدعوة إلى الله والإعذار إليه لإقامة الحجة سبب للنجاة، وليس سببًا للضرر -كما يتصور البعض!-. وقال -تعالى-: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ . إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ . نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ) (القمرة: 33-35). فهذه الآية عامة وقاعدة كلية في نجاة الشاكرين؛ الذين يشكرون نعمة الله -سبحانه وتعالى- بالدِّين والطاعة، والإسلام والالتزام؛ فذلك كله من أعظم النعم التي يجب شكرها بالالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينجي الله -عز وجل- مَن شكر هذه النعم مِن العقوبة التي ينزلها بالقوم المجرمين؛ فلا بد أن يحافظ الدعاة إلى الله على هذا الدور؛ شكرًا لنعمة الله عليهم، ومَن ترك الدعوة لم يكن شاكرًا لنعمة الله بالدين، وإنما تنزل الفتن التي تعم ولا تصيب الذين ظلموا خاصة إذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ . وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 24، 25). الفائدة العاشرة: في قوله -تعالى-: (إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) أي: الباقين، دليل على مصير امرأة لوط؛ أنها بقت مع الباقين من قومها الذين نزل بهم العذاب، ولم تخرج أصلًا من القرية، وليس كما ذكر بعض المفسرين أنها خرجت مع لوط وبناته فلما سمعت الوجبة -أي: صوت وقوع العذاب بقومها- التفتت إلى قومها، فقالت: واقوماه! فأصابها حجر فقتلها، بل الصحيح أنها لم تخرج أصلًا؛ لقوله -تعالى-: (فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ) (الذاريات: 35، 36)، فلم يُخرِج -سبحانه- إلا المؤمنين، وهي لم تكن مؤمنة، بل كافرة خائنة لزوجها؛ خيانة عقيدة بموالاة قومها، ورضاها بما هم عليه، كما قال -تعالى-: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (التحريم: 10). فهي إذًا لم تخرج، والاستثناء في قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) (هود: 81)، هو من الإسراء بأهله، فلم تخرج ضمنهم، وليس من الالتفات، وظاهر القرآن أنها أصابها كل ما أصابهم مِن جعل عالي القرية سافلها، والمطر من سجيل منضود، والصيحة كما قال -تعالى-: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) (الحجر: 73). وخروجها مع لوط يجعلها خارج هذه الأمور إلا الحجارة، ومصير امرأة لوط مما يُتعجب منه ومن حالها؛ فإنها والت قومها، وهي لم تنتفع بشيء من فاحشتهم وانحرافهم؛ فهي امرأة ضمن النساء المتروكات، قال الله -عز وجل- عن لوط -عليه السلام-: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ . وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) (الشعراء: 165، 166). وهي عجوز لا تشتهي ولا تُشتَهى، وكانت قبل ذلك على الطبيعة والفطرة الإنسانية إذ قد أنجبت بنات لوط من لوط، ثم انحرفت بالتقليد الأعمى والطاعة الجاهلية لقومها، والاتباع على الباطل لهم، وهذا هو الركون إلى الظالمين بالرضا والمتابعة، وإن لم يكن بالفعل، فمَن رضيَ بالكفر كَفَر، ومَن رضي بالفواحش والشذوذ أخذ عقوبتها عند الله وإن لم يفعلها، ومن أحب قومًا حُشِر معهم، والمرء مع من أحب يوم القيامة. فالواجب على المسلم أن يبغض الكفار والفسقة على كفرهم وفسقهم، كما قال لوط -عليه السلام-: (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ) (الشعراء: 168)، أي: من المبغضين؛ حذرًا من أن يصيبهم ما أصابهم، فالموالاة مستوجبة لنفس المصير، فمَن والى اللهَ ورسوله والمؤمنين كان معهم، ومن والى أعداء الدِّين كان معهم. ونسأل الله أن ينجينا والمسلمين من كلِّ سوء. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (172) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). إن الإمامة في الدين قضية عظيمة الأهمية في حياة البشر؛ لأن الاقتداء والاتباع لدى البشر بالقدوة التي تكون منهم، أعظم أسباب هدايتهم؛ فإن التطبيق العملي لحقائق الإيمان والإسلام والإحسان أعظم أثرًا من مجرد التقرير النظري للقضايا؛ ولذا أرسل الله الرسل من البشر: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (يوسف: 109)، وجعلهم الله الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21). وقال الله -عز وجل-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: 4)، وقال -عز وجل- بعد ذكر الأنبياء: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90). وأصحاب الأنبياء ينتفعون بصحبتهم، ويقتدون بهم، ويصبحون أئمة في الخير والهدى، ويصبحون بعد ذلك هم القدوة لمن بعدهم، وهكذا حتى يتم توريث الدِّين الحق للأجيال المتتابعة، والالتزام به، ولقد جعل الله عز وجل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- إمامًا للناس عبر الزمان والمكان، ثم كان إمام البشرية كلها محمد -صلى الله عليه وسلم- من ذرية إبراهيم، وقد جعله الله -عز وجل- رسولًا إلى الناس كافة؛ إلى الأحمر والأبيض والأسود، إلى العرب والعجم، إلى الإنس والجن، وأوجب على جميع المكلفين اتباعه، فقال: (فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ...) ومنها: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً) (متفق عليه). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم). وأورث الله النبي -صلى الله عليه وسلم- اتباع ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، والتخلق بأخلاقه، والاتصاف بصفاته التي بها صار إمامًا؛ مِن: الحنيفية والقنوت لله -عز وجل-، والبراءة من الشرك والمشركين، وشكر نعم الله الدينية والدنيوية، والهداية إلى الصراط المستقيم، وأعظم الله عليه فضله، وكان فضل الله عليه عظيمًا، وأتم عليه نعمته، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وصار أعظم قدوة للبشرية على الإطلاق باتباعه ملة أبيه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، واتخذه الله خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (رواه مسلم)، بل يقول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة في موقف الشفاعة: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم)، وإذا كان الأمر كذلك؛ لزمنا أن نعرف ما ذكر الله في كتابه من الصفات التي وُفِّق لها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حتى صار إمامًا للبشرية؛ لنقتدي به فيها، ونتأسى به الأسوة العظيمة الحسنة؛ عسى أن يجعلنا الله مع أنبيائه ورسله؛ خاصة محمد وإبراهيم -صلى الله عليهما وسلم-، وهذه الآية من سورة النحل تتناول هذه المسألة العظيمة فلنتدارسها، ولندرس تفسيرها وفوائدها؛ قال الله -عز وجل-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "يمدح الله عبده ورسوله وخليله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء، ويبرئُه من المشركين، ومن اليهودية والنصرانية، فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا)؛ فأما الأمة فهو: الإمام الذي يُقتدَى به. والقانت: هو الخاشع المطيع. والحنيف: المنحرف قصدًا عن الشرك إلى التوحيد؛ ولهذا قال: (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ قال سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت؛ فقال: الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله. وعن مالك قال: قال ابن عمر: الأمة الذي يعلم الناس دينهم. وقال الأعمش، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال: مَن نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له، فقال: أخبرني عن الأمة؟ فقال: الذي يعلم الناس الخير. وقال الشعبي: حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا، فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن، وقال: إنما قال الله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأمة الذي يعلم الخير. والقانت: المطيع لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك كان معاذ. وقد روي من غير وجه، عن ابن مسعود أخرجه ابن جرير. وقال مجاهد: أمة أي: أمة وحده، والقانت: المطيع. وقال مجاهد أيضًا: كان إبراهيم أمة، أي: مؤمنًا وحده، والناس كلهم إذ ذاك كفار. وقال قتادة: كان إمام هدى، والقانت: المطيع لله. وقوله: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) أي: قائمًا بشكر نعم الله عليه، كما قال: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم: 37)؛ أي: قام بجميع ما أمره الله -تعالى- به. وقوله: (اجْتَبَاهُ) أي: اختاره واصطفاه، كقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) (الأنبياء: 51)، ثم قال: (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي. وقوله: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) أي: جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، وقال مجاهد في قوله: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) أي: لسان صدق. وقوله: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي: ومن كماله وعظمته، وصحة توحيده، وطريقه: أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل، وسيد الأنبياء -صلى الله عليه وسلم-: أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كقوله في "الأنعام": (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161)" (انتهى من تفسير ابن كثير). وتليه فوائد الآيات -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (173) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). في الآية فوائد: الفائدة الأولى: إثبات إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية، كما دَلَّ عليه قوله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124). والإمامة في الدِّين فضل عظيم من الله، ومِنَّة مِنْه على مَن وَفَّي في عبادة ربِّه بما وجب عليه؛ ولذا فهي صفة يشترك فيها المؤمنون مع الأنبياء، وإن كان وصف الأنبياء فيها أعلى، لكن أصل الإمامة مما يصح اتصاف المؤمنين به، كما قال الله -عز وجل-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24). ومما يدعو به عباد الرحمن كما قال -تعالى- في بيان صفتهم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74). ولا يلزم من إمامة الدين تولي الحكم والسلطة، بل هي إمامة في الطاعة والعبادة، تحصل للعبد ولو لم يكن حاكمًا، وإنما يُقتدَى به في الخير؛ فإن جمع بين الأمرين -يعني الإمامة في الطاعة وحسن العبادة مع الولاية والسلطة- فهو كمال آخر، وإنما حصل للخلفاء الراشدين، ومَن سار على طريقتهم من الخلفاء العلماء العادلين، ولا يحصل ذلك لمن تولى وكان ظالمًا؛ لقول الله -سبحانه وتعالى-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، وكذا من كان جاهلًا. ولا تنال هذه الإمامة إلا بهذين الوصفين: العلم والعدل، وقد أخطأ مَن وصف مِن ليس بعالم ولا بعادل بأوصاف الخلفاء الراشدين، وأعطاهم حقوقهم في وجوب الطاعة في المباحات والمستحبات والمكروهات؛ فعلًا وتركًا، وإنما تجب طاعة الخلفاء الراشدين، العلماء العادلين، في الإلزام بالمباحات وتقييدها والمنع منها، وكذا في ترك المستحب وفعل المكروه، وكذا الموازنة بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد؛ لعلمهم وعدلهم؛ فهم لا يأمرون بمباح، ولا يمنعون منه لمجرد رغباتهم، بل يعلمون أن ذلك لا يجوز لهم، وإنما قد يأمرون بمباح ويُلزِمون به، أو ينهون عنه ويمنعون منه إذا كان يترتَّب على الترك والفعل ترك واجب أو ارتكاب محظور محرَّم، ولا طريقة لمنع الواجبات وفعل المحرمات إلا بتقييد المباح أو الإلزام به. وقد توسَّع أكثر المعاصرين ممن ينتسِبون إلى العلم، وما بلغوا معشار ما بلغ أئمة السلف في العلم؛ توسعوا في الإفتاء بحقِّ الحكام في تقييد المباح والإلزام به، والعقوبة على فعله وتركه؛ لمجرد أنهم تولوا الأمور، ويقولون: أَمَر وُلَاة الأمور بكذا... ونهوا عن كذا... دون النظر إلى أصل المسألة شرعًا: هل هي من المباحات، أم المستحبات أو المكروهات، أو الواجبات أو المحرمات، ولم ينتبهوا أن ذلك فيه تحريم للحلال أو إيجاب لما ليس بواجب، مع علمهم بعدم عِلْم هؤلاء، وعدم عدالتهم، ووقوعهم في أنواع من الظلم والعدوان التي نفى الله -عز وجل- من أجلها أن يَنَال الإمامة مَن كان مِن ذرية إبراهيم، فقال: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). وإذا كان لا تُقبَل شهادة الظالم في باقة بقل؛ فكيف فيما هو أعظم من ذلك بكثير من الولايات العامة؟! وإنما تقبل أوامرهم فيما عُلِم أنه طاعة من الواجبات وترك المحرمات، وبسبب هذه الفتاوى غير المنضبطة في حقِّ الحاكم في تقييد المباح والإلزام به؛ حدث عبر الزمان تبديل للشريعة؛ خصوصًا مع جرأة مَن يُنسَب إلى العلم بالإفتاء بفسق المُخَالِف ولو كان مؤديًا لطاعة، وبإثمه ولو كان يفعل مباحًا، وإنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) (متفق عليه)، فحصر الطاعة في المعروف، وإنما دخل في المعروف في حقِّ العلماء العالمين العادلين أمرهم بمباح يترتب على تركه ترك واجب، أو فعل محرم، أو نهيهم عن مباح يترتب على فعله ترك واجب أو فعل محرم؛ فليست الطاعة لهؤلاء إلا في المعروف كنصِّ الحديث. والأئمة العلماء العادلون دخل في المعروف أمرهم بمباح أو نهيهم عنه؛ لعلمهم وعدلهم، وأما غيرهم؛ فلو أمر الحاكم رجلًا بصلاة النافلة لم تصبح واجبة، ولو نهاه عنها لم تكن محرمه، ولو أن حاكمًا نهى رجلًا عن الزواج من امرأة معينة، أو قبل سنٍّ معين -له أو للمرأة-؛ لم يجب عليه الالتزام بذلك. ولو أنه أمره بطلاق امرأة لا يلزمه طلاقها لم يجب عليه التطليق، وكذلك لم يحرم عليه الزواج شرعًا قبل السن التي ذكرها مَن يقولون بحقِّ تقييد المباح! وقد أصبح هذا الأمر وسيلة لتبديل الشريعة وتغيير أحكامها، وما أعظم ما دل عليه قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لبريرة -عندما شفع في عودتها لمغيث لشدة حبه لها- لما سألته: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْمُرُنِي بِذَلِكَ، قَالَ: (لَا، إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ) قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. (رواه البخاري). فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لا يملك وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يلزمها بما ليس بلازم؛ فكيف تجعلون هذه الدرجة من الإمامة لمن عُلِم فسقه، بل تتوسعون فيها لمَن علم نفاقه أو ارتكب بعض أنواع الكفر؟! ومَن ينتسب للعلم في بلده، يعطونه مرتبة الإمامة التي هي للخلفاء الراشدين، بل للأنبياء، بل تجاوزوا ذلك حتى قال أحدهم: "الحاكم إذا أباح الخمر فهي مباحة!"، وهذا لا شك كفر وخروج من الدِّين لاستحلال المعلوم من الدين بالضرورة تحريمه، وبعضهم غلا حتى اشترط في صحة العبادة إذن الحاكم! فصار أشبه بطريقة فرعون الذي قال: (آمنتم له قبل أن آذن لكم)، وأما أمر الدعوة إلى الله وتوحيده فقد اتخذ أمر التنظيم والترتيب، وطاعة ولاة لأمور؛ ذريعة لمنع دعوة التوحيد، واتباع منهج السلف، وأهل السنة والجماعة، ومنع الدعاة إلى الله من قول الحق والإفتاء به؛ خلافًا لما يقوله مَن يداهن في الدين، ويجامل بالباطل، ولو كان من يقول بوحدة الوجود، وعدم الفرق بين الرب والعبد، فالكل شيء واحد! وإلى الله المشتكى. حول اغتيال إسماعيل هنية: اللهم اغفر لعبدك إسماعيل هنية، وارحمه وعافه، واعفُ عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالثلج والماء والبَرَد، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم ابدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه. اللهم قه فتنة القبر وعذاب القبر وعذاب النار، اللهم اقبله في الشهداء، اللهم افسح له في قبره ونوِّر له فيه، واملأه عليه خضرًا إلى يوم يبعثون، اللهم دمر على اليهود ومن والاهم، ومَن أعانوا على قتله أو سمحوا به أو تآمروا عليه. ونسأل الله -عز وجل- أن يجعل للمسلمين في فلسطين فرجًا ومخرجًا، وأن ينجي المسلمين في غزة وفي السودان، وفي كل مكان. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (174) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (3) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الثانية: قال القرطبي -رحمة الله- في تفسير قوله -تعالى-: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)، في المسألة الحادية والعشرين: "استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل، مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا ينازعوا الأمر أهله، على ما تقدم من القول فيه؛ فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل؛ لقوله -تعالى-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (قلتُ: المقصود بذلك: أن لا يولوا ابتداءً، وأما إذا طرأ عليهم الفسق؛ فلا ينعزلون بمجرده حتى يعزلهم أهل الحل والعقد، مع مراعاة المصالح والمفاسد). قال: ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي -رضي الله عنهم-، وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة (قلتُ: ورغم اتفاق العلماء على الظلم الذي وقع على أهل المدينة في واقعة الحرة وإجماعهم على أن الحسين بن علي قتل مظلومًا، وعلى أن ابن الزبير قتل مظلومًا؛ إلا أنهم يخطئون مَن خرجوا على الحاكم الظالم لأجل المفاسد التي تقع، فكان هذا اجتهادًا خاطئًا، وانعقد الاتفاق بعد ذلك على عدم الخروج؛ إلا لو كانت مفسدة الخروج أقل من مفسدة الصبر). قال: والذي عليه الأكثر من العلماء: أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج؛ فاعلمه (قلتُ: الذي يظهر أن كلام السلف في المنع من الخروج، هو في حالة كثرة المفاسد على مفسدة الصبر، وهذا هو الأغلب الأعم، وهم لا يختلفون أنه إذا زادت المفسدة على المصلحة؛ فلا بد من ترك الذي فيه مفسدة). قال: الثانية والعشرون: قال ابن خويز منداد: وكل مَن كان ظالمًا لم يكن نبيًّا، ولا خليفة ولا حاكمًا، ولا مفتيًا، ولا إمام صلاة، ولا يُقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تُقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد. وما تقدَّم من أحكامه موافقًا للصواب ماضٍ غير منقوض. وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة؛ أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجهًا من الاجتهاد، ولم يخرقوا الإجماع أو يخالفوا النصوص؛ وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم، ولم يُنقَل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئًا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة، ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا؛ فدلَّ على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم (قلتُ: والمقصود بذلك: ما فعلوه في أهل طاعته؛ فإنهم في عصر الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكن لهم دولة مستقرة، وإنما كانوا ينفِّذون ذلك في أهل طاعتهم من الخوارج أمثالهم). قال: الثالثة والعشرون: قال ابن خويز منداد: وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة؛ فلذلك ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذًا على موجب الشريعة؛ فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطًا حلالًا وظلمًا، كما في أيدي الأمراء اليوم؛ فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كلصٍّ في يده مال مسروق، ومال جيد حلال، وقد وكَّله فيه رجل، فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة، وإن كان قد يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق إذا لم يكن شيء معروف بنهب، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحًا لازمًا -وإن كان الورع التنزه عنه-؛ وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها، وإنما تحرم لجهاتها. وإن كان ما في أيديهم ظلمًا صراحًا؛ فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم. (قلتُ: وهذا هو الحال الثالث فيما ذكر). ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبًا، غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب، فهو كما لو وُجِد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق، ويُجعَل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين" (انتهى من تفسير القرطبي، وذكرناه هنا لعظيم فائدته). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (175) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الثالثة: قوله -تعالى-: (قَانِتًا) أي: مطيعًا لله عابدًا؛ فدل على أن الإمامة في الدين لا تنال إلا بطاعة الله -عز وجل- وعبادته؛ فكثرة العبادة بمفهومها الواسع؛ لأنها اسم جامع لكلِّ ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، والعقائد والتروك الظاهرة والباطنة، وبمفهومها الخاص بكثرة الصلاة والقيام والصيام والزكاة والصدقة والحج والعمرة، والذكر والاستغفار، وتلاوة القرآن، وغيرها - سببٌ لنيل الإمامة في الدين. وأما من ترأس على قوم دون تحقيق الطاعة والعبادة؛ فإنها تكون إمامة دنيوية لا تغني عن صاحبها شيئًا، بل تكون مسئولية عظيمة بين يدي الله غدًا يوم القيامة، ومسألة شديدة عن كل واحدٍ من الرعية والأتباع، وكذا في الإمامة الحاصلة بالدعوة وتعليم الناس؛ فلا بد أن تكون مصحوبة بالعبادة؛ وإلا كانت إمامة شكلية وبالًا على صاحبها ليست حقيقية؛ لأن كثرة الأمراض القلبية التي تتعلق بالشهرة والجاه، وحب الرياسة، والرياء والسمعة، مرتبطة بالدعوة والتعليم ارتباطًا خطيرًا؛ إن لم تهذب وينقى القلب منها؛ صارت أعظم الضرر على صاحبها، وهو يظن نفسه من أعلى الناس مقامه، بل تمتنع الإمامة الدينية الحقيقية؛ بسبب هذه الأمراض وقلة العبادة. الفائدة الرابعة: قوله -تعالى-: (حَنِيفًا) وهو: المائل إلى الله المعرض عن غيره، فالحنيفية ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ قال الله -عز وجل-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم: 30-32). وهي متضمنة لحب الله -عز وجل- والشوق إليه، والخضوع له، وهذا يستلزم كل عبادات القلب من الخوف والرجاء، والتوكل، والإنابة، والتوبة، والذكر، وإرادة وجهه والإخلاص له، والصبر على طاعته وعن معصيته، وعلى أقدار الله المؤلمة، والحب فيه لأنبيائه وأوليائه، والبغض فيه لأعدائه من الكفار والمنافقين، والشكر لنعمه، والرضا به ربًّا وإلهًا، والرضا بدينه دون ما سواه من الأديان، والرضا بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-. كل هذه العبادات متفرعة من الحب والخضوع، ومتلازمة معهما؛ يزول الإيمان بزوال شيء منها بالكلية، وينقص بنقصها، وأما الإعراض عمن سواه -سبحانه-؛ فهو يقتضي البراءة من الشرك وأهله، مع تركه وإبائه من نفس العبد، ومن غيره من المخلوقين؛ فلا يكون حنيفًا من أقر بصحة الشرك ولو من غيره، أو بتصحيح ملة غير ملة الإسلام، ولا يكون موحدًا من صحح عبادة غير الله، أو صحح ملة من كذب رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل من كذب أي نبي من الأنبياء. ولذا كانت الدعاوى المعاصرة لمساواة الأديان، أو حتى لمساواة اليهودية والنصرانية والإسلام، دعوات كفرية شركية تنافي الحنيفية الدين الإبراهيمي الحق؛ لا المزور الكاذب، ولا يوجد شيء اسمه العائلة الإبراهيمية يضم الأديان الثلاثة، ولا يجوز أن تُبنى معابد تجمع أصحاب الأديان الثلاثة فيها، ويزعمون أنه بيت العائلة الإبراهيمية! فنحن أبرياء من كل مَن كذَّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذب القرآن، ولا تصح عبادتهم لله -عز وجل- مع كفرهم بالقرآن العظيم، ولا يجوز لنا أن نصفها بأنها دور عبادة لله -سبحانه وتعالى-، بل هي أماكن الشرك والكفر والتكذيب لرسل الله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فلا بد لكل مسلم أن يعي هذه الحقيقة، وأن يتبرأ تبرأ تامًّا من هذه الفكرة الخبيثة -ما يسمونه بالدين الإبراهيمي والمسار الإبراهيمي والعائلة الإبراهيمية-؛ فإنها كلها خارجة عن دين الاسلام ومناقضة للحنيفية التي بُعِث بها النبي -عليه الصلاة والسلام- اتباعا لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (176) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (5) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الخامسة: قوله -تعالى-: (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي: لم يكن منهم قط، وهذا فيه دليل على أن إبراهيم فيما ذكره الله عن الكوكب والقمر والشمس، كان مناظرًا لقومه ليقيم عليهم الحجة، ولم يكن ناظرًا باحثًا عن الله -كما قال بعضهم-؛ وإلا لم يصح هذا النفي العام: أنه لم يكن قط من المشركين، وأكَّدها الله بعدها بآيات في قوله -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ودل على ذلك أيضًا: قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) (الأنبياء: 51)؛ فهو من أول نشأته على الرشد؛ لا على الغي والضلال والشرك، وقد برأه الله من ذلك؛ فلو كان عابدًا للكوكب ثم للقمر ثم للشمس، لكان من المشركين والله قد أخبرنا أنه لم يكن منهم. ويؤكد هذا القول -وهو: أن إبراهيم كان مناظرًا ولم يكن ناظرًا- قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الشفاعة الطويل عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في تأخره عن مقام الشفاعة للخلق للإراحة من هول الموقف: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللهِ) (متفق عليه)، وفي رواية لمسلم: "وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ: (هَذَا رَبِّي)"؛ فدلَّ ذلك أنه كان يُعَرِّض أي: يقصد السؤال: أهذا ربي؟! ونحو ذلك من المعاني التي يحتملها التعريض، ولم يكن يعتقد ذلك، وذلك لإقامة الحجة عليهم؛ لأن هذه الكواكب كلها والنجوم لا تصلح للعبادة. الفائدة السادسة: في هذه الآية وجوب البراءة من أهل الملل المخالفة للتوحيد، وهم الآن كلُّ مَن لم يؤمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ويتبعه، ويتبع القرآن؛ ولو ادعوا التوحيد؛ كما قد يزعم البعض في الفراعنة أنهم كانوا أهل التوحيد، كما قالوا: إن إخناتون كان أول مَن وحَّد، وهو يعبد الشمس، ولو كان يعبدها وحدها فلا يكون موحِّدًا، بل هذا هو الشرك بعينه؛ لأن من عبد غير الله فقد أشرك، وإنما الموحد من أفرد الله سبحانه بالربوبية والألوهية والعبادة. وكذا يزعم البعض: أن اليهود والنصارى -المعاصرين والماضين- هم مؤمنون؛ لأنهم أهل كتاب! وهذا قول مخالف لصريح القرآن؛ قال الله -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 30-33). فهذه الآيات نصوص قطعية الثبوت والدلالة على أن اليهود والنصارى من الكافرين المشركين، وتدل على كراهتهم للإسلام ورغبتهم في محوه، وإهلاك أهله. وما يفعله اليهود اليوم في غزة من إبادة جماعية، وقتل النساء والأطفال والرجال العزل، وتدمير كل شيء، وتصريحهم بإرادتهم ونيتهم في هدم المسجد الأقصى، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه؛ كل هذا يدل كل عاقل على شدة عداوتهم وكفرهم بالإسلام، وهذا يهدم فكرة الدِّين الإبراهيمي الجديد مِن أصلها؛ فلو كانوا يعتقدون أن المسلمين مؤمنون مثلهم بدين واحد؛ فكيف يقتلونهم هذا القتل الفظيع؟! وكيف يتعاملون بهذه العصبية الإجرامية ضد الإسلام وأهله؟! وكيف يؤيدهم في ذلك -تأييدًا تامًّا- الغرب؛ سواء كانوا نصارى أو ملاحدة؟! فكما هَدَمت فكرةَ الدين الإبراهيمي الجديد نصوصُ القرآن والسُّنة القاطعة؛ فكذلك يهدمها واقع اليهود ومَن والاهم من النصارى والملاحدة والمشركين، وإنما يريدون بنشر فكرة الدين الإبراهيمي -المزعوم!- خداع المسلمين وحدهم، وصرفهم عن دينهم، ويأبى الله ذلك والمؤمنون، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء: 227). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (177) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (6) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة السادسة: دَلَّ قوله -تعالى-: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) على عظمة منزلة الشكر عند الله -عز وجل-، وتركها من الكفر الذي يريده إبليس لأكثر البشرية؛ كما قال -تعالى- عنه: (قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ . قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف: 15-17). وقد صَدَّق ظنه فيهم باتباعهم شبهاته المضلة وشهواتهم المغوية، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ: 20)، فدَلَّت هذه الآية الكريمة على أن منزلة الخلة وهي أعظم المنازل والمقامات عند الله، لا بد وأن تتضمن الشكر، ولقد اختص الله -عز وجل- بمنزلة الخلة محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ كما قال -تعالى-: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (النساء: 125)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهِ -تَعَالَى- قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (رواه مسلم)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو القائل، لما قيل له في تورم قدمية وتشققهما: أتفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: (أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) (متفق عليه)، وقال -سبحانه- عن نوح -أبي البشر الثاني بعد أبيهم آدم-: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (الإسراء: 3). أفبعد ذلك يأتي مَن يخترع في المنازل والمقامات وأعمال القلوب، ويجعل الشكر من منازل العوام؛ مع أنه يتضمن أعظم مراتبه، وهي شكر الله على نعمه الدينية، وهو أعظم من شكره على نعمه الدنيوية، وكلاهما واجبة الشكر. ويجعلون مقامات الخاصة وخاصة الخاصة، الفناء بعد البقاء، والمحو بعد الصحو، والجمع بعد الفرق، والدهش والسكر والهيمان؛ ولذا يرى من وصل إلى الفناء العالم كله شيئًا واحدًا، فلا يشعر بمنعِم ولا بمنعَم عليه ولا يرى شاكرًا ولا مشكورًا! بل بعض الزنادقة يرون أن الشاكر هو المعطي والمنعم، كما يرون أن المذكور هو الذاكر، وأن العابد هو المعبود، وأن العبد رب، والرب عبد، وأن المصلي يصلي لذاته، والوجود كله شيء واحد، وهذا المذهب الكفري -وحدة الوجود- كفر يناقض دعوة جميع الرسل والأنبياء، وما عليه الأولياء الصالحون بحق؛ فهؤلاء الزنادقة هم الذين يروِّجون لدعوة مساواة الأديان والدِّين الإبراهيمي الجديد؛ أخزاهم الله، وأحبط أعمالهم. وأما معنى الشكر؛ فالشكر هو: شهود القلب لنعم الله -تعالى-، ومعرفة أنها منه وحده ومحبته على ذلك، وتعظيمه بها؛ لأنه بدون ذلك لا يكون شاكرًا، والذي لا يحب الله على نعمه كما يحبه على أسمائه وصفاته؛ لا يكون شاكرًا لله. والشكر أيضًا هو: اعتراف اللسان بهذه النعم، والثناء بها على الله؛ لأنها منه، ثم انقياض الجوارح وخضوعها له -عز وجل-، وأن تصرف هذه النعمة في طاعة الله؛ إذ الإنسان لا يستطيع الحياة بدون نعم الله عليه، فكان الواجب عليه أن يصرفها في طاعته بدلًا من أن يصرِّفها في معصيته، وليتأمل العبد في حاله بدون نعم الله دون رِجْلٍ أو يدٍ، أو فَرْج، أو قلب، أو كُلية، أو أمعاء، أو مخ؛ هل يستطيع هذا الإنسان أن يستمتع بأي لذة؟! هل هناك لذة للطعام دون الجهاز الهضمي، وكذا الشراب دون التذوق، وهل يستمتع باللذة الجنسية دون فرج وسائر الدائرة العصبية والنفسية التي تستلزم الاستمتاع بها؟! فالإنسان بدون نعمة الله -عز وجل- لا يمكن أن يستمتع بشيء، ولا أن يجد لذة من اللذات؛ أفبعد أن يعطيك الله هذه النعم تستعملها في معصيته -نسأل الله العافية-؟! لولا الغفلة لما عصى الله عاصٍ، ولما كفر به كافر، ولكن الغفلة هي السبب؛ لأن العاصي غير مستحضر أن هذه النعم من عند الله؛ لذلك نقول: إن الشكر من أعمال القلب واللسان والجوارح، وأهل الإيمان يشكرون الله على هدايتهم للتوحيد والإيمان ونعمة الدِّين، ويشكرونه على المطعم والمشرب والملبس، وصحة البدن وقوته، وغيرها من نعم الدنيا. وأما عامة الناس؛ فمَن يشكر الله منهم فإنه يشكره على نعم الدنيا؛ أنه أطعمهم وسقاهم، وملكَّهم الأموال، ولو تأملتَ عامة البشر باستثناء المسلمين، وأهل الكتاب؛ لوجدتَ سائر الأمم التي تبلغ أكثر من نصف العالم؛ لا يعرفون الله -عز وجل-، ولا يقرون بوجود إله معبود؛ فضلًا عن أن يشكروه على دنيا أو على دين، ونسأل الله الثبات على الإسلام حتى يتوفانا عليه وهو راضٍ عنا. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (178) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (7) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة السابعة: قال الله -تعالى-: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ)، وحقيقة الشكر كما بينَّا: شهود نعمة الله -سبحانه وتعالى- أنها منه، وتعظيمه بها، ومحبته على ذلك، ثم الثناء على الله بها باللسان، واستعمالها في طاعة الله. وقال الله -تعالى- في عبادة الشكر: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (البقرة: 152)؛ فأمر الله -عز وجل- بذكره، وأمر -سبحانه وتعالى- بشكره، وهذا الشكر هو أن يستحضر الإنسان نعم الله بقلبه، فيشهدها نعمة من الله -عز وجل-، ويعظم ربه بها، ويثني عليه هذه النعمة في طاعة الله -عز وجل- بجوارحه، فيكون قد شكرها عملًا، كما قال -عز وجل-: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13). قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأصل الشكر في وضع اللسان: ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهورًا بينًا. يقال: شكرت الدابة تشكر شكرًا، على وزن سمنت تسمن سمنًا إذا ظهر عليها أثر العلف، ودابة شكور: إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تأكل وتُعطَى من العلف. وفي صحيح مسلم: "حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم، أي: لتسمن من كثرة ما تأكل منها. وكذلك حقيقته في العبودية، وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه: شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه: انقيادًا وطاعة" (مدارج السالكين). ومن أسماء الله الحسنى الشكور، يشكر القليل من العمل، والله شاكر عليم؛ بمعنى أنه يقبل منهم ذلك اليسير، ويكافئهم عليه أضعافًا مضاعفة؛ لأنه -سبحانه وتعالى- غفور شكور، فهو كثير الشكر، وليس الشكر هنا أنه يعظم ما أنعموا به عليه فليس هذا هو الاعتبار هنا، ولكن بمعنى أنه يقبل حمدهم وشكرهم، ويجازيهم عليه أضعافًا مضاعفة؛ فهو يقبل القليل من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، وهو يثيب الثواب الجزيل على العمل القليل، وهذه من شكره -سبحانه وتعالى-، كما في الحديث: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ) (متفق عليه)، فشكر الله له؛ أي: قبل منه، وظهر أثر العطاء من الله -عز وجل- على عبده أضعاف ما فعل العبد، ورضي الله عنه باليسير مما فعله. ونهى -عز وجل- عن الكفر فقال: (وَلَا تَكْفُرُونِ) مع أن الأغلب الأعم أن يقال: "يكفر به"، فيقال: "كفر بالله"، لكن كلمة كفر هنا تتعدى بالباء وتتعدى بنفسها فيقال: "كفره وكفر النعمة" أي: لم يشكرها، و"كفر به" تستعمل في الأغلب الأعم في الكفر الناقل من الملة، وقد تستعمل في الكفر الأصغر، و"كفره" غالبًا ما تستعمل في كفر النعم، وقد تستعمل في الكفر الأكبر ولو زال أصل الشكر بالكلية من القلب لزال الإيمان بالكلية كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وإنما عمدة عمل إبليس على إخراج العباد عن الشكر، كما قال الله -عز وجل عنه-: (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف: 17)، وهذا هو ظن إبليس الذي صدق عليهم كما قال الله -عز وجل-: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (سبأ: 20) أي: في كونهم لا يشكرون، ولو شكروا نعمة الله -عز وجل- لقادهم ذلك إلى التوحيد والإيمان. فشكر نعمة الله -عز وجل- هو أحد أركان الإيمان، وإذا لم يشكر الإنسان ربه -عز وجل- ولو بقلبه لم يكن مؤمنًا أصلًا، بأن رأى أن الله لم ينعم عليه، وأنه استحق ذلك بنفسه، وأن هذا كان لا بد وأن يحصل له، ولو لم يفعل الله به ذلك لظلمه، والعياذ بالله! فمن لم يرَ فضل الله ونعمته عليه لم يكن مؤمنًا، ولم يكن مقرًّا بأنه المتفضل بالكمال والإنعام والإحسان -سبحانه وتعالى-، بل من رأى نفسه مستحقًا رغمًا على الله -عز وجل- هذه النعم لم يكن مسلمًا أصلًا، فزوال الشكر من القلب بالكلية يعني زوال العبودية بالكلية وحصول الكفر به؛ لأن الكفر ضد الشكر كما تدل عليه هذه الآية، فإذا زال الشكر بالكلية زال الإيمان بالكلية، وحصل الكفر الكامل المطلق -والعياذ بالله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (179) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (8) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الثامنة: قوله -تعالى-: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) دَلَّ على أن الشكر صفة خاصة النبيين كما وصف الله -عز وجل- نوحًا بقوله: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (الإسراء: 3)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له في كثرة قيامة حتى تتشقق قدماه وقد غفر الله ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، قال: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)، فالشكر حياة القلب وأساس العبادة؛ قال الله -تعالى-: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (النحل: 114). أمرنا الله أن نأكل من طيبات ما رزقنا، وأن نشكر نعمته؛ فإنما رزقنا لنشكره، وهذا من حكمة الله أن خلقنا في حاجه وأعطانا ما نسد به حاجتنا، وجعل ذلك سبيلًا إلى ما هو أعظم من تلك الحاجات. فحاجتنا إلى شكر نعمة الله أعظم من حاجتنا إلى الهواء والطعام والشراب، ونحن والله لا نحصي ثناءً على الله؛ فكل نَفَس، وكل طعام وشراب نعمة من الله عظيمة، وشكرك نعمة الله عليك، نعمة أعظم؛ فأنت تحتاج إلى ذلك لصلاح قلبك، وحياة قلبك أعظم من حاجتك إلى الهواء والطعام والشراب. فالشكر سبب حياة القلب؛ فلو مُنِع من البدن الهواء يموت، فكذلك لو منع من القلب الشكر يموت القلب، وأنت محتاج إلى حياة قلبك أعظم من حياة بدنك، وفي الأثر الإسرائيلي: أن داود -عليه السلام- قال: "يا رب! كيف أشكرك وشكرك نعمة تحتاج إلى شكر؟ فقال: يا داود الآن شكرتني!". جعل الله -عز وجل- النعم ليأخذ بها قلوبنا إلى ما هو أهم، وليأخذ قلوبنا إلى نعمة أتم؛ وهي: أن نشكره على نعمته فيعطينا المزيد؛ لأن الله -عز وجل- قال: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7). وما أنعم الله -عز وجل- به علينا من شكره هو نعمة جديدة؛ فإذا شهدنا ذلك شعرنا أننا لا نحصي ثناءً على الله، ويشعر العبد بعجزة عن إحصاء نعم الله وثنائه على الله؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "اللهم لك الحمد كما تقول، وخيرًا مما نقول"، وقال الله -سبحانه وتعالى- في بيان نعمة النبوة والرسالة والدِّين على البشر: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144). وقد يتعجب المرء من ذكر الشكر في مقام موت النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قتله، وإنما يحتاج الناس إلى الصبر؛ فهو ابتلاء عظيم، ومقام نزول أعظم مصيبة بالمسلمين إذا مات النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من عبادة الله هو أعظم نعمة، والمحافظة عليها والاستمرار عليها هو شكر هذه النعمة بالثبات عليها؛ ولذا ذكر الله -عز وجل- في هذا المقام عبادة الشكر؛ لأنها أساس العبادة. ولذا قال أبو بكر -رضي الله تعالى- عنه بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- فخطب الله وأثنى عليه ثم قال: "مَن كان يعبد محمدًا؛ فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)". فمن انقلب على عقبيه بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كفر هذه النعمة ولم يشكرها، ولم يكن محقًّا في اتباعه لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فهذا المقام مقامٌ فيه صبر وشكر معًا؛ شكر نعمة الله بالدِّين، وشكر نعمة الله بالرسول -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران: 164)، وأن نوحِّد الله في كل وقت وفي كل حال، ونثبت على عبادة الله؛ سواء أوجدنا من يعيننا أم لم نجد، وسواء أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيًّا أم قد مات ورحل عن هذه الدنيا. وشكر نعمة الله -عز وجل-، يستجلب للعبد رضوان الله -سبحانه وتعالى-، وهذا أعظم نعيم يحصله أهل الجنة؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ! فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) (متفق عليه). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا) (رواه مسلم). فالله -تعالى- جعل الأرزاق سببًا للشكر، والله يرضى باليسير من العمل بأن يقول العبد بعد أن يأكل: "الحمد لله"، وإذا شرب الشربة أن يقول: "الحمد لله". فليتأمل الإنسان كيف وصلت له هذه الشربة؟ وكيف نزلت من السماء في وقت نحن لا نعلمه؛ فلنتفكر في قطرات الماء التي نشربها: من أين أتت؟ وفي أي يوم من الأيام نزلت من السماء؟ ومتى تخلَّقَت؟ الله -عز وجل- وحده يعلم؛ تخلقت في وقت معين ثم نزلت من السماء في وقت معين، ثم سارت مسافات طويلة، ثم احتجزت مدة عند العوائق والغابات والسدود، ثم بعد ذلك سارت مدة واحتجزت إلى أن وصلت إلينا عبر مراحل كثيرة، ثم وصلت إلى هذا الصنبور، ثم فُرِّغت في الكوب ثم شربناه، فماذا فعلنا نحن في هذا كله؟! وكل ما فعلناه نحن في هذه المراحل هو الخطوة الأخيرة؛ وهي: شرب هذا الماء؛ أما ما كان قبل ذلك فليس من تصرفنا، وكذا لو كان هذا الماء نابعًا من عيون الأرض فإنه أيضًا نزل من السماء، ثم بقي في الأرض آلاف السنين إلى أن أخرج من هذه العيون وجاء إلينا في هذه الزجاجات؛ قال الله -عز وجل-: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ . أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ . لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) (الواقعة: 68-70). فاللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه غير مكفي ولا مودَّع، ولا مستغنٍ عنه ربنا. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (180) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (9) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الثامنة: قوله -تعالى-: (اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يدل على أن الاجتباء والاصطفاء هو لله -سبحانه وتعالى-، وهذا جزء من الإيمان بالقدر؛ لأن اختيار الله -عز وجل- لأنبيائه وأوليائه هو مَنُّه وفضلُه -سبحانه وتعالى- عليهم بطاعته وبالإيمان به، وأما النبوة فاجتباء خاص. والله -سبحانه وتعالى- اختار أنبياءَه ورسله بعلمه وحكمته، وقد وضع الأشِياء في مواضعها، وهو محض فضله -سبحانه- عليهم؛ قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص: 68). والخيرة في هذا الموضوع ليست بمعنى الإرادة المجردة، بل اختيار التكريم والتفضل، والتخصيص بنعم الدِّين والإيمان والنبوة؛ قال -سبحانه- لموسى -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) (طه: 13)؛ أي: اختاره الرب -سبحانه وتعالى- للرسالة والتكريم والتكليم. وقال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ? وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113). وقال الله لعباده المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج: 77-78)؛ أي: هو -سبحانه- اجتبى عباده المؤمنين لدينه الذي لا حرج فيه عليهم، وهو ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- دون الأديان الأخرى: كاليهودية، والنصرانية، وغيرها، وإن انتسب أصحابها إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-. وإنما أولياء إبراهيم هم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون بعد أتباع إبراهيم في زمنه وعبر الزمان، كما قال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68)، وقوله -سبحانه وتعالى-: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ)؛ أي: الله سماكم المسلمين قبل وجودكم؛ كما ذكر صفتكم في الكتب السابقة، وسماكم كما قال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29). وقوله -سبحانه وتعالى-: (وَفِي هَذَا) أي: وفي هذا القرآن (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)، وهذا بلا شك تكريم للإسلام على سائر الرسالات السماوية، وأما الأديان التي حرَّفها أصحابها؛ فليست داخلة في التفضيل أصلًا، بل مَن كذَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من اليهود والنصارى؛ فهو كافر مخلَّد في النار طالما قد بلغته رسالته؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم). وأما التفضيل في شمول رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وارتفاعها على غيرها؛ فأمر لا يشك فيه مسلم بالنسبة إلى رسالات الأنبياء من قبل، ويدل على ذلك: قوله -عز وجل- لموسى -صلى الله عليه وسلم- بعد أن دعى ربه -سبحانه- ألا يهلكهم بما فعل السفهاء منهم إلى آخر دعوته؛ قال: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 156-157)، وقال الله -عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3). وقد قال غير واحد من الفلاسفة -وغيرهم-: إنه بإجماع الحكماء لم يطرق العالم ناموس أعظم من الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-! فحتى هؤلاء الفلاسفة المنحرفين عن دين النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرون بأن رسالته أعظم الرسالات وتشريعه أعظم التشريعات. فتفضيل النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل الرسل مجمع عليه: كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (متفق عليه). والمفاضلة بين الأنبياء هي باجتباء الله -عز وجل- لمن شاء؛ ليست بأهواء الناس، وليس بتنقيص نبي على نبي، مع معرفة قدر جميع الأنبياء، وأنهم أفضل من جميع الأولياء، بل هم أفضل الخليقة؛ قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البينة: 7). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام-) (رواه مسلم)، وكان هذا قبل أن يوحى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه سيد الناس، فقضية التفضيل بين الأنبياء إذا كانت بالأدلة الشرعية كتفضيل محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتفضيل إبراهيم بعده، أمرٌ لا نزاع فيه بين أهل العلم؛ دَلَّ القرآن عليه، قال الله -عز وجل-: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (البقرة: 253)، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-. فأفضل الخليقة على الإطلاق هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وكما يقول إبراهيم -عليه السلام- يوم القيامة في حديث الشفاعة: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم)، وهذه إشارة إلى منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه أقرب في الخلة وبعده إبراهيم وبعده موسى -صلى الله عليهما وسلم-، كما دلت عليه أحاديث المعراج في لقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لموسى في السماء السادسة، وفي رواية في صحيح البخاري في السماء السابعة، والجمع بينهما ممكن؛ لأنه لقيه في السادسة وصعد معه -صلى الله عليه وسلم- إلى السابعة التي فيها إبراهيم. فالاجتباء للأنبياء خاصة محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وإبراهيم وموسى -صلى الله عليهما وسلم-، ثابت في الكتاب والسنة، ولا مجال لإنكاره ولا مجال لنفي ذلك بمثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ) (متفق عليه)؛ فإن المقصود لا تفضلوا تفضيلًا يتضمن تنقيص بعضهم؛ كما قال: (لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) (متفق عليه)، وإنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم- لما وجد بعض أصحابه يضربون مَن قال: "والذي اصطفى موسى على البشر"، وأما أن التفضيل حاصل؛ فلا نزاع في ذلك. وهذا من اجتباء الله -عز وجل-، وليس من عند أحدٍ دون الله، ولكل منهم فضائله الخاصة، ويشترك مع غيره في الفضائل العامة للأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وجمعنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (181) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (10) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة التاسعة: قوله -تعالى-: (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ): تضمَّن إثبات الهداية، ونسبتها إلى الله -سبحانه-؛ فالله وحده مالك القلوب، وهي كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وكان يقول -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). وهو -سبحانه- وحده الذي يخلق الهدى في قلب العبد، ويثبِّته عليه، والهداية أنواع؛ فمنها: الهداية العامة لجميع الكائنات بما يصلحها ويناسبها؛ قال -تعالى-: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى . قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى . قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) (طه: 49-51). وقال سبحانه و-تعالى-: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى: 1-3)، فهدى كلُّ مخلوق إلى ما يناسبه في طعامه وشرابه وقوته، وكيف يأتي الذَّكر أنثاه؛ لتحصيل التناسل والتكاثر، وحفظ النوع، وهدى كل خلية داخل الحيوان، بل والنبات لما فيه استمرار حياتها وحياة صاحبها، وهذه الهداية من أعظم أدلة وجود الرب -سبحانه وتعالى- لمن تأملها. وتأمل قطة عجماء، تشم سمكة سامة لو أكلها الإنسان لمات وليس في رائحتها إلا ما في رائحة السمك، وتجد القطة تتركها مع كونها تأكل غيرها! وغير ذلك أضعاف مضاعفه؛ ذكر ابن القيم -رحمه الله- في كتاب "شفاء العليل" أنواعًا منها، وهي تنتشر في عالم البر والبحر، بل وعالم النبات كذلك، وعالم النجوم والفلك، فكلها تجري بتقديره وهدايته -سبحانه وبحمده- فتبًّا للجاحدين الملاحدة! والنوع الثاني من الهداية: هداية البيان والإرشاد؛ قال -تعالى-: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10)، وقال -تعالى-: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (فصلت: 17)، فهو -سبحانه وتعالى- هدى كل إنسان مكلَّف طريق الهدى، وطريق الضلالة، وهذا من خلال دعوة الرسل، وجعل في الفطرة والعهد السابق الذي أخذه والناس في ظهر أبيهم آدم ما يؤيد دعوة الرسل؛ قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) (الأعراف: 172)، أي: ذكرناكم بذلك على ألسنة الرسول؛ لكي لا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين، وقال -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ) (متفق عليه). وفي رواية في الصحيح: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْمِلَّةِ) (رواه مسلم)، فجعل الله -سبحانه- في العهد الأول، وفي الفطرة ما يؤيد دعوة الرسل، ويؤكد صحتها، فكأنها نسخة مركوزة في القلب، موافقة لدعوة الرسل إلى التوحيد والإقرار بالربوبية والألوهية، ثم بصحة دعوة الرسل الكرام، فإذا جاءت دعوة الرسل صادفت محلها، فمن قَبِلَها أيقن بصحتها، ومطابقتها لما في القلب، ومَن ردَّها تقطَّع قلبه، وشقي في الدنيا، وفسدت فطرته، وظن الحق باطلًا والباطل حقًّا بعد أن عَلِم الحق أول مرة: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام: 110)، فعند ذلك ظَنَّ الحقَّ باطلًا، والباطل حقًّا؛ فأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، وقامت عليه حجج الله كلها. ومن محبته -سبحانه وتعالى- للعذر: لم يجعل ميثاق الفطرة، والميثاق يوم أَخَذَه على البشرية -وهم في ظهر آدم بعد أن استخرجهم من ظهره-، لم يجعلهما حجة مستقلة، بل جعلهما حجة بعد أن تبلغهم دعوة الرسل؛ قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم: 4). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ) (متفق عليه). فيا خسارة مَن يكرهون العُذْر الذي يحبه الله، ويكفِّرون المسلمين دون قيام الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها، ثم يتجرؤون على سفك الدماء المعصومة بغير حقٍّ؛ خصوصًا الذين يكفِّرون المسلمين بالعموم، بشبهات هي أوهي من بيت العنكبوت! فأحبوا -يا عباد الله- العذر الذي يحبه الله، وجعله مرتبطًا ببلوغ دعوة الرسل، ومعرفة الكتب التي أنزلها؛ قال الله -تعالى-: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (الأنعام: 19). فمَن بلغه القرآن فهو المنذر؛ وإلا فهو معذور؛ إجمالًا في الإجمال -أي: إذا لم يبلغه القرآن أصلًا، ولا دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهو معذور أَنْ لم يؤمن بها-، وتفصيلًا في التفصيل -أي: إذا لم يبلغه تفصيل ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد آمن به مجملًا، لم يكفَّر حتى يبلغه التفصيل آية آية، وحديثًا حديثًا-. ولما كان هذا النوع من الهداية يتم من خلال الرسل، أثبته الله لهم؛ فقال -تعالى- لنبيه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52)، مع أنه -سبحانه- نَفَى عنه هداية التوفيق والإسعاد، وخَلْق الهدى في قلبِ مَن يحبُّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال له في شأن عمه أبي طالب -وقد مات على الكفر-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) (القصص: 56). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (182) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (11) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة العاشرة: قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فيه: بيان نوع آخر عظيم من أنواع الهداية؛ وهي: هداية التوفيق والإسعاد، وهي خلق الله الهدى في قلب مَن شاء مِن عبادة بدرجات الهدى المختلفة، وهي تشمل هداية معرفة الحق وقبوله ومحبته، وإرادته والعزم عليه وفعله والثبات والاستمرار على ذلك، والدعوة إليه والصبر على مشاق الطريق. فكم من أناس قامت عليهم الحجة الرسالية ثم يعرفوا الحق من الباطل، وكانوا صمًّا بكمًا عميًا؛ لا يعقلون ولا يفهمون؛ قال الله -عز وجل: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ) (الأنفال: 22، 23)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمد: 16). ثم كم مِن الناس ممن عرف الحق وفهمه، لكنه أعرض عنه ولم يجبه ولم يقبله، بل أبغضه وعاداه؛ كما قال -سبحانه وتعالى-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146)، وقال -تعالى- عن المشركين: (إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: 33)، وقال -تعالى- عن آل فرعون: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل: 14). ثم كم ممَّن عرف الحق وأحبه وقبله، لكنه ضعيف الحب؛ فغلبته إرادة الشهوات والإخلاد إلى الأرض، واتباع الهوى! وكم من مبغض للباطل والمعصية والحرام، لكنه لا يستطيع أن يقاوم إرادته والرغبة فيه ولو كان محرمًا؛ فيكون كالطائر الذي نتف ريشه يحلم بالطيران، ولا يستطيع أن يطير! ثم كم من مريد للحق محبٍّ له، لكن عزمه ضعيف، فإرادته غير مستقرة لم تبلغ درجة العزم الذي يُثَاب صاحبه ثواب الفاعل؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيمن أتاه الله مالًا وعلمًا: (فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا، عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ؛ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). وقال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) (متفق عليه). فمِن الناس مَن عنده إرادة ومحبة لا يستمر عليها، حتى تصل إلى درجة العزم، ثم كم ممن عنده العزم ثم يحرم من الفعل لنقض العزائم، والعجز والكسل، وتأمل في قصة كعب بن مالك -رضي الله تعالى عنه- في قوله: "فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي" (رواه مسلم). ثم كم من عازم قد فعل الخير وترك الشر والحرام، ثم يثبته الله عليه؛ فبعد فعله لم يستمر على الخير فتركه، وعاد ففعل الحرام والمنكر، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الفساد بعد الصلاح؛ قال الله -تعالى-: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة: 266). ثم كم من فاعل للخير مجتنب للشر ثابت على ذلك، لكنه لا يستشعر مسؤولية الدعوة إلى ذلك الخير وإبلاغ الحق للخلق، ثم تحمل الأذى والصبر عليه؛ فكم ممَّن يقول: آمنا بالله، فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله؛ ولذلك قال لقمان لابنه وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17)، فإن مشاق الطريق وصعوباته وتضحياته قد تدفع كثيرًا من الناس إلى الابتعاد بعد القيام بالعمل بعد العلم، وبالدعوة بعد العمل، ولكن الفتنة؛ نعوذ بالله منها. وقد جمع الله -عز وجل- لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- كلَّ أنواع الهداية هذه، ومن بعده الأنبياء جميعًا؛ قال الله -عز وجل-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90). وقد جمع الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- من بعد إبراهيم في الزمان ما هو أكمل أنواع الهدايات التي لم يسبقه إليه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، والأنبياء جميعًا؛ فكان سيد الناس يوم القيامة ولا فخر؛ قال الله -عز وجل-: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113)، وقال: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا . لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) (الفتح: 1، 2). وكل هذه الهدايات يخلقها الله بمشئيته وقدرته في قلب مَن أراد مِن عباده ويوفِّق العبد لفعلها بقلبه ولسانه وبدنه، ثم خاتمة الهدايات: الهداية إلى منازل الجنة إذا دخلوها؛ قال الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ . سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ . وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (محمد: 6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا) (متفق عليه). نسأل الله أن يجعلنا من أهل هدايته وتوفيقة وإسعاده. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (183) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (12) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الحادية عشرة: قوله -تعالى-: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ): دَلَّ على أن الله يجمع لعبده المؤمن سعادة الدنيا والآخرة، والإيمان سبب الحياة الطيبة، ومن ذلك الذكر الحسن الباقي بعد موته وحب الناس له عبر الزمان، بل إنه راحة في الدنيا والآخرة، والكفر شقاء وتعاسة في الدنيا والآخرة؛ قال -تعالى-: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه: 123-127). وقال -تعالى-: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ . إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (فاطر: 19-23). فقوله -تعالى-: (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) فالظل حال المؤمن في الدنيا وفي القبر ويوم القيامة، والحرور حال الكافر في الدنيا والقبر ويوم القيامة، فالناس يقبلون على الشهوات المحرمة ويتبعون الشبهات المضلة طلبًا لسعادة وهمية؛ لذة عابرة كسحابة صيف، أو كطيف زار في المنام ثم تبيَّن أنه مجرد خيال لا حقيقة له؛ فأين هذا من الفرح الذي تحدثه العبادة للمؤمن؟! قال الله -تعالى-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58). فالله -عز وجل- فطر القلوب على الفرح والراحة والسعادة عند عبادته وذكره والتحنث له والميل إليه سبحانه ومحبته، بل لا تستغني عن محبته وقربه وعبادته طرفة عين؛ إلا عندما يغيب العقل في النوم لضرورة البشرية في هذه الدنيا، وإنما تكون المعاصي كالسكرة: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر: 72)، وهي كالمواد المخدرة كلها تشعل مخ الإنسان باكتفاء غير حقيقي باللذة الوهمية، وربما أدَّت إلى الموت البدني بالفعل بوهمٍ كاذبٍ لمركز التنفس بالمخ بوفرة الأكسجين في الدم، فلا يطلب تحريك عضلات التنفس، ويحدث الفشل التنفسي فيموت البدن، وقد مات القلب قبله بشهوة وهمية، ولذة وقتية غلبت على القلب؛ فألقت عنه إدراكه للهدى والنور، وألغت عنه رغبته الدفينة في غذائه وشفائه الذي يطلبه دائمًا أحياء القلوب من الوحي المنزَّل. فالشفاء للأمراض، والغذاء لحياة القلب بالحب والقرب، والرضا، والخوف والرجاء، والتوكل والإنابة، والتوبة، والافتقار، وغيرها من أعمال القلوب: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ? وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82). فإذا كان هذا يجده المؤمن: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ? وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)؛ فكيف بالخليل الذي امتلأ قلبه بالحب لله حتى تخلل شغاف قلبه؟! فاتخذه الله خليلًا؛ لعظيم محبته -سبحانه- له، وخصه بنوع خاص من محبته -عز وجل- هي الخلة؛ التي لم يسمِّ بها بعده إلا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، حتى قال إبراهيم -عليه السلام-: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم). وهناك قَدْر مشترك من حبِّ الله في قلب العبد المؤمن يعقبه حب الله للعبد، وذلك بكونه من الصالحين؛ قال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) (رواه البخاري). وليس هذا من الوحدة في شيء -كما يقوله الزنادقة المنافقون!-، بل هذا معناه: أن يكون سمع العبد وبصره ويده ورجله كلها لله إخلاصًا، وبه استعانة، كما روي: "فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش وبي يمشي"؛ أي: بحول الله وقوته، وليس أنه يصير عين الله! والدليل على ذلك: قوله: (وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ) فهناك سائل ومسألة ومسؤول، (وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ): فهناك مستعيذ واستعاذة ومستعَاذ به؛ فأنى يسمَّى ذلك وحدة؟! نعوذ بالله. وإنه لمن أعظم الشرف للصالحين أن يخبر الله -عز وجل- عن إبراهيم أنه منهم، كما قال -تعالى-: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، وكذا شرف للمؤمنين والمحسنين قوله -تعالى- عن إبراهيم: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (الصافات: 109-111). فليحرص العبد على هذا القدر المشترك، وليزدد منه ما استطاع ليقترب بروحه من هؤلاء الأنبياء والمرسلين والصالحين؛ لينال حسنة الدنيا، ويكون في الآخرة من الصالحين. اللهم ألحقنا بالصالحين واجعلنا في الندي الأعلى. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (184) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (13) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الثانية عشرة: قوله -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) دَلَّ على أن مَن أحيا ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في الناس هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن قَلَّ تابعوها حتى كادت أن تندثر، وإنما كان عليها آحاد من الناس: كزيد بن عمرو بن نوفيل الذي كان يقول لقومه: لا أعلم أحدًا على ملة إبراهيم غيري. ذكر البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه زيد بن عمرو بن نوفيل -وساق سنده عن عبد الله بن عمر-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ، فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- سُفْرَةٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ. وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ الْمَاءَ، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ. إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ. قَالَ مُوسَى: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا تُحُدِّثَ بِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي، فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا، حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللهِ، قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ! فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ. فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ. فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنهما- قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا، مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، وَاللهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، وَكَانَ يُحْيِي المَوْؤُودَةَ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا، أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ، قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا" (انتهى ما ذكره البخاري). وذكر ابن كثير -رحمه الله- عن أسماء -رضي الله عنها- قالت: "سمعت زيد بن عمرو بن نوفيل وهو مسند ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، إياكم والزنا؛ فإنه يورث الفقر... وعن جابر قال: سُئِل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن زيد بن عمرو بن نوفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية، ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، ويسجد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يحشر ذاك أمة وحده، بيني وبين عيسى ابن مريم. إسناده جيد حسن، وروي من طرق متعددة أنه قال يبعث يوم القيامة أمة وحده" (البداية والنهاية). فهذه الآثار تدلك على حال التوحيد والحنيفية، وملة إبراهيم، وغربة الدِّين قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم ظهر الحق كالشمس وأجلى ببعثته -عليه الصلاة والسلام-، وظهر نور الله، وعادت الحنيفية إلى الانتشار في الناس وترك الشرك بحمد الله -تعالى-؛ حتى وصل إلينا كما أنزله الله. وتأمل أن اليهودية والنصرانية ليست ملة إبراهيم الحنيفية: قال الله -عز وجل-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 67)، بعد أن بدَّلوا وغيَّروا ولم يبقَ منهم على التوحيد قبل البعثة النبوية إلا قِلَّة قليلة؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) (رواه مسلم). أما الآن فلم يعد أحد منهم موحِّدًا ولا حنيفًا؛ إذ بلغهم خبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكذَّبوه وكذبوا القرآن؛ فلا تصح لهم نسبة إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، إضافة إلى ما أشركوا وعبدوا غير الله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: 30، 31). فأما تسميتهم ضلالهم الحالي بـ"الدين الإبراهيمي الجديد"؛ فهو زيادة في الكفر يُضَل به الذين كفروا، وكيف يكون دين إبراهيم فيه الإقرار بالشرك وملل الوثنية، وتكذيب الأنبياء، وتكذيب كلام الله القرآن العظيم؟! وقد أكَّد الله -عز وجل- براءة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- من الشرك مرة ثانية، فقال: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ لنعرف أهمية البراءة من الشرك وأهله حتى يصح لنا ديننا؛ دين إبراهيم دين الإسلام، ولا يصح أبدًا مع الإقرار بالشرك وتصويب الملة؛ فالدعوة إلى دين واحد وملة واحدة تجتمع فيها اليهودية والنصرانية والإسلام، وأيضًا البوذية والهندوسية، وأنواع الشرك والضلالات؛ كما يقولونه في الطرق الصوفية العالمية، وغيرها، ممَّن يقول بمساواة الديان ووحدة الوجود؛ فهذا كله من الكفر الأكبر المستبين. فلا يصح لأحدٍ دين الإسلام إلا بالبراءة من هذه الملة الجديدة القديمة، برأنا الله -عز وجل- منها، ونجَّانا من شرِّها. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (185) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). إن الدعوة إلى الله -سبحانه- أشرف المهمات، وأعظم الوظائف، وهي وظيفة الرسل وأتباع الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وهي مبنية على حبِّ الخير للناس وكمال الشفقة عليهم، وتمام الحرص على هدايتهم، والخوف عليهم أن يصيبهم عذاب الله في الدنيا والآخرة. ولا شك أن قلب الداعي إلى الله الذي اتسع لحب الخير لجميع الناس وحب هدايتهم أولى بأن يكون أكثر اتساعًا لحب الخير لأهله وذويه الأقربين، وهي مسألة عظيمة الأهمية أن تكون دائرة تأثير الداعي تبدأ في عشيرته الأقربين، فإن إيمانهم من أعظم العون له على الحق؛ كما كانت خديجة -رضي الله عنها- أعظم معين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تحمل أعباء النبوة في بدايتها. وكذلك كان إسلام حمزة عم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من أعظم أسباب نصرة الإسلام، وقوة للرسول -عليه الصلاة والسلام-. وكذلك عدم إيمان الأهل طعنة في ظهر الداعي، وحاجز بين الناس وبين قبول دعوته، كما كان أشد شيء على الرسول -صلى الله عليه وسلم- عدم إيمان بعض قرابته كعمه أبي لهب، وابن عمه أبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب؛ الذي كانت قصائد هجائه من أشد ما يؤذي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وظل مُعْرِضًا عنه مدة بعد إسلامه من أجل هجائه له طيلة عشرين سنة، حين أسلم قبيل الفتح حتى أرشده علي -رضي الله عنه- أن يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- من قِبَل وجهه، ويقول له: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) (يوسف: 91)؛ فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن مردودًا منه، ففعل؛ فالتفت له النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 92)، وكان يقول: أرجو الله أن يجعل منه خَلَفًا لحمزة، وكان لا يحجبه بعد ذلك متى استأذن. ولذا أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في كتابه بدعوة أهله فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214). وفي القرآن المنسوخ التلاوة: "ورهطك منهم المخلصين"، ووقف النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصفا تنفيذًا لهذا الأمر، كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) دَعَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: (يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا). وقد قصَّ الله -عز وجل- علينا في قصة إبراهيم في سورة مريم، دعوته لأبيه إلى التوحيد، وترك الشرك وعبادة الأوثان، وبيَّن -سبحانه وتعالى- شدة تلطفه، وحرصه على هداية أبيه، وتنويع الخطاب له بأنواع الحجج الظاهرة البينة، وشدة خوفه عليه، وشفقته من أن يمسه شيء من العذاب، وأن يكون للشيطان وليًّا ثم دعا له رغم الأذى، واستغفر له؛ ليرجو له الرحمة، وهي لا تحصل إلا بالهداية إلى التوحيد وترك الشرك. فلما مات أبوه على الكفر عَلِم إبراهيم أنه عدو لله؛ فتبرأ منه، وترك الاستغفار له؛ قال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا). ولنبدأ أولًا بتفسير هذه الآيات الكريمات، ثم نذكر ما تيسر من فوائدها. والله المستعان. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (186) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). قال ابن كثير -رحمه الله-: "(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) يقول -تعالى- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر في الكتاب إبراهيم واتله على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته، ويدعون أنهم على ملته، وهو كان صديقًا نبيًّا، مع أبيه؛ كيف نهاه عن عبادة الأصنام، فقال: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا) أي: لا ينفعك ولا يدفع عنك ضررًا. (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ): يقول: فإن كنت من صلبك وترى أني أصغر منك؛ لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك بعد، (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) أي: طريقًا مستقيمًا موصلًا إلى نيل المطلوب، والنجاة من المرهوب. (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ) أي: لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام؛ فإنه هو الداعي إلى ذلك، والراضي به، كما قال -تعالى-: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) (يس: 60)، وقال: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا) (النساء: 117). وقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) أي: مخالفًا مستكبرًا عن طاعة ربه، فطرده وأبعده، فلا تتبعه تصر مثله. (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ) أي: على شركك وعصيانك لما آمرك به، (فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) يعني: فلا يكون لك مولى ولا ناصرًا ولا مغيثًا إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك، كما قال -تعالى-: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النحل: 63). (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا): يقول -تعالى- مخبرًا عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ) يعني: إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها؛ فانته عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنتهِ عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك وسببتك، وهو قوله: (لَأَرْجُمَنَّكَ)؛ قاله ابن عباس، والسدي، وابن جريج، والضحاك، وغيرهم. وقوله: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا): قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن إسحاق: يعني دهرًا. وقال الحسن البصري: زمانًا طويلًا. وقال السدي: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) قال: أبدًا. وقال علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) قال: سويًّا سالمًا، قبل أن تصيبك مني عقوبة. وكذا قال الضحاك، وقتادة وعطية الجدلي وأبو مالك، وغيرهم، واختاره ابن جرير". وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (187) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا): "يقول -تعالى- مخبرًا عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ)؟ يعني: إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها؛ فانتهِ عن سبِّها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنتهِ عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك وسببتك، وهو قوله: (لَأَرْجُمَنَّكَ)؛ قاله ابن عباس، والسدي، وابن جريج، والضحاك، وغيره. وقوله: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا): قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، ومحمد بن إسحاق: يعني دهرًا. وقال الحسن البصري: زمانًا طويلًا. وقال السدي: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) قال: أبدًا. وقال علي بن أبي طلحة والعوفي، عن ابن عباس (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) قال: سويًا سالمًا قبل أن تصيبك مني عقوبة، وكذا قال الضحاك وقتادة، وعطية الجدلي، وأبو مالك، وغيرهم، واختاره ابن جرير. فعندها قال إبراهيم لأبيه: (سَلَامٌ عَلَيْكَ) كما قال -تعالى- في صفة المؤمنين: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان: 63)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص: 55). ومعنى قول إبراهيم لأبيه: (سَلَامٌ عَلَيْكَ) يعني: أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، وذلك لحرمة الأبوة. (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أي: ولكن سأسأل الله -تعالى- فيك أن يهديك ويغفر ذنبك. (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا): قال ابن عباس وغيره: لطيفًا؛ أي: في أن هداني لعبادته والإخلاص له. وقال مجاهد وقتادة، وغيرهما: (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) قال: عوَّده الإجابة. وقال السدي: "الحفي": الذي يهتم بأمره. وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن وُلِد له إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام- في قوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 41). وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداءً بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) (الممتحنة: 4)؛ يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به. ثم بيَّن -تعالى- أن إبراهيم أقلع عن ذلك، ورجع عنه؛ فقال -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113، 114). وقوله: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، (وَأَدْعُو رَبِّي) أي: وأعبد ربي وحده لا شريك له، (عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) و(عَسَى) هذه موجبة لا محالة؛ فإنه -عليه السلام- سيد الأنبياء بعد محمد -صلى الله عليه سلم-. فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله؛ أبدله الله مَن هو خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق، كما قال في الآية الأخرى: (وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) (الأنبياء: 72)، وقال: ((وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود: 71). ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب، وهو نص القرآن في سورة البقرة: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) (البقرة: 133)؛ ولهذا إنما ذكر ها هنا إسحاق ويعقوب، أي: جعلنا له نسلًا وعقبًا أنبياء أقرَّ الله بهم عينه في حياته؛ ولهذا قال: (وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا)، فلو لم يكن يعقوب قد نبئ في حياة إبراهيم، لما اقتصر عليه، ولذكر ولده يوسف، فإنه نبي أيضًا كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق على صحته، حين سُئِل عن خير الناس، فقال: (يُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ خَلِيلِ اللهِ) (متفق عليه)، وفي اللفظ الآخر: (الْكَرِيمُ، ابْنُ الْكَرِيمِ، ابْنِ الْكَرِيمِ، ابْنِ الْكَرِيمِ، يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) (رواه البخاري). وقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا): قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني الثناء الحسن. وكذا قال السدي، ومالك بن أنس. وقال ابن جرير: إنما قال: (عَلِيًّا)؛ لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-" (تفسير ابن كثير). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (188) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). فيه فوائد: الفائدة الأولى: قوله -تعالى-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ): أمرُ الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يذكر في الكتاب أنبياءه وأولياءه له أهمية عظيمة في حياة المسلمين؛ أن الأسوة الحسنة فيهم ضرورة في إثبات أن عقيدة التوحيد والإيمان، وكذا العبادة والإسلام، وكذا الأخلاق وأعمال القلوب والسلوك والإحسان، أمور قابلة للتطبيق في الحياة، ولها واقع في البشر، وليست مجرد أفكار نظرية ومثاليات مجردة، بل واقع عملي يلزمنا اتباعه والاقتداء به، فوجود الأنبياء والصالحين ومحبتهم ضرورة لتحقيق الإسلام والإيمان والإحسان في نفوس المؤمنين. الفائدة الثانية: وصفُ الله -تعالى- إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بالصديقية مع وصفة بالنبوة، كما وصف إدريس بذلك: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ? إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) (مريم: 56)، دال على أن وصف الصديقية لا ينافي وصف الرسالة والنبوة، بل هو جزءٌ من معاني النبوة والرسالة عظيمة القدر. ووصف الصديقية مأخوذ من التصديق كما رجحه ابن جرير -رحمه الله- على صيغة المبالغة؛ فهو كثير التصديق، وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- قد وصفه الله بأنه من الموقنين؛ قال -تعالى-: (وَكَذَ?لِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام: 75). وقد بيَّن -سبحانه- أن هذا التصديق العظيم الذي وصل إلى أعلى درجات اليقين والطمأنينة هو مِنَّة مِن الله يجعلها في قلوب عباده، وإن كان لها أسباب؛ وهي: كثرة النظر في خلق السماوات والأرض، فيرى العبد ملك الله فيها، فالناس لا يملكون شيئًا في هذا الملكوت الواسع، والتدبير الدائم في كل لحظة مع الإتقان والإحكام والحكمة، وهي كلها تدل على كمال الخبرة والعلم والقدرة، وغيرها من صفات الله، ويصل العبد مع تكرير النظر إلى اليقين وعظيم التصديق؛ قال الله -تعالى-: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (آل عمران: 189-192) الآيات. الفائدة الثالثة: قوله -تعالى-: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا): دليل على البدء في دعوة التوحيد، بدعوة الأقارب والأهل، هكذا ينبغي أن يبدأ الداعي في عشيرته المقربين كما قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214)، فبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوته بدعوة عشيرته وأهل بيته، فآمن به من آمن ورد عليه من رد، وهكذا ينبغي على كل داعية أن يبدأ دعوته بأهل بيته ثم المقربين منهم من أقاربه وجيرانه وزملائه، وهذا أمر عظيم الأهمية؛ فليست القضية عبادة الله برسوم معينة لا نستطيع الدعوة إلا من خلالها أو أشكال معينة لا تقوم الدعوة إلا بها، بل الدعوة إلى الله تكون بالقول والعمل والسلوك، ومخالطة الإنسان لمن حوله. ولو كان الإنسان صادقًا في دعوته فإن الله لا يضيع عمله هباءً منثورًا؛ لا سيما في أقاربه وأهل بيته، ومن يخالطه؛ فإن الله يضع للمؤمن القبول في الأرض، ولا نعني بذلك أنه لا بد أن يهتدي كلُّ مَن تدعوهم من أهل بيتك؛ لأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56)؛ فهو بعلمه وحكمته يهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الضلال، ولكن لا بد أن نبذل معهم الجهد الكبير مقدِّمين لهم على غيرهم، لا أن نتركهم فريسة للشياطين التي تريد أن تفتك بهم. وهكذا كان أنبياء الله -صلى الله عليهم وسلم- يدعون أهلهم أولًا، وهكذا كان الدعاة إلى الله يهتمون دائمًا بالمقربين بهم، ولا يعني ذلك أن تترك دعوة الأباعد والأغراب، ولكن ابدأ بأهل بيتك واسعَ في إصلاح أسرتك، (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه). فتدعو الكبير والصغير؛ تدعو أباك، وإخوانك، وذريتك، وأقاربك، وتدعو كل من حولك إلى الله -عز وجل-؛ عليك العمل وعلى الله الهداية، فإن إبراهيم دعا أباه إلى الله ولم يؤمن، ودعا نوح ابنه إلى الله ولم يؤمن، ولكن أغلب مَن حول الأنبياء تأثروا بهم أعظم التأثر، وهو -عز وجل- يضع الخير في موضعه، وهو أعلم بالشاكرين، وهو أعلم بالظالمين. نسأل الله أن يهدينا وآباءنا وأمهاتنا، وذرياتنا، وأزواجنا، والمؤمنين والمؤمنات. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (189) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (5) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). الفائدة الرابعة: في قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لِأَبِيهِ: (يَا أَبَتِ)، فائدة أن الدعوة تكون بهذا الأسلوب الرفيع الراقي، الرفيق الشفيق؛ فهو يذكِّره بالعلاقة بينهما التي تقتضي كمال الشفقة؛ فهو يذكره بها بلفظ الأبوة، مع حذف ياء المتكلم وإبدالها بالتاء. هذه الرابطة العظيمة التي هي من آيات الله في خلقه والتي تقتضي في هذا الموضع كمال الحرص على الخير، وكمال حب الهداية له، والرغبة في نجاته من هاوية الكفر المؤدي إلى الجحيم، وهذه التاء التي بدل ياء المتكلم وقد أعطيت حركتها من الكسر تدل على خصوصية العلاقة المقتضية الحنان الخاص، والشفقة الخاصة، وكل ذلك ترغيبًا له في اتباع دين الحق وترك الدين الباطل الذي هو عليه، وهذا كما قال الله -عز وجل-: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء: 24). وهذا الانكسار الذي لا يقع من كثير من الأبناء يترتب على تركه العقوق، ومن القطيعة للأرحام ما لا يرضاه الله؛ فإن الله شرع للابن أن يرفق بأبيه وأمه، وأمه مقدَّمة على أبيه في البر والإحسان، وحسن الصحبة، والرفق واللين؛ كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن سأله: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: (أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ) (متفق عليه). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أُمَّكَ، وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ، وَأَخَاكَ، وَمَوْلَاكَ الَّذِي يَلِي ذَاكَ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وفي رواية: (أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ) (رواه النسائي، وصححه الألباني)، فينبغي أن يكون المرء في أتمِّ الحرص على إظهار هذا الرفق وهذا اللين، فإذا كان الله -سبحانه- قد أمر موسى وهارون -صلى الله عليهما وسلم- أن يقولا لفرعون الطاغية قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى؛ فإن أولى الناس بالرفق والقول اللين، أهل بيتك وأقاربك؛ خصوصًا والداك، كما قال -سبحانه وتعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125). وكما ذكرنا، ليس علينا هداية أحد، لكن علينا أن نحسن الأسلوب، ولنعلم أن الفظاظة وغلظة القلب؛ خصوصًا مع الأقارب، ومع الآباء والأمهات من أعظم أسباب نفور الناس عن الالتزام بالكتاب والسُّنة. ومن أعظم أسباب سوء الفهم الذي يقع مِن الذين يصدقون وسائل الإفساد التي تشوِّه صورة الإسلام؛ حيث يجد الآباء في سلوك أبنائهم الذين ابتعدوا عن تعاليم الشرع، مسوغًا لتصديق ما يروجه أهل الباطل عن دعوة الحق وتشويه صورتها؛ فلا بد أن تكون رفيقًا شفيقًا في الأمر كله، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ) (رواه مسلم). ولا نعني بذلك المداهنة في العقيدة، وقول الباطل والسكوت عن الحق، وإنما نعني الأسلوب الطيب في توصيل كلمة الحق وإظهارها، والبدء بدعوة الأقارب لا يعني ترك دعوة الأباعد والأغراب، ولكن نبدأ بالسعي في إصلاح الأسرة والأقارب؛ لأننا رعاة ومسئولون عن رعيتنا كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه)؛ فندعو الكبير والصغير، وندعو الآباء والإخوان والأقارب، والأبناء، وندعو كلَّ مَن حولنا إلى الله -عز وجل- بالرفق واللين. وأما قضية المداهنة: فقد كان نفيها واضحًا تمام الوضوح في دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- مع ملازمة الرفق في الدعوة وأسلوبها، قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الأنعام: 74)، وكذا قوله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (الزخرف: 26، 27)؛ فليس هذا من باب السب، ولا من باب الطعن، ولكن من باب بيان الحق. وكثيرًا ما يشتبه الأمر على الناس حين يصفون الباطل ظلمًا وزورًا بأنه حق، وأنه لا بأس به، ويزعمون أنه حسن أسلوب ودبلوماسية في الدعوة؛ نعوذ بالله، بل هذا هو الضلال! وهو الذي يحصل به الانحراف، وإنما الأمر في طريقة العرض، وفي استغلال العلاقة الأسرية، وعلاقة البنوة والأبوة والإخوة، والقرابة، في بيان الحق وإظهار الشفقة، وإظهار إرادة الرحمة والخير بمن تدعوه، وفي نفس الوقت تبيِّن له البيان الكافي الشافي ولا تتركه. ولا بد أن يشعر المدعو منك بصدق مشاعرك في إرادة الخير له، وحبك الخير له؛ فأنت تحبه ذلك الحب الفطري الذي يتحول في قلبك -إذا لم يكن القريب على الهدى- إلى حبِّ الخير له، وإرادة الخير به؛ كما قال أبو بكر -رضي الله عنه- عن إسلام أبي طالب: "والله لقد كان إسلام أبي طالب لو أسلم أحبُّ إليَّ من إسلام أبي قحافة؛ لأن إسلامه كان أحب إلى رسول الله"؛ أي: إلى قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو يحب إسلام أبيه وقد حقَّقه الله له، وكان الأحب إلى قلبه إسلام أبي طالب؛ لأنه أحب إلى قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن سبحان الله لم يتحقق! فهو -سبحانه وتعالى- أعلم بالمهتدين. والغرض المقصود: أن تكون محبًّا لهداية أهلك وأقاربك، مؤثِّرًا فيهم بحسن العشرة والسلوك الطيب، والخُلُق الحسن الذي يجعلهم يحبونك، ويصدقون كلامك، وإن أظهروا التكذيب والرد؛ فبرك بوالديك وإحسانك إلى جيرانك دعوة إلى الله، وأنت إذا عققت والديك وقطعت رحمك، وأسأت إلى جيرانك؛ فهذا من أعظم الصدِّ عن سبيل الله؛ وإن ظننت أنك تدعو إلى الله، وإن ادعيت الالتزام بالشرع؛ فلا بد أن تجتهد في إظهار الإحسان إلى الخلق. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (190) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (6) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). الفائدة الخامسة: دعوة الحق تبدأ بهدم الباطل: فقد بدأ إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في دعوة أبيه، بهدم الباطل الذي عليه أبوه، ولكن بأرق صيغة داعية إلى التفكير؛ وهي: صيغة الاستفهام: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)؟ وهدم الباطل أساس دعوة التوحيد "لا إله إلا الله"؛ فإنها براءة من الشرك وإثبات الألوهية لله وحده، وبدون هدم الشرك وعبادة غير الله لا يقوم التوحيد؛ فتبًّا لدعاة وحدة الأديان، ووحدة المعبودات، ووحدة الوجود! إن هذه الدعوة التي يقوم عليها "الدِّين الإبراهيمي الجديد" الذي صنعه اليهود، هي دعوة لهدم دين إبراهيم الحق -صلى الله عليه وسلم-؛ فكيف يكون من يعبد غير الله كمن يعبد الله؟! (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم: 35-36)، وقال -تعالى-: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص: 28)، وقال الله -عز وجل-: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (الجاثية: 21). ثم استعمل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الأسلوب العقلي الصحيح الموقِظ للفطرة الإنسانية من سُبات التقليد الأعمى؛ الذي يغلق العقل والفطرة معًا؛ فكيف تصح عبادة مَن لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني شيئًا عن عابده؟! ومَن تأمل كلَّ المعبودات الباطلة حتى مِن غير الأصنام -كعبادة البشر- وجدها كذلك؛ فالجمادات: كالشمس والقمر، والأشجار والأحجار؛ لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن نفسها ولا عن غيرها شيئًا، ولولا الضلالات والأوهام التي جعلوها اعتقادات راسخة؛ لأدرك كلُّ عاقل بطلان عبادتها، وأما الحيوانات والأشخاص فرغم أنها تسمع وتبصر في حال من أحوالها؛ إلا أنها مَرَّ عليها مرحلة النطفة، والعلقة، والمضغة، وما بعدها في مرحلة الجنين؛ لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن نفسها شيئًا؛ فضلًا عن غيرها، ثم في مرحلة الموت هي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن عابدها شيئًا، بل عن نفسها لا تملك دفع الموت عن نفسها؛ فلماذا يعبدها الإنسان الذي كرَّمه الله -عز وجل- بالعقل والفطرة، وأرسل إليه رسله ليخاطبوه بمقتضى هذا العقل، وهذه الفطرة. فقول إبراهيم -عليه السلام- لأبيه: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا): بيان لعجز كل ما يعبد من دون الله، وفقره وحاجته، فإنما هو فقير؛ فكيف يغني الفقير عن غيره وهو في نفسه عاجز؟! وهذه الجملة: (مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ) متضمنة لإثبات صفات الكمال لله -عز وجل- السميع البصير، الغني الحميد؛ فتبيَّن أن ما يُعبَد من دون الله، لا يملك شيئًا؛ لا سمع ولا بصر، ولا يغني عن عُبَّاده شيئًا، وحتى البشر الذين يعيشون مدة يسمعون ويبصرون؛ ليس سمعهم بالسمع المحيط، ولا بصرهم بالبصر المحيط؛ لذا فالاعتقاد في الأموات كما يعتقد غلاة الصوفية الخرافيون: أن لهم السمع والبصر المحيط، وسؤالهم على ذلك، هو اعتقاد أنهم يرون ويجيبون، ويغنون عن المرء شئيًا؛ فهذا -والعياذ بالله- شركًا بالله العظيم في أسمائه وصفاته، وكذلك في ربوبيته، وسؤالهم إياهم: شرك في الإلهية، فيُقَال لهم: لِمَ تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنكم شيئًا؟! فهذه الحجة تُقَال لجميع عُبَّاد القبور، وعباد الأشخاص، وعباد الأموات، وعباد الأوثان التي جعلت رموزًا لهذه الإلهة الباطلة؛ فهي نفس الحجة التي يجب أن نكرِّرها دائمًا عليهم؛ لو استحضرتها عقولهم لنفروا مِن عبادة مَن لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عن عابده شيئًا. الفائدة السادسة: قول الله -عز وجل- عن إبراهيم -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا): فيه شرف العلم، وأن شرفه عظيم؛ به يعلو الصغير على الكبير، ويرتفع الابن على الأب، ويكون الإنسان فوق غيره؛ لأن الله يرفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، وقال -تعالى-: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ? وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف: 76). وقول إبراهيم -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا): علاج لمرض ينتشر في كثيرٍ من الناس؛ أنهم لا يقبلون الحق من الصغير، أو ممَّن هو دونهم في السنِّ أو المنزلة، فإبراهيم -عليه السلام- يذكِّر أباه بأنه قد جاءه من عند الله من العلم ما لم يأتِه هو؛ فليست العبرة بكبر السن، ولا بالمنزلة الاجتماعية لدى الناس. وهنا أمر يستفيده المؤمن في دعوته إلى الله ليبيِّن للناس: أن الواجب اتباع مَن جاءه العلم مِن عند الله؛ الذي هو العلم بالوحي المنزَّل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن كان عنده هذا العلم وجب اتباعه؛ سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، كما كان عمر -رضي الله عنه- يدني القُرَّاء، وكانوا أصحاب مجلس عمر -رضي الله عنه- ومشورته شيوخًا كانوا أو شبانًا، وكان منهم ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- رغم صغر سنه، وكان منهم الحر بن قيس -رضي الله عنه-، ولم يكن يقدِّم أحدًا لكبر سنه، وإنما لمنزلته وعلمه، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا) (رواه مسلم). والتقديم بالسن فيما إذا استوى الإنسان مع غيره في الفضائل، وأما احترام الكبير؛ فهو واجب، لكن لا يلزم منه أن يكون متبعًا على أي حال، وإنما يحترم ويعرف قدره؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ) (رواه أحمد والحاكم، وحسنه الألباني). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (191) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (7) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). الفائدة السابعة: في قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا): المقصود بالهداية في هذه الآية: هداية التبيين والإرشاد، وأما هداية القلب بالتوفيق والإسعاد فهي لا يملكها إلا الله -عز وجل-، ولذا لم يهتدِ أبوه؛ فالله أعلم حيث يجعل رسالته وهدايته، وهو أعلم بالشاكرين وأعلم بالظالمين؛ يضع الهدى في مواضعه، ويضع الضلال في مواضعه، يهدي مَن يشاء ويعافي فضلًا، ويضل مَن يشاء ويبتلي عدلًا. وجعل -عز وجل- العباد يفعلون بإرادتهم التي خلقها الله لهم وقدرتهم، ما قدَّره -سبحانه وتعالى- بعلمه وحكمته وعدله؛ لم يظلم الناس شيئًا، وقال -سبحانه وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56). يعلم -سبحانه- مَن يستحق الهدى وينبت أنواع الطاعات، ونور الخيرات في قلبه؛ لأن الأرض قابلة والمعدن قابل لهذا الخير، ويضل من يشاء -سبحانه-؛ لأنه يعلم أن أرض هذا القلب أرض خبيثة لا يصلح فيها البذر الطيب، ولو وضعه فيها لأماته، وما أنبتت أرض قلبه شيئًا: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ) (الأنفال: 23). وقوله -سبحانه وتعالى-: (صِرَاطًا سَوِيًّا) أي: مستقيمًا معتدلًا قصدًا، وهو الذي يوصل إلى الله -عز وجل-، وهو أقرب الطرق وأقصرها على المكلَّف؛ ولذا هذا الصراط المستقيم السوي هو دين الإسلام والتوحيد، واتباع كل الرسل كلٌّ في زمنه -صلوات الله عليهم أجمعين-، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ غير صراط المغضوب عليهم الذين علموا الحق وأعرضوا عنه "واليهود على رأسهم"، ولا صراط الضالين الذين لم يعلموا الحق وضلوا عنه فلم يريدوه "وعلى رأسهم النصارى"، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). الفائدة الثامنة: في قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا): أكثر الخلق يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يظهرون ذلك، وربما لا يستشعرونه، فلا يوجد إلا قلة هي كالأنعام، بل هم أسوأ من ذلك يقرون بعبادة الشيطان صراحة، وتوجد منهم طائفة تنتسِب زورًا وبهتانًا إلى الإسلام، وهي كافرة بإجماع المسلمين، وهي الطائفة اليزيدية التي بدأت بعدم جواز لعن يزيد، ثم تطوروا إلى عدم جواز لعن أحد، ثم تطوروا إلى عدم لعن الشيطان، ثم تطوروا إلى عبادة الشيطان، وأن مَن قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كَفَر عندهم، نعوذ بالله، ولهم خرافات وخزعبلات فظيعة، وسبحان الله! لا تزال طائفة منهم موجودة في العراق وغيرها، ولكن أكثر أهل الأرض يعبدون الشيطان بطاعته في الكفر، بعبادة ما يأمر بعبادته من دون الله من الأوثان والأحجار، والأشجار والقبور، والأشخاص الأحياء والأموات، وسائر الآلهة الباطنة من دون الله أو مع الله، تعالى الله عن شركهم علوًّا كبيرًا. وقوله: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ): أي: لا تطعه في الكفر بالله وكل من عبد غير الله، فقد عبد الشيطان في الحقيقة؛ قال الله -عز وجل-: (إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا . لَّعَنَهُ اللَّهُ) (النساء)، فهم يعبدون الشيطان حين أطاعوه فيما شرع لهم من الكفر والشرك وكل عابد لغير الله وكل مكذب لأنبياء الله ورسوله عليهم الصلاة والسلام، وكل مكذب بكتب الله فهو عابد للشيطان، إذ هو الذي أمر بعبادة غير الله وأمر بتكذيب الرسل؛ ولذا كان كل كافر مشرك، وكل مشرك كافر؛ لأن المشرك قد عبد الشيطان من دون الله عز وجل، وهو في نفس الوقت ستر فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها، وكل كافر ستر فطرة التوحيد فقد عبد الشيطان فهو أيضًا مشرك خلاف لمن يقول: هناك كفار ليسوا مشركين كما يظن البعض في اليهود والنصارى، أو في بعضهم، وقد قال سبحانه وتعالى عنهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ? ذَ?لِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ? يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ? قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ? أَنَّى? يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَ?هًا وَاحِدًا ? لَّا إِلَ?هَ إِلَّا هُوَ ? سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: 30، 31). فنص على شركهم، وكل من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك لا نزاع في ذلك وكذلك كل من كذب نبيًّا من الأنبياء، نعوذ بالله فهناك تلازم بين الشرك والكفر، والمقصود بذلك الأكبر منهما، ولا بد أن ننبِّه هنا على الفرق بين طاعة الشيطان في المعصية وبين طاعته في الكفر والشرك، وتكذيب الرسل؛ فإن طاعته في غير الشرك لا يطلق عليها أنها عبادة له إلا مع بيان أنها من الشرك الأصغر، وأما إذا أطلق عبادة الشيطان فالمقصود بها الشرك الأكبر بطاعته في الكفر -والعياذ بالله- إلا والخوارج يحتجون على تكفير العصاة بذلك. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (192) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (8) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). الفائدة التاسعة: ذكرنا في المقال السابق: أن طاعة الشيطان في الكفر والشرك هي العبادة له، وأما طاعته في غير الشرك، فإنها لا تطلق أنها عبادة له؛ إلا مع بيان أنها من الشرك الأصغر. ويُلَاحظ: أن كثيرًا من الناس يسب الشيطان ويلعنه، ولكنه مع ذلك مطيع له وعابد له، كما أن أكثر الناس إذا اتبعوا أهواءهم ينفون عن أنفسهم عبادة الهوى، لكنهم طالما اتبعوا الهوى في الكفر، كان ذلك عبادة للهوى؛ قال الله -تعالى-: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَ?هَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) (الفرقان: 43). وكما يعبدون الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة، وذلك إذا باعوا دينهم من أجل هذه الأعراض من أعراض الدنيا، وأما مَن يقدِّم حب الدرهم والدينار، والقطيفة والخميصة على طاعة الله، ولكنه لا يرضى أن يقدمها على توحيد الله -عز وجل-؛ فهذا نوع عبادة، وهي شرك أصغر. وكذلك يذمون طالب الرياسة، وهم في أنفسهم طالبون لها، كما ذمَّ قوم فرعون موسى وهارون -عليها السلام- بالباطل؛ حيث قالوا: (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) (يونس: 78)، فنسبوا إليهما على وجه الذم أنهما يريدان الكبرياء، مع أن قوم فرعون وأشباههم من أهل الرياسة والمُلك هم الذين يريدون الكبرياء، ويتهالكون في سبيل ذلك، ثم هم يذمون مَن يريد الملك والرياسة، ويزعمون أنهم لا يريدونها إلا لمصلحة الناس، وإلا للمحافظة على الطريقة المثلى، ووالله ما هي بمثلى. وطلب الرياسة والملك والجاه قد يكون شركًا أكبر إذا كان صاحبه يكفر ويبيع دينه من أجل الرياسة والجاه والملك، ويكون شركًا أصغر إذا كان يعصي الله -سبحانه وتعالى- في المحافظة على المُلك والجاه أو في طلبهما. وعلى الرغم من أن هؤلاء الذين يعبدون الشياطين، وفي الوقت نفسه يذمونها، ويعبدون الأهواء ويزعمون التبرؤ منها، ويعبدون الدرهم والدينار، والقطيفة والخميصة وهم يذمون مَن يريد المال، ويقولون: هذا يشترى بالمال! يذمون ذلك... مع أنهم يَقْتُلون ويُقتَلون من أجله! وهذا التبرؤ لا يغني عنهم شيئًا، فكونهم لا يسمونها عبادة -مع أنها في الحقيقة عبادة-؛ لا يغني عنهم شيئًا. وكذلك مَن يعبد غير الله من الأموات، ويصرف لهم أنواع العبادات من الدعاء والاستغاثة والاستعانة، وطلب المدد، وطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، والأرزاق والأولاد، وهو في كل ذلك لا يسمي ذلك عبادة، وهي شاء أم أبى عبادة لهذا الميت، وإن أجازها أهل الباطل والضلال؛ بزعم أنها على سبيل السببية، أن طلب قضاء الحاجات من الأموات على سبيل السببية جائز -ونعوذ بالله-، فما كان شرك المشركين إلا بذلك (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) (يونس: 18)، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر: 3). والحقيقة -التي لا شك فيها-: أن قلب الإنسان يتعلَّق بهؤلاء، ويتطور به الحال إلى أن يعتقد أنهم يملكون الأرزاق، ويدبرون الكون، ويملكون العطاء والمنع -نعوذ بالله من ذلك-. وكذلك من يعبد غير الله من الكبراء والسادة، والأحبار والرهبان، ممَّن يقبل تشريعه من دون الله مخالفًا لما شرع الله وإن لم يسمها عبادة، كما قال عدي بن حاتم -رضي الله عنه- عن حال النصارى قبل أن يتم إسلامه عندما سَمِع قولَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (التوبة: 31)، قال: قلتُ: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟)، قال: قُلتُ: بَلَى! قال: (فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ!) (رواه الترمذي والطبراني، وحسنه الألباني). فعدم تسمية العبادة عبادة لا ينفع صاحبه إذا قامت عليه الحجة ووصلت إليه؛ لأن هذه عبادة لهؤلاء من دون الله، كما أن طاعة الشيطان في الكفر طاعة له من دون الله، ولو ظل عابده يلعنه بالليل والنهار! وتأمل في تعليم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه في قوله: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) فهذا التعليل؛ لبيان أن طاعة الشيطان في معصية الرحمن مع تجويز هذه المعصية وتصحيحها، هو من الكفر -والعياذ بالله-. ولذلك نقول: إن طاعة الشيطان في المعصية معصية، بشرط اعتقاد أنها معصية، بعد بلوغ الحجة الرسالية، وأما طاعته مع تصحيحها وتصويبها كما يفعل أهل الغرب في زندقتهم في استباحة الفواحش والمحرمات بزعم أنها حرية؛ فإن ذلك -والعياذ بالله- كفر، وعبادة للأهواء، وعبادة للشيطان. ثم ذَكَّر إبراهيم -عليه السلام- أباه بصفة الرحمة الظاهرة في الكون ظهورًا واضحًا جليًّا لكلِّ مَن يتأمل، فآثار هذه الرحمة العامة فيما خلقه الله للبشر، وفيما خلق في قلوبهم من أنواع الشفقة والرحمة على ذويهم وعلى أولادهم، بل بجعلها -سبحانه وتعالى- في الدواب، لا تخفى على أحدٍ. وآثار رحمة الله لأهل الأرض من أنهار وأمطار بالليل والنهار، وأنواع الرحمات، أمر ظاهر لا ينكره متأمل. يذكِّر إبراهيم أباه بأن الرحمن يريد لنا الرحمة، والشيطان عاصٍ له؛ فهل تعبده بطاعته في الكفر -والعياذ بالله-، فتفقد أسباب الرحمة الربانية؟! وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (193) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (9) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). الفائدة العاشرة: في قوله -سبحانه- عن إبراهيم -عليه السلام-: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) هذا التعليل في قوله: (لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) أي: لأن الشيطان كان للرحمن عصيًا؛ فهذه العلة تقتضي أن كل مَن كان للرحمن عصيًّا لا تجوز طاعته ولا متابعته، فالشيطان عاصٍ للرحمن، وشياطين الإنس كذلك عصاة للرحمن، وكل مَن عصى الله -عز وجل- لا يُطاع في معصية الله، ولا يُتابَع؛ وإلا كان على سبيل عبادته أو مؤديًا إليها -نعوذ بالله من ذلك-. إن الإنسان لا بد أن يعلم لمن تكون طاعته ومتابعته، فإنما يُتبع الحق، ويتابَع مَن يأمر به، ويتابع من يأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وأما من يطيع غيره ممَّن عصى الرحمن؛ فإنما يصير إلى الشقاء ومنع الرحمة، نسأل الله العافية من ذلك. وإنما الشقاء في هذا العالم بسبب طاعة مَن كان للرحمن عصيًّا، وأعظمه: إبليس؛ فلا تجوز طاعة الآثمين والكفرة؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) (الإنسان: 24)، فلم يجعل الله -عز وجل- للكافر طاعة على مؤمن، بل ولا آثمًا ظاهر الإثم، وإن كان هذا فيه تفصيل، إن كان مسلمًا وأمر بطاعة الله في أمرٍ أطيع في ذلك وأجيب إليه، وإن كان آمرًا بالإثم والمعصية؛ فلا يُطاع في ذلك باتفاق أهل العلم. والظالمون لا يصلحون أن يكونوا أئمة للناس؛ قال الله -عز وجل- لإبراهيم -عليه السلام- مجازاة له على إتمامه الكلمات التي أمره الله -عز وجل- بها؛ قال الله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)، فليس الظالمون داخلين فيمَن أُمِر الناس باتباعهم وطاعتهم، وإذا كان لا تُقبَل شهادة الظالم في باقة بقلٍ؛ فلا يجوز أن يُطَاع، وأن يوسد الأمر إليه فيما هو أكثر من ذلك؛ فلا يكون الظالم إمامًا؛ لا في الإمامة العامة إلا أن يتغلب عليها، وهو مسلم، ويحكم بما أنزل الله في الجملة فيُطَاع فيما فيه طاعة الله -عز وجل-، ومصلحة المسلمين، وأما أن يطاع طاعة مطلقة فلا يجوز ذلك، ولا يصح أن يجعل كالخلفاء الراشدين الذين يجمعون بين صفة العدالة وصفة العِلْم. فالإمام لا بد وأن يكون في شرع الله -عز وجل- عدلًا عالمًا، وأما مَن لم يكن عالمًا، أو لم يكن عادلًا، أو من لم يكن لا عالمًا ولا عادلًا؛ فإنما تجب طاعته فقط فيما عُرِف أنه طاعة؛ تشرع طاعته وجوبًا في الواجبات، ومستحبًا في المستحبات، ولا يصح أن يكون له دون أهل العلم الثِّقَات العدول، العلماء بشرع الله -عز وجل- كتابًا وسنة، أن يقيد المباحات، أو أن يوازن بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد، فإن عدم علمه أو عدم عدالته يقدح في هذه الصلاحيات. ولذا فإن ولاية الناس يجب أن تكون فيمن اتقى الله، ولا يجوز في ولاية القضاء أن يولَّى من ليس بعالم ولا عادل، ولا في الفتيا ولا في تعليم الناس الدِّين، ولا في الشهادة في الخصومات؛ فإن ذلك كله داخل في قوله: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)؛ لأن كلًّا مِن هؤلاء يُؤم -أي: يقصد-، فيكون إمامًا -أي: متبعًا- فيما يقول فيه. ولا يجوز أن يُولَّى على الناس مَن يأمرهم بعبادة غير الله من الكفرة والمنافقين الذين ظهر نفاقهم الأكبر، ومَن يأمرهم بمخالفة شرع الله لاتباع أمر شياطين الإنس والجن، الذين يأمرون بمعصية الرحمن؛ فكيف يقال للناس: يلزمكم أن تطيعوا طالما أنكم في سلطان الكفرة الذين ينهونكم عن طاعة الله وأن هذا هو حقهم حتى ولو كانوا كفارًا؟! فكيف يكون الباطل سببًا لرد الحق؟! وكيف يكون الكفر سببًا يخول للإنسان أن ينهى غيره عن عبادة الله؟! أكانت الأرض أرض الكفرة والظلمة والمجرمين أم هي أرض الله؟! بل الأرض لله، والعباد عباده؛ فلا بد أن يطيعوا ربهم. ولنقل لكل المؤمنين في الأرض: لا تطيعوا مَن كان للرحمن عصيًّا، ولا تطيعوا مَن يأمر بمخالفة شرع الله -سبحانه وتعالى-. وإن كان لا بد أن نفرِّق في قضية ولاية الكفار على المسلمين وبطلانها بين مَن هو كافر نوعًا وعينًا، وبين من قال أو فعل كفرًا بجهل أو تأويل، أو إكراه، أو أي عذر من أعذار المكلَّف التي تمنع تكفيره حتى ولو كان آثمًا، فإن ذلك لا بد من مراعاته، فقبل أن نحكم على شخص نطق الشهادتين، وأظهر شعائر الإسلام؛ لا بد أن نستوفي الشروط وتنتفي الموانع قبل أن يحكم على شخصه بالكفر، لا بمجرد وجود مخالفة تحتمل تأويلات، يبادر الناس إلى التكفير؛ فهذا انحراف خطير لا بد من الحذر منه. ثم نقول: وإن غُلِب الإنسان على أمرٍ فلا يستجيب للمكرِه من أول وهلة، بل لا بد للإكراه أن يكون مع طمأنينة القلب بالإيمان، وليس لمجرد المصالح الوقتية الدنيوية التي يستغني الإنسان عنها، وليس لمجرد الحاجة؛ إنما يرخَّص للإنسان عند المخمصة والمهلكة والضرورة التي تعجزه عن الحياة، أو تفقده حياته وضروراته؛ أما أن يترخص لمجرد نيل شيء من حُطَام الدنيا عند الناس؛ فلتذهب الدنيا إن كانت في معصية الله. ونسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (194) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (10) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). الفائدة الحادية عشرة: قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في دعوته لأبيه: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) فيه: أنه ينبغي على الداعي إلى الله -عز وجل- أن يكون في قلبه الشفقة والخوف على مَن يدعوه إلى الله -عز وجل-، وأن يظهر ذلك له، وهكذا كانت الرسل دائمًا يخافون على أقوامهم ويظهرون ذلك لهم؛ لأن ذلك من أسباب إيقاظ العلاقة الطيبة التي يريد الشيطان ألا يشعر الإنسان بها؛ حتى لا تستجيب الفطرة للدعوة الحق التي هي تطابق الفطرة السليمة؛ العلاقة الطيبة التي بها يستجيب هذا الأب لابنه لأنه مشفق عليه وخائف عليه، ورحيم به، وقد قال مؤمن آل فرعون نفس هذه الكلمة قال الله: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ . مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ . وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ . يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (غافر: 30-33). والأنبياء قبل ذلك قالوا هذه الكلمة: قال الله -عز وجل- عن نوح -عليه السلام-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأعراف: 59)، وقال هود -عليه السلام-: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ . أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ . وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء: 132-135)، وقال شعيب -عليه الصلاة والسلام-: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (هود: 84). وقال الله -عز وجل- مخاطبًا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (هود: 3). فلا بد أيها الداعي إلى الله أن تكون أولًا خائفًا على الناس؛ لا يكون همك أن تدخلهم النار، أو تحكم عليهم بها، أو تحكم عليهم بأنواع العقوبات، أو تنالهم بها، وإنما تريد لهم الخير والنجاة، وتخاف عليهم فعلًا، وتشفق عليهم؛ فالدعاة إلى الله أتباع الأنبياء يخافون على الناس ويرفقون بهم، وهذا الرفق وهذه الشفقة تحيي في القلوب الفطرة السليمة في اتباع مَن هذا شأنه، فإذا أظهرتَ صفات الرب الذي هو أرحم بعباده من الأم بولدها، بذكر اسم الرحمن متكررًا في الآيات السابقة: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)، وإذا أظهرت شفقتك على الناس بأنواع مختلفة من الأساليب، كان ذلك من أعظم أسباب قبول الدعوة، وحصول الخير في قلب المدعو. الفائدة الثانية عشرة: قوله -تعالى-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا): تأمل في قوله: (أَنْ يَمَسَّكَ)؛ فإبراهيم -عليه السلام- يخاف على أبيه من مجرد المسيس؛ أن يمسه شيء من العذاب، هو لا يخاف فقط أن يُلقى في النار، بل هو يخاف مجرد أن يمسه أدنى شيء من العذاب؛ فلو كان قلب أبيه يتحرك لتحرك، لكن (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56)، وهو -عز وجل- كما قال: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (الأنعام: 58)؛ فيضع الظلم في موضعه، والشكر في موضعه (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام: 53)، ويضع الهداية في موضعها (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، وهكذا فليكن هذا أسوة حسنة في الدعوة إلى الله، وليكن أسوة حسنة في الصبر والاحتمال حتى ولو لم يجد الداعي أثر لذلك. قوله -عز وجل-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ): إذا عذبك الرحمن فمَن يرحمك؟! الرحمن الذي صفته اللازمة له الرحمة، فإذا عذَّب فلا يوجد مَن يرحم، الله إذا لم يرحم عبده لم يرحمه أحدٌ غيره؛ فهو الرحمن، وإنما استوجب العبد العذاب لما فعله واقترفه، وليس لأن الله لم يعطه ما يستحقه، إنما العبد هو الذي فعل ما استوجب به عذاب الله، وعذاب الرحمن؛ فالرحمة أحب إليه -سبحانه- من العذاب، ورحمته تغلب غضبه؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) (متفق عليه)، والله كتب على نفسه الرحمة كما قال -تعالى-: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) (الأنعام: 12)، ورحمته وسعت كل شيء، فإذا عذَّب الإنسان فقد خرج من أي رحمة محتملة؛ لذا لا ترحمه الملائكة، ولا يرحمه المؤمنون، ولا يرحمه شركاؤه في النار، ولا يرحمه أحدٌ، ولا ترحمه النار، ويمقت نفسه ويبغضها، وأهل النار يسترحمون خزنة النار: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) (غافر: 49، 50). وكذلك يسترحمون مالكًا فلا يرحمهم: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف: 77)، فيسترحمون المؤمنين فلا يرحمونهم: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ? قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (الأعراف: 50). فإذا كان الإنسان قد خرج من رحمة الرحمن الرحيم فلن يرحمه أحد، فهذا الذي ينبغي أن يُدعَى به إلى الله، أن يريد أن يرحمنا بالإيمان وبالإسلام والإحسان، فإذا لم نفعل استحققنا عذاب الرحمن، وإذا عذَّب الرحمن فلن يجد الإنسان رحمة عند غيره. وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال
الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (195) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (11) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50). الفائدة الثالثة عشرة: في قوله -تعالى-: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) أي: تكون من أولياء الشيطان، ومن المقرَّبين منه؛ فتشقى شقاءً لا نعيم بعده أبدًا، وإنما يشقى الإنسان بقربه من الشيطان، وإنما يتنعم بقربه من الرحمن، وإنما صارت الجنة جنة؛ لأنها قريبة، وأهلها مقرَّبون إلى الله، وإنما يتنعم الإنسان في الدنيا إذا تقرب إلى الله، وعلى قَدْر قربه يكون نعيمه في الدنيا والآخرة، وإن كان لا يمكنه أن يتقرَّب ببدنه، وإنما يتقرب بروحه؛ أما في الآخرة فإنه يكون قريبًا بروحه وبدنه معًا في الجنة، وقال الله -عز وجل-: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق: 19)؛ فلذا يسجد المقرَّبون لله، ومن سجد تقرب إلى الله، والله يقترب منه؛ إثابة منه لتقربه إليه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (متفق عليه). فمَن قرب مِن الله سعد واستراح، وسكنت نفسه، ومن قرب من الشيطان تعس وشقي وبعُد عن الله؛ لأن الشطان مطرود ومُبْعَد عن الله -عز وجل-؛ كما قال -تعالى-: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (ص: 78)؛ أي: عليه الإبعاد من رحمة الله، والبعد عن الله أعظم شقاء للإنسان، وإنما المعاصي هي سبب البُعد، وأعظمها: الكفر، وإنما يشقى الإنسان بالمعصية والكفر؛ لأنه بعد عن الله وقرب من الشيطان، فالشياطين تأوي إلى كل قبيح؛ ولذا كانت مخالطة شياطين الإنس والجن في مجالس الفسوق والعصيان عذابًا للإنسان -نعوذ بالله من ذلك، ونعوذ بالله من ولاية الشيطان-. والقرب من الشيطان وطاعة الشيطان متلازمان، ومَن أطاع الشيطان كان معذبًا في دنياه قبل أخراه؛ لضيق صدره وعدم انشراح قلبه، قال الله -عز وجل-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 125). وقال الله -عز وجل- عن قوم نوح: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود: 44)، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (هود: 60). وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ) (هود: 68)، وقال -سبحانه وتعالى-: (أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) (هود: 95)، وقال -عز وجل-: (فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 41)، وقال -سبحانه وتعالى-: (فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون: 44)، وكل هذا لأنهم اقتربوا من الشيطان، فبعدوا عن الرحمن -نعوذ بالله من ولاية الشيطان-. الفائدة الرابعة عشرة: الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء، وهذه الدعوة إلى الله لا بد أن تكون بطريقتهم وعلى منهاجهم، ومع ذلك؛ فعلى الداعي أن يكون مستعدًا في نفسه لعدم قبول دعوته فإن القلوب لا يملكها إلا الله، فهذا الخليل إبراهيم -عليه السلام- استعمل أربعة أساليب؛ استعمل الحجج العقلية: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، واستعمل المؤثرات الوجدانية التي تربط بين الابن وأبيه، واستعمل أحسن الأدب مع أبيه، وترفَّق له أعظم الترفق، وأحسن إليه، فناداه مرات بـ(يَا أَبَتِ)، ووعده بالاستغفار له، وأبوه آذر قد صُدَّ عن ذلك كله، وقلبه مغلق لم ينفتح؛ لا لحجة عقلية، ولا لوجدان عاطفي، ولا لرفقه به وخوفه عليه (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ)؛ حين يذكِّره برحمة الله، ويخوفه من عقاب الله؛ يرجيه ويخوفه، ومع ذلك لا يتذكر! يخوفه من عاقبة طاعته للشيطان في الكفر التي هي عبادة له، وأنه يقترب بذلك منه، ويكون له وليًّا، وبذلك يشقى الشقاء الذي لا سعادة بعده أبدًا، ومع ذلك فالقلب مغلق، فالقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ فليست ثمرة الدعوة بالضرورة تظهر في استجابة المدعو مباشرة، ولا حتى بعد حين -ولو كان من الأقربين-؛ فالنور الذي عند إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- نور يكفي البشرية عبر الزمان والمكان، وبهذا النور انتشرت دعوة التوحيد التي جعلها الله منسوبة إليه؛ قال -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 123)، ومع ذلك لم يصل هذا النور إلى قلب أبيه، والله له الحكمة البالغة، وهو يجعل في إبراهيم الأسوة الحسنة، وكم من حكمة بالغة في عدم إيمان أبي إبراهيم؛ وذلك ليعلم العِبَاد: أن الله -عز وجل- يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء، وأن القلوب بيده يصرِّفها كيف يشاء، وأنه لا ينفع نسب ما لم يكن عمل؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا إِنَّ آلَ أَبِي - يَعْنِي فُلَانًا - لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ؛ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ، وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (متفق عليه). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
الساعة الآن : 04:59 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour